الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
(1/1)

23
سورة الفاتحة
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
23
تفسير البسملة :
وأما قوله جل جلاله : {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ} ففيه نوعان من البحث : النوع الأول : قد اشتهر عند العلماء أن لله تعالى ألفاً وواحداً من الأسماء المقدسة المطهرة ، وهي موجودة في الكتاب والسنّة ، ولا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية ، وأيضاً فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقاً بالعلم بالمسمى ، وفي البحث عن ثبوت تلك المسميات ، وعن الدلائل الدالة على ثبوتها ، وعن أجوبة الشبهات التي تذكر فيها نفيها مسائل كثيرة ، ومجموعها يزيد على الألوف ، النوع الثاني : من مباحث هذه الآية : أن الباء في قوله {بِسْمِ اللَّهِ} باء الإلصاق ، وهي متعلقة بفعل ، والتقدير : باسم الله أشرع في أداء الطاعات ، وهذا المعنى لا يصير ملخصاً معلوماً إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات ، وهي العقائد الحقة والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات ، ومع الأجوبة عن الشبهات ، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.
ومن اللطائف أن قوله {أَعُوذُ بِاللَّهِ} إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال ، وقوله {بِسْمِ اللَّهِ} إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات ، فقوله {بِسْمِ اللَّهِ} لا يصير معلوماً إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة ، والأعمال الصافية ، وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح ، والحق الصريح.
نعم الله تعالى التي لا تحصى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
23
أما قوله جل جلاله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فاعلم أن الحمد إنما يكون حمداً على النعمة ، والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة ، لكن أقسام نعم الله خارجة عن التحديد والإحصاء ، كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) ولنتكلم في مثال واحد ، وهو أن العاقل يجب أن يعتبر ذاته ، وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن ؛ ولا شك أن أدون الجزءين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن ، ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريباً من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها الله عزّ وجلّ بحكمته في تخليق بدن الإنسان ، ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في "كتب التشريح" عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط ، وعند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر ، ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم الله تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات ، وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات ، وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص ، ثم يضم إليها آثار حكم الله تعالى في تخليق الأمهات والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها ـ علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل ، ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان ، كما قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} (الجاثية : 13) وحينئذٍ يظهر أن قوله جل جلاله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} مشتمل على ألف ألف مسألة ، أو أكثر أو أقل.
أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى :
وأما قوله جل جلاله : {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فاعلم أن قوله : {رَبِّ} مضاف وقوله : {الْعَالَمِينَ} مضاف إليه ، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين ، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى رباً للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين ، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى ، وهي على ثلاثة أقسام : المتحيزات ، والمفارقات ، والصفات. أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات ، أو البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات ، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة ، واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة ، وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات ، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم ، / بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم ، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر ، ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية ؛ قال أبو العلاء المعري : ـ
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
فيا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هين على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
(1/2)

ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل ، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار ، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات ـ لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب ، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه } (لقمان : 27) وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها :
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
24
وأما قوله تعالى : {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات ، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات ، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات ، وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى ، ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع "كتب الطب" حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء ، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان ، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحراً لا ساحل له.
وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال : بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد ، فرأيت في النوم كأن ملكاً نزل من السماء وقال يا جالينوس ، إن إلهك يقول : لم بخلت على عبادي حكمتي ؟
قال : فانتبهت فنصفت فيه كتاباً ، وقال أيضاً : إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع ، فرأيت في الهيكل كأن ملكاً نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر ؛ وأكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات / والإلهامات ، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء.
أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية :
جزء : 1 رقم الصفحة : 24
25
وأما قوله تعالى : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا ، وسنوه كالفراسخ ، وشهوره كالأميال ، وأنفاسه كالخطوات ، ومقصده الوصول إلى عالم أخراه ؛ لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات ، فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر ، وهي قسمان : بعضها عقلية محضة ، وبعضها سمعية : أما العقلية المحضة فكقولنا : هذا العالم يمكن تخريبه وإعدامه ، ثم يمكن إعادته مرة أخرى ، وإن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته ، وهذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس ، وكيفية أحوالها وصفاتها ، وكيفية بقائها بعد البدن ، وكيفية سعادتها وشقاوتها ، وبيان قدرة الله عزّ وجلّ على إعادتها ، وهذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية.
وأما السمعيات فهي على ثلاثة أقسام : أحدها : الأحوال التي توجد عند قيام القيامة ، وتلك العلامات منها صغيرة ، ومنها كبيرة وهي العلامات العشرة التي سنذكرها ونذكر أحوالها. وثانيها : الأحوال التي توجد عند قيام القيامة ، وهي كيفية النفخ في الصور ، وموت الخلائق ، وتخريب السموات والكواكب ، وموت الروحانيين والجسمانيين. وثالثها : الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة وشرح أحوال أهل الموقف ، وهي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق ، وكيفية الأحوال التي يشاهدونها ، وكيفية حضور الملائكة والأنبياء عليهم السلام ، وكيفية الحساب ، وكيفية وزن الأعمال ، وذهاب فريق إلى الجنة وفريق إلى النار ، وكيفية صفة أهل الجنة وصفه أهل النار ، ومن هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار بعد وصولهم إليها ، وشرح الكلمات التي يذكرونها والأعمال التي يباشرونها ، ولعل مجموع هذه المسائل العقلية والنقلية يبلغ الألوف من المسائل ، وهي بأسرها داخلة تحت قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 25
25
(1/3)

وأما قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلهاً واحداً. قادراً على مقدورات لا نهاية لها ، عالماً بمعلومات لا نهاية لها ، غنياً عن كل الحاجات ، فإنه أمر عباده ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها ، وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه ـ فإنه / لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لا بدّ من تفصيل أقسام تلك التكاليف ، وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي ، وجميع ما صنف في الدين من "كتب الفقه" يدخل فيه تكاليف الله ، ثم كما يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها الله تعالى على الأنبياء المتقدمين ، وأيضاً يدخل فيه الشرائع التي كلف الله بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات ، وأيضاً "فكتب الفقه" مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح ، أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل ، وهي التي تشتمل عليها "كتب الأخلاق" ، و"كتب السياسات" ، بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة ، وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} علم حينئذٍ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 25
26
أما قوله جل جلاله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فاعلم أنه عبارة عن طلب الهداية ، ولتحصيل الهداية طريقان : أحدهما : طلب المعرفة بالدليل والحجة ، والثاني : بتصفية الباطن والرياضة ، أما طرق الاستدلال فإنها غير متناهية لأنه لا ذرة من ذرات العالم الأعلى والأسفل إلا وتلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته ، وبعزة عزته ، وبجلال صمديته ، كما قيل : ـ
فوفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وتقريره : أن أجسام العالم متساوية في ماهية الجسمية ، ومختلفة في الصفات ، وهي الألوان والأمكنة والأحوال ، ويستحيل أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة لأجل الجسمية أو لوازم الجسمية ، وإلا لزم حصول الاستواء ، فوجب أن يكون ذلك لتخصيص مخصص وتدبير مدبر ، وذلك المخصص إن كان جسماً عاد الكلام فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو المطلوب ، ثم ذلك الموجود إن لم يكن حياً عالماً قادراً ، بل كان تأثيره بالفيض والطبع عاد الإلزام في وجوب الاستواء ، وإن كان حياً عالماً قادراً فهو المطلوب ، إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من ذرات السموات والأرض شاهد صادق ، ومخبر ناطق ، بوجود الإله القادر الحكيم العليم ، وكان الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول : إن لله تعالى في كل جوهر فرد أنواعاً غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة والحكمة والرحمة ، وذلك لأن كل جوهر فرد فإنه يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل ، ويمكن أيضاً اتصافه بصفات غير / على البدل ، وكل واحد من تلك الأحوال المقدرة فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم الرحيم ، فثبت بما ذكرنا أن هذا النوع من المباحث غير متناه. وأما تحصيل الهداية بطريق الرياضة والتصفية فذلك بحر لا ساحل له ، ولكل واحد من السائرين إلى الله تعالى منهج خاص ، ومشرب معين ، كما قال : {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } (البقرة : 148) ولا وقوف للعقول على تلك الأسرار ، ولا خبر عند الأفهام من مبادىء ميادين تلك الأنوار ، والعارفون المحققون لحظوا فيها مباحث عميقة ، وأسراراً دقيقة ، فلما ترقى إليها أفهام الأكثرين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 26
27
الفصل الثاني
في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط
المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة
(1/4)

ولنتكلم في قولنا : {أَعُوذُ بِاللَّهِ} فنقول : أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع ، والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل ، وأما الباء في قوله "بالله" فهي باء الإلصاق ، وهي نوع من أنواع حروف الجر ، وحروف الجر نوع من أنواع الحروف. وأما قولنا "الله" فهو اسم معين : إما من أسماء الأعلام ، أو من الأسماء المشتقة ، على اختلاف القولين فيه ، والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم ، وقد ثبت في العلوم العقلية ، أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس ، لأن الجنس جزء من ماهية النوع ، والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة ، فقولنا : {أَعُوذُ بِاللَّهِ} لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولاً ، وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها ، ثم بعد الفراغ منه لا بدّ من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم ، وإلى الاسم المشتق ، وإلى اسم الجنس ، وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه ، ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة {اللَّهِ} اسم علم ، أو اسم مشتق ، وبتقدير أن يكون مشتقاً فهو مشتق من ماذا ؟
ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها ، وأيضاً يجب البحث / عن حقيقة الفعل المطلق ، ثم يذكر بعده أقسام الفعل ، ومن جملتها الفعل المضارع ، ويذكر حده وخواصه وأقسامه ، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا "أعوذ" على التخصيص ، وأيضاً يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق ، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه ، وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله : {أَعُوذُ بِاللَّهِ} ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جداً.
ثم نقول : والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول : الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة ، فيجب البحث أيضاً عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها ، وأيضاً فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة ، وهي : الكلام ، والقول ، واللفظ ، واللغة ، والعبارة ، فيجب البحث عن كل واحد منها ، ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة ، أو من الألفاظ المتباينة ، وبتقدير أن تكون ألفاظاً متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ثم نقول : والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول : لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف ، فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت ، وعن أسباب وجوده ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر ، فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس ، وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفساً على سبيل الضرورة وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه ، وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة ، ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين ، وأما الحرف فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت ، أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له ؟
وأيضاً لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت ، وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين ، فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس ، ويجب أيضاً البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح.
ثم نقول : والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع ، وأما الألوان والأضواء فهي كيفيات محسوسة بحاسة البصر ، والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق ، وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة ، فهل يصح أن يقال : هذه الكيفيات / أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية ، وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا ؟
.
ثم نقول : والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور ، فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف ، ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا ؟
.
ثم نقول : والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف ، ومقولة الكم ، ومقولة النسبة عرض ، فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه ، وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه.
ثم نقول : والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود ، فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم ، وهي كيفية وقوع الموجود على الواجب والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب.
(1/5)

ثم نقول : والمرتبة العاشرة أن نقول : لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم ، فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود ؟
ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم ، وأيضاً فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم ، ولا شك أن المعلوم مقابله غير المعلوم ، لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلاً لغيره ، فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلاً للمعلوم ، وجب أن يكون غير المعلوم معلوماً ، فحينئذٍ يكون المقابل للمعلوم معلوماً ، وذلك محال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها ، ولا يحيط عقله بأقل القليل منها ، فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة.
الفصل الثالث
في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط
المسائل الكثيرة من هذه السورة
اعلم أنا إذا ذكرنا مسألة واحدة في هذا الكتاب ودللنا على صحتها بوجوه عشرة فكل واحد من تلك الوجوه والدلائل مسألة بنفسها ، ثم إذا حكينا فيها مثلاً شبهات خمسة فكل واحد منها أيضاً مسألة مستقلة بنفسها ، ثم إذا أجبنا عن كل واحد منها بجوابين أو ثلاثة فتلك الأجوبة / الثلاثة أيضاً مسائل ثلاثة ، وإذا قلنا مثلاً : الألفاظ الواردة في كلام العرب جاءت على ستين وجهاً ، وفصلنا تلك الوجوه ، فهذا الكلام في الحقيقة ستون مسألة ، وذلك لأن المسألة لا معنى لها إلا موضع السؤال والتقرير ، فلما كان كل واحد من هذه الوجوه كذلك كان كل واحد منها مسألة على حدة ، وإذا وقفت على هذه الدقيقة فنقول : إنا لو اعتبرنا المباحث المتعلقة بالاسم والفعل ، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيم الأفعال بالمعلوم والمذكور ، والمباحث المتعلقة بالموجود والمعدوم ، والمباحث المتعلقة بالواجب والممكن ، والمباحث المتعلقة بالجوهر والعرض ، والمباحث المتعلقة بمقولة الكيف وكيفية انقسامه إلى الكيفية المحسوسة وغير المحسوسة ، والمباحث المتعلقة بالصوت وكيفية حدوثه وكيفية العضلات المحدثة للأصوات والحروف ـ عظم الخطب ، واتسع الباب ، ولكنا نبدأ في هذا الكتاب بالمباحث المتعلقة بالكلمة والكلام والقول واللفظ والعبارة ، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف ، ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيمات الأسماء والأفعال والحروف حتى ننتهي إلى الأنواع الثلاثة الموجودة في قوله : {أَعُوذُ بِاللَّهِ} ونرجو من فضل الله العميم أن يوفقنا للوصول إلى هذا المطلوب الكريم.
الكتاب الأول
في العلوم المستنبطة من قوله : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} اعلم أن العلوم المستنبطة من هذه الكلمة نوعان : أحدهما : المباحث المتعلقة باللغة والإعراب والثاني : المباحث المتعلقة بعلم الأصول والفروع.
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة ، وفيه أبواب.
الباب الأول
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
في المباحث المتعلقة بالكلمة ، وما يجري مجراها ، وفيه مسائل
(1/6)

المسألة الأولى : اعلم أن أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق ، ثم إن الاشتقاق على نوعين : الاشتقاق الأصغر ، والاشتقاق الأكبر ، أما الاشتقاق الأصغر فمثل اشتقاق صيغة الماضي والمستقبل من المصدر ، ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه ، وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة / للانقلابات لا محالة ، فنقول : أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقليب ، كقولنا : "من" وقلبه "نم" وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف كقولنا : "حمد" وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقليبات ، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة ، وعلى كل واحد من التقديرات الثلاث فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة فهذه التقليبات الواقعة في الكلمات الثلاثيات يمكن وقوعها على ستة أوجه ، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة رباعية كقولنا : "عقرب ، وثعلب" وهي تقبل أربعة وعشرين وجهاً من التقليبات ، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة ، وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقليبات ، وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجهاً ، ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا : "سفرجل" وهي تقبل مائة وعشرين نوعاً من التقليبات ، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الخمسة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من هذه التقديرات فإنه يمكن وقوع الحروف الأربعة الباقية على أربعة وعشرين وجهاً على ما سبق تقريره ، وضرب خمسة في أربعة وعشرين بمائة وعشرين والضابط في الباب أنك إذا عرفت التقاليب الممكنة في العدد الأقل ثم أردت أن تعرف عدد التقاليب الممكنة في العدد الذي فوقه فاضرب العدد الفوقاني في العدد الحاصل من التقاليب الممكنة في العدد الفوقاني ، والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أن اعتبار حال الاشتقاق الأصغر سهل معتاد مألوف ، أما الاشتقاق الأكبر فرعايته صعبة ، وكأنه لا يمكن رعايته إلا في الكلمات الثلاثية لأن تقاليبها لا تزيد على الستة ، أما الرباعيات والخماسيات فإنها كثيرة جداً ، وأكثر تلك التركيبات تكون مهملة فلا يمكن رعاية هذا النوع من الاشتقاق فيها إلا على سبيل الندرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأيضاً الكلمات الثلاثية قلما يوجد فيها ما يكون جميع تقاليبها الممكنة معتبرة. بل يكون في الأكثر بعضها مستعملاً وبعضها مهملاً ، ومع ذلك فإن القدر الممكن منه هو الغاية القصوى في تحقيق الكلام في المباحث اللغوية.
المسألة الثالثة : في تفسير الكلمة : اعلم أن تركيب الكاف واللام والميم بحسب تقاليبها الممكنة الستة تفيد القوة والشدة ، خمسة منها معتبرة ، وواحدة ضائع ، فالأول : "ك ل م" فمنه الكلام ، لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه ، وأيضاً يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى ، ومنه / الكلم للجرح ، وفيه شدة/ والكلام ما غلظ من الأرض ، وذلك لشدته ، الثاني : "ك م ل" لأن الكامل أقوى من الناقص ، والثالث : "ل ك م" ومعنى الشدة في اللكم ظاهر ، والرابع : "م ك ل" ومنه "بئر مكول" إذا قل مائها ، وإذا كان كذلك كان ورودها مكروهاً فيحصل نوع شدة عند ورودها ، الخامس : "م ل ك" يقال "ملكت العجين" إذا أمعنت عجنه فاشتد وقوى ، ومنه "ملك الإنسان" لأنه نوع قدرة ، و"أملكت الجارية" لأن بعلها يقدر عليها.
المسألة الرابعة : لفظ الكلمة قد يستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها لكلام الكثير الذي قد ارتبط بعضه ببعض كتسميتهم القصيدة بأسرها "كلمة" ، ومنها يقال : "كلمة الشهادة" ، ويقال : "الكلمة الطيبة صدقة" ، ولما كان المجاز أولى من الاشتراك علمنا أن إطلاق لفظ الكلمة على المركب مجاز ، وذلك لوجهين ، الأول : أن المركب إنما يتركب من المفردات ، فإطلاق لفظ الكلمة على الكلام المركب يكون إطلاقاً لاسم الجزء على الكل ، والثاني : أن الكلام الكثير إذا ارتبط بعضه ببعض حصلت له وحدة فصار شبيهاً بالمفرد في تلك الوجوه ، والمشابهة سبب من أسباب حسن المجاز ، فأطلق لفظ الكلمة على الكلام الطويل لهذا السبب.
المسألة الخامسة : لفظ الكلمة جاء في القرآن لمفهومين آخرين : أحدهما : يقال لعيسى كلمة الله ، إما لأنه حدث بقوله : "كن" أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك ، والثاني : أنه تعالى سمى أفعاله كلمات ، كما قال تعالى في الآية الكريمة : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى} (الكهف : 109) والسبب فيه الوجهان المذكوران فيما تقدم والله أعلم.
(1/7)

المسألة السادسة في القول : هذا التركيب بحسب تقاليبه الستة يدل على الحركة والخفة ، فالأول : "ق ول" فمنه القول ؛ لأن ذلك أمر سهل على اللسان ، الثاني : "ق ل و" ومنه القلو وهو حمار الوحش ، وذلك لخفته في الحركة ومنه "قلوت البر والسويق" فهما مقلوان ، لأن الشيء إذا قلي جف وخف فكان أسرع إلى الحركة ، ومنه القلولي ، وهو الخفيف الطائش ، والثالث : "و ق ل" الوقل الوعل ، وذلك لحركته ، ويقال "توقل في الجبل" إذا صعد فيه ، والرابع : "و ل ق" يقال : ولق يلق إذا أسرع ، وقرىء {إِذْ تَلَقَّوْنَه بِأَلْسِنَتِكُمْ} (النور : 15) أي : تخفون وتسرعون ، والخامس : "ل وق" كما جاء في الحديث "لا آكل الطعام إلا ما لوق لي" أي : أعملت اليد في تحريكه وتليينه حتى يصلح ، ومنه اللوقة وهي الزبدة قيل لها ذلك لخفتها وإسراع حركتها لأنه ليس بها مسكة الجبن والمصل ، والسادس : "ل ق و" ومنه اللقوة وهي العقاب ، قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها ، ومنه اللقوة في الوجه لأن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش ، واللقوة الناقة السريعة اللقاح.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة السابعة : قال ابن جني رحمه الله تعالى : اللغة فعلة من لغوت أي : تلكمت ، وأصلها لغوة ككرة وقلة فإن لاماتها كلها واوات ، بدليل قولهم كروت بالكرة وقاوت بالقلة ، وقيل فيه لغى يلغى إذا هذا ، ومنه قوله تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) قلت : إن ابن جني قد اعتبر الاشتقاق الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره ههنا ، وهو حاصل فيه ، فالأول : "ل غ و" ومنه اللغة ومنه أيضاً الكلام اللغو ، والعمل اللغو ، والثاني : "ل وغ" ويبحث عنه ، والثالث : "غ ل و" ومنه يقال : لفلان غلو في كذا ، ومنه الغلوة ، والرابع : "غ ول" ومنه قوله تعالى : {لا فِيهَا غَوْلٌ} (الصفات : 47) والخامس : "و غ ل" ومنه يقال : فلان أوغل في كذا والسادس : "و ل غ" ومنه يقال : ولغ الكلب في الإناء ، ويشبه أن يكون القدر المشترك بين الكل هو الإمعان في الشيء والخوض التام فيه.
المسألة الثامنة في اللفظ : وأقول : أظن أن إطلاق اللفظ على هذه الأصوات والحروف على سبيل المجاز ، وذلك لأنها إنما تحدث عنه إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج فالإنسان عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج يحبسه في المحابس المعينة ، ثم يزيل ذلك الحبس ، فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفس وأول زمان إطلاقه ، والحاصل أن اللفظ هو : الرمي ، وهذا المعنى حاصل في هذه الأصوات والحروف من وجهين : الأول : أن الإنسان يرمي ذلك النفس من داخل الصدر إلى خارجه ويلفظه ، وذلك هو الإخراج ، واللفظ سبب لحدوث هذه الكلمات ، فأطلق اسم اللفظ على هذه الكلمات لهذا السبب ، والثاني : أن تولد الحروف لما كان بسبب لفظ ذلك الهواء من الداخل إلى الخارج صار ذلك شبيهاً بما أن الإنسان يلفظ تلك الحروف ويرميها من الداخل إلى الخارج ، والمشابهة إحدى أسباب المجاز.
المسألة التاسعة ، العبارة : وتركيبها من "ع ب ر" وهي في تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال ، فالأول : "ع ب ر" ومنه العبارة لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكلم بها إلا إذا انتقل من حرف إلى حرف آخر ؛ وأيضاً كأنه بسبب تلك العبارة ينتقل المعنى من ذهن نفسه إلى ذهن السامع ، ومنه العبرة لأن تلك الدمعة تنتقل من داخل العين إلى الخارج ، ومنه العبر لأن الإنسان ينتقل فيها من الشاهد إلى الغائب. ومنه المعبر لأن الإنسان ينتقل بواسطته من أحد طرفي البحر إلى الثاني ، ومنه التعبير لأنه ينتقل مما يراه في النوم إلى المعاني الغائبة ، والثاني : "ع ر ب" ومنه تسمية العرب بالعرب لكثرة انتقالاتهم بسبب رحلة الشتاء والصيف / ومنه "فلان أعرب في كلامه" لأن اللفظ قبل الإعراب يكون مجهولاً فإذا دخله الإعراب انتقل إلى المعرفة والبيان ، والثالث : "ب ر ع" ومنه "فلان برع في كذا" إذا تكامل وتزايد ، الرابع : "ب ع ر" ومنه البعر لكونه منتقلاً من الداخل إلى الخارج ، الخامس : "ر ع ب" ومنه يقال للخوف رعب لأن الإنسان ينتقل عند حدوثه من حال إلى حال أخرى ، والسادس : "ر ب ع" ومنه الربع لأن الناس ينتقلون منها وإليها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفرق بين الكلمة والكلام :
(1/8)

المسألة العاشرة : قال أكثر النحوين : الكلمة غير الكلام ، فالكلمة هي اللفظة المفردة ، والكلام هو الجملة المفيدة ، وقال أكثر الأصوليين إنه لا فرق بينهما ، فكل واحد منهما يتناول المفرد والمركب ، وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين ، وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق سوى أنه نقل عن سيبويه كلاماً مشعراً بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة ، وذكر كلمات أخرى إلا أنها في غاية الضعف ، أما الأصوليون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه ، الأول : أن العقلاء قد اتفقوا على أن الكلام ما يضاد الخرس والسكوت ، والتكلم بالكلمة الواحدة يضاد الخرس والسكوت ، فكان كلاماً ، الثاني : أن اشتقاق الكلمة من الكلم ، وهو الجرح والتأثير ، ومعلوم أن من سمع كلمة واحدة فإنه يفهم معناها ، فههنا قد حصل معنى التأثير ، فوجب أن يكون كلاماً ، والثالث : يصح أن يقال : إن فلاناً تكلم بهذه الكلمة الواحدة ، ويصح أن يقال أيضاً : أنه ما تكلم إلا بهذه الكلمة الواحدة ، وكل ذلك يدل على أن الكلمة الواحدة كلام ، وإلا لم يصح أن يقال تكلم بالكلمة الواحدة ، الرابع : أنه يصح أن يقال تكلم فلان بكلام غير تام ، وذلك يدل على أن حصول الإفادة التامة غير معتبر في اسم الكلام.
مسألة فقهية في الطلاق :
المسألة الحادية عشرة : تفرع على الاختلاف المذكور مسألة فقهية ، وهي أولى مسائل أيمان "الجامع الكبير" لمحمد بن الحسن رحمه الله تعالى ، وهي أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها : إن كلمتك فأنت طالق ثلاث مرات ، قالوا : إن ذكر هذا الكلام في المرة الثانية طلقت طلقة واحدة ، وهل تنعقد هذه الثانية طلقة ؟
قال أبو حنيفة وصاحباه : تنعقد ، وقال زفر : لا تنعقد ، وحجة زفر أنه لما قال في المرة الثانية إن كلمتك فعند هذا القدر من الكلام حصل الشرط ، لأن اسم الكلام اسم لكل ما أفاد شيئاً ، سواء أفاد فائدة تامة أو لم يكن كذلك وإذا حصل الشرط حصل الجزاء ، وطلقت عند قوله إن كلمتك ، فوقع تمام قوله : "أنت طالق" خارج تمام ملك النكاح ، وغير مضاف إليه ، فوجب أن لا تنعقد ، وحجة أبي حنيفة أن الشرط ـ وهو قوله إن كلمتك ـ غير تام ، والكلام اسم للجملة التامة ، فلم يقع الطلاق / إلا عند تمام قوله إن كلمتك فأنت طالق ، وحاصل الكلام أنا إن قلنا إن اسم الكلام يتناول الكلمة الواحدة كان القول قول زفر ، وإن قلنا إنه لا يتناول إلا الجملة فالقول قول أبي حنيفة ومما يقوي قول زفر أنه لو قال في المرة الثانية "إن كلمتك" وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله : "فأنت طالق" طلقت ، لولا أن هذا القدر كلام وإلا لما طلقت ، ومما يقوي قول أبي حنيفة أنه لو قال : "كلما كلمتك فأنت طالق" ثم ذكر هذه الكلمة في المرة الثانية فكلمة "كلما" توجب التكرار فلو كان التكلم بالكلمة الواحدة كلاماً لوجب أن يقع عليه الطلقات الثلاث عند قوله في المرة الثانية : "كلما كلمتك" وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله : "فأنت طالق" لأن هذا المجموع مشتمل على ذكر الكلمات الكثيرة ، وكل واحد منها يوجب وقوع الطلاق وأقول : لعل زفر يلتزم ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية عشرة : محل الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وزفر ينبغي أن يكون مخصوصاً بما إذا قال : "إن كلمتك فأنت طالق" أما لو قال : "إن تكلمت بكلمة فأنت طالق" أو قال : "إن نطقت" أو قال : "إن تلفظت بلفظة" أو قال : "إن قلت قولاً فأنت طالق" وجب أن يكون الحق في جميع هذه المسائل قول زفر قولاً واحداً ، والله أعلم.
هل يطلق الكلام على المهمل :
المسألة الثالثة عشرة : لفظ الكلمة والكلام هل يتناول المهمل أم لا ؟
منهم من قال يتناوله لأنه يصح أن يقال الكلام منه مهمل ومنه مستعمل ، ولأنه يصح أن يقال تكلم بكلام غير مفهوم ، ولأن ا لمهمل يؤثر في السمع فيكون معنى التأثير والكلام حاصلاً فيه ، ومنهم من قال الكلمة والكلام مختصان بالمفيد ، إذ لو لم يعتبر هذا القيد لزم تجويز تسمية أصوات الطيور بالكلمة والكلام.
هل الأصوات الطبيعية تسمى كلاماً :
المسألة الرابعة عشرة : إذا حصلت أصوات متركبة تركيبًا يدل على المعاني إلا أن ذلك التركيب كان تركيباً طبيعياً لا وضعياً فهل يسمى مثل تلك الأصوات كلمة وكلاماً ؟
مثل أن الإنسان عند الراحة أو الوجع قد يقول أخ ، وعند السعال قد يقول أح أح ، فهذه أصوات مركبة ، وحروف مؤلفة ، وهي دالة على معانٍ مخصوصة ، لكن دلالتها على مدلولاتها بالطبع لا بالوضع ، فهل تسمى أمثالها كلمات ؟
وكذلك صوت القطا يشبه كأنه يقول قطا ، وصوت اللقلق يشبه كأنه يقول لق لق ، فأمثال هذه الأصوات هل تسمى كلمات ؟
اختلفوا فيه ، وما رأيت في الجانبين حجة معتبرة ، وفائدة هذا البحث تظهر فيما إذا قال : إن سمعت كلمة فعبدي حر ، فهل يترتب الحنث والبر على سماع هذه الألفاظ أم لا ؟
.
(1/9)

/ المسألة الخامسة عشرة : قال ابن جني : لفظ القول يقع على الكلام التام ، وعلى الكلمة الواحدة ، على سبيل الحقيقة ، أما لفظ الكلام فمختص بالجملة التامة ، ولفظ الكلمة مختص بالمفرد وحاصل كلامه في الفرق بين البابين أنا إذا بينا أن تركيب القول يدل على الخفة والسهولة وجب أن يتناول الكلمة الواحدة ، أما تركيب الكلام فيفيد التأثير ، وذلك لا يحصل إلا من الجملة التامة ؛ إلا أن هذا يشكل بلفظ الكلمة ، ومما يقوي ذلك قول الشاعر : ـ
قلت لها قفي فقالت قاف
سمى نطقها بمجرد القاف قولاً
.
المسألة السادسة عشرة : قال أيضاً إن لفظ القول يصح جعله مجازاً عن الاعتقادات والآراء ، كقولك : فلان يقول بقول أبي حنيفة ، ويذهب إلى قول مالك ، أي : يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به ، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن صحة رؤية الله تعالى فقال : لا تجوز رؤيته ، فتقول : هذا قول المعتزلة ، ولا تقول هذا كلام المعتزلة إلا على سبيل التعسف ، وذكر أن السبب في حسن هذا المجاز أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره ، فلما حصلت المشابهة من هذا الوجه لا جرم حصل سبب جعله مجازاً عنه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
يستعمل القول في غير النطق :
المسألة السابعة عشرة : لفظ قال قد يستعمل في غير النطق ، قال أبو النجم : ـ
فقالت له الطير تقدم راشدا
إنك لا ترجع إلا حامدا
وقال آخر : ـ
فوقالت له العينان سمعاً وطاعة
وحدرتا كالدر لما يثقب
وقال : ـ
فامتلأ الحوض وقال : قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
ويقال في المثل : قال الجدار للوتد لم تشقني ، قال : سل من يدقني ، فإن الذي ورايى ما خلاني ورايى ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) وقوله تعالى : {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11).
المسألة الثامنة عشرة : الذين ينكرون كلام النفس اتفقوا على أن الكلام والقول اسم لهذه الألفاظ والكلمات ، أما مثبتو كلام النفس فقد اتفقوا على أن ذلك المعنى النفساني يسمى بالكلام وبالقول ، واحتجوا عليه بالقرآن والأثر والشعر : أما القرآن فقوله تعالى : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} (المنافقون : 1) وظاهر أنهم ما كانوا كاذبين في اللفظ لأنهم أخبروا أن محمداً / رسول الله وكانوا صادقين فيه ، فوجب أن يقال إنهم كانوا كاذبين في كلام آخر سوى اللفظ وما هو إلا كلام النفس ، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنهم ما كانوا كاذبين في القول اللساني ، قوله : "أخبروا أن محمداً رسول الله" قلنا : لا نسلم بل أخبروا عن كونهم شاهدين بأن محمداً رسول الله ، لأنهم كانوا قالوا : {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه } (المنافقون : 1) والشهادة لا تحصل إلا مع العلم ، وهم ما كانوا عالمين به ، فثبت أنهم كانوا كاذبين ، فيما أخبروا عنه بالقول اللساني ، وأما الأثر فما نقل أن عمر قال يوم السقيفة : كنت قد زورت في نفسي كلاماً فسبقني إليه أبو بكر ، وأما الشاعر فقول الأخطل : ـ
فإن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما اللذين أنكروا كون المعنى القائم بالنفس يسمى بالكلام فقد احتجوا عليه بأن من لم ينطق ولم يتلفظ بالحروف يقال إنه لم يتكلم ، وأيضاً الحنث والبر يتعلق بهذه الألفاظ ، ومن أصحابنا من قال : اسم القول والكلام مشترك بين المعنى النفساني وبين اللفظ اللساني.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة التاسعة عشرة : هذه الكلمات والعبارات قد تسمى أحاديث ، قال الله تعالى : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه } (الطور : 34) والسبب في هذه التسمية أن هذه الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية فكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه ، فلهذا السبب سميت بالحديث ويمكن أيضاً أن يكون السبب في هذه التسمية أن سماعها يحدث في القلوب العلوم والمعاني/ والله أعلم.
المسألة العشرون : ههنا ألفاظ كثيرة ، فأحدها : الكلمة ، وثانيها : الكلام ، وثالثها : القول ، ورابعها : اللفظ ، وخامسها : العبارة ، وسادسها : الحديث ، وقد شرحناها بأسرها ، وسابعها : النطق ويجب البحث عن كيفية اشتقاقه ، وأنه هل هو مرادف لبعض تلك الألفاظ المذكورة أو مباين لها ، وبتقدير حصول المباينة فما الفرق.
المسألة الحادية والعشرون : في حد الكلمة ، قال الزمخشري في أول "المفصل" : الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع. وهذا التعريف ليس بجيد ، لأن صيغة الماضي كلمة مع أنها لا تدل على معنى مفرد بالوضع ، فهذا التعريف غلط ، لأنها دالة على أمرين : حدث وزمان وكذا القول في أسماء الأفعال ، كقولنا : مه ، وصه ، وسبب الغلط أنه كان يجب عليه جعل المفرد صفة للفظ ، فغلط وجعله صفة للمعنى.
اللفظ مهمل ومستعمل وأقسامه :
(1/10)

المسألة الثانية والعشرون : اللفظ إما أن يكون مهملاً ، وهو معلوم ، أو مستعملاً وهو على ثلاثة أقسام : أحدها : أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء من المعاني ألبتة ، وهذا / هو اللفظ المفرد كقولنا فرس وجمل ، وثانيها : أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء أصلاً حين هو جزؤه أما باعتبار آخر فإنه يحصل لأجزائه دلالة على المعاني ، كقولنا : "عبد الله" فإنا إذا اعتبرنا هذا المجموع اسم علم لم يحصل لشيء من أجزائه دلالة على شيء أصلاً ، أما إذا جعلناه مضافاً ومضافاً إليه فإنه يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على شيء آخر ، وهذا القسم نسميه بالمركب ، وثالثها : أن يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على مدلول آخر على جميع الاعتبارات ، وهو كقولنا : "العالم حادث ، والسماء كرة ، وزيد منطلق" وهذا نسميه بالمؤلف.
المسموع المقيد وأقسامه :
المسألة الثالثة والعشرون : المسموع المفيد ينقسم إلى أربعة أقسام : لأنه إما أن يكون اللفظ مؤلفاً والمعنى مؤلفاً كقولنا : "الإنسان حيوان ، وغلام زيد" وإما أن يكون المسموع مفرداً والمعنى مفرداً ، وهو كقولنا : "الوحدة" و"النقطة" بل قولنا : "الله" سبحانه وتعالى ، وإما أن يكون اللفظ مفرداً والمعنى مؤلفاً وهو كقولك : "إنسان" فإن للفظ مفرد والمعنى ماهية مركبة من أمور كثيرة ، وإما أن يكون اللفظ مركباً والمعنى مفرداً ، وهو محال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الرابعة والعشرون : الكلمة هي اللفظة المفردة الدالة بالاصطلاح على معنى ، وهذا التعريف مركب من قيود أربعة : فالقيد الأول : كونه لفظاً ، والثاني : كونه مفرداً ، وقد عرفتهما ، والثالث : كونه دالاً وهو احتراز عن المهملات ، والرابع : كونه دالاً بالاصطلاح وسنقيم الدلة على أن دلالات الألفاظ وضعية لا ذاتية.
المسألة الخامسة والعشرون : قيل : الكلمة صوت مفرد دال على معنى بالوضع : قال أبو علي بن سينا في كتاب "الأوسط" : وهذا غير جائز لأن الصوت مادة واللفظ جنس ، وذكر الجنس أولى من ذكر المادة ، وله كلمات دقيقة في الفرق بين المادة والجنس ، ومع دقتها فهي ضعيفة قد بينا وجه ضعفها في العقليات ، وأقول : السبب عندي في أنه لا يجوز ذكر الصوت أن الصوت ينقسم إلى صوت الحيوان وإلى غيره ، وصوت الإنسان ينقسم إلى ما يحدث من حلقه وإلى غيره ، والصوت الحادث من الحلق ينقسم إلى ما يكون حدوثه مخصوصاً بأحوال مخصوصة مثل هذه الحروف ، وإلى ما لا يكون كذلك مثل الأصوات الحادثة عند الأوجاع والراحات والسعال وغيرها ، فالصوت جنس بعيد ، واللفظ جنس قريب ، وإيراد الجنس القريب أولى من الجنس البعيد.
المسألة السادسة والعشرون : قالت المعتزلة : الشرط في كون الكلمة مفيدة أن تكون مركبة من حرفين فصاعداً ، فنقضوه بقولهم : "ق" و"ع" وأجيب عنه بأنه مركب في التقدير / فإن الأصل أن يقال : "قي" و"عي" بدليل أن عند التثنية يقال : "قيا" و"عيا" وأجيب عن هذا الجواب بأن ذلك مقدر ، أما الواقع فحرف واحد ، وأيضاً نقضوه بلام التعريف وبنون التنوين وبالإضافة فإنها بأسرها حروف مفيدة ، والحرف نوع داخل تحت جنس الكلمة ، ومتى صدق النوع فقد صدق الجنس ، فهذه الحروف كلمات مع أنها غير مركبة.
المسألة السابعة والعشرون : الأولى أن يقال : كل منطوق به أفاد شيئاً بالوضع فهو كلمة وعلى هذا التقدير يدخل فيه المفرد والمركب ، وبقولنا : منطوق به ، يقع الاحتراز عن الخط والإشارة.
دلالة اللفظ على معناه غير ذاتية :
المسألة الثامنة والعشرون : دلالة الألفاظ على مدلولاتها ليست ذاتية حقيقية ، خلافاً لعبَّاد.
لنا أنها تتغير باختلاف الأمكنة والأزمنة ، والذاتيات لا تكون كذلك ، حجة عباد أنه لو لم تحصل مناسبات مخصوصة بين الألفاظ المعينة والمعاني المعينة وإلا لزم أن يكون تخصيص كل واحد منها بمسماه ترجيحاً للممكن من غير مرجح ، وهو محال ، وجوابنا أنه ينتقض باختصاص حدوث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده ، وإلا لم يرجح ، ويشكل أيضاً باختصاص كل إنسان باسم علمه المعين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة التاسعة والعشرون : وقد يتفق في بعض الألفاظ كونه مناسباً لمعناه مثل تسميتهم القطا بهذا الاسم ، لأن هذا اللفظ يشبه صوته ، وكذا القول في اللقلق ، وأيضاً وضعوا لفظ "الخضم" لأكل الرطب نحو البطيخ والقثاء ، ولفظ "القضم" لأكل اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ، لأن حرف الخاء يشبه صوت أكل الشيء الرطب وحرف القاف يشبه صوت أكل الشيء اليابس ، ولهذا الباب أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في "الخصائص".
اللغة إلهام :
(1/11)

المسألة الثلاثون : لا يمكننا القطع بأن دلالة الألفاظ توقيفية ، ومنهم من قطع به ، واحتج فيه بالعقل والنقل : أما العقل فهو أن وضع الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة لا يمكن إلا بالقول ، فلو كان ذلك القول بوضع آخر من جانبهم لزم أن يكون كل وضع مسبوقاً بوضع آخر لا إلى نهاية ، وهو محال ، فوجب الانتهاء إلى ما حصل بتوقيف الله تعالى ، وأما النقل فقوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وأجيب عن الأول بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون وضع الألفاظ للمعاني يحصل بالإشارة ؟
وعن الثاني لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من التعليم الإلهام ؟
وأيضاً لعل هذه اللغات وضعها أقوام كانوا قبل آدم عليه السلام ، ثم إنه تعالى علمها لآدم عليه السلام.
/ المسألة الحادية والثلاثون : لا يمكن القطع بأنها حصلت بالاصطلاح ، خلافاً للمعتزلة ، واحتجوا بأن العلم بالصفة إذا كان ضرورياً كان العلم بالموصوف أيضاً ضرورياً ، فلو خلق الله تعالى العلم في قلب العاقل بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى لزم أن يكون العلم بالله ضرورياً وذلك يقدح في صحة التكليف ، وأجيب عنه بأنه لِمَ لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يخلق علماً ضرورياً في القلب بأن واضعاً وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من غير أن يخلق العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى ؟
وعلى هذا التقدير فيزول الإشكال.
المسألة الثانية والثلاثون : لما ضعفت هذه الدلائل جوزنا أن تكون كل اللغات توقيفية وأن تكون كلها اصطلاحية ، وأن يكون بعضها توقيفياً وبعضها اصطلاحياً.
المسألة الثالثة والثلاثون : اللفظ المفرد لا يفيد البتة مسماه لأنه ما لم يعلم كون تلك اللفظة موضوعة لذلك المعنى لم يفد شيئاً ، لكن العلم بكونها موضوعة لذلك المعنى علم بنسبة مخصوصة بين ذلك اللفظ وذلك المعنى ، والعلم بالنسبة المخصوصة بين أمرين مسبوق بكل واحد منهما فلو كان العلم بذلك المعنى مستفاداً من ذلك اللفظ لزم الدور. وهو محال ، وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه إذا استقر في الخيال مقارنة بين اللفظ المعين والمعنى المعين فعند حصول الشعور باللفظ ينتقل الخيال إلى المعنى/ وحينئذٍ يندفع الدور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الرابعة والثلاثون : والإشكال المذكور في المفرد غير حاصل في المركب ؛ لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها إفادة وضعية ، أما التركيبات فعقلية ، فلا جرم عند سماع تلك المفردات يعتبر العقل تركيباتها ثم يتوصل بتلك التركيبات العقلية إلى العلم بتلك المركبات ، فظهر الفرق.
اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي
المسألة الخامسة والثلاثون : للألفاظ دلالات على ما في الأذهان لا على ما في الأعيان ولهذا السبب يقال : الألفاظ تدل على المعاني ، لأن المعاني هي التي عناها العاني ، وهي أمور ذهنية ، والدليل على ما ذكرناه من وجهين : الأول : أنا إذا رأينا جسماً من البعد وظنناه صخرة قلنا إنه صخرة ، فإذا قربنا منه وشاهدنا حركته وظنناه طيراً قلنا إنه طير ، فإذا ازداد القرب علمنا أنه إنسان فقلنا إنه إنسان ، فاختلاف الأسماء عند اختلاف التصورات الذهنية يدل على أن مدلول الألفاظ هو الصور الذهنية لا الأعيان الخارجة ، الثاني : أن اللفظ لو دل على الموجود الخارجي لكان إذا قال إنسان العالم قديم وقال آخر العالم حادث لزم كون العالم قديماً حادثاً معاً ، وهو محال ، أما إذا قلنا إنها دالة على المعاني الذهنية كان هذان القولان دالين على حصول هذين / الحكمين من هذين الإنسانين ، وذلك لا يتناقض.
المسألة السادسة والثلاثون : لا يمكن أن تكون جميع الماهيات مسميات بالألفاظ ، لأن الماهيات غير متناهية ، وما لا نهاية له لا يكون مشعوراً به على التفصيل ، وما لا يكون مشعوراً به امتنع وضع الاسم بإزائه.
المسألة السابعة والثلاثون : كل معنى كانت الحاجة إلى التعبير عنه أهم ، كان وضع اللفظ بإزائه أولى ، مثل صيغ الأوامر والنواهي ، والعموم والخصوص ، والدليل عليه أن الحاجة إلى التعبير عنها ماسة فيكون الداعي إلى ذلك الوضع كاملاً ، والمانع زائلاً ، وإذا كان الداعي قوياً والمانع زائلاً ، كان الفعل به واجب الحصول.
المسألة الثامنة والثلاثون : المعنى الذي يكون خفياً عند الجمهور يمتنع كونه مسمى باللفظ المشهور ، مثاله لفظة الحركة لفظة مشهورة وكون الجسم منتقلاً من جانب إلى جانب أمر معلوم لكل أحد ، أما الذي يقول به بعض المتكلمين ـ وهو المعنى الذي يوجب ذلك الانتقال ـ فهو أمر خفي لا يتصوره إلا الخواص من الناس ، وإذا كان كذلك وجب أن يقال : الحركة اسم لنفس هذا الانتقال لا للمعنى الذي يوجب الانتقال وكذلك يجب أن يكون العلم اسماً لنفس العالمية ، والقدرة اسماً للقادرية ، لا للمعنى الموجب للعالمية والقادرية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المعنى اسم للصورة الذهنية :
(1/12)

المسألة التاسعة والثلاثون في المعنى : المعنى اسم للصورة الذهنية لا للموجودات الخارجية لأن المعنى عبارة عن الشيء الذي عناه العاني وقصده القاصد ، وذاك بالذات هو الأمور الذهنية ، وبالعرض الأشياء الخارجية ، فإذا قيل : أن القائل أراد بهذا اللفظ هذا المعنى ، فالمراد أنه قصد بذكر ذلك اللفظ تعريف ذلك الأمر المتصور.
المسألة الأربعون : قد يقال في بعض المعاني : إنه لا يمكن تعريفها بالألفاظ ، مثل أنا ندرك بالضرورة تفرقة بين الحلاوة المدركة من النبات والحلاوة المدركة من الطبرزذ ، فيقال : إنه لا سبيل إلى تعريف هذه التفرقة بحسب اللفظ ، وأيضاً ربما اتفق حصول أحوال في نفس بعض الناس ولا يمكنه تعريف تلك الحالة بحسب التعريفات اللفظية ، إذا عرفت هذا فنقول : أما القسم الأول : فالسبب فيه أن ما به يمتاز حلاوة النبات من حلاوة الطبرزذ ما وضعوا له في اللغة لفظة معينة ، بل لا يمكن ذكرها إلا على سبيل الإضافة ، مثل أن يقال حلاوة النبات وحلاوة الطبرزذ ، فلما لم توضع لتلك التفرقة لفظة مخصوصة لا جرم لا يمكن تعريفها باللفظ/ ولو أنهم وضعوا لها لفظة لقد كان يمكن تعريفها باللفظ على ذلك التقدير ، / وأما القسم الثاني : وهو أن الإنسان إذا أدرك من نفسه حالة مخصوصة وسائر الناس ما أدركوا تلك الحالة المخصوصة استحال لهذا المدرك وضع لفظ لتعريفه ، لأن السامع ما لم يعرف المسمى أولاً لم يمكنه أن يفهم كون هذا اللفظ موضوعاً له ، فلما لم يحصل تصور تلك المعاني عند السامعين امتنع منهم أن يتصوروا كون هذه الألفاظ موضوعة لها ، فلا جرم امتنع تعريفها ، أما لو فرضنا أن جماعة تصوروا تلك المعاني ثم وضعوا لها ألفاظاً مخصوصة فعلى هذا التقدير كان يمكن تعريف تلك الأحوال بالبيانات اللفظية ـ فهكذا يجب أن يتصور معنى ما يقال إن كثيراً من المعاني لا يمكن تعريفها بالألفاظ.
.
الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني :
المسألة الحادية والأربعون : في الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني : وهي أن الإنسان خلق بحيث لا يستقل بتحصيل جميع مهماته فاحتاج إلى أن يعرف غيره ما في ضميره ليمكنه التوسل به إلى الاستعانة بالغير ، ولا بدّ لذلك التعريف من طريق ، والطرق كثيرة مثل الكتابة والإشارة والتصفيق باليد والحركة بسائر الأعضاء ، إلا أن أسهلها وأحسنها هو تعريف ما في القلوب والضمائر بهذه الألفاظ ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن النفس عند الإخراج سبب لحدوث الصوت ، والأصوات عند تقطيعاتها أسباب لحدوث الحروف المختلفة ، وهذه المعاني تحصل من غير كلفة ومعونة بخلاف الكتابة والإشارة وغيرهما ، والثاني : أن هذه الأصوات كما توجد تفنى عقيبه في الحال ، فعند الاحتياج إليه تحصل وعند زوال الحاجة تفنى وتنقضي ، والثالث : أن الأصوات بحسب التقطيعات الكثيرة في مخارج الحروف تتولد منها الحروف الكثيرة ، وتلك الحروف الكثيرة بحسب تركيباتها الكثيرة يتولد منها كلمات تكاد أن تصير غير متناهية ، فإذا جعلنا لكل واحد من المعاني واحداً من تلك الكلمات توزعت الألفاظ على المعاني من غير التباس واشتباه ، ومثل هذا لا يوجد في الإشارة والتصفيق ، فلهذه الأسباب الثلاثة قضت العقول السليمة ، بأن أحسن التعريفات لما في القلوب هو الألفاظ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
لذاته معرفة الحمق :
(1/13)

المسألة الثانية والأربعون : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وجوهر النفس في أصل الخلقة عار عن هذين الكمالين ، ولا يمكنها اكتساب هذه الكمالات إلا بواسطة هذا البدن ، فصار تخليق هذا البدن مطلوباً لهذه الحكمة ، ثم إن مصالح هذا البدن ما كانت تتم إلا إذا كان القلب ينبوعًا للحرارة الغريزية ، ولما كانت هذه الحرارة قوية احتاجت إلى الترويح لأجل التعديل ، فدبر الخالق الرحيم الحكيم هذا المقصود بأن جعل للقلب قوة انبساط بها يجذب الهواء البارد من خارج البدن إلى نفسه ، ثم إذا بقي ذلك الهواء في القلب لحظة / تسخن واحتد وقويت حرارته ، فاحتاج القلب إلى دفعه مرة أخرى ، وذلك هو الانقباض فإن القلب إذا انقبض انعصر ما فيه من الهواء وخرج إلى الخارج ، فهذا هو الحكمة في جعل الحيوان متنفساً ، والمقصود بالقصد الأول هو تكميل جوهر النفس بالعلم والعمل ، فوقع تخليق البدن في المرتبة الثانية من المطلوبية ، ووقع تخليق القلب وجعله منبعاً للحرارة الغريزية في المرتبة الثالثة ، ووقع إقدار القلب على الانبساط الموجب لانجذاب الهواء الطيب من الخارج لأجل الترويح في المرتبة الرابعة ، ووقع إقدار القلب على الانقباض الموجب لخروج ذلك الهواء المحترق في المرتبة الخامسة ، ووقع صرف ذلك الهواء الخارج عند انقباض القلب إلى مادة الصوت في المرتبة السادسة ، ثم إن المقدر الحكيم والمدبر الرحيم جعل هذا الأمر المطلوب على سبيل الغرض الواقع في المرتبة السابعة مادة للصوت ، وخلق محابس ومقاطع للصوت في الحلق واللسان والأسنان والشفتين/ وحينئذٍ يحدث بذلك السبب هذه الحروف المختلفة ، ويحدث من تركيباتها الكلمات التي لا نهاية لها ، ثم أودع في هذا النطق والكلام حكماً عالية وأسراراً باهرة عجزت عقول الأولين والآخرين عن الإحاطة بقطرة من بحرها وشعلة من شمسها ، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية.
الكلام اللساني :
المسألة الثالثة والأربعون : ظهر بما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلا الاصطلاح من الناس على جعل هذه الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر ، ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاماً أيضاً ، وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة ، بل أمراً وضعياً اصطلاحياً ، والتحقيق في هذا الباب : أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص يفعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الإرادات والاعتقادات ، وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلماً بهذه الحروف مجرد كونه فاعلاً لها لهذا الغرض المخصوص ، وأما الكلام الذي هو صفة قائمة بالنفس فهي صفة حقيقية كالعلوم والقدر والإرادات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الكلام النفسي والذهني :
المسألة الرابعة والأربعون : لما ثبت أن الألفاظ دلائل على ما في الضمائر والقلوب ، والمدلول عليه بهذه الألفاظ هو الإرادات والاعتقادات أو نوع آخر ، قالت المعتزلة : صيغة "إفعل" لفظة موضوعة لإرادة الفعل ، وصيغة الخبر لفظة موضوعة لتعريف أن ذلك القائل يعتقد أن الأمر لفلاني كذا وكذا ، وقال أصحابنا : الطلب النفساني مغاير للإرادة ، والحكم الذهني أمر مغاير للاعتقاد ، أما بيان أن الطلب النفساني مغاير للإرادة فالدليل عليه أنه تعالى / أمر الكافر بالإيمان ، وهذا متفق عليه ، ولكن لم يرد منه الإيمان ، ولو أراده لوقع ، ويدل عليه وجهان : الأول : أن قدرة الكافر إن كانت موجبة للكفر كان خالق تلك القدرة مريداً للكفر ، لأن مريد العلة مريد للمعلول ، وإن كانت صالحة للكفر والإيمان امتنع رجحان أحدهما على الآخر إلا بمرجح ، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان من الله تعالى فحينئذٍ يكون مجموع القدرة مع الداعية موجباً للكفر ، ومريد العلة مريد للمعلول ، فثبت أنه تعالى مريد الكفر من الكافر ، والثاني : أنه تعالى عالم بأن الكافر يكفر وحصول هذا العلم ضد لحصول الإيمان ، والجمع بين الضدين محال ، والعالم بكون الشيء ممتنع الوقوع لا يكون مريداً له ، فثبت أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان ، وثبت أنه لا يريد منه الإيمان فوجب أن يكون مدلول أمر الله تعالى فعل شيء آخر سوى الإرادة ، وذلك هو المطلوب ، وأما بيان أن الحكم الذهني مغاير للاعتقاد والعلم فالدليل عليه أن القائل إذا قال : العالم قديم فمدلول هذا ا للفظ هو حكم هذا القائل بقدم العالم ، وقد يقول القائل بلسانه هذا مع أنه يعتقد أن العالم ليس بقديم ، فعلمنا أن الحكم الذهني حاصل ، والاعتقاد غير حاصل ، فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد.
مدلولات الألفاظ :
المسألة الخامسة والأربعون : مدلولات الألفاظ قد تكون أشياء مغايرة للألفاظ : كلفظة السماء والأرض ، وقد تكون مدلولاتها أيضاً ألفاظاً كقولنا : اسم ، وفعل ، وحرف ، وعام ، وخاص ، ومجمل ، ومبين ، فإن هذه الألفاظ أسماء ومسمياتها أيضاً ألفاظ.
طرق معرفة اللغة :
(1/14)

المسألة السادسة والأربعون : طريق معرفة اللغات إما العقل وحده وهو محال ، وإما النقل المتواتر أو الآحاد وهو صحيح ، وإما ما يتركب عنهما : كما إذا قيل : ثبت بالنقل جواز إدخال الاستثناء على صيغة من ، وثبت بالنقل أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فيه ، فيلزم من مجموعهما بحكم العقل كون تلك الصيغة موضوعة للعموم/ وعلى هذا الطريق تعويل الأكثرين في إثبات أكثر اللغات ، وهو ضعيف ، لأن هذا الاستدلال إنما يصح لو قلنا إن واضع تينك المقدمتين وجب أن يكون معترفاً بهذه الملازمة ، وإلا لزم التناقض ، لكن الواضع للغات لو ثبت أنه هو الله تعالى وجب تنزيهه عن المناقضة ، أما لو كان هو الناس لم يجب ذلك ولما كان هذا الأصل مشكوكاً كان ذلك الدليل مثله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
من اللغة ما بلغنا بالتواتر :
المسألة السابعة والأربعون : اللغات المنقولة إلينا بعضها منقول بالتواتر ، وبعضها منقول بالآحاد ، وطعن بعضهم في كونها متواترة فقال : أشهر الألفاظ هو قولنا "الله" ، وقد اختلفوا فيها فقيل : إنها ليست عربية بل هي عبرية ، وقيل : إنها اسم علم ، وقيل : إنها من الأسماء / المشتقة ، وذكروا في اشتقاقها وجوهاً عشرة ، وبقي الأمر في هذه الاختلافات موقوفاً إلى الآن وأيضاً فلفظة الإيمان والكفر قد اختلفوا فيهما اختلافاً شديداً ، وكذا صيغ الأوامر والنواهي ، والعموم والخصوص ، مع أنها أشد الألفاظ شهرة ، وإذا كان الحال كذلك في الأظهر الأقوى فما ظنك بما سواها ؟
والحق أن ورود هذه الألفاظ في أصول هذه الموارد معلوم بالتواتر ، فأما ماهياتها واعتباراتها فهي التي اختلفوا فيها ، وذلك لا يقدح في حصول التواتر في الأصل.
المسألة الثامنة والأربعون : منهم من سلم حصول التواتر في بعض هذه الألفاظ في هذا الوقت ، إلا أنه زعم أن حال الأدوار الماضية غير معلوم ، فلعل النقل ينتهي في بعض الأدوار الماضية إلى الآحاد ، وليس لقائل أن يقول : لو وقع ذلك لاشتهر وبلغ إلى حد التواتر ، لأن هذه المقدمة إن صحت فإنما تصح في الوقائع العظيمة. وأما التصرفات في الألفاظ فهي وقائع حقيرة ، والحق أن العلم الضروري حاصل بأن لفظ السماء والأرض والجدار والدار كان حالها وحال أشباهها في الأزمنة الماضية كحالها في هذا الزمان.
المسألة التاسعة والأربعون : لا شك أن أكثر اللغات منقول بالأحاد ، ورواية الواحد إنما تفيد الظن عند اعتبار أحوال الرواة وتصفح أحوالهم بالجرح والتعديل ، ثم إن الناس شرطوا هذه الشرائط في رواة الأحاديث ، ولم يعتبروها في رواة اللغات ، مع أن اللغات تجري مجرى الأصول للأحاديث ، ومما يؤكد هذا السؤال أن الأدباء طعن بعضهم في بعض بالتجهيل تارة وبالتفسيق أخرى ، والعداوة الحاصلة بين الكوفيين والبصريين مشهورة ، ونسبة أكثر المحدثين أكثر الأدباء إلى ما لا ينبغي مشهورة ، وإذا كان كذلك صارت رواياتهم غير مقبولة وبهذا الطريق تسقط أكثر اللغات عن درجات القبول ، والحق أن أكثر اللغات قريب من التواتر ، وبهذا الطريق يسقط هذا الطعن.
دلالة الألفاظ على معانيها ظنية :
المسألة الخمسون : دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات ، ونقل الإعرابات والتصريفات ، مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحاداً ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن ، وأيضاً فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم النقل ، وعدم الإجمال ، وعدم التخصيص ، وعدم المعارض العقلي ، فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز ، ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض ، والموقوف على الظن أولى أن يكون ظناً ، والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الثاني
في المباحث المستبنطة من الصوت والحروف وأحكامها ، وفيه مسائل
كيفية حدوث الصوت :
المسألة الأولى : ذكر الرئيس أبو علي بن سينا في تعريف الصوت أنه كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع ، وأقول : إن ماهية الصوت مدركة بحس السمع وليس في الوجود شيء أظهر من المحسوس حتى يعرف المحسوس به ، بل هذا الذي ذكره إن كان ولا بدّ فهو إشارة إلى سبب حدوثه ، لا إلى تعريف ماهيته.
الصوت ليس بجسم :
المسألة الثانية : يقال إن النظَّام المتكلم كان يزعم أن الصوت جسم ، وأبطلوه بوجوه : منها أن الأجسام مشتركة في الجسمية وغير مشتركة في الصوت ، ومنها أن الأجسام مبصرة وملموسة أولاً وثانياً وليس الصوت كذلك ، ومنها أن الجسم باقٍ والصوت ليس كذلك ، وأقول : النظام كان من أذكياء الناس ويبعد أن يكون مذهبه أن الصوت نفس الجسم ، إلا أنه لما ذهب إلى أن سبب حدوث الصوت تموج الهواء ظن الجهال به أنه يقول أنه عين ذلك الهواء.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة ، وهو باطل ؛ لأن الاصطكاك عبارة عن المماسة وهي مبصرة ، والصوت ليس كذلك ، وقيل : الصوت نفس القرع أو القلع ، وقيل إنه تموج الحركة ، وكل ذلك باطل ؛ لأن هذه الأحوال مبصرة ، والصوت غير مبصر ، والله أعلم.
(1/15)

المسألة الرابعة : قيل سببه القريب تموج الهواء ، ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من مبدأ واحد بعينه إلى منتهى واحد بعينه ، بل حالة شبيهة بتموج الهواء فإنه أمر يحدث شيئاً فشيئاً لصدم بعد صدم وسكون بعد سكون ، وأما سبب التموج فإمساس عنيف ، وهو القرع ، أو تفريق عنيف ، وهو القلع ، ويرجع في تحقيق هذا إلى "كتبنا العقلية".
حد الحرف :
المسألة الخامسة : قال الشيخ الرئيس في حد الحرف : إنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الخفة والثقل تميزاً في المسموع.
حروف المد واللين :
المسألة السادسة : الحروف إما مصوتة ، وهي التي تسمى في النحو حروف المد واللين ، ولا يمكن الابتداء بها أو صامتة وهي ما عداها ، أما المصوتة فلا شك أنها من الهيئات العارضة للصوت ، وأما الصوامت فمنها ما لا يمكن تمديده كالباء والتاء والدال والطاء ، وهي لا توجد/ إلا في "الآن" الذي هو آخر زمان حبس النفس وأول زمان إرساله ، وهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة بالنسبة إلى الخط والآن بالنسبة إلى الزمان ، وهذه الحروف ليست بأصوات ولا عوارض أصوات ، وإنما هي أمور تحدث في مبدأ حدوث الأصوات ، وتسميتها بالحروف حسنة لأن الحرف هو الطرف ، وهذه الحروف أطراف الأصوات ومباديها ، ومن الصوامت ما يمكن تمديدها بحسب الظاهر ، ثم هذه على قسمين : منها ما الظن الغالب أنها آنية الوجود في نفس الأمر ، وإن كانت زمانية بحسب الحس ، مثل الحاء والخاء ، فإن الظن أن هذه جاءت آنية متوالية كل واحد منها آتي الوجود في نفس الأمر ، لكن الحس لا يشعر بامتياز بعضها عن بعض فيظنها حرفاً واحداً زمانياً ، ومنها ما الظن الغالب كونها زمانية في الحقيقة كالسين والشين ، فإنها هيئات عارضة للصوت مستمرة باستمرار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة السابعة : الحرف لا بدّ وأن يكون إما ساكناً أو متحركاً ، ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه ، لأنهما من صفات الأجسام ، بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت بصوت مخصوص.
المسألة الثامنة : الحركات أبعاض المصوتات ، والدليل عليه أن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان ولا طرف في جانب النقصان إلا هذه الحركات ، ولأن هذه الحركات إذا مدت حدثت المصوتات وذلك يدل على قولنا.
المسألة التاسعة : الصامت سابق على المصوت المقصور الذي يسمى بالحركة ، بدليل أن التكلم بهذه الحركات موقوف على التكلم بالصامت ، فلو كانت هذه الحركات سابقة على هذه الصوامت لزم الدور ، وهو محال.
الكلام حادث لا قديم :
المسألة العاشرة : الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديماً لوجهين : الأول : أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث ، لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه ، والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث ، والثاني : أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة/ لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معاً لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ، ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة ، واحتج القائلون بقدم الحروف بالعقل والنقل : أما العقل فهو أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها ، والماهيات لا تقبل / الزوال ولا العدم ، فكانت قديمة ، وأما النقل فهو أن كلام الله قديم ، وكلام الله ليس إلا هذه الحروف ، فوجب القول بقدم هذه الحروف ، أما أن كلام الله قديم فلأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص ، فلو لم يكن كلام الله قديماً لزم أن يقال إنه تعالى كان في الأزل ناقصاً ثم صار فيما لا يزال كاملاً ، وذلك بإجماع المسلمين باطل ، وإنما قلنا إن كلام الله تعالى ليس إلا هذه الحروف لوجوه : أحدها : قوله تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اللَّهِ} ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف ، فدل هذا على أن هذه الحروف كلام الله ، وثانيها : أن من حلف على سماع كلام الله تعالى فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف ، وثالثها : أنه نقل بالتواتر إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول : "إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام الله" فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد عليه الصلاة والسلام فيلزمه الكفر. والجواب عن الأول أن ما ذكرتم غير مختص بماهية دون ماهي ، فيلزمكم قدم الكل ، وعن الثاني أن ما ذكرتم من الاستدلال خفي في مقابلة البديهيات فيكون باطلاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وصف كلام الله تعالى بالقدم :
(1/16)

المسألة الحادية عشرة : إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز ، وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبني الأَيمان على العرف ، وإذا قلنا : كلام الله قديم ، لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات. وإذا قلنا : كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة ، فإن القديم كان موجوداً قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له ؟
وإذا قلنا : كلام الله سور وآيات ، عنينا به هذه الحروف ، وإذا قلنا : كلام الله فصيح ، عنينا به هذه الألفاظ ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضاً هذه الألفاظ.
الأصوات التي نقرأ بها ليست كلام الله :
المسألة الثانية عشرة : زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى ، وهذا باطل ، لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته ، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان ، وهذا معلوم الفساد بالضرورة ، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح ، وزعموا أنها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام ، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى ، وغير زائلة عنه ، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان / مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ، ولا فرق بين القولين ، إلا أن النصارى قالوا : بهذا القول في حق عيسى وحده ، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب.
المسألة الثالثة عشرة : قالت الكرامية : الكلام اسم للقدرة على القول ، بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم ، وإن لم يكن في الحال مشتغلاً بالقول ، وأيضاً فضد الكلام هو الخرس/ لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول ، فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول ، وإذا ثبت هذا فهم يقولون : إن كلام الله تعالى قديم ، بمعنى أن قدرته على القول قديمة ، أما القول فإنه حادث ، هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه.
خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن :
المسألة الرابعة عشرة : قالت الحشوية للأشعرية : إن كان مرادكم من قولكم : "إن القرآن قديم" هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديماً ، لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم ، وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبراً عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديماً بهذا التفسير ، وإن كان المراد من كونه قديماً وجهاً آخر سوى ذلك فلا بدّ من بيانه. والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقاً بجميع المخبرات ، وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أنا لا نقول : إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذباً ، والكذب في كلام الله محال ، لأنه تعالى لما أخبر أن أقواماً أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذباً ، وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص ، والأخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص ، وهو على الله محال. واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة ، فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه ، والله أعلم بالصواب.
الباب الثالث
في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف ، وفيه مسائل
المسألة الأولى : اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين : الأول : أن الكلمة إما أن يصح الأخبار عنها وبها ، وهي الاسم ، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ، لكن يصح الأخبار بها ، وهي الفعل ، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ولا بها ، وهو / الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الأخبار عنهما ، وعلى أن الاسم يصح الأخبار عنه ، فلنذكر البحثين في مسألتين.
الكلمة اسم وفعل وحرف :
(1/17)

المسألة الثانية : اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الأخبار عنهما ، قالوا : لأنه لا يجوز أن يقال : ضرب قتل ، ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام ، وأيضاً فإنه لا يصح أن يقال : جدار سماء ، ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الأخبار عنه وبه ، لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام ، فكذا ههنا ، ثم قيل ، الذي يدل على صحة الأخبار عن الفعل والحرف وجوه : الأول : أنا إذا أخبرنا عن "ضرب يضرب أضرب" بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر إما أن يكون اسماً أو فعلاً أو حرفاً ، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً ، وليس كذلك ، وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبراً عنه ، فإن قالوا : المخبر عنه بهذا الخبر هو هذه الصيغ ، وهي أسماء قلنا : هذا السؤال ركيك ، لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسماً ، فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال ، وقد أبطلناه ، الثاني : إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم ، الثالث : أن قولنا : "الفعل لا يخبر عنه" إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه ، وذلك متناقض ، فإن قالوا : المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ ، فنقول : قد أجبنا على هذا السؤال ، فإنا نقول : المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسماً فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه ، وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم ، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه. الرابع : الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها ، وكل ما كان كذلك صح الأخبار عنه بكونه ممتازاً عن غيره ، فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز ، الخامس : الفعل إما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص ، وإما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة ، فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلاً على المعنى ، وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولاً لتلك الصيغة ، فهذه سؤالات صبعة في هذا المقام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثالثة : طعن قوم في قولهم : "الاسم ما يصح الأخبار عنه" بأن قالوا : لفظة "أين وكيف وإذا" أسماء مع أنه لا يصح الأخبار عنها ، وأجاب عبد القاهر النحوي عنه بأنا إذا قلنا : "الاسم ما جاز الأخبار عنه" أردنا به ما جاز الأخبار عن معناه ، ويصح الأخبار عن معنى / إذا لأنك إذا قلت : آتيك إذا طلعت الشمس ، كان المعنى آتيك وقت طلوع الشمس ، والوقت يصح الأخبار عنه ، بدليل أنك تقول : طاب الوقت ، وأقول هذا العذر ضعيف ، لأن "إذا" ليس معناه الوقت فقط ، بل معناه الوقت حال ما تجعله ظرفاً لشيء آخر ، والوقت حال ما جعل ظرفاً لحادث آخر فإنه لا يمكن الأخبار عنه ألبتة ، فإن قالوا لما كان أحد أجزاء ماهيته إسماً وجب كونه اسماً ، فنقول : هذا باطل ، لأنه إن كفى هذا القدر في كونه اسماً وجب أن يكون الفعل اسماً ، لأن الفعل أحد أجزاء ماهيته المصدر ، وهو اسم ، ولما كان هذا باطلاً فكذا ما قالوه.
المسألة الرابعة : في تقرير النوع الثاني من تقسيم الكلمة أن تقول : الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية أو لا يكون ، والثاني : هو الحرف ، أما الأول : فإما أن يدل ذلك اللفظ على الزمان المعين لمعناه ، وهو الفعل ، أو لا يدل وهو الاسم ، وفي هذا القسم سؤالات نذكرها في حد الاسم والفعل.
تعريف الاسم :
المسألة الخامسة في تعريف الاسم : الناس ذكروا فيه وجوهاً ، التعريف الأول : أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عن معناه ، واعلم أن صحة الأخبار عن ماهية الشيء حكم يحصل له بعد تمام ماهيته فيكون هذا التعريف من باب الرسوم لا من باب الحدود ، والأشكال عليه من وجهين : الأول : أن الفعل والحرف يصح الأخبار عنهما ، والثاني : أن "إذا وكيف وأين" لا يصح الأخبار عنها وقد سبق تقرير هذين السؤالين.
التعريف الثاني : أن الاسم هو الذي يصح أن يأتي فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً ، واعلم أن حاصله يرجع إلى أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عنه.
والتعريف الثالث : أن الاسم كلمة تستحق الإعراب في أول الوضع ، وهذا أيضاً رسم ، لأن صحة الإعراب حالة طارئة على الاسم بعد تمام الماهية ، وقولنا في أول الوضع احتراز عن شيئين : أحدهما : المبنيات ، فإنها لا تقبل الإعراب بسبب مناسبة بينها وبين الحروف ، ولولا هذه المناسبة لقبلت الإعراب ، والثاني : أن المضارع معرب لكن لا لذاته بل بسبب كونه مشابهاً للاسم ، وهذا التعريف أيضاً ضعيف.
(1/18)

التعريف الرابع : قال الزمخشري في "المفصل" : الاسم ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران. واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه : الأول : أنه قال في تعريف الكلمة أنها اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع ، ثم ذكر فيما كتب من حواشي "المفصل" أنه إنما وجب / ذكر اللفظ لأنا لو قلنا : "الكلمة هي الدالة على المعنى" لانتقض بالعقد والخط والإشارة كذلك ، مع أنها ليست أسماء. والثاني : أن الضمير في قوله : "في نفسه" إما أن يكون عائداً إلى الدال ، أو إلى المدلول ، أو إلى شيء ثالث ، فإن عاد إلى الدال صار التقدير الاسم ما دل على معنى حصل في الاسم ، فيصير المعنى الاسم ما دل على معنى هو مدلوله/ وهذا عبث ، ثم مع ذلك فينتقض بالحرف والفعل ، فإنه لفظ يدل على مدلوله ، وإن عاد إلى المدلول صار التقدير الاسم ما دل على معنى حاصل في نفس ذلك المعنى ، وذلك يقتضي كون الشيء حاصلاً في نفسه ، وهو محال ، فإن قالوا معنى كونه حاصلاً في نفسه أنه ليس حاصلاً في غيره ، فنقول : فعلى هذا التفسير ينتقض الحد بأسماء الصفات والنسب ، فإن تلك المسميات حاصلة في غيرها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
التعريف الخامس : أن يقال : الاسم كلمة دالة على معنى مستقل بالمعلومية من غير أن يدل على الزمان المعين الذي وقع فيه ذلك المعنى ، وإنما ذكرنا الكلمة ليخرج الخط والعقد والإشارة فإن قالوا : لم لم يقولوا لفظة دالة على كذا وكذا ؟
قلنا : لأنا جعلنا اللفظ جنساً للكلمة ، والكلمة جنس للاسم ، والمذكور في الحد هو الجنس القريب لا البعيد ، وأما شرط الاستقلال بالمعلومية فقيل : إنه باطل طرداً وعكساً ، أما الطرد فمن وجوه. الأول : أن كل ما كان معلوماً فإنه لا بدّ وأن يكون مستقلاً بالمعلومية لأن الشيء ما لم تتصور ماهيته امتنع أن يتصور مع غيره ، وإذا كان تصوره في نفسه متقدماً على تصوره مع غيره كان مستقلاً بالمعلومية ، الثاني : أن مفهوم الحرف يستقل بأن يعلم كونه غير مستقل بالمعلومية ، وذلك استقلال. الثالث : أن النحويين اتفقوا على أن "الباء" تفيد الإلصاق ، و"من" تفيد التبعيض ، فمعنى الإلصاق إن كان مستقلاً بالمعلومية وجب أن يكون المفهوم من الباء مستقلاً بالمعلومية فيصير الحرف اسماً ، وإن كان غير مستقل بالمعلومية كان المفهوم من الإلصاق غير مستقبل بالمعلومية ، فيصير الاسم حرفاً ، وأما العكس فهو أن قولنا : "كم وكيف ومتى وإذا" وما الاستفهامية والشرطية كلها أسامٍ مع أن مفهوماتها غير مستقلة ، وكذلك الموصولات. الثالث : أن قولنا : "من غير دلالة على زمان ذلك المعنى" يشكل بلفظ الزمان وبالغد وباليوم والاصطباح وبالاغتباق ، والجواب عن السؤال الأول : أنا ندرك تفرقة بين قولنا الإلصاق وبين حرف الباء في قولنا : "كتبت بالقلم" فنريد بالاستقلال هذا القدر. فأما لفظ الزمان واليوم والغد فجوابه أن مسمى هذه الألفاظ نفس الزمان ، ولا دلالة منها على زمان آخر لمسماه. وأما الاصطباح والاغتباق فجزؤه الزمان ، والفعل هو الذي يدل على زمان خارج عن / المسمى ، والذي يدل على ما تقدم قولهم : اغتبق يغتبق ، فأدخلوا الماضي والمستقبل على الاصطباح والاغتباق.
علامات الاسم :
المسألة السادسة : علامات الاسم إما أن تكون لفظية أو معنوية ، فاللفظية إما أن تحصل في أول الاسم ، وهو حرف تعريف ، أو حرف جر ، أو في حشوه كياء التصغير ، وحرف التكسير ، أو في آخره كحرفي التثنية والجمع. وأما المعنوية فهي كونه موصوفاً ، وصفة ، وفاعلاً ، ومفعولاً ، ومضافاً إليه ، ومخبراً عنه ، ومستحقاً للإعراب بأصل الوضع.
تعريفات الفعل :
المسألة السابعة : ذكروا للفعل تعريفات : التعريف الأول : قال سيبويه إنها أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وينتقض بلفظ الفاعل والمفعول.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
التعريف الثاني : أنه الذي أسند إلى شيء ولا يستند إليه شيء وينتقض بإذا وكيف ، فإن هذه الأسماء يجب إسنادها إلى شيء آخر ، ويمتنع استناد شيء آخر إليها.
التعريف الثالث : قال الزمخشري : الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان ، وهو ضعيف لوجهين : الأول : أنه يجب أن يقال : "كلمة دالة على اقتران حدث بزمان" وإنما يجب ذكر الكلمة لوجوه : أحدها : أنا لو لم نقل بذلك لانتقض بقولنا اقتران حدث بزمان فإن مجموع هذه الألفاظ دال على اقتران حدث بزمان مع أن هذا المجموع ليس بفعل ، أما إذا قيدناه بالكلمة اندفع هذا السؤال ، لأن مجموع هذه الألفاظ ليس كلمة واحدة. وثانيها : أنا لو لم نذكر ذلك لانتقض بالخط والعقد والإشارة/ وثالثها : أن الكلمة لما كانت كالجنس القريب لهذه الثلاثة فالجنس القريب واجب الذكر في الحد. الوجه الثاني ما نذكره بعد ذلك.
(1/19)

التعريف الرابع : الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر لشيء غير معين في زمان معين ، وإنما قلنا كلمة لأنها هي الجنس القريب ، وإنما قلنا دالة على ثبوت المصدر ولم نقل دالة على ثبوت شيء لأن المصدر قد يكون أمراً ثابتاً كقولنا ضرب وقتل وقد يكون عدمياً مثل فني وعدم فإن مصدرهما الفناء والعدم ، وإنما قلنا بشيء غير معين لأنا سنقيم الدليل على أن هذا المقدار معتبر ، وإنما قلنا في زمان معين احترازاً عن الأسماء. واعلم أن في هذه القيود مباحثات : القيد الأول : هو قولنا : "يدل على ثبوت المصدر لشيء" فيه إشكالات : الأول : أنا إذا قلنا خلق الله العالم فقولنا خلق إما أن يدل على ثبوت الخلق لله سبحانه وتعالى أو لا يدل ، فإن لم يدل بطل ذلك القيد ، وإن دل فذلك الخلق يجب أن يكون مغايراً للمخلوق ، وهو إن كان محدثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل ، وإن كان قديماً لزم قدم المخلوق. والثاني : / إنا إذا قلنا وجد الشيء فهل دل ذلك على حصول الوجود لشيء أو لم يدل ؟
فإن لم يدل بطل هذا القيد ، وإن دل لزم أن يكون الوجود حاصلاً لشيء غيره ، وذلك الغير يجب أن يكون حاصلاً في نفسه لأن ما لا حصول له في نفسه امتنع حصول غيره له ، فيلزم أن يكون حصول الوجود له مسبوقاً بحصول آخر إلى غير النهاية ، وهو محال. والثالث : إذا قلنا عدم الشيء وفني فهذا يقتضي حصول العدم وحصول الفناء لتلك الماهية ، وذلك محال ، لأن العدم والفناء نفي محض فكيف يعقل حصولهما لغيرهما والرابع : إن على تقدير أن يكون الوجود زائداً على الماهية فإنه يصدق قولنا : "إنه حصل الوجود لهذه الماهية" فيلزم حصول وجود آخر لذلك الوجود إلى غير نهاية ، وهو محال ، وأما على تقدير أن يكون الوجود نفس الماهية فإن قولنا : حدث الشيء وحصل فإنه لا يقتضي حصول وجود لذلك الشيء ، وإلا لزم أن يكون الوجود زائداً على الماهية ، ونحن الآن إنما نتكلم على تقدير أن الوجود نفس الماهية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما القيد الثاني : وهو قولنا : "في زمان معين" ففيه سؤالات أحدها : أنا إذا قلنا : "وجد الزمان" أو قلنا : "فني الزمان" فهذا يقتضي حصول الزمان في زمان آخر ، ولزم التسلسل ، فإن قالوا : يكفي في صحة هذا الحد كون الزمان واقعاً في زمان آخر بحسب الوهم الكاذب ، قلنا : الناس أجمعوا على أن قولنا حدث الزمان وحصل بعد أن كان معدوماً كلام حق ليس فيه باطل ولا كذب ، ولو كان الأمر كما قلتم لزم كونه باطلاً وكذباً ، وثانيها : أنا إذا قلنا : كان العالم معدوماً في الأزل ، فقولنا : كان فعل فلو أشعر ذلك بحصول الزمان لزم حصول الزمان في الأزل ، وهو محال ، فإن قالوا : ذلك الزمان مقدر لا محقق ، قلنا التقدير الذهني إن طابق الخارج عاد السؤال ، وإن لم يطابق كان كذباً ، ولزم فساد الحد ، وثالثها : أنا إذا قلنا : كان الله موجوداً في الأزل ، فهذا يقتضي كون الله زمانياً ، وهو محال ، ورابعها : أنه ينتقض بالأفعال الناقصة ، فإن كان الناقصة إما أن تدل على وقوع حدث في زمان أو لا تدل : فإن دلت كان تاماً لا ناقصاً ، لأنه متى دل اللفظ على حصول حدث في زمان معين كان هذا كلاماً تاماً لا ناقصاً ، وإن لم يدل وجب أن لا يكون فعلاً ، وخامسها : أنه يبطل بأسماء الأفعال ، فإنها تدل على ألفاظ دالة على الزمان المعين ، والدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء فهذه الأسماء دالة على الزمان المعين ، وسادسها : أن اسم الفاعل يتناول إما الحال وإما الاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة ، فهو دال على الزمان المعين ، والجواب أما السؤالات الأربعة المذكورة على قولنا : "الفعل يدل على ثبوت المصدر لشيء" والثلاثة المذكورة على قولنا / "الفعل يدل الزمان" فجوابها أن اللغوي يكفي في علمه تصور المفهوم/ سواء كان حقاً أو باطلاً ، وأما قوله : "يشكل هذا الحد بالأفعال الناقصة" قلنا : الذي أقول به وأذهب إليه أن لفظة كان تامة مطلقاً ، إلا أن الاسم الذي يسند إليه لفظ كان قد يكون ماهية مفردة مستقلة بنفسها مثل قولنا : كان الشيء ، بمعنى حدث وحصل ، وقد تكون تلك الماهية عبارة عن موصوفية شيء لشيء آخر مثل قولنا : كان زيد منطلقاً ، فإن معناه حدوث موصوفية زيد بالانطلاق فلفظ كان ههنا معناه أيضاً الحدوث والوقوع ، إلا أن هذه الماهية لما كانت من باب النسب ، والنسبة يمتنع ذكرها إلا بعد ذكر المنتسبين ، لا جرم وجب ذكرهما ههنا ، فكما أن قولنا : كان زيد ، معناه أنه حصل ووجد ، فكذا قولنا : كان زيد منطلقاً ، معناه أنه حصلت موصوفية زيد بالانطلاق ؛ وهذا بحث عميق عجيب دقيق غفل الأولون عنه ، وقوله : "خامساً : يبطل ما ذكرتم بأسماء الأفعال" قلنا المعتبر في كون اللفظ فعلاً دلالته على الزمان ابتداء لا بواسطة ، وقوله : "سادساً : اسم الفاعل مختص بالحال والاستقبال" قلنا : لا نسلم ، بدليل أنهم قالوا : إذا كان بمعنى الماضي لم يعمل عمل الفعل ، وإذا كان بمعنى الحال فإنه يعمل عمل الفعل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/20)

المسألة الثامنة : الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية ، أو لا يكون ، وهذا الأخير هو الحرف ، فامتياز الحرف عن الاسم والفعل بقيد عدمي ، ثم نقول : والمستقل بالمعلومية إما أن يدل على الزمان المعين لذلك المسمى ، أو لا يدل ، والذي لا يدل هو الاسم ، فامتاز الاسم عن الفعل بقيد عدمي ، وأما الفعل فإن ماهيته متركبة من القيود الوجودية.
هل يدل الفعل على الفاعل المبهم :
المسألة التاسعة : إذا قلنا : ضرب ، فهو يدل على صدور الضرب عن شيء ما إلا أن ذلك الشيء غير مذكور على التعيين ، بحسب هذا اللفظ ، فإن قالوا : هذا محال ، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لو كان كذلك لكانت صيغة الفعل وحدها محتملة للتصديق والتكذيب ، الثاني : أنها لو دلت على استناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر وجب أن يمتنع إسناده إلى شيء معين ، وإلا لزم التناقض ، ولو دلت على استناد الضرب إلى شيء معين فهو باطل ، لأنا نعلم بالضرورة أن مجرد قولنا ضرب ما وضع لاستناد الضرب إلى زيد بعينه أو عمرو بعينه ، والجواب عن هذين السؤالين بجواب واحد ، وهو أن ضرب صيغة غير موضوعة لإسناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر ، بل وضعت لإسناده إلى شيء معين يذكره ذلك القائل فقبل أن يذكره القائل لا يكون الكلام تاماً ولا محتملاً للتصديق والتكذيب ، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
المسألة الحادية عشرة : إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز ، وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبني الأَيمان على العرف ، وإذا قلنا : كلام الله قديم ، لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات. وإذا قلنا : كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة ، فإن القديم كان موجوداً قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له ؟
وإذا قلنا : كلام الله سور وآيات ، عنينا به هذه الحروف ، وإذا قلنا : كلام الله فصيح ، عنينا به هذه الألفاظ ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضاً هذه الألفاظ.
الأصوات التي نقرأ بها ليست كلام الله :
المسألة الثانية عشرة : زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى ، وهذا باطل ، لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته ، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان/ وهذا معلوم الفساد بالضرورة ، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح ، وزعموا أنها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام ، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى ، وغير زائلة عنه ، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان / مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ، ولا فرق بين القولين ، إلا أن النصارى قالوا : بهذا القول في حق عيسى وحده ، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثالثة عشرة : قالت الكرامية : الكلام اسم للقدرة على القول ، بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم ، وإن لم يكن في الحال مشتغلاً بالقول ، وأيضاً فضد الكلام هو الخرس ، لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول ، فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول ، وإذا ثبت هذا فهم يقولون : إن كلام الله تعالى قديم ، بمعنى أن قدرته على القول قديمة ، أما القول فإنه حادث ، هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه.
خلاف الحشوية والأشعرية في صفة القرآن :
المسألة الرابعة عشرة : قالت الحشوية للأشعرية : إن كان مرادكم من قولكم : "إن القرآن قديم" هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديماً ، لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم ، وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبراً عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديماً بهذا التفسير ، وإن كان المراد من كونه قديماً وجهاً آخر سوى ذلك فلا بدّ من بيانه. والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقاً بجميع المخبرات ، وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال.
(1/21)

واعلم أنا لا نقول : إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذباً ، والكذب في كلام الله محال ، لأنه تعالى لما أخبر أن أقواماً أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذباً ، وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص ، والأخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص ، وهو على الله محال. واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة ، فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه ، والله أعلم بالصواب.
الباب الثالث
في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف ، وفيه مسائل
المسألة الأولى : اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين : الأول : أن الكلمة إما أن يصح الأخبار عنها وبها ، وهي الاسم ، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ، لكن يصح الأخبار بها ، وهي الفعل ، وإما أن لا يصح الأخبار عنها ولا بها ، وهو / الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الأخبار عنهما ، وعلى أن الاسم يصح الأخبار عنه ، فلنذكر البحثين في مسألتين.
الكلمة اسم وفعل وحرف :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية : اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الأخبار عنهما ، قالوا : لأنه لا يجوز أن يقال : ضرب قتل ، ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام ، وأيضاً فإنه لا يصح أن يقال : جدار سماء ، ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الأخبار عنه وبه ، لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام ، فكذا ههنا ، ثم قيل ، الذي يدل على صحة الأخبار عن الفعل والحرف وجوه : الأول : أنا إذا أخبرنا عن "ضرب يضرب أضرب" بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر إما أن يكون اسماً أو فعلاً أو حرفاً ، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً ، وليس كذلك ، وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبراً عنه/ فإن قالوا : المخبر عنه بهذا الخبر هو هذه الصيغ ، وهي أسماء قلنا : هذا السؤال ركيك ، لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسماً ، فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال ، وقد أبطلناه ، الثاني : إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم ، الثالث : أن قولنا : "الفعل لا يخبر عنه" إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه ، وذلك متناقض ، فإن قالوا : المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ ، فنقول : قد أجبنا على هذا السؤال ، فإنا نقول : المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسماً فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه ، وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم ، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه. الرابع : الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها ، وكل ما كان كذلك صح الأخبار عنه بكونه ممتازاً عن غيره ، فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز ، الخامس : الفعل إما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص ، وإما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة ، فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلاً على المعنى ، وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولاً لتلك الصيغة ، فهذه سؤالات صبعة في هذا المقام.
المسألة الثالثة : طعن قوم في قولهم : "الاسم ما يصح الأخبار عنه" بأن قالوا : لفظة "أين وكيف وإذا" أسماء مع أنه لا يصح الأخبار عنها ، وأجاب عبد القاهر النحوي عنه بأنا إذا قلنا : "الاسم ما جاز الأخبار عنه" أردنا به ما جاز الأخبار عن معناه ، ويصح الأخبار عن معنى / إذا لأنك إذا قلت : آتيك إذا طلعت الشمس ، كان المعنى آتيك وقت طلوع الشمس ، والوقت يصح الأخبار عنه ، بدليل أنك تقول : طاب الوقت ، وأقول هذا العذر ضعيف ، لأن "إذا" ليس معناه الوقت فقط ، بل معناه الوقت حال ما تجعله ظرفاً لشيء آخر ، والوقت حال ما جعل ظرفاً لحادث آخر فإنه لا يمكن الأخبار عنه ألبتة ، فإن قالوا لما كان أحد أجزاء ماهيته إسماً وجب كونه اسماً ، فنقول : هذا باطل ، لأنه إن كفى هذا القدر في كونه اسماً وجب أن يكون الفعل اسماً ، لأن الفعل أحد أجزاء ماهيته المصدر ، وهو اسم ، ولما كان هذا باطلاً فكذا ما قالوه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الرابعة : في تقرير النوع الثاني من تقسيم الكلمة أن تقول : الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية أو لا يكون ، والثاني : هو الحرف ، أما الأول : فإما أن يدل ذلك اللفظ على الزمان المعين لمعناه ، وهو الفعل ، أو لا يدل وهو الاسم ، وفي هذا القسم سؤالات نذكرها في حد الاسم والفعل.
تعريف الاسم :
(1/22)

المسألة الخامسة في تعريف الاسم : الناس ذكروا فيه وجوهاً ، التعريف الأول : أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عن معناه ، واعلم أن صحة الأخبار عن ماهية الشيء حكم يحصل له بعد تمام ماهيته فيكون هذا التعريف من باب الرسوم لا من باب الحدود ، والأشكال عليه من وجهين : الأول : أن الفعل والحرف يصح الأخبار عنهما ، والثاني : أن "إذا وكيف وأين" لا يصح الأخبار عنها وقد سبق تقرير هذين السؤالين.
التعريف الثاني : أن الاسم هو الذي يصح أن يأتي فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً ، واعلم أن حاصله يرجع إلى أن الاسم هو الذي يصح الأخبار عنه.
والتعريف الثالث : أن الاسم كلمة تستحق الإعراب في أول الوضع ، وهذا أيضاً رسم ، لأن صحة الإعراب حالة طارئة على الاسم بعد تمام الماهية ، وقولنا في أول الوضع احتراز عن شيئين : أحدهما : المبنيات ، فإنها لا تقبل الإعراب بسبب مناسبة بينها وبين الحروف ، ولولا هذه المناسبة لقبلت الإعراب ، والثاني : أن المضارع معرب لكن لا لذاته بل بسبب كونه مشابهاً للاسم/ وهذا التعريف أيضاً ضعيف.
التعريف الرابع : قال الزمخشري في "المفصل" : الاسم ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران. واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه : الأول : أنه قال في تعريف الكلمة أنها اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع ، ثم ذكر فيما كتب من حواشي "المفصل" أنه إنما وجب / ذكر اللفظ لأنا لو قلنا : "الكلمة هي الدالة على المعنى" لانتقض بالعقد والخط والإشارة كذلك ، مع أنها ليست أسماء. والثاني : أن الضمير في قوله : "في نفسه" إما أن يكون عائداً إلى الدال ، أو إلى المدلول ، أو إلى شيء ثالث ، فإن عاد إلى الدال صار التقدير الاسم ما دل على معنى حصل في الاسم ، فيصير المعنى الاسم ما دل على معنى هو مدلوله ، وهذا عبث ، ثم مع ذلك فينتقض بالحرف والفعل ، فإنه لفظ يدل على مدلوله ، وإن عاد إلى المدلول صار التقدير الاسم ما دل على معنى حاصل في نفس ذلك المعنى ، وذلك يقتضي كون الشيء حاصلاً في نفسه ، وهو محال ، فإن قالوا معنى كونه حاصلاً في نفسه أنه ليس حاصلاً في غيره ، فنقول : فعلى هذا التفسير ينتقض الحد بأسماء الصفات والنسب ، فإن تلك المسميات حاصلة في غيرها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
التعريف الخامس : أن يقال : الاسم كلمة دالة على معنى مستقل بالمعلومية من غير أن يدل على الزمان المعين الذي وقع فيه ذلك المعنى ، وإنما ذكرنا الكلمة ليخرج الخط والعقد والإشارة فإن قالوا : لم لم يقولوا لفظة دالة على كذا وكذا ؟
قلنا : لأنا جعلنا اللفظ جنساً للكلمة ، والكلمة جنس للاسم ، والمذكور في الحد هو الجنس القريب لا البعيد ، وأما شرط الاستقلال بالمعلومية فقيل : إنه باطل طرداً وعكساً ، أما الطرد فمن وجوه. الأول : أن كل ما كان معلوماً فإنه لا بدّ وأن يكون مستقلاً بالمعلومية لأن الشيء ما لم تتصور ماهيته امتنع أن يتصور مع غيره ، وإذا كان تصوره في نفسه متقدماً على تصوره مع غيره كان مستقلاً بالمعلومية ، الثاني : أن مفهوم الحرف يستقل بأن يعلم كونه غير مستقل بالمعلومية ، وذلك استقلال. الثالث : أن النحويين اتفقوا على أن "الباء" تفيد الإلصاق ، و"من" تفيد التبعيض ، فمعنى الإلصاق إن كان مستقلاً بالمعلومية وجب أن يكون المفهوم من الباء مستقلاً بالمعلومية فيصير الحرف اسماً ، وإن كان غير مستقل بالمعلومية كان المفهوم من الإلصاق غير مستقبل بالمعلومية ، فيصير الاسم حرفاً ، وأما العكس فهو أن قولنا : "كم وكيف ومتى وإذا" وما الاستفهامية والشرطية كلها أسامٍ مع أن مفهوماتها غير مستقلة ، وكذلك الموصولات. الثالث : أن قولنا : "من غير دلالة على زمان ذلك المعنى" يشكل بلفظ الزمان وبالغد وباليوم والاصطباح وبالاغتباق ، والجواب عن السؤال الأول : أنا ندرك تفرقة بين قولنا الإلصاق وبين حرف الباء في قولنا : "كتبت بالقلم" فنريد بالاستقلال هذا القدر. فأما لفظ الزمان واليوم والغد فجوابه أن مسمى هذه الألفاظ نفس الزمان ، ولا دلالة منها على زمان آخر لمسماه. وأما الاصطباح والاغتباق فجزؤه الزمان ، والفعل هو الذي يدل على زمان خارج عن / المسمى ، والذي يدل على ما تقدم قولهم : اغتبق يغتبق ، فأدخلوا الماضي والمستقبل على الاصطباح والاغتباق.
علامات الاسم :
المسألة السادسة : علامات الاسم إما أن تكون لفظية أو معنوية ، فاللفظية إما أن تحصل في أول الاسم ، وهو حرف تعريف ، أو حرف جر ، أو في حشوه كياء التصغير ، وحرف التكسير ، أو في آخره كحرفي التثنية والجمع. وأما المعنوية فهي كونه موصوفاً ، وصفة ، وفاعلاً ، ومفعولاً ، ومضافاً إليه ، ومخبراً عنه ، ومستحقاً للإعراب بأصل الوضع.
تعريفات الفعل :
المسألة السابعة : ذكروا للفعل تعريفات : التعريف الأول : قال سيبويه إنها أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، وينتقض بلفظ الفاعل والمفعول.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/23)

التعريف الثاني : أنه الذي أسند إلى شيء ولا يستند إليه شيء وينتقض بإذا وكيف ، فإن هذه الأسماء يجب إسنادها إلى شيء آخر ، ويمتنع استناد شيء آخر إليها.
التعريف الثالث : قال الزمخشري : الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان ، وهو ضعيف لوجهين : الأول : أنه يجب أن يقال : "كلمة دالة على اقتران حدث بزمان" وإنما يجب ذكر الكلمة لوجوه : أحدها : أنا لو لم نقل بذلك لانتقض بقولنا اقتران حدث بزمان فإن مجموع هذه الألفاظ دال على اقتران حدث بزمان مع أن هذا المجموع ليس بفعل ، أما إذا قيدناه بالكلمة اندفع هذا السؤال ، لأن مجموع هذه الألفاظ ليس كلمة واحدة. وثانيها : أنا لو لم نذكر ذلك لانتقض بالخط والعقد والإشارة ، وثالثها : أن الكلمة لما كانت كالجنس القريب لهذه الثلاثة فالجنس القريب واجب الذكر في الحد. الوجه الثاني ما نذكره بعد ذلك.
التعريف الرابع : الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر لشيء غير معين في زمان معين ، وإنما قلنا كلمة لأنها هي الجنس القريب ، وإنما قلنا دالة على ثبوت المصدر ولم نقل دالة على ثبوت شيء لأن المصدر قد يكون أمراً ثابتاً كقولنا ضرب وقتل وقد يكون عدمياً مثل فني وعدم فإن مصدرهما الفناء والعدم ، وإنما قلنا بشيء غير معين لأنا سنقيم الدليل على أن هذا المقدار معتبر ، وإنما قلنا في زمان معين احترازاً عن الأسماء. واعلم أن في هذه القيود مباحثات : القيد الأول : هو قولنا : "يدل على ثبوت المصدر لشيء" فيه إشكالات : الأول : أنا إذا قلنا خلق الله العالم فقولنا خلق إما أن يدل على ثبوت الخلق لله سبحانه وتعالى أو لا يدل ، فإن لم يدل بطل ذلك القيد ، وإن دل فذلك الخلق يجب أن يكون مغايراً للمخلوق ، وهو إن كان محدثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل ، وإن كان قديماً لزم قدم المخلوق. والثاني : / إنا إذا قلنا وجد الشيء فهل دل ذلك على حصول الوجود لشيء أو لم يدل ؟
فإن لم يدل بطل هذا القيد ، وإن دل لزم أن يكون الوجود حاصلاً لشيء غيره ، وذلك الغير يجب أن يكون حاصلاً في نفسه لأن ما لا حصول له في نفسه امتنع حصول غيره له ، فيلزم أن يكون حصول الوجود له مسبوقاً بحصول آخر إلى غير النهاية ، وهو محال. والثالث : إذا قلنا عدم الشيء وفني فهذا يقتضي حصول العدم وحصول الفناء لتلك الماهية ، وذلك محال ، لأن العدم والفناء نفي محض فكيف يعقل حصولهما لغيرهما والرابع : إن على تقدير أن يكون الوجود زائداً على الماهية فإنه يصدق قولنا : "إنه حصل الوجود لهذه الماهية" فيلزم حصول وجود آخر لذلك الوجود إلى غير نهاية ، وهو محال ، وأما على تقدير أن يكون الوجود نفس الماهية فإن قولنا : حدث الشيء وحصل فإنه لا يقتضي حصول وجود لذلك الشيء ، وإلا لزم أن يكون الوجود زائداً على الماهية ، ونحن الآن إنما نتكلم على تقدير أن الوجود نفس الماهية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/24)

وأما القيد الثاني : وهو قولنا : "في زمان معين" ففيه سؤالات أحدها : أنا إذا قلنا : "وجد الزمان" أو قلنا : "فني الزمان" فهذا يقتضي حصول الزمان في زمان آخر ، ولزم التسلسل ، فإن قالوا : يكفي في صحة هذا الحد كون الزمان واقعاً في زمان آخر بحسب الوهم الكاذب ، قلنا : الناس أجمعوا على أن قولنا حدث الزمان وحصل بعد أن كان معدوماً كلام حق ليس فيه باطل ولا كذب ، ولو كان الأمر كما قلتم لزم كونه باطلاً وكذباً ، وثانيها : أنا إذا قلنا : كان العالم معدوماً في الأزل ، فقولنا : كان فعل فلو أشعر ذلك بحصول الزمان لزم حصول الزمان في الأزل ، وهو محال ، فإن قالوا : ذلك الزمان مقدر لا محقق ، قلنا التقدير الذهني إن طابق الخارج عاد السؤال ، وإن لم يطابق كان كذباً ، ولزم فساد الحد ، وثالثها : أنا إذا قلنا : كان الله موجوداً في الأزل ، فهذا يقتضي كون الله زمانياً ، وهو محال/ ورابعها : أنه ينتقض بالأفعال الناقصة ، فإن كان الناقصة إما أن تدل على وقوع حدث في زمان أو لا تدل : فإن دلت كان تاماً لا ناقصاً ، لأنه متى دل اللفظ على حصول حدث في زمان معين كان هذا كلاماً تاماً لا ناقصاً ، وإن لم يدل وجب أن لا يكون فعلاً ، وخامسها : أنه يبطل بأسماء الأفعال ، فإنها تدل على ألفاظ دالة على الزمان المعين ، والدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء فهذه الأسماء دالة على الزمان المعين ، وسادسها : أن اسم الفاعل يتناول إما الحال وإما الاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة ، فهو دال على الزمان المعين ، والجواب أما السؤالات الأربعة المذكورة على قولنا : "الفعل يدل على ثبوت المصدر لشيء" والثلاثة المذكورة على قولنا / "الفعل يدل الزمان" فجوابها أن اللغوي يكفي في علمه تصور المفهوم ، سواء كان حقاً أو باطلاً ، وأما قوله : "يشكل هذا الحد بالأفعال الناقصة" قلنا : الذي أقول به وأذهب إليه أن لفظة كان تامة مطلقاً ، إلا أن الاسم الذي يسند إليه لفظ كان قد يكون ماهية مفردة مستقلة بنفسها مثل قولنا : كان الشيء ، بمعنى حدث وحصل ، وقد تكون تلك الماهية عبارة عن موصوفية شيء لشيء آخر مثل قولنا : كان زيد منطلقاً ، فإن معناه حدوث موصوفية زيد بالانطلاق فلفظ كان ههنا معناه أيضاً الحدوث والوقوع ، إلا أن هذه الماهية لما كانت من باب النسب ، والنسبة يمتنع ذكرها إلا بعد ذكر المنتسبين ، لا جرم وجب ذكرهما ههنا ، فكما أن قولنا : كان زيد ، معناه أنه حصل ووجد ، فكذا قولنا : كان زيد منطلقاً ، معناه أنه حصلت موصوفية زيد بالانطلاق ؛ وهذا بحث عميق عجيب دقيق غفل الأولون عنه ، وقوله : "خامساً : يبطل ما ذكرتم بأسماء الأفعال" قلنا المعتبر في كون اللفظ فعلاً دلالته على الزمان ابتداء لا بواسطة ، وقوله : "سادساً : اسم الفاعل مختص بالحال والاستقبال" قلنا : لا نسلم ، بدليل أنهم قالوا : إذا كان بمعنى الماضي لم يعمل عمل الفعل ، وإذا كان بمعنى الحال فإنه يعمل عمل الفعل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثامنة : الكلمة إما أن يكون معناها مستقلاً بالمعلومية ، أو لا يكون ، وهذا الأخير هو الحرف ، فامتياز الحرف عن الاسم والفعل بقيد عدمي ، ثم نقول : والمستقل بالمعلومية إما أن يدل على الزمان المعين لذلك المسمى ، أو لا يدل ، والذي لا يدل هو الاسم ، فامتاز الاسم عن الفعل بقيد عدمي ، وأما الفعل فإن ماهيته متركبة من القيود الوجودية.
هل يدل الفعل على الفاعل المبهم :
المسألة التاسعة : إذا قلنا : ضرب ، فهو يدل على صدور الضرب عن شيء ما إلا أن ذلك الشيء غير مذكور على التعيين ، بحسب هذا اللفظ ، فإن قالوا : هذا محال ، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لو كان كذلك لكانت صيغة الفعل وحدها محتملة للتصديق والتكذيب ، الثاني : أنها لو دلت على استناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر وجب أن يمتنع إسناده إلى شيء معين ، وإلا لزم التناقض ، ولو دلت على استناد الضرب إلى شيء معين فهو باطل ، لأنا نعلم بالضرورة أن مجرد قولنا ضرب ما وضع لاستناد الضرب إلى زيد بعينه أو عمرو بعينه ، والجواب عن هذين السؤالين بجواب واحد ، وهو أن ضرب صيغة غير موضوعة لإسناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر ، بل وضعت لإسناده إلى شيء معين يذكره ذلك القائل فقبل أن يذكره القائل لا يكون الكلام تاماً ولا محتملاً للتصديق والتكذيب ، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
المسألة العاشرة : قالوا الحرف ما جاء لمعنى في غيره ، وهذه لفظ مبهم ، لأنهم إن أرادوا معنى الحرف أن الحرف ما دل على معنى يكون المعنى حاصلاً في غيره وحالاً في غيره لزمهم أن تكون أسماء الأعراض والصفات كلها حروفاً ، وإن أرادوا به أنه الذي دل على معنى يكون مدلول ذلك اللفظ غير ذلك المعنى فهذا ظاهر الفساد/ وإن أرادوا به معنى ثالثاً فلا بد من بيانه.
(1/25)

المسألة الحادية عشرة : التركيبات الممكنة من هذه الثلاثة ستة : الاسم مع الاسم ، وهو الجملة الحاصلة من المبتدأ والخبر ، والاسم مع الفعل ، وهو الجملة الحاصلة من الفعل والفاعل وهاتان الجملتان مفيدتان بالاتفاق ، وأما الثالث ـ وهو الاسم مع الحرف ـ فقيل : إنه يفيد في صورتين.
الصورة الأولى : قولك : "يا زيد" فقيل : ذلك إنما أفاد لأن قولنا يا زيد في تقدير أنادي واحتجوا على صحة قولهم بوجهين : الأول : أن لفظ يا تدخله الأمالة ودخول الأمالة لا يكون إلا في الاسم أو الفعل ، والثاني : أن لام الجر تتعلق بها فيقال : "يالزيد" فإن هذه اللام لام الاستغاثة وهي حرف جر ، ولو لم يكن قولنا يا قائمة مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر ، لأن الحرف لا يدخل على الحرف ، ومنهم من أنكر أن يكون يا بمعنى أنادي واحتج عليه بوجوه : الأول : إن قوله أنادي إخبار عن النداء ، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه ، فوجب أن يكون قولنا أنادي زيداً مغايراً لقولنا يا زيد ، الثاني : أن قولنا أنادي زيداً كلام محتمل للتصديق والتكذيب وقولنا يا زيد لا يحتملها ، الثالث : أن قولنا يا زيد ليس خطاباً إلا مع المنادى ، وقولنا أنادي زيداً غير مختص بالمنادى. الرابع : أن قولنا يا زيد يدل على حصول النداء في الحال ، وقولنا أنادي زيداً لا يدل على اختصاصه بالحال ، الخامس : أنه يصح أن يقال أنادي زيداً قائماً ، ولا يصح أن يقال يا زيد قائماً ، فدلت هذه الوجوه الخمسة على حصول التفرقة بين هذين اللفظين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الصورة الثانية : قولنا : "زيد في الدار" فقولنا زيد مبتدأ والخبر هو ما دل عليه قولنا في إلا أن المفهوم من معنى الظرفية قد يكون في الدار أو في المسجد ، فأضيفت هذه الظرفية إلى الدار لتتميز هذه الظرفية عن سائر أنواعها ، فإن قالوا : هذا الكلام إنما أفاد لأن التقدير زيد استقر في الدار وزيد مستقر في الدار ، فنقول : هذا باطل ، لأن قولنا استقر معناه حصل في الاستقرار فكان قولنا فيه يفيد حصولاً آخر ؛ وهو أنه حصل فيه حصول ذلك الاستقرار وذلك يفضي إلى التسلسل وهو محال ، ثبت أن قولنا زيد في الدار كلام تام ولا يمكن تعليقه بفعل مقدر مضمر.
/المسألة الثانية عشرة : الجملة المركبة إما أن تكون مركبة تركيباً أولياً أو ثانوياً ، أما المركبة تركيباً أولياً فهي الجملة الإسمية أو الفعلية ، والأشبه أن الجملة الإسمية أقدم في الرتبة من الجملة الفعلية لأن الاسم بسيط والفعل مركب ، والبسيط مقدم على المركب ، فالجملة الإسمية يجب أن تكون أقدم من الجملة الفعلية ، ويمكن أن يقال : بل الفعلية أقدم ؛ لأن الاسم غير أصيل في أن يسند إلى غيره ، فكانت الجملة الفعلية أقدم من الجملة الإسمية ، وأما المركبة تركيباً ثانوياً فهي الجملة الشرطية كقولك : "إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود" لأن قولك : "الشمس طالعة" جملة وقولك : "النهار موجود" جملة أخرى ، ثم أدخلت حرف الشرط في إحدى الجملتين ، وحرف الجزاء في الجملة الأخرى ، فحصل من مجموعهما جملة واحدة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الرابع
في تقسيمات الاسم إلى أنواعه ، وهي من وجوه
أنواع الاسم :
التقسيم الأول : إما أن يكون نفس تصور معناه مانعاً من الشركة ، أو لا يكون ، فإن كان الأول ، فإما أن يكون مظهراً ، وهو العلم ، وإما أن يكون مضمراً ، وهو معلوم ، وأما إذا لم يكن مانعاً من الشركة فالمفهوم منه : إما أن يكون ماهية معينة ، وهو أسماء الأجناس ، وإما أن يكون مفهومه أنه شيء ما موصوف بالصفة الفلانية ، وهو المشتق ، كقولنا أسود ، فإن مفهومه أنه شيء ماله سواد. فثبت بما ذكرناه أن لاسم جنس تحته أنواع ثلاثة : أسماء الأعلام ، وأسماء الأجناس ، والأسماء المشتقة ، فلنذكر أحكام هذه الأقسام.
أحكام الأعلام :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/26)

النوع الأول : أحكام الأعلام ، وهي كثيرة : الحكم الأول : قال المتكلمون : اسم العلم لا يفيد فائدة أصلاً ، وأقول : حق أن العلم لا يفيد صفة في المسمى. وأما ليس بحق أنه لا يفيد شيئاً ، وكيف وهو يفيد تعريف تلك الذات المخصوصة ؟
الحكم الثاني : اتفقوا على أن الأجناس لها أعلام ، فقولنا : "أسد" اسم جنس لهذه الحقيقة ؛ وقولنا : "أسامة" اسم علم لهذه الحقيقة ، وكذلك قولنا : "ثعلب" اسم جنس لهذه الحقيقة ، وقولنا : "ثعالة" اسم علم لها وأقول : الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس من وجهين : الأول : إن اسم العلم هو الذي يفيد الشخص المعين من حيث إنه ذلك المعين ، فإذا سمينا أشخاصاً كثيرين باسم زيد فليس ذلك لأجل أن قولنا : "زيد" موضوع لإفادة القدر المشترك بين تلك الأشخاص ، بل لأجل أن لفظ زيد وضع لتعريف هذه الذات من حيث أنها هذه ، ولتعريف تلك من حيث إنها تلك على /سبيل الاشتراك ، إذا عرفت هذا فنقول : إذا قال الواضع : وضعت لفظ أسامة لإفادة ذات كل واحد من أشخاص الأسد بعينها من حيث هي هي على سبيل الاشتراك اللفظي ، كان ذلك علم الجنس ، وإذا قال : وضعت لفظ الأسد لإفادة الماهية التي هي القدر المشترك بين هذه الأشخاص فقط من غير أن يكون فيها دلالة على الشخص المعين ، كان هذا اسم الجنس ، فقد ظهر الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس. الثاني : أنهم وجدوا أسامة اسماً غير منصرف وقد تقرر عندهم أنه ما لم يحصل في الاسم شيآن لم يخرج عن الصرف ، ثم وجدوا في هذا اللفظ التأنيث ، ولم يجدوا شيئاً آخر سوى العلمية ، فاعتقدوا كونه علماً لهذا المعنى.
الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام :
الحكم الثالث : اعلم أن الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام أنه ربما اختص نوع بحكم واحتج إلى الأخبار عنه بذلك الحكم الخاص ، ومعلوم أن ذلك الأخبار على سبيل التخصيص غير ممكن إلا بعد ذكر المخبر عنه على سبيل الخصوص ، فاحتج إلى وضع الأعلام لهذه الحكمة.
الحكم الرابع : أنه لما كانت الحاجات المختلفة تثبت لأشخاص الناس فوق ثبوتها لسائر الحيوانات ، لا جرم كان وضع الأعلام للأشخاص الإنسانية أكثر من وضعها لسائر الذوات.
العلم اسم ولقب وكنية :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحكم الخامس : في تقسيمات الأعلام ، وهي من وجوه : الأول : العلم إما أن يكون اسماً كإبراهيم وموسى وعيسى ، أو لقباً كإسرائيل ، أو كنية كأبي لهب. واعلم أن هذا التقسيم يتفرع عليه أحكام : الحكم الأول : الشيء إما أن يكون له الاسم فقط ، أو اللقب فقط ، أو الكنية فقط ، أو الاسم مع اللقب ، أو الاسم مع الكنية ، أو اللقب مع الكنية ، واعلم أن سيبويه أفرد أمثلة الأقسام المذكورة من تركيب الكنية والاسم ، وهي ثلاثة : أحدها : الذي له الاسم والكنية كالضبع ، فإن اسمها حضاجر ، وكنيتها أم عامر ، وكذلك يقال للأسد أسامة وأبو الحارث ، وللثعلب ثعالة وأبو الحصين ، وللعقرب شبوة وأم عريط. وثانيها : أن يحصل له الاسم دون الكنية كقولنا قثم لذكر الضبع ، ولا كنية له. وثالثها : الذي حصلت له الكنية ولا اسم له ، كقولنا للحيوان المعين أبو براقش. الحكم الثالث : الكنية قد تكون بالإضافات إلى الآباء ، وإلى الأمهات ، وإلى البنين ، وإلى البنات ، فالكنى بالآباء كما يقال للذئب أبو جعدة للأبيض ، وأبو الجون ، وأما الأمهات فكما يقال للداهية أم حبو كرى ، وللخمر أم ليلى ، وأما البنون فكما يقال للغراب ابن دأية ، وللرجل الذي يكون حاله منكشفاً ابن جلا ، وأما البنات فكما يقال لصدى ابنة الجبل ، وللحصاة بنت الأرض. الحكم الرابع : الإضافة في الكنية قد تكون مجهولة النسب نحو ابن عرس وحمار قبان وقد تكون معلومة النسب نحو ابن لبون وبنت لبون وابن مخاض وبنت مخاض/ لأن الناقة /إذا ولدت ولداً ثم حمل عليها بعد ولادتها فإنها لا تصير مخاضاً إلا بعد سنة ، والمخاض الحامل المقرب ، فولدها إن كان ذكراً فهو ابن مخاض ، وإن كان أنثى فهي بنت مخاض ، ثم إذا ولدت وصار لها لبن صارت لبوناً فأضيف الولد إليها بإضافة معلومة. الحكم الخامس : إذا اجتمع الاسم واللقب : فالاسم إما أن يكون مضافاً أو لا ، فإن لم يكن مضافاً أضيف الاسم إلى اللقب يقال هذا سعيد كرز وقيس بطة ، لأنه يصير المجموع بمنزلة الاسم الواحد ، وأما إن كان الاسم مضافاً فهم يفردون اللقب فيقولون هذا عبد الله بطة. الحكم السادس : المقتضى لحصول الكنية أمور : أحدها : الأخبار عن نفس الأمر كقولنا أبو طالب ، فإنه كني بابنه طالب ، وثانيها : التفاؤل والرجا كقولهم أبو عمرو لمن يرجو ولداً يطول عمره ، وأبو الفضل لمن يرجو ولداً جامعاً للفضائل : وثالثها : الإيماء إلى الضد كأبي يحيى للموت ، ورابعها : أن يكون الرجل إنساناً مشهوراً وله أب مشهور فيتقارضان الكنية فإن يوسف كنيته أبو يعقوب ويعقوب كنيته أبو يوسف ، وخامسها : اشتهار الرجل بخصلة فيكنى بها إما بسبب اتصافه بها أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
التقسيم الثاني للأعلام :
(1/27)

التقسيم الثاني للأعلام : العلم إما أن يكون مفرداً كزيد ، أو مركباً من كلمتين لا علاقة بينهما كبعلبك ، أو بينهما علاقة وهي : أما علاقة الإضافة كعبد الله وأبي زيد ، أو علاقة الإسناد وهي أما جملة إسمية أو فعلية ، ومن فروع هذا الباب أنك إذا جعلت جملة اسم علم لم تغيرها ألبتة ، بل تتركها بحالها مثل تأبط شراً وبرق نرحه.
التقسيم الثالث للأعلام :
التقسيم الثالث : العلم إما أن يكون منقولاً أو مرتجلاً ، أما المنقول فإما أن يكون منقولاً عن لفظ مفيد أو غير مفيد ، والمنقول من المفيد إما أن يكون منقولاً عن الاسم ، أو الفعل أو الحرف ، أو ما يتركب منها ، أما المنقول عن الاسم فإما أن يكون عن اسم عين : كأسد وثور ، أو عن اسم معنى : كفضل ونصر ، أو صفة حقيقية : كالحسن ، أو عن صفة إضافية كالمذكور والمردود ، والمنقول عن الفعل إما أن يكون منقولاً عن صيغة الماضي كشمر ، أو عن صيغة المضارع كيحيى ، أو عن الأمر كاطرقا ، والمنقول عن الحرف كرجل سميته بصيغة من صيغ الحروف ، وأما المنقول عن المركب من هذه الثلاثة فإن كان المركب مفيداً فهو المذكور في التقسيم ، وإن كان غير مفيد فهو يفيد ، وأما المنقول عن صوت فهو مثل تسمية بعض العلوية بطباطبا ، وأما المرتجل فقد يكون قياساً مثل عمران وحمدان فإنهما من أسماء الأجناس مثل سرحان وندمان ، وقد يكون شاذاً قلما يوجد له نظير مثل محبب وموهب.
/ التقسيم الرابع للأعلام :
التقسيم الرابع : الأعلام إما أن تكون للذوات أو المعاني ، وعلى التقديرين فإما أن يكون العلم علم الشخص ، أو علم الجنس ، فههنا أقسام أربعة ، وقبل الخوض في شرح هذه الأقسام فيجب أن تعلم أن وضع الأعلام للذوات أكثر من وضعها للمعاني ، لأن أشخاص الذوات هي التي يتعلق الغرض بالأخبار عن أحوالها على سبيل التعيين ، أما أشخاص الصفات فليست كذلك في الأغلب. ولنرجع إلى أحكام الأقسام الأربعة ، فالقسم الأول : العلم للذوات والشرط فيه أن يكون المسمى مألوفاً للواضع ، والأصل في المألوفات الإنسان ، لأن مستعمل أسماء الأعلام هو الإنسان ، وإلف الشيء بنوعه أتم من إلفه بغير نوعه ، وبعد الإنسان الأشياء التي يكثر احتياج الإنسان إليها وتكثر مشاهدته لها ، ولهذا السبب وضعوا أعوج ولاحقاً علمين لفرسين ، وشذقما وعليا لفحلين ، وضمران لكلب ، وكساب لكلبة ، وأما الأشياء التي لا يألفها الإنسان فقلما يضعون الأعلام لأَشخاصها ، أما القسم الثاني : فهو علم الجنس للذوات ، وهو مثل أسامة للأسد/ وثعالة للثعلب ، وأما القسم الثالث : فهو وضع الأعلام للأفراد المعينة من الصفات ؛ وهو مفقود لعدم الفائدة ، وأما القسم الرابع : فهو علم الجنس للمعاني ، والضابط فيه أنا إذا رأينا حصول سبب واحد من الأسباب التسعة المانعة من الصرف ثم منعوه الصرف علمنا أنهم جعلوه علماً لما ثبت أن المنع من الصرف لا يحصل إلا عند اجتماع سببين ، وذكر ابن جني أمثلة لهذا الباب ، وهي تسميتهم التسبيح بسبحان ، والغدو بكيسان ، لأنهما غير منصرفين ، فالسبب الواحد ـ وهو الألف والنون ـ حاصل. ولا بدّ من حصول العلمية ليتم السببان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
التقسيم الخامس للأعلام :
التقسيم الخامس للأعلام : اعلم أن اسم الجنس قد ينقلب اسم علم. كما إذا كان المفهوم من اللفظ أمراً كلياً صالحاً لأن يشترك فيه كثيرون. ثم إنه في العرف يختص بشخص بعينه ، مثل "النجم" فإنه في الأصل اسم لكل نجم ، ثم اختص في العرف بالثريا ، وكذلك "السماك" اسم مشتق من الارتفاع ثم اختص بكوكب معين.
الباب الخامس
في أحكام أسماء الأجناس والأسماء المشتقة ، وهي كثيرة
أحكام اسم الجنس :
أما أحكام أسماء الأجناس فهي أمور : الحكم الأول : الماهية قد تكون مركبة ، وقد تكون بسيطة ، وقد ثبت في العقليات أن المركب قبل البسيط في الجنس ، وأن /البسيط قبل المركب في الفصل ، وثبت بحسب الاستقراء أن قوة الجنس سابقة على قوة الفصل في الشدة والقوة ، فوجب أن تكون أسماء الماهيات المركبة سابقة على أسماء الماهيات البسيطة.
الحكم الثاني في اسم الجنس :
الحكم الثاني : أسماء الأجناس سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقة ، لأن الاسم المشتق متفرع على الاسم المشتق منه ، فلو كان اسمه أيضاً مشتقاً لزم إما التسلسل أو الدور ، وهما محالان ، فيجب الانتهاء في الاشتقاقات إلى أسماء موضوعة جامدة ، فالموضوع غني عن المشتق والمشتق محتاج إلى الموضوع ، فوجب كون الموضوع سابقاً بالرتبة على المشتق ، ويظهر بهذا أن هذا الذي يعتاده اللغويون والنحويون من السعي البليغ في أن يجعلوا كل لفظ مشتقاً من شيء آخر سعي باطل وعمل ضائع.
الحكم الثالث في اسم الجنس. أحكام الأسماء المشتقة :
(1/28)

الحكم الثالث : الموجود إما واجب وإما ممكن ، والمكن إما متحيز أو حال في المتحيز ؛ أو لا متحيز ولا حال في المتحيز أما هذا القسم الثالث فالشعور به قليل ، وإنما يحصل الشعور بالقسمين الأولين ، ثم إنه ثبت بالدليل أن المتحيزات متساوية في تمام ذواتها ، وأن الاختلاف بينها إنما يقع بسبب الصفات القائمة بها ، فالأسماء الواقعة على كل واحد من أنواع الأجسام يكون المسمى بها مجموع الذات مع الصفات المخصوصة القائمة بها ، هذا هو الحكم في الأكثر الأغلب. وأما أحكام الأسماء المشتقة فهي أربعة : الحكم الأول : ليس من شرط الاسم المشتق أن تكون الذات موصوفة بالمشتق منه ، بدليل أن المعلوم مشتق من العلم ، مع أن العلم غير قائم بالمعلوم. وكذا القول في المذكور والمرئي والمسموع ، وكذا القول في اللائق والرامي. الحكم الثاني : شرط صدق المشتق حصول المشتق منه في الحال ، بدليل أن من كان كافراً ثم أسلم فإنه يصدق عليه أنه ليس بكافر. وذلك يدل على أن بقاء المشتق منه شرط في صدق الاسم المشتق. الحكم الثالث : المشتق منه إن كان ماهية مركبة لا يمكن حصول أجزائها على الاجتماع ، مثل الكلام والقول والصلاة ، فإن الاسم المشتق إنما يصدق على سبيل الحقيقة عند حصول الجزء الأخير من تلك الأجزاء. الحكم الرابع : المفهوم من الضارب أنه شيء ماله ضرب ، فأما أن ذلك الشيء جسم أو غيره فذلك خارج عن المفهوم لا يعرف إلا بدلالة الالتزام.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب السادس
في تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني ، وذكر الأحكام المفرعة
على هذين القسمين/ وفيه مسائل
المسألة الأولى : في لفظ الأعراب وجهان : أحدهما : أن يكون مأخوذاً من قولهم : "أعرب عن نفسه" إذا بين ما في ضميره ، فإن الإعراب إيضاح المعنى ، والثاني : أن يكون أعرب منقولاً من قولهم : "عربت معدة الرجل" إذا فسدت ، فكان المراد من الإعراب إزالة الفساد ورفع الإبهام ، مثل أعجمت الكتاب بمعنى أزلت عجمته.
المسألة الثانية : إذا وضع لفظ الماهية وكانت تلك الماهية مورداً لأحوال مختلفة وجب أن يكون اللفظ مورداً لأَحوال مختلفة لتكون الأحوال المختلفة اللفظية دالة على الأحوال المختلفة المعنوية ، كما أن جوهر اللفظ لما كان دالاً على أصل الماهية كان اختلاف أحواله دالاً على اختلاف الأحوال المعنوية ، فتلك الأحوال المختلفة اللفظية الدالة على الأحوال المختلفة المعوية هي الإعراب.
المسألة الثالثة : الأفعال والحروف أحوال عارضة للماهيات ، والعوارض لا تعرض لها عوارض أخرى ، هذا هو الحكم الأكثري ، وإنما الذي يعرض لها الأحوال المختلفة هي الذوات ، والألفاظ الدالة عليها هي الأسماء ، فالمستحق للإعراب بالوضع الأول هو الأسماء.
المسألة الرابعة : إنما اختص الإعراب بالحرف الأخير من الكلمة لوجهين : الأول : أن الأحوال العارضة للذات لا توجد إلا بعد وجود الذات ، واللفظ لا يوجد إلا بعد وجود الحرف الأخير منه ، فوجب أن تكون العلامات الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية لا تحصل إلا بعد تمام الكلمة. الثاني : أن اختلاف حال الحرف الأول والثاني من الكلمة للدلالة على اختلاف أوزان الكلمة ، فلم يبق لقبول الأحوال الإعرابية إلا الحرف الأخير من الكلمة.
المسألة الخامسة : الإعراب ليس عبارة عن الحركات والسكنات الموجودة في أواخر الكلمات بدليل أنها موجودة في المبينات والإعراب غير موجود فيها بل الإعراب عبارة عن استحقاقها لهذه الحركات بسبب العوامل المحسوسة ، وذلك الاستحقاق معقول لا محسوس ، والإعراب حاجة معقولة لا محسوسة.
المسألة السادسة : إذا قلنا في الحرف : إنه متحرك أو ساكن ، فهو مجاز ، لأن الحركة / والسكون من صفات الأجسام ، والحرف ليس بجسم ، بل المراد من حركة الحرف صوت مخصوص يوجد عقيب التلفظ بالحرف ، والسكون عبارة عن أن يوجد الحرف من غير أن يعقبه ذلك الصوت المخصوص المسمى بالحركة.
المسألة الرابعة : الحركات إما صريحة أو مختلسة ، والصريحة إما مفردة أو غير مفردة فالمفردة ثلاثة وهي : الفتحة ، والكسرة ، والضمة ، وغير المفردة ما كان بين بين ، وهي ستة لكل واحدة قسمان ، فللفتحة ما بينها وبين الكسرة أو ما بينها وبين الضمة ، وللكسرة ما بينها وبين الضمة أو ما بينها وبين الفتحة ، والضمة على هذا القياس ، فالمجموع تسعة. وهي أما مشبعة أو غير مشبعة ، فهي ثمانية عشر ، والتاسعة عشرة المختلسة ، وهي ما تكون حركة وإن لم يتميز في الحس لها مبدأ ، وتسمى الحركة المجهولة ، وبها قرأ أبو عمرو {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} مختلسة الحركة من بارئكم وغير ظاهرة بها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/29)

المسألة الثامنة : لما كان المرجع بالحركة والسكون في هذا الباب إلى أصوات مخصوصة لم يجب القطع بانحصار الحركات في العدد المذكور ، قال ابن جني اسم المفتاح بالفارسية ـ وهو كليد ـ لا يعرف أن أوله متحرك أو ساكن ، قال : وحدثني أبو علي قال : دخلت بلدة فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل ، فتعجبت منها وأقمت هناك أياماً فتكلمت أيضاً بها ، فلما فارقت تلك البلدة نسيتها.
المسألة التاسعة : الحركة الإعرابية متأخرة عن الحرف تأخراً بالزمان ، ويدل عليه وجهان : الأول : أن الحروف الصلبة كالباء والتاء والدال وأمثالها إنما تحدث في آخر زمان حبس النفس وأول إرساله ، وذلك آن فاصل ما بين الزمانين غير منقسم/ والحركة صوت يحدث عند إرسال النفس ، ومعلوم أن ذلك الآن متقدم على ذلك الزمان فالحرف متقدم على الحركة. الثاني : أن الحروف الصلبة لا تقبل التمديد ، والحركة قابلة للتمديد ، فالحرف والحركة لا يوجدان معاً لكن الحركة لا تتقدم على الحرف ، فبقي أن يكون الحرف متقدماً على الحركة.
المسألة العاشرة : الحركات أبعاض من حروف المد واللين ، ويدل عليه وجوه ، الأول : أن حروف المد واللين قابلة للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك فله طرفان ، ولا طرف لها في النقصان إلا هذه الحركات ، الثاني : أن هذه الحركات إذا مددناها ظهرت حروف المد واللين فعلمنا أن هذه الحركات ليست إلا أوائل تلك الحروف ، الثالث : لو لم تكن الحركات أبعاضاً لهذه الحروف لما جاز الاكتفاء بها لأنها إذا كانت مخالفة لها لم تسد مسدها فلم / يصح الاكتفاء بها منها بدليل استقراء القرآن والنثر والنظم ، وبالجملة فهب أن إبدال الشيء من مخالفه القريب منه جائز إلا أن إبدال الشيء من بعضه أولى ، فوجب حمل الكلام عليه.
الابتداء بالساكن :
المسألة الحادية عشرة : الابتداء بالحرف الساكن محال عند قوم ، وجائز عند آخرين ، لأن الحركة عبارة عن الصوت الذي يحصل التلفظ به بعد التلفظ بالحرف ، وتوقيف الشيء على ما يحصل بعده محال.
المسألة الثانية عشرة : أثقل الحركات الضمة ، لأنها لا تتم إلا بضم الشفتين ، ولا يتم ذلك إلا بعمل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي الشفة ، وأما الكسرة فإنه يكفي في تحصيلها العضلة الواحدة الجارية ، ثم الفتحة يكفي فيها عمل ضعيف لتلك العضلة ، وكما دلت هذه المعالم التشريحية على ما ذكرناه فالتجربة تظهره أيضاً ، واعلم أن الحال فيما ذكرناه يختلف بحسب أمزجة البلدان ، فإن أهل أذربيجان يغلب على جميع ألفاظهم إشمام الضمة ، وكثير من البلاد يغلب على لغاتهم إشمام الكسرة والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثالثة عشرة : الحركات الثلاثة مع السكون إن كانت إعرابية سميت بالرفع والنصب والجر أو الخفض والجزم ، وإن كانت بنائية سميت بالفتح والضم والكسر والوقف.
المسألة الرابعة عشرة : ذهب قطرب إلى أن الحركات البنائية مثل الإعرابية ، والباقون خالفوه ، وهذا الخلاف لفظي ، فإن المراد من التماثل إن كان هو التماثل في الماهية فالحس يشهد بأن الأمر كذلك وإن كان المراد حصول التماثل في كونها مستحقة بحسب العوامل المختلفة فالعقل يشهد أنه ليس كذلك.
المسألة الخامسة عشرة : من أراد أن يتلفظ بالضمة فإنه لا بدّ له من ضم شفتيه أولاً ثم رفعهما ثانياً ، ومن أراد التلفظ بالفتحة فإنه لا بدّ له من فتح الفم بحيث تنتصب الشفة العليا عند ذلك الفتح ، ومن أراد التلفظ بالكسرة فإنه لا بدّ له من فتح الفم فتحاً قوياً والفتح القوي لا يحصل إلا بانجرار اللحى الأسفل وانخفاضه ، فلا جرم يسمى ذلك جراً وخفضاً وكسراً لأن انجرار القوي يوجب الكسر ، وأما الجزم فهو القطع. وأما أنه لم سمي وقفاً وسكوناً فعلته ظاهرة.
المسألة السادسة عشرة : منهم من زعم أن الفتح والضم والكسر والوقف أسماء للأحوال البنائية ، كما أن الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية ، ومنهم من جعل الأربعة الأول : أسماء تلك الأحوال سواء كانت بنائية أو إعرابية ، وجعل الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية ، فتكون الأربعة الأولى بالنسبة إلى الأربعة الثانية كالجنس بالنسبة إلى النوع.
(1/30)

/ المسألة السابعة عشر : أن سيبويه يسميها بالمجاري ، ويقول : هي ثمانية وفيه سؤالان : الأول : لم سمى الحركات بالمجاري فإن الحركة نفسها الجري ، والمجرى موضع الجري ، فالحركة لا تكون مجرى ؟
وجوابه أنا بينا أن الذي يسمى ههنا بالحركة فهو في نفسه ليس بحركة إنما هو صوت يتلفظ به بعد التلفظ بالحرف الأول/ فالمتكلم لما انتقل من الحرف الصامت إلى هذا الحرف فهذا الحرف المصوت إنما حدث لجريان نفسه وامتداده ، فلهذا السبب صحت تسميته بالمجرى. السؤال الثاني : قال المازني : غلط سيبويه في تسميته الحركات البنائية بالمجاري لأن الجري إنما يكون لما يوجد تارة ويعدم تارة. والمبني لا يزول عن حاله ، فلم يجز تسميته بالمجاري ، بل كان الواجب أن يقال : المجاري أربعة وهي الأحوال الإعرابية. والجواب أن المبنيات قد تحرك عند الدرج ، ولا تحرك عند الوقف ، فلم تكن تلك الأحوال لازمة لها مطلقاً.
المسألة الثامنة عشرة : الإعراب اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل : بحركة أو حرف تحقيقاً أو تقديراً ، أما الاختلاف فهو عبارة عن موصوفية آخر تلك الكلمة بحركة أو سكون بعد أن كان موصوفاً بغيرها ، ولا شك أن تلك الموصوفية حالة معقولة لا محسوسة فلهذا المعنى قال عبد القاهر النحوي : الإعراب حالة معقولة لا محسوسة ، وأما قوله : "باختلاف العوامل" فاعلم أن اللفظ الذي تلزمه حالة واحدة أبداً هو المبني ، وأما الذي يختلف آخره فقسمان : أحدهما : أن لا يكون معناه قابلاً للأحوال المختلفة كقولك : "أخذت المال من زيد" فتكون "من" ساكنة ، ثم تقول : "أخذت المال من الرجل" فتفتح النون ، ثم تقول "أخذت المال من ابنك" فتكون مكسورة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة إلا أنه ليس بإعراب ، لأن المفهوم من كلمة "من" لا يقبل الأحوال المختلفة في المعنى ، وأما القسم الثاني : وهو الذي يختلف آخر الكلمة عند اختلاف أحوال معناهاـ فذلك هو الإعراب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة التاسعة عشرة : أقسام الإعراب ثلاثة : الأول : الإعراب بالحركة ، وهي في أمور ثلاثة : أحدها : الاسم الذي لا يكون آخره حرفاً من حروف العلة ، سواء كان أوله أو وسطه معتلاً أو لم يكن ، نحو رجل ، ووعد ، وثوب ، وثانيها : أن يكون آخر الكلمة واواً أو ياءً ويكون ما قبله ساكناً ، فهذا كالصحيح في تعاقب الحركات عليه ، تقول : هذا ظبي وغزو ومن هذا الباب المدغم فيهما كقولك : كرسي وعدو لأن المدغم يكون ساكناً فسكون الياء من كرسي والواو من عدو كسكون الباء من ظبي والزاي من غزو ، وثالثها : أن تكون الحركة / المتقدمة على الحرف الأخير من الكلمة كسرة وحينئذٍ يكون الحرف الأخير ياء ، وإذا كان آخر الكلمة ياء قبلها كسرة كان في الرفع والجر على صورة واحدة وهي السكون ، وأما في النصب فإن الياء تحرك بالفتحة قال الله تعالى : {أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} (الأحقاف : 31) القسم الثاني من الإعراب : ما يكون بالحرف ، وهو في أمور ثلاثة : أحدها : في الأسماء الستة مضافة ، وذلك جاءني أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال ، ورأيت أباه ومررت بأبيه ، وكذا في البواقي ، وثانيها : "كلا" مضافاً إلى مضمر ، تقول : جاءني كلاهما ومررت بكليهما ورأيت كليهما ، وثالثها : التثنية والجمع ، تقول : جاءني مسلمان ومسلمون ورأيت مسلمين ومسلمين ومررت بمسلمين ومسلمين. والقسم الثالث : الإعراب التقديري ، وهو في الكلمة التي يكون آخرها ألفاً وتكون الحركة التي قبلها فتحة ، فإعراب هذه الكلمة في الأحوال الثلاثة على صورة واحدة تقول : هذه رحا ورأيت رحا ومررت برحا.
أصول الإعراب :
المسألة العشرون : أصلا الإعراب أن يكون بالحركة ، لأنا ذكرنا أن الأصل في الإعراب أن يجعل الأحوال العارضة للفظ دلائل على الأحوال العارضة للمعنى ، والعارض للحرف هو الحركة لا الحرف الثاني ، وأما الصور التي جاء إعرابها بالحروف فذلك للتنبيه على أن هذه الحروف من جنس تلك الحركات.
أنواع الاسم المعرب :
المسألة الحادية والعشرون : الاسم المعرب ، ويقال له المتمكن نوعان : أحدهما : ما يستوفي حركات الإعراب والتنوين ، وهو المنصرف والأمكن ، والثاني : ما لا يكون كذلك بل يحذف عنه الجر والتنوين ويحرك بالفتح في موضع الجر إلا إذا أضيف أو دخله لام التعريف/ ويسمى غير المنصرف ، والأسباب المانعة من الصرف تسعة فمتى حصل في الاسم اثنان منها أو تكرر سبب واحد فيه امتنع من الصرف ، وهي : العلمية ، والتأنيث اللازم لفظاً ومعنى ، ووزن الفعل الخاص به أو الغالب عليه ، والوصفية ، والعدل ، والجمع الذي ليس على زنة واحدة ، والتركيب ، والعجمة في الأعلام خاصة ، والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
سبب منع الصرف :
(1/31)

المسألة الثانية والعشرون : إنما صار اجتماع اثنين من هذه التسعة مانعاً من الصرف ، لأن كل واحد منها فرع ، والفعل فرع عن الاسم ، فإذا حصل في الاسم سببان من هذه التسعة صار ذلك الاسم شبيهاً بالفعل في الفرعية ، وتلك المشابهة تقتضي منع الصرف ، فهذه مقدمات أربع : / ـ
المقدمة الأولى : في بيان أن كل واحد من هذه التسعة فرع ، أما بيان أن العلمية فرع فلأن وضع الاسم للشيء لا يمكن إلا بعد صيرورته معلوماً ، والشيء في الأصل لا يكون معلوماً ثم يصير معلوماً وأما أن التأيث فرع فبيانه تارة بحسب اللفظ وأخرى بحسب المعنى : أما بحسب اللفظ فلان كل لفظة وضعت لماهية فإنها تقع على الذكر من تلك الماهية بلا زيادة وعلى الأنثى بزيادة علامة التأنيث ، وأما بحسب المعنى فلأن الذكر أكمل من الأنثى ، والكامل مقصود بالذات ، والناقص مقصود بالعرض ، وأما أن الوزن الخاص بالفعل أو الغالب عليه فرع فلأن وزن الفعل فرع للفعل ، والفعل فرع للاسم ، وفرع الفرع فرع وأما أن الوصف فرع فلأن الوصف فرع عن الموصوف ، وأما أن العدل فرع فلأن العدول عن لاشيء إلى غيره مسبوق بوجود ذلك الأصل وفرع عليه ، وأما أن الجمع الذي ليس على زنته واحد فرع فلان ذلك الوزن فرع على وجود الجمع ، لأنه لا يوجد إلا فيه ، والجمع فرع على الواحد لأن الكثرة فرع على الوحدة ، وفرع الفرع فرع ، وبهذا الطريق يظهر أن التركيب فرع ، وأما أن المعجمة فرع فلأن تكلم كل طائفة بلغة أنفسهم أصل وبلغة غيرهم فرع ، وأما أن الألف والنون في سكران وأمثاله يفيدان الفرعية فلأن الألف والنون زائدان على جوهر الكلمة ، والزائد فرع ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الأسباب التسعة توجب الفرعية.
المقدمة الثانية : في بيان أن الفعل فرع ، والدليل عليه أن الفعل عبارة عن اللفظ الدال على وقوع المصدر في زمان معين ، فوجب كونه فرعاً على المصدر.
المقدمة الثالثة : أنه لما ثبت ما ذكرناه ثبت أن الاسم الموصوف بأمرين من تلك الأمور التسعة يكون مشابهاً للفعل في الفرعية ومخالفاً له في كونه اسماً في ذاته ، والأصل في الفعل عدم الإعراب كما ذكرنا ، فوجب أن يحصل في مثل هذا الاسم أثر أن بحسب كل واحد من الاعتبارين المذكورين ، وطريقه أن يبقى إعرابها من أكثر الوجوه ، ويمنع من إعرابها من بعض الوجوه ، ليتوفر على كل واحد من الاعتبارين ما يليق به.
المسألة الثالثة والعشرون : إنما ظهر هذا الأثر في منع التنوين والجر لأجل أن التنوين يدل على كمال حال الاسم ، فإذا ضعف الاسم بحسب حصول هذه الفرعية أزيل عنه ما دل على كمال حاله ، وأما الجر فلأن الفعل يحصل فيه الرفع والنصب ، وأما الجر فغير حاصل فيه فلما صارت الأسماء مشابهة للفعل لا جرم سلب عنها الجر الذي هو من خواص الأسماء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الرابعة والعشرون : هذه الأسماء بعد أن سلب عنها الجر إما أن تترك ساكنة في / حال الجر أو تحرك ، والتحريك أولى ، تنبيهاً على أن المانع من هذه الحركة عرضي لا ذاتي ، ثم النصب أول الحركات لأنا رأينا أن النصب حمل على الجر في التثنية والجمع السالم ، فلزم هنا حمل الجر على النصب تحقيقاً للمعارضة.
المسألة الخامسة والعشرون : اتفقوا على أنه إذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف كقوله : مررت بالأحمر ، والمساجد/ وعمركم ، ثم قيل : السبب فيه أن الفعل لا تدخل عليه الألف واللام والإضافة فعند دخولهما على الاسم خرج الاسم عن مشابهة الفعل ، قال عبد القاهر : هذا ضعيف ؛ لأن هذه الأسماء إنما شابهت الأفعال لما حصل فيها من الوصفية ووزن الفعل ، وهذه المعاني باقية عند دخول الألف واللام والإضافة فيها فبطل قولهم : إنه زالت المشابهة وأيضاً فحروف الجر والفاعلية والمفعولية من خواص الأسماء ثم إنها تدخل على الأسماء مع أنها تبقي غير منصرفة ، والجواب عن الأول : أن الإضافة ولام التعريف من خواص الأسماء فإذا حصلتا في هذه الأسماء فهي وإن ضعفت في الإسمية بسبب كونها مشابهة للفعل إلا أنها قويت بسبب حصول خواص الأسماء فيها ، إذا عرفت هذا فنقول : أصل الإسمية يقتضي قبول الإعراب من كل الوجوه ، إلا أن المشابهة للفعل صارت معارضة للمقتضى ، فإذا صار هذا المعارض معارضاً بشيء آخر ضعف المعارض ، فعاد المقتضي عاملاً عمله ، وأما السؤال الثاني فجوابه : أن لام التعريف والإضافة أقوى من الفاعلية والمفعولية لأن لام التعريف والإضافة يضادان التنوين ، والضدان متساويان في القوة فلما كان التنوين دليلاً على كمال القوة فكذلك الإضافة وحرف التعريف.
(1/32)

المسألة السادسة والعشرون : لو سميت رجلاً بأحمر لم تصرفه ، بالاتفاق ، لاجتماع العلمية ووزن الفعل ، أما إذا نكرته فقال سيبويه : لا أصرفه ، وقال الأخفش : أصرفه. واعلم أن الجمهور يقولون في تقرير مذهب سيبويه على ما يحكى أن المازني قال : قلت للأخفش : كيف قلت مررت بنسوة أربع فصرفت مع وجود الصفة ووزن الفعل ؟
قال : لأن أصله الإسمية فقلت : فكذا لا تصرف أحمر اسم رجل إذا نكرته لأن أصله الوصفية ، قال المازني : فلم يأتِ الأخفش بمقنع ، وأقول : كلام المازني ضعيف ، لأن الصرف ثبت على وفق الأصل في قوله : "مررت بنسوة أربع" لأنه يكفي عود الشيء إلى حكم الأصل أدنى سبب ، بخلاف المنع من الصرف ؛ فإنه على خلاف الأصل فلا يكفي فيه إلا السبب القوي ، وأقول : الدليل على صحة مذهب سيبويه أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير / منصرف ، أما المقدمة الأولى فهي إنما تتم بتقرير ثلاثة أشياء : الأول : ثبوت وزن الفعل وهو ظاهر ، والثاني : الوصفية ، والدليل عليه أن العلم إذا نكر صار معناه الشيء الذي يسمى بذلك الاسم. فإذا قيل : "رب زيد رأيته" كان معناه رب شخص مسمى باسم زيد رأيته ، ومعلوم أن كون الشخص مسمى بذلك الاسم صفة لا ذات ، والثالث : أن الوصفية أصلية ، والدليل عليه أن لفظ الأحمر حين كان وصفاً معناه الاتصاف بالحمرة ، فإذا جعل علماً ثم نكر كان معناه كونه مسمى بهذا الاسم ، وكونه كذلك صفة إضافية عارضة له ، فالمفهومان اشتركا في كون كل واحد منهما صفة إلا أن الأول يفيد صفة حقيقية والثاني يفيد صفة إضافية ، والقدر المشترك بينهما كونه صفة ، فثبت بما ذكرنا أن حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف لما ذكرناه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فإن قيل : يشكل ما ذكرتم بالعلم الذي ما كان وصفاً فإنه عند التنكير ينصرف مع أنه عند التنكير يفيد الوصفية بالبيان الذي ذكرتم.
قلنا إنه وإن صار عند التنكير وصفاً إلا أن وصفيته ليست أصلية لأنها ما كانت صفة قبل ذلك بخلاف الأحمر فإنه كان صفة قبل ذلك ، والشيء الذي يكون في الحال صفة مع أنه كان قبل ذلك صفة كان أقوى في الوصفية مما لا يكون كذلك ، فظهر الفرق.
واحتج الأخفش بأن المقتضى للصرف قائم وهو الاسمية ، والعارض الموجود لا يصح معارضاً ، لأنه علم منكر والعلم المنكر موصوف بوصف كونه منكراً ، والموصوف باقٍ عند وجود الصفة ، فالعلمية قائمة في هذه الحالة ، والعلمية تنافي الوصفية ، فقد زالت الوصفية فلم يبق سوى وزن الفعل والسبب الواحد لا يمنع من الصرف/ والجواب : أنا بينا بالدليل العقلي أن العلم إذا جعل منكراً صار وصفاً في الحقيقة فسقط هذا الكلام.
المسألة السابعة والعشرون : قال سيبويه : السبب الواحد لا يمنع الصرف ، خلافاً للكوفيين ، حجة سيبويه أن المقتضى للصرف قائم ، وهو الإسمية ، والسببان أقوى من الواحد فعند حصول السبب الواحد وجب البقاء على الأصل. وحجة الكوفيين قولهم المقدم ، وقد قيل أيضاً : ـ
فوما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع
وجوابه أن الرواية الصحيحة في هذا البيت : يفوقان شيخي في مجمع.
المسألة الثامنة والعشرون : قال سيبويه : ما لا ينصرف يكون في موضع الجر مفتوحاً / واعترضوا عليه بأن الفتح من باب البناء ، وما لا ينصرف غير مبني ، وجوابه أن الفتح اسم لذات الحركة من غير بيان أنها إعرابية أو بنائية.
المسألة التاسعة والعشرون : إعراب الأسماء ثلاثة : الرفع ، والنصب ، والجر ، وكل واحد منها علامة على معنى ، فالرفع علم الفاعلية ، والنصب علم المفعولية ، والجر علم الإضافة وأما التوابع فإنها في حركاتها مساوية للمتبوعات.
سر ارتفاع الفاعل وانتصاب المفعول :
المسألة الثلاثون : السبب في كون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً والمضاف إليه مجرراً وجوه : ـ
الأول : أن الفاعل واحد ، والمفعول أشياء كثيرة ، لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول واحد ، وإلى مفعولين ، وإلى ثلاثة ، ثم يتعدى أيضاً إلى المفعول له ، وإلى الظرفين ، وإلى المصدر والحال ، فلما كثرت المفاعيل اختير لها أخف الحركات وهو النصب ، ولما قل الفاعل اختير له أثقل الحركات وهو الرفع ، حتى تقع الزيادة في العدد مقابلة للزيادة في المقدار فيحصل الاعتدال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الثاني : أن مراتب الموجودات ثلاثة : مؤثر لا يتأثر وهو الأقوى ، وهو درجة الفاعل ومتأثر لا يؤثر وهو الأضعف ، وهو درجة المفعول ، وثالث يؤثر باعتبار ويتأثر باعتبار وهو المتوسط ، وهو درجة المضاف إليه ، والحركات أيضاً ثلاثة : أقواها الضمة وأضعفها الفتحة وأوسطها الكسرة ، فألحقوا كل نوع بشبيهه ، فجعلوا الرفع الذي هو أقوى الحركات للفاعل الذي هو أقوى الأقسام ، والفتح الذي هو أضعف الحركات للمفعول الذي هو أضعف الأقسام والجر الذي هو المتوسط للمضاف إليه الذي هو المتوسط من الأقسام.
(1/33)

الثالث : الفاعل مقدم على المفعول : لأن الفعل لا يستغنى عن الفاعل ، وقد يستغنى عن المفعول ، فالتلفظ بالفاعل يوجد والنفس قوية ، فلا جرم أعطوه أثقل الحركات عند قوة النفس ، وجعلوا أخف الحركات لما يتلفظ به بعد ذلك.
أنواع المرفوعات وأصلها :
المسألة الحادية والثلاثون : المرفوعات سبعة : الفاعل ، والمبتدأ ، وخبره ، واسم كان ، واسم ما ولا المشبهتين بليس ، وخبر أن ، وخبر لا النافية للجنس ، ثم قال الخليل الأصل في الرفع الفاعل ، والبواقي مشبهة به ، وقال سيبويه : الأصل هو المبتدأ ، والبواقي مشبهة به ، وقال الأخفش : كل واحد منهما أصل بنفسه ، واحتج الخليل بأن جعل الرفع إعراباً للفاعل أولى من جعله إعراباً للمبتدأ ، والأولوية تقتضي الأولية : بيان الأول : أنك إذا قلت : "ضرب زيد بكر" بإسكان المهملتين لم يعرف أن الضارب من هو والمضروب من هو أما إذا قلت : "زيد / قائم" بإسكانهما عرفت من نفس اللفظتين أن المبتدأ أيهما والخبر أيهما ، فثبت أن افتقار الفاعل إلى الإعراب أشد ، فوجب أن يكون الأصل هو. وبيان الثاني أن الرفعية حالة مشتركة بين المبتدأ والخبر ، فلا يكون فيها دلالة على خصوص كونه مبتدأ ولا على خصوص كونه خبراً ، أما لا شك أنه في الفاعل يدل على خصوص كونه فاعلاً ، فثبت أن الرفع حق الفاعل ، إلا أن المبتدأ لما أشبه الفاعل في كونه مسنداً إليه جعل مرفوعاً رعاية لحق هذه المشابهة/ وحجة سيبويه : أنا بينا أن الجملة الإسمية مقدمة على الجمل الفعلية ، فإعراب الجملة الإسمية يجب أن يكون مقدماً على إعراب الجملة الفعلية ، والجواب : أن الفعل أصل في الإسناد إلى الغير فكانت الجملة الفعلية مقدمة. وحينئذٍ يصير هذا الكلام دليلاً للخليل.
أنواع المفاعيل :
المسألة الثانية والثلاثون :
المفاعيل خمسة ، لأن الفاعل لا بدّ له من فعل وهو المصدر ، ولا بدّ لذلك الفعل من زمان ، ولذلك الفاعل من عرض ، ثم قد يقع ذلك الفعل في شيء آخر وهو المفعول به ، وفي مكان ، ومع شيء آخر ، فهذا ضبط القول في هذه المفاعيل. وفيه مباحث عقلية : أحدها : أن المصدر قد يكون هو نفس المفعول به كقولنا : "خلق الله العالم" فإن خلق العالم لو كان مغايراً للعالم لكان ذلك المغاير له إن كان قديماً لزم من قدمه قدم العالم وذلك ينافي كونه مخلوقاً وإن كان حادثاً افتقر خلقه إلى خلق آخر ولزم التسلسل وثانيها : أن فعل الله يستغنى عن الزمان ، لأنه لو افتقر إلى زمان وجب أن يفتقر حدوث ذلك الزمان إلى زمان آخر ولزم التسلسل وثالثها : أن فعل الله يستغنى عن العرض ؛ لأن ذلك العرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان حادثاً لزم التسلسل ، وهو محال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
عامل النصب في المفاعيل :
المسألة الثالثة والثلاثون :
اختلفوا في العامل في نصب المفعول على أربعة أقوال : الأول : وهو قول البصريين ـ أن الفعل وحده يقتضي رفع الفاعل ونصب المفعول : والثاني : وهو قول الكوفيين ـ أن مجموع الفعل والفاعل يقتضي نصب المفعول ، والثالث : وهو قول هشام بن معاوية من الكوفيين ـ أن العامل هو الفاعل فقط ، والرابع : وهو قول خلف الأحمر من الكوفيين ـ أن العامل في الفاعل معنى الفاعلية ، وفي المفعول معنى المفعولية.
حجة البصريين أن العامل لا بدّ وأن يكون له تعلق بالمعمول ، وأحد الإسمين لا تعلق له بالآخر ، فلا يكون له فيه عمل ألبتة ، وإذا سقط لم يبق العمل إلا للفعل.
حجة المخالف أن العامل الواحد لا يصدر عنه أثران لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه / إلا أثر واحد. قلنا : ذاك في الموجبات ، أما في المعرفات فممنوع.
واحتج خلف بأن الفاعلية صفة قائمة بالفاعل ، والمفعولية صفة قائمة بالمفعول ، ولفظ الفعل مباين لهما ، وتعليل الحكم بما يكون حاصلاً في محل الحكم أولى من تعليله بما يكون مبايناً له ، وأجيب عنه بأنه معارض بوجه آخر : وهو أن الفعل أمر ظاهر ، وصفة الفاعلية والمفعولية أمر خفي ، وتعليل الحكم الظاهر بالمعنى الظاهر أولى من تعليله بالصفة الخفية والله أعلم.
الباب السابع
في إعراب الفعل
إعراب الفعل :
اعلم أن قوله : (أعوذ) يقتضي إسناد الفعل إلى الفاعل ، فوجب علينا أن نبحث عن هذه المسائل.
المسألة الأولى : إذا قلنا في النحو فعل وفاعل ، فلا نريد به ما يذكره علماء الأصول لأنا نقول : "مات زيد" وهو لم يفعل ، ونقول من طريق النحو : مات فعل ، وزيد فاعله ، بل المراد أن الفعل لفظة مفردة دالة على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان غير معين ، فإذا صرحنا بذلك الشيء الذي حصل المصدر له فذاك هو الفاعل ، ومعلوم أن قولنا حصل المصدر له أعم من قولنا حصل بإيجاده واختياره كقولنا قام ، أولاً باختياره كقولنا مات ، فإن قالوا : الفعل كما يحصل في الفاعل فقد يحصل في المفعول ، قلنا : إن صيغة الفعل من حيث هي تقتضي حصول ذلك المصدر لشيء ما هو الفاعل ، ولا تقتضي حصوله للمفعول ، بدليل أن الأفعال اللازمة غنية عن المفعول.
وجوب تقديم الفعل :
(1/34)

المسألة الثانية : الفعل يجب تقديمه على الفاعل ، لأن الفعل ـ إثباتاً كان أو نفياً يقتضي أمراً ما يكون هو مسنداً إليه ، فحصول ماهية الفعل في الذهن يستلزم حصول شيء يسند الذهن ذلك الفعل إليه/ والمنتقل إليه متأخر بالرتبة عن المنتقل عنه ، فلما وجب كون الفعل مقدماً على الفاعل في الذهن وجب تقدمه عليه في الذكر ، فإن قالوا : لا نجد في العقل فرقاً بين قولنا : "ضرب زيد" وبين قولنا : "زيد ضرب" قلنا : الفرق ظاهر ، لأنا إذا قلنا زيد لم يلزم من وقوف الذهن على معنى هذا اللفظ أن يحكم بإسناد معنى آخر إليه ، أما إذا فهمنا معنى لفظ ضرب لزم منه حكم الذهن بإسناد هذا المفهوم إلى شيء ما ، إذا عرفت هذا فنقول : إذا قلنا : "ضرب زيد" / فقد حكم الذهن بإسناد مفهوم ضرب إلى شيء ، ثم يحكم الذهن بأن ذلك الشيء هو زيد الذي تقدم ذكره ، فحينئذٍ قد أخبر عن زيد بأنه هو ذلك الشيء الذي أسند الذهن مفهوم ضرب إليه ، وحينئذٍ يصير قولنا : زيد مخبراً عنه وقولنا ضرب جملة من فعل وفاعل وقعت خبراً عن ذلك المبتدأ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ارتباط الفعل بالفاعل :
المسألة الثالثة : قالوا : الفاعل كالجزء من الفعل ، والمفعول ليس كذلك ، وفي تقريره وجوه : الأول : أنهم قالوا ضربت فاسكنوا لام الفعل لئلا يجتمع أربع متحركات ، وهم يحترزون عن تواليها في كلمة واحدة ، وأما بقرة فإنما احتملوا ذلك فيها لأن التاء زائدة ، واحتملوا ذلك في المفعول كقولهم ضربك ، وذلك يدل على أنهم اعتقدوا أن الفاعل جزء من الفعل ، وأن المفعول منفصل عنه ، الثاني : أنك تقول : الزيدان قاما أظهرت الضمير للفاعل ، وكذلك إذا قلت زيد ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إلى الضمير المستكن طرداً للباب ، والثالث : وهو الوجه العقلي ـ أن مفهوم قولك ضرب هو أنه حصل الضرب لشيء ما في زمان مضى ، فذلك الشيء الذي حصل له الضرب جزء من مفهوم قولك ضرب ، فثبت أن الفاعل جزء من الفعل.
الإضمار قبل الذكر :
المسألة الرابعة : الإضمار قبل الذكر على وجوه : أحدها : أن يحصل صورة ومعنى ، كقولك ضرب غلامه زيداً والمشهور أنه لا يجوز لأنك رفعت غلامه بضرب فكان واقعاً موقعه والشيء إذا وقع موقعه لم تجز إزالته عنه ، وإذا كان كذلك كانت الهاء في قولك غلامه ضميراً قبل الذكر ، وأما قول النابغة : ـ
فجزى ربه عني عدي بن حاتم
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فجوابه : أن الهاء عائدة إلى مذكور متقدم ، وقال ابن جني : وأنا أجيز أن تكون الهاء في قوله ربه عائدة على عدي خلافاً للجماعة ، ثم ذكر كلاماً طويلاً غير ملخص ، وأقول : الأولى في تقريره أن يقال : الفعل من حيث أنه فعل كان غنياً عن المفعول لكن الفعل المتعدي لا يستغنى عن المفعول ، وذلك لأن الفاعل هو المؤثر ، والمفعول هو القابل ، والفعل مفتقر إليهما ولا تقدم لأحدهما على الآخر ، أقصى ما في الباب أن يقال إن الفاعل مؤثر ، والمؤثر أشرف من القابل ، فالفاعل متقدم على المفعول من هذا الوجه ، لأنا بينا أن الفعل المتعدي مفتقر إلى المؤثر وإلى القابل معاً وإذا ثبت هذا فكما جاز تقديم الفاعل على المفعول وجب أيضاً جواز تقديم المفعول على الفاعل.
/ القسم الثاني : وهو أن يتقدم المفعول على الفاعل في الصورة لا في المعنى ؛ وهو كقولك ضرب غلامه زيد : فغلامه مفعول ، وزيد فاعل ، ومرتبه ، المفعول بعد مرتبة الفاعل ، إلا أنه وأن تقدم في اللفظ لكنه متأخر في المعنى.
والقسم الثالث : وهو أن يقع في المعنى لا في الصورة ، كقوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ} (البقرة : 124) فههنا الإضمار قبل الذكر غير حاصل في الصورة ، لكنه حاصل في المعنى ، لأن الفاعل مقدم في المعنى ، ومتى صرح بتقديمه لزم الإضمار قبل الذكر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إظهار الفاعل وإضماره :
المسألة الخامسة : الفاعل قد يكون مظهراً كقولك ضرب زيد ، وقد يكون مضمراً بارزاً كقولك ضربت وضربنا/ ومضمراً مستكناً كقولك زيد ضرب ، فتنوي في ضرب فاعلاً وتجعل الجملة خبراً عن زيد ، ومن إضمار الفاعل قولك إذا كان غداً فأتني ، أي : إذا كان ما نحن عليه غداً.
قد يحذف الفعل :
المسألة السادسة : الفعل قد يكون مضمراً ، يقال : من فعل ؟
فتقول : زيد ، والتقدير فعل زيد ، ومنه قوله تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اللَّهِ} (التوبة : 6) والتقدير وإن استجارك أحد من المشركين.
الشارع في العمل :
المسألة السابعة : إذا جاء فعلان معطوفاً أحدهما على الآخر وجاء بعدهما اسم صالح لأن يكون معمولاً لهما فهذا على قسمين ، لأن الفعلين : أما أن يقتضيا عملين متشابهين ، أو مختلفين وعلى التقديرين فأما أن يكون الاسم المذكور بعدهما واحداً ، أو أكثر فهذه أقسام أربعة.
(1/35)

القسم الأول : أن يذكر فعلان يقتضيان عملاً وابدأ ، ويكون المذكور بعدهما اسماً واحداً ، كقولك : قام وقعد زيد ، فزعم الفراء أن الفعلين جميعاً عاملان في زيد ، والمشهور أنه لا يجوز ؛ لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين ، والأقرب راجح بسبب القرب ، فوجب إحالة الحكم عليه ، وأجاب الفراء بأن تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات ، أما في المعرفات فجائز ، وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة ، فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد.
القسم الثاني : إذا كان الاسم غير مفرد ، وهو كقولك ، قام وقعد أخواك ، فههنا إما أن ترفعه بالفعل الأول ، أو بالفعل الثاني ، فإن رفعته بالأول قلت : قام وقعدا أخواك ، لأن التقدير قام أخواك وقعدا ، أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل ، لأن الفعل لا يخلوا من فاعل مضمر أو مظهر ، تقول : قاما وقعد أخواك ، وعند البصريين إعمال الثاني أولى ، وعند الكوفيين إعمال الأول أولى ، حجة البصريين أن أعمالهما معاً ممتنع ، فلا بدّ من / إعمال أحدهما ، والقرب مرجح ، فإعمال الأقرب أولى ، وحجة الكوفيين أنا إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير ، ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر ، وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه.
القسم الثالث : ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين ، وكان الاسم المذكور بعدهما مفرداً ، فيقول البصريون إن إعمال الأقرب أولى ، خلافاً للكوفيين ، حجة البصريين وجوه ؛ الأول : قوله تعالى : {ءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} (الكهف : 96) فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولاً : فأما أن يكون الناصب لقوله قطراً هو قوله آتوني أو أفرغ ، والأول باطل ، وإلا صار التقدير آتوني قطراً ، وحينئذٍ كان يجب أن يقال أفرغه عليه ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقوله قطراً هو قوله أفرغ ؛ الثاني : قوله تعالى : {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ} (الحاقة : 19) فلو كان العامل هو الأبعد لقيل هاؤم اقرؤه ، وأجاب للكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز أعمال الأقرب ، وذلك لا نزاع فيه ، وإنما النزاع في أنا نجوز أعمال الأبعد ، وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع. الحجة الثالثة : للبصريين أنه يقال : ما جاءني من أحد ، فالفعل رافع ، والحرف جار ، ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب. الحجة الرابعة : أن إهمالهما وإعمالهما لا يجوز ، ولا بدّ من الترجيح ، والقرب مرجح ، فأعمال الأقرب أولى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واحتج الكوفيون بوجوه : الأول : أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعاً فأعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز ، فوجب القول بأعمال الأول هناك ، فإذا كان الاسم مفرداً وجب أن يكون الأمر كذلك طرداً للباب. الثاني : أن الفعل الأول وجد معمولاً خالياً عن العائق ، لأن الفعل لا بدّ له من مفعول/ والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه ، وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن أعمال الخالي عن العائق أولى من أعمال العامل المقرون بالعائق.
القسم الرابع : إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعاً فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون ، وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين.
المسألة الثامنة : قول امرىء القيس : ـ
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
/ فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد ، لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال ، وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال ، وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلاً من المال ، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذٍ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلاً من المال ، وهذا متناقض ، فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك ، وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد ، ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية والعقلية ، وفيه أبواب : ـ
الباب الأول
في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا : (أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم)
وقت قراءة الاستعاذة :
(1/36)

المسألة الأولى : اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة ، وعن النخعي أنه بعدها ، وهو قول داود الأصفهاني ، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين ، وهؤلاء قالوا : الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال : (آمين) فبعد ذلك يقول : أعوذ بالله والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين افتتح الصلاة قال : الله أكبر كبيراً ثلاث مرات ، والحمد لله كثيراً ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} (النحل : 98) دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط ، وذكر الاستعاذة جزاء ، والجزاء متأخر عن الشرط ، فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن قراءة القرآن ، ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل ، لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم ، فلو دخله العجب في أداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب ، لقوله عليه السلام والسلام "ثلاث مهلكات" وذكر منها إعجاب المرء بنفسه ؛ فلهذا السبب أمره الله سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان ، لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة.
قالوا : ولا يجوز أن يقال : إن المراد من قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (المائدة : 6) أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ ، كما في قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى} والمعنى / إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، لأنه يقال : ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل.
أما جمهور الفقهاء فقالوا : لا شك أن قوله : (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت ، وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقاً بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه/ ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية ، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ، قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ا أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِه فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ} (الحج : 52) وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب.
وأقول : ههنا قول ثالث : وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر ، وبعدها بمقتضى القرآن ، جمعاً بين الدليلين بقدر الإمكان.
حكم الاستعاذة :
المسألة الثانية : قال عطاء : الاستعاذة واجبة لكل قراءة ، سواء كانت في الصلاة أو في غيرها ، وقال ابن سيرين : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون : إنها غير واجبة.
حجة الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه : الأول : أنه عليه السلام واظب عليه ، فيكون واجباً لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} .
الثاني : أن قوله تعالى : {فَاسْتَعِذْ} أمر ، وهو للوجوب ، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات ، لأنه تعالى قال : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة.
الثالث : أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم ، لأن قوله : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} مشعر بذلك ، ودفع شر الشيطان واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة.
الرابع : أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة ، فهذا ما لخصناه في هذه المسألة.
التعوذ في الصلاة :
المسألة الثالثة : التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين ، وقال مالك لا يتعوذ في / المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان ، لنا الآية التي تلوناها ، والخبر الذي رويناه ، وكلاهما يفيد الوجوب ، فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب.
هل يسر بالتعوذ يجهر :
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه في "الأم" : روى أن عبد الله بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ أو وعن أبي هريرة أنه جهر به ، ثم قال : فإن جهر به جاز ، وإن أسر به أيضاً جاز وقال في "الإملاء" : ويجهر بالتعوذ ، فإن أسر لم يضر ، بين أن الجهر عنده أولى ، وأقول : الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة ، فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار ، وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر ، إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم ، لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء ، ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية ، والأصل هو العدم.
(1/37)

هل يتعوذ في كل ركعة :
المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله عنه في "الأم" : قيل إنه يتعوذ في كل ركعة ، ثم قال : والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى ، وأقول : له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم ، وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وكلمة إذا لا تفيد العموم ، ولقائل أن يقول : قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية ، فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة ، والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
صيغ الاستعاذة :
المسألة السادسة : أنه تعالى قال في سورة النحل : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} وقال في سورة أخرى {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي سورة ثالثة {إِنَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي : واجب أن يقول ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة ، قالوا : لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} ، وموافق أيضاً لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم ، وقال أحمد : الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعاً بين الآيتين ، وقال بعض أصحابنا ، الأولى أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، لأن هذا أيضاً جمع بين الآيتين ، وروى البيهقي في "كتاب السنن" بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل كبر ثلاثاً وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقال الثوري والأوزاعي : الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ، وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال : قل يا محمد : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل (بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ} (العلق : 1).
/ وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعاً من الاستغراق في الله ، والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال الله والله الهادي.
هل التعوذ للقراءة أو للصلاة :
المسألة السابعة : التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة ؟
عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة ، وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة ، ويتفرع على هذا الأصل فرعان : الفرع الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا ؟
عندهما لا يتعوذ ، لأنه لا يقرأ ، وعنده يتعوذ ، وجه قولهما قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} علق الاستعاذة على القراءة ، ولا قراءة على المقتدي ، فلا يتعوذ ، ووجه قول أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة ، ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة ، الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهم وبحمدك هل يقول : أعوذ بالله ثم يكبر أم لا ؟
عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا : ـ
السنة في القراءة :
المسألة الثامنة : السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل ، لقوله تعالى : {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا} (المزمل : 4) والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة ، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ ، وأفهم غيره تلك المعاني ، وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم ، فكان الترتيل أولى ، فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا" قال أبو سليمان الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة ، يقال للقارىء : إقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن ، فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة.
المسألة التاسعة : إذا قرأ القرآن جهراً فالسنة أن يجيد في القراءة ، روى أبو داود عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "زينوا القرآن بأصواتكم".
(1/38)

المسألة العاشرة : المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة ، ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جداً والتمييز عسر ، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق ، بيان المشابهة من وجوه : الأول : أنهما من الحروف المجهورة ، والثاني : أنهما من الحروف الرخوة ، والثالث : أنهما من الحروف المطبقة/ والرابع : أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف / اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء ، والخامس : أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام : "أنا أفصح من نطق بالضاد" فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان هذا الفرق معتبراً لوقع السؤال عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي أزمنة الصحابة ، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام ، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف.
المسألة الحادية عشرة : اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا ؟
وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان ، فوجب نفيه عن هذه اللغة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
لا تجوز الصلاة بالشاذة :
المسألة الثانية عشرة : اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم "الحمدِ لله" بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من لله ، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقاً ، لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر ، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن ، إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.
المسألة الثالثة عشرة : اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال : وذلك لأنا نقول : هذه القراءات المشهورة إما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون ، فإن كان الأول فحينئذٍ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز ، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعاً على خلاف الحكم الثابت بالتواتر ، فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير ، لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة ، ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها ، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه ، وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذٍ يخرج القرآن عن كونه مفيداً للجزم والقطع واليقين ، وذلك باطل بالإجماع ، ولقائل أن يجيب عنه فيقول : بعضها متواتر ، ولا خلاف بين الأمة فيه ، وتجويز القراءة بكل واحد منها ، وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعياً ، والله أعلم.
/الباب الثاني
في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا : (أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم
اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة : الاستعاذة ، والمستعيذ ، والمستعاذ به ، والمستعاذ منه ، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة.
الركن الأول : في الاستعاذة ، وفيه مسائل : ـ
تفسير الاستعاذة :
المسألة الأولى : في تفسير قولنا : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" بحسب اللغة فنقول : قوله : "أعوذ" مشتق من العوذ ، وله معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة ، والثاني : الالتصاق يقال : "أطيب اللحم عوذه" وهو ما التصق منه بالعظم ، فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي : ألتجىء إلى رحمة الله تعالى وعصمته ، وعلى الوجه الثاني معناه التصق نفسي بفضل الله وبرحمته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما الشيطان ففيه قولان : الأول : أنه مشتق من الشطن ، وهو البعد ، يقال : شطن دارك أي بعد ، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطاناً لبعده من الرشاد والسداد ، قال الله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} (الأنعام : 112) فجعل من الإنس شياطين ، وركب عمر برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً فنزل عنه وقال : ما حملتموني إلا على شيطان. والقول الثاني : أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل ، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلاً لوجوه مصالح نفسه سمي شيطاناً.
(1/39)

وأما الرجيم فمعناه المرجوم ، فهو فعيل بمعنى مفعول. كقولهم : كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين ، أي ملعون ، ثم في كونه مرجوماً وجهان : الأول : أن كونه مرجوماً كونه ملعوناً من قبل الله تعالى ، قال الله تعالى : {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} (الحجر : 34) واللعن يسمى رجماً ، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له : {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ } (مريم : 46) قيل عنى به الرجم بالقول ، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا : {لَـاـاِن لَّمْ تَنْتَهِ يَـانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} (الشعراء : 116) وفي سورة يس (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) والوجه الثاني : أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوماً لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طرداً لهم من السموات ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد.
/ وأما قوله : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ففيه وجهان : الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان ، ولا يطلع عليها أحد ، فكأن العبد يقول : يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع ، ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها ، وأنت القادر على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك ، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار ، : الثاني : أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن ، وهو قوله تعالى : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال في حم السجدة : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/40)

المسألة الثانية : في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة : اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل ، أما العلم فهو كون العبد عالماً بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية ، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه. فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب ، وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له ، ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان ، أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريداً لأن يصونه الله تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالباً لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى ، وذلك الطلب هو الاستعاذة ، وهو قوله : "أعوذ بالله" إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله ، وعلمه بنفسه ، أما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع المعلومات ، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالماً به ولا بأحواله ، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثاً ، ولا بدّ وأن يعلم كونه قادراً على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزاً عن تحصيل مراد البعد/ ولا بدّ أن يعلم أيضاً كونه جواداً مطلقاً ، إذ لو كان البخل عليه جائزاً لما كان في الاستعاذة ائدة ، ولا بدّ أيضاً وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده ، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله ، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد ، وأن يعلم أيضاً أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه ، إذ لو كان مستقلاً بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة ، فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول : / (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ومن الناس من يقول : لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات ، بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول : أعوذ بالله على سبيل الإجمال ، وهذا ضعيف جداً لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) فبتقدير أن لا يكون الإله عالماً بكل المعلومات قادراً على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالاً لمن لا يسمع ولا يبصر ، وكان داخلاً تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيباً على أبيه ، وأما علم العبد بحال نفسه فلا بدّ وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام ، وأن يعلم أيضاً أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها ، إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهداً لها متيقناً فيها وجب أن يحصل في قلبه تلك الجالة المسماة بالانكسار والخضوع ، وحينئذٍ يحصل في قلبه الطلب ، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب ، وذلك هو قوله : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والذي يدل على كون الإنسان عاجزاً عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان إما العمل وإما العلم ، وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز ، أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله ، وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ويدل عليه وجوه : ـ
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الأولى : أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم ، ولم يعرفوا الجواب عنها ، بل أصروا عليها وظنوها علماً يقينياً وبرهاناً جلياً ، ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها ، وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله ، ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب ، وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات ؟
.
الحجة الثانية : أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح ، وإن أحداً لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر ، فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسموات.
(1/41)

الحجة الثالثة : /أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول : ذلك الحد الأوسط إن كان حاضراً في عقله كان القياس منعقداً والنتيجة لازمة. فحينئذٍ لا يكون العقل متوقفاً في تلك القضية بل يكون جاز ما بها ، وقد فرضناه متوقفاً فيها ، هذا خلف ، وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه ؟
أو لا يمكنه طلبه ، والأول باطل ، لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه ؟
لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به ، وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل ؟
وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذٍ يكون عاجزاً عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة ، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة.
الحجة الرابعة : أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ} (المؤمنون : 97) فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة ، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم ، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضاً كذلك ويدل عليه وجوه : الأول : أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعاً من الزبانية ، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة ، والشهوة ، والغضب ، والقوى الطبيعية السبع ، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس ، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد ، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة ، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية ، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب ، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات ، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته ، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الخامسة : أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان : أحدهما : اللذات الحسية. والثاني : اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة ، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها ، وإذ كان عديم الشعور / بها كان قليل الرغبة فيها ، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها ، وإذا حصل الألتذاذ بها قويت رغبته فيها ، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك ، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزاً بالمطالب كان أعظم حرصاً وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها ، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص ، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب ، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه ، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
الحجة السادسة : في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 45) وقول موسى لقومه {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ا إِنَّ الارْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ا وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف : 128) وفي بعض الكتب الآلهية إن الله تعالى يقول : "وعزتي وجلالي ، لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس ، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس ، ولأخيبنه من قربي ، ولأبعدنه من وصلي ، ولأجعلنه متفكراً حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي ، وأنا الحي القيوم ، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني".
مذهب الجبرية في الاستعاذة :
المسألة الثالثة : في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة : قوله : (أعوذ بالله) يبطل القول بالجبر من وجوه : ـ
الأول : أن قوله : (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد فاعلاً لتلك الاستعاذة ، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلاً لأن تحصيل الحاصل محال ، وأيضاً فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه ، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله : (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد موجداً لأفعال نفسه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/42)

والثاني : أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقاً للأمور التي منها يستعاذ. أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله.
والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي ، تدل على أن العبد غير راضٍ بها ، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضياً بها ؛ لما ثبت بالإجماع / أن الرضا بقضاء الله واجب.
والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلاً للشيطان ، أما إذا كانت فعلاً لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان ، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى ، لأنه لا شر إلا من قبله.
الخامس : أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئاً أصلاً وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها عليّ ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) وقلت : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) وقلت : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني ؟
.
السادس : جعلتني مرجوماً ملعوناً بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني ؟
فإن كان الأول فقد بطل الجبر ، وإن كان الثاني فهذا محض الظلم ، وأنت قلت : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} (غافر : 31) فكيف يليق هذا بك ؟
.
فإن قال قائل : هذه لإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر ، وأنا لا أقول بالجبر ، ولا بالقدر ، بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر ، وهو الكسب.
فنقول : هذا ضعيف ، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون ، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال ، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض ، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول ، فكيف يعقل حصول الواسطة.
قال أهل السنّة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين : ـ
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الأول : أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين ، أو كانت صالحة للطرفين معاً ، فإن كان الأول فالجبر لازم ، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح ، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع ، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع ، وحينئذٍ يلزمكم كل ما ذكرتموه ، وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين : الأول : أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح ، / والثاني : أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعاً على سبيل الاتفاق/ ولا يكون صادراً عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض ، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.
الوجه الثاني في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، ووقوع الشي على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلاً ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازماً عليكم في العلم لزوماً لا جواب عنه.
الاستعاذة تبطل قول القدرية :
ثم قال أهل السنّة والجماعة قوله : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يبطل القول بالقدر من وجوه : ـ
(1/43)

الأول : أن المطلوب من قولك : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعاً بالنهي والتحذير ، أو على سبيل القهر والجبر ، أما الأول فقد فعله ، ولما فعله كان طلبه من الله محالاً ، لأن تحصيل الحاصل محال ، وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين ، وقد ثبت كونهم مكلفين ، أجابت المعتزلة عنه فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح ، لا يقال : فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب ، لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء ، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله. أجاب أهل السنّة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا أثر فيه ، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع ، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذٍ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم ، وهو جمع بين النقيضين ، وهو محال ، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال ، وأما أن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها ألبتة أثر ، فيكون فعلها عبثاً محضاً. وذلك في حق الله تعالى محال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الوجه الثاني : أن يقال : إن الله تعالى إما أن يكون مريداً لصلاح حال العبد ، أو لا يكون ، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع ، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد ؟
وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه ؟
وأما / إذا قيل : إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان.
الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبوراً على فعل الشر ، أو يكون قادراً على فعل الشر والخير معاً ، فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر ، وذلك يقدح في قولهم : إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير ، وإن كان الثاني ـ وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ـ فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى ، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة.
الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان ، فالشيطان كيف وقع في المعاصي ؟
فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل ، وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر ؟
وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان ، وإن قلنا إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطاناً آخر فهذا حيف على البشر ، وتخصيص له بمزيد الثقل والأَضرار وذلك ينافي كون الإله ناصر لعباده.
الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع ، فلا فائدة في الاستعاذة منه. وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع/ فلا فائدة في الاستعاذة منه.
واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : (أعوذ بالله) إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله ، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلّم : "أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
المستعاذ به :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/44)

الركن الثاني المستعاذ به : واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين : أحدهما : أن يقال : (أعوذ بالله) والثاني : أن يقال : (أعوذ بكلمات الله) أما قوله أعوذ بالله فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة الله وسيأتي ذلك في تفسير بسم الله وأما قوله : (أعوذ بكلمات الله التامات) فاعلم أن المراد بكلمات الله هو قوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) والمراد من قوله "كن" نفاذ قدرته في الممكنات ، وسريان مشيئته في الكائنات ، بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله إلا لكونه موصوفاً بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ، وأيضاً فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة ، والخروج / من القوة إلى الفعل يسيراً يسيراً ، وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها وخروجها إلى الفعل دفعة ، ومتى كان الأمر كذلك كان حدوثها شبيهاً بحدوث الحرف الذي لا يوجد إلا في الآن الذي لا ينقسم ، فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة ، وأيضاً ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستولٍ على عالم الأجسام ، وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (النازعات : 5) فقوله : (أعوذ بكلمات الله التامات) استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة ، فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة.
ثم ههنا دقيقة ، وهي أن قوله : (أعوذ بكلمات الله التامات) إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله ، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد ، وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحداً إلا الله تعالى ؛ لم يستعذ إلا بالله ، ولم يلتجىء إلا إلى الله ، ولم يعول إلا على الله ، فلا جرم يقول : (أعوذ بالله) و(أعوذ من الله بالله) كما قال عليه السلام "وأعوذ بك منك" واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلاً أيضاً بغير الله لأن الاستعاذة لا بدّ وأن تكون لطلب أو لهرب ، وذلك اشتغال بغير الله تعالى ، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضاً عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقاً في نور قوله : (بسم الله) ألا ترى أنه عليه السلام لما قال : "وأعوذ بك منك" ترقى عن هذا المقام فقال : "أنت كما أثنيت على نفسك".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المستعيذ :
الركن الثالث من أركان هذا الباب : المستعيذ : واعلم أن قوله (أعوذ بالله) أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك ، وهذا غير مختص بشخص معين ، فهو أمر على سبيل العموم ؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء ، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذاً بالله ، فالأول : أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال : {رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ } (هود : 47) فعند هذا أعطاه الله خلعتين ، والسلام والبركات ، وهو قوله تعالى : {قِيلَ يَـانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا وَبَرَكَـاتٍ عَلَيْكَ} (هود : 48) والثاني : حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال : {مَعَاذَ اللَّه إِنَّه رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } (يوسف : 23) فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال : {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّواءَ وَالْفَحْشَآءَ } (يوسف : 24) والثالث : قيل له : {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَه ا } (يوسف : 78) فقال : {مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَه } (يوسف : 79) فأكرمه الله تعالى بقوله : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَه سُجَّدًا } ، (يوسف : 100) الرابع : حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة / قال قومه : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 67) فأعطاه الله خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِه } ، (البقرة : 73) الخامس : أن القوم لما خوفوه بالقتل قال : {وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} (الدخان : 20) وقال في آية أخرى : {إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} (غافر : 27) فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم ، والسادس : أن أم مريم قالت : {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} (
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/45)

آل عمران : 36) فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران : 37) والسابع : أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت : {إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} (مريم : 68) فوجدت نعمتين ولداً من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} (مريم : 30) الثامن : أن الله تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (المؤمنون : 98) وقال : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} والتاسع : قال في سورة الأعراف {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف : 200) وقال في حم السجدة : {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت : 34) إلى أن قال : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبداً في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.
وأما الأخبار فكثيرة : الخبر الأول : عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلّم وأغرقا فيه : فقال عليه السلام : "إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك ، وهي قوله : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه : الأول : أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جداً ، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل ، وعند الغضب يزول العقل ، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد ، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعاً له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال ، وحاملاً له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات ، فلا جرم يقول أعوذ بالله. الثاني : أن الإنسان غير عالم قطعاً بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه ، فإذا علم ذلك يقول : أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى/ فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي ، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه" / وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله. الثالث : أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم ، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه ، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال : أعوذ بالله ، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَا ا ِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
والخبر الثاني : وروى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة".
قلت : وتقريره من جانب العقل أن قوله : (أعوذ بالله) مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها ، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته ، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين.
الخبر الثالث : روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكاً يذود عنه الشيطان".
قلت : والسبب فيه أنه لما قال : (أعوذ بالله) وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه ، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس ، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها ، والشيطان الأكبر هو النفس ، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان.
والخبر الرابع : عن خولة بنت حكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : "من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل".
(1/46)

قلت : والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية ، وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام "أطت السماء ، وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد" وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح ، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة ، وبعضها كدرة مؤذية / شريرة ، فإذا قال الرجل : (أعوذ بكلمات الله التامات) فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة ، وأيضاً كلمات الله هي قوله : "كن" وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء.
والخبر الخامس : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر" وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده ، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه.
والخبر السادس : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم : أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما ، ويقول : "أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة" ويقول : "كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسمعيل وإسحق عليهما السلام".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الخبر السابع : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت : أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام : عذت بمعاذ فالحقي بأهلك.
واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل ، وإنما التفاته إلى القول ، فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ بالله بقي قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم مشتغلاً بتلك الكلمة ، ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا.
والخبر الثامن : روى الحسن قال : بينما رجل يضرب مملوكاً له فجعل المملوك يقول : (أعوذ بالله) إذ جاء نبي الله فقال : أعوذ برسول الله ، فأمسك عنه فقال عليه السلام : عائذ الله أحق أن يمسك عنه ، فقال : فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : "أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار.
والخبر التاسع : قال سويد : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت.
والخبر العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام : "أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك".
المستعاذ منه :
الركن الرابع من أركان هذا الباب الكلام ؛ في المستعاذ منه وهو الشيطان ، والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان ، واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرهما ، / كما ذكره في قول الله تعالى : {كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ } (البقرة : 275) وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات ، ومن علوم المكاشفات.
الاختلاف في وجود الجن :
المسألة الأولى : اختلف الناس في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين ، واعلم أنه لا بدّ أولاً من البحث عن ماهية الجن والشياطين فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم ، بل القول المحصل فيه قولان : الأول : أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة. والقول الثاني : أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز ، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية ، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية ، وهي الملائكة المقربون ، كما قال الله تعالى : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الأنبياء : 19) ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام ، وأشرفها حملة العرش ، كما قال تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) والمرتبة الثانية : الحافون حول العرش ، كما قال تعالى : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر : 75) والمرتبة الثالثة : ملائكة الكرسي ، والمرتبة الرابعة : ملائكة السموات طبقة طبقة ، والمرتبة الخامسة : ملائكة كرة الأثير ، والمرتبة السادسة : ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم ، والمرتبة السابعة : ملائكة الزمهرير ، والمرتبة الثامنة : مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار ، والمرتبة التاسعة : مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال ، والمرتبة العاشرة : مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا لعالم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/47)

واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة ، وهي المسماة بالصالحين من الجن ، وقد تكون كدرة سفلية شرير شقية ، وهي المسماة بالشياطين.
واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه : الحجة الأولى : إن الشيطان لو كان موجوداً لكان إما أن يكون جسماً كثيفاً أو لطيفاً/ والقسمان بطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسماً كثيفاً لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس ، إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئاً منها ، ومن جوز ذلك كان خارجاً عن العقل ، وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساماً لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية ، وأيضاً يلزم أن لا يكون لها/ قوة وقدرة على الأعمال الشاقة ، ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة ، ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن.
الحجة الثانية : أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة ، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة ، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة ، إلا أنا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن ، وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً.
الحجة الثالثة : أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس ، وإما الخبر ، وإما الدليل : أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء ؛ لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتاً فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها ، والذين يقولون أنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان : المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوها ، والكذابون المخرفون ، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة أخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين ، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلاً ، مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال : إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم ، ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها ، فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر ، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين ، فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء ، فوجب أن يكون القول بوجود هذه لأشياء باطلاً ، فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
والجواب عن الأولى : بأنا نقول : إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً ، فلم لا يجوز أن يقال إنه جوهر مجرد عن الجسمية / والجواب عن الأولى بأنا نقول : أن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً فلم لا يجوز أن يقال : إنه جوهر مجرد عن الجسمية.
واعلم أن القائلين بهذا القول فِرَق : الأولى الذين قالوا : النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة ، وقد تكون شريرة ، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية ، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية ، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذٍ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث/ وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها ، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً ، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة ، فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء.
(1/48)

الفريق الثاني الذين قالوا : الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها ، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية ، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضاً ، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية ، وهم المسمون بصالحي الجن ، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية ، إذا عرفت هذا فنقول : الجنسية علة الضم ، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى ، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفريق الثالث ، وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية ، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية ، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية ، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها ، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معيناً فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين ، وهو ذلك الفلك المعين ، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولاً بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن ، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولاً بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم ، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء ، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم / وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة ـ فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن ، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو ، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية ، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها ، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلاً طائفة ، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى ، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة ، ويحصل بينها محبة ومودة ، وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري ، وإذا عرفت هذا فنقول : قالوا : إن العلة تكون أقوى من المعلول ، فكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة ، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية ، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم ، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا ، وأخرى في اليقظة في سبيل الإلهام ، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوى اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات ، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين/ ويزعم أنها موجودات ليست أجساماً ولا جسمانية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب ، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات ، والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية.
واعلم أن هذا باطل لوجهين : الأول : أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس ، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما ، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي ، وهو النفس ، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس. الثاني : هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء ، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية ، فلم لا يجوز أن يقال : إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ، ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان ، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب.
(1/49)

/ وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا : الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار ، وهذان المعنيان أعراض ، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض ، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم ، فلم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة ، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار ؟
وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها ، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها ، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق ؟
وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها ، والأجسام الكثيفة لا تفرقها ، أليس أن الفلاسفة قالوا : إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد ، وتخرج من الجانب الآخر ؟
فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة ، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها ، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم ، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة ، والدليل لم يقم على إبطالها ، فلم يجز المصير إلى لقول بإبطالها.
وأما الجواب عن الشبهة الثانية : أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه ، أما حال غيره فإنه لا يعلمها ، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول : لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام ، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك ، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
دليل وجود الجن من القرآن :
المسألة الثانية : اعلم أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين : أما القرآن فآيات : الآية الأولى قوله تعالى : {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا } (الأحقاف : 29 ، 30) وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن ، وعلى أنهم أنذروا قومهم ، والآية الثانية قوله تعالى : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ } ، (البقرة : 102) والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام : {يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍا اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وقال تعالى : {وَالشَّيَـاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ} (ص : 38) وقال تعالى : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} (سبأ : 12) ـ إلى قوله / تعالى : {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه } والآية الرابعة قوله تعالى : {يَعْمَلُونَ لَه مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍا اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (الرحمن : 33) والآية الخامسة قوله تعالى : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} (الصافات : 7) وأما الأخبار فكثيرة : ـ
الخبر الأول : روى مالك في "الموطأ" ، عن صيفي بن أفلح ، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، قال : فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته ، فإذا هي حية ، فقمت لأقتلها ، فأشار أبو سعيد أن إجلس ، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال : ترى هذا البيت ؟
فقلت نعم ، فقال : إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس ، وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس ، فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت : لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك ، فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً ، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً : الفتى أم الحية ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إن بالمدينة جناً قد أسلوا ، فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فءن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/50)

الخبر الثاني : روى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد قال : لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه ، فقال جبريل عليه السلام : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه ، قل : أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما نزل إلى الأرض ، وشر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
والخبر الثالث : روى مالك أيضاً في "الموطأ" أن كعب الأخبار كان يقول : أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ.
والخبر الرابع : روى أيضاً مالك أن خالد بن الوليد قال : يا رسول الله ، إني أروع في منامي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم قل : أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون.
والخبر الخامس : ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن وقراءته عليهم ، ودعوته إياهم إلى الإسلام.
/ والخبر السادس : روى القاضي أبو بكر في "الهداية" أن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم ، فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه.
والخبر السابع : قوله عليه السلام : "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم" وقال : "ما منكم أحد إلا وله شيطان" قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟
قال : "ولا أنا ، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم" والأحاديث في ذلك كثيرة ، والقدر الذي ذكرناه كاف.
خلق الجن من النار :
المسأل الثالثة : في بيان أن الجن مخلوق من النار : والدليل عليه قوله تعالى : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر : 27) وقال تعالى حاكياً عن إبليس لعنه الله أنه قال : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} (الأعراف : 12) واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد ، ألا ترى أن الأطباء قالوا : المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح ، وهما في غاية السخونة ، وقال جالينوس : إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه ، وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد ، ونقول : أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية ، وقال بعضهم : الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
سبب تسمية الجن جنا :
المسألة الرابعة : ذكروا قولين في أنهم لم سموا بالجن ، الأول : أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار ، ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار ، ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان ، ومنه الجن لاستتارهم عن العيون ، ومنه المجنون لاستتار عقله ، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى : {اتَّخَذْوا أَيْمَـانَهُمْ جُنَّةً} (المجادلة : 16 ، المنافقون : 2) أي وقاية وستراً ، واعلم أن هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون ، إلا أن يقال : إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف. والقول الثاني : أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى.
طوائف المكلفين :
المسألة الخامسة : اعلم أن طوائف المكلفين أربعة : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين ، واختلفوا في الجن والشياطين فقيل : الشياطين جنس والجن جنس آخر ، كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر ، وقيل : الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأَشرار الجن.
تسلط الجن على الإنس :
المسألة السادسة : المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك ، أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه : الأول : أنه إن كان الجن عبارة عن موجود / ليس بجسم ولا جسماني فحينئذٍ يكون معنى كونه قادراً على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه ، وذلك غير مستبعد ، وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضاً غير ممتنع قياساً على النفس وغيره. الثاني : قوله تعالى : {لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ } . (البقرة : 275) الثالث : قوله عليه السلام : "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم.
(1/51)

أما المنكرون فقد احتجوا بأمور : الأول : قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد ، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل. الثاني : لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه ، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة ، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
صفة الملائكة :
المسألة السابعة : اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون ، قال عليه السلام في الروث والعظم : "إنه زاد إخوانكم من الجن" وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى : {أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} (الكهف : 50).
وسوسة الشيطان :
المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار : ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان/ ويضع رأسه على حبة قلبه ، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع" وقال عليه السلام : "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات".
ومن الناس من قال : هذه الأخبار لا بد ، من تأويلها ، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها ، واحتج عليه بوجوه : الأول : أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال ؛ لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام. الثاني : ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين ، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر ؟
الثالث : أن الشيطان مخلوق من النار ، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن ، ومعلوم أنه / لا يحس بذلك. الرابع : أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق ، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة ، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضرراً ولا من صداقتهم نفعاً.
وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول : بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل ، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضاً زائل ، وعن الثاني : لا يبعد أن يقال : إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر ، وعن الثالث : أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : 69) فلم لا يجوز مثله ههنا ، وعن الرابع : أن الشياطين مختارون ، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض.
تحقيق الكلام في الوسوسة :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة التاسعة ، في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب "الأحياء" ، قال : القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب ، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب ، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص ، فتتراءى فيها صورة بعد صورة ، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس ، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان ، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب ، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب ، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى ، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال ، فالقلب دائماً في التغير والتأثر من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار ، وأعني بها إدراكات وعلوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر ، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلاً عنها ، فالخواطر هي المحركات للإرادات ، والإرادات محركة للأعضاء ، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ـ وإلى ما ينفع ـ أعني ما ينفع في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان ، فافتقرا إلى اسمين مختلفين ، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً ، والمذموم يسمى وسواساً ، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بدّ لها من سبب ، والتسلسل محال ، فلا بدّ من انتهاء الكل إلى واجب الوجود ، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.
تحقيق كلام الغزالي :
(1/52)

المسألة العاشرة : في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي : اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح/ فنقول : لا بدّ قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات.
المقدمة الأولى : لا شك أن ههنا مطلوباً ومهروباً. وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوباً لذاته أو لغيره ، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوباً لغيره. وأن يكون كل مهروب مهروباً عنه لغيره : وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما محالان ، فثبت أنه لا بدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوباً لذاه ، وبوجود شيء يكون مهروباً عنه لذاته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المقدمة الثانية : إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور ، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما ، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن ، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما.
المقدمة الثالثة : إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر ، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء ، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر ، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث ، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع ، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس.
المقدمة الرابعة : إن القوة الباصرة إذا أدركت موجوداً في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي ، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذاً أو مؤلماً أو خالياً عنهما ، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله ، وإن حصل العلم بكونه مؤلماً ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه ، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلماً ولا بكونه لذيذاً لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.
المقدمة الخامسة : إن العلم بكونه لذيذاً إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خالياً عن المعارض والمعاوق ، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء ، مثاله إذا رأينا طعاماً لذيذاً فعلمنا بكونه لذيذاً ، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد ، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح ، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان ، ومثال آخر لهذا المعنى : إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي ، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم / يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه ، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالاً منها ، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذاً أو مؤلماً إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض.
المقدمة السادسة : في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيباً ذاتياً لزومياً عقلياً ، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات ، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك ، فامتنع صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك ، وللترك بدلاً عن الفعل ، إلا بضميمة تنضم إليها ، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة ، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه ، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان ، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة ، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب ، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/53)

إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا : ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار ، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها/ وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلماً ، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بدّ وأن يكون يخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه ، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزوماً ذاتياً واجباً ، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه ، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب ، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة ، فلو قدرنا شيطاناً من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر ؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل ، وءن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل ، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل ، بل الحق أن نقول : إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام ، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة ، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.
/ والجواب : أن كل ما ذكرتموه حق وصدق ، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلاً عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره ، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه ، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل ، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر ، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكياً عن إبليس أنه قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) إلا أنه بقي لقائل أن يقول : فالإنسان إنما قدم على المعصية بتذكير الشيطان ، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين ، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه ، ولا بدّ لذلك الاعتقاد الحادث من سبب ، وماذاك إلا الله سبحانه وتعالى ، وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى ، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق ، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله : "أعوذ بك منك" والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الخواطر والاختلاف فيها :
المسألة الحادية عشرة : اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في دخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية ، فكأن متكلماً يتكلم معه ، ومخاطباً يخاطبه ، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه ، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً ، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات ، وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال ، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص ، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب ، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها ، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة ، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال ، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورتها ، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك ، فهذا قول جمهور الفلاسفة ، ولقائل أن يقول : هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساوٍ للحرف والكلمة في الماهية أو لا ؟
فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات ، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء ، وإن كان الحق هو الثاني ـ وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات ـ / فحينئذٍ يعود السؤال وهو : أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات ، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن ، فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة ، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة.
(1/54)

واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا : فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر ، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان ، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك ، وإما أن يقال : خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى : أما القسم الأول ـ وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان ـ فهذا قول باطل ، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادراً على تركه ، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه ، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها ، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره ، وأما القسم الثاني ـ وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر ـ فهو ظاهر الفساد ، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث ـ وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى ، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين ، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى.
واعلم أن الثنوية يقولون : للعالم إلهان : أحدهما : خير وعسكره الملائكة ، والثاني : شرير وعسكره الشياطين ، وهما يتنازعان أبداً كل شيء في هذا العالم ، فلكل واحد منهما تعلق به ، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله ، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان ، واعلم أن القول بإثبات الآلهين قول باطل فاسد ، على ما ثبت فساده بالدلائل ، فهذا منتهى القول في هذا الباب.
المسألة الثانية عشرة : من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الأحياء ، وعلى الأماتة وعلى خلق الأجسام ، وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية ، ومنهم من أنكر هذه الأحوال ، وقال : إنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال.
/ أما أصحابنا فقد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والأحداث ليست إلا لله ، فبطلت هذه المذاهب بالكلية.
وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث ، فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة ، ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم ، وكل جسم فإنه قادر بالقدرة ، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام ، فهذه مقدمات ثلاث : المقدمة الأولى : أن الشيطان جسم ، وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز ، وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلاً عن حجة. وأما المقدمة الثانية ـ وهي قولهم الجسم إنما يكون قادراً بالقدرة ـ فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة ، فلو كان شيء منها قادراً لذاته لكان الكل قادراً لذاته ، وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام ، وأما المقدمة الثالثة ـ وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام ـ وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده/ فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة.
هل يعلم الجن الغيب :
المسألة الثالثة عشرة : اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب ؟
وقد بين الله تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته ، وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب ، ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب ، ثم اختلفوا فقال بعضهم إن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة ، ومنهم من قال : لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا الله ، واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
أسباب الاستعاذة وأركانها :
الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة. المطالب التي لأجلها يستعاذ.
اعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية ، فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله ، ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله ، فقوله : (أعوذ بالله) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية ، وكلها أمور غير متناهية ، ونحن ننبه على معاقدها فنقول : الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب ، وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدن ، أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة.
(1/55)

/ واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقاداً صواباً صحيحاً ويمكن أن يعتقد اعتقاداً فاسداً خطأ ، ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم ، وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة ، وسبعمائة وأكثر خارج عن هذه الأمة ، فقوله : (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.
وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين : منها ما يفيد المضار الدينية ، ومنها ما يفيد المضار الدنيوية ، فأما المضار الدينية فكل ما نهى الله عنه في جميع أقسام التكاليف ، وضبطها كالمعتذر ، وقوله : (أعوذ بالله) يتناول كلها ، وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى ، وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية ، فقوله : (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.
والحاصل أن قوله : (أعوذ بالله) يتناول ثلاثة أقسام ، وكل واحد منهما يجري مجرى ما لا نهاية له أولها : الجهل ؛ ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية ، فالعبد يستعذ بالله منها ، ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر ، وأهل البدعة على كثرتها ، وثانيها : الفسق ، ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جداً وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله : (أعوذ بالله) متناولاً لكلها ، وثالثها : المكروهات والآفات والمخافات ، ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله : (أعوذ بالله) متناولاً لكلها ، ومن أراد أن يحيط بها فليطالع "كتب الطب" حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعاً من الآلام والأسقام ، ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول : (أعوذ بالله) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها ، ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل. ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذٍ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجىء إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك : (أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات) ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب والله الهادي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الثالث
في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم
النكتة الأولى : في قوله : (أعوذ بالله) عروج من الخلق إلى الخالق ، ومن الممكن إلى الواجب : وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر ، لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته / إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر ، فقوله : (أعوذ) إشارة إلى الحاجة التامة ، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة ، وقوله : (بالله) إشارة إلى الغني التام للحق ، فقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة ، وقوله : (بالله) إقرار بأمرين : أحدهما : بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات ، والثاني : أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو ، ولا معطي للخيرات إلا هو ، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا لفرار سر قوله : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50) وهذه الحالة تحصل عند قوله : (أعوذ) ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقاً في نور جلال الحق شاهد قوله : (قل الله ثم ذرهم) فعند ذلك يقول : (أعوذ بالله).
النكتة الثانية : أن قوله : (أعوذ بالله) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب ، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار ، ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور ، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل ، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال.
النكتة الثالثة : أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان ، وذلك هو الاستعاذة بالله ، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة ، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل ، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له : الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها ، وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له ، وذلك ليس في وسعك ، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
(1/56)

النكتة الرابعة : أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك ، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن ، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات ؛ فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات ، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنه أبلغ ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد ، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة الخامسة : الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (فا طر : 6) والرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو ، فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب ، فالمقام الأول : هو الفرار وهو قوله : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والمقام الثاني : وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله : (بسم الله الرحمن الرحيم).
النكتة السادسة : قال تعالى : {لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة : 79) فالقلب لما تعلق بغير الله واللسان لما جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث ، فلا بدّ من استعمال الطهور ، فلما قال : {أَعُوذُ بِاللَّهِ} حصل الطهور/ فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال : {بِسْمِ اللَّهِ} .
النكتبة السابعة : قال أرباب الإشارات : لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن ، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (التوبة : 29) وقال في العدو الباطن : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (فاطر : 6) فكأنه تعالى قال : إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك ، كما قال تعالى : {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} (آل عمران : 125) وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) وأيضاً فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر ؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا ، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين ، وأيضاً فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين ، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين ، وأيضاً فمن قتله العدو الظاهر كان شهيداً ، ومن قتله العدو الباطن كان طريداً ، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى ، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/57)

النكتة الثامنة : إن قلب المؤمن أشرف البقاع ، فلا تجد دياراً طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضاً ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها ، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء ، بل فوق المرآة ، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم يرَ فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } (فاطر : 10) بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علماً بالصفات الصمدية ، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام قال : "القبر روضة من رياض الجنة" وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت ، فإذا كان القلب / سريراً لمعرفة الله وعرشاً لآلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع ، الثاني : كأن الله تعالى يقول : يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل على ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه ؟
الثالث : أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) ولم يقل عند المليك فقط ، كأنه قال : أنا في ذلك اليوم أكون مليكاً مقتدراً وعبيدي يكونون ملوكاً ، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : كأنه تعالى يقول : يا عبدي ، إني جعلت جنتي لك ، وأنت جعلت جنتك لي ، لكنك ما أنصفتني ، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها ؟
فيقول العبد : لا يا رب ، فيقول تعالى : وهل دخلت جنتك ؟
فلا بدّ وأن يقول العبد : نعم يا رب ، فيقول تعالى : إنك بعد ما دخلت جنتي ، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك ، وقلت له أخرج منها مذؤماً مدحوراً ، فأخرجت عدوك قبل نزولك ، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده ، فعند ذلك يجيب العبد ويقول : إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه ، فيقول الله تعالى : العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قوياً فأدخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك ، فقل : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
فإن قيل : فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه ؟
(قلنا) قال أهل الإشارة : كأنه تعالى يقول للعبد : أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك ، ومن أراد أن ينزل سلطاناً في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها/ ولا يجب على السلطان تلك الأعمال ، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة التاسعة : كأنه تعالى يقول يا عبدي ، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان ؛ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة ، وكان في الظاهر مقراً بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع ، فلما تكبر نفيته عن خدمتي ، وهو في الحقيقة ما عادى أباك ، إنما امتنع من خدمتي ، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه ، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات ، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
النكتة العاشرة : أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من النا صحين ، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة ، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال : (فبعزتك لأَغويتهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.
النكتة الحادية عشرة : إنما قال : (أعوذ بالله) ولم يذكر اسماً آخر ، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجراً عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً عليماً حكيماً فقوله : (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم ، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر ، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله ، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادراً إلا أنه غير عالم ، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر ، بل لا بدّ معها من العلم ، وأيضاً فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر ، لأن الملك إذا رأى منكراً إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعاً منه ، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل ؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال : أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.
النكتة الثانية عشرة : لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان ، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاصٍ ، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة ، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى.
(1/58)

النكتة الثالثة عشرة : الشيطان اسم ، والرجيم صفة ، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا ؟
ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه ، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة الرابعة عشرة : لقائل أن يقول : لم لم يقل : "أعوذ بالملائكة" مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان ؟
فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى ؟
وجوابه كأنه تعالى يقول : عبدي إنه يراك وأنت لا تراه ، بدليل قوله تعالى : {إِنَّه يَرَاـاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } (الأعراف : 27) وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه ، / فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان ، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
النكتة الخامسة عشرة : أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفاً للجنس ؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية ، بل المرئي ربما كان أشد ، حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه : إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطاناً فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة ، فلما سمع بعض القوم ذلك فقال : إني أقاتل هؤلاء السبعين ، وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله ، فرجع الرجل خائباً إلى المسجد فقال المذكر : ماذا عملت ؟
فقال : هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني ، وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضاً جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان ، والراضي يجري مجرى الفاعل له ، وإذا استبعدت ذلك فأعرفه بالمسألة الشرعية ، فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدى من حيث رضي بها وسكت خلفه.
النكتة السادسة عشرة : الشيطان مأخوذ من "شطن" إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيداً ، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى : {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } (العلق : 19) والله قريب منك قال الله تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186) وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرمياً بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (الفتح : 26) فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيداً مرجوماً ، وجعلك قريباً موصولاً ، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريباً لأنه تعالى قال : {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (فاطر : 43) فاعرف أنه لما جعلك قريباً فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة السابعة عشرة : قال جعفر الصادق : إنه لا بدّ قبل القراءة من التعوذ ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها ، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً فيقرأ بلسان طاهر كلاماً أنزل من رب طيب طاهر.
النكتة الثامنة عشرة : كأنه تعالى يقول : إنه شيطان رجيم ، وأنا رحمن رحيم ، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.
النكتة التاسعة عشرة : الشيطان عدوك ، وأنت عنه غافل غائب ، قال تعالى : {إِنَّه يَرَاـاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } (الأعراف : 27) .
فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب ، لقوله تعالى : {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى ا أَمْرِه } (يوسف : 21) فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.
الباب السابع
في المسائل الملتحقة بقوله : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
المسألة الأولى : فرق بين أن يقال : "أعوذ بالله" وبين أن يقال : (بالله أعوذ) فإن الأول لا يفيد الحصر ، والثاني : يفيده ، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضاً جاء قوله : "الحمد لله" وجاء قوله : "لله الحمد" وأما هنا فقد جاء "أعوذ بالله" وما جاء قوله "بالله أعوذ" فما الفرق ؟
.
(1/59)

المسألة الثانية : قوله : (أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء ، والتقدير : اللهم أعذني ، ألا ترى أنه قال : (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) كقوله : "أستغفر الله" أي اللهم أغفر لي ، والدليل عليه أن قوله : (أعوذ بالله) أخبار عن فعله ، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله ، فما السبب في أنه قال : "أعوذ بالله" ولم يقل أعذني ؟
والجواب أن بين الرب وبين العبد عهداً كما قال تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَـاهَدتُّمْ} وقال : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} فكان العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت : "أعوذ بالله" فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول : إني أعيذك من الشيطان الرجيم.
المسألة ج : أعوذ فعل مضارع ، وهو يصلح للحال والاستقبال ، فهل هو حقيقة فيهما ؟
والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال ، وإنما يختص به بحرف السين وسوف.
(
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
د) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل ، ولم يقع بين الحاضر والماضي ؟
.
(هـ) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم.
(و) كيف العامل فيه ، ولا شك أنه معمول فما هو.
(ز) قوله : (أعوذ) يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل ، وهو الكمال ، فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة.
(ح) قوله : (أعوذ) حكاية عن النفس ، ولا بدّ من الأربعة المذكورة في قوله : (أتين).
/ أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة (أ) الباء في قوله : "بالله" باء الإلصاق وفيه مسائل : ـ
المسألة الأولى : البصريون يسمونه باء الإلصاق ، والكوفيون يسمونه باء الآلة ، ويسميه قوم باء التضمين ، واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة ، والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه ، هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سبباً للإلصاق ، وباء الآلة لكونه داخلاً على الشيء الذي هو آلة.
المسألة الثانية : اتفقوا على أنه لا بدّ فيه من إضمار فعل ، فإنك إذا قلت : "بالقلم" لم يكن ذلك كلاماً مفيداً ، بل لا بدّ وأن تقول : "كتبت بالقلم" وذلك يدل على أن هذا الحرف متعلق بمضمر ، ونظيره قوله : "بالله لأفعلن" ومعناه أحلف بالله لأفعلن ، فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه ، فكذا ههنا ، ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره : على اسم الله أي سر على اسم الله.
المسألة الثالثة : لما ثبت أنه لا بدّ من الإضمار فنقول : الحذف في هذا المقام أفصح ، والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله : "أعوذ بالله" بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب ، ويقع في الخاطر أن جميع المهمات ، لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله ، وإلا عند الابتداء باسم الله ، ونظيره أنه قال : "الله أكبر" ولم يقل أنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا.
المسألة الرابعة : قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب ، فإن قيل : كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة ، قلنا : كاف التشبيه قائم مقام الاسم ، وهو في العمل ضعيف ، أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر ، فكان فيه كلاماً قوياً.
المسألة الخامسة : الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف : 9) وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه : أحدها : للإلصاق وهي كقوله : {أَعُوذُ بِاللَّهِ} وقوله : (بسم الله) وثانيها : للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه ، وثالثها : لتأكيد النفي كقوله تعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت : 46) ورابعها : للتعدية كقوله تعالى : {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} أي أذهب نورهم ، وخامسها : الباء بمعنى في قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
حل بأعدائك ما حل بي
أي : حل في أعدائك ، وأما باء القسم ، وهو قوله : "بالله" فهو من جنس باء الإلصاق.
(1/60)

/ المسألة السادسة : قال بعضهم : الباء في قوله : (واسمحوا برؤسكم) زائدة والتقدير : وامسحوا رؤسكم ، وقال الشافعي رضي الله عنه إنها تفيد التبعيض ، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه الأول أن هذه الباء إما أن تكون لغواً أو مفيداً ، والأول باطل ؛ لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد ، وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل ، فثبت أنه يفيد فائدة زائدة/ وكل من قال بذلك قال : إن تلك الفائدة هي التبعيض ، الثاني : أن الفرق بين قوله : "مسحت بيدي المنديل" وبين قوله : "مسحت يدي بالمنديل" يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل. الثالث : أن بعض أهل اللغة قال : الباء قد تكون للتبعيض ، وأنكره بعضهم ، لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض ، ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضاً ، فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس ، وهذا هو قول الشافعي ، والإشكال عليه أنه تعالى قال : (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافياً في التيمم ، وعند الشافعي لا بدّ فيه من الإتمام ، وله أن يجيب فيقول : مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخاً فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل ، وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص.
المسألة السابعة : فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل : إحداها : قال محمد في "الزيادات" : إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق بمشيئة الله تعالى لا يقع الطلاق ، وهو كقوله : أنت طالق إن شاء الله ، ولو قال : لمشيئة الله يقع ، لأنه أخرجه مخرج التعليل ، وكذلك أنت طالق بإرادة الله لا يقع الطلاق ، ولو قال لإرادة الله يقع ، أما إذا قال : أنت طالق بعلم الله أو لعلم الله فإنه يقع الطلاق في الوجهين ، ولا بدّ من الفرق ، وثانيها : قال في كتاب الأَيمان لو قال لامرأته : إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق ، فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه ، ولو قال : إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى ، ولا بدّ من الفرق ، وثالثها : لو قال لامرأته : طلقي نفسك ثلاثاً بألف ، فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء ههنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل ، فصار بإزاء من طلقة ثلث الألف ، ولو قال : طلقي نفسك ثلاثاً على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة "على" كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
قلت : وههنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء.
(أ) قال أبو حنيفة : الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه ، فإذا قال : بعت كذا بكذا ، فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط ، وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال : إذا قال : بعت هذا الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسداً ، وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح ، والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن ، وفي الصورة الثانية الخمر مثمن ، وجعل الخمر ثمناً جائز أما جعله مثمناً فإنه لا يجوز.
(ب) قال الشافعي : إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم ، وعند أبي حنيفة لا يتعين.
(ج) قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة : 111) فجعل الجنة ثمناً للنفس والمال.
ومن أصول الفقه مسائل : (أ) الباء تدل على السببية قال الله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللَّهَ} (الأنفال : 13) ههنا الباء دلت على السببية ، وقيل : إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب.
(ب) إذا قلنا الباء تفيد السببية فيما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية ، لا بدّ من بيانه.
(ج) الباء في قوله : "سبحانك اللهم وبحمدك" لا بدّ من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق ، وكذلك البحث عن قوله : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} (البقرة : 30) فإنه يجب البحث عن هذه الباء.
(د) قيل : كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القران ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلومها في الباء من بسم الله (قلت) لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب ، وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب ، فهو كمال المقصود.
النوع الثالث من مباحث هذه الباب ، مباحث حروف الجر.
فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها : أحدهما : الباء ؛ وثانيهما : لفظ "من" فنقول : في لفظ "من" مباحث : ـ
(1/61)

(أ) أنك تقول : "أخذت المال من ابنك" فتكسر النون ثم تقول : "أخذت المال من الرجل" فتفتح النون ، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة ، وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة ، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل ، فإنه لا / معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات ، فوجب كون هذه الكلمة معربة.
(
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ب) كلمة"من" وردت على وجوه أربعة : إبتداء الغاية ، والتبعيض ، والتبيين ، والزيادة.
(ج) قال المبرد : الأصل هو ابتداء الغاية ، والبواقي مفرعة عليه ، وقال آخرون : الأصل هو التبعيض ، والبواقي مفرعة عليه.
(د) أنكر بعضهم كونها زائدة ، وأما قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم ، ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله.
(هـ) الفرق بين من وبين عن لا بدّ من ذكره قال الشيطان {ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِمْ } (الأعراف : 17) وفيه سؤالان : الأول : لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع بلفظ عن. الثاني : لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال : (أعوذ بالله من الشيطان) ولم يقل عن الشيطان.
النوع الرابع من مباحث هذا الباب : ـ
(أ) الشيطان مبالغة في الشيطنة ، كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة ، والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول ، كما أن الرحيم في حق الله تعالى فعيل بمعنى فاعل ، إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم ، وهذا يقتضي المساواة بينهما ، وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن الله وإبليس أخوان ، إلا أن الله هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل ، وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي ، فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير.
(ب) الإله هل هو رحيم كريم ؟
فإن كان رحيماً كريماً فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد ، وإن لم يكن رحيماً كريماً فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان.
(ج) الملائكة في السموات هل يقولون : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان.
(د) أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ بالله.
(هـ) الأنبياء والصديقون لم يقولون (أعوذ بالله) مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص : 82/ 83).
(و) الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } (إبراهيم : 22) وأما الإنسان فهو الذي /ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم ؟
.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الكتاب الثاني
في مباحث بسم اللّه الرحمن الرحيم وفيه أبواب
الباب الأول
في مسائل جارية مجرى المقدمات وفيه مسائل
متعلق ياء البسملة :
(1/62)

المسألة الأولى : قد بينا أن الباء من (بسم الله الرحمن الرحيم) متعلقة بمضمر ، فنقول : هذا المضمر يحتمل أن يكون اسماً ، وأن يكون فعلاً ، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدماً ، وأن يكون متأخراً ، فهذه أقسام أربعة ، أما إذا كان متقدماً وكان فعلاً فكقولك : أبدأ باسم الله ، وأما إذا كان متقدماً وكان اسماً فكقولك : ابتداء الكلام باسم الله ، وأما إذا كان متأخراً وكان فعلاً فكقولك : باسم الله أبدأ ، وأما إذا كان متأخراً وكان اسماً فكقولك : باسم الله ابتدائي ويجب البحث ههنا عن شيئين : الأول : أن التقديم أولى أم التأخير ؟
فنقول كلاهما وارد في القرآن ، أما التقديم فكقوله : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } (هود : 41) وأما التأخير فكقوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق : 1) وأقول : التقديم عندي أولى ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى قديم واجب الوجود لذاته ، فيكون وجوده سابقاً على وجود غيره ، والسابق بالذات يستحق السبق ، في الذكر ، الثاني : قال تعالى : {هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ} (الحديد : 3) وقال : {لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ } ، (الروم : 4) الثالث : أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم ، الرابع : أنه قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فههنا الفعل متأخر عن الاسم ، فوجب أن يكون في قوله : (بسم الله) كذلك ، فيكون التقدير باسم الله ابتدىء ، الخامس : سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رضي الله عنه يقول : سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول : حضر الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير الميهني مع الأستاذ أبي القاسم القشيري فقال الأستاذ القشيري : المحققون قالوا ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله بعده ، فقال الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير : ذاك مقام المريدين أما المحققون فإنهم ما رأوا شيئًا إلا وكانوا قد رأوا الله قبله ، قلت : وتحقيق الكلام أن الانتقال من المخلوق إلى الخالق إشارة إلى برهان الآن ، والنزول من الخالق إلى المخلوق برهان اللم ، ومعلوم أن برهان اللم أشرف ، وإذا ثبت هذا فمن أضمر الفعل أولاً فكأنه انتقل من رؤية فعله إلى رؤية وجوب الاستعانة باسم الله / ومن قال : (باسم الله) ثم أضمر الفعل ثانياً فكأنه رأى وجوب الاستعانة بالله ثم نزل منه إلى أحوال نفسه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية : إضمار الفعل أولى أم إضمار الاسم ، قال الشيخ أبو بكر الرازي : نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل ، وهو الأمر ، لأنه تعالى قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (ا لفاتحة : 4) والتقدير قولوا إياك نعبد وإياك نستعين ، فكذلك قوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} التقدير قولوا بسم الله ، وأقول : لقائل أن يقول : بل إضمار الاسم أولى ، لأنا إذا قلنا تقدير الكلام بسم الله ابتداء كل شيء كان هذا إخباراً عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث وخالفاً لجميع الكائنات ، سواء قاله قائل أو لم يقله ، وسواء ذكره ذاكر أو لم يذكره ، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى ، وتمام الكلام فيه يجيء في بيان أن الأولى أن يقال قولوا الحمد لله أو الأولى أن يقال الحمد لله ؛ لأنه إخبار عن كونه في نفسه مستحقاً للحمد سواء قاله قائل أو لم يقله.
المسألة الثالثة : الجر يحصل بشيئين : أحدهما : بالحرف كما في قوله : "باسم" والثاني : بالإضافة كما في "الله" من قوله : "باسم الله" وأما الجر الحاصل في لفظ "الرحمن الرحيم" فإنما حصل لكون الوصف تابعاً للموصوف في الإعراب ، فههنا أبحاث : أحدها : أن حروف الجر لم اقتضت الجر ؟
وثانيها : أن الإضافة لم اقتضت الجر ؟
وثالثها : أن اقتضاء الحرف أقوى أو اقتضاء الإضافة ، ورابعها : أن الإضافة على كم قسم تقع ، قالوا إضافة الشيء إلى نفسه محال ، فبقي أن تقع الإضافة بين الجزء والكل/ أو بين الشيء والخارج عن ذات الشيء المنفصل عنه ، أما القسم الأول فنحو "باب حديد ، وخاتم ذهب" لأن ذلك الباب بعض الحديد وذلك الخاتم بعض الذهب ، وأما القسم الثاني فكقولك : "غلام زيد" فإن المضاف إليه مغاير للمضاف بالكلية ، وأما أقسام النسب والإضافات فكأنها خارجة عن الضبط والتعديد ؛ فإن أنواع النسب غير متناهية.
المسألة الرابعة : كون الاسم اسماً للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى ، وتلك النسبة معناها أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص ، فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني ، فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى ، فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى الله تعالى.
(1/63)

المسألة الخامسة : قال أبو عبيد : ذكر الاسم في قوله : "بسم الله" صلة زائدة ، والتقدير بالله قال ، وإنما ذكر لفظة الاسم : إما للتبرك ، وإما ليكون فرقاً بينه وبين القسم ، وأقول / والمراد من قوله : "بسم الله" قوله : ابدؤا بسم الله ، وكلام أبي عبيد ضعيف ؛ أونا لما أمرنا بالابتداء فهذا الأمر إنما يتناول فعلاً من أفعالنا ، وذلك الفعل هو لفظنا وقولنا ، فوجب أن يكون المراد أبدأ بذكر الله ، والمراد أبدأ ببسم الله ، وأيضاً فالفائدة فيه أنه كما أن ذات الله تعالى أشرف الذوات فكذلك ذكره أشرف الأذكار ، واسمه أشرف الأسماء ، فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقاً على كل الأذكار ، وأن يكون اسمه سابقاً على كل الأسماء ، وعلى هذا التقدير فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الثاني
فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة
أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة : ـ
الوقف على كلمات البسملة :
المسألة الأولى : أجمعوا على أن الوقف على قوله : "بسم" ناقص قبيح ، وعلى قوله : "بسم الله" أو على قوله : "بسم الله الرحمن" كاف صحيح ، وعلى قوله : "بسم الله الرحمن الرحيم" تام واعلم أن الوقف لا بدّ وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة ، وهو أن يكون ناقصاً ، أو كافياً أو كاملاً ، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص ، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقاً بما قبله يكون كافياً ، والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعًا عنه يكون وقفاً تاماً.
ثم لقائل أن يقول : قوله : "الحمد لله رب العالمين" كلام تام ، إلا أن قوله : "الرحمن الرحيم ملك" متعلق بما قبله ، لأنها صفات ، والصفات تابعة للموصوفات ، فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف وجعلها وحدها آية فلم لم يقولوا بسم الله الرحمن آية ؟
ثم يقولوا الرحيم آية ثانية ، وإن لم يجز ذلك فكيف جعلوا الرحمن الرحيم آية مستقلة ، فهذا الإشكال لا بدّ من جوابه.
حكم لام الجلالة :
المسألة الثانية : أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله : "بسم الله" وفي قوله : "الحمد لله" والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل ؛ لأن الكسرة توجب التسفل ، واللام المفخمة حرف مستعل ، والانتقال من التسفل إلى التصعد ثقيل ، وإنما استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من هذه الكلمة في حال كونها مرفوعة أو منصوبة كقوله : {اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِه } (الشورى : 19) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) وقوله : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} (التوبة : 111).
المسألة الثالثة : قالوا المقصود من هذا التفخيم أمران : الأول : الفرق بينه وبين لفظ اللام / في الذكر ، الثاني : أن التفخيم مشعر بالتعظيم ، وهذا اللفظ يستحق المبالغة في التعظيم/ الثالث : أن اللام الرقيقة إنما تذكر بطرف اللسان ، وأما هذه اللام المغلظة فإنما تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر فوجب أن يكون أدخل في الثواب ؛ وأيضاً جاء في التوراة يا موسى أجب ربك بكل قلبك ، فههنا كان الإنسان يذكر ربه بكل لسانه ، وهو بدل على أنه يذكره بكل قلبه ، فلا جرم كان هذا أدخل في التعظيم.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء ، وكنسبة السين إلى الصاد ، فإن الدال تذكر بطرف اللسان والطاء تذكر بكل اللسان وكذلك السين تذكر بطرف اللسان والصاد تذكر بكل اللسان ، فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد ، ثم إنا رأينا أن القوم قالوا الدال حرف والطاء حرف آخر ، وكذلك السين حرف والصاد حرف آخر فكان الواجب أيضاً أن يقولوا : اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر ، وأنهم ما فعلوا ذلك ولا بدّ من الفرق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
حكم الإدغام :
المسألة الخامسة : تشديد اللام من قولك : "الله" للإدغام فإنه حصل هناك لامان الأولى : لام التعريف وهي ساكنة والثانية : لام الأصل وهي متحركة ، وإذا التقى حرفان مثلان من الحروف كلها وكان أول الحرفين ساكناً والثاني متحركاً أدغم الساكن في المتحرك ضرورة سواء كانا في كلمتين أو كلمة واحدة ، أما في الكلمتين فكما في قوله : {فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ} ، (البقرة : 16) {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ} ، (النحل : 53) {مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ} (الرعد : 34) وأما في الكلمة الواحدة فكما في هذه الكلمة.
واعلم أن الألف واللام والواو والياء إن كانت ساكنة امتنع اجتماع مثلين ، فامتنع الإدغام لهذا السبب ، وإن كانت متحركة واجتمع فيها مثلان كان الإدغام جائزاً.
(1/64)

المسألة السادسة : لأَرباب الإشارات والمجاهدات ههنا دقيقة ، وهي أن لام التعريف ولام الأصل من لفظة "الله" اجتمعا فأدغم أحدهما في الثاني ، فسقط لام المعرفة وبقي لام لفظة الله ، وهذا كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى حضرة المعروفة سقطت المعرفة وفنيت وبطلت ، وبقي المعروف الأزلي كما كان من غير زيادة ولا نقصان.
مد لام الجلالة :
المسألة السابعة : لا يجوز حذف الألف من قولنا : الله في اللفظ ، وجاز ذلك في ضرورة الشعر عند الوقف عليه ، قال بعضهم : ـ
فأقبل سيل جاء من عند الله
يجود جود الجنة المغله
/ انتهى ، ويتفرع على هذا البحث مسائل في الشريعة : إحداها : أنه عند الحلف لو قال بله فهل ينعقد يمينه أم لا قال بعضهم : لا ؛ لأن قوله بله اسم للرطوبة فلا ينعقد اليمين ، وقال آخرون ينعقد اليمين به لأنه بحسب أصل اللغة جائز ، وقد نوى به الحلف فوجب أن تنعقد وثانيها : لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا ، وثالثها : لو ذكر قوله : "الله" في قوله : "الله أكبر" هل تنعقد الصلاة به أم لا ؟
.
المسألة الثامنة : لم يقرأ أحد الله بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات انتهى.
حكم لام أل :
المسألة التاسعة : تشديد الراء من قوله : "الرحمن الرحيم" لأجل إدغام لام التعريف في الراء ، ولا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام ، وفي ثلاثة عشر حرفاً سواه وهي : الصاد ، والضاد ، والسين ، والشين ، والدال ، والذال ، والراء ، والزاي ، والطاء ، والظاء ، والتاء ، والثاء ، والنون ، انتهى. كقوله تعالى : {التَّـا ئِبُونَ الْعَـابِدُونَ الْحَـامِدُونَ السَّـا اـاِحُونَ الراَّكِعُونَ السَّـاجِدُونَ الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} والعلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج/ فإن اللام وكل هذه الحروف المذكورة مخرجها من طرف اللسان وما يقرب منه ، فحسن الإدغام ، ولا خلاف بين القراء في امتناع إدغام لام التعريف فيما عدا هذه الثلاثة عشر كقوله : {الْعَـابِدُونَ الْحَـامِدُونَ السَّـا اـاِحُونَ الراَّكِعُونَ السَّـاجِدُونَ الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} (التوبة : 112) كلها بالإظهار ، وإنما لم يجز الإدغام فيها لبعد المخرج ، فإنه إذا بعد مخرج الحرف الأول عن مخرج الحرف الثاني ثقل النطق بهما دفعة فوجب تمييز كل واحد منهما عن الآخر ، بخلاف الحرفين اللذين يقرب مخرجاهما ، لأن التمييز بينهما مشكل صعب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة العاشرة : أجمعوا على أنه لا يمال لفظ "الرحمن" وفي جواز إمالته قولان للنحويين : أحدهما : أنه يجوز ، ولعله قول سيبويه ، وعلة جوازه انكسار النون بعد الألف ، والقول الثاني : وهو الأظهر عند النحويين ، أنه لا يجوز.
المسألة الحادية عشرة : أجمعوا على أن إعراب "الرحمن الرحيم" هو الجر لكونهما صفتين للمجرور الأول إلا أن الرفع والنصب جائزان فيهما بحسب النحو ، أما الرفع فعلى تقدير بسم الله هو الرحمن الرحيم ، وأما النصب فعلى تقدير بسم الله أعين الرحمن الرحيم.
النوع الثاني من مباحث هذا الباب ما يتعلق بالخط ، وفيه مسائل : ـ
ما يتعلق بالبسملة قراءة وكتابة :
المسألة الأولى : طولوا الباء من "بسم الله" وما طولوها في سائر المواضع ، وذكروا في الفرق وجهين : الأول : أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ليدل طولها / على الألف المحذوفة التي بعدها ، ألا ترى أنهم لما كتبوا {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق : 1) بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية ، الثاني : قال القتيبي ، إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه طولوا الباء ، وأظهروا السين. ودوروا الميم تعظيماً لكتاب الله.
المسألة الثانية : قال أهل الإشارة والباء حرف منخفض في الصورة فلما اتصال بكتبة لفظ الله ارتفعت واستعلت ، فنرجو أن القلب لما اتصل بخدمة الله عزّ وجلّ أن يرتفع حاله ويعلو شأنه.
المسألة الثالثة : حذفوا ألف "اسم" من قوله : "بسم الله" وأثبتوه في قوله : (إقرأ باسم ربك) والفرق من وجهين : الأول : أن كلمة "باسم الله" مذكروة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال ، فلأجل التخفيف حذفوا الألف ، بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل. الثاني : قال الخليل : إنما حذفت الألف في قوله : "بسم الله" لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن ، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط ، وإنما لم تسقط في قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في (بسم الله) لأنه يمكن حذف الباء من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} مع بقاء المعنى صحيحاً ، فإنك لو قلت إقرأ اسم ربك صح المعنى ، أما لو حذفت الباء من "بسم الله" لم يصح المعنى فظهر الفرق.
(1/65)

المسألة الرابعة : كتبوا لفظة الله بلامين ، وكتبوا لفظة الذي بلام واحدة ، مع استوائهما في اللفظ وفي كثرة الدوران على الألسنة ، وفي لزوم التعريف ، والفرق من وجوه : الأول : أن قولنا : "الله" اسم معرب متصرف تصرف الأسماء ، فأبقوا كتابته على الأصل ، أما قولنا "الذي" فهو مبني لأجل أنه ناقص ؛ لأنه لا يفيد إلا مع صلته فهو كبعض الكلمة ، ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنياً ، فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب ، ألا ترى أنهم كتبوا قولهم : "اللذان" بلامين ، لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف ، فإن الحرف لا يثنى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الثاني : أن قولنا : "الله" لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله إله ، وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا الذي.
الثالث : أن تفخيم ذكر الله في اللفظ واجب/ فكذا في الخط ، والحذف ينافي التفخيم وأما قولنا : "الذي" فلا تفخيم له في المعنى فتركوا أيضاً تفخيمه في الخط.
/ المسألة الخامسة : إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا : "الله" في الخط لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة ، وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة.
المسألة السادسة : قالوا : الأصل في قولنا : "الله" الإله ، وهي ستة حروف ، فلما أبدلوه بقولهم : "الله" بقيت أربعة أحرف في الخط : همزة ، ولامان ، وهاء ؛ فالهمزة من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان ، والهاء من أقصى الحلق ، وهو إشارة إلى حالة عجيبة ، فإن أقصى الحلق مبدأ التلفظ بالحروف ، ثم لا يزال يترقى قليلاً قليلاً إلى أن يصل إلى طرف اللسان ثم يعود إلى الهاء الذي هو في داخل الحلق ، ومحل الروح ، فكذلك العبد يبتدىء من أول حالته التي هي حالة النكرة والجهالة ، ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية ، حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد ، فهو إشارة إلى ما قيل : النهاية رجوع إلى البداية.
المسألة السابعة : إنما جاز حذف الألف قبل النون من "الرحمن" في الخط على سبيل التخفيف ، ولو كتب بالألف حسن ، ولا يجوز حذف الياء من الرحيم ، لأن حذف الألف من الرحمن لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس ، بخلاف حذف الياء من الرحيم.
الباب الثالث
من هذا الكتاب في مباحث الاسم ، وهي نوعان
أحدهما : ما يتعلق من المباحث النقلية بالاسم ، والثاني : ما يتعلق من المباحث العقلية بالاسم.
النوع الأول : وفيه مسائل : ـ
لغات الاسم :
المسألة الأولى : في هذا اللفظ لغتان مشهورتان ، تقول العرب : هذا اسمه وسمه ، قال : باسم الذي في كل سورة سمه.
وقيل : فيه لغتان غيرهما سم وسم ، قال الكسائي : إن العرب تقول تارة اسم بكسر الألف وأخرى بضمه ، فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسر الألف سم ، وقال الذين لغتهم ضم الألف سم ، وقال ثعلب : من جعل أصله من سما يسمى قال اسم وسم ، ومن جعل أصله من سما يسمو قال اسم وسم ، وقال المبرد : سمعت العرب تقول اسمه واسمه وسمه وسمه وسماه.
/المسألة الثانية : أجمعوا على أن تصغير الاسم سمي وجمعه أسماء وأسامي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
اشتقاق الاسم :
المسألة الثالثة : في اشتقاقه قولان : قال البصريون : هو مشتق من سما يسمو إذا علا وظهر ، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر ذلك الشيء به ، وأقول : اللفظ معرف للمعنى ، ومعرف الشيء متقدم في المعلومية على المعرف ، فلا جرم كان الاسم عالياً على المعنى ومتقدماً عليه ، وقال الكوفيون : هو مشتق من وسم يسم سمة ، والسمة العلامة ، فالاسم كالعلامة المعرفة للمسمى ، حجة البصريين لو كان اشتقاق الاسم من السمة لكان تصغيره وسيماً وجمعه أوساماً.
المسألة الرابعة : الذين قالوا اشتقاقه من السمة قالوا أصله من وسم يسم ، ثم حذف منه الواو ، ثم زيد فيه ألف الوصل عوضاً عن المحذوف كالعدة والصفة والزنة ، أصله الوعد والوصف والوزن ، أسقط منها الواو ، وزيد فيها الهاء ، وأما الذين قالوا اشتقاقه من السمو وهو العلو ، فلهم قولان : الأول : أن أصل الاسم من سما يسمو وسما يسمي ، والأمر فيه اسم : كقولنا ادع من دعوت ، أو اسم مثل ارم من رميت ، ثم إنهم جعلوا هذه الصيغة اسماً وأدخلوا عليها وجوه الإعراب ، وأخرجوها عن حد الأفعال ، قالوا : وهذا كما سموا البعير يعملا ، وقال الأخفش : هذا مثل الآن فإن أصله آن يئين إذا حضر ، ثم أدخلوا الألف واللام على الماضي من فعله ، وتركوه مفتوحاً ، والقول الثاني : أصله سمو مثل حمو ، وإنما حذفت الواو من آخره استثقالاً لتعاقب الحركات عليها مع كثرة الدوران/ وإنما أعربوا الميم لأنها صارت بسبب حذف الواو آخر الكلمة فنقل حركة الواو إليها ، وإنما سكنوا السين لأنه لما حذفت الواو بقي حرفان أحدهما ساكن والآخر متحرك ، فلما حرك الساكن وجب تسكين المتحرك ليحصل الاعتدال ، وإنما أدخلت الهمزة في أوله لأن الابتداء بالساكن محال ، فاحتاجوا إلى ذكر ما يبتدأ به ، وإنما خصت الهمزة بذلك لأنها من حروف الزيادة.
(1/66)

مسائل الاسم العقلية :
النوع الثاني : من مباحث هذه الباب ، المسائل العقلية : ـ
فنقول : أما حد الاسم وذكر أقسامه وأنواعه ، فقد تقدم ذكره في أول هذا الكتاب وبقي ههنا مسائل : ـ
المسألة الأولى : قالت الحشوية والكرامية والأشعرية : الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة : الاسم غير المسمى ونفس التسمية ، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية.
وقبل الخوض في ذكر الدلائل لا بدّ من التنبيه على مقدمة ؛ وهي أن قول القائل : "الاسم / هل هو نفس المسمى أم لا" يجب أن يكون مسبوقاً ببيان أن الاسم ما هو ، وأن المسمى ما هو ، حتى ينظر بعد ذلك في أن الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ، فنقول : إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة ، وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها ، وتلك الحقائق بأعيانها ، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى ، والخوض في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثاً ، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى ، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم هو المسمى معناه أن ذات الشيء عين الشيء ، وهذا وإن كان حقاً إلا أنه من باب إيضاح الواضحات وهو عبث ، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية : اعلم أنا استخرجنا لقول من يقول الاسم نفس المسمى تأويلاً لطيفاً دقيقاً ، وبيانه أن الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين ، ولفظ الاسم كذلك ، فوجب أن يكون لفظ الاسم إسماً لنفسه ، فيكون لفظ الاسم مسمى بلفظ الاسم ، ففي هذه الصورة الاسم نفس المسمى ، إلا أن فيه إشكالاً ، وهو أن كون الاسم إسماً للمسمى من باب الاسم المضاف ، وأحد المضافين لا بدّ وأن يكون مغايراً للآخر.
المسألة الثالثة : في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى ، وفيه وجوه : ـ
الأول : أن الاسم قد يكون موجوداً مع كون المسمى معدوماً ، فإن قولنا : "المعدوم منفي" معناه سلب لا ثبوت له ، والألفاظ موجودة مع أن المسمى بها عدم محض ونفي صرف ، وأيضاً قد يكون المسمى موجوداً والاسم معدوماً مثل الحقائق التي ما وضعوا لها أسماء معينة ، وبالجملة فثبوت كل واحد منهما حال عدم الآخر معلوم مقرر وذلك يوجب المغايرة.
الثاني : أن الأسماء تكون كثيرة مع كون المسمى واحد كالأسماء المترادفة ، وقد يكون الاسم واحداً والمسميات كثيرة كالأسماء المشتركة ، وذلك أيضاً يوجب المغايرة.
الثالث : أن كون الاسم إسماً للمسمى وكون المسمى مسمى بالاسم من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية ، وأحد المضافين مغاير للآخر ولقائل أن يقول : يشكل هذا بكون الشيء عالماً بنفسه.
الرابع : الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات ، وتلك الأصوات أعراض غير باقية ، والمسمى قد يكون باقياً ، بل يكون واجب الوجود لذاته.
/ الخامس : أنا إذا تلفظنا بالنار والثلج فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا ، فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج ، وذلك لا يقوله عاقل.
السادس : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وقوله صلى الله عليه وسلّم : "إن لله تعالى تسعة وتسعين إسماً" فههنا الأسماء كثيرة والمسمى واحد/ وهو الله عزّ وجلّ.
السابع : أن قوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ} وقوله : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال.
الثامن : أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا إسم الله ، وبين قولنا اسم الاسم ، وبين قولنا الله الله ، وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى.
التاسع : أنا نصف الأسماء بكونها عربية وفارسية فنقول : الله اسم عربي ، وخداي اسم فارسي ، وأما ذات الله تعالى فمنزه عن كونه كذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
العاشر : قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 180) أمرنا بأن ندعو الله بأسمائه فالاسم آلة الدعاء ، والمدعو هو الله تعالى ، والمغايرة بين ذات المدعو وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة.
واحتج من قال الاسم هو المسمى بالنص ، والحكم ، أما النص فقوله تعالى : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (الرحمن : 78) والمتبارك المتعالى هو الله تعالى لا الصوت ولا الحرف ، وأما الحكم فهو أن الرجل إذا قال : زينب طالق ، وكان زينب إسماً لامرأته وقع عليها الطلاق ، ولو كان الاسم غير المسمى لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة ، فكان يجب أن لا يقع الطلاق عليها.
والجواب عن الأول أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه تعالى منزهاً عن النقائص والآفات ، فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله تعالى وصفاته عن العبث والرفث وسوء الأدب.
وعن الثاني أن قولنا زينب طالق معناه أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق ، فلهذا السبب وقع الطلاق عليها.
(1/67)

المسألة الرابعة : التسمية عندنا غير الاسم ، والدليل عليه أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة ، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته ، وأما الاسم فهو عبارة عن تلك اللفظة المعينة. والفرق بينهما معلوم بالضرورة.
الاسم أسبق من الفعل وضعا :
المسألة الخامسة : قد عرفت أن الألفاظ الدالة على تلك المعاني تستتبع ذكر الألفاظ / الدالة على ارتباط بعضها بالبعض ، فلهذا السبب الظاهر وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف ، فأما الأفعال والأسماء فأيهما أسبق ؟
الأظهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال ، ويدل عليه وجوه : ـ
الأول : أن الاسم لفظ دال على الماهية ، والفعل لفظ دال على حصول الماهية بشيء من الأشياء في زمان معين ، فكان الاسم مفرداً والفعل مركباً ، والمفرد سابق على المركب بالذات والرتبة ، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر واللفظ.
الثاني : أن الفعل يمتنع التلفظ به إلا عند الإسناد إلى الفاعل ، أما اللفظ الدال على ذلك الفاعل فقد يجوز التلفظ به من غير أن يسند إليه الفعل ، فعلى هذا الفاعل غني عن الفعل ، والفعل محتاج إلى الفاعل ، والغني سابق بالرتبة على المحتاج ، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر.
الثالث : أن تركيب الاسم مع الاسم مفيد ، وهو الجملة المركبة من المبتدأ والخير ، أما تركيب الفعل مع الفعل فلا يفيد ألبتة ، بل ما لم يحصل في الجملة الاسم لم يفد ألبتة ، فعلمنا أن الاسم متقدم بالرتبة ، على الفعل ، فكان الأظهر تقدمه عليه بحسب الوضع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
تقدم اسم الجنس على المشتق وضعا :
المسألة السادسة : قد علمت أن الاسم قد يكون اسماً للماهية من حيث هي هي ، وقد يكون إسماً مشتقاً وهو الاسم الدال على كون الشيء موصوفاً بالصفة الفلانية كالعالم والقادر ، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على المشتقات ، لأن الماهيات مفردات والمشتقات مركبات والمفرد قبل المركب.
المسألة السابعة : يشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها ؛ لأنا لا نعرف الذوات إلا بواسطة الصفات القائمة بها/ والمعرف معلوم قبل المعرف والسبق في المعرفة يناسب السبق في الذكر.
أقسام أسماء المسميات :
المسألة الثامنة : في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات : اعلم أنها تسعة ، فأولها : الاسم الواقع على الذات ، وثانيها : الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزاء ذاته كما إذا قلنا للجدار أنه جسم وجوهر ، وثالثها : الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية ، ورابعها : الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية فقط كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومذكور ومالك ومملوك ، وخامسها : الاسم الواقع على الشيء بحسب حالة سلبية كقولنا إنه أعمى وفقير وقولنا إنه سليم عن الآفات خالٍ / عن المخافات ، وسادسها : الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات ، وسابعها : الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً. وثامنها : الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية مع صفة سلبية مثل لفظ الأول فإنه عبارة عن مجموع أمرين : أحدهما : أن يكون سابقاً على غيره وهو صفة إضافية. والثاني : أن لا يسبقه غيره وهو صفة سلبية ، ومثل القيوم فإن معناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره فقيامه بنفسه أنه لا يحتاج إلى غيره وتقويمه لغيره احتياج غيره إليه ، والأول : سلب ، والثاني : إضافة ، وتاسعها : الاسم الواقع على الشيء بحسب مجموع صفة حقيقية وإضافية وسلبية ، فهذا هو القول في تقسيم الأسماء ، وسواء كان الاسم إسماً لله سبحانه وتعالى أو لغيره من أقسام المحادثات فإنه لا يوجد قسم آخر من أقسام الأسماء غير ما ذكرناه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة التاسعة : في بيان أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟
اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الآلهية.
المقدمة الأولى : أنه تعالى مخالف لخلقه ، لذاته المخصوصة لا لصفة ، والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب ، وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذٍ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بدّ وأن يكون لصفة زائدة ، فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر ألبتة فحينئذٍ لزم رجحان الجائز لا لمرجح ، وإن كان لأمر آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان ، فإن قيل ؛ هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل وهو محال.
(1/68)

المقدمة الثانية : أنا نقول : إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ، لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي ، وذاته المخصوصة أمر ثابت ، والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة ، وأيضاً فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية ، لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية ، وذاته ذات قائمة بنفسها والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة.
المقدمة الثالثة : في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة ، ويدل عليه وجوه : ـ
الأول : أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة الله تعالى إلا أحد أمور : / أربعة : إما العلم بكونه موجوداً ، وإما العلم بدوام وجوده ، وإما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية ، وإما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية ، وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة ؛ فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده/ وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضاً مغايرة لدوام وجوده ، وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية ، وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة ، ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر.
الثاني : أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور أمراً من الأمور إلا من طرق أمور أربعة : أحدها : الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس ، وثانيها : الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم ، وثالثها : الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان ، ورابعها : الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة ، فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي ، فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام ، ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الثالث : أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة ، وهذا معدوم فذاك معدوم ، فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر.
المقدمة الرابعة : في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم.
المقدمة الخامسة : في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم ؟
الإنصاف أن هذه المباحث صعبة ، والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي ، وقال بعضهم : عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية ، والحق تعالى غير متناهٍ ، والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو الله تعالى ، وأعظم العلوم علم الله سبحانه وتعالى ، وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم ، فعلى هذا لا يعرف الله إلا الله.
المقدمة السادسة : اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين : معرفة عرضية ، ومعرفة ذاتية : أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناء علمنا بأنه لا بدّ له من بان ، فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته ، وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات ، فوجود البناء لا يدل عليه ، وأما / المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا ، وعرفنا الحرارة بلمسنا ، وعرفنا الصوت بسمعنا ، فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة ، ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية ، إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا الله تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية ، فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع فيالغلط.
المقدمة السابعة : اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو ـ أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية ـ يقع في الشاهد على نوعين : أحدهما : العلم ، والثاني : الإبصار ، فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين ، فعلمنا أن العلم غير ، وأن الأبصار غير ، إذا عرفت هذا فنقول : بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار ؟
هذا أيضاً مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه ، وبتقدير أن يكون هناك طريقان : أحدهما : المعرفة ، والثاني : الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة ؟
كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها البتة ، فهذا هو الكلام في هذه المقدمات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/69)

المسألة العاشرة : في أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟
نقل عن قدماء الفلاسفة إنكاره ، قالوا : والدليل عليه أن المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمى فلو كان لله بحسب ذاته اسم لكان المراد من وضع ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمى ، فإذا ثبت أن أحداً من الخلق لا يعرف ذاته المخصوصة البتة لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة ، فثبت أن هذا النوع من الاسم مفقود ، فعند هذا قالوا : إنه ليس لتلك الحقيقة اسم ، بل له لوازم معرفة ، وتلك اللوازم هي أنه الأزلي الذي لا يزول ، وأنه الواجب الذي لا يقبل العدم ، وأما الذين قالوا إنه لا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يشرف بعض المقربين من عباده بأن يجعله عارفاً بتلك الحقيقة المخصوصة قالوا : إذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ لا يمتنع وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ، فثبت أن هذه المسألة مبنية على تلك المقدمات السابقة.
المسألة الحادية عشرة : بتقدير أن يكون وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً وجب القطع بأن ذلك الاسم أعظم الأسماء ، وذلك الذكر أشرف الأذكار ، لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، وشرف الذكر بشرف المذكور ، فلما كان ذات الله تعالى أشرف المعلومات والمذكورات / كان العلم به أشرف العلوم ، وكان ذكر الله أشرف الأذكار ، وكان ذلك الاسم أشرف الأسماء وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة ، وهو اسم الله الأعظم ، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانيات والروحانيات.
اسم الله الأعظم :
المسألة الثانية عشرة : القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه : ـ
الأول : قول من يقول إن ذلك الاسم الأعظم هو قولنا : (ذو الجلال والإكرام) وورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام : "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" وهذا عندي ضعيف ، لأن الجلال إشارة إلى الصفات السلبية ، والإكرام إشارة إلى الصفات الإضافية ، وقد عرفت أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات.
والقول الثاني : قول من يقول أنه هو (الحي القيوم) لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ابن كعب : ما أعظم آية في كتاب الله تعالى ؟
فقال : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (البقرة : 255) فقال : "ليهنك العلم أبا المنذر" وعندي أنه ضعيف ، وذلك لأن الحي هو الدراك الفعال ، وهذا ليس فيه كثرة عظمة لأنه صفة ، وأما القيوم فهو مبالغة في القيام ، ومعناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره ، فكونه قائماً بنفسه مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره ، وكونه مقوماً لغيره صفة إضافية فالقيوم لفظ دال على مجموع سلب وإضافة ، فلا يكون ذلك عبارة عن الاسم الأعظم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
القول الثالث : قول من يقول : أسماء الله كلها عظيمة مقدسة ، ولا يجوز وصف الواحد منها بأنه أعظم ؛ لأن ذلك يقتضي وصف ما عداه بالنقصان ، وعندي أن هذا أيضاً ضعيف لأنا بينا أن الأسماء منقسمة إلى الأقسام التسعة ، وبينا أن الاسم الدال على الذات المخصوصة يجب أن يكون أشرف الأسماء وأعظمها ، وإذا ثبت هذا بالدلائل فلا سبيل فيه إلى الإنكار.
القول الرابع : أن الاسم الأعظم هو قولنا : "الله" وهذا هو الأقرب عندي لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه ، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة.
المسألة الثالثة عشرة : أما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزاء ماهية المسمى فهذا في حق الله تعالى محال ، لأن هذا إنما يتصور في حق من كانت ماهيته مركبة من الأجزاء وذلك في حق الله محال ، لأن كل مركب فإنه محتاج إلى جزئه ، وجزؤه غيره فكل مركب فإنه محتاج إلى غيره ، وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن/ ينتج أن كل مركب فهو ممكن لذاته ، فما لا / يكون ممكناً لذاته امتنع أن يكون مركباً ، وما لا يكون مركباً امتنع أن يحصل له اسم بحسب جزء ماهيته.
المسألة الرابعة عشرة : اعلم أنا بينا أن الاسم الدال على الذات هل هو حاصل في حق الله تعالى أم لا ، قد ذكرنا اختلاف الناس فيه ، وأما الاسم الدال بحسب جزء الماهية فقد أقمنا البرهان القاطع على امتناع حصوله في حق الله تعالى ، فبقيت الأقسام السبعة فنقول : أما الاسم الدال على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود ، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات ذلك الوجود ، ونحن نذكر المسائل المفرعة على هذه الأقسام والله الهادي.
الباب الرابع
في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية
قد عرفت أن هذا البحث ينقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول : الأسماء الدالة على الوجود وفيه مسائل : ـ
تسمية الله بالشيء :
المسألة الأولى : أطبق الأكثرون على أنه يجوز تسمية الله تعالى باسم الشيء ونقل عن جهم بن صفوان أن ذلك غير جائز ، أما حجة الجمهور فوجوه : ـ
(1/70)

الحجة الأولى : قوله تعالى : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه } (الأنعام : 19) وهذا يدل على أنه يجوز تسمية الله باسم الشيء ، فإن قيل : لو كان الكلام مقصوراً على قوله : {قُلِ اللَّهُ} لكان دليلكم حسناً ، لكن ليس الأمر كذلك بل المذكور هو قوله تعالى : {قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } (الأنعام : 19) وهذا كلام مستقل بنفسه ، ولا تعلق له بما قبله ، وحينئذٍ لا يلزم أن يكون الله تعالى مسمى باسم الشيء قلنا : لما قال : {أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةً } ثم قال : {قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } وجب أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الجواب عن قوله : {أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةً } وحينئذٍ يلزم المقصود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثانية : قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 8.) والمراد بوجهه ذاته ، ولو لم تكن ذاته شيئاً لما جاز استثنائه عن قوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} وذلك يدل على أن الله تعالى مسمى بالشيء.
الحجة الثالثة : قوله عليه السلام في خبر عمران بن الحصين : "كان الله ولم يكن شيء غيره" وهذا يدل على أن اسم الشيء يقع على الله تعالى.
الحجة الرابعة : روى عبد الله الأنصاري في الكتاب الذي سماه "بالفاروق" عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "ما من شيء أغير من الله عزّ وجلّ".
/ الحجة الخامسة : أن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، وذات الله تعالى كذلك ، فيكون شيئاً.
واحتج جهم بوجوه : الحجة الأولى : قوله تعالى : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الزمر : 62) وكذلك قوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ } (المائدة : 17) فهذا يقتضي أن يكون كل شيء مخلوقاً ومقدوراً ، والله تعالى ليس بمخلوق ولا مقدور ، ينتج أن الله سبحانه وتعالى ليس بشيء. فإن قالوا إن قوله تعالى : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} وقوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ } عام دخله التخصيص ، قلنا الجواب عنه من وجهين : الأول : أن التخصيص خلاف الأصل ، والدلائل اللفظية يكفي في تقريرها هذا القدر ، الثاني : أن الأصل في جواز التخصيص هو أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل ، فلهذا السبب جوزوا دخول التخصيص في العموميات ، إلا أن إجراء الأكثر مجرى الكل إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج عن الحكم حقيراً قليل القدر فيجعل وجوده كعدمه ، ويحكم على الباقي بحكم الكل ، فثبت أن التخصيص إنما يجوز في الصورة التي تكون حقيرة ساقطة الدرجة إذا عرفت هذا فنقول : إن بتقدير أن يكون الله تعالى مسمى بالشيء كان أعظم الأشياء وأجلها هو الله تعالى ، فامتنع أن يحصل فيه جواز التخصيص ، فوجب القول بأن ادعاء هذا التخصيص محال.
الحجة الثانية : قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى : 11) حكم الله تعالى بأن مثل مثله ليس بشيء ، ولا شك أن كل شيء مثل لمثل نفسه ، وثبت بهذه الآية أن مثل مثله ليس بشيء ينتج أنه تعالى غير مسمى بالشيء ، فإن قالوا إن الكاف زائدة ، قلنا هذا الكلام معناه أن هذا الحرف من كلام الله تعالى لغو وعبث وباطل ، ومعلوم أن هذا الكلام هو الباطل ، ومتى قلنا إن هذا الحرف ليس بباطل صارت الحجة التي ذكرناها في غاية القوة والكمال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثالثة : لفظ الشيء لا يفيد صفة من صفات الجلال والعظمة والمدح والثناء ، وأسماء الله تعالى يجب كونها كذلك ينتج أن لفظ الشيء ليس اسماً لله تعالى : أما قولنا إن اسم الشيء لا يفيد المدح والجلال فظاهر ، وذلك لأن المفهوم من لفظ الشيء قدر مشترك بين الذرة الحقيرة وبين أشرف الأشياء ، وإذا كان كذلك كان المفهوم من لفظ الشيء حاصلاً في أخس الأشياء وذلك يدل على أن اسم الشيء لا يفيد صفة المدح والجلال ، وأما قولنا : إن أسماء الله يجب أن تكون دالة على صفة المدح والجلال ، فالدليل ليه قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـا اـاِه } (الأعراف : 180) والاستدلال بالآية أن كون الأسماء حسنة لا معنى له إلا كونها دالة على الصفات الحسنة الرفيعة الجليلة ، فإذا لم يدل الاسم على هذا المعنى لم يكن / الاسم حسناً ثم أنه تعالى أمرنا بأن ندعوه بهذه الأسماء ثم قال بعد ذلك {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـا اـاِه } وهذا كالتنبيه على أن من دعاه بغير تلك الأسماء الحسنة فقد ألحد في أسماء الله ، فتصير هذه الآية دالة دلالة قوية على أنه ليس للعبد أن يدعو الله إلا بالأسماء الحسنى الدالة على صفات الجلال والمدح ، وإذا ثبت هاتان المقدمتان فقد حصل المطلوب.
(1/71)

الحجة الرابعة : أنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا عن أحد من الصحابة أنه خاطب الله تعالى بقوله يا شيء ، وكيف يقال ذلك وهذا اللفظ في غاية الحقارة ، فكيف يجوز للعبد خطاب الله بهذا لاسم ، بل نقل عنهم أنهم كانوا يقولون : يا منشىء الأشياء ، يا منشىء الأرض والسماء.
واعلم أن من الناس من يظن أن هذا البحث واقع في المعنى ، وهذا في غاية البعد ، فإنه لا نزاع في أن الله تعالى موجود وذات وحقيقة ، إنما النزاع في أنه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه ، فهذا نزاع في مجرد اللفظ لا في المعنى ، ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق ، فليكن الإنسان عالماً بهذه الدقيقة حتى لا يقع في الغلط.
إطلاق لفظ الموجود على الله :
المسألة الثانية : في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى ؟
اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة ، وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك على معيين : أحدهما : أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور ، ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به ، والثاني : أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه ، واعلم أن بين الأمرين ، فرقاً ، وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلاً في نفسه ، ولا ينعكس ، لأن كونه حاصلاً في نفسه لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان : لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلاً في نفسه مع أنه لا يكون معلوماً لأحد ، بقي ههنا بحث ، وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولاً للإدراك والوجدان ثم نقل ثانياً إلى حصول الشيء في نفسه/ أو الأمر فيه بالعكس ، أو وضعا معاً ؟
فنقول : هذا البحث لفظي ، والأقرب هو الأول ، لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه ، فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقاً على وضعه لحصول الشيء نفسه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى يكون على وجهين : أحدهما : كونه معلوماً مشعوراً به ، والثاني : كونه في نفسه ثابتاً متحققاً ، أما بحسب المعنى / الأول فقد جاء في القرآن قال الله تعالى : {لَوَجَدُوا اللَّهَ} (النساء : 64) ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان ، وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن.
فإن قالوا : لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدماً محضاً لما كان الأمر كذلك.
فنقول : هذا ضعيف من وجهين : الأول : أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت ؛ لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوماً ، والثاني : أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ ، فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر ، ثم نقول : ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به.
فإن قالوا : ألستم قلتم إن أسماء الله تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء ، ولفظ الموجود لا يفيد ذلك ؟
.
قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع ، وأيضاً فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود ، أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم البتة ، فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى. الثاني : أن لفظ الموجود بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء ، لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد موجود عند كل أحد واجب الإقرار به عند كل عقل ، فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه ، فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء.
معنى قولنا ذات الله :
المسألة الثالثة : في الذات : روى عبد الله الأنصاري الهروي في الكتاب الذي سماه "بالفاروق" أخباراً تدل على هذا اللفظ : أحدها : عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن من أعظم الناس أجراً الوزير الصالح من أمير يطيعه في ذات الله" ، وثانيها : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله" ، وثالثها : عن كعب بن عجرة عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لا تسبوا علياً فإنه كان مخشوشاً في ذات الله" ، ورابعها : عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الجهاد أفضل ؟
قال : "أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله" وخامسها : عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "أن للشيطان مصايد وفخوخاً منها البطر بأنعم الله ، والفخر بعطاء الله ، والكبر على عباد الله ، واتباع الهوى في غير ذات الله".
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/72)

وأقول : إن كل شيء حصل به أمر من الأمور فإن كان اللفظ الدال على ذلك الشيء مذكراً قيل إنه ذو ذلك الأمر ، وإن كان مؤنثاً قيل إنها ذات ذلك الأمر ، فهذه اللفظة وضعت لإفادة هذه النسبة والدلالة على ثبوت هذه الإضافة ، إذا عرفت هذا فنقول : إنه من المحال أن تثبت هذه الصفة لصفة ثانية ، وتلك الصفة الثانية تثبت لصفة ثالثة ، وهكذا إلى غير النهاية ، بل لا بدّ وأن تنتهي إلى حقيقة واحدة قائمة بنفسها مستقلة بماهيتها ، وحينئذٍ يصدق على تلك الحقيقة أنها ذات تلك الصفات ، فقولنا : "إنها ذات كذا وكذا إنما يصدق في الحقيقة على تلك الماهية القائمة بنفسها/ فلهذا السبب جعلوا هذه اللفظة كاللفظة المفردة الدالة على هذه الحقيقة ، ولما كان الحق تعالى قيوماً في ذاته كان إطلاق اسم الذات عليه حقاً وصدقاً ، وأما الأخبار التي رويناها عن الأنصاري الهروي فإن شيئاً منها لا يدل على هذا المعنى ؛ لأنه ليس المراد من لفظ الذات فيها حقيقة الله تعالى وماهيته ، وإنما لمراد منه طلب رضوان الله ، ألا ترى أنه قال : "لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله" أي : في طلب مرضاة الله ، وهكذا الكلام في سائر الأخبار.
إطلاق لفظ النفس على الله :
المسألة الرابعة : في لفظ النفس ، وهذا اللفظ وارد في القرآن ، قال تعالى : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } (المائدة : 116) وقال : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } (آل عمران : 28) وعن عائشة قالت : كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم فقدته ، فطلبته ، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد ، وهو يقول : "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك ، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يقول الله تعالى : أنا مع عبدي حين يذكرني ، فإن ذكرني في في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ، وإن جاءني يمشي جئته أهرول" والخبر الثالث : عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي" والخبر الرابع : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى ، ومن أجل ذلك مدح نفسه ، وليس أحد أغير من الله ، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ، وليس أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل". الخبر الخامس : عن عائشة رضي الله عنها أن / النبي صلى الله عليه وسلّم علمها هذا التسبيح : سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ومداد كلماته ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه. الخبر السادس : روى أبو ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالى أنه قال : "حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا" وتمام الخبر مشهور. الخبر السابع : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ ذات يوم على المنبر
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/73)

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } (انعام : 91) ثم أخذ يمجد الله نفسه : أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا العزيز أنا الكريم ، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلّم المنبر حتى خفنا سقوطه. الخبر الثامن : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى : أنت الذي أشقيت الناس فأخرجتهم من الجنة ، قال آدم : أنت الذي اصطفاك الله برسالته ، واصطنعك لنفسه ، وأنزل عليك التوراة ، فهل وجدت كتبته على قبل أن يخلقني ؟
قال : نعم ، قال فحج آدم موسى ثلاث مرات" الخبر التاسع : عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "يقول الله تعالى : هذا دين ارتضيته لنفسي ، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما". الخبر العاشر : عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه أنه قال : "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، فلا أبالي في أي وادٍ من الدنيا أهلكه ، وأقذفه في جهنم ، وما ترددت في نفسي في قضاء شيء قضيت ترددي في قبض عبدي المؤمن ؛ يكره الموت ولا بدّ له منه وأكره مساءته". الخبر الحادي عشر : عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ـ أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكان حزنه فرحاً". الخبر الثاني عشر : عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين وأن أكسر المعازف والأصنام ، وأقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمراً ثم لم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه الله تعالى من طينة الخبال" فقال : قلت : يا رسول الله ، وما طينة الخبال ؟
قال : "صديد أهل جهنم".
نفس الشيء ذاته وحقيقته :
واعلم أن النفس عبارة عن ذات الشيء ، وحقيقته ؛ وهويته ، وليس عبارة عن الجسم المركب من الأجزاء ، لأن كل جسم مركب ، وكل مركب ممكن ، وكل ممكن محدث ، وذلك / على الله محال فوجب حمل لفظ النفس على ما ذكرناه.
المسألة الخامسة : في لفظ الشخص ، عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "لا شخص أغير من الله ، ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ، ولا شخص أحب إليه المدح من الله".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد من الشخص الجسم الذي له تشخص وحجمية ، بل المراد منه الذات المخصوصة والحقيقة المعينة في نفسها تعيناً باعتباره يمتاز عن غيره.
هل يقال لله "النور" :
المسألة السادسة : في أنه هل يجوز إطلاق لفظ النور على الله ، قال الله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (النور : 35) وأما الأخبار فروى أنه قيل لعبد الله بن عمر : نقل عنك أنك تقول الشقي من شقي في بطن أمه ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "إن الله خلق الخلق في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور شيء فقد اهتدى ، ومن أخطأ فقد ضل" فلذلك أقول : جف القلم على علم الله تعالى.
واعلم أن القول بأن الله تعالى هو هذا النور أو من جنسه قول باطل ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن النور إما أن يكون جسماً أو كيفية في جسم ، والجسم محدث فكيفياته أيضاً محدثة ، وجل الإله عن أن يكون محدثاً. الثاني : أن النور تضاده الظلمة ، والإله منزه عن أن يكون له ضد. الثالث : أن النور يزول ويحصل له أفول ، والله منزه عن الأفول والزوال ، وأما قوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فجوابه أن هذه الآية من المتشابهات ، والدليل عليه ما ذكرناه من الدلائل العقلية ، وأيضاً فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية {مَثَلُ نُورِه } (النور : 35) فأضاف النور إلى نفسه إضافة الملك إلى مالكه ، فهذا يدل على أنه في ذاته ليس بنور ، بل هو خالق النور.
(1/74)

بقي أن يقال : فما المقتضي لحسن إطلاق لفظ النور عليه ؟
فنقول فيه وجوه : الأول : قرأ بعضهم "لله نور السموات والأرض" وعلى هذه القراءة فالشبهة زائلة ، والثاني : أنه سبحانه منور الأنوار ومبدعها وخالقها ؛ فلهذا التأويل حسن إطلاق النور عليه. والثالث : أن بحكمته حصلت مصالح العالم. وانتظمت مهمات الدنيا والآخرة ، ومن كان ناظماً للمصالح وساعياً في الخيرات فقد يسمى بالنور ، يقال : فلان نور هذه البلد ، إذا كان موصوفاً بالصفة المذكورة. والرابع : أنه هو الذي تفضل على عباده بالإيمان والهداية والمعرفة ، وهذه الصفات من جنس الأنوار ويدل عليه القرآن والأخبار : أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية : {نُّورٌ عَلَى نُورٍا يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ } وأما الأخبار فكثيرة : ـ
الخبر الأول : ما روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الخبر الثاني : عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "هل تدرون أي الناس أكيس ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أكثرهم للموت ذكراً ، وأحسنهم له استعداداً قالوا : يا رسول الله ، هل لذلك من علامة ؟
قال : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، فإذا دخل النور في القلب انفسح واتسع للاستعداد قبل نزول الموت".
الخبر الثالث : عن ابن مسعود قال : تلا النبي صلى الله عليه وسلّم قوله تعالى : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه } (الزمر : 22) فقلت : يا رسول الله كيف يشرح الله صدره ؟
قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، فقلت : ما علامة ذلك يا رسول الله ؟
قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت.
الخبر الرابع : عن أنس رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمشي في طريق إذ لقيه حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "كيف أصبحت يا حارثة ؟
قال : أصبحت والله مؤمناً حقاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : أنظر ما تقول ، فإن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟
فقال عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : عرفت فالزم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا" ثم قال : يا رسول الله ، ادع الله لي بالشهادة ، فدعا له ، فنودي بعد ذلك : يا خيل الله اركبي ، فكان أول فارس ركب ، فاستشهد في سبيل الله.
الخبر الخامس : عن ابن عباس رضي الله عنه قال : بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلّم إذ سمع صوتاً من فوقه ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : إن هذا الباب من السماء قد فتح ، وما فتح قط ، فنزل منه ملك فقال : يا محمد أبشر بنورين لم يؤتهما أحد من قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة.
الخبر السادس : عن يعلى بن منبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "يمر المؤمن على الصراط يوم القيامة فتناديه النار : "جز عني يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي".
/ الخبر السابع : عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول : "اللهم بك نصبح ، وبك نمسي ، وبك نحيا وبك نموت ، وإليك النشور ، اللهم اجعلني من أفضل عبادك عندك حظاً ونصيباً ، في كل خير تقسمه اليوم : من نور تهدى به ، أن رحمة تنشرها ، أو رزق تبسطه ، أو ضر تكشفه ، أو بلاء تدفعه ، أو سوء ترفعه ، أو فتنة تصرفها".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الخبر الثامن : عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن أهل الجنة فقال : "أهل الجنة شعث رؤسهم ، وسخة ثيابهم ، لو قسم نور أحدهم على أهل الأرض لوسعهم".
الخبر التاسع : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : أن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم ، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم ، حاجة أحدهم تتلجلج في صدره ، لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم.
الخبر العاشر : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن الله عزّ وجلّ يقول : نوري هداي ، و"لا إله إلا الله" كلمتي/ فمن قالها أدخلته حصني ومن أدخلته حصني فقد أمن.
الخبر الحادي عشر : من هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يدعو "أعوذ بكلمات الله التامة ، وبنوره الذي أشرقت له الأرض وأضاءت به الظلمات ، من زوال نعمتك ، ومن تحول عافيتك ، ومن فجأة نقمتك ، ومن درك الشقاء وشر قد سبق".
الخبر الثاني عشر : عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كاني قول : "اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً" والحديث مشهور.
(1/75)

لفظ الصورة :
المسألة السابعة : في لفظ الصورة ، وفيه أخبار : الخبر الأول : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنهق ال : "إن الله خلق آدم على صورته" وعن بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن" قال إسحاق بن راهويه : صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن".
/ الخبر الثاني : عن معاذ بن جبل قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات غدوة فقال له قائل : ما رأيتك أسفر وجهك مثل الغداة ، قال : "وما أبالي ، ، وقد بدا لي ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟
قلت : أنت أعلم أي ربي ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما في السموات والأرض.
واعلم أن العلماء ذكروا في تأويل هذه الأخبار وجوهًا : الأول : أن قوله : "إن الله خلق آدم على صورته" الضمير عائد إلى المضروب ، يعني أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب ، فوجب الاحتراز عن تقبيح وجه ذلك المضروب. الثاني : أن المراد أن الله خلق آدم على صورته التي كان في آخر أمره ، يعني أنه ما تولد عن نطفة ودم وما كان جنيناً ورضيعاً ، بل خلقه الله رجلاً كاملاً دفعة واحدة الثالث : أن المراد من الصورة الصفة يقال صورة هذا الأمر كذا ، أي : صفته ، فقوله : "خلق الله آدم على صورة الرحمن" أي : خلقه على صفته في كونه خليفة له في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية ، كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إطلاق "الجوهر" على الله لا يجوز :
المسألة الثامنة : الفلاسفة قد يطلقون لفظ "الجوهر" على ذات الله تعالى ، وكذلك النصارى ، والمتكلمون يمتنعون منه ، أما الفلاسفة فقالوا : المراد من الجوهر الذات المستغنى عن المحل والموضوع ، والله تعالى كذلك ، فوجب أن يكون جوهراً ، فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر ، وهو الظهور ، فسمي الجوهر جوهراً لكونه ظاهراً بسبب شخصيته وحجميته ، فكونه جوهراً عبارة عن كونه ظاهر الوجود ، وأما حجميته فليست نفس الجوهر ، بل هي سبب لكونه جوهراً وهو ظهور وجوده ، والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده ، فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو ، وأما المتكلمون فقالوا : أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه.
إطلاق الجسم لا يجوز :
المسألة التاسعة : أطلق أكثر الكرامية لفظ "الجسم" على الله تعالى فقالوا : لا نريد به كونه مركباً مؤلفاً من الأعضاء ، وإنما نريد به كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل وأما سائر الفرق فقد أطبقوا على إنكار هذا الاسم.
ولنا مع الكرامية مقامان : المقام الأول : أنا لا نسلم أنهم أرادوا بكونه جسماً معنى غير الطول والعرض والعمق ، وكيف لا نقول ذلك وأنهم يقولون : أنه تعالى فوق العرش ، ولا يقولون إنه في الصغر مثل الجوهر الفرد ، والجزء الذي لا يتجزأ ، بل يقولون : إنه / أعظم من العرش ، وكان ما كان كذلك كانت ذاته ممتدة من أحد جانبي العرش إلى الجانب الآخر فكان طويلاً عريضاً عميقاً ، فكان جسماً بمعنى كونه طويلاً عريضاً عميقاً/ فثبت أن قولهم إنا أردنا بكونه جسماً معنى غير هذا المعنى كذب محض وتزوير صرف. المقام الثاني : أن نقول : لفظ الجسم لفظ يوهم معنى باطلاً ، وليس في القرآن والأحاديث ما يدل على وروده فوجب الامتناع منه ، لا سيما والمتكلمون قالوا : لفظ الجسم يفيد كثرة الأجزاء بحسب الطول والعرض والعمق ، فوجب أن يكون لفظ الجسم يفيد أصل هذا المعنى.
إطلاق "الأَنية" :
المسألة العاشرة : في إطلاق لفظ "الأنية" على الله تعالى : اعلم أن هذه اللفظة تستعملها الفلاسفة كثيراً ، وشرحه بحسب أصل اللغة أن لفظة "إن" في لغة العرب تفيد التأكيد والقوة في الوجود ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته ، وكان واجب الوجود أكمل الموجودات في تأكد الوجود ، وفي قوة الوجود ، لا جرم أطلقت الفلاسفة بهذا التأويل لفظ الأنية عليه.
إطلاق "الماهية" :
المسألة الحادية عشرة : في إطلاق لفظ الماهية عليه : اعلم أن لفظ "الماهية" ليس لفظاً مفرداً بحسب أصل اللغة ، بل الرجل إذا أراد أن يسأل عن حقيقة من الحقائق فإنه يقول : ما تلك الحقيقة وما هي ؟
وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : أرنا الأشياء كما هي ، فلما كثر السؤال عن معرفة الحقائق بهذه اللفظة جعلوا مجموع قولنا ما هي كاللفظة المفردة ، ووضعوا هذه اللفظة بإزاء الحقيقة فقالوا ماهية الشيء أي حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إطلاق لفظ "الحق" :
المسألة الثانية عشرة : في إطلاق لفظ "الحق" اعلم أن هذا اللفظ إن أطلق على ذات الشيء كان المراد كونه موجوداً وجوداً حقيقياً في نفسه والدليل عليه أن الحق مقابل للباطل والباطل هو المعدوم قال لبيد : ـ
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
(1/76)

فلما كان مقابل الحق هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الموجود ، وأما إن أطلق لفظ الحق على الاعتقاد كان المراد أن ذلك الاعتقاد صواب مطابق للشيء في نفسه ، وإنما سمي هذا الاعتقاد بالحق لأنه إذا كان صواباً مطابقاً كان واجب التقرير والإبقاء ، وأما أن أطلق لفظ الحق على القول والخبر كان المراد أن ذلك الأخبار صدق مطابق لأنه إذا كان كذلك كان ذلك القول واجب التقرير والإبقاء ، إذا ثبت هذا فنقول : إن الله تعالى هو المستحق لاسم الحق ، أما بحسب ذاته فلأنه هو الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله. وأما بحسب / الاعتقاد فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه هو الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير عن هذه الصفة ، وأما بحسب الأخبار والذكر فلأن هذا الخبر أحق الأخبار بكونه صدقاً واجب التقرير ، فثبت أنه تعالى هو الحق بحسب جميع الاعتبارات والمفهومات والله الموفق الهادي.
القسم الثاني : من هذا الباب الأسماء الدالة على كيفية الوجود : ـ
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات عقلية.
كونه تعالى "أزلياً" :
المقدمة الأولى : اعلم أن كونه تعالى أزلياً أبدياً لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له ، وذلك لأنا نقول : كون الشيء دائم الوجود في ذاته إما أن يتوقف على حصوله في زمان أولاً يتوقف عليه ، فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود ، لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزلياً أبدياً من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر ، وأما أن توقف عليه فنقول : ذلك الزمان إما أن يكون أزلياً أو لا يكون فإن كان ذلك الزمان أزلياً فالتقدير هو أن كونه أزلياً لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذٍ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل ، وأما أن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزلياً فحينئذٍ قد كان الله أزلياً موجوداً قبل ذلك الزمان ، وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر ، وهو المطلوب ، فثبت أن كونه تعالى أزلياً لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزلياً.
كونه تعالى "باقياً" :
المقدمة الثانية : أن الشيء كلما كان أزلياً كان باقياً ، لكن لا يلزم من كون الشيء باقياً كونه أزلياً ، ولفظ "الباقي" وورد في القرآن قال الله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن : 27) وأيضاً قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) والذي لا يصير هالكاً يكون باقياً لا محالة ، وأيضاً قال تعالى : {هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ} (الحديد : 3) فجعله أولاً لكل ما سواه ، وما كان أولاً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول ؛ إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولاً لأول نفسه ، ولو كان له آخر لامتنع كونه آخراً لآخر نفسه ، فلما كان أولاً لكل ما سواه وكان آخراً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر ، فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزلياً لا أول له ، أبدياً لا آخر له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المقدمة الثالثة : لو كان صانع العالم محدثاً لافتقر إلى صانع آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال فهو قديم ، وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله ، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.
إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء : ـ
اسمه تعالى "القديم" :
الاسم الأول : القديم ، واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة ، ولا يفيد نفي الأولية يقال : دار قديم إذا طالت مدته ، قال الله تعالى : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يس : 39) وقال : {إِنَّكَ لَفِى ضَلَـالِكَ الْقَدِيمِ} (يوسف : 95).
/ اسمه تعالى الأزلي :
الاسم الثاني : الأزلي ، وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل ، فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات الله فيه ، وهذا باطل ، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات الله مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه ، وهو محال ، بل المراد وجود لا أول له البتة.
عدم أوليته تعالى :
الاسم الثالث : قولنا لا أول له ، وهذا اللفظ صريح في المقصود ، واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية ، قال بعضهم : إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات ، فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدماً إلا أنه في الحقيقة ثبوت ، وقال آخرون : أنه مفهوم عدمي ، لأنه نفي لكون الشيء مسبوقاً بالعدم ، وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقاً بالعدم ، فكونه مسبوقاً بالعدم كيفية ثبوتية ، فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية ، فكان قولنا لا أول مفهوماً عدمياً ، وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقاً بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة ، فكانت مسبوقة بالعدم ، فكان كونها كذلك صفة أخرى ، ولزم التسلسل ، وهو محال.
اسمه تعالى الأبدي والسرمدي :
الاسم الرابع : الأبدي ، وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل.
(1/77)

الاسم الخامس : السرمدي ، واشتقاق هذه اللفظة من السرد ، وهو التوالي والتعاقب ، قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم : "واحد فرد وثلاثة سرد" أي : متعاقبة ، ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى.
إذا عرفت هذا فنقول : الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض ، ولما كان هذا المعنى في حق الله تعالى محالاً كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازاً ، فإن ورد في الكتاب والسنّة أطلقناه وإلا فلا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المستمر :
الاسم السادس : المستمر ، وهذا بناء الاستفعال ، وأصله المرور والذهاب ، ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر ، إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان ، أما في حق الله فهو محال ؛ لأنه باقٍ بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه.
الاسم السابع : الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون قولنا في الشيء ، إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات ، أما في حق الله تعالى فعلى المجاز.
اسمه تعالى الباقي :
/ الاسم الثامن : لفظ الباقي ، قال تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} واعلم أن كل ما كان أزلياً كان باقياً ولا ينعكس ، فقد يكون باقياً ولا يكون أزلياً ولا أبدياً كما في الأجسام والأعراض الباقية ، ومن الناس من قال : لفظ الباقي يفيد الدوام ، وعلى هذا ألا يصح وصف الأجسام بالباقي ، وليس الأمر كذلك ، لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله.
الدائم :
الاسم التاسع : الدائم ، قال تعالى : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} (الرعد : 35) ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو الله كان الدائم.
واجد الوجود :
الاسم العاشر : قولنا : "واجب الوجود لذاته" ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده ، وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء ، واعلم أن ما كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديماً أزلياً ، ولا ينعكس ؛ فليس كل ما كان قديماً أزلياً كان واجب الوجود لذاته ، لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللاً بعلة أزلية أبدية ، فحينئذٍ يجب كونه أزلياً أبدياً بسبب كون علته كذلك ، فهذا الشيء يكون أزلياً أبدياً مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته ، وقولهم بالفارسية "خداي" معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا : "خداي" كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية : إحداهما : خود ، ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته والثانية قولنا : "آي" ومعناه جاء ، فقولنا : "خداي" معناه أنه بنفسه جاء ، وهو إشارة إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره ، وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم : "خداي" أنه لذاته كان موجوداً.
الكائن :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/78)

الاسم الحادي عشر : الكائن ، واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات الله تعالى ، قال الله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} (الكهف : 45) وقال إن الله : {كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء : 24) وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات الله تعالى فهو غير وارد في القرآن ، لكنه وارد في بعض الأخبار ، روي في الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "يا كائناً قبل كل كون ، ويا حاضراً مع كل كون ، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون" أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثاً لطيفاً نحوياً : وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ "كان" على قسمين : أحدهما : الذي يكون تاماً ، وهو بمعنى حدث ووجد وحصل ، قال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران : 110) أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والثاني : الذي يكون ناقصاً كقولك "كان الله عليماً حكيماً" ، فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بدّ له من مرفوع ومنصوب ، واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل ، إلا أنهم قالوا : إنه على الوجه الأول فعل تام ، وعلى الثاني فعل ناقص ، فقلت للقوم : لو كانت هذه اللفظة فعلاً لكان دالاً على حصول حدث في زمان معين / ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذٍ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء ، وحينئذٍ يتم الكلام ، فكان يجب أن يستغنى عن ذكر المنصوب ، وعلى هذا التقدير يصير فعلاً تاماً. فثبت أن القول بأن بهذه الكلمة الناقصة فعل يوجب كونها تامة غير ناقصة ، وما أفضى ثوبته إلى نفيه كان باطلاً ، فكان القول بأن هذه الكلمة ناقصة كلاماً باطلاً ، ولما أوردت هذا السؤال عليهم بقي الأذكياء من النحويين والفضلاء منهم متحيرين فيه زماناً طويلاً ، وما أفلحوا في الجواب ، ثم لما تأملت فيه وجدت الجواب الحقيقي الذي يزيل الشبهة ، وتقريره أن نقول : لفظ "كان" لا يفيد إلا الحدوث والحصول والوجود ، إلا أن هذا على قسمين : منه ما يفيد حدوث الشيء في نفسه ، ومنه ما يفيد موصوفية شي بشيء آخر. أما القسم الأول : فإن لفظ "كان" يتم بإسناده إلى ذلك الشيء الواحد لأنه يفيد أن ذلك الشيء قد حدث وحصل ، وأما القسم الثاني فإنه لا تتم فائدته إلا بذكر الاسمين ، فإنه إذا ذكر كان معناه حصول موصوفية زيد بالعلم ولا يمكن ذكر موصوفية هذا بذاك إلا عند ذكرهما جميعاً ، فلا جرم لا يتم المقصود إلا بذكرهما ، فقولنا : "كان زيد عالماً" ، معناه أنه حدث وحصل موصوفية زيد بالعلم ، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الكون يفيد الحصول والوجود فقط ، إلا أنه في القسم الأول يكفيه إسناده إلى اسم واحد ، وفي القسم الثاني : لا بدّ من ذكر الاسمين ، وهذا من اللطائف النفيسة في علم النحو ، إذا عرفت هذا فنقول : فعلى هذا التقدير لا فرق بين الكائن والموجود فوجب جواز إطلاقه على الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
القسم الثالث : من أقسام الصفات الحقيقية : ـ
الصفة المغايرة للوجود مذهب نفاة الصفات :
الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود.
اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات ذات الله تعالى ؟
فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار ، ويحتجون عليه بوجوه : ـ
الأول : أن تلك الصفة إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بالصفات ، وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين : الأول : أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحداً. الثاني : أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنياً عما سواه ، والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف ، فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال ، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكناً لذاته لوجهين : الأول : أن الممكن لذاته لا بدّ له من سبب ، وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات الله ، لأن / تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة ، وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير. وما كان كذلك كان ممكناً لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكناً لذاته ، وهو محال ، ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى ؛ لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً ، وهو محال ؛ لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد ، والفعل والقبول أثران مختلفان : الثاني : أن الأثر مفتقر إلى المؤثر ، فافتقاره إليه إما أن يكون بعد حدوثه ، أو حال حدوثه ، أو حال عدمه ، والأول باطل. وإلا لكان تأثير ذلك المؤثر في إيجاده تحصيلاً للحاصل ، وهو محال ، فبقي القسمان الأخيران ، وذلك يقتضي أن يكون كلما كان الشيء أثراً لغيره كان حادثاً ، فوجب أن يقال : الشيء الذي لا يكون حادثاً فإنه لا يكون أثراً للغير ، فثبت أن القول بالصفات باطل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/79)

الحجة الثانية : على نفي الصفات : قالوا : إن تلك الصفات إما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه ، فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم ، ويكون كل واحد منهما مخالفاً للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركباً من جزأين ثم نقول : ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديماً لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديماً ، وحينئذٍ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية ، فيلزم كون كل واحد منهما مركباً من جزأين ، وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال ، وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه : الأول : أن قيام الحوادث بذات الله محال ، لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات ، وإن لم تكن كافية فيه فحينئذٍ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها ، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل ، والموقف على الموقوف على الغير موقوف على الغير ، والموقوف على الغير ممكن لذاته ، ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته ، وهو محال. والثاني : أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته ، فحينئذٍ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية ، لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية ؛ لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث ، وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال ، فكان وجود / قابليتها في الأزل محالاً. الثالث : أن تلك الصفات لما كانت حادثة الإله الموصوف بصفات الإلهية موجوداً قبل حدوث هذه الصفات ، فحينئذٍ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية ، فوجب نفيها ، فثبت أن تلك الصفات إما أن تكون حادثة أو قديمة ، وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة.
الحجة الثالثة : أن تلك الصفات إما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم ، فإن كان الأول كان وجودها فضلاً زائداً ، فوجب نفيها ، وإن كان الثاني كان الإله مفتقراً في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر ، والمحتاج لا يكون إلهاً.
الحجة الرابعة : ذاته تعالى إما أن تكون كاملة في جميع الصفات المعتبرة في المدائح والكمالات ، وإما أن لا تكون ، فإن كان الأول فلا حاجة إلى هذه الصفات ، وإن كان الثاني كانت تلك الذات ناقصة في ذاتها مستكملة بغيرها ، وهذه الذات لا يليق بها صفة الإلهية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الخامسة : لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذٍ يكون الإله مجزأ مبعضاً منقسماً ، وذلك بعيد عن العقل ؛ لأن كل مركب ممكن لا واجب.
الحجة السادسة : أن الله تعالى كفر النصارى في التثليث ، فلا يخلو إما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة ، أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات ، والأول لا يقوله النصارى ، فيمتنع أن يقال إن الله كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها ، فبقي الثاني ، وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفراً.
فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات ، وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به.
دلائل مثبتي الصفات :
المسألة الثانية : في دلائل مثبتي القول بالصفات : اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً ، فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا : ذات الله ذات ، وبين قولنا : ذات الله عالمة قادرة ، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات. الثاني : أنه يمكن العلم بكونه موجوداً مع الذهول عن كونه قادراً وعالماً ، وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادراً مع الذهول عن كونه عالماً ، وبالعكس ، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات ، الثالث : أن كونه عالماً عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن ، وكونه قادراً ليس عام التعلق بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة ، بل هو مختص بالجائز فقط ، ولولا / الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك ، الرابع : أن كونه تعالى قادراً يؤثر في وجود المقدور ، وكونه عالماً لا يؤثر ، ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك ، الخامس : أن قولنا : موجود ، يناقضه قولنا : ليس بموجود ، ولا يناقضه قولنا : ليس بعالم ، ولك يدل على أن المنفي بقولنا : ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا : ليس بعالم ، وكذا القول في كونه قادراً.
(1/80)

فهذه دلائل واضحة على أنه لا بدّ من الإقرار بوجود الصفات لله تعالى ، إلا أنه بقي أن يقال : لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من "كونه قادراً" كونه بحيث يصح منه الإيجاد ، وتلك الصحة معللة بذاته ، و"كونه عالماً" معناه الشعور والإدراك ، وذلك حالة نسبية إضافية ، وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة ، وهذا تمام الكلام في هذا الباب.
المسألة الثالثة : أنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية فنقول : الصفة الحقيقية إما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة ، وهي مثل العلم والقدرة ، فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم ، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور ، فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة فنقول : قالت الفلاسفة : الحي هو الدراك الفعال ، إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضاً كذلك ، وحينئذٍ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول ، وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالماً قادراً ، واحتجوا عليه بأن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة ، فلا بدّ وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة ، فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة ، فيقال لهم : قد دللنا على أن ذات الله تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة ، فسقط هذا الدليل ، وأيضاً الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة ، فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى ، ولزم التسلسل ، ولا جواب عنه إلا أن يقال : إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية ، وقال قوم ثالث : معنى كونه حياً أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم ، فهذا عبارة عن نفي الامتناع ، ولكن الامتناع عدم ، فنفيه يكون عدماً للعدم ، فيكون ثوبتاً ، فيقال لهم : هذا مسلم ، لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة ؟
فإن قالوا : الدليل عليه أن نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية ، فوجب أن يكون كونها حية مغايراً / لتلك الذات ، فيقال لهم : قد دللنا على أنا لا نعقل ذات الله تعالى تعقلاً ذاتياً ، وإنما نتعقل تلك الذات تعقلاً عرضياً ، وعند هذا يسقط هذا الدليل ، فهذا تمام الكلام في هذا الباب.
اسمه تعالى الحي :
المسألة الرابعة : لفظ الحي وارد في القرآن ، قال الله تعالى : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (البقرة : 25) وقال : {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ } (طه : 111) وقال : {هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (غافر : 65) فإن قيل : الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر ، وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم ، فما السبب في أن ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم ؟
فالجواب إن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حياً ، بل بمجموع كونه حياً قيوماً. وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما سواه ، وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة ، والحي هو الدراك الفعال ، فقوله : "الحي" يعني كونه دراكاً فعالاً ، وقوله : "القيوم" يعني كونه دراكاً لجميع الممكنات فعالاً لجميع المحدثات والممكنات ، فحصل المدح من هذا الوجه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الخامس
في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية
الاسم الدال على الصفات الإضافية :
اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة عقلية ، وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا ؟
قالت المعتزلة والأشعرية : التكوين نفس المكون ، وقال آخرون إنه غيره/ واحتج النفاة بوجوده : ـ
الحجة الأولى : أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب ، فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير ، وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجباً بالذات لا فاعلاً بالا ختيار.
الحجة الثانية : أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها ، إلى تكوين آخر ولزم التسلسل.
الحجة الثالثة : أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية ، فإن كان الأول فحينئذٍ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود ، وعلى هذا التقدير فلا حجة إلى إثبات صفة أخرى ، وإن كان الثاني فحينئذٍ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير ، فوجب أن لا تكون القدرة قدرة ، وذلك يوجب التناقض.
(1/81)

/ واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده ، ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده ، وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً ، ثم نقول : كونه موجداً إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمراً زائداً ، والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجداً له ، ألا ترى أنه إذا قيل : لم وجد العالم ؟
قلنا : لأجل أن الله أوجده ، فلو كان كون الموجد موجداً له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجدية يقتضي تعليل وجوده نفسه ، ولو كان معللاً بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير ، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً ، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل ، فوجب أن يكون كون الموجد موجداً أمراً مغايراً لكون الفاعل قادراً لوجود الأثر ، فثبت أن التكوين غير المكون.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول : القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا : معنى كونه تعالى خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ضاراً نافعاً عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة ، وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء. وأما القائلون بأن التكوين غير المكون ، فقالوا معنى كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط ، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام : أحدها : كونه معلوماً مذكوراً مسبحاً ممجداً ، فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان ، يا أيها الممدوح عند كل إنسان ، يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان ، ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناهٍ كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. وثانيها : كونه تعالى فاعلاً للأفعال صفة إضافية محضة بناءً على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة ، إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجداً ، أو المخبر عنه كونه موجداً للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية ، أما القسم الأول ـ وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجداً ـ فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل : الموجد ، والمحدث ، والمكون ، والمنشىء ، والمبدع ، والمخترع ، والصانع ، والخالق ، والفاطر ، والبارىء ، فهذه ألفاظ عشرة متقاربة ، ومع ذلك فالفرق حاصل : أما الاسم الأول ـ وهو الموجد ـ فمعناه المؤثر في الوجود ، وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجوداً / بعد أن كان معدوماً ، وهذا أخص من مطلق الإيجاد ، وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفاً للموجد ، وأما المنشىء فاشتقاقه من النشوء والنماء ، وهو الذي يكون قليلاً قليلاً على التدريج ، وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة/ وهما كنوعين تحت جنس الموجد. والمخترع قريب من المبدع ، وأما الصانع فيقرب أن يكون اسماً لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف ، وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير ، وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم ، وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق ، ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة ، وأما البارىء فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة ، يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين ، فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجداً على سبيل العموم ، أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية ، ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة فالمثال الأول : أنه إذا خلق النافع سمي نافعاً ، وإذا خلق المؤلم سمي ضاراً ، والمثال الثاني : إذا خلق الحياة سمي محيياً ، وإذا خلق الموت سمي مميتاً ، والمثال الثالث : إذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً ، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً ، والمثال الرابع : إذا قلل العطاء سمي قابضاً ، وإذا أكثره سمي باسطاً ، والمثال الخامس : إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقماً وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفواً غفوراً رحيماً رحماناً ، المثال السادس : إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضاً باسطاً ، وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إذا عرفت هذا فنقول : إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية ، فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار.
(1/82)

وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا دقائق لا بدّ منها : فالدقيقة الأولى : أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه ، فقولنا : "المعز المذل" وقولنا : "المحيي المميت" يتقابلان تقابل الضدين ، وأما قولنا : "القابض الباسط ، الخافض الرافع" فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود ، لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير ، والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير ، أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان ؛ لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله والدقيقة الثانية : أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف ، وله أمثلة : المثال الأول : الرؤف الرحيم ، يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤف أميل إلى جانب إيصال النفع ، والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر ، والمثال الثاني : الفاتح ، والفتاح ، والنافع والنفاع ، والواهب والوهاب ، فالفاتح يشعر بأحداث سبب الخير ، / والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه ، والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به ، وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء.
الباب السادس
في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن القرآن مملوء منه ، وطريق الضبط فيه أن يقال : ذلك السلب إما أن يكون عائداً إلى الذات ، أو إلى الصفات ، أو إلى الأفعال ، أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا ، كقولنا : إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالاً ولا محلاً ، واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة ، لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية ، فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية ، ومن جملتها قوله تعالى : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } (محمد : 38) وقوله : {وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ } (الأنعام : 133) لأن كونه غنياً أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره ، ومنه أيضاً قوله : {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (الصمد : 3) وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها/ فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة ، ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء ، منها ما يكون من باب أضداد الوحدة : ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام ، أحدها : نفي النوم ، قال تعالى : {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } (البقرة : 255) وثانيها : نفي النسيان ، قال تعالى : {كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم : 64) وثالثها : نفي الجهل قال تعالى : {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ} (سبأ : 3) ورابعها : أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام : أحدها : أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38) وثانيها : أنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة ، قال تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) وثالثها : أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل ، قال تعالى : {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } (
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/83)

النحل : 77) ورابعها : نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر ، قال تعالى : {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } (آل عمران : 181) وأما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله : {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } (الأنعام : 24) / {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون : 88) وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة ـ وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد ـ فالقرآن مملوء منه ، وأما السلوب العائدة إلى الأفعال ـ وهو أنه لا يفعل كذا وكذا ـ فالقرآن مملوء منه ، أحدها : أنه لا يخلق الباطل ، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (ص : 27) وقال تعالى حكاية عن المؤمنين : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} (آل عمران : 191) وثانيها : أنه لا يخلق اللعب ، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} (الدخان : 38 ـ 39) وثالثها : لا يخلق العبث ؛ قال تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } (المؤمنون : 115 ، 116) ورابعها : أنه لا يرضى بالكفر ، قال تعالى : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } (الزمر : 7) وخامسها : أنه لا يريد الظلم ، قال تعالى : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} (غافر : 31) وسادسها : أنه لا يحب الفساد ، قال تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة : 205) وسابعها : أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم ، قال تعالى : {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ} (النساء : 147) وثامنها : أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين ، قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) وتاسعها : أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه ، قال تعالى : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23) وقال تعالى : {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (ا لبروج : 16) وعاشرها : أنه لا يخلف وعده ووعيده ، قال تعالى : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (ق : 29).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إذا عرفت هذا الأصل فنقول : أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية ، فيحصل من هذا الجنس أيضاً أقسام غير متناهية من الأسماء ، إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب : فمنها القدوس ، والسلام ، ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها ، والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص ، فالقدوس سلب عائد إلى الذات ، والسلام سلب عائد إلى الصفات ، وثانيها : العزيز ، وهو الذي لا يوجد له نظير ، وثالثها : الغفار ، وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين ، ورابعها : الحليم ، وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة ، ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة ، وخامسها : الواحد ، ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة ، ولا يشاركه أحد في حقيقة المخصوصة ، ولا يشاركه أحد في صفة الإلهية ، ولا يشاركه أحد في خلق الأرواح والأجسم ، ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش وسادسها : الغني : ومعناه كونه منزهاً عن الحاجات والضرورات ، وسابعها : الصبور ، والفرق / بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه ، والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه ، وقس عليه البواقي والله الهادي.
الباب السابع
في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية ، وفيه فصول :
الفصل الأول
في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة
الأسماء الدالة على صفة القدرة :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/84)

والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة : الأول : القادر ، قال تعالى : {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى ا أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} (الأنعام : 65) وقال في أول سورة القيامة : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه * بَلَى قَـادِرِينَ عَلَى ا أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَه } (القيامة : 3 ، 4) وقال في آخر السورة : {أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى } (القيامة : 40) الثاني : القدير ، قال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} (الملك : 1) وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادراً ، الثالث : المقتدر ، قال تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} (الكهف : 45) وقال : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) الرابع : عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى : {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ} ، المرسلات : 23) واعلم أن لفظ "الملك" يفيد القدرة أيضاً بشرط خاص ، ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة : فالأول : المالك ، قال الله تعالى : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الثاني : الملك ، قال تعالى : {فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } (طه : 114) وقال : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر : 23) وقال : {مَلِكِ النَّاسِ} واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك ، والسبب فيه أن الملك أعلى شأناً من المالك ، الثالث : مالك الملك ، قال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ} (آل عمران : 26) الرابع : "المليك" قال تعالى : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) الخامس : لفظ الملك ، قال تعالى : {الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ } (الفرقان : 26) وقال تعالى : {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (البقرة : 107) واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة ، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة : الأول : القوي ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} (الحج : 40) الثاني : ذو القوة ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات : 58).
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفصل الثاني
الأسماء الحاصلة بسبب العلم :
في الأسماء الحاصلة بسبب العلم ، وفيه ألفاظ : الأول : العلم وما يشتق منه ، وفيه وجوه : الأول : إثبات العلم لله تعالى ، قال تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } (البقرة : 255) وقال تعالى : {وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه } (فصلت : 47) وقال تعالى : {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا } وقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) الاسم الثاني : العالم ، قال تعالى : {عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} (المائدة : 116) الثالث : العليم ، وهو كثير في القرآن ، الرابع : العلام ، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} ، (المائدة : 116) الخامس : الأعلم ، قال تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) السادس : صيغة الماضي ، قال تعالى : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} (البقرة : 187) السابع : صيغة المستقبل ، قال تعالى : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه } (البقرة : 197) وقال : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النحل : 19) الثامن : لفظ علم من باب التفعيل ، قال تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وقال في حق الملائكة {سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ } (البقرة : 32) وقال : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } (النساء : 113) وقال : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الرحمن : 1/ 2).
واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة ، التاسع : لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى ؛ لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء ، وذلك في حق الله تعالى محال.
اللفظ الثاني : من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة ، وهو كالمرادف للعلم ، حتى قال بعضهم في حد العلم : إنه الخبر ، إذا عرفت هذا فنقول : ورد لفظ "الخبير" في حق الله تعالى في حد العلم : إنه الخبر ، إذا عرفت هذا فنقول : ورد لفظ "الخبير" في حق الله تعالى كثيراً في القرآن ، وذلك أيضاً يدل ، على العلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النوع الثالث من الألفاظ : الشهود والمشاهدة ، ومنه "الشهيد" في حق الله تعالى ، إذا فسرناه بكونه مشاهداً لها عالماً بها ، أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام.
(1/85)

النوع الرابع : الحكمة ، وهذه اللفظة قد يراد بها العلم ، وقد يراد بها أيضاً ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي.
النوع الخامس : اللطيف ، وقد يراد به العلم بالدقائق ، وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة.
الفصل الثالث
الأَسماء الحاصلة بصفة الكلام :
في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام ، وما يجري مجراه : ـ
اللفظ الأول : الكلام ، وفيه وجوه : الأول : لفظ الكلام ، قال تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اللَّهِ} (التوبة : 6) الثاني : صيغة الماضي من هذا اللفظ ، قال تعالى : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء : 164) وقال : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا وَكَلَّمَه رَبُّه } (الأعراف : 143) الثالث : صيغة المستقبل ، قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} (الشورى : 51).
اللفظ الثاني : القول ، وفيه وجوه : الأول : صيغة الماضي ، قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } ونظائره كثيرة في القرآن ، الثاني : صيغة المستقبل ، قال تعالى : {إِنَّه يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} (البقرة : 68) الثالث : القيل والقول ، قال تعالى : {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} (النساء : 122) وقال تعالى : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} (ق : 29).
اللفظ الثالث : الأمر ، قال تعالى : {لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ } (الروم : 4) وقال : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } (الأعراف : 54) وقال حكاية عن موسى عليه السلام {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً } (البقرة : 67).
اللفظ الرابع : الوعد ، قال تعالى : {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ } (التوبة : 111) وقال تعالى : {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } (يونس : 4).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
اللفظ الخامس : الوحي ، قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} (الشورى : 51) وقال : {فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى } (النجم : 10).
اللفظ السادس : كونه تعالى شاكراً لعباده ، قال تعالى : {فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (لإسرء : 19) {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (النسا ء : 147).
الفصل الرابع
الإرادة وما بمعناها :
في الإرادة وما يقرب منها : ـ
فاللفظ الأول : الإرادة ، قال تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185).
اللفظ الثاني : الرضا ، قال تعالى : {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } (الزمر : 7) وقال : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وقال : {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح : 18) وقال في صفة السابقين / الأولين {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } (ا لمائدة : 119) وقال حكاية عن موسى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (طه : 84).
اللفظ ا لثالث : المحبة ، قال : (يحبهم ويحبونه) وقال : (ويحب المتطهرين).
اللفظ الرابع : الكراهة ، قال تعالى : {كُلُّ ذَالِكَ كَانَ سَيِّئُه عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء : 38) وقال : {وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} (التوبة : 46) قالت الأشعرية : الكراهة عبارة عن أن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة : بل هي صفة أخرى سوى الإرادة ، والله أعلم.
الفصل الخامس
السمع والبصر ومشتقاتها :
في السمع والبصر : قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى : 11) وقال تعالى : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء : 1) وقال تعالى : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى } (طه : 46) وقال : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} (مريم : 42) وقال تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَ } (الأنعام : 103).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية.
الفصل السادس
في الصفات الإضافية مع السلبية
اعلم أن "الأول" هو الذي يكون سابقاً على غيره ، ولا يسبقه غيره ، فكونه سابقاً على غيره إضافة ، وقولنا أنه لا يسبقه غيره فهو سلب ، فلفظ "الأول" يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب ، "والآخر" هو الذي يبقى بعد غيره ، ولا يبقى بعده غيره ، والحال فيه كما قدم ، أما لفظ "الظاهر" فهو إضافة محضة ، لأن معناه كونه ظاهراً بحسب الدلائل ، وأما لفظ "الباطن" فهو سلب محض ، لأن معناه كونه خفياً بحسب الماهية.
(1/86)

ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب "القيوم" لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى ، وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين : أحدهما : أن لا يكون محتاجاً إلى شيء سواه ألبتة ، وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته ، والثاني : أن يكون كل ما سواه محتاجاً إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها ، وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه ، فالأول سلب ، والثاني إضافة ومجموعها هو القيوم.
/الفصل السابع
في الأسماء الدالة على الذات والصفات
الحقيقية والإضافية والسلبية
فمنها قولنا : "الإله" وهذا الاسم يفيد الكل ؛ لأنه يدل على كونه موجوداً ، وعلى كيفيات ذلك الوجود ، أعني كونه أزلياً أبدياً واجب الوجود لذاته ، وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه ، وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين ، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى ؟
أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام ، وهل يجوز ذلك في دين الإسلام ؟
المشهور أنه لا يجوز ، وقال بعضهم : إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار : يا إله الآلهة ، وهو بعيد ، وأما قولنا : "الله" فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى ، فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات ؟
فنقول : لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات ، والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائماً مقام تلك الإشارة ، ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات القائمة بتلك الذات ؟
فإن قلنا إنها تتناول الصفات كان قولنا : "الله" دليلاً على جملة الصفات ، فإن قالوا : الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا : الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية ، والإشارة العقلية قد تتناول السلوب.
الفصل الثامن
في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
أسماء الذات أو من أسماء الصفات
الأسماء المختلف في مرجعها :
هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه ، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون : الموجود إما أن يكون متحيزاً ، وإما أن يكون حالاً في المتحيز أما الذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ـ فكان خارجاً عن القسمين ـ فذاك محض العدم ، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون : أما المتحيز فهو منقسم ، وكل منقسم فهو محتاج ، فكل متحيز هو محتاج ، فما لا يكون محتاجاً امتنع أن يكون متحيزاً ، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج ، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول : ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في / الحيز والمكان : فمنها "العظيم" وذلك لأن أهل التشبيه قالوا : معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش ، ومنها "الكبير" وما يشتق منه ، وهو لفظ "الأكبر" ولفظ "الكبرياء" ولفظ "المتكبر".
واعلم أني ما رأيت أحداً من المحققين بيَّن الفرق بينهما ، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه : الأول : أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فجعل الكبرياء قائماً مقام الرداء ، والعظمة قائمة مقام الإزار. ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار ، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالاً من صفة العظمة. والثاني : أن الشريعة فرقت بين الحالين ، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمه الصلاة "الله أكبر" ولم يقل أحد "الله أعظم" ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة. الثالث : أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله.
واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى ، فقال : {وَلا يَاُودُه حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} (البقرة : 250) وقال في آية أخرى : {حَتَّى ا إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم قَالُوا الْحَقَّا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} (سبأ : 23) إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير ، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما ، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد والتعليم : يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيراً سواء استكبره غيره أم لا ، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا ، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره ، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي ، فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/87)

ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من "العلو" فمنها قوله تعالى : {الْعُلَى} ومنها قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) ومنها المتعالى ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الأطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم : "تعالى" لقوله تعالى في أول سورة النحل : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (ا لنحل : 1) إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا : معنى علوه وتعاليه كونه موجوداً في جهة فوق ، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش ، ومنهم من قال : إنه مباين للعرش ببعد متناه ، ومنهم من قال : إنه مباين للعرش ببعد غير متناه ، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار / وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة ، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار : فأحدها : أنه عظيم بحسب مدة الوجود ، وذلك لأنه أزلي أبدي ، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام ، وثانيها : أنه عظيم في العلم والعمل ، وثالثها : أنه عظيم في الرحمة والحكمة ، ورابعها : أنه عظيم في كمال القدرة ، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزهاً عن صفات النقائص والحاجات.
إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات ، وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات ، وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات ، إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى ، وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزهاً عن كل ما لا يليق بالإلهية ، فهذا تمام البحث في هذا الباب.
الفصل التاسع
في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة
الأسماء المضمرة :
اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة : أنا ، وأنت ، وهو ، وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا : "أنا لأن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه ، وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه ، وأوسط هذه الأقسام قولنا : "أنت" لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضراً ، فلأجل كونه خطاباً للغير يكون دون قوله أنا ، ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضراً يكون أعلى من قوله : "هو" فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله : "أنا" وأوسطها "أنت" وأدناها "هو" وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ ، أما لفظ "أنا" فقال في أول سورة النحل {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } (النحل : 2) وفي سورة طه {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } (طه : 14) وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله : {فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ أَن لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ} (الأنبياء : 87) وأما لفظ هو فقد جاء كثيراً في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌا لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ} (البقرة : 163) وآخرها في سورة المزمل وهو قوله : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} (المزمل : 9) وأما ورود هذه الكلمة مقروناً باسم آخر سوى هذه الأربعة فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال : {وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه بَغْيًا وَعَدْوًا } (يونس : 90) ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
إذا عرفت هذا فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول : أما قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله ، لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل ، وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه ، واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله : "أنا" وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى ؛ لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به ، لا سيما في حق الحق تعالى ، فثبت أن قوله : "لا إله إلا أنا" لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى ، وأما الدرجة الثانية وهي قوله : "لا إله إلا أنت" فهذا يصح ذكره من العبد لكن بشرط أن يكون حاضراً لا غائباً ، لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس ، وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائباً عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة ، وأما الدرجة الثالثة وهي قوله : "لا إله إلا هو" فهذا يصح من الغائبين.
واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد ، وكمال التجلي ونقصانه ، وكل درجة ناقصة من درجات الحضور فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة ، ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية ، فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية ، فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب ، وبالعكس وعن هذا قال الشاعر : ـ
فأبا غائباً حاضراً في الفؤاد
سلام على الغائب الحاضر
(1/88)

ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين : قل لا إله إلا الله ، فقال : ـ
فكل بيت أنت حاضره
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم تأتي الناس بالحجج
أسرار من التصوف في لفظ "هو" :
واعلم أن لفظ "هو" فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية ، فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه ، وبعضها لا يمكن ، قال مصنف الكتاب : وأنا بتوفيق الله كتبت أسراراً لطيفة ، إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة "هو" أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيراً ، فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيراً عجيباً في القلب لا يصل البيان إليه ، ولا ينتهي الشرح إليه ، فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول : فيه أسرار : الأول : أن الرجل إذا قال : "يا هو" فكأنه يقول : من / أنا حتى أعرفك ، ومن أنا حتى أكون مخاطباً لك ، وما للتراب ورب الأرباب ، وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم ؟
فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات ، فلهذا السبب خاطبة العبد بخطاب الغائبين فقال : يا هو.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
والفائدة الثانية : أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ففيه أيضاً دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى فهو محض العدم/ لأن القائل إذا قال : "يا هو" فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا : "هو" صالحاً لهما جميعاً ، فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله : "هو" فلما قال : (يا هو) فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف ، كما قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال ، ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله : يا هو.
والفائدة الثالثة : أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقاً في معرفة الله تعالى ؛ لأنه إذا قال : "يا رحمن" فحينئذٍ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها فيكون طالباً للحصة ، وكذلك إذا قال : (يا كريم ، يا محسن ، يا غفار ، يا وهاب ، يا فتاح) وإذا قال : (يا ملك) فحينئذٍ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئاً منها ، وقس عليه سائر الأسماء ، أما إذا قال : (يا هو) فإنه يعرف أنه هو ، وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره ألبتة ، فحينئذٍ يحصل في قلبه نور ذكره ، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله ، وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/89)

والفائدة الرابعة : أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق : إما صفات الجلال ، وإما صفات الإكرام ، أما صفات الجلال فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل ، وهذا فيه دقيقة ؛ لأن من خاطب السلطان فقال : أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب ، ويقال : إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب ، وأما صفات الإكرام فهي كونه خالقاً للمخلوقات مرتباً لها على النظم الأكمل ، وهذا أيضاً فيه دقيقة من وجهين : الأول : لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها ، فإذا شرحنا نعوت كمال الله وصفات جلاله بكونه خالقاً لهذه المخلوقات فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق ، وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالى بطريق في غاية الخسة والدناءة ، / وذلك سوء أدب ، والثاني : أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء فإنه يستوجب الزجر والحجر ، ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا ، فإذا كان ذلك سوء أدب فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات ، إلا أن ههنا سبباً يرخص في ذكر هذه المدائح ، وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة ، ولا سبيل له إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين ، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة فعند ذلك يتبنه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول : (يا هو) كأن العبد يقول : أجل حضرتك أن أمدحك وأثنى عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك ، فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم ، بل لا أمدحك ولا أثنى عليك إلا بهويتك من حيث هي ، ولا أخاطبك أيضاً بلفظة (أنت) لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح إني قد بلغت مبلغاً صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود ، ولكني لا أزيد على قولي (هو) ليكون إقراراً بأنه هو الممدوح لذاته بذاته ، ويكون إقراراً بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات/ فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات ، فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الخامسة : في هذا الذكر : أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله ، والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة ، إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله وذلك لأن كلمة (هو) ضمير الغائب فالعبد إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة ، وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان ، ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان ، فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى ، وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء ، فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه / هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحادثات ، واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر ، فصارت تلك الكمالات مشعوراً بها من وجه دون وجه ، والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها ، وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق ، وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان ، أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل ، فثبت أن لفظ "هو" يفيد الشوق إلى الله تعالى ، وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات ، وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة ، لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم ، والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والإبتهاج والسرور ، وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات ، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة "هو" تورث الشوق إلى الله تعالى وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال : المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات.
(1/90)

الفائدة السادسة : في شرح جلالة هذا الذكر : واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين : المقدمة الأولى : أن العلم على قسمين : تصور ، وتصديق ، أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم ألبتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي ، أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة ، ثم أن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول : التصور مقام التوحيد ، وأما التصديق فإنه مقام التكثير. المقدمة الثانية : أن التصور على قسمين : تصور يتمكن العقل من التصرف فيه ، وتصور لا يمكنه التصرف فيه : أما القسم الأول : فهو تصور الماهيات المركبة ، فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب ، وهذا التصرف عمل وفكر ، وتصرف من بعض الوجوه ، وأما القسم الثاني : فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملاً يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية ، فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور ، وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضاً أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة ، وإذا عرفت هذا فنقول : قولنا في الحق سبحانه وتعالى : "يا هو" هذاتصور محض خالٍ عن التصديق ، ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب والكثرة ، فكان قولنا : "يا هو" نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة ، وهو أعظم المقامات.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة السابعة : أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه/ أو بالأجزاء الداخلة فيه ، أو بالأمور الخارجة عنه ، أما القسم الأول ـ وهو تعريفه بنفسه ـ فهو محال ؛ لأن المعرف سابق على المعرف ، فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به ، وذلك محال ، وأما القسم الثاني ـ وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه ـ فهذا في حق الحق محال ؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة ، وذلك في حق الحق محال ، وأما القسم الثالث ـ وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه ـ فهذا أيضاً باطل محال ؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئاً من أحوال القديم الواجب لذاته ؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة ، فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة ، وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور ، فقول الذاكر "يا هو" توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.
الفائدة الثامنة : أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطة فيصير غافلاً عن كل ما سواه ، حتى أنه ربما كان جائعاً فينسى جوعه ، وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة ، وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما ، وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره ، فكذلك العبد إذا قال : "يا هو" وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة ، وعلى فكرة الغفلة ، فيصير غائباً عن كل ما سوى تلك الهوية ، معزولاً عن الإلتفات إلى شيء سواها ، وحينئذٍ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله : "هو" وبلسانه "هو" فإذا قال العبد "هو" وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة ، فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها.
الفائدة التاسعة : من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من جعل همومه هما واحداً كفاه الله هموم الدنيا والآخرة" فكأن العبد يقول : همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية ، والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة / غير متناهية ، ورحمة غير متناهية ، وحكمة غير متناهية ، فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي ، بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى ، فأنا أجعل همي مشغولاً بذكره فقط ، ولساني مشغولاً بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/91)

الفائدة العاشرة : أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر ، فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولاً عن غيره ، فكأن العبد يقول : كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره ، فإذا كان هذا لازماً فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولاً بمعرفة أشرف المعلومات ، وأجعل لساني مشغولاً بذكر أشرف المذكورات ؛ فلهذا السبب أواظب على قوله : "يا هو".
الفائدة الحادية عشرة : أن الذكر أشرف المقامات ، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : "إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه" وإذا ثبت هذا فنقول : أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال/ قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : "من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : العبد فقير محتاج ، والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولاً على السؤال ، فإذا قال الفقير للغني "يا كريم" كان معناه أكرم وإذا قال له : "يا نفاع" كان معناه طلب النفع ، وإذا قال : "يا رحمن" كان معناه ارحم ، فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال ، وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خالياً عن السؤال والطلب ، أما إذا قال : "يا هو" كان معناه خالياً عن الأشعار بالسؤال والطلب ، فوجب أن يكون قولنا : "هو" أعظم الأذكار.
ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب : يا هو ، يا من لا هو إلا هو ، يا من لا إله إلا هو ، يا أزل ، يا أبد ، يا دهر ، يا ديهار ، يا ديهور ، يا من هو الحي الذي لا يموت.
ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول : "لا إله إلا الله" توحيد العوام ، "ولا إله إلا هو" توحيد الخواص ، ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان : أما القرآن فإنه تعالى قال : {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَا لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } ثم قال بعده : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) معناه إلا هو ، فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة ، وأما البرهان فهو أن من الناس من قال : إن تأثير / الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها ، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها ، فقلت : فالوجود أيضاً ماهية ، فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره ، فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول : تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل ، وإن كانت مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم المغاير لا بدّ وأن يكون له ماهية ؛ وحينئذٍ يعود الكلام ، فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر ، وينفي الصنع والصانع بالكلية ، وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات ، فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير ، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة ، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات ، وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت ، وعند هذا يظهر صدق قولنا : "لا هو إلا هو" أي : لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه ، فثبت أنه "لا هو إلا هو" والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الثامن
في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى ، وفيه مسائل
هل أسماؤه تعالى توقيفية :
المسألة الأولى : اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى توقيفية أم اصطلاحية ، قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان وارداً في القرآن والأحاديث الصحيحة ، وقال آخرون : كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز ، وإلا فلا ، وقال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه : الاسم غير ، والصفة غير ، فاسمي محمد ، واسمك أبو بكر ، فهذا من باب الأسماء ، وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلاً فقيهاً كذا وكذا ، إذا عرفت هذا الفرق فيقال : أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر ، وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف.
(1/92)

واحتج الأولون بأن قالوا : إن العالم له أسماء كثيرة ، ثم أنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً ولا فقيهاً ، ولا نصفه بكونه متيقناً ولا بكونه متبيناً ، وذلك يدل على أنه لا بدّ من التوقيف ، وأجيب عنه فقيل : أما الطبيب فقد ورد ؛ نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له : نحضر الطبيب ؟
قال : الطبيب أمرضني ، وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه. وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى ، وأما المتيقن / فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه ، فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأَمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم ، وذلك في حق الله تعالى محال وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء ، وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين ، فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة ؛ فلهذا السبب سمي ذلك بياناً وتبييناً ، ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال.
واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه : الأول : أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية ، وإن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار ، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها. الثاني : أن الله تعالى قال : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 18) والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال ، فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسماً حسناً ، فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكاً بهذه الآية. الثالث : أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني ، فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثاً ، وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة الله تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب ، ففي حق الله أولى ، أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع ، فكذلك في حق البارىء تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية : اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى ، ونحن نعد منها صوراً ، فأحدها : الاستهزاء ، قال تعالى : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة : 15) ثم أن الاستهزاء جهل ، والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 67) وثانيها : المكر ، قال تعالى : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه } (آل عمران : 54) وثالثها : الغضب قال تعالى : {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (الفتح : 6) ورابعها : التعجب ، قال تعالى : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} (الصفات : 12) فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوباً إلى الله ، والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء ، وخامسها : التكبر ، قال تعالى : {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } (الحشر : 23) وهو صفة ذم ، وسادسها : الحياء ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِا أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا} (البقرة : 26) والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح.
واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول : لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية ، وآثار تصدر عنها في النهاية ، مثاله أن الغضب حالة تحصل في / القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج ، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فإذا سمعت الغضب في الحق الله تعالى فاحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض ، وقس الباقي عليه.
بيان أن أسماء الله لا تحصى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/93)

المسألة الثالثة : رأيت في بعض "كتب التذكير" أن لله تعالى أربعة آلاف اسم : ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور ويقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ، ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر ، وأقول : هذا غير مستبعد ، فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية/ ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحاً بليغاً ، بل نقول : كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر ، كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر ، ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر ، فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم ، ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبهاً للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه ، وذلك لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة ، عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة ، ثم لما عرف أن كل واحد من هذا الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام. ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة ، وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالاً معيناً. ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين ، إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل ، فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34 ، النحل : 8) فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى ، ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأَسمائه الحسنى ولصفاته العليا ، وذكر جالينوس في "كتاب منافع الأعضاء" أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور ، قال : وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها ، فرأيت في بعض / الليالي كأن ملكاً نزل من السماء وقال : جالينوس ، إن إلهك يقول : لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال : فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتاباً مفرداً ، وبالغت في شرحه ، فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
حكم الأذكار التي في الرقى :
المسألة الرابعة : إنا نرى في "كتب الطلسمات والعزائم" أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة ، وأقول : لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ ، ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقى إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلاً لم يكن فيها فائدة. وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه ، وإما أن تكون دالة على شيء آخر : أما الثاني فإنه لا يفيد ؛ لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب ، فبقي أن يقال : إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء ، فنقول : ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية ، وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر ، فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات ، لكن لقائل أن يقول : إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة ، فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات ، فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير ، أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم/ وتوجه إلى عالم القدس ، وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير ، فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقى المجهولة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/94)

المسألة الخامسة : إن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة ، والعاقل لا بدّ وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر ، والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية ، فبعضها إلهية مشرقة حرمة كريمة ، وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة ، وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة ، وبعضها قاسية قاهرة ، وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها ، وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء ، ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس ، وإن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجاً معيناً وطريقاً مبيناً في الإرادة والكراهة / والرغبة والرهبة ، وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية ، وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان ، فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" وبقوله عليه الصلاة والسلام : "الأرواح جنود مجندة" إذا عرفت هذا فنقول : الجنسية علة الضم ، فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى عين ، فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم ، فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعاً ، وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة ، ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له أخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق ، وإن رآه متأثراً عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر ، وأقول : هذا هو المعقول ، فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسباً لحالة مخصوصة ، فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلاً هيناً يسيراً ، وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء ، والله الهادي.
الباب التاسع
في المباحث المتعلقة بقولنا : "الله" وفيه مسائل
لفظ الجلالة علم لا مشتق :
المسألة الأولى : المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى ، وأنه ليس بمشتق ألبتة ، وهو قول الخليل وسيبويه ، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء ، ويدل عليه وجوه ، وحجج : ـ
الحجة الأولى : أنه لو كان لفظاً مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين ، فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقاً لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين ، ولو كان كذلك لما كان قولنا : "لا إله إلا الله" توحيداً حقاً مانعاً من وقوع الشركة فيه بين كثيرين ؛ لأن بتقدير أن يكون الله لفظاً مشتقاً كان قولنا : "الله" غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة ، وحينئذٍ لا يكون قولنا : "لا إله إلا الله" موجباً للتوحيد المحض ، وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا : "لا إله إلا الله" يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا : "الله" اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة ، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثانية : أن من أراد أن يذكر ذاتاً معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولاً ثم يذكر عقيب الاسم الصفات ، مثل أن يقول : زيد الفقيه النحوي الأصولي ، إذا عرفت هذا فنقول : إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولاً لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول : الله العالم القادر الحكيم ، ولا يعكسون هذا فلا يقولون : العالم القادر الله ، وذلك يدل على أن قولنا : "الله" اسم علم.
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم : {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ؟
(إبراهيم : 201) قلنا : ههنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع ، وحينئذٍ يزول السؤال ، لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله ، وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا : هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل ، بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل ؟
فقيل عقيبه زيد ، ليصير هذا مزيلاً لذلك الاشتباه ، ولما لم يلزم ههنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية.
الحجة الثالثة : قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم 65) وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} فوجب أن يكون المراد اسم العلم ، فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله.
واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج : ـ
(1/95)

الحجة الأولى : قوله تعالى : {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ} وقوله : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } فإن قوله : "الله" لا بدّ وأن يكون صفة ، ولا يجوز أن يكون اسم علم ، بدليل أنه لا يجوز أن يقال : هو زيد في البلد ، وهو بكر ، ويجوز أن يقال : هو العالم الزاهد في البلد ، وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين : إن الضمير لا يقع موصوفاً ولا صفة ، وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم.
الحجة الثانية : أن اسم العلم قائم مقام الإشارة ، فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعاً في حقه.
الحجة الثالثة : أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية ، وإذا كان هذا في حق الله ممتنعاً كان القول بإثبات الاسم العلم محالاً في حقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى أن يقال : هذا زيد الذي / لا نظير له في العلم والزهد ؟
والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة ، ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشاراً إليه بالحس أم لا ، وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة.
المسألة الثانية : الذين قالوا : إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعاً : ـ
الفرع الأول : أن الإله هو المعبود ، سواء عبد بحث أو بباطل ، ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق ، وعلى هذا التفسير لا يكون إلهاً في الأزل.
واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة ، وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها ، وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، والواجب واحد وهو الله تعالى ، وما سواه ممكن ، والممكن لا يوجب إلا بالمرجح ، فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة ، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله ، فثبت أن غاية الأنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فنقول : إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى.
الفرع الثاني : أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسحف ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء ، فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب/ وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود ، وهذا جهل عظيم. الثاني : أنه لو قال : أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب ، لم تصح صلاته. الثالث : أن من عمل عملاً لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة ، فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله ، ومن كان كذلك لم يكن محباً لله ولم يكن راغباً في عبادة الله ، وكل ذلك جهل ، ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول ، وهو أن يتشرف بخدمة الله ، لأنه إذا شرع في في الصلاة حصلت النية في القلب ، وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية ، وحصل الذكر في اللسان ، وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله ، فمقصود العبد حصول هذا الشرف.
الفرع الثالث : من الناس من طعن في قول من يقول : الإله هو المعبود من وجوه : الأول : أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة. الثاني : أنه تعالى إله الجمادات والبهائم ، مع أن صدور العبادة منها محال. الثالث : أنه تعالى إله المجانين والأطفال ، مع أنه لا تصدر / العبادة عنها. الرابع : أن المعبود ليس له بكونه معبوداً صفة ؛ لأنه لا معنى لكونه معبوداً إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان ، ومعلوم بعلمه ، ومراد خدمته بإرادته ، وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى. الخامس : يلزم أن يقال : إنه تعالى ما كان إلهاً في الأزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفرع الرابع : من الناس من قال : الإله ليس عبارة عن المعبود ، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً ، وهذا القول أيضاً يرد عليه أن لا يكون إلهاً للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين ، وأن لا يكون إلهاً في الأزل ، ومنهم من قال : إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة عنه ، واعلم أن إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلهاً في الأزل ، ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلهاً في الأزل.
(1/96)

التفسير الثاني : الإله مشتق من ألهت إلى فلان ، أي : سكنت إليه ، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته ، وبيانه من وجوه : الأول : أن الكمال محبوب لذاته ، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته ؛ لأن الممكن من حيث هو هو معدوم ، والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته ، فإذا كان الكامل محبوباً لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوباً لذاته. الثاني : أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يقف عند نفسه ، بل يبقى متعلقاً بغيره ، لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره ، فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد ، وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي ، فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه ، وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28).
التفسير الثالث : أنه مشتق من الوله ، وهو ذهاب العقل. واعلم أن الخلق قسمان : واصلون إلى ساحل بحر معرفته ، ومحرومون ، فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم ، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال ، فتاهوا في ميادين الصمدية ، وبادوا في عرصة الفردانية ، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته ، فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو ، وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار ، فالأولون بادوا في أودية الظلمات ، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات.
/ التفسير الرابع : أنه مشتق من لاة إذا ارتفع ، والحق سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات ؛ لأن الواجب لذاته ليس إلا هو ، والكامل لذاته ليس إلا هو ، والأحد الحق في هويته ليس إلا هو ، والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو ، وأيضاً فهو تعالى مرتفع عن أن يقال : إن ارتفاعه بحسب المكان ، لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض ؛ لأجل حصوله في ذلك المكان ، وما بالذات أشرف مما بالغير ، فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان ، وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
التفسير الخامس : من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه ، فالعبد إذا تفكر فيه تحير ؛ لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه ، فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه ؛ لأن كل ما سواه فهو محتاج ، وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال ، وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضاً ؛ لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه ، فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك ، فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك ، ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه.
التفسير السادس : من لاه يلوه إذا احتجب ، ومعنى كونه محتجباً من وجوه : الأول : أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. الثاني : أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائلة عنها ، فحينئذٍ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها ، إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس ، فكذا ههنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس ، فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات ، فحينئذٍ كان يظهر أن نور الوجود منه ، لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالاً لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها ، فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره ، فلهذا قال بعض المحققين : سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره ، واختفى عنها بكمال نوره / وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول ، ولا يجوز أن يقال : محجوبة لأن المحجوب مقهور ، والمقهور يليق بالعبد ، أما الحق فقاهر ، وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب ، والخلق محجوبون.
(1/97)

التفسير السابع : إشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضع إليه في كل الأحوال ، ويدل عليه أمور : الأول : أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى ، فيقول بقلبه ولسانه : يا رب ، يا رب ، فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة ، وهذا فعل متناقض ، لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله ، وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات ، وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات ، والثاني : أن الخير والراحة مطلوب من الله ، والثالث : أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره ، فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان/ فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة ، والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات ، والخلق مشغوفون بالرجوع إليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس ، فقال الأستاذ : كنت حداداً عشر سنين ، وقصاراً عشرة أخرى ، وبوابًا عشرة ثالثة ، فقالوا : ما رأيناك فعلت ذلك ، قال : فعلت ولكنكم ما رأيتم ، أما عرفتم أن القلب كالحديد ؟
فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين ، ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين ، ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف "لا إله إلا الله" فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله ، ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى ، فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة ، وفني عن الكل ، ولم يبق فيه إلا محض سر "لا إله إلا الله".
التفسير الثامن : أن اشتقاق لفظ "الإله" من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره ، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى ، لقوله تعالى : {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون : 88) ولأنه هو المنعم لقوله تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } ولأنه هو المطعم / لقوله تعالى : {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } (الأنعام : 14) ولأنه هو الموجد لقوله تعالى : {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّه } فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل ، جبار لها بالقوة والفعل والتكميل ، فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه.
وههنا لطائف وفوائد : الفائدة الأولى : عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه ، والله الكريم يقول : عبادي : أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم ، ولكن لا تفروا مني ، بل أقول : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50) فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم ، وأيضًا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء ، وأنا أفعل ضد ذلك.
الفائدة الثانية : قال صلى الله عليه وسلّم : إن للّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ، وأقول : إنه صلى الله عليه وسلّم إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم ، وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين.
الفائدة الثالثة : قال صلى الله عليه وسلّم : إن اللّه عزّ وجلّ يقول يوم القيامة للمذنبين : هل أحببتم لقائي ؟
فيقولون : نعم يا رب ، فيقول اللّه تعالى : ولم ؟
فيقولون : رجونا عفوك وفضلك ، فيقول اللّه تعالى : إني قد أوجبت لكم مغفرتي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الرابعة : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن الله عزّ وجلّ ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له : هل تنكر من هذا شيئاً ؟
هل ظلمك الكرام الكاتبون ؟
فيقول : لا يا رب ، فيقول الله تعالى : فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب ؟
فيقول : لا يا رب ، فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى : إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم ، ثم يخرج بطاقة فيها : "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله" فيقول العبد : يا رب ، كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات ؟
فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء.
(1/98)

الفائدة الخامسة : وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر ، فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها ، ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر/ وقالت : ابني ، ابني ، فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر ، فقال : أعجبتم من رحمة / هذه بابنها فإن الله تعالى أرحم بكم جميعاً من هذه المرأة بابنها ، فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة.
أصل لفظ الجلالة :
المسألة الثالثة : في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة ، قال بعضهم هذه اللفظة ليست عربية ، بل عبرانية أو سريانية ، فإنهم يقولون إلهاً رحماناً ومرحيانا ، فلما عرب جعل "الله الرحمن الرحيم" وهذا بعيد ، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) وقال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) وأطبقوا على أن المراد منه لفظة "الله" وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية ، أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث ، وأما المنكرون لذلك فلهم قولان : قال الكوفيون : أصل هذه اللفظة إلاه ، فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم ، فصار الإلاه ، فحذفت الهمزة استثقالاً ، لكثرة جريانها على الألسنة ، فاجتمع لامان ، فأدغمت الأولى فقالوا : "الله" وقال البصريون أصله لاه ، فألحقوا بها الألف واللام فقيل : "الله" وأنشدوا : ـ
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فكحلفة من أبي رباح
يسمعها لاهه الكبار
فأخرجه على الأصل.
المسألة الرابعة : قال الخليل : أطبق جميع الخلق على أن قولنا : "الله" مخصوص بالله سبحانه وتعالى ، وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى ، وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا ، أو ينركوه فيقولون : إله كما قال الله تعالى خبرًا عن قوم موسى {وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} (الأعراف : 138).
خواص لفظ الجلالة :
المسألة الخامسة : اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله تعالى ، ونحن نشير إليها : فالخاصة الأولى : أنك إذا حذفت الألف من قولك : "الله" بقي الباقي على صورة "الله" وهو مختص به سبحانه ، كما في قوله : {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الفتح : 4) {وَلِلَّهِ خَزَآاـاِنُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (المنافقون : 7) وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة "له" كما في قوله تعالى : {لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الزمر : 63) وقوله : {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا : "هو" وهو أيضًا يدل عليه سبحانه كما في قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقوله : {هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع ؛ فإنك تقول ؛ هما ، هم فلا تبقى الواو فيهما ، فهذه الخاصية موجودة في لفظ "الله" غير / موجودة في سائر الأسماء ، وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضاً بحسب المعنى ، فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة ، وما وصفته بالقهر ، وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم ، وما وصفته بالقدرة ، وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع الصفات ؛ لأن الإله لا يكون إلهاً إلا إذا كان موصوفاً بجميع هذه الصفات ، فثبت أن قولنا الله قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء.
الخاصية الثانية : أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام لم يحصل فيها إلا هذا الاسم/ فلو أن الكافر قال : أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم ، أو إلا الملك ، أو إلا القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام ، أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام ، وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة ، والله الهادي إلى الصواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب العاشر
في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم
الرحمن الرحيم :
اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام : الذي يكون نافعاً وضرورياً معاً ، والذي يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً ، والذي يكون ضرورياً ولا يكون نافعاً ، والذي لا يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً.
أما القسم الأول ـ وهو الذي يكون نافعاً وضرورياً معاً ـ فأما أن يكون كذلك في الدنيا فقط ، وهو مثل النفس ـ فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت ، وإما أن يكون كذلك في الآخرة ، وهو معرفة الله تعالى ، فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب ، واستوجب عذاب الأبد.
(1/99)

وأما القسم الثاني ـ وهو الذي يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً ـ فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة.
وأما القسم الثالث ـ وهو الذي يكون ضرورياً ولا يكون نافعاً ـ فكالمضار التي لا بدّ منها في الدنيا : كالأمراض ، والموت ، والفقر ، والهرم ، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة ، فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار.
/ وأما القسم الرابع ـ وهو الذي لا يكون نافعاً ولا ضرورياً ـ فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة.
إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال ، وكذلك معرفة الله تعالى أمر لا بدّ منه في الآخرة فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة ، لكن الموت الأول أسهل من الثاني ؛ لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة ، وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد ، وكما أن التنفس له أثران : أحدهما : إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته ، والثاني : إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب ، كذلك الفكر له أثران : أحدهما : إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه ، والثاني : إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب ، وما ذاك إلا بأن يعرف أن هذه لمحسوسات متناهية في مقاديرها منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها ، فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمناً من الآفات واصلاً إلى الخيرات والمسرات ، وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بأن تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمه الله ، وذرة من أنوار إحسانه ، فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحماناً رحيماً.
فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل فاعلم أنك جوهر مركب من نفس ، وبدن وروح ، وجسد.
(
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
أما نفسك) فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النمل : 78) ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة ، وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها ، واعلم أنه لا نهاية لها ألبتة ، ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدراً متناهياً ، ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضاً غير متناهية ، والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير ، فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) حق وصدق.
(وأما بدنك) فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة ، فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها ، وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة / وحينئذٍ يظهر لك صدق قوله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) وحينئذٍ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك ، فتفهم شيئاً قليلاً من معنى قوله الرحمن الرحيم.
لا رحمن إلا الله
فإن قيل : فهل لغير الله رحمة أم لا ؟
قلنا : الحق أن الرحمة ليست إلا لله ، ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره ، وههنا مقامان : المقام الأول : في بيان أنه لا رحمة إلا لله ، فنقول : الذي يدل عليه وجوه : الأول : أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضاً ، إلا أن الأعواض أقسام : منها جسمانية مثل أن يعطي ديناراً ليأخذ كرباساً ، ومنها روحانية وهي أقسام : فأحدها : أنه يعطي المال لطلب الخدمة ، وثانيها : يعطي المال لطلب الإعانة ، وثالثها : يعطي المال لطلب الثناء الجميل ، ورابعها : يعطي المال لطلب الثواب الجزيل ، وخامسها : يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب ، وسادسها : يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه ، وكل هذه الأقسام أعواض روحانية ، وبالجملة فكل من أعطي فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال ، فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة ، ولا يكون جوداً ، ولا هبة ، ولا عطية ، أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته ، فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالاً ، فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثانية : أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته ، فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله فيكون الرحيم في الحقيقة هو اللهتعالى.
(1/100)

الحجة الثالثة : أن الإنسان يمكنه الفعل والترك ، فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب ، فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه ، وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه ، فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك لقلب ، وما داك إلا الله تعالى ، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى.
الحجة الرابعة : هب أن فلاناً يعطي الحنطة ، ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة ، وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان ، بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو الله ، والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى ، فوجب أن يقال : المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى.
/ المقام الثاني : في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم. وبيانه من وجوه : الأول : أن الأنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم ، فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق.
الثاني : أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملاً تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة ، فكأنه تعالى يأمرك بأن تكتسب لنفسك سعادة الأبد ، وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده ، ولا شك أن الحالة الأولى أفضل.
الثالث : أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم ، وعبودية الله أولى من عبودية غير الله.
الرابع : أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك ، فقد ينعم عليك حال ما تكون غنياً عن إنعامه ، وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجاً إلى إنعامه ، وأيضاً فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات ، أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات ، فإذا ظهرت بك حاجة عرفها ، وإن طلبت منه شيئاً قدر على تحصيله ، فكان ذلك أفضل.
الخامس : الإنعام يوجب المنة ، وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى ، وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل والله أعلم.
الباب الحادي عشر
في بعض النكت المستخرجة من قولنا (بسم الله الرحمن الرحيم)
إشارات البسملة :
النكتة الأولى : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله تعالى ، فدله على عشب في المفازة ، فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب ، أكلته أولاً فانتفعت به ، وأكلته ثانياً فازداد مرضي ، فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء ، وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض ، أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي ؟
.
/الثانية : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت ، فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ؛ وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب ، فوضعها فوجد الباب ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان.
الثالثة : كان بعض العارفين يرعى غنماً وحضر في قطيع غنمه الذئاب ، وهي لا تضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه : متى اصطلح الذئب والغنم ؟
فقال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى.
الرابعة : قوله (بسم الله) معناه أبدأ باسم الله ، فأسقط منه قوله : "أبدأ" تخفيفاً ، فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت أبدأ باسم الله ، والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة ، فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلاً على الصفح والإحسان.
الخامسة : روى أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصراً وأمر أن يكتب (بسم الله) على بابه الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم يرَ به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً ، فقال تعالى : يا موسى ، لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه ، والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله ؟
.
السادسة : سمى نفسه رحماناً رحيماً فكيف لا يرحم ؟
روى أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً ، فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له : ولم تفعل ؟
قال : إما أن يجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب. إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش ، فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك.
(1/101)

جزء : 1 رقم الصفحة : 27
السابعة : "الله" إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ، ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره.
الثامنة : كثيراً ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئاً من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء ، فكأنه تعالى يقول : إن لطاعتك عدواً وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي/ وقل : بسم الله الرحمن الرحيم ، حتى لا يطمع العدو فيها.
/ التاسعة : اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال : أكتب فيه لا إله إلا الله ، فدفعه إلى النقاش وقال : أكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فكتب النقاش فيه ذلك ، فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فرأى النبي فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق ، فقال : يا أبا بكر ، ما هذه الزوائد ؟
فقال أبو بكر : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق إسمك عن إسم الله ، وأما الباقي فما قلته ، وخجل أبو بكر ، فجاء جبريل عليه السلام وقال : يا رسول الله أما إسم أبي بكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق إسمك عن اسم الله فما رضي الله أن يفرق إسمه عن إسمك ، والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد صلى الله عليه وسلّم عن إسم الله عزّ وجلّ وجد هذه الكرامة فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى ؟
.
العاشرة : أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة قال : (بسم الله مجراها ومرساها) فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة ، فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة ؟
وأيضاً أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} (النمل : 30) فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة.
الحادية عشرة : إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام إسم نفسه على إسم الله تعالى في قوله : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ} فالجواب من وجوه : الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعاً على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفاً على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان ، فأخذت الكتاب وقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فقوله : (النمل : 30) فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحادية عشرة : إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام إسم نفسه على إسم الله تعالى في قوله : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ} فالجواب من وجوه : الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعاً على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفاً على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان ، فأخذت الكتاب وقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فقوله : فالجواب من وجوه : الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعاً على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفاً على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان ، فأخذت الكتاب وقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فقوله : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ} من كلام بلقيس لا كلام سليمان : الثاني : لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ} وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} كما هو العادة في جميع الكتب ، فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه ، فقالت : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب قرأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت : وأنه بسم الله الرحمن الرحيم : الثالث : أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم إسم نفسه على إسم الله تعالى ، ليكون الشتم له لا لله تعالى.
/ الثانية عشرة : الباء من "بسم" مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة ، وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته.
مرض لبعضهم جار يهودي قال : فدخلت عليه للعيادة وقلت له : أسلم ، فقال : على ماذا ؟
قلت : من خوف النار قال : لا أبالي بها ، فقلت : للفوز بالجنة ، فقال : لا أريدها ، قلت : فماذا تريد ؟
قال : على أن يريني وجهه الكريم ، قلت : أسلم على أن تجد هذا المطلوب ، فقال لي : أكتب بهذا خطاً ، فكتبت له بذلك خطاً فأسلم ومات من ساعته ، فصلينا عليه ودفناه ، فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له : يا شمعون ، ما فعل بك ربك ؟
قال : غفر لي ، وقال لي : أسلمت شوقاً إلى.
وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع ، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى.
(1/102)

روى أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح ، فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيداً وأراد قتله ، فقال زيد : لم تقتلني ؟
قال : لأن محمداً يحبك وأنا أبغضه ، فقال زيد : يا رحمن أغثني ، فسمع المنافق صوتاً يقول : ويحك لا تقتله ، فخرج من الخربة ونظر فلم يرَ أحداً ، فرجع وأراد قتله فسمع صائحاً أقرب من الأول يقول : لا تقتله ، فنظر فلم يجد أحداً ، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتاً قريباً يقول : لا تقتله ، فخرج فرأى فارساً معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله ، ودخل الخربة وحل وثاق زيد ، وقال له : أما تعرفني ؟
أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عزّ وجلّ : (أدرك عبدي) ، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا ، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه.
قال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام ، فأتوه فقالوا له : يا نبي الله ، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء ، فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى لي عن فضلك ، قال : فصب الله تعالى عليهم المطر ، فقال لهم سليمان عليه السلام : ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم.
أما قوله : "الله" فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي الله ، فإذا مت أقول الله ، وإذا سئلت في القبر أقول الله ، وإذا جئت يوم القيامة أقول الله ، وأذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله ، وإذا جزت الصراط أقول الله ، وإذا دخلت الجنة أقول الله ، وإذا رأيت الله قلت الله.
/ النكتة الثالثة عشرة : الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر : 32) فقال : أنا الله للسابقين ، الرحمن للمقتصدين ، الرحيم للظالمين ، وأيضاً الله هو معطي العطاء ، والرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء ، والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء ، ومن كمال رحمته كأنه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ، ولو علمته المرأة لجفتك ، ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك ، ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار ، وأنا أعلم كل ذلك وأستره بكرمي لتعلم أني إله كريم.
الرابعة عشرة : الله يوجب ولايته ، قال الله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البقرة : 256) والرحمن يوجب محبته ، قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} (مريم : 96) والرحيم يوجب رحمته {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (الأحزاب : 43).
الخامسة عشرة : قال عليه الصلاة والسلام : من رفع قرطاساً من الأرض فيه "بسم الله الرحمن الرحيم" إجلالاً له تعالى كتب عند الله من الصديقين ، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين ، وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة ، وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : "يا أبا هريرة ، إذا توضأت فقل : بسم الله ، فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ ، وإذا غشيت أهلك فقل : بسم الله ، فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة ، فإن حصل من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد ، وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب ، حتى لا يبقى منهم أحد. يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل : بسم الله والحمد لله ، يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة ، وإذا ركبت السفينة فقل : بسم الله والحمد لله ، يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها". وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا : بسم الله الرحمن الرحيم ، والإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى ؟
".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
السادسة عشرة : كتب قيصر إلى عمر رضي الله عنه أن بي صداعاً لا يسكن فابعث لي دواء ، فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه ، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع ، فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم.
/ السابعة عشرة : قال صلى الله عليه وسلّم : "من توضأ ولم يذكر اسم الله تعالى كان طهوراً لتلك الأعضاء ، ومن توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهوراً لجميع بدنه ، فإذا كان الذكر على الوضوء طهوراً لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهوراً للقلب عن الكفر والبدعة.
الثامنة عشرة : طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال : إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم ، فقال : ائتوني بالسم القاتل ، فأتى بطاس من السم ، فأخذها بيده وقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، وأكل الكل وقام سالماً بإذن الله تعالى ، فقال المجوس هذا دين حق.
(1/103)

التاسعة عشرة : مر عيسى بن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً ، فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور ، فتعجب من ذلك ، فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه : يا عيسى ، كان هذا العبد عاصياً ومذ مات كان محبوساً في عذابي ، وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولداً وربته حتى كبر ، فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعم بسم الله الرحمن الرحيم ، فاستحيت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض.
العشرون : سئلت عمرة الفرغانية ـ وكانت من كبار العارفات ـ ما الحكمة في أن الجنب والحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت : لأن التسمية ذكر اسم الحبيب والحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب.
الحادية والعشرون : قيل في قوله : "الرحيم" هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع في القبر وحشراته ، والقيامة وظلماته ، والميزان ودرجاته ، وقراءة الكتاب وفزعاته ، والصراط ومخافاته والنار ودركاته.
الثانية والعشرون : كتب عارف "بسم الله الرحمن الرحيم" وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له : أي فائدة لك فيه فقال : أقول يوم القيامة : إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم ، فعاملني بعنوان كتابك.
الثالثة والعشرون : قيل "بسم الله الرحمن الرحيم" تسعة عشر حرفاً ، وفيه فائدتان : إحداهما : أن الزبانية تسعة عشر ، فالله تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر ، الثانية : خلق الله تعالى الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة ، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الرابعة والعشرون : لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها / "بسم الله الرحمن الرحيم" وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح "باسم الله/ والله أكبر" ولا يقال : "بسم الله الرحمن الرحيم" لأن وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم ، فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب ، وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان ، والله تعالى الهادي إلى الصواب.
الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء
هذه السورة ، وفيه أبواب
الباب الأول
اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى : ـ
أسماء الفاتحة وسببها :
فالأول : "فاتحة الكتاب" سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم ، والقراءة في الصلاة ، وقيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره ، وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء.
والثاني : "سورة الحمد" والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد.
والثالث : "أم القرآن" والسبب فيه وجوه : ـ
الأول : أن أم الشيء أصله ، والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى ، فقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} يدل على الإلهيات ، وقوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يدل على المعاد ، وقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يدل على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره ، وقوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} يدل أيضاً على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات ، وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء ، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن.
السبب الثاني لهذا الاسم : أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة : إما الثناء على الله باللسان ، وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة ، وإما طلب المكاشفات والمشاهدات ، فقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} كله ثناء على الله ، وقوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية ، ثم قال : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى الله ، وأما قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/104)

السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب : أن المقصود من جميع العلوم : إما معرفة عزة الربوبية ، أو معرفة ذلة العبودية فقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة ، ثم من قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية ، فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة الله تعالى وهدايته.
السبب الرابع : أن العلوم البشرية إما علم ذات الله وصفاته وأفعاله ، وهو علم الأصول وإما علم أحكام الله تعالى وتكاليفه ، وهو علم الفروع ، وإما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية. والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة ، وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه : فقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إشارة إلى علم الأصول : لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته ، فقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه رباً للعالمين ، وقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد ، ولا يكون مستحقاً للحمد إلا إذا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات ، ثم وصفه بنهاية الرحمة ـ وهو كونه رحماناً رحيماً ـ ثم وصفه بكمال القدرة ـ وهو قوله مالك يوم الدين ـ حيث لا يهمل أمر المظلومين ، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين ، وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول ، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع ، وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية ، وهو قول : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ثم مزجه أيضاً بعلم الأصول مرة أخرى ، وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية ، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة : أولها : حصول هداية النور في القلب ، وهو المراد من قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وثانيها : أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية ، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى ، وهو قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وثالثها : أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات ، وهو قوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وعن أوزار الشبهات ، وهو قوله : {وَلا الضَّآلِّينَ} فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب ، فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
السبب الخامس : قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب ، قال : سمعت أبا بكر القفال قال : سمعت أبا بكر بن دريد يقول : الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر ، قال قيس بن الحطيم : ـ
فنصبنا أمنا حتى ابذعروا
وصاروا بعد ألفتهم سلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية ، والعرب تسمى الأرض أماً ؛ لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ، ولأنه يقال : أم فلان فلاناً إذا قصده.
الاسم الرابع : من أسماء هذه السورة "السبع الثاني" قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} (الحجر : 87) وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه : ـ
الأول : أنها مثنى : نصفها ثناء العبد للرب ، ونصفها عطاء الرب للعبد.
الثاني : سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة.
الثالث : سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب ، قال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم.
الرابع : سميت مثاني لأنها سبع آيات ، كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن ، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ثواب من قرأ كل القرآن.
الخامس : آياتها سبع ، وأبواب النيران سبعة ، فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة ، والدليل عليه ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلّم : يا محمد ، كنت أخشى العذاب على أمتك. فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال : لم يا جبريل ؟
قال : لأن الله تعالى قال : وإن جهنم لموعدهم أجمعين ، لها سبعة أبواب ، لكل باب منهم جزء مقسوم) (الحجر : 43 ، 44) وآياتها سبع فمن قرأها صارت كل آية طبقاً على باب من أبواب جهنم ، فتمر أمتك عليها منها سالمين.
السادس : سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى.
/ السابع : سميت مثاني لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له.
(1/105)

الثامن : سميت مثاني لأن الله أنزلها مرتين ، واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى : {سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} في سورة الحجر.
الاسم الخامس : الوافية ، كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم ، قال الثعلبي ، وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز ، وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الاسم السادس : الكافية ، سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها ، وأما غيرها فلا يكفي عنها ، روى محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضاً عنها".
الاسم السابع : الأساس ، وفيه وجوه : ـ
الأول : أنها أول سورة من القرآن ، فهي كالأساس.
الثاني : أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه ، وذلك هو الأساس.
الثالث : أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة ، وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بدّ منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها.
الاسم الثامن : الشفاء ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ، ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : هي أم القرآن ، وهي شفاء من كل داء.
وأقول : الأمراض منها روحانية ، ومنها جسمانية ، والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضاً فقال تعالى : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات ، فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة.
الاسم التاسع : الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام : "يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد هذه السورة".
الاسم العاشر : السؤال ، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حكي عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال : "من شغله ذكرى عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" ، وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) إلى أن قال : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83) ففي هذه السورة أيضاً وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله : (الحمد لله إلى قوله مالك يوم الدين) ثم ذكر العبودية وهو قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين ، وهو أيضاً يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله {اهْدِنَا} ولم يقل إرزقنا الجنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الاسم الحادي عشر : سورة الشكر ، وذلك لأنها ثناء على الله بالفضل والكرم والإحسان.
الاسم الثاني عشر : سورة الدعاء ، لاشتمالها على قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء والله أعلم.
الباب الثاني
في فضائل هذه السورة ، وفيه مسائل :
كيفية نزولها :
المسألة الأولى : ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال : الأول : أنها مكية ، روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ، ثم قال الثعلبي : وعليه أكثر العلماء ، وروى أيضاً بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال : أول ما نزل من القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسر إلى خديجة فقال : "لقد خشيت أن يكون خالطني شيء" ، فقالت : وما ذاك ؟
قال : "إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ" ، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة : إذا أتاك النداء فاثبت له ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "بسم الله الرحمن الرحيم" ، فقالت قريش : دق الله فاك.
والقول الثاني : أنها نزلت بالمدينة ، روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال : فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل : لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد ، لأن العلماء على خلافه ، ويدل عليه وجهان : الأول : أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ، ومنها قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} ، (الحجر : 87) وهي فاتحة الكتاب ، وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم ، الثاني : أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب.
/ القول الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت بمكة مرة ، وبالمدينة مرة أخرى ، فهي مكية مدنية ، ولهذا السبب سماها الله بالمثاني ؛ لأنه ثنى إنزالها ، وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها.
(1/106)

المسألة الثانية : في بيان فضلها ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم ، وعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة ، وعن الحسين قال : أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة ، وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان ، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل ، ثم أودع علوم المفصل في الفاحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
قلت : والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة ، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية.
المسألة الثالثة : قالوا : هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف ، وهي الثاء ، والجيم والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور ، قال تعالى : {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} والجيم أول حروف اسم جهنم ، قال تعالى : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 43) وقال تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } (الأعراف : 179) وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى : {يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه } (التحريم : 8) وقال تعالى : {إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّواءَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (النحل : 27) وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق ، قال تعالى : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وأيضاً الزاي تدل على الزقوم ، قال تعالى : {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ} (الدخان : 43) والشين تدل على الشقاوة ، قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ} (هود : 106) وأسقط الظاء لقوله : {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} (المراسلات : 30) وأيضاً يدل على لظى ، قال تعالى : {كَلا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى } (المعارج : 15) وأسقط الفاء ؛ لأنه يدل على الفراق ، قال تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (الروم : 14) وأيضاً قال : {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍا وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } (طه : 61).
/ فإن قالوا : لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعاً من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة ، فنقول : الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر : 44) والله تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة ، وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب ، تنبيهاً على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم ، والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الثالث
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة ، وفيه مسائل :
أسرار الفاتحة :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فكأن سائلاً يقول : الحمد لله منبي عن أمرين : أحدهما : وجود الإله ، والثاني : كونه مستحقاً للحمد ، فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق الحمد ؟
ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين ، فأجاب عن السؤال الأول بقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} وأجاب عن السؤال الثاني بقوله : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل : ـ
المسألة الأولى : إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً ، لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري ، لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظرياً ، والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ، ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه ، فكان قوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم.
(1/107)

ثم فيه لطائف : اللطيفة الأولى : أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى الله فقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده ، وفي بقائه إلى إبقائه ، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم ، كما قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الإسراء : 44).
/ اللطيفة الثانية : أنه تعالى لم يقل الحمد لله خالق العالمين ، بل قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها ، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا ؟
فقال قوم : الشيء حال بقائه يستغني عن السبب ، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه ، فقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها ، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه ، أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيهاً على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
اللطيفة الثالثة : أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن ، وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه/ فقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.
ثم إنه تعالى افتتح سوراً أربعة بعد هذه السورة بقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فأولها : سورة الأنعام وهو قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى الله ، والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى الله ، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة ، وأيضاً فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السموات والأرض ؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه رباً للعالمين ، وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء الله كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى ، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه ، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة.
وثانيها : سورة الكهف ، وهو قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف ، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات ، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط ، وقوله في أول سورة الفاتحة : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ، ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السموات والأرضين ، فكان / المذكور في أول سورة الكهف نوعاً من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة.
وثالثها : سورة سبأ ، وهو قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} فبين في أول سورة الأنعام أن السموات والأرض له ، وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السموات والأرض له ، وهذا أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ورابعها : قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (فاطر : 1) والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقها لها ، والخلق هو التقدير ، والمذكور في هذه السورة كونة فاطراً لها ومحدثاً لذواتها ، وهذا غير الأول إلا أنه أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقاً للسموات والأرض ذكر كونه جاعلاً للظلمات والنور ، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السموات والأرض ذكر كونه جاعلاً الملائكة رسلاً ، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السموات والأرض جعل الروحانيات ، وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فهذا هو التنبيه على أن قوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم.
(1/108)

المسألة الثانية : أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضاً مشتملة على الدلالة على كونه متعالياً في ذاته عن المكان والحيز والجهة ، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى الله ومن جملة ما سوى الله المكان والزمان ، فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد ، والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية ، فقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} يدل على كونه رباً للمكان والزمان وخالقًا لهما وموجداً لهما/ ثم من المعلوم أن الخالق لا بدّ وأن يكون سابقاً وجوده على وجود المخلوق ، ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز ، متعالية عن الجهة والحيز ، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته ، وذلك محال ، فقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار.
المسألة الثالثة : هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية ؛ لأنه لما كان رباً للعالمين كان خالقاً لكل ما سواه ، والخالق سابق على المخلوق ، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل ، فكانت ذاته غنية عن كل محل ، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجباً بالذات ، بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم ، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع ، فلما حكم بكونه مستحقاً للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار ، وإنما عرفنا كونه فاعلاً مختاراً ؛ لأنه لو كان موجباً لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر لموجب ، ولامتنع وقوع التغير فيها ، وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات ، ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقاً للحمد.
المسألة الخامسة : لما خلق الله العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل ، وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالماً فثبت بما ذكرنا أن قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزهاً عن الحيز والمكان ، ويدل على كونه منزهاً عن الحلول في المحل ، ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة.
وأما السؤال الثاني ـ وهو قوله : هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء ؟
والجواب هو قوله : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين : إما أن يكون في السلامة والسعادة ، وإما أن يكون في الألم والفقر والمكاره ، فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق الله وتكوينه وإيجاده ، فكان رحماناً رحيماً ، وإن كان في المكاره والآفات ، فتلك المكاره والآفات إما أن تكون من العباد ، أو من الله ، فإن كانت من العباد فالله سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين ، وإن كانت من الله فالله تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات ، وإذا كان الأمر كذلكثبت أنه لا بدّ وأن يكون مستحقاً للحمد الذي لا نهاية له ، والثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مرتب ترتيباً لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/109)

واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية ، واعلم أن الإنسان مركب من جسد ، ومن روح ، والمقصود من الجسد أن يكون / آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية/ وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته ، وتلك الأعمال هي العبادة ، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظباً على العبادات ، وهذه أول درجات سعادة الإنسان ، وهو المراد بقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب ، وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق الله تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات ، وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات ، وهو المراد من قوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من الله ، وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية الله وهو المراد من قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وفيه لطائف : ـ
اللطيفة الأولى : أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم ، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه : الأول : أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات ، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان ، فهما طرفان معوجان ، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل ، والثاني : أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر ، ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان ، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله ، وأما في الأعمال فنقول : من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور ، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود ، والصراط المستقيم هو الوسط ، وهو العفة ، وأيضاً من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور ، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن ، والصراط المستقيم هو الوسط ، وهو الشجاعة.
اللطيفة الثانية : أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية ، والأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم ، وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
اللطيفة الثالثة : قال بعضهم : إنه لما قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لم يقتصر عليه ، بل قال : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات / الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل ، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق ، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط ، فلا بدّ من كامل يقتدى به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل ؛ فحينئذٍ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات.
وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40).
المسألة الثانية : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة : ـ
(1/110)

اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر ، والمحبوب والمكروه ، وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها ، إلا أنا نقول : الشر وإن كان كثيراً إلا أن الخير أكثر ، والمرض وإن كان كثيراً إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيراً إلا أن الشبع أكثر منه ، وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائماً في التغيرات والانتقال من حال إلى حال ، ثم إنه يجب الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة/ أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة ، إذا عرفت هذا فنقول أن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر ، ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم ، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بدّ له من سبب ، ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتاً حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بدّ له من فاعل تولى بناء ذلك البيت ، ولو أن إنساناً شككنا فيه لم نتشكك ، فإنه لا بدّ وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادراً ، إذ لو كان موجباً بالذات لدام الأثر بدوامه ، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر ، وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيماً محسناً ؛ فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة والخير والبهجة والسلامة ، ومن كان غالب أفعاله راحة وخيراً وكرامة وسلامة كان رحيماً محسناً ، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد ، ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضراً في عقل كل أحد ؛ فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول ، وكأنه قيل : لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط ، بل هو إله كل العالمين ، وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان / وهذه المعاني قائمة في كل العالمين ، فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات ، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها ، وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول ، فهذا يقتضي كونه ربًا للعالمين ، وإلهًا للسموات والأرضين ، ومدبراً لكل الخلائق أجمعين ، ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بدّ وأن يكون قادراً على إهلاكها ، ولا بدّ وأن يكون غنياً عنها ، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال ، وحينئذٍ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه ، وبأي طريق أتوسل إليه ، فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض ، فكأنه قال : أيها العبد الضعيف ، أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة ، فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين ، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين ، لا أضيع عملاً من أعمالك ، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات ، وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة.
ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء : أولها : مقام الشريعة ، وهو أن يواظب على الأعمال الظاهرة ، وهو قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وثانيها : مقام الطريقة ، وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب ، فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب ، وهو قوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وثالثها : أنه يشاهد عالم الشهادة معزولاً بالكلية ، ويكون الأمر كله لله ، وحينئذٍ يقول : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
ثم إن ههنا دقيقة ، وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد ، فحينئذٍ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود ، فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية/ حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم ، فحينئذٍ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة ، فلهذا قال : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد ؛ بين أيضاً أن /الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان ، فلهذا قال : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم الفساق {وَلا الضَّآلِّينَ} وهم الكفار.
(1/111)

ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة ـ أعني الشريعة المدلول عليها بقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، والطريقة المدلول عليها بقوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، والحقيقة المدلول عليها بقوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ـ ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء ، فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية.
المسألة الثالثة : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة ، اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى جر الخيرات واللذات ، ودفع المكروهات والمخافات ، ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة ، ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة ، ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوباً بالذات ، وكان استقراء أحوال هذا العالم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة ، ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب ـ صار هذا المعنى سبباً لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة ، وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء ، شديد الحب لها ، عظيم الميل والرغبة إليها ، ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضاً أن حب التشبه غالب على طباع الخلق. أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ. وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعه إلى الفسق ، وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا فنقول : إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار ، وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل والطلب في قلبه أقوى وأثبت ، وأيضاً فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة. وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضاً يوجب استحكام هذه الحالة. فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب / الموجبة لحب الدنيا والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدًا ثم نقول : إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملاً شافياً وافياً فيقول : هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا ؟
الأول باطل ، لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزاً ، وأقلهم عقلاً ، فعند هذا ، يظهر له أن تلك الأمارة والرياسة ما حصلت له بقوته ، وما هيئت له بسبب حكمته ، وإنما حصلت تلك الأمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه ، ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها ، فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة/ وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب ، ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال : هو الضار ، وعند هذا لا يحمد أحداً عى فعل إلا الله ، ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى الله ، فيصير الحمد كله لله والثناء كله لله ، فعند هذا يقول العبد
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
(1/112)

واعلم أن الإستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير الله ، ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير الله ، وذلك هو قوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحه في الدنيا إنما تهيأت برحمة الله وفضله وإحسانه ، ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ليس إلا الذي عرفته بأنه هو الرحمن الرحيم ، فحينئذٍ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه ويعلم أن المتكفل بإصلاح بمهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا الله ، وحينئذٍ ينقطع التفاته عما سوى الله ولا يبقى متعلق القلب بغير الله ، ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولاً بخدمتهما ، وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما وكان يطلب الخير منهما ، فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلاً بخدمة الأمير والوزير فلان يشتغل بخدمة المعبود كان أولى ، فعند هذا يقول : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، والمعنى إني كنت قبل هذا / أعبد غيرك ، وأما الآن فلا أعبد أحداً سواك ، ولما كان يستعين في تحصيل المهمات بالأمير والوزير فلأن يستعين بالمعبود الحق في تحصيل المرادات كان أولى ، فيقول : وإياك نستعين والمعنى : إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك ، ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى ، فيقول : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ثم إن أهل الدنيا فريقان : أحدهما : الذين لا يعبدون أحداً إلا الله ولا يستعينون إلا بالله ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من الله ، والفرقة الثانية ، الذين يخدمون الخلق ويستعينوا بهم ويطلبون الخير منهم ، فلا جرم العبد يقول : إلهي اجعلني في زمرة الفرقة الأولى ، وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية ، ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية وهم المغضوب عليهم والضالون ، فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً ؟
والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الرابع
في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة
فقه الفاتحة :
المسألة الأولى : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة ، وعن الأصم والحسن بن صالح أنها لا تجب.
لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب وتزيد ههنا وجوهًا : ـ
الأول : قوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ } (الإسراء : 78) والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر للوجوب.
الثاني : عن أبي الدرداء أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : أفي الصلاة قراءة فقال : نعم ، فقال السائل : وجبت ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك الرجل على قوله وجبت.
الثالث : عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل : أيقرأ في الصلاة ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : أتكون صلاة بغير قراءة ، وهذان الخبران نقلتهما من "تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني".
/ حجة الأصم قوله عليه الصلاة والسلام : صلوا كما رأيتموني أصلي ، جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست بمرئية ، فوجب كونها خارجة عن الصلاة ، والجواب أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله : قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة ، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته ، وبه قال الأكثرون ، وقال أبو حنيفة لا تجب قراءة الفاتحة.
(1/113)

لنا وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام واظب طول عمره على قراءة لفاتحة في الصلاة فوجب أن يجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} ولقوله : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه } (النور : 63) ولقوله تعالى : {فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 31) ويا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد ، وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه ، في أنه عليه الصلاة والسلام مسح على الناصية ، فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة ، وههنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه عليه الصلاة والسلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها ، وهذا من العجائب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثانية : قوله تعالى : {وَأَنْ أَقِيمُوا } والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق ، وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتي بها : وإذا كان كذلك كان قوله : "أقيموا الصلاة" جارياً مجرى قوله : "أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول ، والتي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصلاة المشتملة على الفاتحة ، فيكون قوله : {إِلَى الصَّلَواةِ} أمراً بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب ، ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.
الحجة الثالثة : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدل عليه أيضاً ما روى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ، وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي" ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" ، والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة / طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضاً يوجب عدم الإرث ، فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الأطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والأخبار والمعقول ؟
.
الحجة الرابعة : أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل ، فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة ، إذا ثبت هذا فنقول : إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله : {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِه جَهَنَّمَا وَسَآءَتْ مَصِيرًا} (النساء : 115) فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرءوها لا على اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها ، فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يأتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العمل ، فدخل تحت الوعيد ، وهذا القدر يكفينا في الدليل ، ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الخامسة : الحديث المشهور ، وهو أنه سبحانه وتعالى قال : "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى : حمدني عبدي ، إلى آخر الحديث ، وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة ، فنقول : الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف ، وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة.
(1/114)

الحجة السادسة : قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، قالوا : حرف النفي دخل على الصلاة ، وذلك غير ممكن ، فلا بدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة ، وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال ، والجواب من وجوه : الأول : أنه جاء في بعض الروايات : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عهدة للتكليف بسببها ، وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره ، الثاني : من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها ، وإذا ثبت هذا / فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزأ من الصلاة ، وهذا هو أول المسألة ، فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره. الثالث : هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره ، إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان : أحدهما : أقرب إلى الحقيقة. والثاني : أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب ، إذا ثبت هذا فنقول : المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحاً لكنه لا يكون كاملاً ، فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى. الوجه الرابع : أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه : أحدها : أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان ، والثاني : أن جانب الحرمة راجح ، والثالث : أن هذا أحوط.
الحجة السابعة : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ، غير تمام ، قالوا : الخداج هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز ، قلنا : بل هذا يدل على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصلاة قائم ، والأصل في الثابت البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال ، فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة ، والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح ، قال : لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة ، وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في "تعليقه" عن ابن المنذر أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب".
والحجة التاسعة : روى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى ، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إذا توجهت إلى القبلة فكبر ، واقرأ بفاتحة الكتاب" ، وجه الدليل أن هذا أمر ، والأمر للوجوب ، وأيضاً الرجل قال : علمني الصلاة ، فكل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلّم وجب أن يكون من الصلاة ، فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزأ من أجزاء الصلاة.
الحجة العاشرة : روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : "ألا أخبركم بسورة ليس في / التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها" ، قالوا : نعم ، قال : "فما تقرؤن في صلاتكم ؟
" قالوا : الحمد لله رب العالمين ، فقال : "هي هي" ، وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال : ما تقرؤن في صلاتكم فقالوا : الحمد لله ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة ، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.
الحجة الحادية عشرة : التمسك بقوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) وجه الدليل أن قوله "فاقرؤا" أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة ، فنقول : المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة ، أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها والأول : يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب ، والثاني : يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا ، وهو باطل بالإجماع ، والثالث : يقتضي أن يكون المكلف مخيراً بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها ، وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها ، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.
واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل ، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل.
(1/115)

الحجة الثانية عشرة : الأمر بالصلاة كان ثابتاً ، والأصل في الثابت البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة ، لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور ، ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة ، فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثالثة عشرة : قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين ، فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول ، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس ، ودفع الضرر عن النفس واجب ؛ فإن قالوا : فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه ، فيبقى الخوف ، قلت : اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل ، واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضاً فيتقابل هذان الضرران ، وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف ، أما تركه فيفيد / الخوف ، فثبت أن الأحوط هو العمل.
الحجة الرابعة عشرة : لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى ؛ لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز ، لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى/ فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة.
الحجة الخامسة عشرة : أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما ، فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها ، والجامع رعاية الاحتياط.
الحجة السادسة عشرة : الأصل بقاء التكليف ، فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة ، أما أن يعرف بالنص أو القياس ، أما الأول فباطل ، لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } وقد بينا أنه دليلنا ، وأما القياس فباطل ، لأن التعبدات غالبة على الصلاة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.
الحجة السابعة عشرة : لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذٍ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام : "اتبعوا ولا تبتدعوا" ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : "وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها".
الحجة الثامنة عشرة : الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة وبدون الفاتحة إما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل ، والأول باطل بالإجماع ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة ، فتعين الثاني ، فنقول : الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر فوجب أن لا يجوز المصير إليه ، لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحاً في الشرع.
واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أخرج ، وأنادي : لا صلاة إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا ، وذلك لأن قوله {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة فنقول : المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة ، أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها ، والأول : يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب ، والثاني : يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها ، وهو باطل بالإجماع / والثالث : يقتضي أن يكون المكلف مخيراً بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها ، وذلك باطل بالإجماع ؛ لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها ، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.
واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين ، فهي متيسرة للكل ، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسرة للكل.
وعن الثاني : أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أخرج وأنادي : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، وأيضاً لم لا يجوز أن يقال : المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ؟
وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا ؛ لأنه أحوط ، ولأنه أفضل ، والله أعلم.
(1/116)

المسألة الثالثة : لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة ، فقال أبو حنيفة : إذا قرأ آية واحدة كفت ، مثل قوله : ألم ، وحم والطور ، ومدهامتان ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا بدّ من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين.
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه : بسم الله الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة/ وتجب قراءتها مع الفاتحة ، وقال مالك والأوزاعي رضي الله تعالى عنهما : إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل ، ولا يقرأ لا سراً ، ولا جهراً إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه ، وإنما قال : يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ويسر بها ، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا ، قال يعلى : سألت محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : ما بين الدفتين قرآن ، قال : قلت : فلم تسره ؟
قال : فلم يجبني ، وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة ، وقال بعض فقهاء الحنفية : تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم ، فالأولى السكوت عنه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل : إحداها : أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد ، أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية.
/ وثانيتها : أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها ؟
.
وثالثتها : الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار ، فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث.
المسألة الخامسة : في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية ، وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية ، قال : والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق ، واحتج عليه بأن التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل ، لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن ، ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة. والثاني : أيضاً باطل ؛ لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن ، فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنياً ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف ، وذلك يبطل الإسلام.
واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال : نفي كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف ، وإن ثبت بالآحاد فحينئذٍ يصير القرآن ظنياً ، ثم أورد على نفسه سؤالاً وهو أنه لو قال قائل : "ليس من القرآن عدم" فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل ؛ لأن الأصل هو العدم ، وأما قولنا : (أنه قرآن) فهو ثبوت فلا بدّ فيه من النقل ، ثم أجاب عنه بأن قال : هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن ، فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل ، وحينئذٍ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق إما أن يكون تواتراً أو آحاداً ، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ، فهذا آخر ما قيل في هذا الباب.
والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم الله الرحمن الرحيم كلام أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلّم ، وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا أنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا ، وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا ، ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية ، فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها ، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي ، وسقط تهويل القاضي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة السادسة : في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة ، قال قراء / المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة/ وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة ، وهو قول ابن المبارك والثوري ، ويدل عليه وجوه : ـ
الحجة الأولى : روى الشافعي رضي الله عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ، الحمد لله رب العالمين آية ، الرحمن الرحيم آية ، مالك يوم الدين آية ، إياك نعبد وإياك نستعين آية ، إهدنا الصراط المستقيم آية ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الظالمين آية ، وهذا نص صريح.
(1/117)

الحجة الثانية : روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم.
الحجة الثالثة : روى الثعلبي في "تفسيره" بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري ، فقلت بلى ، فقال : بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ؟
قلت : ببسم الله الرحمن الرحيم ، قال : هي هي ، فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن.
الحجة الرابعة : روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال له : كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة ، قال : أقول الحمد لله رب العالمين ، قال : قل : بسم الله الرحمن الرحيم.
وروى أيضاً بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
وروى أيضاً بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص.
وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} قال : فاتحة الكتاب ، فقيل لابن عباس : فأين السابعة ؟
فقال : بسم الله الرحمن الرحيم.
وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها.
وبإسناده أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله سبحانه مجدني / عبدي ، وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تبارك وتعالى حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله عزّ وجلّ أثنى على عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين قال الله فوض إلى عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وبإسناده عن أبي هريرة قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلّم يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي ، فافتتح الصلاة وتعوذ ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك ، فقال له : يا رجل ، قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد ، من تركها فقد ترك آية منها ، ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته ، فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته.
وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله".
واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه الله.
الحجة الخامسة : قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها/ بيان الأول قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ولا يجوز أن يقال : الباء صلة زائدة ، لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة ، وإذا كان هذا الحرف مفيداً كان التقدير إقرأ مفتتحاً باسم ربك ، وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة ، فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صوناً للنص عن التعطيل.
الحجة السادسة : التسمية مكتوبة بخط القرآن ، وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ، ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف ، ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس ، والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن ، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن ، ولما أجمعوا على كتبها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن.
الحجة السابعة : أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله والتسمية موجودة بين الدفتين ، فوجب جعلها من كلام الله تعالى ، ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتاً.
واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة / الفاتحة ، بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور ، وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي.
(1/118)

الحجة الثامنة : أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه ، قال : قوله بسما لله الرحمن الرحيم آية واحدة ، وقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية واحدة ، وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه قال : بسم الله ليس بآية منها ، لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية ، وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف ، فحينئذٍ يبقى أن الآيات لا تكون سبعاً إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية منها تامة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة التاسعة : أن نقول : قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة ، فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل ، وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} وإذا ثبت وجوب قراتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة العاشرة : قوله عليه السلام : "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة ، فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم الله يوجب كون هذه الصلاة بتراء ، ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل ، بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدواً للرسول عليه السلام فقال : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} ، (الكوثر : 3) فلزم أن يقال : الصلاة الخالية عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل النقصان قال بفساد هذه الصلاة ، وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها.
الحجة الحادية عشرة : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لأبي بن كعب : "ما أعظم آية في كتاب الله تعالى ؟
" فقال : بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله. وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية ، ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} (النمل : 30) بل هذا بعض آية ، فلا بدّ وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع ، وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة.
الحجة الثانية عشرة : إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن / ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم/ فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت ؟
أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن ؟
فأعاد معاوية الصلاة وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة ، وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثالثة عشرة : أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم الله ، فوجب أن يجب على رسولنا صلى الله عليه وسلّم ذلك ، وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضاً في حقنا ، وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة ، أما المقدمة الأولى : فالدليل عليها أن نوحاً عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال : {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } (هود : 41) وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن قالوا : أليس أن قوله تعالى : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم الله تعالى ؟
قلنا : معاذ الله أن يكون الأمر كذلك ، وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس ، وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة ، فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب ، وكانت قد سمعت باسم سليمان ، فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها : إنه من سليمان ، فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت : {وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} . فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر بسم الله الرحمن الرحيم ، والمقدمة الثانية : أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك ، لقوله تعالى : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة ، لأنه لا قائل بالفرق.
(1/119)

الحجة الرابعة عشرة : أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات ؛ لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق ، والقديم الخالق يجب أن يكون سابقاً على المحدث المخلوق ، وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقاً على ذكر غيره ، وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار والقراءات ، وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في / العقول وجب أن يكون معتبراً في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام : "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضاً أنها آية من الفاتحة ، لأنه لا قائل بالفرق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الخامسة عشرة : أن بسم اللهالرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن ، فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله (الرحمن : 13) تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقوله تعالى : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} مكرراً في القرآن بخط واحد وصورة واحدة ، قلنا : إن الكل من القرآن.
الحجة السادسة عشرة : روى أنه صلى الله عليه وسلّم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش "باسمك اللهم" حتى نزل قوله تعالى : {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } (هود : 41) فكتب "بسم الله" فنزل قوله : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } (الإسراء : 11) فكتب "بسم الله الرحمن" فلما نزل قوله تعالى {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} (النحل : 30) كتب مثلها ، وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن ، ومجموعها من القرآن ، ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن ، إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك ، وذلك يوجب الطعن في القرآن.
الحجة السابعة عشرة : قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف ، وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته ، وهل يجوز للجنب قراءته ، وللمحدث مسه ؟
فنقول : ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : دع ما يريبك إلا ما لا يريبك.
واحتج المخالف بأشياء : الأول : تعلقوا بخبر أبي هريرة ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله تعالى أثنى على عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي والاستدلال بهذا الخبر من وجهين : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية ، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها ، والثاني : أنه تعالى قال : جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، والمراد من الصلاة الفاتحة ؛ وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية / ليست آية من الفاتحة ، لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد لله إلى قوله إياك نعبد ـ وللعبد ثلاث آيات ونصف ـ وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة ـ أما إذا جعلنا بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف ، وللعبد آيتان ونصف ، وذلك يبطل التنصيف المذكور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثانية : روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله رب العالمين ، وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة.
الحجة الثالثة : لو كان قوله بسم الله الرحمن الرحيم آية من هذه السورة : لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم ، وذلك بخلاف الدليل.
(1/120)

والجواب عن الحجة الأولى من وجوه : الأول : أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما ذكر هذا الحديث عد بسم الله الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة ، ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا ، لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي. الثاني : روى أبو داود السختياني عن النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : وإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول الله تعالى مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله في مالك يوم الدين هذا بيني وبين عبدي ، يعني في القسمة ، وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها ، وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه. الثالث : أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضاً يحتمل النصف في المعنى ، قال عليه الصلاة والسلام : الفرائض نصف العلم ، وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات ، والموت والحياة قسمان ، وقال شريح : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، سماه نصفاً من حيث إن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون ، الرابع : إن دلائلنا في أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة ، وهذا الخبر الذي تمكسوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا/ لكن المقصود منه بيان شيء آخر ، فكانت دلائلنا أقوى وأظهر.
الخامس : أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط.
والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال : لعل عائشة جعلت الحمد لله رب العالمين إسماً لهذه السورة ، كما يقال : قرأ فلان "الحمد لله الذي خلق السموات" والمراد أنه قرأ هذه / السورة ، فكذا ههنا ، وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك.
والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن ، وتأكيد كون الله تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات ، والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/121)

المسألة السابعة : في بيان عدد آيات هذه السورة ، رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول : هذه السورة ثمانِ آيات ، فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات ، وبه فسروا قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} (الحجر : 87) إذا ثبت هذا فنقول : الذين قالوا إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} آية تامة ، وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية ، وقوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} آية أخرى ، إذا عرفت هذا فنقول : الذي قاله الشافعي أولى ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن مقاطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم ؛ لأنا وجدنا مقطاع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة "ق" والمتشاكلة كما في سورة القمر ، وقوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليس من القسمين ، فامتنع جعله من المقاطع. الثاني : أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير ، وهذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله ، والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد ، وكذلك الاستثناء مع المستنثى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل ، إما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة ، كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثني منه كلاماً واحداً وآية واحدة ، وذلك أقرب إلى الدليل. الثالث : أن المبدل منه في حكم المحذوف ، فيكون تقدير الآية إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم الله عليهم لا يجوز إلا بشرطين : أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه ، ولا ضالاً ، فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به ، والدليل عليه قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} (إبراهيم : 28) وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم ، فثبت أنه لا يجوز فصل قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} عن قوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بل هذا المجموع كلام واحد ، فوجب القول بأنه آية واحدة ، فإن قالوا : أليس أن قوله الحمد لله رب العالمين آية واحدة ، وقوله / الرحمن الرحيم آية ثانية ، ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها ، بل هي متعلقة بما قبلها ؟
قلنا : الفرق أن قوله الحمد لله رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم ، فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة ، ولا كذلك هذا ، لما بينا أن مجرد قوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاماً تاماً ، بل ما لم يضم إليه قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين لم يصح قوله إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم/ فظهر الفرق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثامنة : ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا : أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السور ، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية ، وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدًا ممن قبله لم يقل إن بسم الله آية من أوائل سائر السور ، ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآناً ، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في سور الملك : إنها ثلاثون آية ، وفي سورة الكوثر : إنها ثلاث آيات ، ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية ، فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور ، والجواب أنا إذا قلنا بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل ، فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا إنها بعض آية من سائر السور ؟
قلنا : هذا غير بعيد ، ألا ترى أن قوله الحمد لله رب العالمين آية تامة ، ثم صار مجموع قوله : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } (يونس : 10) آية واحدة : فكذا ههنا وأيضاً فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات ، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور ، فسقط هذا السؤال.
الجهر بالبسملة في الصلاة :
(1/122)

المسألة التاسعة : يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال : التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة ، وأما الشافعي فإنه قال : إنها آية منها ويجهر بها ، وقال أبو حنيفة : ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضاً ، فنقول : الجهر بها سنّة ، ويدل عليه وجوه وحجج.
الحجة الأولى : قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة ، وإذا ثبت هذا فنقول : الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية ، فأما أن يكون بعضها سرياً / وبعضها جهرياً فهذا مفقود في جميع السور ؛ وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعاً في القراءة الجهرية.
الحجة الثانية : أن قوله بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على الله وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله تعالى : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } (البقرة : 200) ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخراً بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفاً منه ، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر الله أولى عملاً بقوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } .
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثالثة : هي أن الجهر بذكر الله يدل على كونه مفتخراً بذلك الذكر غير مبالٍ بإنكار من ينكره ، ولا شك أن هذا مستحسن في العقل ، فيكون في الشرع كذلك ؛ لقوله عليه السلام : "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" ومما يقوي هذا الكلام أيضاً أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره ، لئلا ينكشف ذلك العيب. أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفائه ؟
ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكراً لله بالتعظيم ، ولهذا قال عليه السلام : "طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله" وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين. ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه ؟
ولهذا السبب نقل أن علياً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات/ وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين.
الحجة الرابعة : ما رواه الشافعي بإسناده ، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار. يا معاوية ، سرقت منا الصلاة ، أين بسم الرحمن الرحيم ؟
وأين التكبير عند الركوع والسجود ؟
ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير ، قال الشافعي : إن معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.
الحجة الخامسة : روى البيهقي في "السنن الكبير" عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن /عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وأما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله عليه السلام : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.
الحجة السادسة : إن قوله بسم الله الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بدّ من إضماره ، والتقدير بإعانة اسم الله اشرعوا في الطاعات ، أو ما يجري مجرى هذا المضمر ، ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله ، ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول ، فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ؛ (آل عمران : 110) لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف ، وهو الرجوع إلى الله بالكلية والاستعانة بالله في كل الخيرات ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/123)

واحتج المخالف بوجوه وحجج : الحجة الأولى : روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ، وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه ، وفيه أنهم لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" وفي رواية أخرى "ولم أسمع أحداً منهم قال بسم الرحمن الرحيم" وفي رواية رابعة "فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم".
الحجة الثانية : ما روى عبد الله بن المغفل أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال : يا بني إياك والحدث في الإسلام ، فقد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وخلف أبي بكر ، وخلف عمر ، وعثمان ، فابتدؤا القراءة بالحمد لله رب العالمين ، فإذا صليت فقل : الحمد لله رب العالمين ، وأقول : إن أنساً وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ، ولم يذكرا علياً ، وذلك يدل على إطباق الكل على أن علياً كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
الحجة الثالثة : قوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، (آل عمران : 55) {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (آل عمران : 205) وبسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله ، فوجب إخفاؤه ، وهذه الحجة استنبطها الفقهاء / واعتمادهم على الكلامين الأولين.
والجواب عن خبر أنس من وجوه : الأول : قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني : روى عن أنس في هذا الباب ست روايات ، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات : إحداها : قوله صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وثانيتها قوله : أنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها قوله : لم أسمع أحداً منهم قال بسم الله الرحمن الرحيم ، فهذه الروايات الثلاث تقوى قول الحنفية ، وثلاث أخرى تناقض قولهم : إحداها : ما ذكرنا أن أنسًا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار ، وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم. وثانيتها : روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها : أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والأسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب ، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل ، وأيضاً ففيها تهمة أخرى ، وهي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر ، سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام ، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ، ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى ، فهذا جواب قاطع في المسألة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/124)

ثم نقول : هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا ، إلا أن الترجيح معنا ، وبيانه من وجوه : الأول : أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل ، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، وهؤلاء كانوا أكثر علماً وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أنس وابن المغفل. والثاني : أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل ، ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بإن إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها ، فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي ؟
والثالث : أن من المعلوم بالضرورة أن النبي / عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر ، والعلماء على غير العلماء ، والإشراف على الإعراب ، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل ، والغالب على الظن أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه ، وأيضاً أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالاً لقوله تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء : 110) وأيضاً فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة ، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأن أنساً وابن المغفل ما سمعاه. الرابع : قال الشافعي : لعل المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستفتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه كان يقدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد لله رب العالمين المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسماً لهذه السورة. الخامس : لعل المراد/ من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت ، كما قال تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} . السادس : الجهر كيفية ثبوتية ، والإخفاء كيفية عدمية ، والرواية المثبتة أولى من النافية. السابع : أن الدلائل العقلية موافقة لنا ، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا ، ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما التمسك بقوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف : 205) فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر ، أما قوله بسم الله الرحمن الرحيم فالمراد منه قراءة كلام الله تعالى على سبيل العبادة والخضوع ، فكان الجهر به أولى.
المسألة العاشرة : في تفاريع التسمية وفيه فروع : ـ
فروع أحكام التسمية :
الفرع الأول : قالت الشيعة : السنّة هي الجهر بالتسمية ، سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية ، وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه.
الفرع الثاني : الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان : الأول : أن التسمية ليست من القرآن ، وهؤلاء فريقان : منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور ، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً فلا حاجة إلى إثبات التسمية ، فعلى هذا لو لم تكتب لجاز ، ومنهم من قال : إنه يجب إثباتها / في المصاحف ، ولا يجوز تركها أبداً. والقول الثاني : أنها من القرآن ، وقد أنزلها الله تعالى ، ولكنها آية مستقلة بنفسها ، وليست آية من السورة ، وهؤلاء أيضاً فريقان : منهم من قال : إن الله تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال : لا ، بل أنزلها مرة واحدة ، وأمر بإثباتها في أول كل سورة ، والذي يدل على أن الله تعالى أنزلها ، وعلى أنها من القرآن ما روى عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية فاصلة ، وعن إبراهيم بن يزيد قال : قلت لعمرو بن دينار : أن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم الله الرحمن الرحيم ليس من القرآن ، فقال : سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل سمعت سعيد بن جبير يقول : سمعت ابن عباس يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها ، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال : من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية ، وروى مثله عن ابن عمر ، وأبي هريرة.
الفرع الثالث : القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا ، فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جني وسفيان الثوري وابن أبي ليلى : يقرأ التسمية سراً ، وقال مالك : لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً ، وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك.
(1/125)

جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفرع الرابع : مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات ، أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة ، وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعاً عن أبي حنيفة ، أنه قال : إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها ، قال : وإن قرأها مع كل سورة فحسن.
الفرع الخامس : ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور ، وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة ، لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.
الفرع السادس : اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟
والصحيح عندنا أنه لا يجوز.
الفرع السابع : أجمع العلماء على أن تسمية الله على لوضوء مندوبة ، وعامة العلماء على / أنها غير واجبة لقوله صلى الله عليه وسلّم : "توضأ كما أمرك الله به" ، والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء ، وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمداً أو سهوًا لم تصح صلاته ، وقال إسحق إن تركها عامداً لم يجز ، وإن تركها ساهياً جاز.
الفرع الثامن : متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا ؟
المسألة في غاية الشهرة قال الله تعالى : {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } (الحج : 36) وقال تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام : 121).
الفرع التاسع : أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول "بسم الله" فإذا نام قال : "بسم الله" وإذا قام من مقامه قال : "بسم الله" وإذا قصد العبادة قال : "بسم الله" وإذا دخل الدار قال : "بسم الله" أو خرج منها قال : "بسم الله" وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال : "بسم الله" ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول : "بسم الله" وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل : "بسم الله" وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضاً : "بسم الله" وإذا حضر الموقف قال : "بسم الله" فتتباعد عنه النار ببركة قوله : "بسم الله".
ترجمة القرآن :
المسألة الحادية عشرة : قال الشافعي : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها ، وقال أبو حنيفة : أنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد : أنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر ، واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جداً ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
لنا حجج ووجوه : الحجة الأولى : أنه صلى الله عليه وسلّم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربي ، وواظب عليه طول عمره ، فوجب أن يجب علينا مثله ، لقوله تعالى : {فَاتَّبَعُوهُ} والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطاً في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي.
الحجة الثانية : أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي ، فوجب أن يجب علينا ذلك ، لقوله عليه السلام : "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ، ولقوله عليه السلام : "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ".
الحجة الثالثة : أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي ، / فوجب أن يجب علينا ذلك ، لقوله عليه السلام : "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة" ، قيل : ومن هم يا رسول الله ؟
قال : "ما أنا عليه وأصحابي". وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي ، فوجب أن يكون القارىء بالفارسية من أهل النار.
الحجة الرابعة : أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل الله تعالى ، فمن عدل عن هذا الطريق دخل قوله تعالى : {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء : 115).
(1/126)

الحجة الخامسة : أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة ، ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) ولقوله عليه السلام للإعرابي : "ثم إقرأ بما تيسر معك من القرآن"/ وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه : الأول : قوله تعالى : {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 192) إلى قوله : {بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} . (الشعراء : 195) الثاني : قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه } ، (إبراهيم : 4) الثالث : قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا} (فصلت : 44) وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآناً أعجمياً ، فيلزم أن يقال : أن كل ما كان أعجمياً فهو ليس بقرآن. الرابع : قوله تعالى : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88) فهذا الكلام المنظوم بالفارسية : إما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله ، أو لا عينه ولا مثله ، والأول معلوم البطلان بالضرورة ، والثاني باطل ، إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلاً لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتياً بمثل القرآن ، وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه في قوله : {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه } ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئاً للقرآن ، وهو المطلوب ، فثبت أن المكلف أمر بقراءة ولم يأتِ به ، فوجب أن يبقى في العهدة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة السادسة : ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ، فنقول : هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن ، والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع ، وبيانه من وجوه : الأول : أن أحداً من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن. الثاني : يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن / آتياً بقرآن مثل الأول وذلك باطل.
الحجة السابعة : روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن في الصلاة ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "قل سبحان الله والحمد لله إلى آخر هذا الذكر" ، وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح ، وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت.
الحجة الثامنة : يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاهاً رحماناً ومرحياناً وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم ، فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل ، ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآناً.
الحجة التاسعة : أنا إذا ترجمنا قوله تعالى : {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَـاذِه إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} (الكهف : 19) كان ترجمته بفرستيديكي أزشما بانقره بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست اره ازان بياورد ، ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظاً ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" ، وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات ، لأنه لا قائل بالفرق ، وأيضاً فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى : {هَمَّازٍ مَّشَّآءا بِنَمِيمٍ} (القلم : 11) إلى قوله : {عُتُلٍا بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ} (القلم : 13) فإن ترجمتها لا تكون شتماً من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى ، وكذلك قوله تعالى : {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُانبِتُ الارْضُ مِنا بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} (البقرة : 61) فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظاً ومعنى ، وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا : إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا : تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظاً ومعنى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/127)

الحجة العاشرة : قوله عليه الصلاة والسلام : "أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافِ كافِ ، ولو كا نت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآناً لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف ، لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة ، وحينئذٍ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة".
الحجة الحادية عشرة : أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات ، ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر / الآخرة وتقبيح الدنيا. فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة ، وبقراءة زيد وإنسان ، ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفاً من القرآن بل كان مواظباً على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى الله تعالى مطيعاً ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين.
الحجة الثانية عشرة : أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان ، وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب ، ولما كان باطلاً علمنا فساد هذا القول.
الحجة الثالثة عشرة : لو كان هذا جائزاً لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلي بها ، ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية ، ولبلال في أن يقرأ بالحبشية ؛ ولو كان هذا الأمر مشروعاً لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق ، لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس في تعلم اللغة العربية ، ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة ، ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية ، وذلك لا يقوله مسلم.
الحجة الرابعة عشرة : لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية ، وهذا جائز وذاك غير جائز ، وبيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئاً لم يفهم من القرآن شيئاً البتة ، أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ، ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني ، قال تعالى : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (طه : 14) وقال تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (محمد : 24) فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة ، وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد ، فلو كانت القراءة بالفارسي قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الخامسة عشرة : المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم ، والفارق ظاهر ، أما المقتضى / فلأن التكليف كان ثابتاً ، والأصل في الثابت البقاء ، وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه/ وذلك من وجهين : الأول : إن الإعجاز في فصاحته ؛ وفصاحته في لفظه والثاني : أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ ، وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصوناً عن التحريف ، وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (الحجر : 9) أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود ، فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر.
واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن ، وقراءة الترجمة قراءة القرآن ، ويدل عليه وجوه : الأول : روي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلاً القرآن فقال : {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ} (الدخان : 43) وكان الرجل عجمياً فكان يقول : طعام اليتيم : فقال : قل طعام الفاجر ، ثم قال عبد الله إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب الثاني : قوله تعالى : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 196) فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى : {إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (الأعلى : 18 ، 19) ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية الثالث : أنه تعالى قال : {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـاذَا} (الأنعام : 19) ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم ، ثم أنه تعالى سماه قرآناً ، فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن.
(1/128)

والجواب عن الأول أن نقول : إن أحوال هؤلاء عجيبة جداً ، فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود ، ثم أن الحنفية لا تلتفت إلى هذا ، بل نقول : إن القائل به شاك في دينه ، والشاك لا يكون مؤمناً ، فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة ؟
وإن لم يكن حجة فلم عليه في هذه المسألة ؟
ولعمري هذه المناقضات عجيبة ، وأيضاً فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به ؛ وأن نقول : أنه رجع عن هذه المذاهب ، وأما قوله تعالى : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 196) فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين ، وقوله تعالى : {لانذِرَكُم} فالمعنى لأنذركم معناه ، وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية عشرة : قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدى ؛ سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها ، وقال في القديم : تجب القراءة إذا أسر الإمام ، ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال ، ولنا وجوه : ـ
الحجة الأولى : قوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم.
الحجة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى : {فَاتَّبَعُوهُ} إلا أن يقال : إن كونه مأموماً يمنع منه إلا أنه معارضة.
الحجة الثالثة : أنا بينا أن قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا} أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعلها ، ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة ، فكان قوله : {وَأَنْ أَقِيمُوا } يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة.
الحجة الرابعة : قوله عليه السلام : "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقد ثبت تقرير وجه الدليل.
فإن قالوا : هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِ ، إلا أن يكون وراء الإمام ، قلنا : هذا الحديث طعنوا فيه.
الحجة الخامسة : قوله عليه الصلاة والسلام للأَعرابي الذي علمه أعمال الصلاة : "ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن" وهذا يتناول المنفرد والمأموم.
الحجة السادسة : روى أبو عيسى الترمذي في "جامعة" بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : "مالي أراكم تقرؤن خلف إمامكم" ، قلنا : أي والله ، قال : "لا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" ، قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن.
الحجة السابعة : روى مالك في "الموطأ ع"ن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تام ، قال : فقلت يا أبا هريرة ، إني أكون أحياناً خلف الإمام ، قال : إقرأ بها يا فارسي في نفسك ، والاستدلال بهذا الخبر من وجهين : الأول : / أن صلاة المقتدى بدون القراءة مبرأة عن الخداج عند الخصم ، وهو على خلاف النص الثاني : أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة ، وذلك يؤيد المطلوب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحجة الثامنة : روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن الله تعالى يقول : "قسمت الصة بيني وبين عبدي نصفين" ، بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة ، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة ، وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدى".
الحجة التاسعة : روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة ، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال : هل تقرؤن إذا جهرت بالقراءة ؟
فقال بعضنا أنا لنصنع ذلك ، فقال : وأنا أقول مالي أنازع القرآن ، لا تقرؤا شيئاً من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.
الحجة العاشرة : أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم وهي متناولة للمنفرد والمقتدى ، فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم ، وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها.
الحجة الحادية عشرة : وافق أبو حنيفة رضي الله عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة ، وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة ، فثبت أن القراءة أحوط ، فكانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
(1/129)

الحجة الثانية عشرة : إذا بقي المقتدى ساكتاً عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلاً ، فوجب أن يكون حال القارىء أفضل منه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "أفضل الأعمال قراءة القرآن" وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب ، لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة الثالثة عشرة : لو كان الاقتداء مانعاً من القراءة لكان الاقتداء حراماً ، لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة ، والمانع من العبادة الشريفة محرم ، فيلزمه أن يكون الاقتداء حراماً ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة.
واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه } (الأعراف : 204) واعلم أنا بينا في تفسير هذه الآية أنها لا تدل على قولهم ، وبالغنا ، فليطالع ذلك الموضع من هذا التفسير ؛ وأما الأخبار فقد ذكروا أخباراً كثيرة والشيخ أحمد البيهقي بين ضعفها/ ثم نقول : هب أنها صحيحة ، ولكن الأخبار لما تعارضت وكثرت فلا بدّ من الترجيح ، وهو معنا من وجوه : الأول : أن قولنا يوجب الاشتغال بقراءة القرآن ، وهو من أعظم الطاعات ، وقولهم يوجب العطلة والسكوت عن ذكر الله ولا شك أن قولنا أولى : الثاني : أن قولنا أحوط الثالث : أن قولنا يوجب شغل جميع أجزاء الصلاة بالطاعات والأذكار الجميلة ، وقولهم يوجب تعطيل الوقت عن الطاعة والذكر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
المسألة الثالثة عشرة : قال الشافعي رضي الله عنه : قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة ، فإن تركها في ركعة بطلت صلاته ، قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني : وهذا القول مجمع عليه بين الصحابة ، قال به أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود.
واعلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة : أحدها : قول الأصم وابن علية ، وهو أن القراءة غير واجبة أصلاً والثاني : قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن جني أن القرءة إنما تجب في ركعة واحدة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" والاستثناء من النفي إثبات ، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة وجب القول بصحة الصلاة بحكم الاستثناء والثالث : قول أبي حنيفة ، وهو أن القراءة في الركعتين الأولتين واجبة ، وهو في الأخيرتين بالخيار ، إن شاء قرأ ، وإن شاء سبح ، وإن شاء سكت ، وذكر في كتاب "الاستحباب" أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين والرابع : نقل ابن الصباغ في كتاب "الشامل" عن سفيان أنه قال : تجب القراءة في الركعتين الأوليين وتكره في الأخريين والخامس : وهو قول مالك أن القراءة واجبة في أكثر الركعات ، ولا تجب في جميعها ، فإن كانت الصلاة أربع ركعات كفت القراءة في ثلاث ركعات ، وإن كانت مغرباً كفت في ركعتين ، وإن كانت صبحاً وجبت القراءة فيهما معاً والسادس : وهو قول الشافعي وهو أن القراءة واجبة في كل الركعات.
ويدل على صحته وجوه : الحجة الأولى : أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في كل الركعات فيجب علينا مثله ، لقوله تعالى : {وَكَلِمَـاتِه وَاتَّبِعُوهُ} . الحجة الثانية : أن الأعرابي الذي علمه عليه الصلاة والسلام الصلاة أمره أن يقرأ بأم القرآن ، ثم قال : وكذلك فافعل في كل ركعة ، والأمر للوجوب ، فإن قالوا قوله : "فافعل في كل ركعة" راجع إلى الأفعال لا إلى الأقوال ، قلنا / القول فعل اللسان فهو داخل في الأفعال. الحجة الثالثة : نقل الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتاب "الشامل" عن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة. الحجة الرابعة : القراءة في الركعات أحوط فوجب القول بوجوبها. الحجة الخامسة : أمر بالصلاة والأصل في الثابت البقاء ، حكمنا بالخروج عن العهدة عند القراءة في كل الركعات لأجل أن هذه الصلاة أكمل ، فعند عدم القراءة في الكل وجب أن يبقى في العهدة.
واحتج المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ، وإذا ثبت هذا فنقول : الركعتان الأوليان أصل والأخريان تبع ، ومدار الأمر في التبع على التخفيف ، ولهذا المعنى فإنه لا يقرأ السورة الزائدة فيهما ، ولا يجهر بالقراءة فيهما. والجواب أن دلائلنا أكثر وأقوى ، ومذهبنا أحوط ، فكان أرجح.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فروع على اشتراط الفاتحة في الصلاة :
المسألة الرابعة عشرة :
(1/130)

إذا ثبت أن قراءة الفاتحة شرط من شرائط الصلاة فله فروع : الفرع الأول : قد بينا أنه لو ترك قراءة الفاتحة أو ترك حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته ، أما لو تركها سهواً قال الشافعي في القديم لا تفسد صلاته ، واحتج بما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له : تركت القراءة ، قال : كيف كان الركوع والسجود ؟
قالوا : حسناً ، قال : فلا بأس ، قال الشافعي : فلما وقعت هذه الواقعة بمحضر من الصحابة كان ذلك إجماعاً ، ورجع الشافعي عنه في الجديد ، وقال : تفسد صلاته ؛ لأن الدلائل المذكورة عامة في العمد والسهو ، ثم أجاب عن قصة عمر من وجهين : الأول : أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة. والثاني : أنه لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة ، قال الشافعي هذا هو الظن بعمر.
الفرع الثاني : تجب الرعاية في ترتيب القراءة ، فلو قرأ النصف الأخير ثم النصف الأول يحسب له لأول دون الأخير.
الفرع الثالث : الرجل الذي لا يحسن تمام الفاتحة إما أن يحفظ بعضها ، وإما أن لا يحفظ شيئاً منها ، أما الأول : فإنه يقرأ تلك الآية ويقرأ معها ست آيات على الوجه الأقرب وأما الثاني ـ وهو أن لا يحفظ شيئاً من الفاتحة ـ فههنا إن حفظ شيئاً من القرآن لزمه قراءة ذلك المحفوظ ، لقوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) وإن لم يحفظ شيئاً من / القرآن فههنا يلزمه أن يأتي بالذكر ، وهو التكبير والتحميد ، وقال أبو حنيفة لا يلزمه شيء ، حجة الشافعي ما روى رفاعة بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله ، ثم يكبر ، فإن كان معه شيء من القرآن فليقرأ ، وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله وليكبر ، بقي ههنا قسم واحد ، وهو أن لا يحفظ الفاتحة ولا يحفظ شيئاً من القرآن ولا يحفظ أيضاً شيئاً من الأذكار العربية ، وعندي أنه يؤمر بذكر الله تعالى بأي لسان قدر عليه تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام : "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
المسألة الخامسة عشرة : نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن ، وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن ، واعلم أن هذا في غاية الصعوبة ، لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذٍ كان ابن مسعود عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل ، وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ، والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة ، وههنا آخر الكلام في المسائل الفقهية المفرعة على سورة الفاتحة والله الهادي للصواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الباب الخامس
في تفسير سورة الفاتحة ، وفيه فصول
الفصل الأول
تفسير "الحمد لله" :
في تفسير قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وفيه وجوه : الأول : ههنا ألفاظ ثلاثة : الحمد ، والمدح والشكر ، فنقول : الفرق بين الحمد والمدح من وجوه : الأول : أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ، ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ، ويستحيل أن يحمدها ، فثبت أن المدح أعم من الحمد الوجه الثاني في الفرق : أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده ، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان الوجه الثالث في الفرق : أن المدح قد يكون منهياً عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : "احثوا التراب في وجوه المداحين" أما الحمد فإنه مأمور به مطلقاً ، قال صلى الله عليه وسلّم : "من لم / يحمد الناس لم يحمد الله" الوجه الرابع : أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصاً بنوع من أنواع الفضائل ، وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصاً بفضيلة معينة ، وهي فضيلة الأنعام والإحسان فثبت بماذ كرنا أن المدح أعم من الحمد.
وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الأنعام إليك أو إلى غيرك/ وأما الشكر فهو مختص بالأنعام الواصل إليك.
(1/131)

إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي ، وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً ، أما لما قال الحمد لله فهو يدل على كونه مختاراً ، فقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل على كون هذا القائل مقراً بأن إله العالم ليس موجباً بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضاً فقوله الحمد لله أولى من قوله الشكر لله لأن قوله الحمد لله ثناء على الله بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره وأما الشكر لله فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل ، ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كأن العبد يقول : سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين ، وأنت مستحق للحمد العظيم ، وقيل الحمد على ما دفع الله من البلاء ، والشكر على ما أعطى من النعماء.
فإن قيل : النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل قلنا في وجوه : الأول : كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما الثاني : المنع غير متناهٍ ، والإعطاء متناهٍ ، فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى الثالث : أن دفع الضرر أهم من جلب النفع ، فلهذا قدمه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحمد لله أبلغ من أحمد الله :
الفائدة الثانية : أنه تعالى لم يقل أحمد الله ولكن قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه : أحدها : أنه لو قال أحمد الله أفاد ذلك كون ذلك القائل قادراً على حمده أما لما قال {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين ، فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم وثانيها : أن قولنا الحمد لله ، معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه ، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد ، فقولنا : الحمد لله معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد الله لم يدل ذلك على كونه مستحقاً للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحد حمده وثالثها : أنه لو قال أحمد الله لكان قد حمد لكن لا حمداً يليق به ، وأما إذا قال الحمد / لله فكأنه قال : من أنا حتى أحمده ؟
لكنه محمود بجميع حمد الحامدين ، مثاله ما لو سئلت : هل لفلان عليك نعمة ؟
فإن قلت : نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً ، ولو قلت في الجواب : بل نعمه على كل الخلائق ، فقد حمدته بأكمل المحامد ورابعها : أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال ، فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد الله مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً ، لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك ، أما إذا قال الحمد لله سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه أن الحمد حق لله وملكه ، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن ، فثبت أن قوله الحمد لله أولى من قوله أحمد الله ، ونظيره قولنا لا إله إلا الله فإنه لا يدخله التكذيب ، بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا الله لأنه قد يكون كاذباً في قوله أشهد ، ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} (المنافقون : 1) ولهذا السر أمر في لأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا الله.
معنى اللام في (الحمد لله) :
الفائدة الثالثة : اللام في قوله الحمد لله يحتمل وجوهاً كثيرة : أحدها : الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس وثانيها : الملك كقولك الدار لزيد وثالثها : القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان ، واللام في قولك الحمد لله يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه ، وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده ، وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستولٍ على الممكن لذاته ، فالحمد لله بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه ، وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الرابعة : قوله الحمد لله ثمانية أحرف ، وأبواب الجنة ثمانية ، فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة.
(1/132)

الفائدة الخامسة : الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف ، وفيه قولان : الأول : أنه إن كان مسبوقاً بمعهود سابق انصرف إليه ، وإلا يحمل على الاستغراق صوناً للكلام عن الإجمال والقول الثاني : أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط ، إذا عرفت هذه فنقول : قوله الحمد لله إن قلنا بالقول الأول : أفاد أن كل ما كان حمداً وثناء فهو لله وحقه وملكه ، وحينئذٍ يلزم أن يقال : إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد الثناء البتة ، وإن قلنا / بالقول الثاني : كان معناه أن ماهية الحمد حق الله تعالى وملك له ، وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله ، فثبت على القولين أن قوله الحمد لله ينفي حصول الحمد لغير الله.
فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه ، والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية ، وقال عليه السلام : من لم يحمد الناس لم يحمد الله.
قلنا : إن كل من أنعم على غيره بأنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى ، لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الأنعام ، ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة ، فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله تعالى.
الفائدة السادسة : أن قوله الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله ، فكذلك العقل دل عليه ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى لو لم يخلق داعية الأنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية وثانيها : أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الأنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء أو تحصيل حق أو تخليصاً للنفس من خلق البخل ، وطالب العوض لا يكون منعماً ، فلا يكون مستحقاً للحمد في الحقيقة ، أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يطلب الكمال ، لأن تحصيل الحاصل محال ، فكانت عطاياه جوداً محضاً وإحساناً محضاً ، فلا جرم كان مستحقاً للحمد ، فثبت أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى وثالثها : أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود ، وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة ، ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } (النحل : 53) والحمد لا معنى له إلا الثناء على الأنعام فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى ، وجب القطع بأن أحداً لا يستحق الحمد إلا الله تعالى ورابعها : النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة : أحدها : أن تكون منفعة ، والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حياً مدركاً ، وكونه حياً مدركاً لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى وثانيها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم/ وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى. وثالثها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع ، وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى ، إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى ، فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى ، فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد لله.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة السابعة : قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعماً متفضلاً ، وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر ، إذا عرفت هذا فنقول : وجب كون الإنسان عاجزاً عن حمد الله وشكره ويدل عليه وجوه : ـ
الأول : أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها ، كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34 النحل : 18) إذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها.
(1/133)

الثاني : أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد ، والشكر ، وإذا زال عنه العوائق والحوائل ، فكل ذلك إنعام من الله تعالى ، فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه ، وتلك النعم أيضاً توجب الشكر ، وعلى هذا التقدير : فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مراراً لا نهاية لها ، وذلك محال ، والموقوف على المحال محال ، فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به ، الثالث : أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد لله ؛ بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفاً بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور ، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتياً بحمد الله وشكره وبالثناء عليه. الرابع : أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الأنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه : أحدها : أن نعم الله كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد ، وثانيها : أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك ، وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك ، وثالثها : أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله ، والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين ، فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد ، فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل أحمدوا الله ، بل قال الحمد لله لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به ، أما لما قال الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه ، سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا عليه ؛ ونقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك عليّ وهو أن توفقني لذلك الشكر ؟
فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري / فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الثامنة : عن النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه قال إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد الحمد لله فيقول الله تعالى : "أنظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له" ، وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الأنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعاً فأطعمه ، أو كان عطشاناً فأرواه ، أو كان عرياناً فكساه ، أما إذا قال العبد الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله ، وكل حمد لم يأتِ به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله/ وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌا وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (يونس : 10) ثم جميع هذه المحامد متناهية ، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين ، فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فلهذا السبب قال تعالى : "انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له".
أقول : ههنا دقيقة أخرى ، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية ، وقوله الحمد لله حمد غير متناهٍ ، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناهٍ ، فكأنه تعالى يقول : عبدي ، إذا قلت الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية ، فلا بدّ من مقابلتها بنعمة غير متناهية ، فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي ، فثبت أن قول العبد الحمد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها.
(1/134)

الفائدة التاسعة : لا شك أن الوجود خير من العدم ، والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه ، ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك ، وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه ، وقد ثبت أن الوجود نعمة ، فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح والأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان ، والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر ، فإذا قال العبد الحمد لله فليس مراده الحمد لله على النعم الواصلة إلى بل المراد ، الحمد لله على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه / واصل إلى ما كل سواه ، فإذا قال العبد الحمد لله كان معناه الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وأنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين ، وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لا حد معك فيها شركة ومنازعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة العاشرة : لقائل أن يقول : التسبيح مقدم على التحميد ، لأنه يقال سبحانك الله والحمد لله فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد ؟
والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن ، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات ، والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسناً إلى الخلق منعماً عليهم رحيماً بهم ، فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاماً والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام ، فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى ، وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية ، وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسناً بالعباد إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد ، وإلا إذا كان قادراً على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ، وإلا إذا كان غنياً عن كل الحاجات ، إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائض والآفات ، فثبت أن الابتداء بقوله الحمد لله أولى من الابتداء بقوله سبحان الله.
الفائدة الحادية عشرة : الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل/ أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكراً على النعم المتقدمة ، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل ، لقوله تعالى : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } (إبراهيم : 7) والعقل أيضاً يدل عليه ، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة ، والقيام بالطاعة ، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى ، وأبواب معرفته ومحبته ، وذلك من أعظم النعم ، فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران ، وبسبب تعلقه بالمستقبل بفتح لك أبواب الجنان ، فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى ؛ وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى ، ولما كان لا نهاية لدرجات جلال الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله ، ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد لله ، فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة.
الفائدة الثانية عشرة : الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بدّ من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها ، قيل للسري السقطي : كيف يجب الإتيان بالطاعة ؟
قال : أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله ، فقيل كيف ذلك ؟
قال : وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني إن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله وكان معناه أني فرحت / ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله ، فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها ، ثم إن نعم الله على العبد كثيرة ، إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين : نعم الدنيا ، ونعم الدين ، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة ، وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا ، بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين ، ثم نعم الدين قسمان : أعمال الجوارح ، وأعمال القلوب ، القسم الثاني : أشرف ، ثم نعم الدنيا قسمان : تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم ، وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم ، والقسم الثاني : أشرف ، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقاً لموضعه لائقاً بسببه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/135)

الفائدة الثالثة عشرة : أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله ، وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله ، أما الأول : فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد لله رب العالمين ، وأما الثاني : فهو قوله تعالى : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } (يونس : 10) ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد ، فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقروناً بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير.
الفائدة الرابعة عشرة : من الناس من قال : تقدير الكلام قولوا الحمد لله ، وهذا عندي ضعيف ، لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام ، وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه : الأول : أن قوله الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقاً له وملكاً له ، وهذا كلام تام في نفسه ، فلا حاجة إلى الإضمار. الثاني : أن قوله الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقاً للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه ، لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير. الثالث : ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده إعمل كذا وكذا ، لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم ، بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل ، ثم إذا كان الولد كريماً فإنه يجيبه ويطيعه ، وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد ، فيكون إثمه أقل/ فكذلك ههنا قال الله تعالى الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده ، ومن كان عاصياً كان إثمه أقل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/136)

الفائدة الخامسة عشرة : تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد لله : أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه : الأول : أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى / وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر ، ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان ، فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجل من استحقاق الله له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد ، الثاني : أجمعت الأمة على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلاً للعبد وما كان فعلاً لله لكان قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان باطلاً فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلاً له باطن قبيح لقوله تعالى : {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } (آل عمران : 188) الثالث : أنا قد دللنا على أن قوله الحمد لله يدل ظاهرة على أن كل الحمد لله وأنه ليس لغير الله حمد أصلاً وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من الله ، الرابع : أن قوله الحمد لله مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق ، فلما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق ، فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى ، وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية. والخامس : إن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن ، وإلا كانت عبثاً ، وذلك في حقه محال ، والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة ، وإما أن تكون من باب التفضل : أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين ، وأما الذي يكون من باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان ، فنقول : هذا يقدح في كونه تعالى مستحقاً للحمد ، ويبطل صحة قولنا الحمد لله ، وتقريره أن نقول : أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد ، فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصاً له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد ، وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد ، وإذا كان كذلك كانا ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقاً للحمد والمدح. السادس : قوله الحمد لله يدل على أنه تعالى محمود ، فنقول : استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمراً ثابتاً له لذاته أو ليس ثابتاً له لذاته ، فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجباً له استحقاق المدح ، لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره ، وامتنع أيضاً أن يكون شيء من الأفعال موجباً له استحقاق الذم ، لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره ، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه ، فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض / والثواب ، وذلك يهدم أصول المعتزلة ، وأما القسم الثاني ـ وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً له لذاته ـ فنقول : فيلزم أن يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك على الله محال أما المعتزلة فقالوا : إن قوله الحمد لله لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ، ولا جور في أقضيته ، ولا ظلم في أحكامه ، وعندنا أن الله تعالى كذلك ، فكان مستحقاً لأعظم المحامد والمدائح ، أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه ، ولا عبث إلا وهو صنعه ، لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه/ ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها ، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقاً للحمد ؟
وأيضاً فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد ، أو على نفسه ، فإن كان الأول وجب كون العبد قادراً على الفعل ، وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه ، وذلك باطل ، قالوا : فثبت أن القول بالحمد لله لا يصح إلا على قولنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
شكر المنعم :
(1/137)

الفائدة السادسة عشرة : اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع : من الناس من قال : إنه ثابت بالسمع ، لقوله تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) ولقوله تعالى : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق ، والدليل عليه قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وبيانه من وجوه : الأول : أن قوله الحمد لله يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق ، وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع. الثاني : أنه تعالى قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الفاتحة : 2) وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى رباً للعالمين رحماناً رحيماً بهم ، مالكاً لعاقبة أمرهم في القيامة ، فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربياً لهم رحماناً رحيماً بهم ، وإذا كان كذلك ثبت أن استحقاق الحدم ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده.
معنى الحمد :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة السابعة عشرة : يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول : تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله ، لأن قولنا الحمد لله أخبار عن حصول الحمد ، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه ، فوجب أن يكون تحميد الله مغايراً لقولنا الحمد لله ، فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً. وذلك الفعل إما أن يكون / فعل القلب ، أو فعل اللسان ، أو فعل الجوارح ، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفاً بصفات الكمال والإجلال ، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظاً دالة على كونه موصوفاً بصفات الكمال. وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفاً بصفات الكمال والإجلال ، فهذا هو المراد من الحمد ، واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام فريقين : الفريق الأول : الذين قالوا أنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه ، واحتجوا عليه بوجوه : الأول : أن ذلك التحميد إما أن يكون بناءً على إنعام وصل إليهم أولاً وبناءً عليه ، فالأول باطل ، لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة ، وذلك يقدح في كمال الكرم ، فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة ، وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء ، وذلك يوجب الظلم. الثاني : قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود ، لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره ، فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر ، فوجب أن لا يكون مشروعاً. الثالث : أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب ، فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك ، وهذا الحمد لا نفع له في حق الله ، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ، ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد ، وهذا لا يليق بالحكم الكريم. الفريق الثاني : قالوا الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه : الأول : أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل/ والثاني : أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب ، واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم. الثالث : أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم ، وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم ، وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس ، وذلك مقام نازل ، والله أعلم.
الفصل الثاني
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
في تفسير قوله رب العالمين ، وفيه فوائد
أقسام العالم وأنواع كل قسم :
(1/138)

الفائدة الأولى : اعلم أن الموجود إما أن يكون واجباً لذاته ، وإما أن يكون ممكناً لذاته ، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط ، وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم ، / لأن المتكلمين قالوا : العالم كل موجود سوى الله ، وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى ، فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم. إذا عرفت هذا فنقول : كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزاً ، وإما أن يكون صفة للمتحيز ، وإما أن لا يكون متحيزاً ولا صفة للمتحيز ، فهذه أقسام ثلاثة : القسم الأول : المتحيز : وهو إما أن يكون قابلاً للقسمة ، أو لا يكون ، فإن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم ، وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد ؛ أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية ؛ أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب ، وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين ، مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة ، وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة : أما البسيطة فهي العناصر الأربعة : واحدها : كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة ، وثانيها : كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى ، وثالثها : كرة الهواء ، ورابعها : كرة النار. وأما الأجسام المركبة فهي النبات ، والمعادن ، والحيوان ، على كثرة أقسامها وتباين أنواعها ، وأما القسم الثاني ـ وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات ـ فهي الأعراض ، والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنساً من أجناس الأعراض. أما الثالث ـ وهو الممكن الذي لا يكون متحيزاً ولا صفة للمتحيز ـ فهو الأرواح ، وهي إما سفلية ، وإما علوية : أما السفلية فهي إما خيرة ، وهم صالحو الجن ، وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين. والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية ، وإما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة ، فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم ، ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام ، إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد ، ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته ، فيكون محتاجاً في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته ، وأيضاً ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغنى عن المبقي ، والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود ، وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها. وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد لله رب العالمين ، وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله رب العالمين.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الثانية : المربي على قسمين : أحدهما : أن يربي شيئاً ليربح عليه المربي ، والثاني : أن يربيه ليربح المربي ، وتربية كل الخلق على القسم الأول ، لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثواباً أو ثناءً ، والقسم الثاني : هو الحق سبحانه ، كما قال : خلقتكم لتربحوا على لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن ، وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين.
واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره ، وبيانه من وجوه : الأول : ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم ، الثاني : أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر ، كما قال تعالى : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} . (الحجر : 21) الثالث : أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه ، والحق تعالى بخلاف ذلك ، كما قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء. الرابع : أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط ، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال ، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنيناً في رحم الأم ، وحال ما كنت جاهلاً غير عاقل ، لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية. الخامس : أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت ، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة. السادس : أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } (الأعراف : 156) فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين ، فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد لله رب العالمين.
(1/139)

الفائدة الثالثة : أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة ؛ إما لكونه كاملاً في ذاته وفي صفاته منزهاً عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك ، وأما لكونه محسناً إليك ومنعماً عليك ، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان ، وإما لأجل أنك تكون خائفاً من قهره وقدرته وكمال سطوته ، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين ، وهو المراد من قوله الحمد لله ، وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فإنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون للخوف فإنا مالك يوم الدين.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الرابعة : وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية ، ونحن نذكر منها أمثلة : المثال الأول : لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولاً ، ثم مضغة ثانياً ، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين ، ثم اتصل البعض بالبعض ، ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى ، فحصلت القوة الباصرة في العين ، والسامعة في الأذن ، والناطقة في اللسان ، فسبحان من أسمع بعظم ، وبصر بشحم ، وأنطق بلحم ، واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور ، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد المثال الثاني : أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها ، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب : أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة ؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض ، وهو عروق الشجرة ، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق ، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولاً ، ثم الثمار ثانياً ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان ، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة/ ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة ، وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها ، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية ، كما قال تعالى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا} (عبس : 25 ، 26) الآيات. المثال الثالث : أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسباباً لحصول مصالح العباد ، فخلق الليل ليكون سبباً للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سبباً للمعاش والحركة {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَه مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَا مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَالِكَ إِلا بِالْحَقِّ } ، (يونس : 5) {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (الأنعام : 97) واقرأ قوله : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَـادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ : 5 ، 6) ـ إلى آخر الآية واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة ، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة ، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد لله رب العالمين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الخامسة : أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله ، ثم أضاف نفسه إلى العالمين / والتقدير : إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكاً لي ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني رباً للعالمين ، ومن عرف ذاتاً بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها ، وذلك يدل على أن كونه رباً للعالمين أكمل الصفات ، والأمر كذلك ؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تاماً ، وفوق التمام ، فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام ، وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام.
(1/140)

الفائدة السادسة : أنه يملك عباداً غيرك كما قال : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } (المدثر : 31) وأنت ليس لك رب سواه ، ثم أنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كأن لك رباً غيره ، فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض ، وبالليل عن المخافات من غير عوض ؟
واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة ، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات ؟
أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ، ويصونه من المخافات ؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات ، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها ، أليس من التربية أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "الآدمي بنيان الرب ، ملعون من هدم بنيان الرب" ؛ فلهذا المعنى قال تعالى : {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـن ِ } (الأنبياء : 42) ما ذاك إلا الملك الجبار ، والواحد القهار ، ومقلب القلوب والأبصار ، والمطلع على الضمائر والأسرار.
الفائدة السابعة : قالت القدرية : إنما يكون تعالى رباً للعالمين ومربياً لهم لو كان محسناً إليهم دافعاً للمضار عنهم ، أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ؛ ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه ؛ لم يكن رباً ولا مربياً ، بل كان ضاراً ومؤذياً ، وقالت الجبرية : إنما سيكون رباً ومربياً لو كانت النعمة صادرة منه والأَلطاف فائضة من رحمته ، ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ليكون رباً للعالمين إليهم محسناً بخلق الإيمان فيهم.
الفائدة الثامنة : قولنا : "الله" أشرف من قولنا : "رب" على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى/ ثم أن الداعي في أكثر الأمر يقول : يا رب ، يا رب ، والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفصل الثالث
في تفسير قوله الرحمن الرحيم ، وفيه فوائد
تفسير (الرحمن الرحيم) :
الفائدة الأولى : الرحمن : هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد ، والرحيم : هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد ، حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفاً لبعض القوم فقدم المائدة ، فنزل غراب وسلب رغيفاً ، فاتبعته تعجباً ، فنزل في بعض التلال ، وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. وروى ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي ، وصرت بحيث ما ملكت نفسي ، فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل ، فرأيت عقرباً قوياً يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعاً واقفاً على طرف الوادي ، فوثب العقرب على ظهر الضفدع وأخذ الضفدع يسبح ويذهب ، فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل ، ونزل العقرب من ظهره ، وأخذ يعدو فتبعته ، فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة ، ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه ، والأفعى أيضاً لدغ العقرب ، فماتا معاً ، وسلم ذلك الإنسان منهما. ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر ، والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته ، ثم أن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت ، فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها ، ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه ، فعند ذلك تعود أمه إليه ، ولهذا السبب جاء في أدعية العرب : يا رازق النعاب في عشه ، فظهر بهذه الأمثلة أن فضل الله عام ، وإحسانه شامل ، ورحمته واسعة.
واعلم أن الحوادث على قسمين : منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك ، بل يكون في الحقيقة عذاباً ونقمة ، ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة ، مع أنه يكون في الحقيقة فضلاً وإحساناً ورحمة : أما القسم الأول : فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم ، فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة. وأما القسم الثاني : كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة ، وفي الحقيقة رحمة ، وكذلك / الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب ، وفي الباطن راحة ورحمة ، فالأبله يغتر بالظواهر ، والعاقل ينظر في السرائر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/141)

إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة ، وتحقيقه ما قيل في الحكمة : إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير ، فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ } (الإسراء : 7) والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار ، وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار ، كما قال تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50) وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام ، فإن موسى كان يبني الحكم على ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل ، وأما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَـامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَواةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَه كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} (الكهف : 79 ـ 82) فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر ، فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسراراً خفية وحكماً بالغة ، وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك ، وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم.
الفائدة الثانية : الرحمن : اسم خاص بالله ، والرحيم : ينطلق عليه وعلى غيره.
فإن قيل : فعلى هذا : الرحمن أعظم : فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى ؟
.
والجواب : لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير ، حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال : جئتك لمهم يسير فقال : اطلب للمهم اليسير رجلاً يسيراً ، كأنه تعالى يقول : لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة ، ولكن كما علمتني رحماناً تطلب مني الأمور العظيمة ، فأنا أيضاً رحيم ؛ فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك ، كما قال تعالى لموسى : "يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك".
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الثالثة : وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً ، ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال : {وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} (مريم : 21) فتلك الرحمة صارت سبباً لنجاتها من توبيخ / الكفار الفجار ، ثم أنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم ، وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة ، ويقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم الله الرحمن الرحيم ومرة في قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة : 1 ، 2) فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سبباً لخلاص مريم عليها السلام عن المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سبباً لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار ؟
.
الفائدة الرابعة : أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه ، رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه ، فكأنه تعالى يقول : أنا رحمن لأنك تسلم إلى نطفة مذرة فاسلمها إليك صورة حسنة ، كما قال تعالى : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } (غافر : 64) وأنا رحيم لأنك تسلم إلى طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة.
الفائدة الخامسة : روى أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله فأتوا النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبروه به ، فقام ودخل عليه ، وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "أما كان يصلي ؟
أما كان يصوم ؟
أما كان يزكي ؟
" فقالوا : بلى ، فقال : "هل عق والديه ؟
" فقالوا : بلى ، فقال عليه السلام : "هاتوا بأمه" ، فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام : "هلا عفوت عنه" ، فقالت : لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني ، فقال عليه السلام : "هاتوا بالحطب والنار" ، فقالت : وما تصنع بالنار ؟
فقال عليه السلام : "أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك" ، فقالت : عفوت عفوت ، أللنار حملته تسعة أشهر ؟
أللنار أرضعته سنتين ؟
فأين رحمة الأم ؟
فعند ذلك انطلق لسانه ، وذكر أشهد أن لا إله إلا الله ، والنكتة أنها كانت رحيمة وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار ، فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا الله سبعين سنة بالنار.
(1/142)

الفائدة السادسة : لقد اشتهر أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" ، فظهر أنه يوم القيامة يقول : "أمتي ، أمتي" ، فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة ، وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم ؟
وأيضاً روي أنه عليه السلام قال : "اللهم اجعل حساب أمتي على يدي" ، ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديوناً بدرهمين ، وأخرج عائشة / عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة وهي قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح عالم المخلوقات ، فذرني وعبيدي واتركني وأمتك فإني أنا الرحمن الرحيم ، فرحمتي لا نهاية لها ، ومعصيتهم متناهية ، والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانياً ، فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي ، لأني أنا الرحمن الرحيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة السابعة : قالت القدرية : كيف يكون رحماناً رحيماً من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد ؟
وكيف يكون رحماناً رحيماً من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه ؟
وكيف يكون رحماناً رحيماً من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه ؟
وقالت الجبرية : أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من الله بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه بالله ، والله أعلم.
الفصل الرابع
في تفسير قوله مالك يوم الدين ، وفيه فوائد
تفسير (مالك يوم الدين) :
الفائدة الأولى : قوله مالك يوم الدين ، أي : مالك يوم البعث والجزاء ، وتقريره أنه لا بدّ من الفرق بين المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، والموافق والمخالف ، وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى : {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم : 31) وقال تعالى : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28) وقال : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } (طه : 15) واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضياً بذلك الظلم ، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال ، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين ، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا ، وذلك هو المراد بقوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) وبقوله : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7) الآية روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة ، فيأتيه النداء ، يا فلان أدخل الجنة بعملك ، فيقول : إلهي ، ماذا عملت ؟
فيقول الله تعالى : ألست لما كنت نائماً تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك "الله" ثم غلبك النوم في الحال فنسيت / ذلك أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك ، وأيضاً يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا الله فلا يثقل مع ذكر الله غيره.
واعلم أن الواجبات على قسمين : حقوق الله تعالى ، وحقوق العباد : أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين ، وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به ، فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة ، فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعفله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال : إن تركتها كان ذلك سبباً لقبح جدار هذا المجوسي ، وإن حككتها انحدر التراب من الحائط ، فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها : قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب ، فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال ، فأخذ يعتذر/ فقال أبو حنيفة رضي الله عنه ، ههنا ما هو أولى ، وذكر قصة الجدار ، وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي : فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال ، والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان ، فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى.
(1/143)

الفائدة الثانية : اختلف القراء في هذه الكلمة ، فمنهم من قرأ مالك يوم الدين ، ومنهم من قرأ ملك يوم الدين. حجة من قرأ مالك وجوه : الأول : أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً. الثاني : أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون ، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله. الثالث : المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكاً وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف ، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى. الرابع : إن الملك ملك للرعية ، والمالك مالك للعبيد ، والعبد أدون حالاً من الرعية ، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية ، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك ، الخامس : أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم ، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه ، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية. السادس : أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية ، قال عليه الصلاة والسلام / وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ، ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه ، حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً ، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً ؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية ، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وحجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه : الأول : أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك. الثاني : أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} (الناس : 1 ، 2) لفظ الملك فيه متعين ، ولولا أن الملك أعلى حالاً من المالك وإلا لم يتعين. الثالث : الملك أولى لأنه أقصر ، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها ، بخلاف المالك فإنها أطول ، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة ، هكذا نقل عن أبي عمرو ، وأجاب الكسائي بأن قال : إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها ، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه ، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم ، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلاً للأمل ، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه ؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلاً للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس ، ويجوز أن يموت في تلك الليلة ، فيقول : إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم ، كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد.
ثم نقول : أنه يتفرع على كونه ملكاً أحكام ، وعلى كونه مالكاً أحكام أخر.
أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكاً فوجوه : الأول : أن السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملاك ؛ وسياسة الملوك ، وسياسة الملائكة ، وسياسة ملك الملوك : فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك ؛ لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكاً واحداً/ ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس ، وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك ؛ لأن عالماً من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد ، وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ} (النبأ : 38) وقوله تعالى : {الارْضِا مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } (البقرة : 255) وقال في صفة الملائكة : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء : 28) فيا أيها الملوك لا تغتروا بمالكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/144)

الحكم الثاني : من أحكام كونه تعالى ملكاً أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم ، وقلت خزائنهم ؛ أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان ، بل يزداد ، بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولداً واحداً لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد ، أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازماً على الكل ، فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً. الحكم الثالث : من أحكام كونه ملكاً كمال الرحمة ، والدليل عليه آيات : إحداها : ما ذكر في هذه السورة من كونه رباً رحماناً رحيماً وثانيها : قوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِا هُوَ الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ} ثم قال بعده : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ} (الحشر : 22 ، 23) ثم ذكر بعده كونه قدوساً عن الظلم والجور ، ثم ذكر بعده كونه سلاماً ، وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ، ثم ذكر بعده كونه مؤمناً ، وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه ، فثبت أن كونه ملكاً لا يتم إلا مع كمال الرحمة. وثالثها : قوله تعالى : {الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ } (الفرقان : 26) لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً ، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر ، فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة. ورابعها : قوله تعالى : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} فذكر أولاً كونه رباً للناس ثم أردفه بكونه ملكاً للناس ، وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة ، فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى. الحكم الرابع : للملك أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق ، فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد ؟
وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم ، قال تعالى : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} (مريم : 90 ، 91) وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَا وَالْعَـاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (طه : 132) فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم/ ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم. الحكم الخامس : أنه لما وصف نفسه بكونه ملكاً ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت : 46) ثم بين كيفية العدل فقال : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا } (الأنبياء : 47) فظهر بهذا أن كونه ملكاً حقاً ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل ، فإن كان الملك المجازي عادلاً كان ملكاً حقاً وإلا كان ملكاً باطلاً فإن كان ملكاً عادلاً حقاً حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكاً ظالماً ارتفع الخير من العالم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوماً ، وأوغل في الركض ، وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه ، ووصل إلى بستان ، فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان : أعطني رمانة واحدة ، فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها لخرج منه ماء كثير فشربه ، وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً مؤذياً ، فقال : أيها الصبي لم صار الرمان هكذا ؟
فقال الصبي : لعل ملك البلد عزم على الظلم ، فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا ، فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم ، وقال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى ، فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة ؟
فقال الصبي : لعل ملك البلد تاب عن ظلمه ، فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم ، فلا جرم بقي اسمه مخلداً في الدنيا بالعدل ، حتى إن من الناس من يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ولدت في زمن الملك العادل".
(1/145)

أما الأحكام المفرعة على كونه مالكاً فهي أربعة : الحكم الأول : قراءة المالك أرجى من قراءة الملك ؛ لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس ، أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعلى طعامكم وثيابكم وثوابكم وجنتكم. الحكم الثاني : الملك وإن كان أغنى من المالك غير أن الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات ، بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل ، فلهذا السبب قال الكسائي : إقرأ مالك / يوم الدين لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة. الحكم الثالث : أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج ، أما من كان مريضاً فإنه يرده ولا يعطيه شيئاً من الواجب ، أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه ، فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين. الحكم الرابع : الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة ، واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة.
الفائدة الثالثة : الملك عبارة عن القدرة ، فكونه مالكاً وملكاً عبارة عن القدرة ، ههنا بحث : وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكاً للموجودات أو للمعدومات ، والأول : باطل ، لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام ، وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم ، والثاني : باطل أيضاً ؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال : إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
والجواب إن الله تعالى مالك الموجودات ، وملكها ، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم/ أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة ، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى ، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى ، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول : إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله ، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله ، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ، ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله ، وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر.
فإن قيل : إن المالك لا يكون مالكاً للشيء إلا إذا كان المملوك موجوداً ، والقيامة غير موجودة في الحال ، فلا يكون الله مالكاً ليوم الدين ، بل الواجب أن يقال : مالك يوم الدين ، بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد ، فهذا إقرار ، ولو قال أنا قاتل زيداً بالتنوين كان تهديداً ووعيداً.
قلنا : الحق ما ذكرتم ، إلا أن قيام القيامة لما كان أمراً حقاً لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال ، وأيضاً من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال.
الفائدة الرابعة : أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن / والرحيم ، والمالك. والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أولاً فأنا إله. ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ؛ ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة ، وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة ؟
.
قلنا : التقدير كأنه قيل : أذكر أني إله ورب مرة واحدة ، وأذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ، ونظيره قوله تعالى : {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ } (غافر : 3).
الفائدة الخامسة : قالت القدرية : إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء ؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث ، وعقابه على ما لم يعمله ظلم ، وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين ، وقالت الجبرية : لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكاً لها ، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكاً للعباد ولأعمالهم ؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها ، والله أعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفصل الخامس
في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفيه فوائد
معنى قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
(1/146)

الفائدة الأولى : العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير ، وهو مأخوذ من قولهم : طريق معبد ، أي مذلل ، واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحداً سواك ، والذي يدل على هذا الحصر وجوه : الأول : أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم ، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الأنعام ، وأعظم وجوه الأنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به ، فالمرتبة الأولى ـ وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) وقوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) ـ الآية والمرتبة الثانية ـ وهي خلق المنتفع به ـ وإليها الإشارة بقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما / تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله : {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍا وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة : 29) فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد الله تعالى ، فوجب أن لا تحسن العبادة إلا لله تعالى ، فلهذا المعنى قال إياك نعبد ، فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر. الوجه الثاني : في دلائل هذا لحصر والتعيين : وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، ومالك يوم الدين ، وللعبد أحوال ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل : أما الماضي فقد كان معدوماً محضاً كما قال تعالى : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) وكان ميتاً فأحياه الله تعالى كما قال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) وكان جاهلاً فعلمه الله كما قال : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } (النحل : 78) والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن الله تعالى كان قديماً أزلياً ، فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى ، وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوماً كان محتاجاً إلى الرب الرحمن الرحيم ، أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عند أسباب الضرورات ، فقال الله تعالى : أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود. أما بعد أن أصرت موجوداً فقد كثرت حاجاتك إليّ فأنا رب رحمن رحيم ، وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين ، فصارت هذه الصفات الخمس من صفات الله تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكمل إلا بالله وفضله وإحسانه ، فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة الله تعالى ، فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر. الوجه الثالث : في دليل هذا الحصر ، وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادراً عالماً محسناً جواداً كريماً حليماً ، وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه ؛ لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة الله تعالى ، ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكاً فيه ، فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبوداً للخلق أمر يقيني ، وأما كون غيره معبوداً للخلق فهو أمر مشكوك فيه ، والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك ، فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا الله تعالى فلهذا المعنى قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/147)

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . الوجه الرابع : أن العبودية ذلة ومهانة إلا / أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ ، ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره ، وأيضاً قدرة الله تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره ، فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره ، فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين. الوجه الخامس : أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكناً لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته كان محتاجاً فقيراً والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير ، والشي ما لم يكن غنياً في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو الله تعالى فدافع الحاجات هو الله تعالى ، فمستحق العبادات هو الله تعالى ، فلهذا السبب قال : إياك نعبد وإياك نستعين. الوجه السادس : استحقاق العبادة يستدعي قدرة الله تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة ، وأرضاً بلا دعامة ، ويسير الشمس والقمر ، ويسكن القطبين ، ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق ، وتارة الهواء وهي الريح ، وتارة الماء وهو المطر ، وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر ، وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد ، ثم جعل في الأرض أجساماً مقيمة لا تسافر وهي الجبال ؛ وأجساماً مسافرة لا تقيم وهي الأنهار ، وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه ، ورفع محمداً عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته ، وجعل الماء ناراً على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا ناراً ، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم ، ورفع موسى فوق الطور ، وقال له : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } (طه : 12) ورفع الطور عى موسى وقومه {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} (البقرة : 63) وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله : {وَفَارَ التَّنُّورُ } (هود : 40) وجعل البحر يبساً لموسى عليه السلام ، فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك ، فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الثانية : قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله ، فقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يدل على التوحيد المحض واعلم أن المشركين طوائف ، وذلك لأن كل من اتخذ شريكاًا لله فذلك الشريك إما أن يكون جسماً وإما أن لا يكون ، أما الذين اتخذوا شريكاً جسمانياً فذلك الشريك أما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية ، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم إما أن يكون مركباً أو بسيطاً ، أما المركب فأما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان ، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام إما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها ، وأما الذين / اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبوداً لأنفسهم ، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبوداً لأنفسهم ، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس ، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين ، وأما الذين اتخذوا الشركاء لله من غير الأجسام فهم أيضاً طوائف : الطائفة الأولى : الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة ، وهؤلاء هم المانوية والثنوية. والطائفة الثانية : هم الذين قالوا : الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهؤلاء هم عبدة الملائكة ؛ والطائفة الثالثة : الذين قالوا للعالم إلهان : أحدهما : خير ، والآخر شرير ، وقالوا : مدبر هذا العالم هو الله تعالى وإبليس ، وهما أخوان ، فكل ما في العالم من الخيرات فهو من الله وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس.
(1/148)

إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول : كل ما اتخذ لله شريكاً فإنه لا بدّ وأن يكون مقدماً على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه ، إما طلباً لنفعه أو هرباً من ضرره ، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم من الله ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله ؛ فلهذا قالوا : إياك نعبد وإياك نستعين ، فكان قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قائماً مقام قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وقد دللنا على أن قولنا الحمد لله يدخل فيه معنى قولنا سبحان الله لأن قوله سبحانه الله يدل على كونه كاملاً تاماً في ذاته ، وقوله الحمد لله يدل على كونه مكملاً متمماً لغيره ، والشيء لا يكون مكملاً متمماً لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تاماً كاملاً في ذاته ، فثبت أن قولنا الحمد لله دخل فيه معنى قولنا سبحان الله ولما قال الحمد لله فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد لله ، فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه ، ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان الله والحمد لله ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد ، وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا الله ثم ذكر قوله / وإياك نستعين ، ومعناه أن الله تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه ، وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر ، وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/149)

الفائدة الثالثة : قال إياك نعبد ، فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك ، وفيه وجوه : أحدها : أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق ، فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يميناً وشمالاً ؛ يحكى أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع رستاقياً جلفاً فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مراراً فقيل للرستاقي : إنه فلان الأستاذ ، فانصرع في الحال منه ، وما ذاك إلا لاحتشامه منه ، فكذا ههنا : عرفه ذاته أولاً حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة. وثانيها : أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولاً قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي ، فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات ، ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة ، فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولاً معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية ، ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب ، فكذا ههنا : إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية. وثالثها : قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات. ورابعها : أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولاً بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن ، فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر ، أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولاً إياك ثم قلت ثانياً نعبد كان قولك أولاً إياك صريحاً بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى ، فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك. وخامسها : وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته ، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار ؛ فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدماً على ذكر الخلق. وسادسها : قال بعض المحققين : من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى / النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء ، وحينئذٍ يكون غرقاً في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه ، وكل من كان كذلك كان أبداً في أعلى مراتب السعادات ، أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلى فكان غرقاً في كل الأوقات في الأشتغال بغير الله ، فكان أبداً في الشقاوة ، لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفاً من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلي بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال ، ولهذا التحققيق قال لأمة موسى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} (البقرة : 40) ، وقال لأمة محمد عليه السلام : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ، إذا عرفت هذا فنقول : إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقاً في مشاهدة نور جلال إياك ، ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقراً في عين الفردوس ، كما قال تعالى : لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً. وسابعها : لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره ، لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم ولا يعبدون غير الله. وثامنها : أن هذه النون نون العظمة ، فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد ، أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبداً لنا كان ملك الدنيا والآخرة. وتاسعها : لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبراً ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك ، فالأول تكبر ، والثاني تواضع ، ومن تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر وضعه الله.
فإن قال قائل : جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله.
فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قوله "نعبد" احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر ؛ والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله ، لا جرم حسن تقدم الحمد أما ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد ، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله.
(1/150)

الفائدة الرابعة : لقائل أن يقول : النون في قوله نعبد أما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم ، والأول : باطل ، لأن الشخص الواحد لا يكون جمعاً ، والثاني : باطل لأن عند أداء العبادة ، فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة.
/ واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه ، كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة : فالوجه الأول : أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة ، واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها ، ويدل عليه قوله عليه السلام : "التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها" ، ثم نقول : إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول : هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل ، فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الوجه الثاني : أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد ، والمراد منه ذلك الجمع ، وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة. فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله.
الوجه الثالث : أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره ، أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين ، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام : "من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته".
الوجه الرابع : كان تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا ، فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك ، ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل إياك نعبد وإياك نستعين.
الوجه الخامس : كأن العبد يقول : إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها ؛ لأنها ممزوجة بجهات التقصير ، ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين ، وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد.
وههنا مسألة شرعية ، وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فللمشتري إما أن يقبل الكل ، أو لا يقبل واحداً منها ، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين ، فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض ، فأما أن يرد الكل وهو غير / جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء ، وإما أن يقبل الكل ، وحينئذٍ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره ، والتقدير كأن العبد يقول : إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الخامسة : اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها ؛ وثقل عليه الاشتغال بغيرها ، وبيانه من وجوه : الأول : أن الكمال محبوب بالذات ، وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة الله ، فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية ، ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة ، وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة الله ، وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية ، فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال ، وهي موجبة أيضاً لأكمل السعادات في الزمان المستقبل ، فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه. الثاني : أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ} (الأحزاب : 72) ـ الآية وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً ، بدليل قوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَـانَـاتِ إِلَى ا أَهْلِهَا} (السناء : 58) وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات ؛ ولأن الأداء الأمانة أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني ؛ قال بعض الصحابة : رأيت أعرابياً أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء ، فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد ناقته فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي ؟
قال الراوي فزدنا تعجباً ، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه ، والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله حفظ الله أمانته ، وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس : "يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات".
(1/151)

الثالث : أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور ، ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة : يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف/ وتفرق الناس ، وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها ، ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير ، واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو ، فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره ، أزيزاً كأزيز المرجل ، ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأَيْنَه ا أَكْبَرْنَه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف : 31) فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف / عليه السلام وصلت تلك الغلبة إلى حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك ، فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى ، ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك الملك تمنع القلب عن الشعور بهم ، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازى فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ثم قال أهل التحقيق : العبادة لها ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يعبد الله طمعاً في الثواب أو هرباً من العقاب ، وهذا هو المسمى بالعبادة ، وهذه الدرجة نازلة ساقطة جداً ، لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب ، وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب ، ومن جعل المطلوب بالذات شيئاً من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه فهو خسيس جداً.
والدرجة الثانية : أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته ، أو يتشرف بقبول تكاليفه ، أو يتشرف بالانتساب إليه ، وهذه الدرجة أعلى من الأولى ، إلا أنها أيضاً ليست كاملة ، لأن المقصود بالذات غير الله.
والدرجة الثالثة : أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً ، ولكونه عبداً له ، والإلهية توجب الهيبة والعزة ، والعبودية توجب الخضوع والذلة ، وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات ، وهذا هو المسمى بالعبودية ، وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة أصلي لله ، فإنه لو قال أصلي لثواب الله ، أو للهرب من عقابه فسدت صلاته.
واعلم أن العبادة والعبودية مقام عالٍ شريف ، ويدل عليه آيات : الأولى : قوله تعالى في آخر سورة الحجر : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 97 ـ 99) والاستدلال بها وجهين : أحدهما : أنه قال : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فأمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أنه يأتيه الموت ، ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات ، وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة ، وثانيهما : أنه قال : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء : التسبيح : وهو قوله فسبح ؛ والتحميد : وهو قوله بحمد ربك ؛ والسجود : وهو قوله : {وَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ} والعبادة ؛ وهي قوله : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ؛ وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب ، وتفيد انشراح الصدر ، وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق ، وذلك يوجب زوال ضيق القلب.
/ الآية الثانية : في شرف العبودية : قوله تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} (الإسراء : 1) ولولا أن العبودية أشرف المقامات ، وإلا لما وصفه الله بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج ، ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ، لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق ، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق ، وأيضاً بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات ، وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات ، واللائق بالعبد والانعزال عن التصرفات ، وأيضاً العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته/ والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة ، وشتان ما بينهما.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الآية الثالثة : في شرف العبودية : أن عيسى أول ما نطق قال : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} (مريم : 30) وصار ذكره لهذه الكلمة سبباً لطهارة أمه ، ولبراءة وجوده عن الطعن ، وصار مفتاحاً لكل الخيرات ، ودافعاً لكل الآفات ، وأيضاً لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة ، كما قال تعالى : {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} ، (آل عمران : 55) والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة ، والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة كيف يبقى محروماً عن الجنة.
(1/152)

الآية الرابعة : قوله تعالى لموسى عليه السلام : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى} (طه : 14أمره بعد التوحيد بالعبودية ، لأن التوحيد أصل ، والعبودية فرع ، والتوحيد شجرة ؛ والعبودية ثمرة ، ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر ، فهذه الآيات دالة على شرف العبودية.
وأما المعقول فظاهر ، وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته ، فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلاً عن كمالات الوجود ، فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ولونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية ، فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد فإنما حصلت بسبب العبودية ، فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات ، وعنوان السعادات ، ومطلع الدرجات ، وينبوع الكرامات ، فلهذا السبب قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، وكان علي كرم الله وجهه يقول : (كفي بي فخراً أن أكون لك عبداً ، وكفي بي شرفاً أن تكون لي رباً ، اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت فاجعلني عبداً كما أردت).
الفائدة السادسة : اعلم أن المقامات محصورة في مقامين : معرفة الربوبية ، ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فكون العبد / منتقلاً من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً ، وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً ، وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين ، وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات ، وبعدها جاءت معرفة العبودية ، ولها مبدأ وكمال ، وأول وآخر ، أما مبدؤها وأولها فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد ، بقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأما كمالها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل كل المطالب ، وذلك هو المراد بقوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة ، وهو قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهذا ترتيب شريف رفيع عالٍ يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة السابعة : لقائل أن يقول : قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين كله مذكور على لفظ الغيبة ، وقوله إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ، فما الفائدة فيه ؟
قلنا فيه وجوه : الأول : أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين ، ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني واقررت بكوني إلهاً رباً رحماناً رحيماً مالكاً ليوم الدين ، فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد. الوجه الثاني : أن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة ، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) ، و{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} (آل عمران : 147) ، و{رَبِّ هَبْ لِى} (آل عمران : 38) ، و{رَبِّ أَرِنِى } (الأعراف : 143) والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضاً العبادة خدمة ، والخدمة في الحضور أولى. الوجه الثالث : أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء ، والثناء في الغيبة أولى ، ومن قوله إياك نعبد وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء ، والدعاء في الحضور أولى. الوجه الرابع : العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقرباً إلى الله فينوي حصول القربة ، ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعاً من الثناء على الله ، فاقتضى كرم الله إجابته في تحصيل تلك القربة ، فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، فقال : إياك نعبد وإياك نستعين.
/ الفصل السادس
في قوله وإياك نستعين
معنى قوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} :
(1/153)

اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، ويدل عليه وجوه من العقل والنقل ، أما العقل فمن وجوه : الأول : أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية ، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان ، وذلك المرجح ليس من العبد ، وإلا لعاد في الطلب ، فهو من الله تعالى ، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله. الثاني : أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين ، وما ذاك المعين إلا الله تعالى ، لأن ذلك المعين لو كان بشراً أو ملكاً لعاد الطلب فيه. الثالث : أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به ، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه ، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل ، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى ، ولا معنى للإعانة إلا ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما النقل فيدل عليه آيات : أولاها : قوله وإياك نستعين ، وثانيتها : قوله : {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ} (الأعراف : 128) وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية : أما الجبرية فقالوا : لو كان العبد مستقلاً بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة ، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكناً من أصل الفعل ، فتبطل الإعانة من الغير ، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة.
وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة ، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة ، وإزالة الداعية الصارفة ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد : ـ
الفائدة الأولى : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين ، فما الحكمة فيه ؟
الجواب من وجوه : / الأول : كأن المصلي يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها. الثاني : كأن الإنسان يقول : يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلباً يفر مني ، فأستعين بك في إحضاره ، وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ، فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله. الثالث : لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا مكائيل ، بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له : هل لك من حاجة ؟
فقال : أما إليك فلا ، فقال : سله ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب ، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير ، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير ، ويدي فلا أحركهما ، وعيني فلا أنظر بهما ، وأذني فلا أسمع بهما ، ولساني فلا أتكلم به ، وكان الخليل مشرفاً على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم ، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معيناً فكذلك لا أريد معيناً غيرك ، فإياك نعبد وإياك نستعين ، فكأنه تعالى يقول : أتيت بفعل الخليل وزدت عليه ، فنحن نزيد أيضاً في الجزاء لأنا ثمت قلنا : {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : 69) وأما أنت فقد نجيناك من النار ، وأوصلناك إلى الجنة ، وزدناك سماع الكلام القديم ، ورؤية الموجود القديم ، وكما أنا قلنا لنار نمروذ {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ} فكذلك تقول لك نار جهنم : جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي. الرابع : إياك نستعين : أي : لا أستعين بغيرك ، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة ، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك. الوجه الخامس : قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى ، وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد ، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفصل السابع
في قوله اهدنا الصراط المستقيم ، وفيه فوائد
معنى قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} :
الفائدة الأولى : لقائل أن يقول : المصلي لا بدّ وأن يكون مؤمناً ، وكل مؤمن مهتد ، فالمصلي مهتد ، فإذا قال : اهدنا كان جارياً مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلباً لتحصيل الحاصل ، وأنه محال ، والعلماء أجابوا عنه من وجوه : ـ
(1/154)

/الأول : المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى. يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه ، وكان يقول في كل مرة : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فإن قيل : إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة ، وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحاً عليه السلام كان أفضل منه ، والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من الله تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول صلى الله عليه وسلّم بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها.
الوجه الثاني في الجواب : أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط ، وهما مذمومان ، والحق هو الوسط ، ويتأكد ذلك بقوله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) وذلك الوسط هو العدل والصواب ، فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مؤمناً مهتدياً ، أما بعد حصول هذه الحالة فلا بدّ من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال ، فالمؤمن يطلب من الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال ، وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل.
الوجه الثالث : أن المؤمن إذا عرف الله بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود الله وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته ، وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل/ فقوله : اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك ، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الوجه الرابع : أنه تعالى قال : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } (الشورى : 52 ، 53) وقال أيضاً لمحمد عليه السلام : {وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه } (الأنعام : 153) وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله ، فقوله : اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه الله إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة ، مثاله أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام ، ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام ؛ ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطلاع كما فعله يونس عليه السلام ، ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه / بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام ، ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيى وزكريا عليهما السلام ، فالمراد بقوله إهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء الله في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء ؛ ولا شك أن هذا مقام شديد هائل ؛ لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به ، إلا أنا نقول : أيها الناس ، لا تخافوا ولا تحزنوا ، فإنه لا يضيق أمر في دين الله إلا اتسع ؛ لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة ؛ لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول : يا إلهي ، إن والدي رأيته ارتكب الكبائر ، كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها ، ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة ، ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته. فإنا أقول : إهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلباً لمرتبة التائبين ، فإذا وجدتها فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام ، فهذا تفسير قوله اهدنا الصراط المستقيم.
الوجه الخامس : كأن الإنسان يقول في الطريق : كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق ، والأعداء إلى طريق ثانٍ ، والشيطان إلى طريق ثالث ، وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد ، وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج ، والعقل ضعيف ، والعمر قصير ، والصناعة طويلة ، والتجربة خطرة ، والقضاء عسير ، وقد تحيرت في الكل فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة. والمستقيم : السوي الذي لا غلظ فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/155)

يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله ، فإذا أعرابي على ناقة له فقال : يا شيخ إلى ؤين ؟
فقال إبراهيم إلى بيت الله ، قال كأنك مجنون لا أرى لك مركباً ؛ ولا زاداً ، والسفر طويل ، فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها ، قال : وما هي ؟
قال : إذا نزلت على بلية ركبت مركب الصبر ، وإذا نزل على نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا ، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي : سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل.
الوجه السادس : قال بعضهم : الصراط المستقيم : الإسلام ، وقال بعضهم : القرآن ، وهذا لا يصح ؛ لأن قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وإذا كان كذلك كان التقدير إهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين ، ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام/ وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد إهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة ، وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً ليكون لفظ الصراط مذكراً لصراط جهنم فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية.
القول الثاني في تفسير إهدنا : أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا ، ونظيره قوله تعالى : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران : 80) أي ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم.
الفائدة الثانية : لقائل أن يقول : لم قال إهدنا ولم يقل إهدني ؟
والجواب من وجهين : الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب. كان بعض العلماء يقول لتلامذته : إذ قرأتم في خطبة السابق "ورضي الله عنك وعن جماعة المسلمين" إن نويتني في قولك "رضي الله عنك" فحسن ، وإلا فلا حرج ، ولكن إياك وأن تنساني في قولك "وعن جماعة المسلمين" لأن قوله رضي الله عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل ، وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بدّ وأن يكون في المسلمين من يستحقق الإجابة ، وإذا أجاب الله الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي ، ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولاً على النبي صلى الله عليه وسلّم ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم ثانياً ؛ لأن الله تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلّم ، ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الثاني : قال عليه الصلاة والسلام : "ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها ، قالوا : يا رسول الله ومن لنا بتلك الألسنة ، قال يدعو بعضكم لبعض ؛ لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك.
والثالث : كأنه يقول : أيها البعد ، ألست قلت في أول السورة الحمد لله وما قلت أحمد الله فذكرت أولاً حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل إهدنا.
الرابع : كان العبد يقول : سمعت رسولك يقول : الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد لله ، ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد ، ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين ، فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت إهدنا الصراط المستقيم ، ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم ، ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة ، قال تعالى : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ} (النساء : 69) الآية.
الفائدة الثالثة : اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أققصر خط يصل بين نقطتين ، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة ، فكان العبد يقول : إهدنا الصراط المستقيم لوجوه : الأول : أنه أقرب الخطوط وأقصرها ، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم. الثاني : أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضاً في الإعوجاج فيشتبه الطريق على ، أما المسقيت فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان. الثالث : الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود ، والمعوج لا يوصل إليه. الرابع : المستقيم لا يتغير ، والمعوج يتغير ، فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم ، والله أعلم.
الفصل الثامن
في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم ، وفيه فوائد
معنى قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) :
(1/156)

الفائدة الأولى : في حد النعمة ، وقد اختلف فيها/ فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان ءلى الغير ، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر ، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر ، والحق أن هذا القيد غير معتبر ، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً ، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذنب والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما ؟
ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر ، والذم بمعصية الله ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول : أما قولنا "المنفعة" فلان المضرة المحضة لا تكون نعمة ، وقولنا "المفعولة على جهة الإحسان" لأنه لو كان نفعاً حقاً وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة ، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها.
إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع : الفرع الأول : اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } (النحل : 53) ثم أن النعمة على ثلاثة أقسام : أحدها : نعمة تفرد لله بإيجادها ، نحو أن خلق ورزق. وثانيها : نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر ، وفي الحقيقة فهي أيضاً إنما وصلت من الله تعالى ، وذلك لأنه / تعالى هو الخالق لتلك النعمة ، والخالق لذلك المنعم ، والخالق لداعية الأنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ} (لقمان : 14) فبدأ بنفسه تنبيهاً على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله ، وثالثها : نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى ؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها ، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى.
الفرع الثاني : أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء ، ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة ، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء ، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة ، وأما النقل فهو أنه تعالى قال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } ثم قال عقيبه : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} (البقرة : 29) فبدأ بذكر الحياة ، وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها ، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا ؟
فقال بعض أصحابنا : ليس لله تعالى على الكافر نعمة ، وقالت المعتزلة : لله على الكافر نعمة دينية ، ونعمة دنيوية واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول : أما القرآن فآيات. إحداها : قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولو كان كذلك لكان قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} طلباً لصراط الكفار ، وذلك باطل ، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار ، فإن قالوا : إن قوله الصراط يدفع ذلك ، قلنا : إن قولنا : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من قوله : {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فكان التقدير إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم/ وحينئذٍ يعود المحذور المذكور. والآية الثانية : قوله تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } (آل عمران : 178) وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ، ومثل هذا لا يكون نعمة ، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير ، فكذا ههنا.
(1/157)

/ وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعماً كثيرة فقد احتجوا بآيات : إحداها : قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} (البقرة : 21 ، 22) فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة. وثانيها : قوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وثالثها : قوله تعالى : {يَـابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} . ورابعها : قوله تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وقول إبليس : {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ} ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر. ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور ؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الثانية : قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ} (النساء : 69) ؛ الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ، ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به ، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه.
الفائدة الثالثة : قوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتناول كل من كان لله عليه نعمة ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين ، فنقول : كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدل على أن المراد من قوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هو نعمة الإيمان ، فرجع حاصل القول في قوله : إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول : يتفرع عليه أحكم : ـ
الحكم الأول : أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة ؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ، ولأن الإيمان أعظم النعم ، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله ، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
/ الحكم الثاني : يجب أن لا يبقى المؤمن مخلداً في النار ، لأن قوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم.
الحكم الثالث : دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين ، لأنه لو كان الإرشاد واجباً على الله لم يكن ذلك إنعاماً ؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاماً ، وحيث سماه الله تعالى إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه ؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار ، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الأنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه.
الفصل التاسع
في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا
الضالين ، وفيه فوائد
معنى قوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ـ الخ :
(1/158)

الفائدة الأولى : المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود ، لقوله تعالى : {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} (المائدة : 60) والضالين : هم النصارى لقوله تعالى : {قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} (المائدة : 77) وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز عن دينهم أولى ، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل ، ويحتمل أن يقال : المغضوب عليهم هم الكفار ، والضالون هم المنافقون ، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة ، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (البقرة : 6) ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا} (البقرة : 8) فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : {وَلا الضَّآلِّينَ} .
الفائدة الثانية : لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين ، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال.
/ الفائدة الثالثة : قوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم ، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم ، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق ، لقوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُ } (يونس : 32) ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم ، ولا الاهتداء بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفائدة الرابعة : الغضب : تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام ، واعلم أن هذا على الله تعالى محال ، لكن ههنا قاعدة كلية ، وهي أن جميع الأعراض النفسانية ـ أعني الرحمة ، والفرح ، والسرور ، والغضب ، والحياء ، والغيرة ، والمكر والخداع ، والتكبر ، والاستهزاء ـ لها أوائل ، ولها غايات ، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب ، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الأضرار ، وأيضاً ، الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس ، وله غرض وهو ترك الفعل ، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
الفائدة الخامسة : قالت المعتزلة : غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلماً من الله تعالى ، وقال أصحابنا : لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين ، وحينئذٍ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد ، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك محال.
الفائد السادسة : أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له ، وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته ، وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى ، ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الأعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.
الفائدة السابعة : دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق : أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله : أنعمت عليهم ، وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم ، وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين.
/ فإن قيل : لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة ؟
قلنا : لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم.
الفائدة الثامنة : في الآية سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه ، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان هذا العلم قديماً فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم ، ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه ؟
وأما إن كان ذلك العلم حادثاً كان الباري تعالى محلاً للحوادث ، ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ، ويتسلسل ، وهو محال ، وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/159)

الفائدة التاسعة : في الآية سؤال آخر ، وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه وأن يكون من الضالين ، فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين ؟
والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف ، كما قال عليه السلام : "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ، فقوله : صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل ، وقوله : غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل ، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حد الكمال.
الفائدة العاشرة : في الآية سؤال آخر ، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضالين ؟
والجواب أن أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المرادون بقوله : أنعمت عليهم ، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ خَـالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه } (النساء : 93) وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُ } (يونس : 32) وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل ، والله أعلم.
/القسم الثاني
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة ، وفيه فصول
الفصل الأول
في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة
اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة ، وعالم الآخرة عالم الصفاء ، فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع ، وكالجسم بالنسبة إلى الظل ، فكل ما في الدنيا فلا بدّ له في الآخرة من أصل ، وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل/ وكل ما في الآخرة فلا بدّ له في الدنيا من مثال ، وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل ، فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور ، ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بدّ وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها ، ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه ، كما قال : {ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوين : 20) وأيضاً فلا بدّ في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها ، ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره ، فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات ، فذاك مطاع العالم الأعلى ، وهذا مطاع العالم الأسفل ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة ، فالمطاع في عالم الأوراح هو المصدر ، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي ، والمظهر هو الرسول البشري ، وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وإذا عرفت هذا فنقول : كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى الله ، وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها الله تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ} ـ الآية ويندرج في أحكام الرسل قوله : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } (البقرة : 285) فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ ، وهي معرفة الربوبية ، ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية / وهو مبني على أمرين : أحدهما : المبدأ ، والثاني : الكمال. فالمبدأ هو قوله تعالى : {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } (البقرة : 93) لأن هذا المعنى لا بدّ منه لمن يريد الذهاب إلى الله ، وأما الكمال فهو التوكل على الله والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى الله تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة ، ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد ، وهو المراد من قوله : {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة : المبدأ والوسط ، والمعاد ، أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة : وهي معرفة الله ، والملائكة ، والكتب ، والرسل ، وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين : "سمعنا وأطعنا" نصيب عالم الأجساد ، و"غفرانك ربنا" نصيب عالم الأرواح ، وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد ، وهو قوله : {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة : 285) فابتداء الأمر أربعة ، وفي الوسط صار اثنين ، وفي النهاية صار واحداً.
ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع : ـ
(1/160)

فأولها : قوله : {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } (البقرة : 286) وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41) وقوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف : 24) وقوله : {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 21) وقوله : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم الله الرحن الرحيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وثانيها : قوله : {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } ودفع الأصر ـ والأصر هو الثقل ـ يوجب الحمد/ وذلك إنما يحصل بقوله الحمد لله رب العالمين.
وثالثها : قوله : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } وذلك إشارة إلى كمال رحمته ، وذلك هو قوله الرحمن الرحيم.
ورابعها : قوله : {وَاعْفُ عَنَّا} لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين ، وهو قوله مالك يوم الدين.
وخامسها : قوله تعالى : {وَاغْفِرْ لَنَآ } لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات ، وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين.
وسادسها : قوله : {وَارْحَمْنَآ } لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا : اهدنا الصراط المستقيم.
/ وسابعها : قوله : {أَنتَ مَوْلَـانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 286) وهو المراد من قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج ، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة ، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر ، فلهذا السبب قال عليه السلام : "الصلاة معراج المؤمن".
الفصل الثاني
في مداخل الشيطان
مداخل الشيطان :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة ، والغضب ، والهوى ، فالشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه ، فقوله تعالى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ} المراد آثار الشهوة ، وقوله : {وَالْمُنْكَرِ} المراد منه آثار الغضب ، وقوله : {وَالْبَغْىَ} (العنكبوت : 45) المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه ، وبالغضب يصير ظالماً لغيره ، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى ، ولهذا قال عليه السلام : الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه ، فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى. ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب ، ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة ، ثم لها نتائج ؛ فالحرص والبخل نتيجة الشهوة ، والعجب والكبر نتيجة الغضب ، والكفر والبدعة نتيجة الهوى ، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع ـ وهو الحسد ـ وهو نهاية الأخلاق الذميمة. كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد ، وهو قوله : {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق : 5) كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله : {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس : 5) فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس ، بل قيل : الحاسد أشر من إبليس ، لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون / من هذا ؟
فقال إبليس : لو كنت إلهاً لما جهلتني ، فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شراً مني ومنك ، قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت في هذه المحنة.
إذا عرفت هذا فنقول : أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة ، والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضاً أصل سورة الفاتحة هو التسمية ، وفيها الأسماء الثلاثة ، وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة ، فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية/ والآيات السبع (التي هي الفاتحة) في مقابلة الأخلاق السبعة ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة ، وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/161)

أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول : إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى ؛ لأن الهوى إله سوى الله يعبد ، بدليل قوله تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) وقال تعالى لموسى : يا موسى ، خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا الهوى ، ومن عرف أنه رحمن لا يغضب ، لأن منشأ الغضب طلب الولاية ، والولاية للرحمن لقوله تعالى : {الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ } (الفرقان : 26) ومن عرف أنه رحيم وجب أنه يتشبه به في كونه رحيماً وإذا صار رحيماً لم يظلم نفسه ، ولم يلطخها بالأفعال البهيمية.
وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع ، وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى ، وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة ، وذكر معها اسمين آخرين : وهما الرب ، والمالك ؛ فالرب قريب من الرحيم ، لقوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) والمالك قريب من الرحمن ، لقوله تعالى : {الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ } فحصلت هذه الأسماء الثلاثة : الرب والملك ، والإله ، فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها ، والتقدير كأنه قيل : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل : {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وإن أتاك من قبل الغضب فقل : {مَلِكِ النَّاسِ} وإن أتاك من قبل الهوى فقل : {إِلَـاهِ النَّاسِ} (الناس : 1 ـ 3).
ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول : من قال الحمد لله فقد شكر الله ، واكتفى بالحاصل ، فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد ، وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها ، ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن الرحيم زال غضبه ، ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، فاندفعت / عنه آفة الغضب بولديها ، فإذا قال : إهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته ، وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته ، فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة.
الفصل الثالث
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان
إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد
جمع الفاتحة لكل ما يحتاج إليه :
اعلم أن قوله الحمد لله إشارة إلى إثبات الصانع المختار ، وتقريره : أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (البقرة : 258) ، وقال في موضع آخر : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) ، وقال موسى عليه السلام : {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } (طه : 51) ، وقال في موضع آخر : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 26) ، وقال تعالى في أول سورة البقرة : {قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 21) وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق : 1 ، 2) فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى/ وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيراً جداً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/162)

واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم ، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل ، ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام ، فلا جرم هو دليل من وجه ، وإنعام من وجه ، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاماً كان يستحق هو الحمد ، وحدوث بدن الإنسان أيضاً كذلك ، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والإشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقدورات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقاً للحمد والثناء ، فقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل على وجود الصانع ، وعلى علمه ، وقدرته ، ورحمته ، وكمال حكمته وعلى كونه مستحقاً للحمد والثناء والتعظيم ، فكان قوله الحمد لله دالاً على جملة هذه المعاني ، وأما قوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فهو يدل على أن ذلك الإله واحد ، وأن كل العالمين ملكه وملكه ، / وليس في العالم إله سواه ، ولا معبود غيره ، وأما قوله : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ، وأما قوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحماناً رحيماً ، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل على وجود الصانع المختار ، وقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} يدل على وحدانتيه ، وقوله : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} يدل على رحمته في الدنيا والآخرة ، وقوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة. وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية. أما قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ـ إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبودية ، وهي محصورة في نوعين : الأعمال التي يأتي بها العبد ، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال : أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان : أحدهما : إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . والثاني : علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر ، وأما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي ، وإليه الإشارة بقوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف : الطائفة الأولى : الكاملون المحقون المخلصون ، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ، ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإليهم الإشارة بقوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . والطائفة الثانية : الذين أخلوا بالأعمال الصالحة ، وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} . والطائفة الثالثة : الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة ، وهم أهل البدع والكفر ، وإليهم الإشارة بقوله : {وَلا الضَّآلِّينَ} .
إذا عرفت هذا فنقول : استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين : أحدهما : أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال ، والثاني : أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه ، وقوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إشارة إلى القسم الأول/ وقوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إشارة إلى القسم الثاني ، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة ، وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة ، وهم المغضوب عليهم ، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة ، وهم الضالون ، وهذا آخر السورة ، وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية.
/الفصل الرابع
قسمة الله للصلاة بينه وبين عباده :
(1/163)

قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي ، وإذا قال الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي ، وفي رواية أخرى فوض إليّ عبدي ، وإذا قال إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي ، وإذا قال وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل على عبدي ، وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال إهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فوائد هذا الحديث : ـ
الفائدة الأولى : قوله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق ، كما قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ، ثم بمعرفة العبودية ؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد ، كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) وقال : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} (الإنسان : 2) وقال : {يَـابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية ، والنصف الثاني منها في معرفة العبودية ، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد.
الفائدة الثانية : الله تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة ، وهذا يدل على أحكام : الحكم الأول : أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة ، وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة ، كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى : أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى : {فَاتَّبَعُوهُ} ولقوله عليه الصلاة والسلام : "صلوا كما رأتيموني أصلي". وثانيها : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي" وثالثها : أن جميع المسلمين شرقاً وغرباً لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى : {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِه جَهَنَّمَ } (النساء : 115) ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" خامسها : قوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) وقوله : أمر ، وظاهره الوجوب ، فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة ، وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملاً بظاهر الأمر/ وسادسها : أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها ، لقوله عليه السلام : "دع ما يريبك" إلى ما لا يريبك وسابعها : أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرماً لقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه } (النور : 63) وثامنها : أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها ، إذا ثبت هذا فنقول : التكليف كان متوجهاً على العبد بإقامة الصلاة ، والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة ، وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص ، فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة ، وتاسعها : أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب ، لقوله تعالى : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (طه : 14) وهذه السورة مع كونها مختصرة ، جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل الله هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ} (الحجر : 87) فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها ألبتة. وعاشرها : أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/164)

الفائدة الثالثة : أنه قال : "إذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى : "ذكرني عبدي" وفيه أحكام : أحدها : أنه تعالى قال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) فههنا لما أقدم العبد على ذكر الله لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملائه. وثانيها : أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عالٍ شريف في العبودية ، لأنه وقع الابتداء به ، ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} ثم قال : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41) ثم قال : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 191) ثم قال : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر. وثالثها : إن قوله : يدل على أن قولنا : "الله" اسم علم لذاته المخصوصة ، إذ لو كان اسماً مشتقاً لكان مفهومه مفهوماً كلياً ، ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ ، فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان ، / فثبت أن قوله : "ذكرني عبدي" يدل على أن قولنا الله اسم علم ، أما قوله : "وإذا قال الحمد لله يقول الله تعالى حمدني عبدي" فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد ، بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم {وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضاً ، بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } (يونس : 10) والعقل أيضاً يدل عليه ؛ لأن الفكر في ذات الله غير ممكن ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق" ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره ، وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن ، فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته/ ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات ، والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر ، فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر ، فلهذا قال : الحمد لله رب العالمين ، وعند هذا يقول : حمدني عبدي ، فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل ، وعلى أن لسانه صار موافقاً لعقله ومطابقاً له ، وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه ، فما أجل هذه الحالة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما قوله : "وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي" فلقائل أن يقول : إنه لما قال بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل الله عظمني عبدي ، وههنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق ؟
وجوابه أن قوله الحمد لله دل على إقرار العبد بكماله في ذاته ، وبكونه مكملاً لغيره ، ثم قال بعده : رب العالمين ، وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك ، فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام ، فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا : "عظمني عبدي".
وأما قوله : "وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي" أي : نزهني وقدسني عما لا ينبغي ـ فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين ، وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء ، ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش ، ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة ، وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين ، فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف الله فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب ، وإلى أهل الكفر العقاب ، لكان هذه الاهمال والامهال ظلماً من الله على / العباد ، أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم ، فلهذا السبب قال الله تعالى : {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم : 31) وهذا هو المراد من قوله تعالى : مجدني عبدي ، الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه.
(1/165)

وأما قوله : "وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي" فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر ، فإن قوله إياك نعبده معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة. ثم جاء بحث الجبر والقدر : وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به ، والحق أنه غير مستقل به ، وذلك لأن قدرة العبد إما أن تكون صالحة للفعل والترك ، وإما أن لا تكون كذلك : فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدراً للفعل دون الترك إلا لمرجح ، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه ، وإن لم يكن من العبد فهو من الله تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة ، وهو المراد من قوله إياك نستعين ، وهو المراد من قولنا : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، أي : لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة ، وهب لنا من لدنك رحمة ، وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة ، فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة ، وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم ألبتة معنى قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى : هذا بيني وبين عبدي ، أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة/ وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه ، وهذا كلام دقيق لا بدّ من التأمل فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأما قوله : "وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" وتقريره أنا نرى أهل العالم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية ، وفي جميع مسائل النبوات ، وفي جميع مسائل المعاد ، والشبهات غالبة ، والظلمات مستولية ، ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير ، وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد ؛ فلولا هداية الله تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } (الحجرات : 7) وإلا لامتنع وصول أحد إلى الحق ، فقوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إشارة إلى هذه الحالة ، ويدل عليه أيضاً أن المبطل لا يرضى بالباطل ، وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح ، فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ؛ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات / علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية الله تعالى ، ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك ، أما الملائكة فقالوا : {سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة : 32) وقال آدم عليه السلام : {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (الأعراف : 23) وقال إبراهيم عليه السلام : {لَـاـاِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} (الأنعام : 77) وقال يوسف عليه السلام : {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (يوسف : 101) وقال موسى عليه السلام : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} (طه : 25) ـ الآية وقال محمد عليه السلام : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةًا إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران : 8) فهذا هو الكلام في لطائف هذا لخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
(1/166)

الفائدة الرابعة : من فوائد هذا الخبر أن آيات الفاتحة سبع ، والأعمال المحسوسة أيضاً في الصلاة سبعة ، وهي : القيام ، والركوع ، والانتصاب ، والسجود الأول ، والانتصاب فيه ، والسجود الثاني والقعدة ، فصار عدد آيات الفاتحة مساوياً لعدد هذه الأعمال ، فصارت هذه الأعمال كالشخص ، والفاتحة لها كالروح ، والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله بقي قائماً مرتفعاً ، وأيضاً فالتسمية لبداية الأمور ، قال عليه الصلاة والسلام : "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" وقال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى } (الأعلى : 14) وأيضاً القيام لبداية الأعمال ، فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه ، وقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} بإزاء الركوع ، وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق ؛ لأن التحميد عبارة عن الثناء عليه بسب الأنعام الصادر منه ، والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة ، فهو حالة متوسطة بين الأعراض وبين الاستغراق ، والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضاً ، الحمد يدل على النعم الكثيرة ، والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره ، فينحني ظهره للركوع وقوله : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى الله في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ، ولذلك قال عليه السلام : "إذا قال العبد سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة" وقوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مناسب للسجدة الأولى : لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء ، وذلك يوجب الخوف الشديد ، فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع ، وهو السجدة ؛ وقوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مناسب للقعدة بين السجدتين ، لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت ، وقوله وإياك نستعين استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية. وأما قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع. وأما قوله : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} / إلى آخره فهو مناسب للقعدة ، وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل الله تواضعه بالإكرام ، وهو أن أمره بالقعود بين يديه ، وذلك إنعام عظيم من الله على العبد ، فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم ، وأيضاً أن محمداً عليه السلام لما أنعم الله عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك : "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، والصلاة معراج المؤمن ، فلما وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام ـ وهي أن جلس بين يدي الله ـ وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام ، فهو أيضاً يقرأ التحيات ، ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ} (النساء : 69) ـ الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة ، وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان ، وهي قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) إلى قوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14) وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة ، ومراتب الأرواح كثيرة ، وروح الأرواح ونور الأنوار هو الله تعالى ، كما قال سبحانه وتعالى : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } (النجم : 42).
الفصل الخامس
في أن الصلاة معراج العارفين
الصلاة معراج العارفين :
(1/167)

اعلم أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم معراجان : أحدهما : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت الله تعالى ، فهذا ما يتعلق بالظاهر ، وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان : أحدهما : من عالم الشهادة إلى عالم الغيب. والثاني : من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب ، وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } (النجم : 9) وقوله : {أَوْ أَدْنَى } إشارة إلى فنائه في نفسه ، أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة ، لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك ، فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له ، وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ، ثم تترقى في معارج الكمالات / ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي ، وهي أيضاً متفاوتة في الاستعلاء/ ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر : 75) ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام ، وهم الذين طعامهم ذكر الله ، وشرابهم محبة الله ، وأنسهم بالثناء على الله ، ولذتهم في خدمة الله ، وإليهم الإشارة بقوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأنبياء : 19) وبقوله : {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء : 20) ثم لهم أيضاً درجات متفاوتة ، ومراتب متباعدة ، والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها ، والوقوف على شرح صفاتها ، ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلاً كما قال تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف : 76) إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ، ومسبب الأسباب ، ومبدأ الكل ، وينبوع الرحمة ، ومبدأ الخير ، وهو الله تعالى ، فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب ، وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "إن لله سبعين حجاباً من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر" وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين : أولهما : المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، والثاني : المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب ، وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية.
(1/168)

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود فنقول : إن محمداً عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال : يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه ، فقيل له : إن تحفة أمتك الصلاة ، وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني ، وبين المعراج الروحاني : أما الجسماني فبالأفعال ، وأما الروحاني فبالأذكار ، فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولاً ، لأن المقام مقام القدس ، فليكن ثوبك طاهراً ، وبدنك طاهراً لأنك بالوادي المقدس طوى ، وأيضاً فعندك ملك وشيطان ، فانظر أيهما تصاحب : ودين ودنيا ، فانظر أيهما تصاحب : وعقل وهوى ، فانظر أيهما تصاحب : وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ؛ وكذا القول في كل الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين / فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، ألا ترى أن الصديث اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا ، وفي القبر ، وفي القيامة ، وفي الجنة وأن كلباً صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا ، وفي الآخرة ، ولهذا السر قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ} (التوبة : 119) ثم إذا تطهرت فارفع يديك ، وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ، ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى الله ، ثم قل : الله أكبر ، والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات ، وأعلى وأعظم وأعز من كل المعلومات ، بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال أنه أكبر ، ثم قل : سبحانك اللهم وبحمدك ، وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال ، ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل : تبارك اسمك ، وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد ، لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الأفناء والإعدام ، وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ، ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ، ثم قل : وتعالى جدك/ وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم قل : ولا إله غيرك ، وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره ، فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو ، والمقدس الذي لا مقدس إلا هو ، وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو ، والعقل ههنا ينقطع ، واللسان يعتقل ، والفهم يتبلد ، والخيال يتحير ، والعقل يصير كالزمن ، ثم عد إلى نفسك وحالك وقل : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ، فقولك : "سبحانك اللهم وبحمدك" معراج الملائكة المقربين ، وهو المذكور في قوله : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) وهو أيضاً معراج محمد عليه السلام ، لأن معراجه مفتتح بقوله : "سبحانك اللهم وبحمدك" وأما قولك : "وجهت وجهي" فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام ، وقولك : "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله" فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام ، فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ، ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لتدفع ضرر العجب من نفسك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن للجنة ثمانية أبواب ، ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة ، وهو باب المعرفة ، والباب الثاني : هو باب الذكر وهو قولك بسم الله الرحمن الرحيم ، والباب الثالث : باب الشكر ، وهو قولك الحمد لله رب العالمين والباب الرابع : باب الرجاء ، وهو قولك الرحمن الرحيم ، والباب الخامس : باب الخوف ، وهو قولك مالك يوم الدين ، والباب السادس : باب / الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية ، وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين والباب السابع : باب الدعاء والتضرع كما قال : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل : 62) وقال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم ، والباب الثامن : باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم ، وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة. ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة ، وهو المراد من قوله تعالى : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ} (ص : 50) فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني.
(1/169)

وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي الله مثل قيام أصحاب الكهف ، وهو قوله تعالى : {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الكهف : 14) بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (المطففين : 6) ثم اقرأ سبحانك اللهم ، وبعده وجهت وجهي ، وبعده الفاتحة ، وبعدها ما تيسر لك من القرآن ، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله ، فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين ، وهذا سر قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها محنية بالركوع فقل : سمع الله لمن حمده ، ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو ، وقل : سبحان ربي الأعلى ، فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة : الركوع الواحد ، والسجودان ، وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة/ فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات ، فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات ، وملكت الباقيات الصالحات ، وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات ، فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، فالتحيات المباركات باللسان ، والصلوات بالأركان ، والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ، ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلّم / فيتلاقى الروحان ، ويحصل هناك الروح والراحة والريحان ، فلا بدّ لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية ، فقل : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ، وكأنه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها ؟
وبأي طريق وصلت إليها ؟
فقل بقولي : "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقيل لك أن محمداً هو الذي هداك إليه ، فأي شيء هديتك له ؟
فقل : اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد ، فقيل لك : إن إبراهيم هو الذي طلب من الله أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} (البقرة : 129) فما جزاؤك له ؟
فقل : كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، فيقال لك : فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من الله ؟
فقل : بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد.
ثم إن العبد إذا ذكر الله بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله عزّ وجلّ : "إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه" فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال الله : "إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك ، وقد جاؤك فابدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين ، فيقول العبد عن يمينه وعن شماله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون : {سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 24).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
الفصل السادس
في الكبرياء والعظمة
الكبرياء والعظمة :
أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان : أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له ، والخلاء الذي لا غاية له ، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد ، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ ، ولا لاستقراره منزل ، فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم ، فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً ، ووسع الزمان أولاً وآخراً ، وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزهاً عن المكان والزمان.
(1/170)

/ إذا عرفت هذا فنقول : الحق سبحانه وتعالى له عرش ، وكرسي ، فعقد المكان بالكرسي فقال : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } (البقرة : 255) وعقد الزمان بالعرش فقال : {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} (هود : 7) لأن جرى الزمان يشبه جري الماء ، فلا مكان وراء الكرسي ، ولا زمان وراء العرش ، فالعلو صفة الكرسي وهو قوله : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } والعظمة صفة العرش وهو قوله : {فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُا وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة : 129) وكمال العلو والعظمة لله كما قال : {وَلا يَاُودُه حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} (البقرة : 255).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال ، إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو ، وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى : "الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري" ، ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار ، وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال ، وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات ، وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية ، فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" (الرحمن : 27) ، وقال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 78) وقال : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} إذا عرفت هذا الأصل فاعلم أن المصلى إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال الله في صفتهم : {يُرِيدُونَ وَجْهَه } (الأنعام : 52 ، الكهف : 28) ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس ، ولهذا التطهير مراتب : المرتبة الأولى : التطهير من دنس الذنوب بالتوبة ، كما قال تعالى : {تَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} (التحريم : 8) ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها ، ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله ، ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته ، ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى الله ، وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوتة كأنها غير متناهية ، كما قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } (الروم : 300) فإذا أردت أن تكون من جملة من قال الله فيهم : {يُرِيدُونَ وَجْهَه } فقم قائماً واستحضر في نفسك جميع مخلوقات الله تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بأن تبتدىء من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية ، ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره ، ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء ، ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عطمها واتساعها ، ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح / والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم ، ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية ، واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام : "ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد" واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش الكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } (المدثر : 31) فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل : الله أكبر ، وتريد بقولك : "الله" الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها ، وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها ، بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر.
والوجه الثاني : في تفسير هذا التكبير : أنه عليه الصلاة والسلام قال : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، فتقول : الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي.
والوجه الثالث : أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم ، قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : التوحيد أن لا تتوهمه.
(1/171)

الوجه الرابع : أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته ، فطاعاتهم قاصرة عن خدمته ، وثنائهم قاصر عن كبريائه ، وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته.
واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادىء ميادين جلال الله فضلاً عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر : ـ
فأساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله : "لا ينالك غوص الفكر ، ولا ينتهي إليك نظر ناظر ، ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك ، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله وقل : "سبحانك اللهم وبحمدك ، ثم قل : وجهت وجهي ، ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة ، وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان / السالفة والمذاهب الماضية ، وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية ، وتصل إلى الشريعة ، ومنها إلى الطريقة ، ومنها إلى الحقيقة ، وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين ، ودركات الملعونين والمردودين والضالين ، فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم فابصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد لله رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال : {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } (يونس : 10) وإذا قلت الرحمن الرحيم فابصر به عالم الجمال ، وهو الرحمة والفضل والإحسان ، وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت إياك نعبد فأبصر به عالم الشريعة ، وإذا قلت وإياك نستعين فابصر به الطريقة ، وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فابصر به الحقيقة ، وإذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق ، وإذا قلت ولا الضالين فابصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغية ، بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ، ولنفسك بالذلة والمسكنة ، وقل : الله أكبر ، ثم أنزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة ، فقل : سبحان ربي العظيم ، وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش ، ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم ، ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله ؟
ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم ، وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى ، ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها ، فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانياً ، وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل : سمع الله لمن حمده ، فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام : "لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم".
قال قيل : ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير ؟
.
قلنا : لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف ، وهذا المقام مقام الشفاعة ، وهما متباينان.
ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي / الأعلى ، وذلك لأن السجود أكثر تواضعاً من الركوع ، لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة ـ وهو الأعلى ـ والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة ، روي أن لله تعالى ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه : أيها الملك ، طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني ، فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش ، فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى.
(1/172)

فإن قيل : فما الحكمة في السجدتين ؟
قلنا : فيه وجوه : الأول : أن السجدة الأولى للأزل ، والثانية للأبد ، والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد ، وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له ، وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانياً. الثاني : قيل : اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله. الثالث : السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء الله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } . (القصص : 88) الرابع : السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله ، والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى ، كما قال : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } . (الأعراف : 54) والخامس : السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
واعلم أن الناس يفهموم من العظمة كبر الجثة ، ويفهمون من العلو علو الجهة ، ويفهمون من الكبر طول المدة ، وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام ، فهو عظيم لا بالجثة ، عالٍ لا بالجهة ، كبير لا بالمدة ، وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد ، فكيف يكون عظيماً بالجثة وهو منزه عن الحجمية ، وكيف يكون عالياً بالجهة وهو منزه عن الجهة ؟
وكيف يكون كبيراً بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيراً بالمدة ؟
فهو تعالى عالٍ على المكان لا بالمكان ، وسابق على الزمان لا بالزمان ، فكبرياؤه كبرياء عظمة ، وعظمته عظمة علو ، وعلوه علو جلال ، فهو أجل من أن يشابه المحسوسات ، ويناسب المخيلات ، وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون ، وأعظم مما يصفه الواصفون ، وأعلى مما يجده الممجدون ، فإذا صور لك حسك مثالاً : فقل الله أكبر ، وإذا عين خيالك صورة فقل : سبحانك الله وبحمدك ، وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ، وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات / العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشاً وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال : {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات : 180 ـ 182).
الفصل السابع
في لطائف قوله الحمد لله ، وفوائد الأسماء الخمسة
المذكورة في هذه السورة
لطائف الحمد لله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
أما لطائف قوله الحمد لله فأربع نكت : النكتة الأولى : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال : يا رب ، ما جزاء من حمدك فقال : الحمد لله ؟
فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته ، قال أهل التحقيق : لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه ، ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال : {دَعْوَا هُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } (يونس : 10). روي عن علي عليه السلام ، أنه قال : خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه ، فجعل العلم نفسه ، والفهم روحه ، والزهد رأسه ، والحياء عينه ، والحكمة لسانه ، والخير سمعه ، والرأفة قلبه ، والرحمة همه ، والصبر بطنه ، ثم قيل له تكلم ، فقال : الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل ، الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك وأيضاً نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال : الحمد لله ، فكان أول كلامه ذلك ، إذا عرفت هذا فنقول : أول مراتب المخلوقات هو العقل ، وآخر مراتبها آدم ، وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله : الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله : الحمد ، فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة ، وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة ، فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأيضاً ثبت أن أول كلمات الله قوله : الحمد لله ، وآخر أنبياء الله محمد رسول الله ، وبين الأول والآخر مناسبة ، فلا جرم جعل قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أول آية من كتاب محمد رسوله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان : أحمد ومحمد ؛ وعند هذا قال عليه السلام : "أنا في السماء أحمد ، وفي الأرض محمد" فأهل السماء في تحميد الله ، ورسول الله أحمدهم والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى : {فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء : 19) ورسول الله محمدهم.
(1/173)

/ والنكتة الثانية : أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام ، فلهذا السبب قال : سبقت رحمتي غضبي.
النكتة الثالثة : أن الرسول اسمه أحمد ، ومعناه أنه أحمد الحامدين أي : أكثرهم حمداً ، فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة ، وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين ، فلهذا السبب قال : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107).
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة الرابعة : أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة ، وهما الرحمن الرحيم ، وهما يفيدان المبالغة ، والرسول له أيضاً اسمان مشتقان من الرحمة ، وهما محمد وأحمد ، لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة ، فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم. وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول : الحمد ، والحامد ، والمحمود ، فهذه خمسة أسماء للرسول دالة على الرحمة ؛ إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قال : {نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر : 49) فقوله : نبىء إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، وهو مذكور قبل العباد ، والياء في قوله : عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله : أني عائد إليه ، وقوله : أنا عائد إليه ، وقول : الغفور الرحيم ، صفتان لله فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول عليه الصلاة والسلام مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } (الأعراف : 156) فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة ؟
.
وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء : النكتة الأولى : أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء ، منها خمسة من صفات الربوبية ، وهي : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك ؛ وخمسة أشياء من صفات العبد وهي : العبودية ، والاستعانة ، وطلب الهداية ، وطلب الاستقامة ، وطلب النعمة كما قال : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فانطبقت تلك الأسماء الخسمة على هذه الأحوال الخمسة ، فكأنه قيل : إياك نعبد لأنك أنت الله ، وإياك نستعين لأنك أنت الرب ، إهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن ، وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم ، وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة الثانية : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدنه ، ونفسه الشيطانية ، ونفسه الشهوانية ، ونفسه الغضبية ، وجوهره الملكي العقلي ، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وتجلى النفس الشيطانية بالبر والإحسان ـ وهو اسم الرب ـ فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان ، وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال : {الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ } (الفرقان : 26) فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال : {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ } (المائدة : 5) فلان وترك العصيان ، وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإن البدن غليظ كثيف ، فلا بدّ من قهر شديد ، وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة ، فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران ، وانفتحت أبواب الجنان. ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على ترك اللذات والأعراض عن الشهوات ، وأطاعت النفوس الغضبية فقالت : {اهْدِنَا} وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا ، وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} .
(1/174)

النكتة الثالثة : قال عليه السلام بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلى نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلى اسم الرب ؛ لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلى اسم الرحمن ، لأن الرحمن مبالغة في الرحمة ، وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء ، ووجوب صوم رمضان من تجلى اسم الرحيم ؛ لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه ، وأيضاً إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها ، ووجوب الحج من تجلى اسم مالك يوم الدين ؛ لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد ، وذلك يشبه سفر يوم القيامة ، وأيضاً الحاج يصير حافياً حاسراً عارياً وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة ، كثيرة جداً.
/
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة الرابعة : أنواع القبلة خمسة : بيت المقدس ، والكعبة ، والبيت المعمور ، والعرش وحضرة جلال الله : فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة.
النكتة الخامسة : الحواس خمس : أدب البصر بقوله : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) والسمع بقوله : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا } (الزمر : 18) والذوق بقوله : { يَـا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا } (المؤمنون : 51) والشم بقوله : {إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَا لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ} (يوسف : 94) واللمس بقوله : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ} (المعارج : 29 ، المؤمنون : 5) فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة.
النكتة السادسة : اعلم أن الشطر الأول : من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار ، والشطر الثاني : منها مشتمل على الصفات الخمسة لعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار ، وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته : فالأول : هو النزول ، والثاني : هو الصعود ، والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وبين قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا وهو قسمان : إما دفع الضرر ، أو جلب النفع ، وإما في طلب الآخرة ، وهو أيضاً قسمان : دفع الضرر وهو الهرب من النار ؛ وطلب الخير وهو طلب الجنة ، فالمجموع أربعة ، والقسم الخامس ـ وهو الأشرف ـ طلب خدمة الله وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب من الله شيئاً سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
النكتة السابعة : يمكن أيضاً تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور ـ وهو قوله سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ـ أما قولنا سبحان الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} (الإسراء : 1) وأما قولنا الحمد لله فهو فاتحة خمس سور ، وأما قولنا لا إله إلا الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله : { الر * اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} وأما قولنا الله أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافاً إلى الذكر تارة وإلى الرضوان / أخرى فقال : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } (التوبة : 112) وقال : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } وأما قولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحاً ، لأنه من كنوز الجنة ، والكنز يكون مخفياً ولا يكون ظاهراً ، فالأسماء الخمسة المذكورة في سورة الفاتحة مباد لهذه الأذكار الخمسة ، فقولنا : الله مبدأ لقولنا سبحان الله ، وقولنا : رب مبدأ لقولنا الحمد لله ، وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا الله ، فإن قولنا : ر إله إلا الله إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة ، وذلك هو الرحمن ؛ وقولنا : الرحيم مبدأ لقولنا الله أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء ، وقولنا : مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئاً على خلاف إرادته/ والله أعلم.
الفصل الثامن
في السبب المقتضي لاشتمال بسم اللّه الرحمن الرحيم
على الأسماء الثلاثة
السبب في اشمال البسملة على الأسماء الثلاثة :
(1/175)

وفيه وجوه : الأول : لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق ، إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب : فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته ، وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته ، وفي آخر الأمر يتجلى بذاته ، قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته ، قال : {وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَامِ} (الشورى : 32) وقال : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لايَاتٍ} (آل عمران : 190) ثم يتجلى لأوليائه بصفاته ، قال : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَاذَا بَاطِلا} (آل عمران : 191) ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91) إذا عرفت هذا فنقول : اسم الله عزّ وجلّ أقوى الأسماء في تجلي ذاته ، لأنه أظهر الأسماء في اللفظ ، وأبعدها معنى عن العقول ، فهو ظاهر باطن ، يعسر إنكاره. ولا تدرك أسراره ، قال الحسين بن منصور الحلاج : ـ
فاسم مع الخلق قد تاهوا به ولها
ليعلموا منه معنى من معانيه
والله ما وصلوا منه إلى سبب
حتى يكون الذين أبداه مبديه
وقال أيضاً : ـ
فيا سر سر يدق حتى
يخفي على وهم كل حي
فظاهراً باطناً تجلى
لكل شيء بكل شيء
/ وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلى الحق بصفاته العالية ، ولذلك قال : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَا أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الإسراء : 110) وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلى الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال : {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (غافر : 7).
الفصل التاسع
في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة
سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة :
السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة : أولها : الخلق ، وثانيها : التربية في مصالح الدنيا ، وثالثها : التربية في تعريف المبدأ ، ورابعها : التربية في تعريف المعاد ، وخامسها : نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد ، فاسم الله منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان ، واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ ، واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عمالاً ينبغي ويقدم على ما ينبغي ، واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء ، ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} كأنه يقول : إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى الله ، فحينئذٍ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة ، ثم قل : إياك نعبد وإياك نستعين ، كأنه قال : إياك نعبد لأنك الله الخالق ، وإياك نستعين لأنك الرب الرازق ، إياك نعبد لأنك الرحمن ، وإياك نستعين لأنك الرحيم ، إياك نعبد لأنك الملك ، وإياك نستعين لأنك المالك.
واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة/ ومن دار الشرور إلى دار السرور ، فقال : لا بدّ لذلك اليوم من زاد واستعداد ، وذلك هو العبادة ، فلا جرم قال : إياك نعبد ، ثم قال العبد : الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال ، ما معنى قليل ، فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال : وإياك نستعين ، ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال : هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال : اهدنا الصراط المستقيم ، ثم أنه لا بدّ لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال : صراط الذين أنعمت عليهم ، والذين أنعمن الله / عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، فالأنبياء هم الأدلاء ، والصديقون هم البدرقة ، والشهداء والصالحون هم الرفقاء ، ثم قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وذلك لأن الحجب عن الله قسمان : الحجب النارية ـ وهي عالم الدنيا ـ ثم الحجب النورية ـ وهي عالم الأرواح ـ فاعتصم بالله سبحانه وتعالى من هذين الأمرين ، وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية.
الفصل العاشر
في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله ، واسمان مضافان إلى غير الله : أما الكلمتان المضافتان إلى اسم الله فهما قوله : بسم الله ، وقوله : الحمد لله فقوله بسم الله لبداية الأمور ، وقوله الحمد لله لخواتيم الأمور ، فبسم الله ذكر ، والحمد لله شكر ، فلما قال بسم الله استحق الرحمة ، ولما قال الحمد لله استحق رحمة أخرى ، فبقوله بسم الله استحق الرحمة من اسم الرحمن ، وبقوله الحمد لله استحق الرحمة من اسم الرحيم ، فلهذا المعنى قيل : يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يو م الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) وصفة الرحمن لوسط حالهم ، وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر : 16).
والله أعلم بالصواب ، وهو الهادي إلى الرشاد.
تم تفسير سورة الفاتحة بحمد الله وعونه
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
249
(1/176)

سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع
وآياتها مائتان وست وثمانون
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
249
تفسير آلم حروف الهجاء :
{ الر } فيه مسألتان : المسألة الأولى : ـ
اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة ، لأن الضاد مثلاً لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من "ضرب" فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة ، فكانت لا محالة أسماء. فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ، لكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف" الحديث ، والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا : سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف ، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور.
معاني تسمية حروفها :
فروع : الأول : أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة ، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى ، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً.
حكمها ما لم تلها العوامل :
الثاني : حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم ، كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف ، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب ، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى ، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى ، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات.
/كونها معربة :
الثالث : هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه ، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين.
معاني آلم :
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
(1/177)

المسألة الثانية : للناس في قوله تعالى : { الر } وما يجري مجراه من الفواتح قولان : أحدهما : أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور ، وقال علي رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وقال بعض العارفين : العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر. ثم أجرى من النهر جدول ، ثم أجرى من الجدول ساقية ، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده ، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده ، وهو المراد من قوله تعالى : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا} (الرعد : 17) فبحور العلم عند الله تعالى ، فأعطي الرسل منها أودية ، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء ، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم. وعلى هذا ما روي في الخبر "للعلماء سر ، وللخلفاء سر. وللأنبياء سر ، وللملائكة سر ، ولله من بعد ذلك كله سر ، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين ، وبادوا بائرين. والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية/ كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش ، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة ، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه ، وكذلك علماء الباطن ، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه ، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : عجزت العلماء عن إدراكها ، وقال الحسين بن الفضل : هو من المتشابه.
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول ، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق ، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول.
حجج المتكلمين بالآيات :
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
أما الآيات فأربعة عشر. أحدها : قوله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (محمد : 24) أمرهم بالتدبر في القرآن ، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها : قوله : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَا وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82) فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي الناقص والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق ؟
وثالثها : قوله : {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء : 192 ـ 195) فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلّم منذراً به ، وأيضاً قوله : {بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} يدل على أنه نازل بلغة العرب ، وإذا / كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً. ورابعها : قوله : {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنابِطُونَهُ مِنْهُمْ } والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها : قوله : {تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ} (النحل : 89) وقوله : {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ } (الأنعام : 83) وسادسها : قوله : {هُدًى لِّلنَّاسِ} (البقرة : 185) ، {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها : قوله : {حِكْمَة بَـالِغَةٌ } (القمر : 5) وقوله : {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس : 57) وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها : قوله : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ} (المائدة : 15) وتاسعها : قوله : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِم إِنَّ فِى ذَالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت : 51) وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم ؟
وعاشرها : قوله تعالى : {هَـاذَا بَلَـاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه }
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
(1/178)

فكيف يكون بلاغاً ، وكيف يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم ؟
وقال في آخر الآية {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} (إبراهيم : 52) وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً الحادي عشر : قوله : {قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} (النساء : 174) فكيف يكون برهان ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم ؟
الثاني عشر : قوله : {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنكًا} (طه : 123 ، 124) فكيف يمكن اتباعه والأعراض عنه غير معلوم ؟
الثالث عشر : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9) فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم ؟
الرابع عشر : قوله تعالى : {الرَّسُولُ بِمَآ} إِلَى قَوْلُهُ {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } (البقرة : 285) والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوماً.
الاحتجاج بالأخبار :
وأما الأخبار : فقوله عليه السلام : "إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي" فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم ؟
وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال : عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم والصراط المستقيم ، هو الذي لا نزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
الاحتجاج بالمعقول :
أما المعقول فمن وجوه : أحدها : أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية ، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها : أن المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً ، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها : أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به ، فهذا مجموع كلام المتكلمين ، واحتج مخالفوهم بالآية ، والخبر ، والمعقول.
احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات :
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم ، لقوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ا إِلا اللَّه } والوقف ههنا واجب لوجوه. أحدها : أن قوله تعالى : { والراسخون فِي الْعِلْمِ} (آل عمران : 7) لو كان معطوفاً على قوله : {إِلا اللَّهَ} لبقي {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه } منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد ، لا يقال أنه حال ، / لأنا نقول حينئذٍ يرجع إلى كل ما تقدم ، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً آمنا به كل من عند ربنا وهذا كفر. وثانيها : أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه ، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها : أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً ، لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِه } (آل عمران : 7).
احتجاجهم بالخبر :
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا ، وروي أنه عليه السلام قال : "أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله ، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله" ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً ، لقوله عليه السلام" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
احتجاجهم بالمعقول :
(1/179)

وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا : كالصلاة والزكاة والصوم ؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق ، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير ، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه : كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة ، والرمل ، والاضطباع ، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني ، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه ، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم/ لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم ، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال ؟
وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه ، وتارة بما لا نقف على معناه ، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر ، بل فيه فائدة أخرى ، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب ، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً ، ومتفكراً فيه أبداً ، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه ، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له ، فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة ، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
هل المراد من الفواتح معلوم :
(1/180)

القول الثاني : قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم ، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً. الأول : أنها أسماء السور ، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال : وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء ، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وكقولهم للنحاس : صاد ، وللنقد عين ، وللسحاب غين ، وقالوا : جبل قاف ، وسموا الحوت نوناً ، الثاني : أنها أسماء الله تعالى ، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول : "يا كهيعص ، يا حم عسق" الثالث : أنها أبعاض / أسماء الله تعالى ، قال سعيد بن جبير : قوله (آلر ، حم ، ن) مجموعها هو اسم الرحمن ، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي ، الرابع : أنها أسماء القرآن ، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس : أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في (آلم) : الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد ، أول ، آخر ، أزلي ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنه لطيف ، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان ، وقال في : {كهيعص } إنه ثناء من الله تعالى على نفسه ، والكاف يدل على كونه كافياً ، والهاء يدل على كونه هادياً ، والعين يدل على العالم ، والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنه يجير ، والعين على العزيز والعدل. والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين ، وفي الثاني ليس كذلك ، السادس : بعضها يدل على أسماء الذات ، وبعضها على أسماء الصفات. قال ابن عباس في { الر } أنا الله أعلم ، وفي { المص } أنا الله أفصل ، وفي {الر } أنا الله أرى ، وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه. السابع : كل واحد منها يدل على صفات الأفعال ، فالألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده. قاله محمد بن كعب القرظي. وقال الربيع بن أنس : ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه. الثامن : بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله ، فقال الضحاك : الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، التاسع : كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال ، فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً ، واللام أي لامه الجاحدون ، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق. وقال بعض الصوفية : الألف معناه أنا ، واللام معناه لي ، والميم معناه مني ، العاشر : ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين ـ إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف/ وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر ، الحادي عشر : قال عبد العزيز بن يحيى : إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال : اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولاً مفردة ثم يتعلمون المركبات ، الثاني عشر : قول ابن روق وقطرب : إن الكفار لما قالوا : (لا تسمعوا لهذا لقرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وتواصلوا بالأعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن ؛ فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم ، الثالث عشر : قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام ، وآجال / آخرين ، قال ابن عباس رضي الله عنه : مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهو يتلو سورة البقرة
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
(1/181)

{ الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ} ، (البقرة : 1 ، 2) ثم أتى أخوه حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن آلم وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "نعم كذلك نزلت" ، فقال حيى إن كنت صادقاً إني لأَعلم أجل هذه الأمة من السنين ، ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلّم فقال حيى فهل غير هذا ؟
فقال : نعم { المص } ، فقال يحيى : هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة ، فهل غير هذا ، قال : نعم {الر} ، فقال حيى هذا أكثر من الأولى والثانية ، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة ، فهل غير هذا ؟
فقال : نعم { الر ار } ، قال حيى : فنحن نشهد أن من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر : أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود ، وقالوا اشتبه علينا أمرك كله ، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير ؟
فذلك قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} . (آل عمران : 7) الرابع عشر : هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر ، قال أحمد بن يحيى بن ثعلب : إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه ، فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد. الخامس عشر : روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه ، السادس عشر : قال الأخفش : إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة ، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، وأصول كلام الأمم ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد ، هو الكل ، كما تقول قرأت الحمد ، وتريد السورة بالكلية ، فكأنه تعالى قال : أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ ، السابع عشر : أن التكلم بهذه الحروف ، وإن كان معتاداً لكل أحد ، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة ، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب ؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه. الثامن عشر : قال أبو بكر التبريزي : إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف ، فيجب أن لا يكون قديماً. التاسع عشر : قال القاضي الماوردي : المراد من "آلم" أنه ألم بكم ذلك الكتاب. أي نزل عليكم ، والإلمام الزيارة ، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون : الألف إشارة إلى ما لا بدّ منه من الاستقامة في أول الأمر ، وهو رعاية الشريعة ، قال تعالى : /
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
{الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } (فصلت : 30) واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات ، وهو رعاية الطريقة ، قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (العنكبوت : 69) والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة ، كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها ، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية ، وهو مقام الحقيقة ، قال تعالى : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام : 91) الحادي والعشرون : الألف من أقصى الحلق ، وهو أول مخارج الحروف ، واللام من طرف اللسان ، وهو وسط المخارج ، والميم من الشفة ، وهو آخر المخارج ، فهذه إشارة إلى أنه لا بدّ وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى ، على ما قال : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50).
كون فوائح السور أسماءها :
(1/182)

والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور ، والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة ، أو تكون مفهومة ، والأول باطل ، أما أولاً فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج ، وأما ثانياً فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم. وأما القسم الثانيفنقول : إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب ، أو أسماء المعني ، والثاني باطل ؛ لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون ، فيمتنع حملها عليها ؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب ، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلاً في لغة العرب ؛ ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة ، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل ، وهو معتذر بالإجماع ؛ لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة ، وليس فيهم من حملها على الكل ، أو لا يحمل على شيء منها ، وهو الباقي ، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب.
جعلها أسماء ألقاب أو معاني :
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذه الألفاظ غير معلومة ، قوله : "لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج" قلنا : ولم لا يجوز ذلك ؟
وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة ، والسجيل والاستبرق فارسيان ، قوله : "وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان" قلنا : لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات ، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا ههنا ، سلمنا أنها مفهومة ، لكن قولك : "إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني" إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع ، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى ، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا ، فحينئذٍ يهجم القرآن على أسماعهم ، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما ، فلم لا يجوز أن يقال : إنها من أسماء المعاني ؟
قوله : "إنها في اللغة غير موضوعه لشيء البتة" قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء/ ولكن لم لا يجوز أن يقال : إنها مع القرينة المخضوضة تفيد معنى معيناً ؟
وبيانه من وجوه : / أحدها : أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم : إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها ، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله ، وثانيها : أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس ، وثالثها : أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة ، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء ، ورابعها : أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب ، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى.
سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه : أحدها : أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في { الر } و{حم } فالاشتباه حاصل فيها ، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
(1/183)

فإن قيل : يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد ؛ فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية. قلنا : قولنا { الر } لا يفيد معنى ألبتة ، فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً ، بخلاف التسمية بمحمد ، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين ، وهو التبرك به لكونه إسماً للرسول ، ولكونه دالاً على صفة من صفات الشرف ، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين ، بخلاف قولنا : { الر } فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين ، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً. وثانيها : لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالنواثر ؛ لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب ، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نفلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة ، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه ، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور ، وثالثها : أن القرآن نزل بلسان العرب ، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب ، وأنه غير جائز ، ورابعها : أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء ، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء ، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران ، وخامسها : هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها ، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة ، فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً ، وهو محال ، فإن قيل : مجموع قولنا : "صاد" اسم للحرف الأول منه ، فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب ؟
قلنا : الفرق ظاهر ؛ لأن المركب يتأخر عن المفرد ، والاسم يتأخر عن المسمى ، فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين ، وذلك غير مستحيل ، أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث أنه اسم كونه متأخراً ، / وذلك محال ، وسادسها : لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه ، ومعلوم أنه غير حاصل.
الجواب : "قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب" قلنا : عنه جوابان : أحدهما : أن كل ذلك عربي ، لكنه موافق لسائر اللغات ، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين : الثاني : أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولاً في بلاد العرب ، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها ، فتكلموا بتلك الأسماء ، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
قوله : "وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً" قلنا : كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل ، أو في الكتاب ، أو في السنة بيانه ، وحينئذٍ يخرج عن كونه غير مفيد ، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه.
وقوله : "لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب ؟
" قلنا : لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذا لغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض ، وهو بالإجماع باطل.
وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا : "آلم" غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني ، فلا يجوز استعمالها فيه ، لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب ، ولأنها متعارضة ، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض ؛ ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات ، وذلك مما لا سبيل إليه.
أما الجواب عن المعارضة الأولى : فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ـ ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى ـ حكمة خفية.
وعن الثاني : أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام ، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر.
وعن الثالث : أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة "حضرموت" فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز ؛ فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة ، والبيت من الشعر ، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم.
وعن الرابع : أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا ههنا.
وعن الخامس : أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين ، ولفظ الاسم كذلك ، فيكون الاسم اسماً لنفسه ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له.
وعن السادس : أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة ، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة / وضع الاسم لبعض السور دون البعض. على أن القول الحق : أنه تعالى يفعل ما يشاء ، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
(1/184)

واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب : من أن المشركين قال بعضهم لبعض : "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً ، والإنسان حريص على ما منع ، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه ؛ رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران : أحدهما : أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور ، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني : أن العلماء قالوا : أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه ، فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات ، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال : لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي. وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض ، وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً ، لكنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي ـ وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة ـ فإن ذلك يكون جائزاً ؟
وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال ، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة/ وقد يكون غيرها ، قوله : "أنه يكون هذياناً" قلنا : إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك ، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت أن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه ؟
وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه ؛ لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم.
القول بأنها أسماء السور :
فروع على القول بأنها أسماء السور : الأول : هذه الأسماء على ضربين : أحدهما : يتأتى فيه الإعراب ، وهو أما أن يكون اسماً مفرداً "كصاد ، وقاف ، ونون" أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم ، وطس ويس ؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو كدر ابجرد ، وهو من باب ما لا ينصرف ، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث. والثاني : ما لا يتأتى فيه الإعراب ، نحو كهيعص ، والمر ، إذا عرفت هذا فنقول : أما المفردة ففيها قراءتان : إحداهما : قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح ، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو : اذكر ، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز / سيبويه مثله في حم وطس ويس لو قرىء به ، وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ "يس" بفتح النون ؛ وأن يكون الفتح جراً ، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية ، فقد جاء عنهم : "الله لأفعلن" غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم "أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف" ، وثانيتهما : قراءة بعضهم صاد بالكسر. وسببه التحريك لالتقاء الساكنين. أما القسم الثاني ـ وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه ـ فهو يجب أن يكون محكياً ، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك : "دعني من تمرتان".
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
الثاني : أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم : أربعة عشر سواء ، وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون في تسع وعشرين سورة.
الثالث : هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد ، فوردت "ص ق ن" على حرف ، و"طه وطس ويس وحم" على حرفين ، و"آلم والر وطسم" على ثلاثة أحرف ، والمص والمر على أربعة أحرف ، و"كهعيص وحم عسق" على خمسة أخرف ، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا.
الرابع : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا ؟
فنقول : إن جعلناها أسماء للسور فنعم ، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة ، أما الرفع فعلى الابتداء ، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها ، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله ، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدودة.
الإشارة في "ذلك الكتاب" :
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
258
قوله تعالى : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} وفيه مسائل :
(1/185)

المسألة الأولى : لقائل أن يقول : المشار إليه ههنا حاضر ، و"ذلك" اسم مبهم يشار به إلى البعيد ، والجواب عنه من وجهين : الأول : لا نسلم أن المشار إليه حاضر ، وبيانه من وجوه : أحدها : ما قاله الأصم : وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض ، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة ، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد ، فقوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة ، وقد يسمى بعض القرآن قرآناً ، قال الله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه } (الأعراف : 204) وقال حاكياً عن الجن {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ} (الجن : 1) وقوله : {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى } (الأحقاف : 30) وهم ما سمعوا إلا البعض ، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت ، وثانيها : أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي ، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه ، / ويؤيده قوله : {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} (المزمل : 5) وهذا في سورة المزمل ، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث ، وثالثها : أنه تعالى خاطب بني إسرائيل ، لأن سورة البقرة مدنية ، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل ، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً صلى الله عليه وسلّم وينزل عليه كتاباً فقال تعالى : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، ورابعها : أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : {وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا} (الزخرف : 4) وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك ، فغير ممتنع أن يقول تعالى : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. وخامسها : أنه وقعت الإشارة بذلك إلى "آلم" بعد ما سبق التكلم به وانقضى ، والمنقضى في حكم المتباعد ، وسادسها : أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد ، كما تقول لصاحبك ـ وقد أعطيته شيئاً ـ احتفظ بذلك. وسابعها : أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها ـ والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ـ فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.
"
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
ذلك" يشار بها للقريب والبعيد :
المقام الثاني : سلمنا أن المشار إليه حاضر ، لكن لا نسلم أن لفظة. "ذلك" لا يشار بها إلا إلى البعيد ، بيانه أن ذلك ، وهذا حرفاً إشارة ، وأصلهما "ذا" ؛ لأنه حرف للإشارة ، قال تعالى : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (البقرة : 245) ومعنى "ها" تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه ، وقد تدخل الكاف على "ذا" للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل : "ذلك" فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه ، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع ، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها ، فصارت كالدابة ، فإنها مختصة في العرف بالفرس ، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض/ وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي ، لا على مقتضى الوضع. العرفي ، وحينئذٍ لا يفيد البعد ؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى : {وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ} (ص : 45 ـ 48) ثم قال : {هَـاذَا ذِكْرُ} (الأنبياء : 24) وقال : {وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} (ص : 52 ، 53) وقال : {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّا ذَالِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق : 19) وقال : {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولَى * إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } (النازعات : 25 ، 26) وقال : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ} (الأنبياء : 105) ثم قال : {إِنَّ فِى هَـاذَا لَبَلَـاغًا لِّقَوْمٍ عَـابِدِينَ} (الأنبياء : 106) وقال : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى } (البقرة : 73) أي هكذا يحيى الله الموتى ، وقال : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } (طه : 17) أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم.
(1/186)

المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث ، وهو السورة ، / الجواب : لا نسلم أن المشار إليه مؤنث ؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم ، والأول باطل ، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث ، وأما الاسم فهو (آلم) وهو ليس بمؤنث ، نعم ذلك المسمى له اسم آخر ـ وهو السورة ـ وهو مؤنث ، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (آلم) ، لا الذي هو مئنث وهو السورة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
مدلول لفظ "كتاب" :
المسألة الثالثة : اعلم أن أسماء القرآن كثيرة : أحدها : الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل : فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس ، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ} (ص : 29) والكتاب جاء في القرآن على وجوه : أحدها : الفرض {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا} (النساء : 103) وثانيها : الحجة والبرهان {فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (الصافات : 157) أي برهانكم. وثالثها : الأجل {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} (الحجر : 4) أي أجل. ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد عبده {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} (النور : 33) وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة ، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته ، وسميت الكتيبة لاجتماعها ، فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات ، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم ، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق.
اشتقاق لفظ "قرآن" :
وثانيها : القرآن {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ} (الإسراء : 88) {إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} (الزخرف : 3) {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (البقرة : 185). {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9) وللمفسرين فيه قولان : أحدهما : قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد ، كالخسران والخسارة واحد/ والدليل عليه قوله : {فَإِذَا قَرَأْنَـاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَه } (القيامة : 18) أي تلاوته ، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته : الثاني : وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل : قرأت الماء في الحوض إذا جمعته ، وقال سفيان بن عيينة : سمي القرآن قرآناً لأن الحروف جمعت فصارت كلمات ، والكلمات جمعت فصارت آيات ، والآيات جمعت فصارت سوراً ، والسور جمعت فصارت قرآناً ، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين. فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
معنى الفرقان :
وثالثها : الفرقان {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه } (الفرقان : 1). {وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (البقرة : 185) واختلفوا في تفسيره ، فقيل : سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله في نيف وعشرين سنة ، ودليله قوله تعالى : {وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـاهُ تَنزِيلا} (الإسراء : 106) ونزلت سائر الكتب جملة واحدة ، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةًا كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَا وَرَتَّلْنَـاهُ تَرْتِيلا} (الفرقان : 32) وقيل : وقال الذين كفروا سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمؤول ، وقيل : الفرقان هو النجاة ، وهو قول عكرمة والسدي ، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة ، / وعليه حمل المفسرون قوله : {وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة : 53).
معنى تسميته بالذكر :
ورابعها : الذكر ، والتذكرة ، والذكرى ، أما الذكر فقوله : {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـاه } (الأنبياء : 50) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9). {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) وفيه وجهان : أحدهما : أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره. والثاني : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به ، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وأمته ، وأما التذكرة فقوله : {وَإِنَّه لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (الحاقة : 48) وأما الذكرى فقوله تعالى : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات : 55).
تسميته تنزيلاً وحديثاً :
(1/187)

وخامسها : التنزيل {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ} (الشعراء : 192 ـ 193).
وسادسها : الحديث {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا} (الزمر : 23) سماه حديثاً ؛ لأن وصوله إليك حديث ، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به ، فإن الله خاطب به المكلفين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
وسابعها : الموعظة {تُرْجَعُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} (يونس : 57) وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى ، والآخذ جبريل ، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكيف لا تقع به الموعظة.
تسميته بالحكم والحكمة :
وثامنها : الحكم ، والحكمة ، والحكيم ، والمحكم ، أما الحكم فقوله : {وَكَذالِكَ أَنزَلْنَـاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا } (الرعد : 37) وأما الحكمة فقوله : {حِكْمَة بَـالِغَةٌ } (القمر : 5) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } (الأحزاب : 34) وأما الحكيم فقوله : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} (يس : 1 ، 2) وأما المحكم فقوله : {كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُه } (هود : 1).
معنى الحكمة :
واختلفوا في معنى الحكمة ، فقال الخليل : هو مأخوذ من الأحكام والإلزام/ وقال المؤرخ : هو مأخوذ من حكمة اللجام ؛ لأنها تضبط الدابة ، والحكمة تمنع من السفه.
وتاسعها : الشفاء {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } (الإسراء : 82) وقوله : {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ} وفيه وجهان : أحدهما : أنه شفاء من الأمراض. والثاني : أنه شفاء من مرض الكفر ، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض ، فقال : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (البقرة : 10) وبالقرآن يزول كل شك عن القلب ، فصح وصفه بأنه شفاء.
كونه هدي وهادياً :
وعاشرها : الهدى ، والهادي : أما الهدى فلقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2). {هُدًى لِّلنَّاسِ} (آل عمران : 4 ، الأنعام : 91). {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس : 57) وأما الهادي {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9) وقالت الجن : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} .
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
الحادي عشر : الصراط المستقيم : قال ابن عباس في تفسيره : إنه القرآن ، وقال : {وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه } .
والثاني عشر : الحبل : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران : 103) في التفسير : إنه القرآن ، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا ، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك ، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلّم عصمة فقال : "إن هذا القرآن / عصمة لمن اعتصم به" لأنه يعصم الناس من المعاصي.
الثالث عشر : الرحمة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } (الإسراء : 88) وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات.
تسميته بالروح :
الرابع عشر : الروح {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى : 52). {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } (النحل : 2) وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح ، وسمي جبريل بالروح {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم : 17) وعيسى بالروح {أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْه } (النساء : 171).
الخامس عشر : القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف : 3) سمي به لأنه يجب اتباعه {وَقَالَتْ لاخْتِه قُصِّيه } (القصص : 11) أي اتبعي أثره ؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين ، ومنه قوله تعلى : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } (آل عمران : 62).
السادس عشر : البيان ، والتبيان ، والمبين : أما البيان فقوله : {هَـاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} (آل عمران : 138) والتبياني فهو قوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ} (النحل : 89) وأما المبين فقوله : {تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْمُبِينِ} (يوسف : 1).
السابع عشر : البصائر {هَـاذَا بَصَآاـاِرُ مِن رَّبِّكُمْ} (الأعراف : 203) أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيهاً بالبصر الذي يرى طريق الخلاص.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/188)

الثامن عشر : الفصل {إِنَّه لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (الطارق : 13 ، 14) واختلفوا فيه ، فقيل معناه القضاء ، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوماً إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار ، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة ، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار.
تسميته بالنجوم :
التاسع عشر : النجوم {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (الواقعة : 75) {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } (النجم : 1) لأنه نزل نجماً نجماً.
العشرون : المثاني : {مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر : 23) قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار.
تسميه القرآن نعمة وبرهانا :
الحادي والعشرون : النعمة : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى : 11) قال ابن عباس يعني به القرآن.
الثاني والعشرون : البرهان {قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} (النساء : 174) وكيف لا يكون برهاناً وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله.
الثالث والعشرون : البشير والنذير ، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل : {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (النساء : 165 ، الأنعام : 48) وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الفتح : 8) وقال في صفة القرآن في حم السجدة {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} (فصلت : 4) يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع وبالنار منذراً لمن عصى ، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن.
تسميته قيماً :
الرابع والعشرون : القيم {قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} (الكهف : 2) والدين أيضاً قيم {ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } (التوبة : 36) والله سبحانه هو القيوم {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } (البقرة : 255 ، آل عمران : 2) وإنما سمي قيماً لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة.
الخامس والعشرون : المهيمن {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَـابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه } (المائدة : 48) وهو مأخوذ من الأمين ، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في / الدنيا والآخرة ، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143).
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
السادس والعشرون : الهادي {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9) وقال : {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} (الجن : 2) والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر "النور الهادي".
تسميته نوراً :
السابع والعشرون : النور {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (النور : 35) وفي القرآن {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَه ا } (الأعراف : 157) يعني القرآن وسمي الرسول نوراً {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ} (المائدة : 15) يعني محمد وسمي دينه نوراً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (الصف : 8) وسمي بيانه نوراً {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه } (الزمر : 22) وسمي التوراة نوراً {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } (المائدة : 44) وسمي الإنجيل نوراً {وَقَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِعِيسَى ابْنِ} (المائدة : 46) وسمي الإيمان نوراً {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} (الحديد : 12).
الثامن والعشرون : الحق : ورد في الأسماء "الباعث الشهيد الحق" والقرآن حق {وَإِنَّه لَحَقُّ الْيَقِينِ} (الحاقة : 51) فسماه الله حقاً ؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } (الأنبياء : 18) أي ذاهب زائل.
التاسع والعشرون : العزيز {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء : 9 ، 68) وفي صفة القرآن {وَإِنَّه لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ} (فصلت : 41) والنبي عزيز {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} والأمة عزيزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) فرب عزيز أنزل كتاباً عزيزاً على نبي عزيز لأمة عزيزة ، وللعزيز معنيان : أحدهما : القاهر ، والقرآن كذلك ؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته. والثاني : أن لا يوجد مثله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
تسمية القرآن بالكريم :
(1/189)

الثلاثون : الكريم {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ} (الواقعة : 77) واعلم أنه تعالى سمي سبعة أشياء بالكريم {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار : 60) إذ لا جواد إجود منه ، والقرآن بالكريم ، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه ، وسمي موسى كريماً {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} (الدخان : 17) وسمي ثواب الأعمال كريماً {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (يس : 11) وسمي عرشه كريماً {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } (النمل : 26) لأنه منزل الرحمة ، وسمي جبريل كريماً {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (التكوير : 19) ومعناه أنه عزيز ، وسمي كتاب سليمان كريماً {إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ} (النمل : 29) فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة ، فإذا تمسكوا به نالوا ثواباً كريماً.
ومن أسمائه "العظيم" :
الحادي والثلاثون : العظيم : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ} (الحجر : 87) اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيماً فقال : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} (البقرة : 255) وعرشه عظيماً {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة : 129) وكتابه عظيماً {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ} (الحجر : 87) ويوم القيامة عظيماً {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (المطففين : 5 ، 6) والزلزلة عظيمة {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} (الحج : 1) وخلق الرسول عظيماً {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) والعلم عظيماً {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) وكيد النساء عظيماً {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (يوسف : 28) وسحر سحرة / فرعون عظيماً {وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (الأعراف : 116) وسمي نفس الثواب عظيماً {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الفتح : 29) وسمي عقاب المنافقين عظيماً {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة : 7).
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
ومنها المبارك :
الثاني والثلاثون : المبارك : {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} (الأنبياء : 50) وسمى الله تعالى به أشياء ، فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركاً {فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (القصص : 30) وسمى شجرة الزيتون مباركة {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} (التوبة : 35) لكثرة منافعها ، وسمي عيسى مباركاً {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا} (مريم : 31) وسمي المطر مباركاً {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا} (ق : 9) لما فيه من المنافع ، وسمي ليلة القدر مباركة {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } (الدخان : 3) فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة.
اتصال "آلم" بقوله "ذلك الكتاب" :
المسألة الرابعة : في بيان اتصال قوله : { الر } بقوله : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} قال صاحب الكشاف : إن جعلت { الر } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه :
الأول : أن يكون { الر } مبتدأ و{ذَالِكَ} مبتدأ ثانياً و{الْكِتَـابُ} خبره والجملة خبر المبتدأ الأول/ ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً كما تقول : هو الرجل ، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال ، وأن يكون الكتاب صفة ، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون { الر } خبر مبتدأ محذوف أي هذه { الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ} خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ، ومعناه هو ذلك ، وأن تكون هذه { الر } جملة و{ذَالِكَ الْكِتَـابُ} جملة أخرى وإن جعلت { الر } بمنزلة الصوت كان {ذَالِكَ} مبتدأ وخبره {الْكِتَـابُ} أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف ، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله {الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ} (السجدة : 2) وتأليف هذا ظاهر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
تفسير قوله تعالى : {لا رَيْبَا فِيه } :
قوله تعالى : {لا رَيْبَا فِيه } فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الريب قريب من الشك ، . وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء ، ومنها قوله عليه السلام : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : "ريب الدهر" و"ريب الزمان" أي حوادثه قال الله تعالى : {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور : 30) ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر :
فقضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
(1/190)

قلنا : هذان قد يرجعان إلى معنى الشك ، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك / فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى : {لا رَيْبَا فِيه } المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شبهة في صحته ، ولا في كونه من عند الله ، ولا في كونه معجزاً. ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة : 23) وها هنا سؤالات : السؤال الأول : طعن بعض الملحدة فيه فقال : إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب : المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثاني : لم قال ههنا : {لا رَيْبَا فِيه } وفي موضع آخر {لا فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات : 47) ؟
الجواب : لأنهم يقدمون الأهم فالأهم ، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب ، ولو قلت : لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا ، كما قصد في قوله : {لا فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا ، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث : من أين يدل قوله : {لا رَيْبَا فِيه } على نفي الريب بالكلية ؟
الجواب : قرأ أبو الشعثاء {لا رَيْبَا فِيه } بالرفع. واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدليل عليه أن قوله : {لا رَيْبَ } نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية ، وذلك يناقض نفي الماهية ، ولهذا السر كان قولنا : "لا إله إلا الله" نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وأما قولنا : "لا ريب فيه" بالرفع فهو نقيض لقولنا : "ريب فيه" وهو يفيد ثبوت فرد واحد/ فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
الوقف على "فيه" :
المسألة الثانية : الوقف على {فِيه } هو المشهور ، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لا رَيْبَ } ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله : {قَالُوا لا ضَيْرَ } وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ؛ والتقدير : {لا رَيْبَا فِيه } {فِيه هُدًى} . واعلم أن القراءة الأولى أولى ؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى ، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى ، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.
حقيقة الهدى :
قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فيه مسائل :
(1/191)

المسألة الأولى : في حقيقة الهدى : الهدى عبارة عن الدلالة ، وقال صاحب الكشاف : الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية ، وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم. والذي يدل / على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء ، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال ، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أثبت الهدى مع عدم الاهتداء ، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال : هديته فلم يهتد ، وذلك يدل على قولنا ، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة : أولها : وقوع الضلالة في مقابلة الهدى ، قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى } (البقرة : 16) وقال : {لَعَلَى هُدًى} أو {فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (الأعراف : 60) وثانيها : يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها : أن اهتدى مطاوع هدى يقال : هديته فاهتدى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى. والجواب عن الأول : أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال ، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع ، وعن الثاني : أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً ، وغير منتفع به لا يسمى مهدياً ؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث : أن الائتمار مطاوع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار ، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء ، على أنه معارض بقوله : هديته فلم يهتد ، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
معنى المتقي :
المسألة الثانية : المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي ، والوقاية فرط الصيانة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح ، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا ، بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين ، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى ؟
فقال بعضهم : يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد ، وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟
فروي عنه عليه السلام أنه قال : "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه. واعلم أن التقوى هي الخشية ، قال في أول النساء : {تُفْلِحُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (النساء : 1) ومثله في أول الحج ، وفي الشعراء {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (هود : 106) يعني ألا تخشون الله ، وكذلك قال هود وصالح ، ولوط ، وشعيب لقومهم ، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه } (نوح : 3) يعني اخشوه ، وكذا قوله : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } (آل عمران : 102) {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة : 197) {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 48) واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ، والتوبة أخرى ، والطاعة ثالثة ، وترك المعصية رابعاً : والإخلاص خامساً : أما الإيمان فقوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (الفتح : 26) أي التوحيد { أولئك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } (الحجرات : 3) وفي الشعراء {قَوْمَ فِرْعَوْنَا أَلا يَتَّقُونَ} (الشعراء : 11) أي أو يؤمنون وأما التوبة فقوله : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ا ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا } (
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/192)

الأعراف : 96) أي تابوا ، وأما الطاعة فقوله في النحل : {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل : 2) وفيه أيضاً : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} (النحل : 52) وفي المؤمنين {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون : 52) وأما ترك المعصية فقوله : {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة : 189) أي فلا تعصوه ، وأما الإخلاص فقوله في الحج : {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج : 32) أي من إخلاص القلوب ، فكذا قوله : {وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ} (البقرة : 41) واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل : 128) وقال : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } (الحجرات : 13) وعن ابن عباس قال عليه السلام : "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده" وقال علي بن أبي طالب : التقوى ترك الإصرار عل المعصية ، وترك الاغترار وبالطاعة. قال الحسن : التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله ، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله. وقال إبراهيم بن أدهم : التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً. ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي : التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق ، ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك ، ويقال : المتقي من سلك سبيل المصطفى ، ونبذ الدنيا وراء القفا ، وكلف نفسه الإخلاص والوفا ، واجتنب الحرام والجفا ، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} كفاه ، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (البقرة : 185) ثم قال ههنا في القرآن : إنه هدي للمتقين ، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس ، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
المسألة الثالثة : في السؤالات : السؤال الأول : كون الشيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص ، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط ؟
وأيضاً فالمتقي مهتدى ، والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين. الجواب : القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى دينه وصدق رسوله ، فهو أيضاً دلالة للكافرين. إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) وقال : {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} (يس : 11) وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره. وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه ، لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين. السؤال الثاني : كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير ؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه ، فيكون الهدى / في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج. لا تحتج عليهم بالقرآن ، فإنه حصم ذو وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه ؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر ، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد ، فكيف يكون هدى ؟
.
الجواب : أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين ـ وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع ـ صار كله هدى. السؤال الثالث : كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته ، وفي معرفة النبوة ، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب ، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق ؟
.
الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم ، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة ، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/193)

السؤال الرابع : الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة ، وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره ، فكيف يكون هدى ؟
قلنا : من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة ، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال ، وأما نحن فقد رجحنا واحداً على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال.
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" : محل {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} الرفع ؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع {لا رَيْبَا فِيه } ، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبراً عنه ، ويجوز أن ينصب على الحال ، والعامل فيه الإشارة ، أو الظرف ، والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحاً ، وأن يقال : إن قوله : {الضَّآلِّينَ * الر } جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و{ذَالِكَ الْكِتَـابُ} جملة ثانية ، و{لا رَيْبَا فِيه } ثالثة و{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض ، والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة ، والرابعة.
بيانه : أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدي به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال / فكان تقرير الجهة التحدي/ ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر ـ الذي هو هدى ـ موضع الوصف الذي هو هادٍ ، وإيراده منكراً.
اعلم أن فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} أما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة ، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون ، أو هم الذين ، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه { أولئك عَلَى هُدًى} فإذا كان موصولاً كان الوقف على المتقين حسناً غير تام ، وإذا كان منقطعاً كان وقفاً تاماً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
المسألة الثانية : قال بعضهم : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين ، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيآت ، أما الفعل فأما أن يكون فعل القلب ـ وهو قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} ـ وأما أن يكون فعل الجوارح ، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة ؛ لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة ، أو مالية ، وأجلها الزكاة ؛ ولهذا سمي الرسول عليه السلام : "الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام" وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} (العنكبوت : 45) والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيراً لكونهم متقين ؛ وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي ، فالترك هو التقوى ، والفعل إما فعل القلب ، وهو الإيمان ، أو فعل الجوارح ، وهو الصلاة والزكاة ، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة ، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ، واللروح يجب تطهيره أولاً عن النقوش الفاسدة ، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه ، وكذا القول في الأخلاق ، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي ، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي.
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : الإيمان إفعال من الأمن ، ثم يقال آمنه إذا صدقه ، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة ، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى "أقر وأعترف" وأما ما حكى أبو زيد : ما آمنت أن أجد صحابة أي ماوثقت ، فحقيقته صرت ذا أمن ، أي ذا سكون وطمأنينة وكلا الوجهين حسن في {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق. وأقول : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع ويجمعهم فرق أربع.
/
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/194)

الفرقة الأولى : الذين قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية ، وأهل الحديث ، أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنّة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً. فقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق ، ولذلك يقال فلان آمن بالله وبرسوله ، ويكون المراد التصديق ، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال فلان آمن بكذا إذا صلى وصام ، بل يقال فلان آمن بالله كما يقال صام وصلى لله ، فالإيمان المعدي بالباء يجري على طريقة أهل اللغة/ أما إذا ذكر مطلقاً غير معدي فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي ـ الذي هو التصديق ـ إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه : أحدها : أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات ، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار بن أحمد. وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم. وثالثها : أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النظام ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها. وأما أهل الحديث فذكروا وجهين : الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار ، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب. الثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها وهو إيمان واحد وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقصإيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه ، ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
الفرقة الثانية : الذين قالوا : الإيمان بالقلب واللسان معاً ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب ، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين. أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم ـ سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو كان علماً صادراً عن الدليل ـ وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا ؟
قال بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ثم / أنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف. وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلّم ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو عالماً لذاته وبكونه مرئياً أو غيره لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان. القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً ، وهو قول بشر بن عتاب المريسي ، وأبي الحسن الأشعري ، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس. القول الثالث : قول طائفة من الصوفية : الإيمان إقرار باللسان ، وإخلاص بالقلب.
الفرقة الثالثة : الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين : أحدهما : أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب ، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقربه فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان. أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان. وحكى الكعبي عنه : أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلّم. وثانيهما : أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وهو قول الحسين بن الفضل البجلي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/195)

الفرقة الرابعة : الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط وهم فريقان : الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب/ فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيماناً ، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي وإن كان الكعبي قد أنكر كونه قولاً لغيلان. الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية ، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع ، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب فنقول : أن من قال العالم محدث فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفاً بالحدوث ، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثاً ، والحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث للعالم فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص ، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمراً واحداً يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم ، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به ، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم ، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني ، بقي ههنا بحث لفظي وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهين أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلّم مع الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة.
/
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
القيد الأول : أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه : الأول : أنه كان في أصل اللغة للتصديق ، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب ، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً. الثاني : أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى ، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر ، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع. الثالث : أجمعنا على أن الإيمان المعدي بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدي كذلك. الرابع : أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب قال : {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } (البقرة : 41) وقوله : {وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} (النحل : 106) {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) {وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } (الحجرات : 14) الخامس : أن الله تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلاً في الإيمان لكان ذلك تكراراً. السادس : أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه وبالمعاصي ، قال : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام : 82) {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى ا أَمْرِ} (الحجرات : 9) واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى : {الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 78) من ثلاثة أوجه : أحدهما : أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم أنه خاطبه بقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فدل على أنه مؤمن. وثانيها : قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} (البقرة : 178) وهذه الأخوة ليست إلا إخوة الإيمان ، لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/196)

الحجرات : 10) وثالثها : قوله : {ذَالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } (البقرة : 178) وهذا لا يليق إلا بالمؤمن ، ومما يدل على المطلوب قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أولئك } (الأنفال : 72) هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } (النحل : 28) وقوله : {مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } (الأنفال : 72) ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضاً عليه قوله تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} (الممتحنة : 1) وقال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} (الأنفال : 27) وقوله تعالى : {تَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} (التحريم : 8) والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} (النور : 31) لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنباً وليس كذلك قولنا : هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة.
القيد الثاني : أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة : 8) نفي كونهم مؤمنين ، ولو كان الإيمان بالله عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي.
القيد الثالث : أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً.
/ القيد الرابع : ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات الله عزّ وجلّ ؛ لأن الرسول عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالماً لذاته أو بالعلم ، ولو كان هذا القيد وأمثاله شرطاً معتبراً في تحقيق الإيمان لما جاز أن يحكم الرسول بإيمانه قبل أن يجربه في أنه هل يعرف ذلك أم لا. فهذا هو بيان القول في تحقيق الإيمان ، فإن قال قائل : ها هنا صورتان : الصورة الأولى : من عرف الله تعالى بالدليل والبرهان ولما تم العرفان مات ولم يجد من الزمان والوقت ما يتلفظ فيه بكلمة الشهادة. فههنا أن حكمتم أنه مؤمن فقد حكمتم بأن الإقرار اللساني غير معتبر في تحقيق الإيمان ، وهو خرق للإجماع ، وإن حكمتم بأنه غير مؤمن فهو باطل ؛ لقوله عليه السلام : "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وهذا قلب طافح بالإيمان ، فكيف لا يكون مؤمناً ؟
الصورة الثانية : من عرف الله تعالى بالدليل ووجد من الوقت ما أمكنه أن يتلفظ بكلمة الشهادة ولكنه لم يتلفظ بها فإن قلتم إنه مؤمن فهو خرق للإجماع ، وإن قلتم ليس بؤمن فهو باطل ؛ لقوله عليه السلام : "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" ولا ينتقي الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
والجواب : أن الغزالي منع من هذا الإجماع في الصورتين ، وحكم بكونهما مؤمنين ، وإن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان.
(1/197)

المسألة الرابعة : قيل : {الْغَيْبَ} مصدر أقيم مقام اسم الفاعل ، كالصوم بمعنى الصائم ، والزور بمعنى الزائر ، ثم في قوله تعالى : {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قولان : الأول : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني ـ أن قوله : {بِالْغَيْبِ} صفة المؤمنين معناه أنهم يؤمنون بالله حال الغيب كما يؤمنون به حال الحضور ، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزءون. ونظيره قوله تعالى : {ذَالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف : 52) ويقول الرجل لغيره : نعم الصديق لك فلان بظهر الغيب ، وكل ذلك مدح للمؤمنين بكون ظاهرهم موافقاً لباطنهم ومباينتهم لحال المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أن الغيب هو الذي يكون غائباً عن الحاسة ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل ، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب الذي دل عليه دليل بأن يتفكروا ويستدلوا فيؤمنوا به ، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله تعالى وبصفاته والعلم بالآخرة والعلم بالنبوة والعلم بالأحكام وبالشرائع فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقة فيصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثناء العظيم. واحتج أبو مسلم على قوله بأمور : الأول : أن قوله : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة : 4) إيمان بالأشياء الغائبة فلو كان المراد من قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه ، وأنه غير جائز : الثاني : لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن / الإنسان يعلم الغيب ، وهو خلاف قوله تعالى : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) أما لو فسرنا الآية بما قلنا لا يلزم هذا المحذور الثالث : لفظ الغيب إنما يجوز إطلاقه على من يجوز عليه الحضور ، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله تعالى وصفاته ، فقوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذات الله تعالى وصفاته ، ولا يبقى فيه إلا الإيمان بالآخرة ، وذلك غير جائز لأن الركن العظيم في الإيمان هو الإيمان بذات الله وصفاته ، فكيف يجوز حمل اللفظ على معنى يقتضي خروج الأصل أما لو حملناه على التفسير الذي اخترناه لم يلزمنا هذا المحذور.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
والجواب عن الأول : أن قوله : {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} يتناول الإيمان بالغائبات على الإجمال ثم بعد ذلك قوله : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يتناول الإيمان ببعض الغائبات فكان هذا من باب عطف التفصيل على الجملة ، وهو جائز كما في قوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) وعن الثاني : أنه لا نزاع في أنا نؤمن بالأشياء الغائبة عنا ، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً. فإن قيل أفتقولون : العبد يعلم الغيب أم لا ؟
قلنا قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل وإلى ما لا دليل عليه أما الذي لا دليل عليه فهو سبحانه وتعالى العالم به لا غيره ، وأما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن تقول : نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل ، ويفيد الكلام فلا يلتبس ، وعلى هذا الوجه قال العلماء : الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة. وعن الثالث : لا نسلم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور ، والدليل على ذلك أن المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشاهد. ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته والله أعلم.
المسألة الخامسة : قال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النو : 55) وأما الخبر فقوله عليه السلام : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً" واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل.
(1/198)

المسألة السادسة : ذكروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهاً : أحدها : أن إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها ، من أقام العود إذا قومه. وثانيها : أنها عبارة عن المداومة عليها كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وقال : {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَآا ِمُونَ} (المعارج : 34) من قامت السوق إذا نفقت ، وأقامتها نفاقها ؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي نتوجه إليه الرغبات ، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه وثالثها : أنها عبارة عن التجرد لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور من قولهم : قام / بالأمر ، وقامت الحرب على ساقها ، وفي ضده : قعد عن الأمر ، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبط. ورابعها : إقامتها عبارة عن أدائها ، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود ، وقالوا : سبح إذا صلى ، لوجود التسبيح فيها ، قال تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصافات : 143) واعلم أن الأولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم ، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها ؛ ولذلك فإن القيم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيماً إذا أعطي الحقوق من دون بخس ونقص ؛ ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيوم ؛ لأنه يجب دوام وجوده ؛ ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
المسألة السابعة : ذكروا في لفظ الصلاة في أصل اللغة وجوهاً. أحدها : أنها الدعاء قال الشاعر :
فوقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتشم
وثانيها : قال الخارزنجي. اشتقاقها من الصلى ، وهي النار ، من قولهم : صليت العصا إذا قومتها بالصلى ، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل باطنه وظاهره مثل من يحاول تقويم الخشبة بعرضها على النار. وثالثها : أن الصلاة عبارة عن الملازمة من قوله تعالى : {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} (لغشية : 4) {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (المسد : 3) وسمي الفرس الثاني من أفراس المسابقة مصلياً. ورابعها : قال صاحب الكشاف : الصلاة فعلة من "صلى" كالزكاة من "زكى" وكتبتها بالواو على لفظ المفخم ، وحقيقة صلى حرك الصلوين ، لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده ، وقيل الداعي مصلى تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد ، وأقول ها هنا بحثان :
الأول : إن هذا الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة ، وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً على ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل ، ولو جوزنا أن يقال : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره ، ثم أنه خفي ولدارس حتى صار بحيث لا يعرفه إلا الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً ، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المعاني في زماننا هذا ، لاحتمال أنها كانت في زمان الرسول موضوعة لمعان أخر ، وكان مراد الله تعالى منها تلك المعاني ، إلا أن تلك المعاني خفيت في زماننا واندرست كما وقع مثله في هذه اللفظة ، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل.
الثاني : الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة يتلو بعضها بعضاً مفتتحة بالتحريم/ مختتمة بالتحليل ، وهذا الاسم يقع على الفرض والنفل. لكن المراد بهذه الآية الفرض خاصة ؛ لأنه الذي يقف الصلاح عليه ؛ لأنه عليه السلام لما بين للإعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أفلح إن صدق".
/
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
(1/199)

المسألة الثامنة : الرزق في كلام العرب هو الحظ قال تعالى : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (الواقعة : 82) أي حظكم من هذا الأمر ، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ثم قال بعضهم : الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل ، لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال : {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} (الرعد : 22) فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه. وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو أيضاً باطل ، لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولداً صالحاً أو زوجة صالحة وهو لا يملك الولد ولا الزوجة ، ويقول : اللهم ارزقني عقلاً أعيش به وليس العقل بمملوك ، وأيضاً البهيمة يكون لها رزق ولا يكون لها ملك. وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو الحسين البصري : الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به ، فإذا قلنا : قد رزقنا الله تعالى الأموال ، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها ، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالاً فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص ، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص ، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به ، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به ، واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا : الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقاً ، فحجة الأصحاب من وجهين : الأول : أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظاً ونصيباً ، فوجب أن يكون رزقاً له الثاني : أنه تعالى قال : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة ، فوجب أن يقال : أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً. أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى : أما الكتاب فوجوه : أحدها : قوله تعالى : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى ، فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق. وثانيها : لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم} (البقرة : 254) وأجمع المسلون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده ، فدل على أن الحرم لا يكون رزقاً. وثالثها : قوله تعالى :
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
{قُلْ أَرَءَيْتُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَـالا قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } (يونس : 59) فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً ، وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال. كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأئذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام : "لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله رزقاً طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعاً" وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به/ من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال أنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال. أن / السلطن قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه ، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان لكل من الله ، لكنه كما يقال : يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكلاب والخنازير ، وقال : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6) فخص اسم العباد بالمتقين ، وإن كان الكفار أيضاً من العباد ، وكذلك ها هنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً ، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا ، لأن قوله عليه السلام : "فاخترت ما حرم ا لله عليك من رزقه" صريح في أن الرزق قد يكون حراماً وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض للغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا ؟
ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ والله أعلم.
المسألة التاسعة : أصل الإنفاق إخراج المال من اليد ، ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له ، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها ، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى : {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى الارْضِ} (الأنعام : 35).
(1/200)

المسألة العاشرة : في قوله : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} فوائد : أحدها : أدخل من التبعيضية صيانة لهم ، وكفى عن : الإسراف والتبذير المنهي عنه. وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم ، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به. وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية ، الإنفاق الواجب ، والإنفاق المندوب ، والإنفاق الواجب أقسام : أحدها : الزكاة وهي قوله في آية الكنز : {وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة : 34). وثانيها : الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها : الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله : {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وأراد به الصدقة لقوله بعده : {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـالِحِينَ} (المنافقون : 10) فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
277
اعلم أن قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3) عام يتناول كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام ، أو ما كان مؤمناً بهما ، ودلالة اللفظ العام على بعض ما دخل فيه التخصيص أضعف من دلالة اللفظ الخاص على ذلك البعض ، لأن العام يحتمل التخصيص والخاص لا يحتمله فلما كانت هذه السورة مدنية ، وقد شرف الله تعالى المسلمين بقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 2 ، 3) فذكر بعد ذلك أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسول : كعبد الله بن سلام وأمثاله بقوله : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} لأن في هذا التخصيص بالذكر مزيد تشريف لهم كما في قوله تعالى : {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) ثم تخصيص / عبد الله بن سلام وأمثاله بهذا التشريف ترغيب لأمثاله في الدين ، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذلك العام ، ثم نقول. أما قوله : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد منه التصديق ، فإذا قلنا فلان آمن بكذا ، فالمراد أنه صدق به ولا يكون المراد أنه صام وصلى ، فالمراد بالإيمان ها هنا التصديق بالأَتفاق لكن لا بدّ معه من المعرفة لأن الإيمان ها هنا خرج مخرج المدح والمصدق مع الشك لا يأمن أن يكن كاذباً فهو إلى الذم أقرب.
المسألة الثانية : المراد من إنزال الوحي وكون القرآن منزلاً ، ومنزلاً ، ومنزولاً به ، أن جبريل عليه السلام سمع في السماء كلام الله تعالى فنزل على الرسول به ، وهذا كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر ، والرسالة لا تنزل لكن المستمع يسمع الرسالة من علو فينزل ويؤيدي في سفل. وقوله الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال فلان ينقل الكلام إذا سمع في موضع وأداه في موضع آخر. فإن قيل كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ، وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم ؟
قلنا يحتمل أن يخلق الله تعالى له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله خلق في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص فقرأه جبريل عليه السلام فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلفقه جبريل عليه السلام ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام القديم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 277
المسألة الثالثة : قوله : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} هذا الإيمان واجب ، لأنه قال في آخره : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة : 5) فثبت أن من لم يكن له هذا الإيمان وجب أن لا يكون مفلحاً ، وإذا ثبت أنه واجب وجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم على سبيل التفصيل ، لأن المرء لا يمكنه أن يقوم بما أوجبه الله عليه علماً وعملاً إلا إذا علمه على سبيل التفصيل ، لأنه إن لم يعلمه كذلك امتنع عليه القيام به ، إلا أن تحصيل هذا العلم واجب على سبيل الكفاية ، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة على محمد صلى الله عليه وسلّم على سبيل التفصيل غير واجب على العامة ، وأما قوله : {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} فالمراد به ما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد/ والإيمان به واجب على الجملة ، لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفته على التفصيل ، بل إن عرفنا شيئاً من تفاصيله فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل ، وأما قوله : {وَبِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الآخرة صفة الدار الآخرة ، وسميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا وقيل للدنيا دنيا لأنها أدنى من الآخرة.
(1/201)

المسألة الثانية : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه ، فلذلك لا يقول القائل : تيقنت وجود نفسي ، وتيقنت أن السماء فرقي لما أن العلم به غير مستدرك ، ويقال ذلك في العلم / الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً ، فيقول القائل : تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار ، ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب ؛ ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء.
المسألة الثالثة : أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط ، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة ، والكافرين النار. روى عنه عليه السلام أنه قال : "يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا ـ يعني النوم واليقظة ـ وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور ، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة".
جزء : 2 رقم الصفحة : 277
278
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة : أحدها : أن ينوي الابتداء {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3) وذلك لأنه لما قيل : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول : ما السبب في اختصاص المتقين بذلك ؟
فوقع قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} جواباً عن هذا السؤال ، كأنه قيل : الذي يكون مشتغلاً بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بدّ وأن يكون على هدى من ربه. وثانيها : أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعاً {لِّلْمُتَّقِينَ} ثم يقع الابتداء من قوله : { أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى ؟
فأجيب بأن أولئك الموصفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً. وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة {الْمُتَّقِينَ} ويرفع الثاني على الابتداء و{أُوالَـا ئِكَ} خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى.
المسألة الثانية : معنى الاستعلاء في قوله : {عَلَى هُدًى} بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره "فلان على الحق ، أو على الباطل" وقد صرحوا به في قولهم : "جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل" وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل ، لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه / عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى ومدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولاً ، مدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانياً ، وذلك واجب على المكلف ، لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلا فلا بدّ من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله ، ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحاً بأنه على هدى وبصيرة ، وإنما نكر {هُدَى} ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً. قال عون بن عبد الله : الهدى من الله كثير ، ولا يبصره إلا بصير ، ولا يعمل به إلا يسير. ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ، ولا يهتدى بها إلا العلماء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
المسألة الثالثة : في تكرير {أُوالَـا ئِكَ} تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً ، فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. فإن قيل : فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله : { أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّا أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ} (الأعراف : 179) قلنا : قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهمامتفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد ، وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
المسألة الرابعة : {هُمْ} فصل وله فائدتان : إحداهما : الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان ، أما لو قلت : الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان.
(1/202)

المسألة الخامسة : معنى التعريف في {الْمُفْلِحُونَ} الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو ؟
فقيل زيد التائب ، أي هو الذي أخبرت بتوبته ، أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحون فهم هم ، كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام ؟
إن زيداً هو هو.
المسألة السادسة : المفلح الظافر بالمطلوب كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ، والمفلح بالجيم مثله ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح ، ولهذا سمي الزراع فلاحاً ، ومشقوق الشفة السفلى أفلح ، وفي المثل "الحديد بالحديد يفلح" وتحقيقه أن الله تعالى لما وصفهم بالقيام بما يلزمهم علماً وعملاً بين نتيجة ذلك وهو الظفر بالمطلوب الذي هو النعيم الدائم من غير شوب على وجه الإجلال والإعظام ، لأن ذلك هو الثواب المطلوب للعبادات.
المسألة السابعة : هذه الآيات يتمسك الوعيدية بها من وجه ، والمرجئة من وجه آخر. أما الوعيدية فمن وجهين : الأول : أن قوله : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً ، وذلك يوجب القطع على وعيد تارك الصلاة / والزكاة. الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فيلزم أن تكون علة الفلاح هي فعل الإيمان والصلاة والزكاة ، فمن أخل بهذه الأشياء لم يحصل له علة الفلاح ، فوجب أن لا يحصل الفلاح. أما المرجئة فقد احتجوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكروة في هذه الآية فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً وإن زنى وسرق وشرب الخمر ، وإذا ثبت في هذه الطائفة تحقق العفو ثبت في غيرهم ضرورة ، إذ لا قائل بالفرق. والجواب : أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر فيتساقطان ، ثم الجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل في الفلاح ، ونحن نقول بموجب ، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح وهو غير جازم بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفاً منه ، وعن الثاني : أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى. والجواب عن قول المرجئة : أن وصفهم بالتقوى يكفي في نيل الثواب لأنه يتضمن إتقاء المعاصي ، وإتقاء ترك الواجبات والله أعلم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
280
اعلم أن في الآية مسائل نحوية ، ومسائل أصولية ، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى ، أما قوله : {ءَانٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن {ءَانٍ} حرف والحرف لا أصل له في العمل ، لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى ، وتلك المشابهة تقتضي كونها عاملة ، وفيه مقدمات : المقدمة الأولى : في بيان المشابهة ، واعلم أن هذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى ، أما في اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال ، ويدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني ، كما يدخل على الفعل نحو : أعطاني وأكرمني ، وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الاسم وهو تأكد موصوفيته بالخبر ، كما أنك إذا قلت : قام زيد ، فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم المقدمة الثانية : أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل وذلك ظاهر بناءً على الدوران المقدمة الثالثة : في أنها لم نصبت الاسم ورفعت الخبر ؟
وتقريره أن يقال : إنها لما صارت عاملة فأما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً ، أو تنصبهما معاً ، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وبالعكس ، والأول باطل ؛ لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول {ءَانٍ} عليهما مرفوعين ، فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر البتة ، ولأنها أعطيت عمل الفعل ، والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك والفزع لا يكون أقوى من الأصل ، والقسم الثاني : أيضاً باطل ؛ لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل ، / لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه. والقسم الثالث : أيضاً باطل ، لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع ، فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع ثم في المفعول بالنصب ، فلو جعل الحرف ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع. ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع : وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر ، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصلية ، لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل فذلك يدل ههنا على أن العمل لهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/203)

المسألة الثانية : قال البصريون : هذا الحرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ، وقال الكوفيون لا أثر له في رفع الخبر بل هو مرتفع بما كان مرتفعاً به قبل ذلك. حجة البصريين : أن هذه الحروف تشبه الفعل مشابهة تامة على ما تقدم بيانه ، والفعل له تأثير في الرفع والنصب ، فهذه الحروف يجب أن تكون كذلك. وحجة الكوفيين من وجهين : الأول : أن معنى الخبرية باقٍ في خبر المبتدأ وهو أولى باقتضاء الرفع فتكون الخبرية رافعة ، وإذا كانت الخبرية رافعة استحال ارتفاعه بهذه الحروف ، فهذه مقدمات ثلاثة : إحداها : قولنا : الخبرية باقية ، وذلك ظاهر ، لأن المراد من الخبرية كون الخبر مسنداً إلى المبتدأ ، وبعد دخول حرف "إن" عليه فذاك الإسناد باقٍ. وثانيها : قولنا : الخبرية ههنا مقتضية للرفع : وذلك لأن الخبرية كانت قبل دخول "إن" مقتضية للرفع ولم يكن عدم الحرف هناك جزءاً من المقتضى. لأن العدم لا يصلح أن يكون جزء العلة ، فبعد دخول هذه الحروف كانت الخبرية مقتضية للرفع ، لأن المقتضى بتمامه لو حصل ولم يؤثر لكان ذلك لمانع وهو خلاف الأصل. وثالثها : قولنا : الخبرية أولى بالاقتضاء ، وبيانه من وجهين : الأول : أن كونه خبراً وصف حقيقي قائم بذاته ، وذلك الحرف أجنبي مباين عنه وكما أنه مباين عنه فغير مجاور له لأن الاسم يتخللهما. الثاني : أن الخبر يشابه الفعل مشابهة حقيقية معنوية وهو كون كل واحد منهما مسنداً إلى الغير/ أما الحرف فإنه لا يشابه الفعل في وصف حقيقي معنوي ، فإنه ليس فيه إسناد ، فكانت مشابهة الخبر للفعل أقوى من مشابهة هذا الحرف للفعل ، فإذا ثبت ذلك كانت الخبرية باقتضاء الرفع لأجل مشابهة الفعل أولى من الحرف بسبب مشابهته للفعل ورابعها : لما كانت الخبرية أقوى في اقتضاء الرفع استحال كون هذا الحرف رافعاً ، لأن الخبرية بالنسبة إلى هذا الحرف أولى ، وإذا كان كذلك فقد حصل الحكم بالخبرية قبل حصول هذا الحرف ، فيعد وجود هذا الحرف لو أسند هذا الحكم إليه لكان ذلك تحصيلاً للحاصل ، وهو محال. الوجه الثاني : أن سيبويه وافق على أن الحرف غير أصل في العمل فيكون إعماله على خلاف الدليل ، وما ثبت على خلاف الدليل يقدر بقدر الضرورة. والضرورة تندفع بأعمالها في الاسم ، فوجب أن لا يعملها في الخبر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
المسألة الثالثة : روى الأنباري أن الكندي المتفلسف ركب إلى المبرد وقال : إني أجد / في كلام العرب حشوا ، أجد العرب تقول : عبد الله قائم ، ثم تقول إن عبد الله قائم ، ثم تقول إن عبد الله لقائم ، فقال المبرد : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ ، فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه ، وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل ، وقولهم إن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر لقيامه ، واحتج عبد القاهر على صحة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال السائل بأن قال إنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كان جواباً للقسم نحو والله إن زيداً منطلق ويدل عليه من التنزيل قوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِا قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى الارْضِ} (الكهف : 83) وقوله في أول السورة : {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّا إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ} (الكهف : 13) وقوله : {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعاء : 216) وقوله : {قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه } (الأنعام : 56) وقوله : {وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (ا لحج : 89) وأشباه ذلك مما يعلم أنه يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا ونظروا فيه ، وعليه قوله : {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الاشعراء : 16) وقوله : {وَقَالَ مُوسَى يَـافِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} (ا لأعراف : 104) وفي قصة السحرة {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} (الأعراف : 125) إذ من الظاهر أنه جواب فرعون عن قوله : {قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ} (طه : 71 الشعراء : 49) وقال عبد القاهر : والتحقيق أنها للتأكيد وإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه لم يحتج هناك إلى "إن" وإنما يحتاج إليها إذا كان السامع ظن الخلاف ، ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله كقول أبي نواس :
فعليك باليأس من الناس
إن غنى نفسك في الياس
(1/204)

وإنماحسن موقعها لأن الغالب أن الناس لا يحملون أنفسهم على اليأس. وأما جعلها مع اللام جواباً للمنكر في قولك : "إن زيداً لقائم" فجيد لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد ، وكما يحتمل أن يكون الإنكار من السامع احتمل أيضاً أن يكون من الحاضرين. واعلم أنها قد تجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد مثل قولك : إنه كان مني إليه إحسان فعاملني بالسوء ، فكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ في الذي توهمت/ وعليه قوله تعالى حكاية عن أم مريم {قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران : 36) وكذلك قول نوح عليه السلام : {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ} (الشعراء : 117).
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
أما قوله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر ، وتحقيق القول فيه أن كل ما ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلّم أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد. أما القسم الأول : وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن ، ومن لم يصدقه في ذلك ، فأما بأن لا يصدقه في جميعها أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض ، فذلك هو الكافر ، فإذن الكفر عدم تصديق / الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به ، ومثاله من أنكر وجود الصانع ، أو كونه عالماً قادراً مختاراً أو كونه واحداً أو كونه منزهاً عن النقائص والآفات ، أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد صلى الله عليه وسلّم كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر ، فذلك يكون كافراً ؛ لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه. فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالماً بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي ، وأنه خالق أعمال العباد أم لا فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني ، بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال ، فلا جرم لم يكن إنكاره ، ولا الإقرار به داخلاً في ماهية الإيمان فلا يكون موجباً للكفر ، والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلّم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة ، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة ، ولنقل ذلك على سبيل التواتر ، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان ، ولا إنكارها موجباً للكفر ، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ولا نكفر أرباب التأويل. وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه. فهذا قولنا في حقيقة الكفر. فإن قيل يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلّم فيما علم بالضرورة مجيئه به ، قلنا هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفراً لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه ، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى ، لأنه لا سبيل إلى الاطلاع ، بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ويجعل تلك المظان الظاهرة مداراً للأحكام الشرعية ، وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب ، فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال ، فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها ، لا أنها في أنفسها كفر ، فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب والله أعلم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/205)

المسألة الثانية : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي والأخبار عن الشيء بصيغة الماضي يقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الأخبار ، إذا عرفت هذا فنقول : احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماضٍ مثل قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أو {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (الحجر : 9) ، {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) ، {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (نوح : 1) على أن كلام الله محدث سواء كان الكلام هذه الحروف والأصوات أو كان شيئاً آخر. قالوا لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلا إذا كان مسبوقاً بالخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً فيجب أن يكون محدثاً ، أجاب القائلون بقدم الكلام عنه من وجهين : الأول : أن / الله تعالى كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي ولم يلزم حدوث علم لله تعالى ، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن خبر الله تعالى في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى. الثاني : أن الله تعالى قال : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (الفتح : 27) فلما دخلوا المسجد لا بدّ وأن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا مثله ؟
أجاب المستدل أولاً عن السؤال الأول فقال : عند أبي الحسين البصري وأصحابه العلم يتغير عند تغير المعلومات ، وكيف لا والعلم بأن العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان ذلك جهلاً لا علماً ، وإذا كان كذلك وجب تغير ذلك العلم ، وعلى هذا سقطت هذه المعارضة. وعن الثاني : أن خبر الله تعالى وكلامه أصوات مخصوصة ، فقوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} معناه أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام في الوقت المتقدم على دخول المسجد لا أنه تكلم به بعد دخول المسجد ، فنظيره في مسألتنا أن يقال إن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } تكلم الله تعالى به بعد صدور الكفر عنهم لا قبله إلا أنه متى قيل ذلك كان اعترافاً بأن تكلمه بذلك لم يكن حاصلاً في الأزل وهذا هو المقصود ، أجاب القائلون بالقدم بأنا لو قلنا إن العلم يتغير بتغير المعلوم لكنا إما أن نقول بأن العالم سيوجد كان حاصلاً في الأزل أو ما كان ، فإن لم يكن حاصلاً في الأزل كان ذلك تصريحاً بالجهل. وذلك كفر ، وإن قلنا إنه كان حاصلاً فزواله يقتضي زوال القديم ، وذلك سد باب إثبات حدوث العالم والله أعلم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/206)

المسألة الثالثة : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } صيغة للجمع مع لام التعريف وهي للاستغراق بظاهره ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر ، لأن كثيراً من الكفار أسلموا فعلمنا أن الله تعالى قد يتكلم بالعام ويكون مراده الخاص ، إما لأجل أن القرينة الدالة على أن المراد من ذلك العموم ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم فحسن ذلك لعدم التلبيس وظهور المقصود ، ومثاله ما إذا كان للإنسان في البلد جمع مخصوص من الأعداء ، فإذا قال "إن الناس يؤذونني" فهم كل أحد أن مراده من الناس ذلك الجمع على التعيين ، وإما لأجل أن التكلم بالعام لإرادة الخاص جائز وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، فلا جرم حسن ذلك ، وأقصى ما في الباب أن يقال : لو وجدت هذه القرينة لعرفناها وحيث لم نعرفها علمنا أنها ما وجدت إلا أن هذا الكلام ضعيف ، لأن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الإمارات المفيدة للظن فضلاً عن القطع ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف والله أعلم ومن المعتزلة من / احتال في دفع ذلك فقال إن قوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون كالنقيض لقوله : إن الذين كفروا يؤمنون ، وقوله : إن الذين كفروا يؤمنون لا يصدق إلا إذا آمن كل واحد منهم ، فإذا ثبت أنه في جانب الثبوت يقتضي العموم وجب أن لا يتوقف في جانب النفي على العموم بل يكفي في صدقه أن لا يصدر الإيمان عن واحد منهم ؛ لأنه متى لم يؤمن واحد من ذلك الجمع ثبت أن ذلك الجمع لم يصدر منهم الإيمان ، فثبت أن قوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون يكفي في إجرائه على ظاهره أن لا يؤمن واحد منهم فكيف إذا لم يؤمن الكثير منهم والجواب : أن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } صيغة الجمع وقوله : {لا يُؤْمِنُونَ} أيضاً صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فمعناه أن كل واحد منهم لا يؤمن وحينئذٍ يعود الكلام المذكور.
المسألة الرابعة : اختلف أهل التفسير في المراد ههنا بقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال قائلون : إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم الله تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال آخرون : بل المراد قوم من المشركين ، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وهم الذين جحد وأبعد البينة ، وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال الله تعالى : {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} (فصلت : 4 ، 5) وكان عليه السلام حريصاً على أن يؤمن قومه جميعاً حيث قال الله تعالى له : {فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف : 6) وقال : {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس : 99) ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك ، فإن اليأس إحدى الراحتين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
أما قوله تعالى : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف {سَوَآءَ} اسم بمنعى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر منه قوله تعالى : {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران : 64) {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ} (فصلت : 10) بمعنى مستوية ، فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه.
(1/207)

المسألة الثانية : في ارتفاع سواء قولان : أحدهما : أن ارتفاعه على أنه خبر لأن و{ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} في موضع الرفع به على الفاعلية ، كأنه قيل ، إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه. الثاني : أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدماً بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن ، واعلم أن الوجه الثاني أولى ؛ لأن "سواء" اسم ، وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركاً للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز ، وإذا ثبت هذا فنقول : من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء ، فوجب أن يكون سواء خبراً فيكون الخبر مقدماً. وذلك يدل على أن تقديم الخبر على المبتدأ جائز ، ونظيره قوله تعالى : {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } (الجاثية : 21) وروى سيبويه قولهم : "تميمي أنا" / "ومشنوء من يشنؤك" أما الكوفيون فأنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين : الأول : المبتدأ ذات ، والخبر صفة ، والذات قبل الصفة بالاستحقاق ، فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياساً على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية. الثاني : أن الخبر لا بدّ وأن يتضمن الضمير ، فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر ، وأنه غير جائز/ لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم ، فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه ، فكان الإضمر قبل الذكر محالاً ، أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى ، لا أن يكون واجباً وعن الثاني : أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب ، كقولهم : "في بيته يؤتى الحكم" قال تعالى : {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِه خِيفَةً مُّوسَى } (طه : 67) وقال زهير :
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
فمن يلق يوماً على علاته هرما
يلق السماحة منه والندى خلقا
والله أعلم.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن الفعل لا يخبر عنه ، لأن من قال : خرج ضرب لم يكن آتياً بكلام منتظم ، ومنهم من قدح فيه بوجوه : أحدها : أن قوله : {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} فعل وقد أخبر عنه بقوله : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ} ونظيره قوله : {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنا بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه حَتَّى حِينٍ} (يوسف : 35) فاعل "بدا" هو "ليسجننه" وثانيها : أن المخبر عنه بأنه فعل لا بدّ وأن يكون فعلاً ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة ، وتلك الكلمة اسم قلنا فعلى هذا : المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل إسماً كان هذا الخبر كذباً ، والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون ، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً ، لأن الاسم لا يكون فعلاً ، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه وثالثها : أنا إذا قلنا : الفعل لا يخبر عنه فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه ، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أنا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه ، وهذا خطأ وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه ثم قال هؤلاء : لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر. أما جمهور النحويين فقد أطبقوا على أنه لا يجوز الإخبار عن الفعل ، فلا جرم كان التقدير : سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك ، فإن قيل العدول عن الحقيقة إلى المجاز لا بدّ وأن يكون لفائدة زائدة إما في المعنى أو في اللفظ فما تلك الفائدة ههنا ؟
قلنا قوله : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} معناه سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لهم بعد ذلك لأن القوم كانوا قد بلغوا في الإصرار واللجاج والأعراض عن الآيات والدلائل إلى حالة ما بقي فيهم البتة رجاء القبول بوجه. وقبل ذلك ما كانوا كذلك ، ولو قال سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك لما أفاد أن هذا المعنى إنما حصل في هذا الوقت دون ما قبله ، ولما قال : {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أفاد أن هذه الحالة إنما حصلت في هذا الوقت فكان ذلك يفيد حصول اليأس وقطع الرجاء منهم ، وقد بينا أن المقصود من هذه الآية ذلك.
/
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
المسألة الرابعة : قال صاحب الكشاف : "الهمزة" و"أم" مجردتان لمعنى الاستفهام وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً ، قال سيبويه : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء كقوله : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذلك جرى على صورة النداء ولا نداء.
المسألة الخامسة : في قوله : {ءَأَنذَرْتَهُمْ} ست قراءات : إما بهمزتين محققتين بينهما ألف ، أولاً ألف بينهما ، أو بأن تكون الهمزة الأولى قوية والثانية بين بين بينهما ألف ، أولاً ألف بينهما وبحذف حرف الاستفهام ، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء "قد أفلح" فإن قيل : فما تقول فيمن يقلب الثانية ألفاً ؟
قال صاحب الكشاف : هو لاحن خارج عن كلام العرب.
(1/208)

المسألة السادسة : الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي/ وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة ؛ لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة ، وهذا الموضع موضع المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى. أما قوله : {لا يُؤْمِنُونَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : هذه إما أن تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبراً "لأن" والجملة قبلها اعتراض.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
المسألة الثانية : احتج أهل السنّة بهذه الآية وكل ما أشبهها من قوله : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (يس : 7) وقوله : {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله : {سَأُرْهِقُه صَعُودًا} (المدثر : 11 ، 17) وقوله : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} (المسد : 1) على تكليف ما لا يطلق ، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر لله تعالى الصدق كذباً ، والكذب عند الخصم قبيح وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما محالان على الله ، والمفضي إلى المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا في صورة العلم ، هو أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله تعالى جهلاً ، وذلك محال ومستلزم المحال محال. فالأمر واقع بالمحال. ونذكر هذا على وجه ثالث : وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بعدم الإيمان ؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان إنما يكون مطابقاً لو حصل عدم الإيمان ، فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان لزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً وهو محال ، فالأمر بالإيمان مع وجود علم الله تعالى بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضدين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال ونذكر هذا على وجه رابع : وهو أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون بالإيمان ألبتة ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي / والإثبات ، ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله : {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّه قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } (الفتح : 15) فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله تعالى عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله تعالى ، وذلك منهي عنه. ثم ههنا أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه ، وترك محاولة الإيمان يكون أيضاً مخالفة لأمر الله تعالى ، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل ، فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع ، وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال. ولقد كان السلف والخلف من المحققين معولين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم ، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع ، وأنا أذكر أقصى ما ذكروه بعون الله تعالى وتوفيقه : قالت المعتزلة : لنا في هذه الآية مقامان : المقام الأول : بيان أنه لا يجوز أن يكون علم الله تعالى وخبر الله تعالى عن عدم الإيمان مانعاً من الإيمان ، والمقام الثاني : بيان الجواب العقلي على سبيل التفصيل ، أما المقام الأول فقالوا : الذي يدل عليه وجوه : أحدها : أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/209)

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى } (الإسراء : 94) وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أن رجلاً لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول ما منعك من التصرف في حوائجي كان ذلك منه مستقبحاً وكذا قوله : {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا } (الأعراف : 12) وقوله لإبليس : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} (النساء : 39) وقول موسى لأخيه : {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا } (طه : 92) وقوله : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (الانشقاق : 20) {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر : 49) {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة : 43) {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } (التحريم : 1) قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب : كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه ؟
وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى تصرفون ؟
ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون ؟
وأنشأ فيهم الكفر ثم يقوم لم تكفرون ؟
وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ} (آلل عمران : 71) وصدهم عن السبيل ثم يقول : {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (آل عمران : 99) وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال : {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا } وذهب بهم عن الرشد ثم قال : {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} (التكوير : 26) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} . (المدثر : 49) وثانيها : أن الله تعالى قال : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (السناء : 165) وقال : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } (طه : 134) فلما بين أنه ما أبقي لهم عذراً إلا وقد أزاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعاً لهم عن الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم فلما لم يكن كذلك علمنا أنه غير مانع. وثالثها : أنه تعالى حكى عن الكفار في سورة "حم السجدة" أنهم قالوا : قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذماً لهم في هذا القول ، فلو كان العلم مانعاً لكانوا صادقين / في ذلك فلم ذمهم عليه ؟
ورابعها : أنه تعالى أنزل قوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/210)

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } إِلَى اخِرَهُ ذماً لهم وزجراً عن الكفر وتقبيحاً لفعلهم ، فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان غير قادرين عليه لما استحقوا الذم البتة ، بل كانوا معذورين كما يكون الأعمى معذوراً في أن لا يمشي. وخامسها : القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله عليهم ، لا أن يكون لهم حجة على الله وعلى رسوله ، فلو كان العلم والخبر مانعاً لكان لهم أن يقولوا : إذا علمت الكفر وأخبرت عنه كان ترك الكفر محالاً منا ، فلم تطلب المحال منا ولم تأمرنا بالمحال ؟
ومعلوم أن هذا مما لا جواب لله ولا لرسوله عنه لو ثبت أن العلم والخبر يمنع وسادسها : قوله تعالى : {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال : 40) ولو كان مع قيام المانع عن الإيمان كلف به لما كان نعم المولى ، بل كان بئس المولى ومعلوم أن ذلك كفر ، قالوا : فثبت بهذه الوجوه أنه ليس عن الإيمان والطاعة مانع البتة ، فوجب القطع بأن علم الله تعالى بعدم الإيمان وخبره عن عدمه لا يكون مانعاً عن الإيمان. المقام الثاني : قالوا إن الذي يدل على أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان وجوه : أحدها : أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء ؛ لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع ، والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع ، والواجب لا قدرة له عليه ؛ لأنه إذا كان واجب الوقوع ، لا بالقدرة فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع/ والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر ، وأما الممتنع فلا قدرة عليه ، فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادراً على شيء أصلاً ، وذلك كفر بالاتفاق فثبت أنا لعلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده. وثانيها : أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، فإن كان ممكناً علمه ممكناً وإن كان واجباً علمه واجباً ، ولا شك أن الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود ، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثراً في المعلوم ، وقد بينا أنه محال. وثالثها : لو كان الخبر والعلم مانعاً لما كان العبد قادراً على شيء أصلاً ؛ لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع ، والواجب لا قدرة عليه ؛ والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدره عليه ، فوجب أن لا يكون العبد قادراً على شيء أصلاً ، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات ، والحركات الاضطرارية للحيوانات ، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك ، فإن رمى إنسان إنساناً بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة ، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه ، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار : ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون لم فعلت ولم تركت ؟
فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك. ورابعها : لو كان العلم بالعدم مانعاً للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمراً بإعدام علمه ، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم ، بأن يعدموا علمه ؛ لأن إعدم ذات الله وصفاته غير معقول ، والأمر به سفه وعبث ، فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعاً من الوجود. وخامسها : أن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات / نظراً إلى ذاته وعينه ، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات ، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلاً ، وهو محال ، وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة ، فلو صار بسبب العلم واجباً لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات ، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال. وسادسها : أن الأمر بالمحال سفه وعبث ، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضاً بكل أنواع السفه ، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل ، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن ، بل يجوز أن يكون كله كذباً وسفهًا ، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان. وسابعها : أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف. والمزمن بالطيران في الهواء ، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل : لم لا تطير إلى فوق ؟
ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال ، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود ، وثامنها : لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها ، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالاً بعد حال ، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين. وتاسعها : أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة ، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادراً مريداً مختاراً ، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب. وعاشرها : الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم يوجد ، قال الله تعالى :
(1/211)

جزء : 2 رقم الصفحة : 280
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) وقال : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) وقال : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف : 157) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث الجواب على سبيل التفصيل ، للمعتزلة فيه طريقان : الأول : طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار ، فإنا لما قلنا : لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلاً قالوا خطأ : قول من يقول : إنه ينقلب علمه جهلاً ، وخطأ أيضاً قول من يقول : إنه لا ينقلب ، ولكن يجب الإمساك عن القولين : والثاني : طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري : أن العلم تبع المعلوم ، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلاً عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلاً عن الإيمان ، فهذا فرض علم بدلاً عن علم أخر ، لا أنه تغير العلم. فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة. واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة : فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا : قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قوياً قاطعاً ، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما ، وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح ، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جداً فصار مجموع الكلامين كلاماً قوياً في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات. ومنها أن الطاعنين / في القرآن قالوا : الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه ، والذي قاله الجبرية : من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه ، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه ، وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه ، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم توسل به إلى الطعن فيه ، وقال قوم من الرافضة : إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل. والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا : لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة ، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر ، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة ، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة ، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال ، وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق. ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وجوز البداء على الله تعالى وقال : أن قوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/212)

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة ، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره ، وإنما قال بهذا المذهب فراراً من تلك الإشكالات المتقدمة. واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب. بل هي جارية مجرى التشنيعات. فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف. أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي : خطأ قول من يقول إنه يدل ، وخطأ قول من يقول : إنه لا يدل : إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكماً بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفي في دفعه تقرير وجه الاستدلال ، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم ، فلو حصل الوجود معه لكان قد ا جتمع العدم والوجود معاً ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه. وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف ، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالماً بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلاً ، وهو الآن أيضاً حاضر ، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين ، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافاً بانقلاب العلم جهلاً ، وهذا آخر الكلام في هذا البحث. واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم ، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ولا بدّ من ذكرها وهي خمسة : أحدها : روى الخطيب في كتاب تاريخ بغداد عن معاذ بن معاذ العنبري قال : كنت جالساً عند عمرو بن عبيد فأتاه رجل فقال : يا أبا عثمان سمعت والله اليوم بالكفر ، فقال : لا تعجل بالكفر ، وما سمعت ؟
قال : سمعت هاشماً الأوقص يقول : إن {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} (المسد : 1) وقوله : {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (المدثر : 11) إلى قوله : {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر : 26) إن هذا / ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول : {حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الدخان : 2) إلى قوله : {وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف : 4) فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان ، فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل عليّ فقال والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب من لوم ، ولا على الوليد من لوم ، فلما سمع الرجل ذلك قال أتقول يا أبا عثمان ذلك ، هذا والله الذي قال معاذ فدخل بالإسلام وخرج بالكفر. وحكي أيضاً أنه دخل رجل على عمرو بن عبيد وقرأ عنده :
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
(1/213)

{بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 22) فقال له أخبرني عن {تُبْتُ} أكانت في اللوح المحفوظ ؟
فقال عمرو : ليس هكذا كانت ، بل كانت : تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل ، هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة : فغضب عمرو وقال : إن علم الله ليس بشيطان ، إن علم الله لا يضر ولا ينفع. وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن. وثانيها : روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر ، أن رجلاً قام إليه فقال : يا أبا عبد الرحمن أن أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بداً ، فغضب ثم قال سبحان الله العظيم ، قد كان في علمه أنهم يفعلونها فلم يحملهم على الله على فعلها. حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلّم يقول : مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم ، والأرض التي أقلتكم ، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها. واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة ، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك ، وذلك لأنه متناقض وفاسد ، أما المتناقض فلأن قوله : "وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله" صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض ، وأما أنه فاسد ، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان ، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات ، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئاً من الأعمال ، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل ، وجل منصب الرسالة عنه. وثالثها : الحديثان المشهوران في هذا الباب : أما الحديث الأول : فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق : "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك/ ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد / أنه قال : لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته ، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول هذا لرددته ، ولو سمعت الله عزّ وجلّ يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا. وأما الحديث الثاني : فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام ، فإن موسى قال لآدم : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ؟
فقال آدم : أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره على ؟
قال نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى ، والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه : أحدها : أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آذم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام ، وأنه غير جائز. وثانيها : أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ. وثالثها : أنه قال : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ، وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم ، بل الله أخرجه منها ، ورابعها : أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كن حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها ، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة. وخامسها : أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب. إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه. أحدها : أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه ، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام ، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود. وثانيها : أنه قال : فحج آدم منصوباً أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوباً وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر. وثالثها : وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية ، ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة ، فقال آدم : إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة ، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب عليّ أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها ، وهذا المعنى كان مكتوباً في التوراة ، فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك
(1/214)

كالمغلوب واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جداً والقرآن مملوء منه وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك ؛ وفيما ذكرنا ههنا كفاية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
291
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا ، وهو الختم ، والكلام ههنا يقع في مسائل :
/ المسألة الأولى : الختم والكتم أخوان ؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية ، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه ، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.
المسألة الثانية : اختلف الناس في هذا الختم ، أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ، ثم لهم قولان ، منهم من قال : الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار ، ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكفر ، وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادراً على تركه أو لا يكون ، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر ، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر ، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء ، فإما أن يكون صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولاً يتوقف ، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح ، وتجويز يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر ، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال ، وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أولاً من فعل الله ولا من فعل العبد ، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل ، ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد ؛ لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر ، وذلك يبطل القول بالصانع. فثبت أن كون قدرة العبد مصدراً للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى. فنقول : إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجباً أو جائزاً أو ممتنعاً ، والثاني والثالث ، باطل فتعين الأول ، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزاً لأنه لو كان جائزاً لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر ، وأخرى منفكاً عنه ، فلنفرض وقوع ذلك ؛ لأن كل ما كان جائزاً لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر ، وأخرى لا يترتب عليه الأثر ، فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على انضمام قرينة إليه ، أو لا يتوقف ، فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة ، لا ذلك المجموع ، وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا ، وأيضاً فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني ، فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال ، وإن لم يتوقف فحينئذٍ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدراً للأثر ، وأخرى بحيث لا يكون مصدراً له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما البتة ، فيكون هذا قولاً بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال. فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً ، وأما أنه لا يكون ممتنعاً فظاهر ، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحاً للعدم وهو محال ، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن / المجموع الحاصل من القدرة ، ومن ذلك المرجح ، وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازماً : لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعاً وبعد حصوله يكون واجباً ، وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختماً على القلب ومنعاً له عن قبول الإيمان ؛ فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبة ما يجري مجرى السبب الموجب له/ لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول ، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة ، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى. وأما المعتزلة فقد قالوا : إنه لا يجوز أجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا ههنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
(1/215)

{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} (النساء : 155) وقال : {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} (فصلت : 4 ، 5) وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا : بل لا بدّ من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئاً وكأن بآذانهم وقرأ حتى لا يخلص إليها الذكر ، وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي ؛ ولهذا قال تعالى : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ} (النساء : 155) {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين : 14) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه } . (لتوبة : 77) وثانيها : أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب. وثالثها : أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى ؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة : 125) أي ازدادوا بها كفراً إلى كفرهم. ورابعها : أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعاراً بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي. وخامسها : أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً به من قولهم : {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
فصلت : 5) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة : 1). وسادسها : الختم على قلوب الكفار من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق ، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على / ما يقوله فلان ، أي تصدقه وتشهد بأنه حق ، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون ، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم. وسابعها : قال بعضهم : هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل ، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَـاسِئِينَ} (البقرة : 65) وقال : {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سَنَةًا يَتِيهُونَ فِى الارْضِا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ} (المائدة : 26) ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم ، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع ، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ ، وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ ، ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين. وثامنها : يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلاً بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذي في عينيه والطنين في أذنه ، فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلّم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه ، وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد. وتاسعها : يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
(1/216)

{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } (الإسراء : 97) وقال : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـاـاِذٍ زُرْقًا} (طه : 102) وقال : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى ا أَفْوَاهِهِمْ} (يس : 65) وقال : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} (ا لأنبياء : 100). وعاشرها : ما حكوه عن الحسن البصري ـ وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي ـ أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار ، وعلى أنهم لا يؤمنون أبداً فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال : { أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} وحينئذٍ الملائكة يحبونه ويستغفرون له ، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه ، والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة ؛ لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافراً ملعوناً عند الله تعالى صار ذلك منفراً لهم عن الكفر أو إلى المكلف ، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغباً له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجراً له عن الكفر. قالوا : والختم بهذا المعنى لا يمنع ، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه ، ولأن الختم هو بمنزلة / أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر ، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر. قالوا : وإنما خص القلب والسمع بذلك ؛ لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع ، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جان ببالقلب ، ولهذا خصهما بالذكر. فإن قيل : فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة ؟
قلنا لا ، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة ، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك ، ولا مانع منه فوجب إثباته. أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بدّ من حمله على المجاز ، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية. فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
(1/217)

المسألة الثالثة : الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي : الطبع ، والكنان ، والرين على القلب ، والوقر في الآذان ، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول : وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} (المطففين : 14) {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } (الأنعام : 25) {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (التوبة : 87) {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} (النساء : 155) {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (فصلت : 4) {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} (يس : 70) {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} النحل : 80) {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ } {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (البقرة : 10) والقسم الثاني : وردت دلالة على أنه لا مانع البتة {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا } (الأسراء : 94) {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (ا لكهف : 29) {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} (البقرة : 28) {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ} (آل عمران : 71) والقرآن مملوء من هذين القسمين ، وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة ، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض. أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها ، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً ، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا ، لأنهم نزهوه ، فسئل عن أهل السنّة فقال لا ، لأنهم عظموه ، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه ، إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا : ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه ، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح ، وأقول : ههنا سر آخر ، وهو أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر ، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح ، وهو نفي الصانع ، ولو توقفت لزم الجبر. وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدرة. بل ههنا سر آخر هو فوق الكل ، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، وهذا يقتضي الجبر ، ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي ، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة ، فكأن / هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية ، وبحسب العلوم النظرية ، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته ، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية ، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت ، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
المسألة الخامسة : قال صاحب الكشاف : اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم ، وفي حكم التغشية ، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم ، لقوله تعالى : {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِه وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً} (الجاثية : 23) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.
المسألة السادسة : الفائدة في تكرير الجار في قوله : {وَعَلَى سَمْعِهِمْ } أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين.
المسألة السادسة : إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه : أحدها : أنه وحد السمع ، لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً ، كما يقال : أتاني برأس الكبشين ، يعني رأس كل واحد منهما ، كما وحد البطن في قوله : "كلوا في بعض بطنكم تعيشوا" يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس ، فإذا لم يؤمن كقولك. فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه. الثاني : أن السمع مصدر في أصله ، والمصادر لا تجمع يقال : رجلان صوم ، ورجال صوم ، فروعي الأصل ، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله : {وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} (فصلت : 5) الثالث : أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم. الرابع قال سيبويه : إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع ، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً ، قال تعالى : {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } (البقرة : 257) {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} (المعارج : 37) قال الراعي :
فبها جيف الحيدي فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها ، وقرأ ابن أبي عبلة (وعلى أسماعهم).
(1/218)

المسألة السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر ، لأن الله تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ، والتقديم دليل على الفضيل ، ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم ، وقد كان فيهم من كان مبتلي بالعمى ، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض ، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف ، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات ، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر ، ولأن السمع متى بطل بطل النطق ، والبصر إذا بطل لم يبطل النطق. ومنهم من قدم البصر ، لأن آلة القوة الباصرة أشرف ، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور ، ومتعلق القوة السامعة الريح.
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
المسألة الثامنة : قوله : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يدل على أن محل العلم هو القلب. واستقصينا بيانه في قوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193) في سورة الشعراء.
/ المسألة التاسعة : قال صاحب الكشاف : البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات ، كما أن البصيرة نور القلب ، وهو ما يستبصر به ويتأمل ، فكأنهما جوهران لطيفان خلق الله تعالى فيهما آلتين للأبصار والاستبصار ، أقول : إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام : وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثاً غامضة لا تليق بهذا الموضع.
المسألة العاشرة : قرىء {غِشَـاوَةٌ } بالكسر والنصب ، وغشاوة بالضم والرفع ، وغشاوة بالفتح والنصب ، وغشوة بالكسر والرفع ، وغشوة بالفتح والرفع والنصب ، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا ، والغشاوة هي الغطاء ، ومنه الغاشية ، ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع.
المسألة الحادية عشرة : العذاب مثل النكال بناء ومعنى ، لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما تقول نكل عنه ، ومنه العذب ، لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده ، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخاً ، لأنه ينقخ العطش أي يكسره ، وقراتاً لأنه برقته عن القلب ، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة ، والفرق بين العظيم الكبير : أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، فكأن العظيم فوق الكبير ، كما أن الحقير دون الصغير ، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً ، تقول : رجل عظيم وكبير تريدجئته أو خطره ، ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
(1/219)

المسألة الثانية عشرة : اتفق المسلمون على أنه يحسن منالله تعالى تعذيب الكفار ، وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو ، ولنذكر ههنا دلائل الفريقين ، أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور. أحدها : أن ذلك التعذيب ضرر خالٍ عن جهات المنفعة ، فوجب أن يكون قبيحاً ، أما أنه ضرر فلا شك ، وأما أنه خالٍ عن جهات المنفعة ، فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى ، أو إلى غيره ، والأول باطل ، لأنه سبحانه متعالٍ عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد ، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه ، لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره. والثاني : أيضاً باطل ، لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال ، لأن الأَضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال ، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع ، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو باطل وأيضاً فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير ، / فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة. فثبت أن التعذيب ضرر خالٍ عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل ، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضاراً ، والجهل الذي لا يكون ضاراً ، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار ، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر ، دون قبيح نفس الضرر ، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى ، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح ، وثانيها : أنه تعالى كان عالماً بأن الكافر لا يؤمن على ما قال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان ، فلو كان ذلك العصيان سبباً للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقباً لاستقحاق العقاب ، إما لأنه تمام العلة ، أو لأنه شطر العلة ، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب ، وماكان مستعقباً للضرر الخالي عن النفع كان قبيحاً ، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً ، والقبيح لا يفعله الحكيم ، فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين ، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب ، وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها : أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع ، أو للإضرار ، أولاً للإنفاع ولا للإضرار ، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك ، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلاً يؤدي بهم إلى العقاب ، فإذا كان قاصداً لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم ، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب ، ولا جائز أن يقال. خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار ، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك ، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثاً ، ولا جائز أن يقال : خلقهم للإضرار ، لأن مثل هذا لا يكون رحيماً كريماً ، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيماً كريماً ، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير ، وكل ذلك يدل على عدم العقاب. ورابعها : أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي ، فيكون هو الملجىء إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها ، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي ، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها ، وبينا أن ذلك يوجب الجبر ، وتعذيب المجبور قبيح في العقول/ وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا : إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر ، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر ؟
فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع ، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى ، أو أن هذا أصغى إليّ من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع ، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي ، فيقال : ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم ؟
فنقول : لأن هذا لبيب حازم فطن ، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك ، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية. فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه ؟
فإذا تناهت / التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطراراً علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل ، والفطانة والغباوة ، والحزم والخرق ، والمعلمين والباعثين والزاجرين ، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية ، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه ، وعند هذا يقال : أين من العدل
(1/220)

والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه الله عليه من الفظاظة والجسارة ، والغباوة والقساوة ، والطيش والخرق ، ثم يعاقبه عليه ، وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيباً حازماً عارفاً عالماً ، وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ ، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم ، والعاقل العالم ، البارد الرأس ، المعتدل مزاج القلب ، اللطيف الروح الذي رزقه مربياً شفيقاً ، ومعلماً كاملاً ؟
ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيء فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول. وخامسها : أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا ، لأنه قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع ، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد ، لأنك فوت على نفسك بعض المنافع ، فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت عليّ لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب ديناراً لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض البتة ، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إرباً إرباً ، لا شك أن هذا نهاية السفاهة ، فكيف يليق بأحكم الحاكمين ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام ؟
وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل ، فلو بقي مواظباً عليه لامه كل أحد ، ويقال هب أنه بالغ هذا في أضرارك ، ولكن إلى متى هذا التعذيب ، فإما أن تقتله وتريحه ، وإما أن تخلصه ، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال وسادسها : أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة ، فقال : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِا إِنَّه كَانَ مَنصُورًا} (الإسرءا : 33) وقال : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) ثم إن العبد هب أنه عصى الله تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد ؟
فيكون العقاب المؤبد ظلماً. وسابعها : أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره/ فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته ، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم ؟
وإذا تابوا فلم لا يقبل الله تعالى منهم توبتهم ، ولم لا يسمع نداءهم ، / ولم يخيب رجاءهم ؟
ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النحل : 62) وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله : {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} (
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
المؤمنون : 10) قالوا : فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب. ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن : العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه : أحدها : أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين ، والدلائل العقلية تفيد اليقين ، والمظنون لا يعارض المقطوع. وإنما قلنا : إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين ، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني ، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية ، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف ، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر ، فكانت روايتهم مظنونة ، وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير ، وكل ذلك أمور ظنية ، وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي ، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً ، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل ، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً ، لكن عدم المعارض العقلي مظنون ، هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر ، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية ، وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه. وثانيها : وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس ، قال الشاعر :
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
فوإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعاد ومنجز موعدي
(1/221)

بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه بعد لؤما ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى ، وهذا بناءً على حرف وهو أهل السنّة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به ، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر ، فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غداً وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غداً ، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته ، فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنّة أن يقول : صلِ غداً إن عشت ، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به ، لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط ، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد. إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضاً كذلك ؟
فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد ، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد ، فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات ، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد ، وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم ؛ وأما توعده بالعقاب فغير لازم ، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم ، كالوالد يهدد ولده / بالقتل والسمل والقطع والضرب ، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقه يرده عن قتله وعقوبته/ فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذباً والكذب قبيح قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار ، فأما الكذب النافع فلا ، ثم إن سلمنا ذلك ، لكن لا نسلم أنه كذب ، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذباً ، أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها ، ولا يسمى ذلك كذباً فكذا ههنا. وثالثها : أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النص ، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً بصريح النص صريحاً ، أو نقول : معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الأخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب. وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب ، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيباً للرسول وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به والله أعلم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
299
اعلم أن المفسرين أجمعوا على أن ذلك في وصف المنافقين قالوا : وصف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بالمؤمنين المخلصين الذين صحت سرائرهم وسلمت ضمائرهم ، ثم أتبعهم بالكافرين الذين من صفتهم الإقامة على الجحود والعناد ، ثم وصف حال من يقول بلسانه إنه مؤمن وضميره يخالف ذلك ، وفيه مسائل :
(1/222)

المسألة الأولى : أعلم أن الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلص إلا بتقسيم نذكره فنقول : أحوال القلب أربعة ، وهي الاعتقاد المطابق المستفاد عن الدليل وهو العلم ؛ والاعتقاد المطابق المستفاد لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد ، والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك. فهذه أقسام أربعة ، وأما أحوال اللسان فثلاثة : الإقرار ؛ والإنكار ، والسكوت. فيحصل من تركيباتها اثنا عشر قسماً. النوع الأول : ما إذا حصل العرفان القلبي فههنا إما أن ينضم إليه الإقرار باللسان أو الإنكار باللسان أو السكوت. القسم الأول : ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان فهذا الإقرار إن كان اختيارياً فصاحبه مؤمن حقاً بالإتفاق ، وإن كان اضطرارياً وهو ما إذا عرف بقلبه ولكنه يجد من نفسه أنه لولا الخوف لما أقر ، بل أنكر ، فهذا يجب أن يعد منافقاً ؛ لأنه بقلبه منكر مكذب ، فإذا كان باللسان مقراً مصداقاً وجب أن يعد منافقاً لأنه بقلبه منكر مكذب بوجوب الإقرار. القسم الثاني : أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني / فهذا الإنكار إن كان اضطرارياً كان صاحبه مسلماً ، لقوله تعالى : {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} (النحل : 106) وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً. القسم الثالث : أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خالياً عن الإقرار والإنكار ، فهذا السكوت إما أن يكون اضطرارياً أو اختيارياً ، فإن كان اضطرارياً فذلك إذا خاف ذكره باللسان فهذا مسلم حقاً أو كما إذا عرف الله بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة ، فهذا مؤمن قطعاً ، لأنه أتى بكل ما كلف به ولم يجد زمان الإقرار والإنكار فكان معذوراً فيه ، وأما إن كان اختيارياً فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار ، فهذا محل البحث ، وميل الغزالي رحمه الله إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه السلام : "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" وهذا الرجل قلبه مملوء من نور الإيمان فكيف لا يخرج من النار. النوع الثاني : أن يحصل في القلب الاعتقاد التقليدي ، فإما أن يوجد معه الإقرار ، أو الإنكار أو السكوت. القسم الأول : أن يوجد معه الإقرار ، ثم ذلك الإقرار إن كان اختيارياً فهذا هو المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا ؟
وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى ، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر ، فها هنا لا كلام ، وإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن يحكم ها هنا بالنفاق ، لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً ، فبأن يكون منافقاً عند التقليد كان أولى. القسم الثاني : الاعتقاد التقليدي مع الإنكار اللساني ، ثم هذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شك في الكفر ، وإن كان اضطرارياً وحكمنا بإيمان المقلد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصورة. القسم الثالث : الاعتقاد التقليدي مع السكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً ، وحكمه حكم القسم الثالث من النوع الأول إذا حكمنا بإيمان المقلد. النوع الثالث : الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار اللساني ، أو الإنكار اللساني ، أو السكوت. القسم الأول : أن يوجد معه الإقرار اللساني ، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المنافق وإن كان اختيارياً فهو مثل أن يعتقد بناءً على شبهة أن العالم قديم ثم بالاختيار أقر باللسان أن العالم محدث ، وهذا غير مستبعد ، لأنه إذا جاز أن يعرف بالقلب ثم ينكر باللسان وهو كفر الجحود والعناد ، فلم لا يجوز أن يجهل بالقلب ثم يقر باللسان ؟
فهذا القسم أيضاً من النفاق. القسم الثاني : أن يوجد الإنكار القلبي ويوجد الإنكار اللساني فهذا كافر وليس بمنافق ، لأنه ما أظهر شيئاً بخلاف باطنه. القسم الثالث : أن يوجد الإنكار القلبي مع السكوت اللساني فهذا كافر وليس بمنافق لأنه ما أظهر شيئاً. النوع الرابع : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات فهذا إما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت. القسم الأول : إذا وجد الإقرار فهذا الإقرار إما أن يكون اختيارياً أو اضطرارياً ، فإن كان اختيارياً ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر ، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا ؟
وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطرارياً لم يكفر صاحبه ، لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن / عمله قبيحاً. القسم الثاني : القلب الخالي مع الإنكار باللسان وحكمه على العكس من حكم القسم العاشر القسم الثالث : القلب الخالي مع اللسان الخالي ، فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم عليه بالنفاق البتة ، فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب ، وقد ظهر منه أن النفاق ما هو ، وأنه الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ما في ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره ، وإذ عرفت هذا ظهر أن قوله :
(1/223)

جزء : 2 رقم الصفحة : 299
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ} المراد منه المنافقون والله أعلم.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق ؟
قال قوم كفر الكافر الأصلي أقبح ، لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال آخرون بل المنافق أيضاً كاذب باللسان ، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ، ولذلك قال تعالى : {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } (الحجرات : 14) وقال : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} (المنافقون : 1) ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة. أحدها : أنه قصد التلبيس والكافر الأصلي ما قصد ذلك. وثانيها : أن الكافر عى طبع الرجال ، والمنافق على طبع الخنوثة. وثالثها : أن الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ولم يرض إلا بالصدق ، والمنافق رضي بذلك. ورابعها : أن المنافق ضم إلى كفره الاستهزاء بخلاف الكافر الأصلي ، ولأجل غلظ كفره قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145). وخامسها : قال مجاهد : إنه تعالى ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات ، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية ، وذلك يدل على أن المنافق أعظم جرماً. وهذا بعيد ، لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم ، فإن عظم فلغير ذلك ، وهو ضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي كالمخادعة والاستهزاء ، وطلب الغوائل إلى غير ذلك ، ويمكن أن يجاب عنه بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار ، وذلك يدل على أنهم أعظم جرماً من الكفار.
المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على أمرين : الأول : أنها تدل على أن من لا يعرف الله تعالى وأقر به فإنه لا يكون مؤمناً ، لقوله : {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} وقالت الكرامية : إنه يكون مؤمناً الثاني : أنها تدل على بطلان قول من زعم أن كل المكلفين عارفون بالله ، ومن لم يكن به عارفاً لا يكون مكلفاً أما الأول فلأن هؤلاء المنافقين لو كانوا عارفين بالله وقد أقروا به لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً ، لأن من عرف الله تعالى وأقر به لا بدّ وأن يكون مؤمناً وأما الثاني فلأن غير العارف لو كان معذوراً لما ذم الله هؤلاء على عدم العرفان ، فبطل قول من قال من المتكلمين : أن من لا يعرف هذه الأشياء يكون معذوراً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 299
المسألة الرابعة : ذكروا في اشتقاق لفظ الإنسان وجوهاً : أحدها : يروى عن ابن عباس / أنه قال : سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي ، وقال الشاعر. سميت إنساناً لأنك ناسي.
وقال أبو الفتح البستي :
فيا أكثر الناس إحساناً إلى الناس
وأكثر الناس إفضالاً على الناس
نسيت عهدك والنسيان مغتفر
فاغفر فأول ناس أول الناس
وثانيها : سمي إنساناً لاستئناسه بمثله. وثالثها : قالوا : الإنسان إنما سمي إنساناً لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون من قوله : {مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ} (القصص : 29) كما سمي الجن لاجتنانهم. واعلم أنه لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقاً من شيء آخر وإلا لزم التسلسل ، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الإنسان مشتقاً من شيء آخر.
المسألة الخامسة : قال ابن عباس : أنها نزلت في منافقي أهل الكتاب ، منهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ، وجد ابن قيس ، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون إنا لنجد في كتابنا نعته وصفته ولم يكونوا كذلك إذا خلا بعضهم إلى بعض.
(1/224)

/ المسألة السادسة : لفظة "من" لفظة صالحة للتثنية ، والجمع ، والواحد. أما في الواحد فقوله تعالى : {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (الأنعام : 25) وفي الجمع كقوله : {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } (يونس : 42) والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى ، فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ. وعند الجمع يرجع إلى المعنى ، وحصل الأمران في هذه الآية ؛ لأن قوله تعالى : {يَقُولُ} لفظ الواحد و{مِّنْ} لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة. السؤال الأول : المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في إدعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر ؟
والجواب : إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال ، لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان ، لأنهم يعتقدونه جسماً ، وقالوا عزيز بن الله ، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان ، فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل ، وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم ، فلهذا كذبهم الله تعالى فيه. السؤال الثاني : كيف طابق قوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 299
{وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} قولهم : {بِاللَّهِ فَإِذَآ} والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل ؟
والجواب : أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية ، فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته ، أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تذكيبه ، يعني أنه ليس من هذا الجنس/ فكيف يظن به ذلك ؟
فكذا ههنا لما قالوا آنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال : {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كان ذلك مبالغة في تكذيبهم ، ونظيره قوله : {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا } هو أبلغ من قولهم : وما يخرجون منها. السؤال الثالث : ما المراد باليوم الآخر ؟
الجواب : يجوز أن يراد به / الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم ، الذي لا ينقطع له أمد ، ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن تدخل أهل الجنة الجنة. وأهل النار النار ؛ لأنه آخر الأوقات المحدودة ، وما بعده فلا حد له.
جزء : 2 رقم الصفحة : 299
303
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء : أحدها : ما ذكره في هذه الآية ، وهو أنهم {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } فيجب أن يعلم أولاً : ما المخادعة ، ثم ثانياً : ما المراد ، بمخادعة الله ؟
وثالثاً : أنهم لماذا كانوا يخادعون الله ؟
ورابعاً : أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم ؟
.
المسألة الأولى : اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة ، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل ، وأصل هذه اللفظة الإخفاء ، وسميت الخزانة المخدع ، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان. وقالوا : خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً ، وطريق خيدع وخداع ، إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له ، ومنه المخدع. وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد ، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه ، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة ، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين ؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدولعن الغرور والإساءة ، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة ، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده ، ومنه أخذ التدليس في الحديث ، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع ؛ وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس.
(1/225)

المسألة الثانية : وهي أنهم كيف خادعوا الله تعالى ؟
فلقائل أن يقول : إن مخادعة الله تعالى ممتنعة من وجهين : الأول : أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر فلا يجوز أن يخادع ، لأن الذي فعلوه لو أظهروا أن الباطن بخلاف الظاهر لم يكن ذلك خداعاً ، فإذا كان الله تعالى لا يخفي عليه البواطن لم يصح أن يخادع. الثاني : أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نافقهم مخادعة الله تعالى ، فثبت أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره بل لا بدّ من التأويل وهو من وجهين : الأول : أنه تعالى ذكر نفسه وأراد به رسولة على عادته في تفخيم وتعظيم شأنه. قال : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح : 10) وقال في عكسه {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه } (الأنفال : 41) أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه فالمنافقون لما خادعوا / الرسول قيل إنهم خادعوا الله تعالى. الثاني : أن يقال صورة حالهم مع الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يخادع ، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد الكفرة صورة صنيع الله معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
المسألة الثالثة : فهي في بيان الغرض من ذلك الخداع وفيه وجوه : الأول : أنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين يجرونهم في التعظيم والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان وإن أسروا خلافه فمقصودهم من الخداع هذا. الثاني : يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي صلى الله عليه وسلّم إليهم أسراره ، وإفشاء المؤمنين أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم من الكفار. الثالث : أنهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفار مثل القتل ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". الرابع : أنهم كانوا يطمعون في أموال الغنائم ، فإن قيل : فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلّم كيفية مكرهم وخداعهم/ فلم لم يفعل ذلك هتكاً لسترهم ؟
قلنا : إنه تعالى قادر على استئصال إبليس وذريته ولكنه تعالى أبقاهم وقواهم ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو. فإن قيل هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح ؟
قلنا قال صاحب "الكشاف" وجهه أن يقال : عنى به فعلت إلا أنه أخرج في زنة فاعلت ، لأن الزنة في أصلها للمبالغة والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ، لزيادة قوة الداعي إليه ، ويعضده قراءة أبي حيوة "يخدعون الله" ثم قال : {يُخَـادِعُونَ} بياناً ليقول ويجوز أن يكون مستأنفاً كأنه قيل ولِمَ يدَّعون الإيمان كاذبين. وما نفعهم فيه ؟
فقيل {يُخَـادِعُونَ} .
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
المسألة الرابعة : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر "وما يخادعون" والباقون "يخدعون" وحجة الأولين : مطابقة اللفظ حتى يكون مطابقاً للفظ الأول ، وحجة الباقين أن المخادعة إنما تكون بين اثنين ، فلا يكون الإنسان الواحد مخادعاً لنفسه ، ثم ذكروا في قوله : {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} وجهين : الأول : أنه تعالى يجازيهم على ذلك ويعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلا أنفسهم عن الحسن. والثاني : ما ذكره أكثر المفسرين ، وهو أن وبال ذلك راجع إليهم في الدنيا ، لأن الله تعالى كان يدفع ضرر خداعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم ، وهو كقوله : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 142) وقوله : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة : 14 ، 15) {أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ} (البقرة : 13) {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} (النحل : 50) {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (الطارق : 15 ، 16) {إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه } (المائدة : 33) {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه } (الأحزاب : 57) وبقي في الآية بعد ذلك أبحاث. أحدها : قرىء "وما يخادعون" من أخدع و"يخدعون" بفتح الياء بمعنى يختدعون "ويخدعون" و"يخادعون" على لفظ ما لم يسم فاعله. وثانيها : النفس ذات الشيء وحقيقته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } (المائدة : 116) والمراد بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع / لا يعدوهم إلى غيرهم. وثالثها : أن الشعور علم الشيء إذا حصل بالحس ، ومشاعر الإنسان حواسه ، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، لكنهم لتماديهم في الغفلة كالذي لا يحس.
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
(1/226)

أما قوله تعالى : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فاعلم أن المرض صفة توجب وقوع الضرر في الأفعال الصادرة عن موضع تلك الصفة ، ولما كان الأثر الخاص بالقلب إنما هو معرفة الله تعالى وطاعته وعبوديته ، فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً من هذه الآثار كانت تلك الصفات أمراضاً للقلب. فإن قيل : الزيادة من جنس المزيد عليه ، فلو كان المراد من المرض ههنا الكفر والجهل لكان قوله : {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } محمولاً على الكفر والجهل ، فيلزم أن يكون الله تعالى فاعلاً للكفر والجهل. قالت المعتزلة : لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى منه فعل الكفر والجهل لوجوه : أحدها : أن الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلّم : إذا فعل الله الكفر فينا ، فكيف تأمرنا بالإيمان ؟
وثانيها : أنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكذاب ، فكان لا يبقى كون القرآن حجة فكيف نتشاغل بمعانيه وتفسيره. وثالثها : أنه تعالى ذكر هذه الآيات في معرض الذم لهم على كفرهم فكيف يذمهم على شيء خلقه فيهم. ورابعها : قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإن كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأي ذنب لهم حتى يعذبهم ؟
وخامسها : أنه تعالى أضافه إليهم بقوله : {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الأرض ، وأنهم هم السفهاء ، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، إذا ثبت هذا فنقول : لا بدّ من التأويل وهو من وجوه : الأول : يحمل المرض على الغم ، لأنه يقال مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلّم واستعلاء شأنه يوماً فيوماً. وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم ، كما روي أنه عليه السلام مر بعبد الله بن أبي بن سلول على حمار ، فقال له نح حمارك يا محمد فقد آذتني ريحه ، فقال له بعض الأنصار اعذره يا رسول الله ، فقد كنا عزمنا على أن نتوجه الرياسة قبل أن تقدم علينا : فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال : {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } أي زادهم الله غماً على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيم شأنه .الثاني : أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف ، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة :
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
{فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة : 125) والسورة لم تفعل ذلك ، ولكنهم لما ازدادوا رجساً عند نزولها لما كفروا بها قيل ذلك ، وكقوله تعالى حكاية عن نوح {قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 5 ، 6) والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا ، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده ، وقال : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّى } (التوبة : 49) والنبي عليه السلام إن لم يأذن له لم يفتنه ، ولكنه كان يفتتن عند خروجه فنسبت الفتنة إليه {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـانًا وَكُفْرًا } (المادة : 64) وقال : {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} (فاطر : 42) وقولك لمن وعظته فلم يتعظ وتمادى في فساده : ما زادتك موعظتي إلا / شراً ، ومازادتك إلا فساداً فكذا هؤلاء المنافقون لما كانوا كافرين ثم دعاهم الله إلى شرائع دينه فكفروا بتلك الشرائع وازدادوا بسبب ذلك كفراً لا جرم أضيفت زيادة كفرهم إلى الله. الثالث : المراد من قوله : {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } المنع من زيادة الألطاف ، فيكون بسبب ذلك المنع خاذلاً لهم وهو كقوله : {قَـاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون : 4) الرابع : أن العرب تصف فتور الطرف بالمرض ، فيقولون : جارية مريضة الطرف. قال جرير :
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
فإن العيون التي في طرفها مرض
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
(1/227)

فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية ، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة ، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار ، فقال تعالى : {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف ، ولقد حفق الله تعالى ذلك بقوله : {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ} (الحشر : 2) الخامس : أن يحمل المرض على ألم القلب ، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه ، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه ، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته ، فكان أولى من سائر الوجوه. أما قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال صاحب "الكشاف" : ألم فهو أليم ، كوجع فهو وجيع ، ووصف العذاب به فهو نحو قوله : تحية بينهم ضرب وجيع. وهذا على طريقة قولهم : جد جده ، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد ، أما قوله : {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ففيه أبحاث. أحدها : أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر ، وهذا الآية حجة عليه. وثانيها : أن قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُا بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم ، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. وثالثها : في هذه الآية قراءتان. إحداهما : {يَكْذِبُونَ} والمراد بكذبهم قوله : {بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا} . والثانية : "يكذبون" من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب ، كما بولغ في صدق فقيل صدق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
306
/ اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين ، والكلام فيه من وجوه : أحدها : أن يقال : من القائل {لا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} ؟
وثانيها : ما الفساد في الأرض ؟
وثالثها : من القائل : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ؟
ورابعها : ما الصلاح ؟
.
أما المسألة الأولى : فمنهم من قال : ذلك القائل هو الله تعالى ، ومنهم من قال : هو الرسول عليه السلام ، ومنهم من قال بعض المؤمنين ، وكل ذلك محتمل ، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة ، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك ، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين ، وإما أن يقال : إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم : {لا تُفْسِدُوا } فإن قيل : أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك ؟
قلنا : نعم ، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (التوبة : 74) وقال : {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } (التوبة : 96).
المسألة الثانية : الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى ، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض ، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وسكنت الفتن ، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها ، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب ، ولذلك قال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} (محمد : 22) نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به ، وثانيها : أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم ، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلّم وضعف أنصاره ، فكان ذلك يجرىء الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة ، وفيه فساد عظيم في الأرض. وثالثها : قال الأصم : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ، وجحد الإسلام ، وإلقاء الشبه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
(1/228)

المسألة الثالثة : الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون ، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه ، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} كالمقابل له ، وعند ذلك يظهر احتمالان : أحدهما : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب ، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، لا جرم قالوا : إنما نحن مصلحون ، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد. وثانيهما : أنا إذا فسرنا {لا تُفْسِدُوا } بمداراة المنافقين للكفار / فقولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار ، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا : {إِنْ أَرَدْنَآ إِلا إِحْسَـانًا وَتَوْفِيقًا} (النساء : 62) فقولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي نحن نصلح أمور أنفساً.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه ، وتجويز خلافه لا يطعن فيه ، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم. وأما قوله : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فخارج على وجوه ثلاثة : أحدها : أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض ، إذ فيه كفران نعمة الله ، وإقدام كل أحد على ما يهواه ، لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس ، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد ؛ ولهذا قال : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} على ما تقدم تقريره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
المسألة الثالثة : الذين قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون ، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضاً لما نهوا عنه ، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} كالمقابل له ، وعند ذلك يظهر احتمالان : أحدهما : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب ، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، لا جرم قالوا : إنما نحن مصلحون ، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد. وثانيهما : أنا إذا فسرنا {لا تُفْسِدُوا } بمداراة المنافقين للكفار / فقولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار ، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا : {إِنْ أَرَدْنَآ إِلا إِحْسَـانًا وَتَوْفِيقًا} (النساء : 62) فقولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي نحن نصلح أمور أنفساً.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه ، وتجويز خلافه لا يطعن فيه ، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم. وأما قوله : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فخارج على وجوه ثلاثة : أحدها : أنهم مفسدون لأن الكفر فساد في الأرض ، إذ فيه كفران نعمة الله ، وإقدام كل أحد على ما يهواه ، لأنه إذا كان لا يعتقد وجود الإله ولا يرجو ثواباً ولا عقاباً تهارج الناس ، ومن هذا ثبت أن النفاق فساد ؛ ولهذا قال : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} على ما تقدم تقريره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
307
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان ، لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين : أولهما : ترك ما لا ينبغي وهو قوله : {ءَامَنُوا } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا } أي إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق ، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يكن إيماناً لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص ، فكان قوله : {ءَامَنُوا } كافياً في تحصيل المطلوب ، وكان ذكر قوله : {كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ} لغواً ، والجواب : أن الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص ، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله : {كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ} .
المسألة الثانية : اللام في {النَّاسُ} فيها وجهان : أحدهما : أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه ، وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأشياعه. لأنهم من أبناء جنسهم والثاني : أنها للجنس ثم ها هنا أيضاً وجهان : أحدهما : أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا ، منهم وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر .والثاني : أن المؤمنين هم / الناس في الحقيقة ، لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي.
(1/229)

المسألة الثالثة : القائل : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا } إما الرسول ، أو المؤمنون ، ثم كان بعضهم يقول لبعض : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان ، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ} .
المسألة الرابعة : السفه الخفة يقال : سفهت الريح الشيء إذا حركته ، قال ذو الرمة :
فجرين كما اهتزت رياح تسفهت
أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال أبو تمام الطائي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
فسفيه الرمح جاهله إذا ما
بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه ؛ لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} (النساء : 5) وقال عليه السلام : "شارب الخمر سفيه" لقلة عقله وإنما سمي المنافقون المسلمين بالسفهاء ؛ لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة ، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء ، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلّم باطل ، والباطل لا يقبله إلا السفيه ؛ فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب ـ وقوله الحق ـ لوجوه : أحدها : أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه. وثانيها : أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه. وثالثها : أن من عادى محمداً عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله ، وذلك هو السفيه.
المسألة الخامسة : إنما قال في آخر هذه الآية : {لا يَعْلَمُونَ} وفيما قبلها : {لا يَشْعُرُونَ} لوجهين : الأول : أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري/ وأما أن النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض فضروري جار مجرى المحسوس. الثاني : أنه ذكر السفه وهو جهل ، فكان ذكر العلم أحسن طباقاً له والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
308
هذا هو النوع الرابع من أفعالهم القبيحة ، يقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه ، وقرأ أبو حنيفة : "وإذا لاقوا" أما قوله : {قَالُوا ءَامَنَّا} فالمراد أخلصنا بالقلب ، والدليل عليه وجهان : / الأول : أن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما كانوا يحتاجون إلى بيانه ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب ، فيجب أن يكون مرادهم من هذا الكلام ذلك. الثاني : أن قولهم للمؤمنين "آمنا" يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم ، وإذا كانوا يظهرون لهم التكذيب بالقلب فيجب أن يكون مرادهم فيما ذكروه للمؤمنين التصديق بالقلب ، أما قوله : {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ} فقال صاحب "الكشاف" : يقال خلوت بفلان وإليه ، وإذا انفردت معه ويجوز أن يكون من "خلا" بمعنى مضى ، ومنه القرون الخالية ، ومن "خلوت به" إذا سخرت منه ، من قولك : "خلا فلان بعرض فلان" أي : يعبث به ، ومعناه أنهم أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلاناً وأذمه إليك. وأما شياطينهم فهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم ، أما قوله : {إِنَّا مَعَكُمْ} ففيه سؤالان : السؤال الأول : هذا القائل أهم كل المنافقين أو بعضهم. الجواب : في هذا خلاف ، لأن من يحمل الشياطين على كبار المنافقين يحمل هذا القول على أنه من صغارهم وكانوا يقولون للمؤمنين آمنا وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا إنا معكم ؛ لئلا يتوهموا فيهم المباينة ، ومن يقول في الشياطين : المراد بهم الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كل المنافقين ، ولا شبهة في أن المراد بشياطينهم أكابرهم ، وهم إما الكفار وإما أكابر المنافقين ، لأنهم هم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض ، وأما أصاغرهم فلا. السؤال الثاني : لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية ، وشياطينهم بالجملة الإسمية محققة "بأن" الجواب : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين ، لأنهم كانوا في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم في الدرجة الكاملة منه ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة لأن القول الصادر عن النفاق والكراهة قلما يحصل معه المبالغة ؛ وإما لعلمهم بأن ادعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين ، وأما كلامهم مع إخوانهم فهم كانوا يقولونه عن الاعتقاد وعلموا أن المستمعين يقبلون ذلك منهم ، فلا جرم كان التأكيد لائقاً به. أما قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 308
(1/230)

{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} ففيه سؤالان. السؤال الأول : ما الاستهزاء ؟
الجواب : أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع ، وهزأ يهزأ مات على مكانه ، وناقته تهزأ به أي تسرع ، وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية ، فعلى هذا قولهم : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم ، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم. السؤال الثاني : كيف تعلق قوله : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} بقوله : {إِنَّا مَعَكُمْ} الجواب : هو توكيد له ؛ لأن قوله : {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على الكفر وقوله : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} رد للإسلام ، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته ، أو بدل منه ، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو استئناف ، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا : إنا معكم ، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام ؟
فقالوا : إنما نحن مستهزئون.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء. أحدها : قوله : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} / وفيه أسئلة. الأول : كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزىء وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس ، وهو على الله محال ، ولأنه لا ينفك عن الجهل ، لقوله : {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 67) والجهل على الله محال والجواب : ذكروا في التأويل خمسة أوجه : أحدها : أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء ، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى : {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة : 194) {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 144) {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه } (آل عمران : 54) وقال عليه السلام : "اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه ، اللهم والعنه عدد ما هجاني" أي أجزه جزاء هجائه ، وقال عليه السلام : "تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" وثانيها : أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين ، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها : أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء ، والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب. ورابعها : إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة ، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه ، وهذا التأويل ضعيف ، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم ، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها : أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزىء في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه ، وأما في الآخرة فقال ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة ، والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين ، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة ، وأهل الجنة ينظرون إليهم ، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب ، فذاك قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 308
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ} إلى قوله : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} (المطففين : 34) فهذا هو الاستهزاء بهم. السؤال الثاني : كيف ابتدأ قوله : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ولم يعطف على الكلام الذي قبله ؟
الجواب : هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزىء بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم ، وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.
(1/231)

السؤال الثالث : هل قيل : إن الله مستهزىء بهم ليكون مطابقاً لقوله : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} الجواب. لأن "يستهزىء" يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتاً بعد وقت ، وهذا كانت نكايات الله فيهم : {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} (التوبة : 126) وأيضاً فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية {يَحْذَرُ الْمُنَـافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} الجواب الثاني : قوله تعالى : {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة : 15) قال صاحب الكشاف إنه من مد الجيش وأمده إذا زاده وألحق به ما يقويه ويكثره ، وكذلك مد الدواة وأمدها زادها ما يصلحها ؛ ومددت السراج والأرض إذا أصلحتهما بالزيت والسماد ، ومده الشيطان في الغي ، وأمده إذا واصله بالوسواس ، ومد وأمد بمعنى واحد. وقال بعضهم : مد يستعمل في الشر ، وأمد في الخير قال تعالى : {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} (المؤمنين : 55) ومن الناس من زعم أنه من المد في العمر والإملاء والإمهال وهذا خطأ لوجهين : الأول : أن قراءة ابن كثير ، وابن محيصن (ونمدهم) وقراءة نافع (وإخوانهم يمدونهم في الغي) يدل على أنه من المدد دون المد. الثاني : أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له ، كأملي له. قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن أجراؤها على ظاهرها لوجوه : أحدها : قوله تعالى : {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ} أضاف ذلك الغي إلى إخوانهم ، فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 308
وثانيها : أن الله تعالى ذمهم على هذا الطغيان فلو كان فعلاً لله تعالى فكيف يذمهم عليه.
وثالثها : لو كان فعلاً لله تعالى لبطلت النبوة وبطل القرآن فكان الاشتغال بتفسيره عبثاً.
ورابعها : أنه تعالى أضاف الطغيان إليهم بقوله : "في طغيانهم" ولو كان ذلك من الله لما أضافه إليهم ، فظهر أنه تعالى إنما أضافه إليهم ليعرف أنه تعالى غير خالق لذلك ، ومصداقه أنه حين أسند المد إلى الشياطين أطلق الغي ولم يقيده بالإضافة في قوله : {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ} (الأعراف : 202) إذا ثبت هذا فنقول : التأويل من وجوه : أحدها : وهو تأويل الكعبي وأبي مسلم بن يحيى الأصفهاني أن الله تعالى لما منحهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الظلمة فيها وتزايد النور في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى الله تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم. وثانيها : أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل : إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور. وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده. ورابعاً : ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين : الأول : لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر. الثاني : هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان ، بل المراد ، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا. واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا فائدة في الإعادة. واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو ، قال تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} (الحاقة : 11) أي جاوز قدره ، وقال : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى } (طه : 24) أي أسرف وتجاوز الحد. وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان ، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة ، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 308
311
(1/232)

واعلم أن تراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به ، فإن قيل كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى قلنا جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به ، والضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء ، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين ، أما قوله : {فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ} فالمعنى أنهم ما ربحوا في تجارتهم ، وفيه سؤالان : السؤال الأول : كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها ؟
الجواب : هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري. السؤال الثاني : هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة والجواب : هذا مما يقوي أمر المجاز ويحسنه كما قال الشاعر :
فولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا ههنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه ، تمثيلاً لخسارتهم وتصويراً لحقيقته. أما قوله : {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فالمعنى أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران : سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسيبة مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة. وقال قتادة : انتقلوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الطاعة إلى المعصية ، ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة ، والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
311
اعلم أنا قبل الخوض في تفسير ألفاظ هذه الآية نتكلم في شيئين : أحدها : أن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل وذلك في نهاية الإيضاح ، ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرداً عن ضرب مثل له / لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور ، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة ، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الأخبار بضعفه مجرداً ، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله ، قال تعالى : {وَتِلْكَ الامْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} (العنكبوت : 43 ، الحشر : 21) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال ، وفي الآية مسائل : ـ
المسألة الأولى : المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير ، ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده : مثل ، وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
(1/233)

المسألة الثانية : أنه تعالى لما بين حقيقة صفات المنافقين عقبها بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان. أحدهما : هذا المثل وفيه إشكالات. أحدها : أن يقال : ما وجه التمثيل بمن أعطي نوراً ثم سلب ذلك النور منه مع أن المنافق ليس له نور. وثانيها : أن يقال : إن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم ، فأما المنافقون فلا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان فما وجه التمثيل ؟
وثالثها : أن مستوقد النار قد اكتسب لنفسه النور ، والله تعالى ذهب بنوره وتركه في الظلمات ، والمنافق لم يكتسب خيراً وما حصل له من الخيبة والحيرة فقد أتى فيه من قبل نفسه ، فما وجه التشبيه ؟
والجواب : أن العلماء ذكروا في كيفية التشبيه وجوهًا : أحدها : قال السدي : إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا ، والتشبيه ههنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا ، وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين. وثانيها : إن لم يصح ما قاله السدي بل كانوا منافقين أبداً من أول أمرهم فههنا تأويل آخر ذكره الحسن رحمه الله ، وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وعد ذلك نوراً من أنوار الإيمان ، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلاً قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوئها قليلاً ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور ، فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة. وثالثها : أن نقول ليس وجه التشبيه أن للمنافق نوراً ، بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير ، والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة ، لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة ، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة. ورابعها : أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به ، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ، ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
فالنار مثل لقولهم : "آمنا" وذهابه مثل لقولهم للكفار : "إنا معكم" فإن قيل وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلاً بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها ؟
قلنا إنه لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه ، ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره ، وإنما سمى مجرد ذلك القول نوراً لأنه قول حق في نفسه. وخامسها : يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نوراً لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ، ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر ، إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال. وسادسها : أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات. وسابعها : يجوز أن يكون المستوقد ههنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى ، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه } (المائدة : 64) وثامنها : قال سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد صلى الله عليه وسلّم كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
(1/234)

المسألة الثالثة : فأما تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة فهو في كتاب الله تعالى كثير ، والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هادياً إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة وهذا حال الإيمان في باب الدين ، فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا ، وكذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة ، لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة ، ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر ، فشبه تعالى أحدهما بالآخر ، فهذا هو الكلام فيما هو المقصود الكلي من هذه الآية ، بقيت ههنا أسئلة وأجوبة تتعلق بالتعلق بالتفاصيل : السؤال الأول : قوله تعالى : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا} يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد ، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر ؟
والجواب : استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد ناراً ، وكذا قوله : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } (الرعد : 35) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى } (النحل : 60) أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة {مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ } (الفتح : 29) أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثله في الخير والشر ، فاشتقوا / منه صفة للعجيب الشأن. السؤال الثاني : كيف مثلت الجماعة بالواحد ؟
والجواب من وجوه : أحدها : أنه يجوز في اللغة وضع "الذي" موضع "الذين" كقوله : {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } (التوبة : 69) وإنما جاز ذلك لأن "الذي" لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم ، ولكونه مستطالاً بصلته فهو حقيق بالتخفيف ، ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين. وثانيها : أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً. وثالثها : وهو الأقوى : أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد. ومثله قوله تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} (الجمعة : 5) وقوله : {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } (محمد : 20) ورابعها : المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله : {يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} (غافر : 67) أي يخرج كل واحد منكم. السؤال الثالث : ما الوقود ؟
وما النار ؟
وما الإضاءة ؟
وما النور ؟
ما الظلمة ؟
الجواب : أما وقود النار فهو سطوعها وارتفاع لهبها ، وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء ، حار محرق ، واشتقاقها من "نارينور" إذا نفر ؛ لأن فيها حركة واضطراباً ، والنور مشتق منها وهو ضوؤها ، والمنار العلامة ، والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه. ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع السراج عليه ، ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة ، ومصداق ذلك قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس : 5) و"أضاء" يرد لازماً ومتعدياً. تقول : أضاء القمر الظلمة ، وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر : ـ
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
فأضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
(1/235)

وأما ما حول الشيء فهو الذي يتصل به ، تقول دار حوله وحواليه ، والحول السنة لأنها تحول ، وحال عن العهد أي تغير ، وحال لونه أي تغير لونه ، والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص ، والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له ، والحول انقلاب العين ، والحول الانقلاب ، قال الله تعالى : {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى : {أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـاًا وَفَجَّرْنَا} (الكهف : 33) أي لم تنقص وفي المثل : من أشبه أباه فما ظلم ، أي فما نقص حق الشبه ، والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعًا والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج. السؤال الرابع : أضاءت متعدية أم لا ؟
الجواب : كلاهما جائز ، يقال : أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلماً ، وههنا الأقرب أنها متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة "ضاء" السؤال الخامس : هلا قيل ذهب الله بضوئهم لقوله : {فَلَمَّآ أَضَآءَتْ} ؟
الجواب : ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة ، فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم / ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نوراً والغرض إزالة النور عنهم بالكلية. ألا ترى كيف ذكر عقيبه : {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ لا يُبْصِرُونَ} والظلمة عبارة عن عدم النور ، وكيف جمعها ، وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله : {لا يُبْصِرُونَ} السؤال السادس : لم قال : {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب الله نورهم والجواب : الفرق بين أذهب وذهب به أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ، ويقال ذهب به إذا استصحبه/ ومعنى به معه ، وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِه } (يوسف : 15) {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاها بِمَا خَلَقَ} (المؤمنون : 91) والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه } (فاطر : 2) فهو أبلغ من الإذهاب وقرأ اليماني "أذهب الله نورهم". السؤال السابع : ما معنى (وتركهم) ؟
والجواب : ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير ، فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله : {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ} أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين. السؤال الثامن : لم حذف أحد المفعولين من لا يبصرون ؟
الجواب : أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي ، كأن الفعل غير متعد أصلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
314
اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب ، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم ، وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى ، أما قوله : {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ففيه وجوه : أحدها : أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذ الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبداً. وثانيها : أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، وعن الضلالة بعد أن اشتروها. وثالثها : أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
315
(1/236)

/ اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه : أحدها : أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فإذا أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته. وتعظم الظلمة في عينه ، وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة ، فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم ، إذ كانوا لا يرون طريقاً ولا يهتدون ، وثانيها : أن المطر وإن كان نافعاً إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلاً ، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن : فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضرراً في الدين. وثالثها : أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت ، فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم ، مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر ورابعها : أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فراراً من الموت والقتل ، فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه وخامسها : أن هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار. وسادسها : أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماتع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة ، وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل ، فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق. وسابعها : المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن ، والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين ، وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات / والجهاد مع الآباء والأمهات ، وترك الأديان القديمة ، والانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلّم مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة ، فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة ، والمراد من قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
{كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ} أنه متى حصل لهم شيء من المنافع ، وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين : {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع فحينئذٍ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه ، فهذه الوجوه ظاهرة في التشبيه. وبقي على الآية أسئلة وأجوبة. السؤال الأول : أي التمثيلين أبلغ ؟
والجواب : التمثيل الثاني ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأغاليظ ؛ ولذلك تراهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. السؤال الثاني : لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك ؟
الجواب من وجوه : أحدها : لأن "أو" في أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك ، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك. كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن تجالس أيهما شئت ، ومنه قوله تعالى : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الإنسان : 24) أي أن الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما ، فكذا قوله : {أَوْ كَصَيِّبٍ} معناه أن كيفية المنافقين شبيهة بكيفتي هاتين القصتين ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك. وثانيها : إنما ذكر تعالى ذلك لأن المنافقين قسمان بعضهم يشبهون أصحاب النار ، وبعضهم يشبهون أصحاب المطر ، ونظيره قوله تعالى : {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } (البقرة : 135) وقوله : {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَـاتًا أَوْ هُمْ قَآاـاِلُونَ} (الأعراف : 4) وثالثها : أو بمعنى بل قال تعالى : {وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات : 147) ورابعها : أو بمعنى الواو كأنه قال وكصيب من السماء نظيره قوله تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى} (النور : 61) وقال الشاعر :
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
فوقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
(1/237)

وهذه الوجوه مطردة في قوله : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } (البقرة : 74) السؤال الثالث : المشبه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق ما هو ؟
الجواب : لعلماء البيان ههنا قولان : أحدهما : أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركباً من أمور والممثل يكون أيضاً مركباً من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيهاً بكل واحد من الممثل ، فههنا شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد ؛ وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق ، والمعنى أو كمثل ذوي صيب ، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة : والقول الثاني : أنه تشبيه مركب ، وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر / من الأمور وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى وههنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها ، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق ، فإن قيل الذي كنت تقدره في التشبيه المفرق من حذف المضاف وهو قولك : أو كمثل ذوي صيب هل يقدر مثله في المركب ، قلنا لولا طلب الراجع في قوله : {يَجْعَلُونَ أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم} ما يرجع إليه لما كان بنا حاجة إلى تقديره : السؤال الرابع : ما الصيب ؟
الجواب : أنه المطر الذي يصوب ، أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ومنه صوب رأسه إذا خفضه وقيل إنه من صاب يصوب إذا قصد ، ولا يقال صيب إلا للمطر الجود. كان عليه الصلاة والسلام يقول : "اللهم اجعله صيباً هنيئاً" أي مطراً جوداً وأيضاً يقال للسحاب صيب قال الشماخ :
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
وأسحم دان صادق الوعد صيب
وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل ، كما تنكرت النار في التمثيل الأول ، وقرىء "أو كصائب" وصيب أبلغ : والسماء هذه المظلة. السؤال الخامس : قوله من السماء. ما الفائدة فيه والصيب لا يكون إلا من السماء ؟
الجواب من وجهين : الأول : لو قال. أو كصيب فيه ظلمات. احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلاً من بعض جوانب السماء دون بعض/ أما لما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أيد ذلك بأن جعله مطبقاً ، الثاني : من الناس من قال : المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى ، فذاك هو المطر ثم إن الله سبحانه وتعالى أبطل ذلك المذهب ههنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء ، كذا قوله : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا} (الفرقان : 48) وقوله : {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنا بَرَدٍ} (النور : 43) السؤال السادس : ما الرعد والبرق ؟
الجواب : الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتقض وترتعد إذا أخذتها الريح فصوت عند ذلك من الارتعاد والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع. السؤال السابع : الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته ؟
الجواب : أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل ، وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل. السؤال الثامن : كيف يكون المطر مكاناً للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب. الجواب : لما كان التعليق بين السحاب والمطر شديداً جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام. السؤال التاسع : هلا قيل رعود وبروق كما قيل ظلمات ؟
الجواب : الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع ، أما الرعد فإنه نوع واحد ، وكذا البرق ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع. السؤال العاشر : لم جاءت هذه الأشياء منكرات. الجواب : لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف / وبرق خاطف. السؤال الحادي عشر : إلى ماذا يرجع الضمير في "يجعلون". الجواب : إلى أصحاب الصيب وهو وإن كان محذوفاً في اللفظ لكنه باقٍ في المعنى ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
(1/238)

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـارَهُمْ } (البقرة : 20) السؤال الثاني عشر : رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل أناملهم ؟
الجواب المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله : {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة : 38) المراد بعضهما. السؤال الثالث عشر : ما الصاعقة ؟
الجواب : إنها قصف رعد ينقض منها شعلة من نار وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع قوتها سريعة الخمود. السؤال الرابع عشر : ما إحاطة الله بالكافرين. الجواب : إنه مجاز والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه عالم بهم قال تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا } (الطلاق : 12) وثانيها : قدرته مستولية عليهم {وَاللَّهُ مِن وَرَآاـاِهِم مُّحِيطُ } (البروج : 20) وثالثها : يهلكهم من قوله تعالى : {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } (يوسف : 66) السؤال الخامس عشر : ما الخطف. الجواب : إنه الأخذ بسرعة ، وقرأ مجاهد "يخطِف" بكسر الطاء ، والفتح أفصح ، وعن ابن مسعود "يختطف" وعن الحسن "يَخَطف" بفتح الياء والخاء وأصله يختطف ، وعنه يخطف بكسرهما على اتباع الياء الخاء ، وعن زيد بن علي : يخطف من خطف وعن أبي يتخطف من قوله : {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } (العنكبوت : 67) أما قوله تعالى : {كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ} (البقرة : 20) فهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه ، والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي ضوء البرد فأعماهم. وأضاء إما متعدٍ بمعنى كلما نور لهم مسلكاً أخذوه ، فالمفعول محذوف ، وإما غير متعدٍ بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة "كلما ضاء" فإن قيل كيف قال مع الإضاءة كلما ، ومع الإظلام إذا : قلنا لأنهم حراص على إمكان المشيء ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف ، والأقرب في أظلم أن يكون غير متعدٍ وهو الظاهر ، ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم ، ومنه قامت السوق ، وقام الماء جمد ، ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما وههنا مسألة ، وهي أن المشهور أن "لو" تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال : 23) فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم وقوله : {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً ، وما علم فيهم خيراً وأما الخبر فقوله عليه السلام : "نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض ، فقد علمنا أن كلمة "لو" لا تفيد إلا الربط والله أعلم.
وأما قوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : منهم من استدل به على أن المعدوم شيء ، قال : لأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء ، والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود ، فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء. والجواب : لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئاً ، فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئاً.
المسألة الثانية : احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء ، قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله والله تعالى ليس بمقدور له ، فوجب أن لا يكون شيئاً ، واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) قال لو كان هو تعالى شيئاً لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا تتناقض هذه الآية ، واعلم أن هذا الخلاف في الاسم ، لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، واحتج أصحابنا بوجهين : الأول : قوله تعالى : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه } . (الأنعام : 19) والثاني : قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئاً.
(1/239)

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم ، وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء ، وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافاً للمعتزلة/ فإنهم يقولون : الاستطاعة قبل الفعل محال ، فالشيء إنما يكون مقدوراً قبل حدوثه ، وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء ، وكل شيء مقدور ، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فبقي معمولاً به في محل النزاع ، لأنه حال البقاء مقدوره ، على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه ، أما حال الحدوث ، فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده ، فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده.
المسألة الخامسة : تخصيص العام جائز في الجملة ، وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل ، لأن قوله : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة : 284) يقتضي أن يكون قادراً على نفسه ثم خص بدليل العقل ، فإن قيل إذا كان اللفظ موضوعاً للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً ، وذلك يوجب الطعن في القرآن ، قلنا : لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع. فقد يستعمل مجازاً في الأكثر ، / وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً والله أعلم.
القول في إقامة الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
319
اعلم أن في هذه الآيات مسائل : ـ
المسألة الأولى : أن الله تعالى لما قدم أحكام الفرق الثلاثة ، أعني المؤمنين والكفار والمنافقين. أقبل عليهم بالخطاب ، وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفيه فوائد : أحدها : أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث : إن فلاناً من قصته كيت وكيت ، ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت : يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزبد تحريك لذلك الثالث. وثانيها : كأنه سبحانه وتعالى يقول. جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك ، فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة ، شرف المخاطبة والمكالمة. وثالثها : أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلاً بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي ، بدليل أنه في هذه الآية ، انتقل من الغيبة إلى الحضور. ورابعها : أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم ، وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف ، ففيه كلفة ومشقة فلا بدّ من راحة تقابل هذه الكلفة ، وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال : أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب.
المسألة الثانية : حكي عن علقمة والحسن أنه قال : كل شيء في القرآن : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} فإنه مكي ، وما كان {خَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } فبالمدينة ، قال القاضي : هذا الذي ذكروه إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم ، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة / فهذا ضعيف ، لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم ، ومرة باسم جنسهم ، وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة ، كما يؤمر المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها ، فالخطاب في الجميع ممكن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/240)

المسألة الثالثة : اعلم أن الألفاظ في الأغلب عبارات دالة على أمور هي : إما الألفاظ أو غيرها ، أما الألفاظ فهي : كالاسم والفعل والحرف ، فإن هذه الألفاظ الثلاثة يدل كل واحد منها على شيء ، هو في نفسه لفظ مخصوص ، وغير الألفاظ : فكالحجر والسماء والأرض ، ولفظ النداء لم يجعل دليلاً على شيء آخر ، بل هو لفظ يجري مجرى عمل يعمله عامل لأجل التنبيه. فأما الذين فسروا قولنا : "يا زيد" بأنادي زيداً ، أو أخاطب زيداً فهو خطأ من وجوه : أحدها : أن قولنا. أنادي زيداً ، خبر يحتمل التصديق والتكذيب ، وقولنا يا زيد ، لا يحتملها. وثانيها : أن قولنا يا زيد ، يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال ، وقولنا أنادي زيداً ، لا يقتضي ذلك ، وثالثها : أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطباً بهذا الخطاب وقولنا أنادي زيداً لا يقتضي ذلك لأنه لا يمتنع أنه يخبر إنساناً آخر بأني أنادي زيداً. ورابعها : أن قولنا أنادي زيداً ، إخبار عن النداء ، والأخبار عن النداء غير النداء ، والنداء هو قولنا : يا زيد ، فإذن قولنا : أنادي زيداً ، غير قولنا يا زيد ، فثبت بهذه الوجوه فساد هذا القول. ثم ههنا نكتة نذكرها وهي : أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف/ فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، وكذا أعظم الموجودات هو الحق سبحانه وتعالى ، وأضعفها البشر {وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا} فقالت الملائكة : أي مناسبة بينهما {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} فقيل قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لخدمة الرب حال النداء والتضرع {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} ، {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
المسألة الرابعة : "ياء" حرف وضع في أصله لنداء البعيد وإن كان لنداء القريب لكن لسبب أمر مهم جداً ، وأما نداء القريب فله : أي والهمزة ، ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة البعيد. فإن قيل فلم يقول الداعي يا رب يا الله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق : 16) قلنا هو استبعاد لنفسه من مظان الزلفى وما يقربه إلى منازل المقربين هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتنقيص حتى يتحقق الإجابة بمقتضى قوله : "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" أو لأجل أن إجابة الدعاء من أهم المهمات للداعي.
المسألة الخامسة : "أي" وصلة إلى نداء ما فيه الألف اللام كما أن "ذو" و"الذي" وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه ، فلا بدّ وأن يردفه اسم جنس ، أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي والاسم التابع له صفة كقولك يا زيد الظريف إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة وموصوفها وأما كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها ففيها فائدتان : الأولى : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه. والثانية : وقوعها عوضاً / مما يستحقه أي من الإضافة وإنما كثر في كتاب الله تعالى النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بهذه التأكيدات والمبالغات فإن كل ما نادى الله تعالى به عباده من الأوامر والنواهي ، والوعد والوعيد ، واقتصاص أخبار المتقدمين بأمور عظام ، وأشياء يجب على المستمعين أن يتيقظوا لها مع أنهم غافلون عنها ، فلهذا وجب أن ينادوا بالأبلغ الآكد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/241)

المسألة السادسة : اعلم أن قوله : {قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يقتضي أن الله تعالى أمر كل الناس بالعبادة فلو خرج البعض عن هذا الخطاب لكان ذلك تخصيصاً للعموم. وههنا أبحاث. البحث الأول : أن لفظ الجمع المعرف بلام التعريف يفيد العموم ، والخلاف فيه مع الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي هاشم ، لنا أنه يصح تأكيده بما يفيد العموم كقوله : {فَسَجَدَ الْمَلَـا اـاِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (ا لحجر : 15) ولو لم يكن اللفظ في أصله للعموم لما كان قوله : {كُلُّهُمْ} تأكيداً بل بياناً ولأنه يصح استثناء كل واحد من الناس عنه والاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوجب أن يفيد العموم وتمام تقريره في أصول الفقه. البحث الثاني : لما ثبت أن قوله تعالى : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} يتناول جميع الناس الذين كانوا موجودين في ذلك العصر فهل يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك أم لا ؟
والأقرب أنه لا يتناولهم ؛ لأن قوله : خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز ، وأيضاً فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة ، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً وما لا يكون إنساناً لا يدخل تحت قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} فإن قيل : فوجب أن لا يتناول شيء من هذه الخطابات الذين وجدوا بعد ذلك الزمان وأنه باطل قطعاً. قلنا : لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك إلا أنا عرفنا بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلّم أن تلك الخطابات ثابتة في حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة فلهذه الدلالة المنفصلة حكمنا بالعموم. البحث الثالث : قوله : {قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أمر للكل بالعبادة فهل يفيد أمر الكل بكل عبادة ؟
الحق لا ، لأن قوله اعبدوا معناه ادخلوا هذه الماهية في الوجود ، فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية في الوجود فقد أدخلوا لماهية في الوجود لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ومتى وجد المركب فقد وجد قيداه ، فالآتي بفرد من أفراد العبادة آتٍ بالعبادة ، والآتي بالعبادة آتٍ بتمام ما اقتضاه قوله : {اعْبُدُوا } وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة فإن أردنا أن نجعله دالاً على العموم نقول : الأمر بالعبادة لا بدّ وأن يكون لأجل كونها عبادة لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم ، وههنا كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها ، لما أن العبادة عبارة عن تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع له وكل ذلك مناسب في العقول ، وإذا ثبت أن كون عبادة علة للأمر بها وجب في كل عبادة أن يكون مأموراً بها ، لأنه أينما حصلت العلة وجب حصول الحكم لا محالة. البحث الرابع : لقائل أن يقول : قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/242)

{قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا } لا يتناول الكفار البتة لأن الكفار لا يمكن أن / يكونوا مأمورين بالإيمان ، وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكونوا مأمورين بالعبادة ، أما أنه لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان فلأن الأمر بمعرفة الله تعالى إما أن يتناوله حال كونه غير عارف بالله تعالى أو حال كونه عارفاً بالله تعالى ، أما إن تناوله حال كونه غير عارف بالله فيستحيل أن يكون عارفاً بأمر الله تعالى لأن العلم بالصفة مع الجهل بالذات محال فلو تناوله الأمر في هذه الحالة لكان قد تناوله الأمر في حال يستحيل منه أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر ، وذلك تكليف ما لا يطاق ، وإن تناوله الأمر بالمعرفة حال كونه عارفاً بالله فذالك محال ، لأنه أمر بتحصيل الحاصل ، وذلك غير ممكن. فثبت أن الكافر يستحيل أن يكون مأموراً بتحصيل المعرفة ، وإذا استحال ذلك استحال أن يكون مأموراً بالعبادة لأنه إما أن يؤمر بالعبادة قبل المعرفة وهو محال لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة أو يؤمر بالعبادة بعد المعرفة إلا أن على هذا التقدير يكون الأمر بالعبادة موقوفاً على الأمر بالمعرفة فلما كان الأمر بالمعرفة ممتنعاً كان الأمر بالعبادة أيضاً ممتنعاً ، وأيضاً يستحيل أن يكون هذا الخطاب مع المؤمنين ، لأنهم يعبدون الله فأمرهم بالعبادة يكون أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال. والجواب : من الناس من قال : الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة ، كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول ملك النصاب ، وهؤلاء هم القائلون بأن المعارف ضرورية ، وأما من لم يقل بذلك استدل بهذه الآية على أن المعارف ليست ضرورية فقال : الأمر بالعبادة حاصل ، والعبادة لا تمكن إلا بالمعرفة ، والأمر بالشيء أمر بما هو من ضرورياته ، كما أن الطهارة إذا لم تصح إلا بإحضار الماء كان إحضار الماء واجباً ، والدهري لا يصح منه تصديق الرسول إلا بتقديم معرفة الله تعالى ، فوجبت ، والمحدث لا تصح منه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فوجبت ، والمودع لا يمكنه رد الوديعة إلا بالسعي إليها ، فكان السعي واجباً ، فكذا ههنا يصح أن يكون الكافر مخاطباً بالعبادة وشرط الإتيان بها الإتيان بالإيمان أولاً ثم الإتيان بالعبادة بعد ذلك. بقي لهم : الأمر بتحصيل المعرفة محال ، قلنا هذه المسألة مستقصاة في الأصول والذي نقول ههنا إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم يكون الله آمراً على العلم به ، فإنه لا يجري فيما عدا ذلك من الصفات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/243)

فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك ؟
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر بتناول المؤمنين ؟
قوله لأنه يصير ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال ، قلنا لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة أو على الأمر بالازدياد منها ، ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة ، فصح تفسير قوله : "اعبدوا" بالزيادة في العبادة. البحث الخامس : قال منكرو التكليف : لا يجوز ورود الأمر من الله تعالى بالتكليف لوجوه : أحدها : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل أو الترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، فإن كان الأول فهو محال ، لأن في حال الاستواء يمتنع حصول الترجيح لأن الاستواء يناقض الترجيح فالجمع بينهما محال والتكليف بالفعل حال استواء الداعيين تكليف بما لا يطاق ، وإن كان الثاني فالراجح واجب الوقوع ؛ لأن المرجوح حال ما كان مساوياً للراجح كان ممتنع الوقوع ، وإلا فقد / وقع الممكن لا عن مرجح ، وإذا كان حال الاستواء ممتنع الوقوع فبأن يصير حال المرجوحية ممتنع الوقوع أولى وإذا كان المرجوح ممتنع الوقوع كان الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين إذا ثبت هذا فالتكليف إن وقع بالراجح كان التكليف تكليفاً بإيجاد ما يجب وقوعه ، وإن وقع بالمرجوح كان التكليف تكليفاً بما يمتنع وقوعه ، وكلاهما تكليف ما لا يطاق. وثانيها : أن الذي ورد به التكليف إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه ، أو علم أنه لا يقع أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك ، فإن كان الأول كان واجب الوقوع ممتنع العدم فلا فائدة في ورود الأمر به ، وإن علم لا وقوعه كان ممتنع الوقوع واجب العدم ، فكان الأمر بإيقاعه أمراً بإيقاع الممتنع وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله تعالى وهو محال ، ولأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه لا يتميز المطيع عن العاصي ، وحينئذٍ لا يكون في الطاعة فائدة. وثالثها : أن ورود الأمر بالتكاليف إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فهي إما عائدة إلى المعبود أو إلى العابد أما إلى المعبود فمحال لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره ، ولأنا نعلم بالضرورة أن الإله العالي على الدهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده ، وأما إلى العابد فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللذة ودفع الألم ، وهو سبحانه وتعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد ابتداء من غير توسط هذه المشاق فيكون توسطها عبثاً ، والعبث غير جائز على الحكيم. ورابعها : أن العبد غير موجد لأفعاله لأنه غير عالم بتفاصيلها ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه فإن أمره بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل ، وإن أمره به حال ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال وكل ذلك باطل. وخامسها : أن المقصود من التكليف إنما هو تطهير القلب على ما دلت عليه ظواهر القرآن فلو قدرنا إنساناً مشتغل القلب دائماً بالله تعالى وبحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة لصار ذلك عائقاً له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة ، فإن الفقهاء والقياسيين قالوا إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف وجب اتباع الأحكام المعقولة لا اتباع الظواهر. والجواب : عن الشبه الثلاثة الأول من وجهين : الأول : أن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكاليف فهذا تكليف ينفي التكليف وأنه متناقض. الثاني : أن عندنا يحسن من الله تعالى كل شيء سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره لأنه تعالى خالق مالك ، والمالك لا اعتراض عليه في فعله. البحث السادس : قالوا : الأمر بالعبادة وإن كان عاماً لكل الناس لكنه مخصوص في حق من لا يفهم كالصبي والمجنون والغافل والناسي ، وفي حق من لا يقدر لقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 233).
ومنهم من قال إنه مخصوص في حق العبيد ، لأن الله تعالى أوجب عليهم طاعة مواليهم ، واشتغالهم بطاعة الموالي يمنعهم عن الاشتغال بالعبادة ، والأمر الدال على وجوب طاعة المولى / أخص من الأمر الدال على وجوب العبادة والخاص يقدم على العام والكلام في هذا المعنى مذكور في أصول الفقه.
المسألة السابعة : قال القاضي : الآية تدل على أن سبب وجود العبادة ما بينه من خلقه لنا والإنعام علينا. واعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أن العبد لا يستحق بفعله الثواب لأنه لما كان خلقه إيانا وإنعامه علينا سبباً لوجوب العبادة فحينئذٍ يكون اشتغالنا بالعبادة أداء للواجب ، والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئاً فوجب أن لا يستحق العبد على العبادة ثواباً على الله تعالى أما قوله : {رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ففيه مسائل :
(1/244)

المسألة الأولى : اعلم أنه سبحانه لما أمر بعبادة الرب أردفه بما يدل على وجود الصانع وهو خلق المكلفين وخلق من قبلهم ، وهذا يدل على أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال وطعن قوم من الحشوية في هذه الطريقة وقالوا الاشتغال بهذا العلم بدعة ولنا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية وههنا ثلاث مقامات : المقام الأول : في بيان فضل هذا العلم وهو من وجوه : أحدها : أن شرف العلم بشرف المعلوم فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف فلما كان أشرف المعلومات ذات الله تعالى وصفاته وجب أن يكون العلم المتعلق به أشرف العلوم. وثانيها : أن العلم إما أن يكون دينياً أو غير ديني ، ولا شك أن العلم الديني أشرف من غير الديني ، وأما العلم الديني فإما أن يكون هو علم الأصول ، أو ما عداه ، أما ما عداه فإنه تتوقف صحته على علم الأصول ، لأن المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى ، وذلك فرع على وجود الصانع المختار المتكلم ، وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذلك فرع على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلّم ، والفقيه إنما يبحث عن أحكام الله ، وذلك فرع على التوحيد والنبوة ، فثبت أن هذه العلوم مفتقرة إلى علم الأصول ، والظاهر أن علم الأصول غني عنها فوجب أن يكون علم الأصول أشرف العلوم. وثالثها : أن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده ، فكلما كان ضده أخس كان هو أشرف وضد علم الأصول هو الكفر والبدعة ، وهما من أخس الأشياء ، فوجب أن يكون علم الأصول أشرف الأشياء. ورابعها : أن شرف الشيء قد يكون بشرف موضوعه وقد يكون لأجل شدة الحاجة إليه ، وقد يكون لقوة براهينه ، وعلم الأصول مشتمل على الكل وذلك لأن علم الهيئة أشرف من علم الطب نظراً إلى أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب ، وإن كان الطب أشرف منه نظراً إلى أن الحاجة إلى الطب أكثر من الحاجة إلى الهيئة ، وعلم الحساب أشرف منهما نظراً إلى أن براهين علم الحساب أقوى. أما علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات ، ولا شك أن ذلك أشرف الأمور ، وأما الحاجة إليه فشديدة لأن الحاجة إما في الدين أو في الدنيا ، أما في الدين فشديدة لأن من عرف هذه الأشياء استوجب الثواب العظيم والتحق بالملائكة ، ومن جهلها / استوجب العقاب العظيم والتحق بالشياطين. وأما في الدنيا فلأن مصالح العالم إنما تنتظم عند الإيمان بالصانع والبعث والحشر ، إذ لو لم يحصل هذا الإيمان لوقع الهرج والمرج في العالم ، وأما قوة البراهين فبراهين هذا العلم يجب أن تكون مركبة من مقدمات يقينية تركيباً يقينياً وهذا هو النهاية في القوة فثبت أن هذا العلم مشتمل على جميع جهات الشرف والفضل فوجب أن يكون أشرف العلوم. وخامسها : أن هذا العلم لا يتطرق إليه النسخ ولا التغيير ، ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم ، فوجب أن يكون أشرف العلوم. وسادسها : أن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية بدليل أنه جاء في فضيلة
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/245)

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) و{الرَّسُولُ بِمَآ} (البقرة : 285) وآية الكرسي ما لم يجيء مثله في فضيلة قوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } (البقرة : 222) وقوله : {يُظْلَمُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} (البقرة : 282) وذلك يدل على أن هذا العلم أفضل. وسابعها : أن الآيات الواردة في ا لأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية ، وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين ، وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة الله تعالى وقدرته على ما قال : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } (يوسف : 111) فدل ذلك على أن هذا العلم أفضل ، ونشير إلى معاقد الدلائل : أما الذي يدل على وجود الصانع فالقرآن مملوء منه. أولها : ما ذكر ههنا من الدلائل الخمسة وهي خلق المكلفين وخلق من قبلهم ، وخلق السماء وخلق الأرض ، وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض ، وكل ما ورد في القرآن من عجائب السماوات والأرض ، فالمقصود منه ذلك ، وأما الذي يدل على الصفات. أما العلم فقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} ثم أردفه بقوله : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } (آل عمران : 5 ، 6) وهذا هو عين دليل المتكلمين فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال واتقانها على علم الصانع ، وههنا استدل الصانع سبحانه بتصوير الصور في الأرحام على كونه عالماً بالأشياء ، وقال : {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (ا لملك : 14) وهو عين تلك الدلالة وقال : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) وذلك تنبيه على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات ، لأنه تعالى مخبر عن المغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر ، فلولا كونه عالماً بالمغيبات وإلا لما وقع كذلك ، وأما صفة القدرة فكل ما ذكر سبحانه من حدوث الثمار المختلفة والحيوانات المختلفة مع استواء الكل في الطبائع الأربع فذاك يدل على كونه سبحانه قادراً مختاراً لا موجباً بالذات ، وأما التنزيه فالذي يدل على أنه ليس بجسم ، ولا في مكان قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإن المركب مفتقر إلى أجزائه والمحتاج محدث ، وإذا كان أحداً وجب أن لا يكون جسماً وإذا لم يكن جسماً لم يكن في المكان ، وأما التوحيد فالذي يدل عليه قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } و(الأنبياء : 22) قوله : {إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} (الأَسراء : 42) وقوله : {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (المؤمنون : 91) وأما النبوة فالذي يدل عليها قوله ههنا : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } (البقرة : 23) وأما المعاد فقوله : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) وأنت لو فتشت علم / الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها ، أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها الله أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة ما أرى أن عاقلاً مسلماً يقول ذلك ويرضى به. وثانيها : أن الله تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء أما الملائكة فلأنهم لما قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا} (البقرة : 30) من يفسد فيها كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح ، والحكيم لا يفعل القبيح ، فأجابهم الله تعالى بقوله : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} والمراد إني لما كنت عالماً بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم ، ولا شك أن هذا هو المناظرة ، وأما مناظرة الله تعالى مع إبليس فهي أيضاً ظاهرة وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم آدم عليه السلام وقد أظهر الله تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال ، وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم : {قَالُوا يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (هود : 32) ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة ، فالمجادلة في نصرة الحق في هذا العلم هي حرفة الأنبياء ، وأما إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات : أحدها : مع نفسه وهو قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/246)

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَـاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) وهذا هو طريقة المتكلمين في الاستدلال بتغيرها على حدوثها ، ثم إن الله تعالى مدحه على ذلك فقال : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه } (الأنعام : 82) وثانيها : حاله مع أبيه وهو قوله : {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) وثالثها : حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل ، أما بالقول فقوله : {مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـاكِفُونَ} (الأنبياء : 52) وأما بالفعل فقوله : {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} (الأنبياء : 58). ورابعها : حاله مع ملك زمانه في قوله : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِا وَأُمِيتُ } (البقرة : 258) إلى آخره وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليسي إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها ، فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ ، وأما بحثه في المعاد فقال : {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى } (البقرة : 26) إلى آخره وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة ، أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام وذلك لأن الله تعالى حكى في سوطه طه : {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } (طه : 49 ، 50) وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) وقال في سورة الشعراء {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 26) وهذا هو الذي قاله إبراهيم : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (الشعراء : 28) فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين ، وأما استدلال موسى على النبوة / بالمعجزة ففي قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
{أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍ مُّبِينٍ} وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق ، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل ، فإن القرآن مملوء منه ولقد كان عليه السلام مبتلى بجميع فرق الكفار فالأول : الدهرية الذين كانوا يقولون : {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ } (الجاثية : 24) والله تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل. والثاني : الذين ينكرون القادر المختار ، والله تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات وأصناف الحيوانات مع اشتراك الكل في الطبائع وتأثيرات الأفلاك ، وذلك يدل على وجود القادر. والثالث : الذين أثبتوا شريكاً مع الله تعالى ، وذلك الشريك إما أن يكون علوياً أو سفلياً ، أما الشريك العلوي فمثل من جعل الكواكب مؤثرة في هذا العالم ، والله تعالى أبطله بدليل الخليل في قوله : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ} وأما الشريك السفلي فالنصارى قالوا بإلاهية المسيح وعبدة الأوثان قالوا : بإلاهية الأوثان ، والله تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم. الرابع : الذين طعنوا في النبوة وهم فريقان : أحدهما : الذين طعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء : 94). والثاني : الذين سلموا أصل النبوة وطعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وهم اليهود والنصارى ، والقرآن مملوء من الرد عليهم ، ثم إن طعنهم من وجوه تارة بالطعن في القرآن فأجاب الله بقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِا أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً} (البقرة : 26) وتارة بالتماس سائر المعجزات كقوله : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) وتارة بأن هذا القرآن نزل نجماً نجماً وذلك يوجب تطرق التهمة إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله : {كَذَالِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } (الفرقان : 32).
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/247)

الخامس : الذين نازعوا في الحشر والنشر ، والله تعالى أورد على صحة ذلك وعلى إبطال قول المنكرين أنواعاً كثيرة من الدلائل. السادس : الذين طعنوا في التكليف تارة بأنه لا فائدة فيه ، فأجاب الله عنه بقوله : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) وتارة بأن الحق هو الجبر ، وأنه ينافي صحة التكليف ، وأجاب الله تعالى عنه بأنه {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23) وإنما اكتفينا في هذا المقام بهذه الإشارات المختصرة لأن الاستقصاء فيها مذكور في جملة هذا الكتاب وإذا ثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل علمنا أن الطاعن فيها إما أن يكون كافراً أو جاهلاً. المقام الثاني : في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات ، ويدل عليه المعقول والمنقول. أما المعقول : فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي ، فأما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار ، وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفاً بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر ، وإما أن لا يجوز التقليد أصلاً وهو المطلوب ، فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية. وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار أما الآيات. فأحدها : قوله : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِا وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النحل : 125) ولا شك أن المراد بقوله بالحكمة أي بالبرهان والحجة ، فكانت الدعوة / بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأموراً بها ، وقوله : {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع ، ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه ، فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة ، فكان الجدال فيه مأموراً به ثم إنا مأمورون باتباعه عليه السلام لقوله : {فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 31) ولقوله : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب : 21) فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال. وثانيها : قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
الحج : 3 ، 8 لقمان : 20) ذم من يجادل في الله بغير علم وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً وأيضاً حكى الله تعالى ذلك عن نوح في قوله : {قَالُوا يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (هود : 32) وثالثها : أن الله تعالى أمر بالنظر فقال : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} (النساء : 82) ، {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية : 17) ، {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) ، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } (الرعد : 41) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (يونس : 10) ، أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} ورابعها : أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال : ورابعها : أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} (الزمر : 21) ، {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ} (آل عمران : 13) ، {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لاوْلِى} (طه : 54 ، 128) وأيضاً ذم المعرضين فقال : {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف : 105) ، {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف : 179) وخامسها : أنه تعالى ذم التقليد ، فقال حكاية عن الكفار {وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} (الزخرف : 23) وقال : {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } (لقمان : 21) وقال : {بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء : 74) وقال : {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا } (الفرقان : 42) وقال عن والد إبراهيم عليه السلام : {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَا وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا}
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/248)

وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال ، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار. وأما الأخبار ففيها كثرة ، ولنذكر منها وجوهاً : أحدها : ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : "جاء من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال إن امرأتي وضعت غلاماً أسود فقال له هل لك من إبل ، فقال : نعم قال : فما ألوانها قال حمر قال : فهل فيها من أورق ؟
قال : نعم. قال : فأنى ذلك ، قال : عسى أن يكون قد نزعه عرق قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس. وثانيها : عن أبي هريرة قال : قال عليه الصلاة والسلام : "قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني. أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول خلقه بأهون على من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً وأنا الله الأَحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد" فانظر كيف احتج الله تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء ، على القدرة على الإعادة ، وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية. وثالثها : روى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن / كره لقاء الله كره الله لقاءه" فقالت عائشة : يا رسول الله إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء الله ؟
فقال عليه السلام : "لا ولكن المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، والكافر كره لقاء الله فكره الله لقاءه وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به. واعلم أن للخصم مقامات. أحدها : أن النظر لا يفيد العلم. وثانيها : أن النظر المفيد للعلم غير مقدور. وثالثها : أنه لا يجوز الإقدام عليه. ورابعها : أن الرسول ما أمر به. وخامسها : أنه بدعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/249)

أما المقام الأول : فاحتج الخصم عليه بأمور : أحدها : أنا إذا تفكرنا وحصل لنا عقيب فكرنا اعتقاد فعلمنا بكون ذلك الاعتقاد علماً ، إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً ، والأول باطل لأن الإنسان إذا تأمل في اعتقاده في كون ذلك الاعتقاد علماً ، وفي اعتقاده في أن الواحد نصف الاثنين ، وأن الشمس مضيئة والنار محرقة وجد الأول أضعف من الثاني ، وذلك يدل على أن تطرق الضعف إلى الأول والثاني باطل ، لأن الكلام في ذلك الفكر الثاني كالكلام في الأول فيلزم التسلسل وهو محال. وثانيها : إنا رأينا عالماً من الناس قد تفكروا واجتهدوا وحصل لهم عقيب فكرهم اعتقاد ، وكانوا جازمين بأنه علم ثم ظهر لهم أو لغيرهم أن ذلك كان جهلاً فرجعوا عنه وتركوه وإذا شاهدنا ذلك في الوقت الأول جاز أن يكون الاعتقاد الحاصل ثانياً كذلك ، وعلى هذا الطريق لا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من الفكر والنظر. وثالثها : أن المطلوب إن كان مشعوراً به استحال طلبه ، لأن تحصيل الحاصل محال ، وإن كان غير مشعور به كان الذهن غافلاً عنه ، والمغفول عنه يستحيل أن يتوجه الطلب إليه. ورابعها : أن العلم يكون النظر مفيداً للعلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً وجب اشتراك العقلاء فيه وليس كذلك. وإن كان نظرياً لزم إثبات جنس الشيء بفرد من أفراده وذلك محال لأن النزاع لما وقع في الماهية كان واقعاً في ذلك الفرد أيضاً فيلزم إثبات الشيء بنفسه وهو محال لأنه من حيث أنه وسيلة الإثبات يجب أن يكون معلوماً قبل. ومن حيث أنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوماً قبل ، فيلزم اجتماع النفي والإثبات وهو محال. وخامسها : أن المقدمة الواحدة لا تنتج بل المنتج مجموع المقدمتين ، لكن حضور المقدمتين دفعة واحدة في الذهن محال لأنا جربنا أنفسنا فوجدنا أنا متى وجهنا الخاطر نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر ، وربما سلم بعضهم أن النظر في الجملة يفيد العلم لكنه يقول النظر في الإلاهيات لا يفيد واحتج عليه بوجهين : الأول : أن حقيقة الإله غير متصورة وإذا لم تكن الحقيقة متصورة استحال التصديق لا بثبوته ولا بثبوت صفة من صفاته. بيان الأول أن المعلوم عند البشر كون واجب الوجود منزهاً عن الحيز والجهة ، وكونه موصوفاً بالعلم والقدرة. أما الوجوب والتنزيه فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب. فلم يكن العلم بهذا السلب علماً بحقيقته ، وأما الموصوفية بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هذه الصفات وليست ذاته نفس هذا الانتساب فالعلم بهذا الانتساب ليس / علماً بذاته. بيان الثاني أن التصديق موقوف على التصور ، فإذا فقد التصور امتنع التصديق ، ولا يقال ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له لكنها متصورة بحسب لوازمها ، أعني أنا نعلم أنه شيء ما ، يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام فيحكم على هذا المتصور ، قلنا هذه الأمور المعلومة إما أن يقال إنها نفس الذات وهو محال أو أمور خارجة عن الذات فلما لم نعلم الذات لا يمكننا أن نعلم كونها موصوفة بهذه الصفات فإن كان التصور الذي هو شرط إسناد هذه الصفات إلى ذاته هو أيضاً تصور بحسب صفات آخر ، فحينئذٍ يكون الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال. الوجه الثاني : أن أظهر الأشياء عندنا ذاتنا وحقيقتنا التي إليها نشير بقولنا أنا ثم الناس تحيروا في ماهية المشار إليه يقول أنا ، فمنهم من يقول هو هذا البنية ، ومنهم من يقول هو المزاج ، ومنهم من يقول بعض الأجزاء الداخلة في هذه البنية ، ومنهم من يقول شيء لا داخل هذا البدن ولا خارجه ، فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/250)

أما المقام الثاني : وهو أن النظر المفيد للعلم غير مقدور لنا فقد احتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن تحصيل التصورات غير مقدور فالتصديقات البديهية غير مقدورة فجميع التصديقات غير مقدورة وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن طالب تحصيلها إن كان عارفاً بها استحال منه طلبها لأن تحصيل الحاصل محال ، فإن كان غافلاً عنها استحال كونه طالباً لها لأن الغافل عن الشيء لا يكون طالباً له. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون معلوماً من وجه ومجهولاً من وجه. قلنا لأن الوجه الذي يصدق عليه أنه معلوم غير الوجه الذي يصدق عليه أنه غير معلوم ، وإلا فقد صدق النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال وحينئذٍ نقول الوجه المعلوم استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل والوجه الذي هو غير معلوم استحال طلبه لأن المغفول عنه لا يكون مطلوباً ، وإنما قلنا إن التصورات لما كانت غير كسبية استحال كون التصديقات البديهية كسبية وذلك لأن عند حضور طرفي الموضوع والمحمول في الذهن من القضية البديهية إما أن يلزم من مجرد حضورهما جزم الذهن بإسناد أحدهما إلى الآخر بالنفي أو الإثبات ، أو لا يلزم ، فإن لم يلزم لم تكن القضية بديهية بل كانت مشكوكة. وإن لزم كان التصديق واجب الحصول عند حضور ذينك التصورين وممتنع الحصول عند عدم حضورهما ، وما يكون واجب الدوران نفياً وإثباتاً مع ما لا يكون مقدوراً نفياً وإثباتاً وجب أن يكون أيضاً كذلك فثبت أن التصديقات البديهية غير كسبية ؛ وإنما قلنا إن هذه التصديقات لما لم تكن كسبية لم يكن شيء من التصديقات كسبياً لأن التصديق الذي لا يكون بديهياً ، لا بدّ وأن يكون نظرياً فلا يخلو إما أن يكون واجب اللزوم عند حضور تلك التصديقات البديهية أو لا يكون فإن لم يكن واجب اللزوم منها لم يلزم من صدق تلك المقدمات صدق ذلك المطلوب ، فلم يكن ذلك استدلالاً يقينياً بل إما ظناً أو اعتقاداً / تقليدياً ، وإن كان واجباً فكانت تلك النظريات واجبة الدوران نفياً وإثباتاً مع تلك القضايا الضرورية ، فوجب أن لا يكون شيء من تلك النظريات مقدوراً للعبد أصلاً. وثانيها : أن الإنسان إنما يكون قادراً على إدخال الشيء في الوجود لو كان يمكنه أن يميز ذلك المطلوب عن غيره والعلم إنما يتميز عن الجهل بكونه مطابقاً للمعلوم دون الجهل وإنما يعلم ذلك لو علم المعلوم على ما هو عليه ، فإذن لا يمكنه إيجاد العلم بذلك الشيء إلا إذا كان عالماً بذلك الشيء لكن ذلك محال لاستحالة تحصيل الحاصل ،
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/251)

فوجب أن لا يكون العبد متمكناً من إيجاد العلم ولا من طلبه. وثالثها : أن الموجب للنظر ، إما ضرورة العقل ، أو النظر أو السمع. والأول : باطل لأن الضروري لم يشترط العقل فيه ، ووجوب الفكر والنظر ليس كذلك ، بل كثير من العقلاء يستقبحونه ، ويقولون إنه في الأكثر يفضي بصاحبه إلى الجهل ، فوجب الاحتراز منه ، والثاني : أيضاً باطل ، لأنه إذا كان العلم بوجوبه يكون نظرياً ، فحينئذٍ لا يمكنه العلم بوجوب النظر قبل النظر ، فتكليفه بذلك يكون تكليف ما لا يطاق ، وأما بعد النظر فلا يمكنه النظر ، لأنه لا فائدة فيه ، والثالث : باطل ، لأنه قبل النظر لا يكون متمكناً من معرفة وجوب النظر ، وبعد النظر لا يمكنه إيجابه أيضاً لعدم الفائدة ، وإذا بطلت الأقسم ثبت نفي الوجوب. المقام الثالث : وهو أن بتقدير كون النظر مفيداً للعلم ومقدوراً للمكلف ، لكنه يقبح من الله أن يأمر المكلف به ، وبيانه من وجوه : أحدها : أن النظر في أكثر الأمر يفضي بصاحبه إلى الجهل فالمقدم عليه مقدم على أمر يفضي به غالباً إلى الجهل. وما يكون كذلك يكون قبيحاً ، فوجب أن يكون الفكر قبيحاً ، والله تعالى لا يأمر بالقبيح. وثانيها : أن الواحد منا مع ما هو عليه من النقص وضعف الخاطر وما يعتريه من الشبهات الكثيرة المتعارضة ، لا يجوز أن يعتمد على عقله في التمييز بين الحق والباطل. فلما رأينا أرباب المذاهب كل واحد منهم يدعي أن الحق معه ، وأن الباطل مع خصمه ثم إذا تركوا التعصب واللجاج وأنصفوا ، وجدوا الكلمات متعارضة ، وذلك يدل على عجز العقل عن إدراك هذه الحقائق. وثالثها : أن مدار الدين لو كان على النظر في حقائق الدلائل لوجب أن لا يستقر الإنسان على الإيمان ساعة واحدة ، لأن صاحب النظر إذا خطر بباله سؤال على مقدمة من مقدمات دليل الدين ، فقد صار بسبب ذلك السؤال شاكاً في تلك المقدمة ، وإذا صار بعض مقدمات الدليل مشكوكاً فيه. صارت النتيجة ظنية. لأن المظنون لا يفيد اليقين ، فيلزم أن يخرج الإنسان في كل ساعة عن الدين ، بسبب كل ما يخطر بباله من الأسئلة والمباحث. ورابعها : أنه اشتهر في الألسنة أن من طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن طلب الدين بالكلام تزندق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز فتح الباب فيه : المقام الرابع : أن بتقدير أنه في نفسه غير قبيح ، ولكنا نقيم الدلالة على أن الله ورسوله ما أمرا بذلك ، والذي يدل عليه أن هذه المطالب لا تخلو ، إما أن يكون العلم بدلائلها علماً ضرورياً غنياً عن التعلم والاستفادة ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يحتاج في تحصيلها إلى/ التأمل والتدبر والاستفادة ، والأول باطل ، وإلا لوجب أن يحصل ذلك لكل الناس وهو مكابرة ولأنا نجرب أذكى الناس في هذا العلم فلا يمكنه تحصيله في السنين المتطاولة بعد الاستعانة بالأستاذ والتصانيف. وإن كان الثاني وجب أن لا يحصل ذلك العلم للإنسان ، إلا بعد الممارسة الشديدة والمباحثة الكثيرة ، فلو كان الدين مبنياً عليه ، لوجب أن لا يحكم الرسول بصحة إسلام الرجل إلا بعد أن يسأله عن هذه المسائل ، ويجربه في معرفة هذه الدلائل على الاستقصاء. ولو فعل الرسول ذلك لاشتهر ولما لم يشتهر بل المشهور المنقول عنه بالتواتر أنه كان يحكم بإسلام من يعلم بالضرورة أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك ، علمنا أن ذلك غير معتبر في صحة الدين ، فإن قيل : معرفة أصول الدلائل حاصلة لأكثر العقلاء ، إنما المحتاج إلى التدقيق دفع الأسئلة والجواب عن الشبهات وذلك غير معتبر في صحة أصل الدين ، قلنا هذا ضعيف لأن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان البتة ، وذلك لأن الدليل إذا كان مبنياً على مقدمات عشرة فإن كان الرجل جاز ما بصحة تلك المقدمات كان عارفاً بالدليل معرفة لا يمكن الزيادة عليها ، لأن الزيادة عل تلك العشرة إن كان معتبراً في تحقق ذلك الدليل بطل قولنا إن ذلك الدليل مركب من العشرة فقط ، وإلا لم يكن معتبراً لم يكن العلم به علماً بزيادة شيء في الدليل ، بل يكون علماً منفصلاً. فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أيضاً ، لأن تسعة منها لو كانت يقينية وكانت المقدمة العاشرة ظنية استحال كون المطلوب يقينياً لأن المبني على الظني أولى أن يكون ظنياً فثبت بهذا أن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان وبطل ببطلانه ذلك السؤال مثاله إذا رأى الإنسان حدوث مطر ورعد وبرق بعد أن كان الهواء صافياً قال سبحان الله ، فمن الناس من قال : إن قوله سبحان الله يدل على أنه عرف الله بدليله ، وهذا باطل لأنه إنما يكون عارفاً بالله إذا عرف بالدليل أن ذلك الحادث لا بدّ له من مؤثر ثم يعرف بالدليل أنه يستحيل أن يكون المؤثر فيه سوى الله تعالى/ وهذه المقدمة الثانية إنما تستقيم لو عرف بالدليل أنه يستحيل إسناد هذا الحدوث إلى الفلك والنجوم ، والطبيعة والعلة الموجبة. فإنه لو لم يعرف بطلان ذلك بالدليل لكان معتقداً لهذه المقدمة الثانية من غير دليل فتكون المقدمة تقليدية ويكون المبني عليها تقليداً لا يقيناً فثبت بهذا فساد ما قلتموه. المقام الخامس : أن نقول
(1/252)

الاشتغال بعلم الكلام بدعة ، والدليل عليه القرآن والخبر والإجماع وقول السلف والحكم. أما القرآن فقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف : 58) ذم الجدل وقال أيضاً : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِه } (الأنعام : 68) قالوا : فأمر بالإعراض عنهم عند خوضهم في آيات الله تعالى وأما الخبر فقوله عليه السلام : "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق" وقوله عليه السلام : "عليكم بدين العجائز" وقوله : "إذا ذكر القدر فأمسكوا" وأما الإجماع فهو أن هذا علم لم تتكلم فيه الصحابة فيكون بدعة فيكون حراماً ، أما أن الصحابة ما تكلموا فيه فظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نصب نفسه للاستدلال في / هذه الأشياء ، بل كانوا من أشد الناس إنكاراً على من خاض فيه ، وإذا ثبت هذا ثبت أنه بدعة وكل بدعة حرام بالاتفاق ، أما الأثر ، قال مالك بن أنس : إياكم والبدع قيل وما البدع يا أبا عبد الله ؟
قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون. وسئل سفيان بن عيينة عن الكلام فقال اتبع السنة ودع البدعة. وقال الشافعي رضي الله عنه : لأن يبتلي الله العبد بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام وقال : لو أوصى رجل بكتبه العلمية لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل تلك الكتب في الوصية وأما الحكم فهو أنه لو أوصى للعلماء لا يدخل المتكلم فيه والله أعلم فهذا مجموع كلام الطاعنين في النظر والاستدلال. والجواب : أما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر لا يفيد العلم فهي فاسدة ، لأن الشبه التي ذكروها ليست ضرورية بل نظرية ، فهم أبطلوا كل النظر ببعض أنواعه وهو متناقض ، وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن النظر غير مقدور فهي فاسدة ، لأنهم مختارون في استخراج تلك الشبه فيبطل قولهم إنها ليست اختيارية ، وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن التعاويل على النظر قبيح فهي متناقضة ، لأنه يلزمهم أن يكون إيرادهم لهذه الشبه التي أوردوها قبيحاً ، وأما الشبه التي تمسكوا بها في أن الرسول ما أمر بذلك فهو باطل ، لأنا بينا أن الأنبياء بأسرهم ما جاءوا إلا بالأمر بالنظر والاستدلال. وأما قوله تعالى : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا } فهو محمول على الجدل بالباطل ، توفيقاً بينه وبين قوله : {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
وأما قوله : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (الأنعام : 68) فجوابه أن الخوض ليس هو النظر ، بل الخوض في الشيء هو اللجاح ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : "تفكروا في الخالق" فذاك إنما أمر به ليستفاد منه معرفة الخالق وهو المطلوب. وأما قوله عليه الصلاة والسلام : "عليكم بدين العجائز" فليس المراد ، إلا تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأمور على الله على ما قلنا وأما قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا ذكر القدر فأمسكوا" فضعيف ، لأن النهي الجزئي لا يفيد النهي الكلي ، وأما الإجماع فنقول : إن عنيتم أن الصحابة لم يستعملوا ألفاظ المتكلمين فمسلم ، لكنه لا يلزم منه القدح في الكلام ، كما أنهم لم يستعلموا ألفاظ الفقهاء ، ولا يلزم منه القدح في الفقه البتة/ وإن عنيتم أنهم ما عرفوا الله تعالى ورسوله بالدليل ، فبئس ما قلتم ، وأما تشديد السلف على الكلام فهو محمول على أهل البدعة ، وأما مسألة الوصية فهي معارضة بما أنه لو أوصى لمن كان عارفاً بذات اللهوصفاته وأفعاله وأنبيائه ورسله لا يدخل فيه الفقيه. ولأن مبنى الوصايا على العرف فهذا إتمام هذه المسألة والله أعلم.
المسألة الثانية : أما حقيقة العبادة فذكرناها في قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأما الخلق فحكى الأزهري صاحب "التهذيب" عن ابن الأنباري أنه التقدير والتسوية ، واحتجوا فيه بالآية والشعر والاستشهاد ، أما الآية فقوله تعالى : {أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14) أي المقدرين {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } (العنكبوت : 17) أي / تقدرون كذباً {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} (المائدة : 110) أي تقدر. وأما الشعر فقول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال آخر :
فولا يئط بأيدي الخالقين ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
(1/253)

وأما الاستشهاد يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس ، ومنه قول العرب للأحاديث التي لا يصدق بها ، أحاديث الخلق ، ومنه قوله تعالى : {إِنْ هَـاذَآ إِلا خُلُقُ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 137) والخلاق المقدار من الخير ، وهو خليق أي جدير كأنه الذي منه الخلاق ، والصخرة الخلقاء الملساء لأن في الملاسة استواء ، وفي الخشونة اختلاف ومنه "أخلق الثوب" لأنه إذا بلي صار أملس واستوى نتوه واعوجاجه ، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والاستواء قال القاضي عبد الجبار : الخلق فعل بمعنى التقدير واللغة لا تقتضي أن ذلك لا يتأتى إلا من الله تعالى بل الكتاب نطق بخلافه في قوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14) ، {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} (المائدة : 110) لكنه تعالى لما كان يفعل الأفعال لعلمه بالعواقب وكيفية المصلحة ولا فعل له إلا كذلك لا جرم اختص بهذا الاسم وقال أستاذه أبو عبد الله البصري إطلاق اسم خالق على الله محال لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والنظر والحسبان وذلك في حق الله محال ، وقال جمهور أهل السنّة والجماعة : الخلق عبارة عن الإيجاد والإنشاء واحتجوا عليه بقول المسلمين لا خالق إلا الله ، ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
المسألة الثالثة : اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده ، ولما لم يكن العلم بوجوده ضرورياً بل استدلالياً لا جرم أورد ههنا ما يدل على وجوده ، واعلم أننا بينا في "الكتب العقلية" أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان ، وإما الحدوث. وإما مجموعهما ، وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض ، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها. أحدها : الاستدلال بإمكان الذوات ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } (محمد : 38) وبقوله حكاية عن إبراهيم : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) وبقوله : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } (النجم : 42) وقوله : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وثانيها : الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله : {خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وبقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} على ما سيأتي تقريره. وثالثها : الاستدلال بحدوث الأجسام. وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) ورابعها : الاستدلال بحدوث الأعراض ، وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق ، وذلك محصور في أمرين : دلائل الأنفس ، ودلائل الآفاق ، "والكتب الإلهية" في الأكثر مشتملة على هذين البابين ، والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين. أما دلائل الأنفس ، فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة / أنه ما كان موجوداً قبل ذلك وأنه صار الآن موجوداً وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بدّ له من موجد وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس ، لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة فلا بدّ من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص إلا أن لقائل أن يقول ههنا : لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم ؟
ولما كان هذا السؤال محتملاً ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} وهو المراد
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/254)

من دلائل الآفاق ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول ، وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية ، فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأَشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها. وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات فلا بدّ وأن يكون لأمر منفصل ، وذلك الأمر إن كان جسماً عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام ، وإن لم يكن جسماً فإما أن يكون موجباً أو مختاراً. والأول باطل ، وإلا لم يكن اختصاص بعضالأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بدّ وأن يكون قادراً ، فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم ، ولا بجسماني ، وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات ، وإذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين : الأول : أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقاً بالعقول ، وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك. الثاني : أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة ، بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب ، وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب ، لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر نعم الخالق علينا ، فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد ، فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع. واعلم أن للسلف طرقاً لطيفة في هذا الباب ، أحدها : يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق رضي الله عنه. فقال جعفر : هل ركبت البحر ؟
قال نعم. قال هل رأيت أهواله ؟
قال بلى ؛ هاجت يوماً رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين ، فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل ، فقال جعفر قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك ، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت / نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد ؟
قال بل رجوت السلامة ، قال ممن كنت ترجوها فسكت الرجل فقال جعفر : إن الصانع هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت ، وهو الذي أنجاك من الغرق فأسلم الرجل على يده. وثانيها : جاء في "كتاب ديانات العرب" أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعمران بن حصين "كم لك من إله" قال عشرة/ قال فمن لغمك وكربك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم ؟
قال الله ، قال عليه السلام : "مالك من إله إلا الله" ، وثالثها : كان أبو حنيفة رحمه الله سيفاً على الدهرية ، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه فبينما هو يوماً في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم فقالوا له هات ، فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها هل يجوز ذلك في العقل ؟
قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل ؟
فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجري فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ؟
فبكوا جميعاً وقالوا : صدقت وأغمدوا سيوفهم وتابوا. ورابعها : سألوا الشافعي رضي الله عنه ما الدليل على وجود الصانع ؟
فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟
قالوا : نعم ، قال : فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم ، والنحل فيخرج منها العسل. والشاة فيخرج منها البعر ، ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد ؟
فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وكان عددهم سبعة عشر. وخامسها : سئل أبو حنيفة رضي الله عنه مرة أخرى فتمسك بأن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى ، وبالعكس فدل على الصانع ، وسادسها : تمسك أحمد بن حنبل رضي الله عنه بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ظاهرها كالفضة المذابة وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير فلا بدّ من الفاعل ، عنى بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ ، وسابعها : سأل هرون الرشيد مالكاً عن ذلك فاستدل باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات. وثامنها : سئل أبو نواس عنه ، فقال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
فتأمل في نبات الأرض وانظر
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات
وأزهار كما الذهب السبيك
(1/255)

على قضب الزبر جد شاهدات
بأن الله ليس له شريك
وتاسعها : سئل أعرابي عن الدليل فقال : البعرة تدل على البعير. والروث على الحمير ، وآثار الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج ، أما تدل / على الصانع الحليم العليم القدير ؟
وعاشرها : قيل لطبيب : بم عرفت ربك ؟
قال باهليلج مجفف أطلق ، ولعاب ملين أمسك وقال آخر : عرفته بنحلة بأحد طرفيها تعسل ، والآخر تلسع والعسل مقلوب اللسع. وحادي عشرها : حكم البديهية في قوله : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (الزخرف : 87) ، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَه وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِه مُشْرِكِينَ} (غافر : 87).
المسألة الرابعة : قال القاضي : الفائدة في قوله : {الَّذِى خَلَقَكُمْ} أن العبادة لا تستحق إلا بذلك ، فلما ألزم عباده بالعبادة بين ماله ولأجله تلزم العبادة. فإن قيل فما الفائدة في قوله : {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم ، قلنا الجواب من وجهين : الأول : إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة. الثاني : أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الأنعام على الفروع فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، كأنه تعالى يقول : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقاً لأصولك وآبائك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
المسألة الخامسة : في قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بجثان : البحث الأول : أن كلمة لعل للترجي والإشفاق ، تقول لعل زيداً يكرمني وقال تعالى : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) ، {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى : 17) ألا ترى إلى قوله : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (الشورى : 18) والترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وذلك على الله تعالى محال ، فلا بدّ فيه من التأويل وهو من وجوه : أحدها : أن معنى "لعل" راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى فقوله : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره. وثانيها : أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا لعل وعسى ونحوهما من الكلمات ، أو للظفر منهم بالرمزة ، أو الابتسامة أو النظرة الحلوة فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب فعلى هذا لطريق ورد لفظ لعل في كلام الله تعالى. وثالثها : ما قيل أن لعل بمعنى كي ، قال صاحب "الكشاف" : ولعل لا يكون بمعنى كي ، ولكن كلمة لعل للأطماع ، والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم ، فلهذا السبب قيل لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي. ورابعها : أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود ، لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم ، فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود ، فالمراد من لفظة لعل فعل ما لو فعله غيره لكان موجباً للرجاء. خامسها : قال القفال : لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللاً بعد نهل ، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد ، فأصل لعل عل ، لأنهم يقولون علك أن تفعل كذا ، أي / لعلك ، فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل : افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا. افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه. البحث الثاني : أن لقائل أن يقول : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون. أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، والجواب من وجهين : الأول : لا نسلم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز ، فكأنه تعالى قال : اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه ، وإذا قيل في نفس الفعل إنه اتقاء فذلك مجاز لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه. الثاني : أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/256)

المسألة السادسة : قرأ أبو عمرو : خلقكم بالإدغام وقرأ أبو السميفع : وخلق من قبلكم وقرأ زيد بن علي : والذين من قبلكم. قال صاحب "الكشاف" : الوجه فيه أنه أفحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً كما أقحم جرير في قوله : يا تيم تيم عدي لا أبا لكموا تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه.
أما قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُم فَلا تَجْعَلُوا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ "الذي" وهو موصول مع صلته ، إما أن يكون في محل النصب وصفاً للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم ، وإما أن يكون رفعاً على الابتداء ، وفيه ما في النصب من المدح.
المسألة الثانية : "الذي" كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق ، فأبوه منطلق قضية معلومة ، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي ، وهو تحقيق قولهم. إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل ، إذا ثبت هذا فقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناء وذلك تحقيق قوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25 ، الزممر : 38).
المسألة الثالثة : أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق ، فبدأ أولاً بقوله : {خَلَقَكُمْ} وثانياً : بالآباء والأمهات ، وهو قوله : {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وثالثاً : بكون الأرض فراشاً ، ورابعاً : بكون السماء بناء ، وخامساً : بالأمور الحاصلة من مجموع السماء / والأرض ، وهو قوله : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } ولهذا الترتيب أسباب. الأول : أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم ، فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة ، وكان أولى بالذكر. فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان ، ثم ثناه بآبائه وأمهاته ثم ثلث بالأرض ، لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء ، وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر ، فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء. الثاني : هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم ، وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة ، فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع. الثالث : أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان ، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما ؟
لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل ، وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى. فلما كانت وجوه الدلائل له ههنا أتم كان أولى بالتقديم ، واعلم أنا كما ذكرنا السبب في الترتيب فلنذكر في كل واحد من هذه الثلاثة من المنافع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/257)

المسألة الرابعة : اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشاً ، ونظيره قوله : {أَمَّن جَعَلَ الارْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَـالَهَآ أَنْهَـارًا} (النحل : 61) وقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} (الزخرف : 10) واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور : الشرط الأول : كونها ساكنة ، وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالإستقامة أو بالاستدارة ، فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشاً لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية ، وذلك الإنسان هاوٍ ، والأرض أثقل من الإنسان ، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأَبطأ لا يلحق الأسرع فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشاً/ أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها ؛ لأن حركة الأرض مثلاً إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد ، فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة ، ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه : أحدها : أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل ، وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام. وثانيها : الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا الأرض ليست بكرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل وذلك السطح موضوع على الماء والهواء ، ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل / الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء ، وإن جمعت رسبت وهذا باطل الوجهين : الأول : أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض. والثاني : لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطاً حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدباً ؟
. وثالثها : الذين قالوا سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط وهذا باطل لوجهين : الأول : أن الأصغر أسرع انجذاباً من الأكبر ، فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك. الثاني : الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود. ورابعها : قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب ، كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة ، فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب. وهذا أيضاً باطل من وجوه خمسة. الأول : الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا ؟
الثاني : ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها. الثالث : ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق. الرابع : يجب أن يكون الثقيل كلما كان أعظم أن تكون حركته أبطأ ، لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر ، أبطأ من اندفاع الأصغر. الخامس : يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء ، لأنه عند الابتداء ، أبعد من الفلك. وخامسها : أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك ، وهو قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه ، وهذا أيضاً ضعيف ؛ لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لا بدّ وأن يكون جائزاً ، فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار. وسادسها : قال أبو هاشم : النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة ، والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف. والسؤال عليه : أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار. فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى. وعند هذا نقول : انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد ، على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية ، وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لا بدّ من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ولهذا قال الله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/258)

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه } (فاطر : 41). الشرط الثاني : في كون الأرض فراشاً لنا أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر ، فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن ، وأيضاً فلو كانت الأرض من الذهب مثلاً لتعذرت الزراعة عليها ، ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد ؛ وأن لا تكون في غاية اللين/ كالماء الذي تغوص فيه الرجل : الشرط الثالث : أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية فإن الشفاف لا يستقر النور عليه ، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس ، فكان يبرد جداً / فجعل الله كونه أغبر ، ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات. الشرط الرابع : أن تكون بارزة من الماء ، لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض ، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا ، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا ، ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة ، واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جداً ، لأن الكرة إذا عظمت جداً كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه ، والذي يزيده تقريراً أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها ، فهذا أولى والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
المسألة الخامسة : في سائر منافع الأرض وصفاتها. فالمنفعة الأولى : الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى الثانية : أن يتخمر الرطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات. الثالثة : اختلاف بقاع الأرض ، فمنها أرض رخوة ، وصلبة ، ورملة ، وسبخة ، وحرة ، وهي قوله تعالى : {وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ} (الرعد : 4) وقال : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه ا وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا } (الأعراف : 58) الرابعة : اختلاف ألوانها فأحمر ، وأبيض ، وأسود ، ورمادي اللون ، وأغبر ، على ما قال تعالى : {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُا بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} . الخامسة : انصداعها بالنبات ، قال تعالى : {وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} (الطارق : 12). السادسة : كونها خازنة للماء المنزل من السماء وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الارْضِا وَإِنَّا عَلَى ذَهَابا بِه لَقَـادِرُونَ} (المؤمنون : 18) وقوله : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعِين } (الملك : 30) السابعة : العيون والأنهار العظام التي فيها وإليه الإشارة بقوله) {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَـارًا } . الثامنة : ما فيها من المعادن والفلزات ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر : 19) ثم بين بعد ذلك تمام البيان ، فقال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر : 21). التاسعة : الخبء الذي تخرجهالأرض من الحب والنوى قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } (الأنعام : 95) وقال : {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (النحل : 25) ثم إن الأر لها طبع الكرم لأنك تدفع إليها حبة واحدة ، وهي تردها عليك سبعمائة
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/259)

{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ } (البقرة : 261). العاشرة : حياتها بعد موتها ؛ قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِه زَرْعًا} (السجدة : 27) وقال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} (يس : 33) الحادية عشرة : ما عليها من الدواب المختلفة الألوان والصور والخلق ، وإليه الإشارة بقوله : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } (لقمان : 10). والثانية عشر : ما فيها من النبات المختلف ألوانه وأنواعه ومنافعه ، وإليه الإشارة بقوله : {وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجا بَهِيجٍ} (ق : 7) فاختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف طعومها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم ، كما قال : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } (طه : 54) أما مطعوم البشر ، فمنها الطعام ، ومنها الأدام ، ومنها الدواء ، ومنها الفاكهة ، ومنها الأنواع المختلفة في الحلاوة والحموضة. قال تعالى : {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ} (فصلت : 10) وأيضاً فمنها كسوة البشر ، لأن الكسوة إما نباتية ، وهي القطن والكتان ، وإما حيوانية وهي الشعر والصوف والإبريسم والجلود ، وهي من الحيوانات التي بثها الله تعالى في الأرض ، فالمطعوم من الأرض ، والملبوس من الأرض. ثم قال : {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. ثم إنه سبحانه وتعالى جعل الأرض ساترة لقبائحك بعد مماتك ، فقال : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفَاتًا} (المرسلات : 25) ثم إنه سبحانه وتعالى جمع هذه المنافع العظيمة للسماء والأرض فقال : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} (الجاثية : 13). الثالثة عشرة : ما فيها من الأحجار المختلفة ، ففي صغارها ما يصلح للزينة فتجعل فصوصها للخواتم وفي كبارها ما يتخذ للأبنية ، فانظر إلى الحجر الذي تخرج النار منه مع كثرته ، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته. ثم انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير ، وقلة النفع بهذا الشريف. الرابعة عشرة : ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة ، كالذهب والفضة ، ثم تأمل فإن البشر استخرجوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمكة من قعر البحر ، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ثم عجزوا عن إيجاد الذهب والفضة ، والسبب فيه أنه لا فائدة في وجودهما إلا الثمينة ، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة فالقادر على إيجادهما يبطل هذه الحكمة ، فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً ، إظهار لهذه الحكمة وإبقاء لهذه النعمة ، ولذلك فإن ما لا مضرة على الخلق فيه مكنهم منه فصاروا متمكنين من اتخاذ الشبه من النحاس ، والزجاج من الرمل ، وإذا تأمل العاقل في هذه اللطائف والعجائب اضطر في افتقار هذه التدابير إلى صانع حكيم مقتدر عليم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الخامسة عشرة : كثرة ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار التي تصلح للبناء ، والسقف ، ثم الحطب. وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ قد نبه الله تعالى على دلائل الأرض ومنافعها بألفاظ لا يبلغها البلغاء ويعجز عنها الفصحاء فقال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
{وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الارْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَـارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } (الرعد : 3) وأما الأنهار فمنها العظيمة كالنيل ، وسيحون ، وجيحون ، والفرات ، ومنها الصغار ، وهي كثيرة وكلها تحمل مياهاً عذبة للسقي والزراعة وسائر الفوائد.
(1/260)

المسألة السادسة : في أن السماء أفضل أم الأرض ؟
قال بعضهم : السماء أفضل لوجوه : أحدها : أن السماء متعبد الملائكة ، وما فيها بقعة عصى الله فيها أحد. وثانيها : لما أتى آدم عليه السلام في الجنة بتلك المعصية قيل له اهبط من الجنة ، وقال الله تعالى لا يسكن في جواري من عصاني. وثالثها : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } (المؤمنون : 32) وقوله : {تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا} (الفرقان : 61) ولم يذكر في الأرض مثل ذلك. ورابعها : أن في أكثر الأمر ورد ذكر السماء مقدماً / على الأرض في الذكر. وقال آخرون : بل الأرض أفضل لوجوه "ا" أنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة بقوله : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} (آل عمران : 96) "ب" {فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (القصص : 30) "ج" {إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا الَّذِى بَـارَكْنَا حَوْلَه } (الإسراء : 1) "د" وصف أرض الشام بالبركة فقال : {مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا } (الأعراف : 137) وخامسها : وصف جملة الأرض بالبركة فقال : {قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} (فصلت : 9) إلى قوله : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا} (فصلت : 10) فإن قيل : وأي بركة في الفلوات الخالية والمفاوز المهلكة ؟
قلنا إنها مساكن للوحوش ومرعاها ، ثم إنها مساكن للناس إذا احتاجوا إليها ، فلهذه البركات قال تعالى : {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} (الذاريات : 20) وهذه الآيات وإن كانت حاصلة لغير الموقنين لكن لما لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للموقنين تشريفاً لهم كما قال : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وسادسها : أنه سبحانه وتعالى خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} (طه : 55) ولم يخلق من السموات شيئاً لأنه قال : {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } (الأنبياء : 32). وسابعها : أن الله تعالى أكرم نبيه بها فجعل الأرض كلها مساجد له وجعل ترابها طهوراً. أما قوله : {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} ففيه مسائل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر أمر السماوات والأرض في كتابه في مواضع ، ولا شك أن إكثار ذكر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض يدل على عظم شأنهما ، وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسراراً عظيمة ، وحكماً بالغة لا يصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم.
المسألة الثانية : في فضائل السماء وهي من وجوه : الأول : أن الله تعالى زينها بسبعة أشياء بالمصابيح {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} (الملك : 5) وبالقمر {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} وبالشمس {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (نوج : 16) وبالعرش {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة : 29) وبالكرسي {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } (البقرة : 255) وباللوح {فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 22) وبالقلم {ا وَالْقَلَمِ} (القلم : 1) فهذه سبعة : ثلاثة منها ظاهرة ، وأربعة خفية : ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار. الثاني : أنه تعالى سمى السموات بأسماء تدل على عظم شأنها : سماء ، وسقفاً محفوظاً ، وسبعاً طباقاً ، وسبعاً شداداً. ثم ذكر عاقبة أمرها فقال : {وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} (المرسلات : 9) ، {وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ} (التكوير : 11) ، {يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ} (الأنبياء : 104) ، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ} (المعارج : 8) ، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْرًا} (الطور : 9) ، {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن : 37) وذكر مبدأها في آيتين فقال : {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ} (فصلت : 11) وقال : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـاهُمَا } (الأنبياء : 30) فهذا الاستقصاء الشديد في كيفية حدوثهما وفنائهما يدل على أنه سبحانه خلقهما لحكمة بالغة على ما قال : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/261)

ص : 27)/ والثالث : أنه تعالى جعل السماء قبلة الدعاء : فالأيدي ترفع إليها ، والوجوه تتوجه نحوها ، وهي منزل الأنوار ومحل الصفاء والأضواء والطهارة والعصمة عن الخلل والفساد. الرابع : قال بعضهم السماوات والأرضون على صفتين ، فالسماوات مؤثرة غير متأثرة. والأرضون متأثرة غير مؤثرة / والمؤثر أشرف من القابل ، فلهذا السبب قدم ذكر السماء على الأرض في الأكثر ، وأيضاً ففي أكثر الأمر ذكر السموات بلفظ الجمع ، والأرض بلفظ الواحد ، فإنه لا بدّ من السموات الكثيرة ليحصل بسببها الاتصالات المختلفة للكواكب وتغير مطارح الشعاعات ، وأما الأرض فقابلة فكانت الأرض الواحدة كافية. الخامس : تفكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير ، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وتقوية له ، حتى أن الأطباء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزرقة ، فانظر كيف جعل الله تعالى أديم السماء ملوناً بهذا اللون الأزرق ، لتنتفع به الأبصار الناظرة إليها ، فهو سبحانه وتعالى جعل لونها أنفع الألوان ، وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال ، وهو المستدير ، ولهذا قال : {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا وَزَيَّنَّـاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} يعني ما فيها من فصول ، ولو كانت سقفاً غير محيط بالأرض لكانت الفروج حاصلة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/262)

المسألة الثالثة : في بيان فضائل السماء وبيان فضائل ما فيها ، وهي الشمس والقمر والنجوم أما الشمس فتفكر في طلوعها وغروبها ، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله ، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم ، ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة ، ولكن تأمل النفع في غروبها فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } (يونس : 67) وأيضاً فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} والثالث : أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَه سَاكِنًا} (لفرقان : 45) فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت ، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها. أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سبباً لإقامة الفصول الأربعة ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر ، ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن ، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد ، وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار ، وتنحل فضول الأبدان ، ويجف وجه الأرض ، ويتهيأ للبناء والعمارات ، وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلاً قليلاً إلى الشتاء ، فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت ، وأما حركة الشمس فتأمل في منافعها ، فإنها لو كانت واقفة في موضع / واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع ، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظاً من شعاع الشمس/ وأيضاً كأن الله تعالى يقول لو وقفت في جانب الشرق والغنى قد رفع بناءه على كوة الفقير ، فكان لا يصل النور إلى الفقير ، لكنه تعالى يقول إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه. وأما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء ، فنقول : لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال ، وكانت القوة هناك لكيفية واحدة ، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية ، وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق ، وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم يكن عودات متتالية ؛ وكانت الكواكب تتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الأفراط ، وكان يعرض قريباً مما لم يكن ميل ، ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت ، فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ، ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته ، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية. هذا أما القمر ، وهو المسمى بآية الليل : فاعلم أنه سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة ، وجعل طلوعه في وقت مصلحة ، وغروبه في وقت آخر مصلحة ، أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو ، ولولا الظلام لأدركه العدو ، وهو المراد من قول المتنبي :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
فوكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وأما طلوعه ففيه نفع لمن ضل عنه شيء أخفاه الظلام وأظهره القمر. ومن الحكايات : أن أعرابياً نام عن جمله ليلاً ففقده ، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر وقال : إن الله صورك ونورك ، وعلى البروج دورك ، فإذا شاء نورك ، وإذا شاء كورك ، فلا أعلم مزيداً أسأله لك ، ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ، ثم أنشأ يقول :
فماذا أقول وقولي فيك ذو قصر
وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا
أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
(1/263)

ولقد كان في العرب من يذم القمر ويقول : القمر يقرب الأجل ، ويفضح السارق ، / ويدرك الهارب. ويهتك العاشق ، ويبلي الكتان ، ويهرم الشبان ، وينسى ذكر الأحباب ، ويقرب الدين ، ويدني الحين. وكان فيهم أيضاً من يفضل القمر على الشمس من وجوه : أحدها : أن القمر مذكر. والشمس مؤنث لكن المتنبي طعن فيه بقوله :
ففما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
وثانيها : أنهم قالوا : القمران ، فجعلوا الشمس تابعة للقمر ، ومنهم من فضل الشمس على القمر بأن الله تعالى قدمها على القمر في قوله : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن : ) ، والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها} (الشمس : 21) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله : (الشمس : 21) إلا أن هذه الحجة منقوضة بقوله : {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } (التغابن : 2) وقال : {لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِ } (الحشر : 20) وقال : {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) وقال : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح : 6) وقال : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ} الآية. أما النجوم : ففيها منافع. المنفعة الأولى : كونها رجوماً للشياطين ، والثانية : معرفة القبلة بها ، والثالثة : أن يهتدي بها المسافر في البر والبحر ، قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (الأنعام : 97) ثم النجوم على ثلاثة أقسام : غاربة لا تطلع كالكواكب الجنوبية ، وطالعة لا تغرب كالشمالية ، ومنها ما يغرب تارة ويطلع أخرى ، وأيضاً منها ثوابت ، ومنها سيارات ، ومنها شرقية ، ومنها غربية والكلام فيها طويل. أما الذي تدعيه الفلاسفة من معرفة الأجرام والأبعاد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
فدع عنك بحراً ضل فيه السوابح
قال تعالى : {عَـالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن : 26 ، 27) وقال : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) وقال : {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (هود : 31) وقال : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف : 51) فقد عجز الخلق عن معرفة ذواتهم وصفاتهم فكيف يقدرون على معرفة أبعد الأشياء عنهم ، والعرب مع بعدهم عن معرفة الحقائق عرفوا ذلك ، قال قائلهم :
فوأعرف ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
وقال لبيد :
ففوالله ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
المسألة الرابعة : في شرح كون السماء بناء ، قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيأة لمنافعة وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحة ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/264)

أما قوله تعالى : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا} (عبس : 25 ، 26) فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن ، فكيف الحال في الجنة ، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ؛ لأن الأم تسقيك لوناً واحداً من اللبن ، والأرض تطعمك كذا وكذا لوناً من الأطعمة ، ثم قال : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} (طه : 55) معناه نردكم إلى هذه الأم ، وهذا ليس بوعيد ؛ لأن المرء لا يوعد بأمه وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى ، كما كنت في بطن الأم الصغرى ؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة ، فضلاً عن أن تكون لك كبيرة/ بل كنت مطيعاً لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك ، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ، ومن أنواع الثمار رزقاً لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ، ويعرفوا أن شيئاً من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليفها إلا من كان مخالفاً لها في الذات والصفات ، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى. وههنا سؤالات : السؤال الأول : هل تقولون إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة ، أو تقولون إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة ، وفي الأرض طبيعة قابلة ، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى ؟
والجواب : لا شك أن على كلا القولين لا بدّ من الصانع الحكيم وأما التفصيل فنقول : لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة ، والجسم قابل لهذه الصفات ، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث ، أو الإمكان ، وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادراً على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط ، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط ، إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام ، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بدّ فيه من دليل. السؤال الثاني : لما كان قادراً على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة ؟
والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوهاً : أحدها : أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج ، لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلباً / للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالاً بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية ، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى ، وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعاً لضرر المرض ، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعاً لضرر العقاب كان أولى وثانيها : أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم ، وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذٍ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق ، وفكر غامض فيستوجب الثواب ، ولهذا قيل : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب. وثالثها : أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة. السؤال الثالث : قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/265)

{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} يقتضي نزول المطر من السماء وليس الأمر كذلك فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر. والجواب من وجوه : أحدها : أن السماء إنما سميت سماء لسموها فكل ما سماك فهو سماء فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء وثانيها : أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة {أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} وثالثها : أن قول الله هو الصدق وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء ، فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال ينزل من السماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض. السؤال الرابع : ما معنى من في قوله : {مِنَ الثَّمَرَاتِ} الجواب فيه وجهان : أحدهما : التبعيض لأن المنكرين أعني ماء ورزقاً يكتنفانه وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم. والثاني : أن يكون للبيان كقولك أنفقت من الدراهم إنفاقاً ، فإن قيل فيم انتصب رزقاً ؟
قلنا إن كان من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له. وإن كا نت مبينة كان مفعولاً لأخرج. السؤال الخامس : الثمر المخرج بماء السماء كثير ، فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار ؟
الجواب : تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا وإشعاراً بتعظيم أمر الآخرة والله أعلم.
أما قوله تعالى : {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ففيه سؤالات : السؤال الأول : بم تعلق قوله : {فَلا تَجْعَلُوا } الجواب فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعلق بالأمر ، أي أعبدوا فلا تجعلوا لله أنداداً فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد. وثانيها : بلعل ، والمعنى خلقكم لكي تنقوا وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له نداً فإنه من أعظم موجبات العقاب. وثالثها : بقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا} أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء السؤال الثاني : ما الند ؟
الجواب : أنه المثل المنازع وناددت الرجل نافرته من ند ندوداً إذا نفر كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه أي ينافره ويعانده ، فإن قيل إنهم لم يقولوا إن الأصنام / تنازع الله. قلنا لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصلح أن يكون له ند قط ، وقرأ محمد بن السميفع فلا تجعلوا لله نداً. السؤال الثالث : ما معنى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجواب : معناه إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله تعالى ، فلا تقولوا ذلك فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح وههنا مسائل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(1/266)

المسألة الأولى : اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة ، وهذا مما لم يوجد إلى الآن لكن الثنوية يثبتون إلهين : أحدهما : حليم يفعل الخير والثاني : سفيه يفعل الشر ، وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة ، الفريق الأول : عبدة الكواكب وهم الصابئة ، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق هذه الكواكب ، وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم ، قالوا فيجب علينا أن نعبد الكواكب ، والكواكب تعبد الله تعالى. والفريق الثاني : النصارى الذين يعبدون المسيح عليه السلام. والفريق الثالث : عبدة الأوثان ، واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان ، وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام ، وهو إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله تعالى عن قومه في قوله : {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح : 23) فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح عليه السلام. وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة. والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يكون بحيث يعرف فساده بالضرورة لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السموات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه ، فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك والعلماء ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن الله تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور ، وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة ، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة ، فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه. وثانيها : ما ذكره أكثر العلماء وهو أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة ، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم ، فالأولون / اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة والفريق الثاني : أنها هي الوسائط بين الله تعالى وبين البشر ، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها ، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية ، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة ، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب. وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يعينون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ولما طالت مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر. ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنماً على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 18) وخامسها : لعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها. وسادسها : لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل ، فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حت ىليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل.
(1/267)

المسألة الثانية : فإن قال قائل : لما رجع حاصل مذهب عبدة الأوثان إلى هذه الوجوه التي ذكرتموها فمن أين يلزم من إثبات خالق العالم أن لا يجوز عبادة الأوثان ؟
الجواب قلنا : إنه تعالى إنما نبه على كون الأرض والسماء مخلوقتين بما بينا أن الأرض والسماء يشاركون سائر الأجسام في الجسمية فلا بدّ وأن يكون اختصاص كل واحد منهما بما اختص به من الأشكال والصفات والأخبار بتخصيص مخصص وبينا أن ذلك المخصص لو كان جسماً لافتقر هو أيضاً إلى مخصص آخر ، فوجب أن لا يكون جسماً ، إذا ثبت هذا فنقول : أما قول من ذهب إلى عبادة الأوثان بناءً على اعتقاد الشبه فلما دللنا بهذه الدلالة على نفي الجسمية فقد بطل قوله ، وأما القو ل الثاني : وهو أن هذه الكواكب هي المدبرة لهذا العالم فلما أقمنا الدلالة على أن كل جسم يفتقر في اتصافه بكل ما اتصف به إلى الفاعل المختار بطل كونها آلهة/ وثبت أنها عبيد لا أرباب ، وأما القول الثالث : وهو قول أصحاب الطلسمات فقد بطل أيضاً لأن تأثير الطلسمات إنما يكون بواسطة قوى الكواكب ، فلما دللنا على حدوث الكواكب ثبت قولنا وبطل قولهم. وأما القول الرابع والخامس : فليس في العقل ما يوجه أو يحيله ، لكن الشرع لما منع منه وجب الامتناع عنه. وأما القول السادس : فهو أيضاً بناءً على التشبيه فثبت بما قدمنا أن إقامة الدلالة على افتقار / العالم إلى الصانع المختار المنزه عن الجسمية يبطل القول بعبادة الأوثان على كل التأويلات والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
المسألة الثالثة : اعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتخذوها معبوداً لهم على حدة ، وقد كان هيكل العلة الأولى ـ وهي عندهم الأمر الإلهي ـ وهيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة. وهيكل النفس والصورة مدورات كلها ، وكان هيكل زحل مسدساً. وهيكل المشتري مثلثاً. وهيكل المريخ مستطيلاً ، وهيكل الشمس مربعاً ، وكان هيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل ، وهيكل القمر مثمناً فزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب نستنصر بها فننصر ، ونستستقي بها فنسقى. فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه ، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف. واعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة "غمدان" الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، ومنها "نوبهار بلخ" الذي بناه منهو شهر الملك على اسم القمر ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل "ود" بدومة الجندل لكلب و" سواع" لبني هذيل و"يغوث" لبني مذحج و"يعوق" لهمدان و"نسر" بأرض حمير لذي الكلاع و"اللات" بالطائف لثقيف و"مناة" بيثرب للخزرج و"العزى" لكنانة بنواحي مكة و"أساف" ونائلة" على الصفا والمروة وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى ، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل وهو الذي يقول :
فأربا واحداً أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الرجل البصير
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
347
/ في الآية مسائل :
(1/268)

المسألة الأولى : اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام الدلائل القاهرة على إثبات الصانع وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدل على النبوة ، وذلك يدل على فساد قول التعليمية الذين جعلوا معرفة الله مستفادة من معرفة الرسول ، وقول الحشوية الذين يقولون لا تحصل معرفة الله إلا من القرآن والأخبار ، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً. واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين : الأول : أن يقال إن هذا القرآن لا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون مساوياً لسائر كلام الفصحاء ، أو زائداً على سائر كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة أو زائداً عليه بقدر ينقض ، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث ، وإنما قلنا إنهما باطلان ، لأنه لو كان كذلك لكان من الواجب أن يأتوا بمثل سورة منه إما مجتمعين أو منفردين ، فإن وقع التنازع وحصل الخوف من عدم القبول فالشهود والحكام يزيلون الشبهة ، وذلك نهاية في الاحتجاج لأنهم كانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية. وكانوا في محبة أبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال وارتكبوا ضروب المهالك والمحن ، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق فكيف الباطل ، وكل ذلك يوجب الاتيان بما يقدح في قوله والمعارضة أقوى القوادح ، فلما لم يأتوا بها علمنا عجزهم عنها فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم ، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً فهو إذن تفاوت ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزاً ، فهذا هو المراد من تقرير هذه الدلالة فظهر أنه سبحانه كما لم يكتف في معرفة التوحيد بالتقليد فكذا في معرفة النبوة لم يكتف بالتقليد ؛ واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته ، ومع ذلك فإنه في الفصاحة بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزاً ، أحدها : أن فصاحة العرب أكثرها في وصف مشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو وصف حرب أو وصف غارة وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم ، وثانيها : أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما. ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي وأن الله تعالى مع ما تنزه عن الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحاً كما ترى. وثالثها : أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين. والباقي لا يكون كذلك ، وليس كذلك القرآن لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته. ورابعها : أن كل من قال شعراً فصيحاً في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول. وفي القرآن التكرار الكثير / ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً. وخامساً : أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة ، وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة. وسادسها : أنهم قالوا إن شعر امرىء القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل. وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر ، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء ، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن ، أما القرآن فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على غاية الفصاحة ، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب :
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
(1/269)

{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17) وقال تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } (الزخرف 71) وقال في الترهيب : {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} (الإسراء : 68) وقال : {مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (الملك : 16 ، 17) الآية وقال : {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (إبراهيم : 15) إلى قوله : {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنابِه } إلى قوله : {وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا } (العنكبوت : 40) وقال في الوعظ ما لا مزيد عليه {أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـاهُمْ سِنِينَ} وقال في الإلهيات : {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الارْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } (الرعد : 8) إلى آخره}. وسابعها : أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن ، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن ، وكذا علم أصول الفقه. وعلم النحو واللغة ، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق ، ومن تأمل "كتابنا في دلائل الإعجاز" علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى ، الطريق الثاني : أن نقول : القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغاً في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز. وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزاً فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب.
المسألة الثانية : إنما قال : . وسابعها : أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن ، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن ، وكذا علم أصول الفقه. وعلم النحو واللغة ، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق ، ومن تأمل "كتابنا في دلائل الإعجاز" علم أن القرآن قد بلغ في جميع وجوه الفصاحة إلى النهاية القصوى ، الطريق الثاني : أن نقول : القرآن لا يخلوا إما أن يقال إنه كان بالغاً في الفصاحة إلى حد الإعجاز ، أو لم يكن كذلك فإن كان الأول ثبت أنه معجز. وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة فعدم إتيانهم بالمعارضة مع كون المعارضة ممكنة ومع توفر دواعيهم على الإتيان بها أمر خارق العادة فكان ذلك معجزاً فثبت أن القرآن معجز على جميع الوجوه وهذا الطريق عندنا أقرب إلى الصواب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
المسألة الثانية : إنما قال : {نَزَّلْنَا} على لفظ التنزيل دون الإنزال لأن المراد النزول على سبيل التدريج ، وذكر هذا اللفظ هو اللائق بهذا المكان لأنهم كانوا يقولون : لو كان هذا من عند الله ومخالفاً لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة على حسب النوازل ووقوع الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأَنزله على خلاف هذه العادة جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } (الفرقان : 32) والله سبحانه وتعالى ذكر ههنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون ، فإن كان / الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج ، وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرىء "على عبادنا" يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمته.
(1/270)

المسألة الثالثة : السورة هي طائفة من القرآن ، وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسور أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها ، وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السورة بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء وهي أيضاً في أنفسها طوال وأوساط وقصار. أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين ، وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه. فإن قيل فما فائدة تقطيع القرآن سوراً قلنا من وجوه : أحدها : ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبواباً وفصولاً. وثانيها : أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن. وثالثها : أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ، ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نفس ذلك عنه ونشطه للسير. ورابعها : أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به ، ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
المسألة الرابعة : قوله : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } يدل على القرآن أن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حد ما أنزله الله تعالى بخلاف قول كثير من أهل الحديث : إنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن.
المسألة الخامسة : اعلم أن التحدي بالقرآن جاء على وجوه : أحدها : قوله : {فَأْتُوا بِكِتَـابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى } (القصص : 49). وثانيها : قوله : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88). وثالثها : قوهل : {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِه مُفْتَرَيَـاتٍ} (هود : 13)ورابعها : قوله : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } ونظير هذا كمن يتحدى صاحبه بتصنيفه فيقول ائتني بمثله ، ائتني بنصفه ، ائتني بربعه ، ائتني بمسألة منه ، فإن هذا هو النهاية في التحدي وإزالة العذر فإن قيل قوله : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } يتناول سورة الكوثر ، وسورة العصر وسورة قل يا أيها الكافرون ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر كان ذلك مكابرة والإقدام على أمثال هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين ، قلنا فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعحاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن الأمر كذلك كان امتناعهم عن المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً. فعلى هذين التقديرين يحصل المعجز.
/
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
(1/271)

المسألة السادسة : الضمير في قوله : {مِّن مِّثْلِه } إلى ماذا يعود وفيه وجهان : أحدهما : أنه عائد إلى "ما" في قوله : {مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم والثاني : أنه عائد إلى "عبدنا" أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء/ والأول مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين ، ويدل على الترجيح له وجوه : أحدها : أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في يونس {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه } . وثانيها : أن البحث إنما وقع في المنزل لأنه قال : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا} فوجب صرف الضمير إليه ، ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا شيئاً مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمد منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله. وثالثها : أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين محصلين ، أما لو كان عائداً إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فذلك لا يقتضي إلا كون أحدهم من الأميين عاجزين عنه لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد ، لأن الجماعة لا تماثل الواحد ، والقارىء لا يكون مثل الأمي ، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى. ورابعها : أنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة أما لو صرفناه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم. وهذا وإن كان معجزاً أيضاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حق محمد عليه السلام كان الأول أولى. وخامسها : أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد عليه السلام لكان ذلك يوهم أن صدور مثله القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن. ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثل من الأمي وغير الأمي ممتنع فكان هذا أولى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
المسألة السابعة : في المراد من الشهداء وجهان : الأول : المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان ، فكأنه قيل لهم إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر ، فيكون في الكلام محاجة من وجهين : أحدهما : في إبطال كونها آلهة. والثاني : في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قبله. الثاني : المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه السلام ، والمعنى وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر. فإن قيل هل يمكن حمل اللفظ عليهما معاً وبتقدير التعذر فأيهما فأولى ؟
قلنا أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة فيمكن جعله مجازاً عن / المعين والناصر ، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً لهم وأعواناً ، وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه وأما الثاني فنقول : الأولى حمله على الأكابر ، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهراً إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة ، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم ، أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز ، في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان أو يقال : المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم ، والإضمار خلاف الأصل ، أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام ، لأنه يصير كأنه قال : وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار. فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم ، ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر/ وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
(1/272)

المسألة الثامنة : أما (دون) فهو أدنى مكان من الشيء ومنه الشيء الدون ، وهو الحقير الدني ، ودوَّن الكتب إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ويقال : هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلاً ، ودونك هذا ، أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال ، فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حداً إلى حد ، قال الله تعالى : {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } (آل عمران : 28) أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فإن قيل فما متعلق من دون الله قلنا فيه وجهان : أحدهما : أن متعلقه "شهداءكم" وهذا فيه احتمالان : الأول : المعنى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم ، والثاني : ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله ، وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة وثانيهما : أن متعلقه هو الدعاء ، والمعنى ادعوا من دون الله شهداءكم ، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق ، كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه ، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينه تصحح بها الدعاوى عند الحكام ، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم ، وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم : الله يشهد إنا لصادقون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
المسألة التاسعة : قال القاضي هذا التحدي يبطل القول بالجبر من وجوه : أحدها : أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه ، فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدي أصلاً وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز. وثانيها : أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة / الموجبة ويستوي في ذلك ما يكون معجزاً. وما لا يكون فلا يصح معنى التحدي على قولهم وثالثها : أن ما يضاف إلى العبد فالله تعالى هو الخالق له فتحديه تعالى لهم يعود في التحقيق إلى أنه متحد لنفسه وهو قادر على مثله من غير شك فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول ورابعها : أن المعجز إنما يدل بما فيه من نقض العادة ، فإذا كان قولهم : إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق فلا يصح الاستدلال بالمعجز. وخامسها : أن الرسول صلى الله عليه وسلّم يحتج بأنه تعالى خصه بذلك تصديقاً له فيما ادعاه ولو لم يكن ذلك من قبله تعالى لم يكن داخلاً في الإعجاز. وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق ، لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلا من قبله ، والجواب. أن المطلوب من التحدي إما أن يأتي الخصم بالمتحدى به قصداً أو أن يقع ذلك منه اتفاقاً ، والثاني باطل ، لأن الاتفاقيات لا تكون في وسعه ، فثبت الأول وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالتحدي موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه ، فذلك القصد إن كان منه لزم التسلسل وهو محال ، وإن كان من الله تعالى فحينئذٍ يعود الجبر ويلزمه كل ما أورده علينا فيبطل كل ما قال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
(1/273)

أما قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا } فاعلم أن هذه الآية دالة على المعجز من وجوه أربعة : أحدها : أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي غاية الحرص على إبطال أمره ، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك ، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا } فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به ، فحيث ما أتوا به ظهر المعجز. وثانيها : وهو أنه عليه السلام وإن كان متهماً عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب ، فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته ، بل كان يكون وجلاً خائفاً مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره ، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلّم ، فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق. وثالثها : أنه عليه السلام لو لم يكن قاطعاً بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله ، لأنه إذا لم يكن قاطعاً بصحة نبوته كان يجوز خلافه ، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه ، فالمبطل المزور البتة لا يقطع في الكلام. ولا يجزم به ، فلما جزم دل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قاطعاً في أمره ، ورابعها : أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأن من أيامه عليه الصلاة والسلام إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه. ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط ، فهذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية ، وذلك يدل / على فساد قول الجهال الذين يقولون إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال ، وههنا سؤالات. السؤال الأول : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب ، فهلا جيء بإذا الذي للوجوب دون "إن" الذي للشك الجواب فيه وجهان : أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم ، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام. الثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه : إن غلبتك ، وهو يعلم أنه غالبه تهكماً به. السؤال الثاني : لم قال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
(1/274)

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا } ولم يقل فإن لم تأتوا به ؟
الجواب : لأن هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله. السؤال الثالث : {وَلَن تَفْعَلُوا } ما محلها ؟
الجواب لا محل لها لأنها جملة اعتراضية. السؤال الرابع : ما حقيقة لن في باب النفي ؟
الجواب : لا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في "لن" توكيداً وتشديداً تقول لصاحبك : لا أقيم غداً عندك ، فإن أنكر عليك قلت لن أقيم غداً ، ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أصله لا أن ، وهو قول الخليل. وثانيها : لا ، أبدلت ألفها نوناً ، وهو قول الفراء ، وثالثها : حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول سيبويه ، وإحدى الروايتين عن الخليل. السؤال الخامس : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟
الجواب : إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : {فَاتَّقُوا النَّارَ} قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة وفيه تهويل لشأن العناد ؛ لإنابة اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار. السؤال السادس : ما الوقود ؟
الجواب : هو ما يوقد به النار وأما المصدر فمضوم وقد جاء فيه الفتح ، قال سيبويه : وسمعنا من العرب من يقول وقدنا النار وقوداً عالياً ، ثم قال والوقود أكثر ، والوقود الحطب وقرأ عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده. السؤال السابع : صلة الذي يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
الجواب ، لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب ، أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم : {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم : 6). السؤال الثامن : فلم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وههنا معرفة ؟
الجواب : تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه أولاً. السؤال التاسع : ما معنى قوله : {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الجواب : أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة ، وذلك يدل على قوتها من وجهين : الأول : أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إجماء الحجارة أوقدت أولاً بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما تحرق. الثاني : أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر.
/
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
السؤال العاشر : لم قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقوداً ؟
الجواب : لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناماً وجعلوها للهأنداداً وعبدوها من دونه قال تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 98) وهذه الآية مفسرة لها فقوله : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معنى وقودها ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكاً بهم ، وجعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً وإغراباً في تحسرهم ، ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم ، وقيل هي حجارة الكبريت ، وهو تخصيص بغير دليل ، بل فيه ما يدل على فساده ، وذلك لأن الغرض ههنا تعظيم صفة هذه النار والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار ، أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا ، أما قوله : {أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} فإنه يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين ، وليس فيه ما يدل على أن هناك نيراناً أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
353
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة تكلم بعدهما في المعاد وبين عقاب الكافر وثواب المطيع ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر آية في الوعيد أن يعقبها بآية في الوعد وههنا مسائل :
(1/275)

المسألة الأولى : اعلم أن مسألة الحشر والنشر من المسائل المعتبرة في صحة الدين والبحث / عن هذه المسألة إما أن يقع عن إمكانها أو عن وقوعها ، أما الإمكان فيجوز إثباته تارة بالعقل ، وبالنقل أخرى ، وأما الوقوع فلا سبيل إليه إلا بالنقل ، وإن الله ذكر هاتين المسألتين في كتابه وبين الحق فيهما من وجوه : الوجه الأول : أن كثيراً ما حكى عن المنكرين إنكار الحشر والنشر ، ثم إنه تعالى حكم بأنه واقع كائن من غير ذكر الدليل فيه ، وإنما جاز ذلك لأن كل ما لا يتوقف صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم عليه أمكن إثباته بالدليل النقلي ، وهذه المسألة كذلك فجاز إثباتها بالنقل ، مثاله ما حكم ههنا بالنار للكفار ، والجنة للأَبرار ، وما أقام عليه دليلاً بل اكتفى بالدعوى ، وأما في إثبات الصانع وإثبات النبوة فلم يكتف فيه بالدعوى بل ذكر فيه الدليل ، وسبب الفرق ما ذكرناه وقال في سورة النحل : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُا بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (النحل : 38) وقال في سورة التغابن : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } (التغابن : 7). الوجه الثاني : أنه تعالى أثبت إمكان الحشر والنشر بناءً على أنه تعالى قادر على أمور تشبه الحشر والنشر ، وقد قرر الله تعالى هذه الطريقة على وجوه ، فأجمعها ما جاء في سورة الواقعة فإنه تعالى ذكر فيها حكاية عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون ، فأجابهم الله تعالى بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
{قُلْ إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} (الواققعة : 49) ثم إنه تعالى احتج على إمكانه بأمور أربعة : أولها : قوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَه ا أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ} (الواقعة : 58) وجه الاستدلال بذلك أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في آفاق أطراف الأعضاء ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع بحصول الانحلال عنها كلها ، ثم إن الله تعالى سلط قوة الشهوة على البقية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الطلية ، فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جداً ، أولاً في أطراف العالم ، ثم أنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان ، ثم إنها كانت متفرقة في أطراف بدن ذلك الحيوان فجمعها الله سبحانه وتعالى في أوعية المني ، ثم إنه تعالى أخرجها ماء دافقاً إلى قرار الرحم فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها ذلك الشخص ، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى ؟
فهذا تقرير هذه الحجة ، وإن الله تعالى ذكرها في مواضع من كتابه ، منها في سورة الحج : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن تُرَابٍ} إلى قوله : {وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً} ثم قال : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّه يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ} (الحج : 6 ، 7) وقال في سورة قد أفلح المؤمنون بعد ذكر مراتب الخلقة : {ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَالِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون : 15 ، 16) وقال في سورة لا أقسم : {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } (القيامة : 37 ، 38) وقال في سورة الطارق : {فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ} إلى قوله : {إِنَّه عَلَى رَجْعِه لَقَادِرٌ} (الطارق : 5 ـ 8). وثانيها : قوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَه ا أَمْ}
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
(1/276)

إلى قوله : {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} (الواقعة : 67) وجه الاستدلال به أن الحب وأقسامه / من مطول مشقوق وغير مشقوق ، كالأرز والشعير ، ومدور ومثلث ومربع ، وغير ذلك على اختلاف أشكاله إذا وقع في الأرض الندية واستولى عليه الماء والتراب ، فالنظر العقلي يقتضي أن يتعفن ويفسد ، لأن أحدهما يكفي في حصول العفونة ، ففيهما جميعاً أولى ، ثم إنه لا يفسد بل يبقى محفوظاً ، ثم إذا ازدادت الرطوبة تنفلق الحبة فلقتين فيخرج منها ورقتان ، وأما المطول فيظهر في رأسه ثقب وتظهر الورقة الطويلة كما في الزرع ، وأما النوى فما فيه من الصلابة العظيمة التي بسببها يعجز عن فلقه أكثر الناس إذا وقع في الأرض الندية ينفلق بإذن الله ، ونواة التمر تنفلق من نقرة على ظهرها ويصير مجموع النواة من نصفين يخرج من أحد النصفين الجزء الصاعد ، ومن الثاني الجزء الهابط ، أما الصاعد فيصعد ، وأما الهابط فيغوص في أعماق الأرض ، والحاصل أنه يخرج من النواة الصغيرة شجرتان : إحداهما : خفيف صاعد ، والأخرى ثقيل هابط مع اتحاد العنصر واتحاد طبع النواة والماء والهواء والتربة أفلا يدل ذلك على قدرة كاملة وحكمة شاملة فهذا القادر كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء. ونظيره قوله تعالى في الحج : {وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج : 5) وثالثها : قوله تعالى : {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (الواقعة : 68 ، 69) وتقديره أن الماء جسم ثقيل بالطبع ، وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع ، فلا بدّ من قادر قاهر يقهر الطبع ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول. وثانيها : أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها. وثالثها : تسييرها بالرياح ورابعها : إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز ، وكل ذلك يدل على جواز الحشر. أما صعود الثقيل فلأنه قلب الطبيعة ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء ؟
والثاني : لما قدر على جمع تلك الذرات المائية بعد تفرقها فلم لا يجوز جمع الأجزاء الترابية بعد تفرقها ؟
والثالث : تسيير الرياح فإذا قدر على تحريك الرياح التي تضم بعض تلك الأجزاء المتجانسة إلى بعض فلم لا يجوز ههنا ؟
والرابع : أنه تعالى أنشأ السحاب لحاجة الناس إليه فههنا الحاجة إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوه من الثواب والعقاب أولى واعلم أن الله تعالى عبر عن هذه الدلالة في موضع آخر من كتابه فقال في الأعراف لما ذكر دلالة التوحيد :
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى} إلى قوله : {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف : 56) ثم ذكر دليل الحشر فقال : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} إلى قوله : {كَذَالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف : 57) ورابعها : قوله : {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـاُونَ} وجه الاستدلال أن النار صاعدة والشجرة هابطة ، وأيضاً النار لطيفة ، والشجرة كثيفة. وأيضاً النار نورانية والشجرة ظلمانية ، والنار حارة يابسة والشجرة باردة رطبة ، فإذا أمسك الله تعالى في داخل تلك الشجرة الأجزاء النورانية النارية فقد جمع بقدرته بين هذه الأشياء المتنافرة ، فإذا لم يعجز عن ذلك فكيف يعجز عن تركيب الحيوانات وتأليفها ؟
والله تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة يس فقال : {الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا} (يس : 58) .
/ واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة أمر الماء والنار وذكر في النمل أمر الهواء بقوله : {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إلى قوله : {أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } (النمل : 64) وذكر الأرض في الحج في قوله : {وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً} (الحج : 5) فكأنه سبحانه وتعالى بين أن العناصر الأربعة على جميع أحوالها شاهدة بإمكان الحشر والنشر. النوع الثاني : من الدلائل الدالة على إمكان الحشر : هو أنه تعالى يقول : لما كنت قادراً على الإيجاد أولاً فلأن أكون قادراً على الإعادة أولى. وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر ، وأنه تعالى ذكرها في مواضع من كتابه ، منها في البقرة : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة : 28) ومنها قوله في سبحان الذي : {وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا وَرُفَـاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} (الإسراء : 49 ، 50) إلى قوله : {قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
(1/277)

ومنها في العنكبوت : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ا } (العنكبوت : 19) ومنها قوله في الروم : {وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } (الروم : 27) ومنها في يس : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) ، النوع الثالث : الاستدلال باقتداره على السموات على اقتداره على الحشر. وذلك في آيات منها في سورة سبحان : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ قَادِرٌ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (الأَسراء : 99) وقال في يس : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُما بَلَى وَهُوَ الْخَلَّـاقُ الْعَلِيمُ} (يس : 81) وقال في الأحقاف : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى ا بَلَى ا إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} (الأحقاف : 33) ومنها في سورة ق : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا } إلى قوله : {رِّزْقًا لِّلْعِبَادِا وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق : 11) ثم قال : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِا بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق : 15) النوع الرابع : الاستدلال على وقوع الحشر بأنه لا بدّ من إثابة المحسن وتعذيب العاصي وتمييز أحدهما من الآخر بآيات ، منها في يونس {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ بِالْقِسْطِ } (يونس : 4) ومنها في طه : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } (طه : 15) ومنها في ص : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ا فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
(1/278)

ص : 27 ، 28) النوع الخامس : الاستدلال بإحياء الموتى في الدنيا على صحة الحشر والنشر فمنها خلقه آدم عليه الصلاة والسلام ابتداء ومنها قصة البقرة وهي قوله : {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى } (البقرة : 73) ومنها قصة إبراهيم عليه السلام {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى } (البقرة : 26) ومنها قوله : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (البقرة : 259) ومنها قصة يحيى وعيسى عليهما السلام فإنه تعالى استدل على إمكانهما بعين ما استدل به على جواز الحشر حيث قال : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} (مريم : 9) ومنها في قصة أصحاب الكهف ولذلك قال : {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَآ} (الكهف : 21) ومنها قصة أيوب عليه السلام وهي قوله : {فَاسْتَجَبْنَا لَه } يدل على / أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا ومنها ما أظهر الله تعالى على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى حيث قال : {يُحْىِ الْمَوْتَى } (الحج : 6) وقال : {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِى } (المائدة : 110) ومنها قوله : {أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـاًا} (مريم : 67) فهذا هو الإشارة إلى أصول الدلائل التي ذكرها الله تعالى في كتابه على صحة القول بالحشر ، وسيأتي الاستقصاء في تفسير كل آية من هذه الآيات عند الوصول إليها إن شاء الله تعالى ، ثم إنه تعالى نص في القرآن على أن منكر الحشر والنشر كافر ، والدليل عليه قوله : {وَدَخَلَ جَنَّتَه وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِه أَبَدًا * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَه صَاحِبُه وَهُوَ يُحَاوِرُه ا أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} ووجه إلزام الكفر أن دخول هذا الشيء في الوجود ممكن الوجود في نفسه ، إذ لو كان ممتنع الوجود لما وجد في المرة الأولى فحيث وجد في المرة الأولى علمنا أنه ممكن الوجود في ذاته ، فلو لم يصح ذلك من الله تعالى لدل ذلك إما على عجزه حيث لم يقدر على إيجاد ما هو جائز الوجود في نفسه ، أو على جهله حيث تعذر عليه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن المكلف الآخر ، ومع القول بالعجز والجهل لا يصح إثبات النبوة فكان ذلك موجباً للكفر قطعاً والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
المسألة الثانية : هذه الآيات صريحة في كون الجنة والنار مخلوقتين ، أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها : {أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} فهذا صريحة في أنها مخلوقة وأما الجنة فلأنه تعالى قال في آية أخرى : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ولأنه تعالى قال ههنا : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله وحصول الملك في الحال يقتضي حصول المملوك في الحال فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان.
المسألة الثالثة : اعلم أن مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله : {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } والمطعم بقوله : {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَـاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } والمنكح بقوله : {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصاً فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال : {وَهُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر. ولنتكلم الآن في ألفاظ الآية.
(1/279)

أما قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } ففيه سؤالات : الأول : علام عطف هذا الأمر ؟
والجواب من وجوه : أحدها : أنه ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه. إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول : زيد يعاقب بالقيد والضرب ، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق. وثانيها : أنه معطوف على قوله : {فَاتَّقُوا } كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم / وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. وثالثها : قرأ زيد بن علي {وَبَشِّرِ} على لفظ المبني للمفعول عطفاً على أعدت. السؤال الثاني : من المأمور بقوله وبشر ؟
والجواب يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأن يكون كل أحد كما قال عليه الصلاة والسلام : "بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" لم يأمر بذلك واحد بعينه ، وإنما كل أحد مأمور به ، وهذا الوجه أحسن وأجزل ، لأنه يؤذن بأن هذا الأمر لعظمته وفخامته حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به. السؤال الثالث : ما البشارة ؟
الجواب : أنها الخبر الذي يظهر السرور ، ولهذا قال الفقهاء إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم ، لأنه هو الذي أفاد خبره السرور ولو قال مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه ، ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه ، وأما {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فمن الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك. أما قوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } ففيه مسائل : ـ
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان لأنه لما ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح وجب التغاير وإلا لزم التكرار وهو خلاف الأصل.
(1/280)

المسألة الثانية : من الناس من أجرى هذه الآية على ظاهرها فقال : كل من أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فله الجنة. فإذا قيل له ما قولك فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم كفر قال إن هذا ممتنع لأن فعل الإيمان والطاعة ، يوجب استحقاق الثواب الدائم ، وفعل الكفر استحقاق العقاب الدائم ، والجمع بينهما محال ، والقول أيضاً بالتحابط محال فلم يبق إلا أن يقال هذا الفرض الذي فرضتموه ممتنع ، وإنما قلنا إن القول بالتحابط محال لوجوه : أحدها : أن الاستحقاقين إما أن يتضادا أو لا يتضادا فإن تضادا كان طريان الطارىء مشروطاً بزوال الباقي ، فلو كان زوال الباقي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال. وثانيها : أن المنافاة حاصلة من الجانبين فليس زوال الباقي لطريان الطارىء أولى من اندفاع الطارىء بقيام الباقي ، فإما أن يوجدا معاً وهو محال أو يتدافعا فحينئذٍ يبطل القول بالمحابطة ، وثالثها : أن الاستحقاقين إما أن يتساويا أو كان المقدم أكثر أو أقل ، فإن تعادلا مثل أن يقال كان قد حصل استحقاق عشرة أجزاء من الثواب فطرأ استحقاق عشرة أجزاء من العقاب فنقول : استحقاق كل واحد من أجزاء العقاب مستقل بإزالة كل واحد من أجزاء استحقاق الثواب. وإذا كان كذلك لم يكن تأثير هذا الجزء في إزالة هذا الجزء أولى من تأثيره في إزالة ذلك الجزء ومن تأثير جزء آخر في إزالته فأما أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء الطارئة مؤثراً في إزالة كل واحد من الأجزاء المتقدمة فيلزم أن يكون لكل واحد من العلل معلولات كثيرة ولكل واحد من المعلولات علل كثيرة / مستقلة ، وكل ذلك محال ، وإما أن يختص كل واحد من الأجزاء الطارئة بواحد من الباقي من غير مخصص فذلك محال لامتناع ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وأما إن كان المقدم أكثر فالطارىء لا يزيل إلا بعض أجزاء الباقي ، فلم يكن بعض أجزاء الباقي أن يزول به أولى من سائر الأجزاء فأما أن يزول الكل وهو محال ، لأن الزائل لا يزول إلا بالناقص. أو يتعين البعض للزوال من غير مخصص ، وهو محال ، أو لا يزول شيء منها وهو المطلوب ، وأيضاً فهذا الطارىء إذا أزال بعض أجزاء الباقي فإما أن يبقى الطارىء ، أو يزول. أما القول ببقاء الطارىء فلم يقل به أحد من العقلاء. وأما القول بزواله فباطل ، لأنه إما أن يكون تأثير كل واحد منهما في إزالة الآخر معاً أو على الترتيب ، والأول باطل لأن المزيل لا بدّ وأن يكون موجوداً حال الإزالة ، فلو وجد الزوالان معاً لوجد المزيلان معاً ، فيلزم أن يوجدا حال ما عدما وهو محال وإن كان على الترتيب فالمغلوب يستحيل أن ينقلب غالباً ، وأما إن كان المتقدم أقل فأما أن يكون المؤثر في زواله بعض أجزاء الطارىء ، وذلك محال لأن جميع أجزائه صالح للإزالة ، واختصاص البعض بذلك ترجيح من غير مرجح وهو محال ، وإما أن يصير الكل مؤثراً في الإزالة فيلزم أن يجتمع على المعلول الواحد علل مستقلة وذلك محال ، فقد ثبت بهذه الوجوه العقلية فساد القول بالإحباط ، وعند هذا تعين في الجواب قولان : الأول : قول من اعتبر الموافاة ، وهو أن شرط حصول الإيمان أن لا يموت على الكفر فلو مات على الكفر علمنا أن ما أتى به أولاً كان كفراً وهذا قول ظاهر السقوط ، الثاني : أن العبد لا يستحق على الطاعة ثواباً ولا على المعصية عقاباً استحقاقاً عقلياً واجباً ، وهو قول أهل السنّة واختيارنا ، وبه يحصل الخلاص من هذه الظلمات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
المسألة الثالثة : احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع ، ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازاً.
(1/281)

المسألة الرابعة : الجنة : البستان من النخل والشجر المتكاتف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره كأنها سترة واحدة لفرط التفافها وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان ، فإن قيل لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار ؟
الجواب : أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات ، وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس كما يقال لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله : {فِيهَآ أَنْهَـارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُه } (محمد : 15) وأما قوله : {كُلَّمَا رُزِقُوا } فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات. أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة لأنه لما / قيل : إن لهم جنات لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا ؟
وههنا سؤالات : السؤال الأول : ما وقع من ثمرة ؟
الجواب فيه وجهان : الأول : هو كقولك كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية ، لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار. الثاني : وهو أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك رأيت منك أسداً تريد أنت أسد ، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة. السؤال الثاني : كيف يصح أن يقولوا هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل ، الجواب : لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال هذا هو ذاك أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا إنه الأب. السؤال الثالث : الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك ، فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا ، أم من أرزاق الجنة ؟
والجواب فيه وجهان : الأول : أنه من أرزاق الدنيا ، ويدل عليه وجهان : الأول : أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولاً عظم ابتهاجه وفرحه به ، فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا ، والدليل الثاني : أن قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
(1/282)

{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا} يتناول جميع المرات فيتناول المرة الأولى فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بدّ وأن يقولوا هذا الذي رزقنا من قبل ، ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا ، القول الثاني : أن المشبه به رزق الجنة أيضاً والمراد تشابه أرزاقهم ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين : الأول : المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص. الثاني : المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم ، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله ، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ومنهم من يقول إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم ، قال الحسن يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف ، وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة ، وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى : ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات لأرواح وعالم السموات وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان / كالمرآة المحاذية لعالم القدس ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج ، لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات ، فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى ، فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرورة وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق. أما قوله : {وَأُتُوا بِه مُتَشَـابِهًا } ففيه سؤالان : السؤال الأول : إلام يرجح الضمير في قوله : {وَأُتُوا بِه } ؟
الجواب : إن قلنا المشبه به هو رزق الدنيا فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة يعني أتوا بذلك النوع متشابهاً يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلاً منه في الدنيا ، وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنة أيضاً ، فإلى الشيء المرزوق في الجنة ، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضاً. السؤال الثاني : كيف موقع قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
{وَأُتُوا بِه مُتَشَـابِهًا } من نظم الكلام ؟
والجاب : أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله : {قَالُوا هَـاذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله : {وَأُتُوا بِه مُتَشَـابِهًا } أما قوله : {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } فالمراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة ، ولا سيما ما يختص بالنساء ، وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك ، قال أهل الإشارة. وهذا يدل على أنه لا بدّ من التنبه لمسائل. أحدها : أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى منعك عن مباشرتها قال الله تعالى : {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } (البقرة : 222) فإذا منعك عن مقاربتها لما عليها من النجاسة التي هي معذورة فيها فإذا كانت الأزواج اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن حال كونك ملوثاً بنجاسات المعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى. وثانيها : أن من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر ، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون ولذلك فإن آدم لما أتى بالزلة أخرج منها. وثالثها : من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تصح صلاته عند الشافعي رضي الله عنه ، فمن كان على قلبه من نجاسات المعاصي أعظم من الدنيا كيف تقبل صلاته وههنا سؤالان : الأول : هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف ؟
الجواب : هما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلن والنساء فعلت. ومنه بيت الحماسة :
فوإذا العذارى بالدخان تقنعت
واستعملت نصب القدور فملت
(1/283)

والمعنى وجماعة أزواج مطهرة ، وقرأ زيد بن علي : مطهرات وقرأ عبيد بن عمير : مطهرة يعني متطهرة. السؤال الثاني : هلا قيل طاهرة ؟
الجواب : في المطهرة إشعار بأن مطهراً طهرهن وليس ذلك إلا الله تعالى ، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن / لأهل الثواب. أما قوله : {وَهُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} فقالت المعتزلة الخلد ههنا هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع واحتجوا عليه بالآية والشعر ، أما الآية فقوله : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَا أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَـالِدُونَ} (الأنبياء : 34) فنفي الخلد عن البشر مع أنه تعالى أعطى بعضهم العمر الطويل ، والمنفي غير المثبت ، فالخلد هو البقاء الدائم وأما الشعر فقول امرىء القيس :
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
فوهل يعمن إلا سعيد مخلد
قليل هموم ما يبيت بأوجال
وقال أصحابنا : الخلد هو الثبات الطويل سواء دام أو لم يدم واحتجوا فيه بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى : {خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد لكان ذلك تكراراً وأما العرف فيقال حبس فلان فلاناً حبساً مخلداً ولأنه يكتب في صكوك الأوقاف وقف فلان وقفاً مخلداً فهذا هو الكلام في أن هذا اللفظ هل يدل على دوام الثواب أم لا ؟
وقال آخرون العقل يدل على دوامه لأنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة لأن النعمة كلما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القلب وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الثواب البتة من الغم والحسرة والله تعالى أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
360
اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن / كونه معجزاً ، فأجاب الله تعالى عنه بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة ، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها ثم في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : عن ابن عباس أنه لما نزل : {الْمَصِيرُ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَه ا } (الحج : 73) فطعن في أصنامهم ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت قالت اليهود أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما فنزلت هذه الآية. والقول الثاني : أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق في قوله : {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا} والقول الثالث : أن هذا الطعن كان من المشركين قال القفال : الكل محتمل ههنا ، أما اليهود فلأنه قيل في آخر الآية : {وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه } وهذا صفة اليهود ، لأن الخطاب بالوفاء وبالعهد فيما بعد إنما هو لبني إسرائيل وأما الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَـافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } الآية فأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون ، والذين كفروا يحتمل المشركين لأن السورة مكية فقد جمع الفريقان ههنا. إذا ثبت هذا فنقول. احتمال الكل ههنا قائم لأن الكافرين والمنافقين واليهود كانوا متوافقين في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد مضى من أول السورة إلى هذا الموضع ذكر اليهود ، وذكر المنافقين ، وذكر المشركين. وكلهم من الذين كفروا ثم قال القفال : وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب لأن معناه في نفسه مفيد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(1/284)

المسألة الثانية : اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة يقال حيي الرجل كما يقول نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء. جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة ، كما قالوا فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن ، وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم ، ولكنه وارد في الأحاديث. روى سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً" وإذا كان كذلك وجب تأويله وفيه وجهان : الأول : وهو القانون في أمثال هذه الأشياء ؛ أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى/ أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح ، وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل ، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضب له ، علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب ، وشهوة الانتقام وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، فإذا وصفنا الله تعالى / بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب ، بل المراد تلك النهاية وهو أنزل العقاب ، فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب. الثاني : يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ، فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال ، وهذا فن بديع من الكلام ، ثم قال القاضي ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه ، وإنما يقال إنه لا يوصف به فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال ، لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله : {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } وقوله : {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله : {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} وكذلك قولك : {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزاً أن يطلق في المخاطبة فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال ، ولقائل أن يقول : لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقاً فوجب أن يجوز. بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه فنقول : هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضاً كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(1/285)

المسألة الثالثة : اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه : أحدها : إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء ، فقالوا في التمثيل بالذرة : أجمع من ذرة ، وأضبط من ذرة ، وأخفى من الذرة وفي التمثيل بالذباب : أجرأ من الذباب ، وأخطأ من الذباب ، وأطيش من الذباب ، وأشبه من الذباب بالذباب ، وألح من الذباب. وفي التمثيل بالقراد ، أسمع من قراد ، وأصغر من قراد. وأعلق من قراد. وأغم من قراد ، وأدب من قراد ، وقالوا في الجراد : أطير من جرادة ، وأحطم من جرادة ، وأفسد من جرادة. وأصفى من لعاب الجراد ، وفي الفراشة : أضعف من فراشة ، وأطيش من فراشة ، وأجهل من فراشة ، وفي البعوضة. أضعف من بعوضة ، وأعز من مخ البعوضة ، وكلفني مخ البعوضة ، في مثل تكليف ما لا يطاق : وأما العجم فيدل عليه "كتاب كليلة ودمنة" وأمثاله ، وفي بعضها : قالت البعوضة ، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها ؛ يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير ، فقالت النخلة : والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك ، وثانيها : أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة ، قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان ، فقال عبيد الزراع ؛ يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك ؟
قال : بلى ، قالوا : فمن أين هذا الزوان ؟
قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان / جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن. وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين ، وجميع عمال الأثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء ، وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع ، وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء : لو أن رجلاً أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره ، ونجى من اقتدى به ، وقال : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة ، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح ، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله ؟
أفلا تعقلون ، وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم ، فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضاً فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبيناً مكشوفاً ، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح ، وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان ، أما قولهم : ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى ، قلنا هذا جهل ، لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير ، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة ، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل ، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل / بالذباب ، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام ، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(1/286)

المسألة الرابعة : قال الأصم : "ما" في قوله مثلاً ماصلة زائدة كقوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وقال أبو مسلم معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو والأصح قول أبي مسلم لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً وكونه لغواً ينافي ذلك ، وفي بعوضة قراءتان : إحداهما : النصب وفي لفظة ما على هذه القراءة وجهان : الأول : أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شيوعاً وبعداً عن الخصوصية. بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه أعطني كتاباً أنظر فيه فأعطاه بعض الكتب صح له أن يقول أردت كتاباً آخر ولم أرد هذا ولو قاله مع ما لم يصح له ذلك لأن تقدير الكلام أعطني كتاباً أي كتاب كان. الثاني : أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة ، أما على قراءة الرفع ففيها وجهان : الأول : أنها موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف المبتدأ كما حذف في "تماماً على الذي أحسن". الثاني : أن تكون استفهامية فإنه لما قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِا أَن يَضْرِبَ مَثَلا} كأنه قال بعده ما بعوضة فما فوقها حتى يضرب المثل به ، بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيراً كما يقال فلان لا يبالي بما وهب ، ما دينار وديناران ، أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير.
المسألة الخامسة : قال صاحب "الكشاف" : ضرب المثل اعتماده وتكوينه من ضرب اللبن وضرب الخاتم.
المسألة السادسة : انتصب بعوضة بأنه عطف بيان لمثلاً أو مفعول ليضرب ومثلاً حال من النكرة مقدم عليه أو ثاني مفعولين ليضرب مضمناً معنى يجعل ، وهذا إذا كانت ما صلة أو إبهامية ، فإن كانت مفسرة ببعوضة فهي تابعة لما هي تفسير له ، والمفسر والمفسر معاً لمجموعهما عطف بيان أو مفعول ، ومثلاً حال مقدمة ، وأما رفعها فبكونها خبر مبتدأ ، أما إذا كانت ما موصولة أو موصوفة أو استفهامية فأمرها ظاهر ، فإذا كانت إبهامية فهي على الجواب كأن فائلاً قال ما هو فقيل بعوضة.
المسألة السابعة : قال صاحب "الكشاف" : اشتقاق البعوض من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت اسميته ، وعن بعضهم اشتقاقه من بعض الشيء سمي به لقلة جرمه وصغره ولأن بعض الشيء قليل بالقياس إلى كله ، والوجه القوي هو الأول ، قال وهو من عجائب خلق الله تعالى فإنه صغير جداً وخرطومه في غاية الصغر ثم إنه مع ذلك مجوف ثم ذلك الخرطوم مع فرط صغره وكونه جوفاً يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص ، / وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
المسألة الثامنة : في قوله : {فَمَا فَوْقَهَا } وجهان : أحدهما : أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله تعالى بكل هذه الأشياء. والثاني : أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها والمحققون مالوا إلى هذا القول لوجوه : أحدها : أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان ، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولاً. وثانيها : أن الغرض ههنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول يقال إن فلاناً يتحمل الذل في اكتساب الدينار ، وفي اكتساب ما فوقه ، يعني في القلة لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار. وثالثها : أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب ، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى ، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير ، واحتج الأولون بوجهين : الأول : بأن لفظ "فوق" يدل على العلو ، فإذا قيل هذا فوق ذاك ، فإنما معناه أنه أكبر منه ويروى أن رجلاً مدح علياً رضي الله عنه والرجل متهم فيه ، فقال علي : أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك ، أراد بهذا أعلى مما في نفسك. الثاني : كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر ؟
والجواب عن الأول : أن كل شيء كان ثبوت صفة فيه أقوى من ثبوتها في شيء آخر كان ذلك الأقوى فوق الأضعف في تلك الصفة يقال إن فلاناً فوق فلان في اللؤم والدناءة. أي هو أكثر لؤماً ودناءة منه ، وكذا إذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغراً منه ، والجواب عن الثاني أن جناح البعوضة أقل منها وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً للدنيا.
المسألة التاسعة : "أما" حرف فيه معنى الشرط ، ولذلك يجاب بالفاء وهذا يفيد التأكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب قلت أما زيد فذاهب ، إذا ثبت هذا فنقول : إيراد الجملتين مصدرتين به أحماد عظيم لأمر المؤمنين وا عتداد بعلمهم أنه الحق وذم عظيم للكافرين على ما قالوه وذكروه.
(1/287)

المسألة العاشرة : "الحق" الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب وحقت كلمة ربك ، وثوب محقق محكم النسج.
المسألة الحادية عشرة : "ماذا" فيه وجهان أن يكون ذا اسماً موصولاً بمعنى الذي فيكون كلمتين وأن يكون ذا مركبة مع ما مجعولين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة فهو على الوجهين : الأول : مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته ، وعلى الثاني : منصوب المحل في حكم ما وحده كما لو قلت ما أراد الله.
/
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
المسألة الثانية عشرة : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة ا لبديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف ، وقال المتكلمون إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع ، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة ، واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره ، ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري : معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف ، وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعرية أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى ، وهو قول الكرامية ، أو قائماً بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد ، أو يكون موجوداً لا في محل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما.
المسألة الثالثة عشرة : الضمير في "أنه الحق" للمثل أو لأن يضرب ، وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو بن العاص : يا عجبا لابن عمرو هذا.
المسألة الرابعة عشرة : "مثلاً" نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ماذا أردت بهذا جواباً ؟
ولمن حمل سلاحاً رديئاً كيف تنتفع بهذا سلاحاً ؟
أو على الحال كقوله : {هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكي عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله : {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا } أجاب عنه بقوله : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا } ونريد أن نتكلم ههنا في الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يرجع إليه في كل ما يجيء في هذا المعنى من الآيات فنتكلم أولاً في الإضلال فنقول : إن الهمزة تارة تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى التعدي كقولك خرج فإنه غير متعدٍ ، فإذا قلت أخرج فقد جعلته معتدياً وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك كببته فأكب ، وقد تجيء لمجرد الوجدان. حكي عن عمرو بن معد يكرب أنه قال لبني سليم : قاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم. أي فما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ولا بخلاء. ويقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة قال المخبل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
فتمنى حصين أن يسود خزاعة
فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
(1/288)

أي وجد ذليلاً مقهوراً/ ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال الهمزة لا تفيد إلا نقل الفعل / من غير المتعدي إلى المتعدي فأما قوله : كببته فأكب ، فلعل المراد كببته فأكب نفسه على وجهه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين وهذا ليس بعزيز. وأما قوله. قاتلناكم فما أجبناكم ، فالمراد ما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء. وما أثر هجاؤنا لكم في صيرورتكم مفحمين ، وكذا القول في البواقي ، وهذا القول الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك. إذا ثبت هذا فنقول قولنا : أضله الله لا يمكن حمله إلا على وجهين : أحدهما : أنه صيره ضالاً ، والثاني : أنه وحده ضالاً أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالاً فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالاً عما ذا وفيه وجهان : أحدهما : أنه صيره ضالاً عن الدين. والثاني : أنه صيره ضالاً عن الجنة ، أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالاً عن الدين فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال : {إِنَّه عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} (القصص : 15) وقال : {وَلاضِلَّنَّهُمْ وَلامَنِّيَنَّهُمْ} (النساء : 119) و{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} (فصلت : 29) وقال : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} (النمل : 24 العنبكوت : 38)) ، وقال الشيطان إلى قوله : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) وأيضاً أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال : {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَه وَمَا هَدَى } واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه ، وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره. وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه ، وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة ، لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالاً كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجاً وداخلاً ، وقالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية ، أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه : أحدها : أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه أضله بل يقال منعه منه وصرفه عنه وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له ، وثانيها : أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين ، مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق ، وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد ، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد ، فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق ، علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال : وثالثها : أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل ، وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال ، وأما بحسب الدلائل العقلية / فمن وجوه : أحدها : أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم ، وقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(1/289)

{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت : 46) وقال : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) وقال : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (ا لحج : 78) وثانيها : لو كان تعالى خالقاً للجهل وملبساً على المكلفين لما كان مبيناً لما كلف العبد به ، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبيناً ، وثالثها : أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثاً وسفهاً. ورابعها : أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (الانشقاق : 20) {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر : 49) ، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى ا إِلا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء : 94) فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان البتة. وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر وقال : {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} (الكهف : 55) وقال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (لبقرة : 28) وقال : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} وقال : {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة. وخامسها : أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى قوله : {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ} (المؤمنين : 97) ، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} (النحل : 98) فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم ، ولوجب أن يتخذوه عدواً من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدواً لأجل ذلك ، قالوا بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعاً بالكلية عن إبليس وعائداً إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين. وسادسها : أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك ، فقال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(1/290)

{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَه وَمَا هَدَى } (طه : 79) ، {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} (طه : 85) ، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّه } (الأنعام : 116) ، {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص : 26) وقوله تعالى حاكياً عن إبليس : {وَلاضِلَّنَّهُمْ وَلامَنِّيَنَّهُمْ وَلامُرَنَّهُمْ} (النساء : 119) فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه ، والله متعالٍ عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركاً لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساوٍ لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله / تعالى. وسابعها : أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوباً إلى العصاة على ما قال : {وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ} (البقرة : 26). {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ } (إبراهيم : 27) ، {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} (المائدة : 67) ، {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} (غافر : 34) ، {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} (غافر : 28) فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه كان كذلك إثباتاً للثابت وهذا محال. وثامنها : أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث أنهم لا يهدون إلى الحق قال : {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّى إِلا أَن يُهْدَى } (يونس : 35) فنفي ربوبية تلك الأشياء من حيث أنها لا تهدي وأوجب ربوبية نفسه من حيث أنه سبحانه وتعالى يهدي فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم ، بل كان قد أربى عليهم ، لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل ، وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل. وتاسعها : أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه ، فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديداً بأمرهم له ملابسون ، وعليه مقبولون ، وبه ملتذون ومغتبطون ، ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر ، وهذا لا يجوز. وعاشرها : أن قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
{وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِه } (البقرة : 26 ، 27) صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه ، فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقاً وناقضاً للعهد مغاير لفسقه ونقضه ، وحادي عاشرها : أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه ، إما بكونه ابتلاءً وامتحاناً ، أو بكونه عقوبة ونكالاً ، فقال في الابتلاء : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا مَلَئِكَةًا وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } أي امتحاناً إلى أن قال : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } (المدثر : 31) فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلاً متشابهاً لا يعرف حقيقة الغرض فيه ؛ والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِه } (آل عمران : 7) وأما العقوبة والنكال فكقوله : {إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ} (غافر : 71) إلى أن قال : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} فبين أن إضلاله لا يعدوا أحد هذين الوجهين وإذا كان الإضلال مفسراً بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسراً بغيرهما دفعاً للاشتراك ، فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال وإذا ثبت ذلك فنقول بينا أن الإضلال في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل ، والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات. أحدها : أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في إضلاله فيقال لذلك الشيء إنه أضله قال تعالى في / حق الأصنام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36) أي ضلوا بهن ، وقال :
(1/291)

جزء : 3 رقم الصفحة : 360
{وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } (نوح : 23 ، 24) أي ضل كثير من الناس بهم وقال : {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـانًا وَكُفْرًا } (المائدة : 64) وقال : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 6) أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فراراً وقال : {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى ا أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} (المؤمنون : 110) وهم لم ينسوهم في الحقيقة بل كانوا يذكرونهم الله ويدعوهنم إليه ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سبباً لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم وقال في براءة : {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِه إِيمَـانًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَـانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَـافِرُونَ} (التوبة : 124 ، 125) فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيماناً ، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفراً ، فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة ، إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضاً ، فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم وقال في سورة المدثر : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا ملائكة وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ} (لمدثر : 31) فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله : {مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } (المدثر : 31) فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معاً ، فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان ويقال في العرف أيضاً. أمرضني الحب أي مرضت به : ويقال قد أفسدت فلانة فلاناً وهي لم تعلم به ، وقال الشاعر :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
أي يغري الملوم باللوم ، والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات ففي هذه الآية الكفار لما قالوا : ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها واشتد عليهم هذا الامتحان حسنت هذه الإضافة. وثانيها : أن الإضلال هو التسمية بالضلال فيقال أضله أي سماه ضالاً وحكم عليه به وأكفر فلان فلاناً إذا سماه كافراً وأنشدوا بيت الكميت :
فوطائفة قد أكفروني بحبكم
وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقال طرفة :
فوما زال شربي الراح حتى أضلني
صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالاً وهذا الوجه مما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة ، ومن أهل اللغة من أنكره وقال إنما يقال ضللته تضليلاً إذا سميته ضالاً ، وكذلك فسقته وفجرته إذا سميته فاجراً فاسقاً ، وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالاً لزمه أن يصير محكوماً عليه بالضلال فهذا الحكم / من لوازم ذلك التصيير ، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضاً لأن الرجل إذا قال لآخر : فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالاً ويكون المعنى لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على الحكم والتسمية. وثالثها : أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر ، فيقال أضله إذا خلاه وضلاله قالوا ومن مجازه قولهم : أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه إذا لم يتعهده بالتأديب ، ومثله قول العرجي :
فأضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
(1/292)

ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدىء : أفسدت سيفك وأصدأته. ورابعها : الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 47 ، 48) فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلا عذابهم وقال تعالى : {إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّه قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} (غافر : 71 ـ 74) فسر ذلك الضلا بالعذاب. وخامسها : أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ} (محمد : 1) قيل أبطلها وأهلكها ومن مجازه قولهم : ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً فيه ويقال أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم ومنه يقال أضل القوم ميتهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى ، قال النابغة :
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
فوآب مضلوه بعين جلية
وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال تعالى : {وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدا بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَـافِرُونَ} (السجدة : 10) أي أئذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا فيحتمل على هذا المعنى يضل الله إنساناً أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه ، فهذه الوجوه الخمسة إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الدين. وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنة ، قالت المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليس تأويلاً بل حملاً للفظ على ظاهره فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم ، فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل وهو اختيار الجبائي قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّه مَن تَوَلاهُ فَأَنَّه يُضِلُّه وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي يضله عن الجنة وثوابها. هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية. وسابعها : أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان على ما تقدم في أول هذه المسألة بيانه فيقال أضل فلان بعيره أي ضل عنه فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين. وثامنها : أن يكون قوله تعالى : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا } من تمام قول الكفار فإنهم قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ثم قالوا : يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وذكروه على / سبيل التهكم فهذا من قول الكفار ثم قال تعالى جواباً لهم : {وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ} أي ما أضل به إلا الفاسق. هذا مجموع كلام المعتزلة ، وقالت الجبرية لقد سمعنا كلامكم واعترفنا لكم بجودة الإيراد وحسن الترتيب وقوة الكلام ولكن ماذا نعمل ولكم أعداء ثلاثة يشوشون عليكم هذه الوجوه الحسن ؟
والدلائل اللطيفة : أحدها : مسألة الداعي وهي أن القادر على العلم والجهل والإهداء والإضلال لم فعل أحدهما دون الآخر ؟
وثانيها : مسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وما رأينا لكم في دفع هذين الكلامين كلاماً محيلاً قوياً ونحن لا شك نعلم أنه لا يخفى عليكم مع ما معكم من الذكاء الضعف عن تلك الأجوبة التي تكلموا بها فكما أنصفنا واعترافنا لكم بحسن الكلام الذي ذكرتموه فأنصفوا أيضاً واعترفوا بأنه لا وجه لكم عن هذين الوجهين فإن التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء. وثالثها : أن فعل العبد لو كان بإيجاده لما حصل إلا الذي قصد إيجاده لكن أحداً لا يريد إلا تحصيل العلم والاهتداء ، ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال فكيف يحصل الجهل والإضلال للعبد مع أنه ما قصد إلا تحصيل العلم والاهتداء ؟
فإن قيل إنه اشتبه عليه الكفر بالإيمان والعلم بالجهل فظن في الجهل أنه علم فقصد إيقاعه فلذلك حصل له الجهل قلنا ظنه في الجهل أنه علم ظن خطأ فإن كان اختاره أولاً فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه وذلك غير ممكن وإن قلنا إنه اشتبه عليه ذلك بسبب ظن آخر متقدم عليه لزم أن يكون قبل كل ظن ظن لا إلى نهاية وهو محال. ورابعها : أن التصورات غير كسبية والتصديقات البديهية غير كسبية والتصديقات بأسرها غير كسبية فهذه مقدمات ثلاثة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 360
(1/293)