الكتاب : تفسير الشعراوي
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
بعد أن تكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن مسألة حِفْظ الفروج ودعا إلى الحفاظ على طهارة الأنساب ، أراد أنْ يتكلم عن هؤلاء الرجال أو النساء الذين لم يتيسَّر لهم أمر الزواج؛ ذلك ليعالج الموضوع من شتى نواحيه؛ لأن المشرِّع لا بُدَّ أن يستولي بالتشريع على كُلِّ ثغرات الحياة فلا يعالج جانباً ويترك الآخر .
و { الأيامى . . } [ النور : 32 ] جمع أيِّم ، والأيِّم من الرجال مَنْ لا زوجةَ له ، والأيِّم من النساء مَنْ لا زوجَ لها .
ونلحظ أن الأمر في { أَنْكِحُواْ . . } [ النور : 32 ] جاء هكذا بهمزة القَطْع ، مع أن الأمر للواحد ( انكح ) بهمزة الوصل ، ذلك لأن الأمر هنا ( أنكحوا ) ليس للمفرد الذي سينكح الأيِّم ، إنما لغيره أنْ يُنكحه ، والمراد أمر أولياء الأمور ومَنْ عندهم رجال ليس لهم زوجات ، أو نساء ليس لَهُنَّ أزواج : عَجِّلوا بزواج هؤلاء ، ويسِّروا لهم هذه المسألة ، ولا تتشددوا في نفقات الزواج حتى تُعِفُّوا أبناءكم وبناتكم ، وإذا لم تعينوهم فلا أقلَّ من عدم التشدد والمغالاة .
وفي الحديث الشريف : " إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه ، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " .
ومع ذلك في مجتمعاتنا الكثير من العادات والتقاليد التي تعرقل زواج الشباب أخطرها المغالاة في المهور وفي النفقات والنظر إلى المظاهر . . إلخ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لأولياء الأمور : يسِّروا للشباب أمور الالتقاء الحلال ومهَّدوا لهم سبيل الإعفاف .
وقد أعطانا القرآن نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه وليُّ الأمر ، فقال تعالى عن سيدنا شعيب عليه السلام : { قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ . . } [ القصص : 27 ] ذلك لأن موسى - عليه السلام - سيكون أجيراً عنده ، وربما لا يتسامى إلى أن يطلب يد ابنته؛ لذلك عرضها عليه وخطبه لها وشجَّعه على الإقبال على زواجها ، فأزال عنه حياء التردد ، وهكذا يجب أن يكون أبو الفتاة إنْ وجد لابنته كفؤاً ، فلا يتردد في إعفافها .
وقوله تعالى : { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ . . } [ النور : 32 ]
وقوله صلى الله عليه وسلم : " تُنكح المرأة لأربع : لمالها ، وجمالها ، وحسبها ودينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
ولما سُئِل الحسن - رضي الله عنه - عن مسألة الزواج قال لوالد الفتاة الذي جاء يستشيره : زوِّجها مَنْ تأمنه على دينه ، فإنْ أحبَّ ابنتك أكرمها ، وإن كرهها لم يظلمها . وماذا يريد الإنسان في زوج ابنته أكثر من هذا؟
فالدين والخُلق والقيم السامية هي الأساس الذي يُبني عليه الاختيار ، أما المال فهو شيء ثانوي وعَرَض زائل؛ لذلك يقول تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ . . } [ النور : 32 ] .
فالفقر قد يكون سبباً في عدم الإقبال على البنت ، أو عدم إقبال أهل البنت على الزوج ، لكن كيف يتخلى الله عَنَّا ونحن نتقيه ونقصد الإعفاف والطهر؟ لا يمكن أن يضن الله على زوجيْن التقيا على هذه القيم واجتمعا على هذه الآداب ، ومَنْ يدريك لعل الرزق يأتي للاثنين معاً ، ويكون اجتماعهما في هذه الرابطة الشرعية هو باب الرزق الذي يفتح للوجهين معاً؟
{ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 32 ] فعطاء الله دائم لا ينقطع؛ لأن خزائنه لا تنفد ولا تنقص ، والإنسان يُمسِك عن الإنفاق؛ لأنه يخاف الفقر ، أمّا الحق - تبارك وتعالى - فيعطي العطاء الواسع؛ لأن ما عنده لا ينفد .
(1/6324)

ثم يقول الحق سبحانه : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ . . } .
(1/6325)

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
في حالة إذا لم ننكح الأيامى ، ولم نُعِنهم على الزواج ، ولم يقدروا هم على القيام بنفقاته يصف لهم الحق - سبحانه وتعالى - العلاج المناسب ، وهو الاستعفاف ، وقد طلب الله تعالى من المجتمع الإسلامي سواء - تمثَّل في أولياء الأمور أو في المجتمع العام - أن ينهض بمسألة الأيامى ، وأنْ يعينهم على الزواج ، فإنْ لم يقُمْ المجتمع بدروه ، ولم يكُنْ لهؤلاء الأيامى قدرة ذاتية على الزواج ، فليستعفف كل منهم حتى يغنيهم الله ، مما يدل على أن التشريع يبني أحكامه ، ويُراعي كل الأحوال ، سواء أطاعوا جميعاً أو عَصَوْا جميعاً .
وقوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ . . } [ النور : 33 ] يعني : يحاول العفاف ويطلبه ويبحث عن أسبابه ، يجاهد أن يكون عفيفاً ، وأول أسباب العفاف أن يغضَّ بصره حين يرى ، فلا يوجد له مُهيِّج ومثير ، فإنْ وجد في نفسه فُتوة وقوة فعلية أن يُلجمها ويُضعِفها بالوسائل الشرعية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما معشر الشباب مَنِ استطاع منكم الباءة - يعني : نفقات الحياة الزوجية - فليتزوج ، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .
والصوم يعمل على انكسار هذه الشهوة ويُهدِّيء من شراسة الغريزة؛ ذلك لأنه يأكل فقط ما يقيم أَوْدَه ، ولا يبقى في بدنه ما يثير الشهوة ، كما جاء في الحديث الشريف : " بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه . . . " .
أو : أن يُفرِّغ الشاب نفسه للعمل النافع المفيد الذي يشغله ويستنفد جَهْده وطاقته ، التي إن لم تصرف في الخير صرفت في الشر ، وبالعمل يثبت الشاب ذاته ، ويثق بنفسه ، ويكتسب الحلال الذي يُشجِّعه مع الأيام على الزواج وتحمُّل مسئولياته .
لذلك قال تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ . . } [ النور : 33 ] ولم يقُلْ : وليعف ، فالمعنى ليسلك سبيل الإعفاف لنفسه وليسْعَ إليه ، بأن يمنع المهيِّج بالنظر ويُهدئ شراسة الغريزة بالصوم ، أو بالعمل فيشغل وقته ويعود آخر النهار متعباً يريد أن ينام ليقوم في الصباح لعمله نشيطاً ، وهكذا لا يجد فرصة لشيء مما يغضب الله .
ومعنى : { الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً . . } [ النور : 33 ] أي : بذواتهم قدرة أو بمجتمعهم معونة .
وقوله تعالى : { حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ . . } [ النور : 33 ] يدل على أن الاستعفاف وسيلة من وسائل الغنى؛ لأن الاستعفاف إنما نشأ من إرادة التقوى ، وقد قال تعالى في قضية قرآنية : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] فمن هذا الباب يأتيه غِنَى الله .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ . . } [ النور : 33 ] .
الكتاب : معروف أنه اجتماع عدة أشياء مكتوبة في ورق ، والمراد هنا المكاتبة ، وهي أن تكتب عَقْداً بينك وبين العبد المملوك ، تشترط فيه أن يعمل لك كذا وكذا بعدها يكون حراً ، إنْ أدَّى ما ذكر في عَقْد المكاتبة .
(1/6326)

{ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً . . } [ النور : 33 ] يعني : إنْ كانت حريتهم ستؤدي إلى خير كأنْ ترفع عنهم ذِلَّة العبودية ، وتجعلهم ينشطون في الحياة نشاطاً يناسب مواهبهم .
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - هذه المكاتبة مَصْرفاً من مصارف الزكاة ، فقال تعالى : { وَفِي الرقاب . . } [ البقرة : 177 ] يعني : المماليك الذين نريد أنْ نفكَّ رقابهم من أَسْر العبودية وذُلِّها بالعتق ، وإنْ كان مال الزكاة يُدفع للفقراء وللمساكين . . إلخ ففي الرقاب يدفع المال للسيد ليعتق عبده .
كما جعل الإسلام عِتْق الرقاب كفارةً لبعض الذنوب بين العبد وبين ربه؛ ذلك لأن الله تعالى يريد أن يُنهي هذه المسألة .
{ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ . . } [ النور : 33 ] .
الحق - تبارك وتعالى - هو الرازق ، والمال في الحقيقة مال الله ، لكن إنْ ملّكك وطلب منك أن تعطي أخاك الفقير يحترم ملكيتك ، ولا يعود سبحانه في هِبَته لك؛ لذلك يأخذ منك الصدقة على أنها قَرْض لا يردُّه الفقير ، إنما يتولى ربك عز وجل رَدَّه ، فيقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً . . } [ البقرة : 245 ] ولم يقُلْ سبحانه : يقرض فلاناً ، وإنما يُقرِض الله لأنه تعالى هو الخالق ، ومن حق عبده الذي استدعاه للوجود أنْ يرزقه ويتكفّل له بقُوتِه .
واحترام الملكية يجعل الإنسان مطمئناً على آثار حركة حياته وثمره جهده ، وأنها ستعود عليه ، وإلاّ فما الداعي للعمل ولبذل المجهود إنْ ضاعت ثمرته وحُرِم منها صاحبها؟ عندها ستتعطل مصالح كثيرة وسيعمل الفرد على قَدْر حاجته فحسب ، فلا يفيض عنه شيء للصدقة .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 33 ] .
يُقَال للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل : عبدي وأَمَتي إنما يقول : فتاي وفتاتي ، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع ، فالفتى من الفُتوّة والقوة كأنك تقول : هذا قوتي الذي يساعدني ويعينني على مسائل الحياة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع من شأنهم .
ومن هؤلاء جماعة المماليك الذين حكموا مصر في يوم من الأيام ، وكانوا من أبناء الملوك والسلاطين والأعيان .
والبغاء ظاهرة جاء الإسلام فوجدها منتشرة ، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهُنّ راية تدل عليهن ، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن ، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق ، وكان عنده ( مسيكة ، ومعاذه ) وفيه نزلت هذه الآية .
وتأويل الآية : لا تُكرِهوا الإماء على البغاء ، وقد كُنَّ يبكين ، ويرفضْنَ هذا الفعل ، وكُنَّ يؤذيْنَ ويتعرضْنَ للغمز واللمز ، ويتجرأ عليهن الناس ، وكان من هؤلاء الإماء بنات ذوات أصول طيبة شريفة ، لكن ساقتهن الأقدار إلى السَّبْي في الحروب أو خلافه ، في حين أن الحرة العفيفة تسير لا يتعرض لها أحد بسوء .
(1/6327)

ومعنى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً . . } [ النور : 33 ] يتكلم القرآن هنا عن الواقع بحيث إنْ لم يُرِدْن تحصُّناً فلا تُكرهِوهُنَّ { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا . . } [ النور : 33 ] طلباً للقليل من المال الزائل { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 33 ] لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدن شرط الاختيار ، فلا يتحملن ذنب هذه الجريمة ، عملاً بالحديث النبوي الشريف : " رُفِع عن أمتي : الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه " .
لذلك يُطمئِن الحق - تبارك وتعالى - هؤلاء اللاتي يُرِدْنَ التحصُّن والعفاف ، لكن يكرههن سيدهن على البغاء ، ويُرغمهن بأيِّ وسيلة : اطمئنن فلا ذنبَ لَكُنَّ في هذه الحالة ، وسوف يُغفر لَكُنَّ والله غفور رحيم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ . . } .
(1/6328)

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
المعنى : لا عذر لكم؛ لأن الله تعالى قد أنزل إليكم الآيات الواضحة التي تضمن لكم شرف الحياة وطهارتها ونقاء نسل الخليفة لله في الأرض ، وهذه الآيات ما تركتْ شيئاً من أقضية الحياة إلا تناولتْه وأنزلتْ الحكم فيه ، وقد نلتمس لكم العذر لو أن في حياتكم مسألة أو قضية ما لم يتناولها التشريع ولم ينظمها .
لذلك يقول سيدنا الإمام علي - رضي الله عنه - عن القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، هو الفَصْل ليس بالهَزْل ، مَنْ تركه من جبار قصمه الله ، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضله الله .
ولا يزال الزمان يُثبِت صِدْق هذه المقولة ، وانظر هنا وهناك لتجد مصارع الآراء والمذاهب والأحزاب والدول التي قامت لتناقض الإسلام ، سواء كانت رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة . إلخ . كلها انهارت على مَرْأىً ومَسْمع من الجميع .
نعم ، مَنْ تركه من جبار قصمه الله ، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله ، لأنه خالقك ، وهو أعلم بما يُصلحك ، فلا يليق بك - إذن - أن تأخذ خَلْق الله لك ثم تتكبر عليه وتضع لنفسك قانوناً من عندك أنت .
وسبق أنْ قُلْنا : إن الآيات تطلق على ثلاثة إطلاقات : الآيات الكونية التي تلفتك إلى الصانع المبدع عز وجل ، وعلى المعجزات التي تأتي لتثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله ، وتُطلق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن الكريم ، وفي القرآن هذا كله .
وقوله تعالى : { وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [ النور : 34 ] .
أي : جعلنا لكم موعظة وعبرة بالأمم السابقة عليكم ، والتي بلغت شأوها في الحضارة ، ومع ذلك لم تملك مُقوِّمات البقاء ، ولم تصنع لنفسها المناعة التي تصونها فانهارت ، ولم يبق منهم إلا آثار كالتي نراها الآن لقدماء المصريين ، وقد بلغوا من الحضارة منزلةً أدهشت العالم المتقدم الحديث ، فيأتون الآن متعجبين : كيف فعل قدماء المصريين هذه الحضارة؟
وكان أعظم من حضارة الفراعنة حضارة عاد التي قال الله عنها : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 6 - 14 ] يعني : لن يفلت من المخالفين أحد ، ولن ينجو من عذاب الله كافر .
والمثَل كذلك في مسألة الزنا وقَذْف المحصنات العفيفات ، كحادثة الإفك التي سبق الكلام عنها ، وأنها كانت مَثَلاً وعِبرةً ، كذلك كانت قصة السيدة مريم مثلاً وقد اتهمها قومها ، وقالوا : { ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] .
وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز ، وكلها مسائل تتعلق بالشرف ، ولم تَخْلُ من رَمْي العفيفات المحصنات ، أو العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام .
وهذه الآيات مبينات للوجود الأعلى في آيات الكون ، مُبينات لصِدْق المبلِّغ عن الله في المعجزات ، مُبيِّنات للأحكام التي تنظم حركة الحياة في آيات القرآن ، ثم أريناهم عاقبة الأمم السابقة سواء مَنْ أقبل منهم على الله بالطاعة ، أو مَنْ أعرض عنه بالمعصية ، ولا يستفيد من هذه المواعظ والعِبَر إلا المتقون الذين يخافون الله وتثمر فيهم الموعظة .
(1/6329)

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قلنا : فإن الله تعالى أعطانا النور الحسيِّ الذي نرى به مرائي الأشياء ، وجعله وسيلة للنور المعنوي ، وقلنا إن الدنيا حينما تظلم ينير كل مِنّا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة ، فإذا ما طلعتْ الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل مِنَّا نوره؛ لأن نور الله كافٍ ، فكما أن نور الله كافٍ في الحسيات فنوره أيضاً كافٍ في المعنويات .
فإذا شرع الله حكماً معنوياً يُنظِّم حركة الحياة ، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم ، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره ، والأمر واضح في الآيات الكونية .
{ الله نُورُ السماوات والأرض . . } [ النور : 35 ] كما نقول ولله المثل الأعلى : فلان نوَّر البيت ، فالآية لا تُعرِّف الله لنا ، إنما تُعرِّفنا أثره تعالى فينا ، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض ، وهما أوسع شيء نتصوره ، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحاً غيرَ خفيّ .
ثم يضرب لنا ربنا - عز وجل - مثلاً توضيحياً لنوره ، فيقول : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . . } [ النور : 35 ] أي : مثَلُ تنويره للسموات وللأرض { كَمِشْكَاةٍ . . } [ النور : 35 ] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديماً في الجدار ، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة ، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قوياً ، ولا يصنع ظِلاً أمام مسار الضوء .
والمصباح : إناء صغير يُوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد ، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلاً ، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخاناً؛ لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق؛ لذلك جعلوا على الفتيل حاجزاً من الزجاج ليمنع عنه الهواء ، فيأتي الضوء منه صافياً لا دخانَ فيه ، وكانوا يسمونه ( الهباب ) .
وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته ، ومن ذلك قوله تعالى : { المصباح فِي زُجَاجَةٍ . . } [ النور : 35 ] لكنها ليست زجاجة عادية ، إنما زجاجة { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ . . } [ النور : 35 ] يعني : كوكب من الدُّرِّ ، والدُّر ينير بنفسه .
كذلك زَيْتها ليس زيتاً عادياً ، إنما زيت زيتونة مباركة .
يقول الحق سبحانه : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } [ النور : 35 ] .
يعني : شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية ، يعني : لا شرقية لأنها غربية ، ولا غربية لأنها شرقية ، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء ، لكن كيف ذلك؟
قالوا : لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً ، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً ، إذن : يطرأ عليها نور وظلمة ، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية ، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء .
وهذا يؤثر في زيتها ، فتراه من صفائه ولمعانه { يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [ النور : 35 ] ، وتعطي الشجرة الضوء القوي الذي يناسب بنوتها للشمس ، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا ، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها ، ومنها تستمد نورها ، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس .
(1/6330)

إذن : مَثْلُ تنوير الله للسموات وللأرض مثل هذه الصورة مكتلمة كما وصفنا ، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات ، أيكون بها موضع مظلم؟ فالسموات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة ، والمثل هنا ليس لنور الله ، إنما لتنويره للسموات وللأرض ، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أنْ يُوصَف . وما المثَل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان .
وسبق أنْ ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب ، فقال :
إقْدَامُ عَمْرٍ فِي سَمَاحَةٍ حَاتمٍ ... في حِلْم أحنفَ في ذَكَاءِ أيَاسِ
فجمع للخليفة كل هذه الصفات ومدحه بأشهر الخصال عند العرب؛ لذلك قام إليه أحد الحاقدين وقال معترضاً عليه : كيف تشبه الخليفة بصعاليك العرب؟ فالأمير فوق مَنْ وصفتَ .
فأكمل أبو تمام على البديهة وبنفس الوزن والقافية :
لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً ... شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ
فَاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لنُورِهِ ... مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِ
فالله تبارك وتعالى هو نور السموات والأرض أي : مُنوِّرهما ، وهذا أمر واضح جداً حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون ، بحيث لا يظهر معه نور آخر ، وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد ، لكن يغلب على نورها نور الشمس ، على حَدٍّ كقول الشاعر في المدح :
كأنكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكبٌ ... إذَا ظَهَرتْ لَمْ يَبْدُ منهُنّ كوكَبُ
ثم يقول سبحانه : { نُّورٌ على نُورٍ } [ النور : 35 ] فلم يتركنا الحق سبحانه وتعالى في النور الحسيِّ فقط ، إنما أرسل إلينا نوراً آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة ، كأنه تعالى يقول لنا : بعثت إليكم نوراً على نور ، نور حِسيِّ ، ونور قيمي معنوي ، وإذا شهدتم أنتم بأن نوري الحسيّ ينير لكم السموات والأرض ، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنواركم ، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغَى على كل مناهجكم ، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله .
وقوله تعالى : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] أي : لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف ، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور ، وإنِ اهتدوا إلى النور الحسيِّ في الشمس والقمر وانتفعوا به ، وأطفأوا له مصابيحهم ، لكن لم يكُنْ لهم حظ في النور المعنوي ، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلوبهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به .
وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مِثْلُ نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه ، لذلك جاء في أثر علي بن أَبي طالب : " من تركه من جبَّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله " .
والعجيب أن العبد كلما توغل في الهداية ازداد نوراً على نور ، كما قال سبحانه : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] .
وقال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
ثم يقول تعالى : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ } [ النور : 35 ] .
يعني للعبرة والعِظة مثل المثل السابق لنوره تعالى { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [ نور : 35 ] .
(1/6331)

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
بدأت الآية بالجار والمجرور { فِي بُيُوتٍ } [ النور : 36 ] ولا بُدَّ أن نبحث له عن متعلق ، فالمعنى : هذا النور الذي سبق الحديث عنه في بيوت أَذِن الله أن تُرفع . والبيت : هو ما أُعِدَّ للبيتوتة ، بل لمعيشة الحياة الثابتة ، وإليه يأوي الإنسان بعد عناء اليوم وطوافه في مناكب الأرض ، والبيت على أية صورة هو مكان الإنسان الخاص الذي يعزله عن المجتمع العام ، ويجعل له خصوصية في ذاته ، وإلا فالإنسان لا يرضى أن يعيش في ساحة عامة مع غيره من الناس .
وهذه الخصوصية في البيوت يتفاوت فيها الناس وتتسامى حسْب إمكاناتهم ، وكل إنسان يريد أنْ يتحيّز إلى مكان خاص به؛ لأن التحيّز أمر مطلوب في النفس البشرية : الأسرة تريد أن تتحيز عن المجتمع العام ، والأفراد داخل الأسرة يريدون أن يتحيزوا أيضاً ، كل إلى حجرة تخصه ، وكذلك الأمر في اللباس ، ذلك لأن لكل واحد منا مساتير بينه وبين نفسه ، لا يحب أن يطلع عليها أحد .
وقد اتخذ الله له بيتاً في الأرض ، هو أول بيت وُضِع للناس ، كما قال الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [ آل عمران : 96 ] .
وهذا هو بيت الله باختيار الله ، ثم تعددتْ بيوت الله التي اختارها خَلْق الله ، فكما اتخذتم لأنفسكم بيوتاً اتخذ الله لنفسه بيوتاً { أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } [ النور : 36 ] وأنتم جميعاً عباد الله وعيال الله ، وسوف تجدون الراحة في بيته تعالى كما تجدون الراحة في بيوتكم ، مع الفارق بين الراحة في بيتك والراحة في بيت الله .
الراحة في بيوتكم راحة حِسِّية بدنية في صالون مريح أو مطبخ مليء بالطعام ، أمّا في بيت الله فالراحة معنوية قيمية؛ لأن ربك عز وجل غيْبٌ فيريحك أيضاً بالغيب .
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة ليُلقي باحماله على ربه . وماذا تقول في صنعة تُعرض على صانعها مرة واحدة كل يوم ، أيبقى بها عطل أو فساد؟ فما بالك إنْ عُرِضَتْ على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة؟
فربُّكَ يدعوك إلى بيته ليريحك ، وليحمل عنك همومك ، ويصلح ما فسد فيك ، ويفتح لك أبواب الفرج . إذن فنور على نور هذه لا تكون إلا في بيوت الله التي أذِن سبحانه أن تُرفعَ بالذكر وبالطاعات وترفع عما يحل في الأماكن الأخرى وتعظم .
فالبيوت كلها لها مستوى واحد ، لكن ترفع بيوت عن بيوت وتُعلَّى وقد رُفِعَت بيوت الله بالطاعة والعبادة ، فالمسجد مكان للعبادة لا يُعصَى الله فيه أبداً على خلاف البيوت والأماكن الأخرى ، فعظّم الله بيوته أن يُعْصَى فيها ، وعظّم روادها أن يشتغلوا فيها بسفاسف الأمور الحياتية الدنيوية ، فعليك أن تترك الدنيا على باب المسجد كما تترك الحذاء .
(1/6332)

لذلك نهى الإسلام أن نعقد صفقة في بيت الله ، أو حتى ننشد فيه الضالة؛ لأن الصفقة التي تُعقَد في بيت الله خاسرة بائرة ، والضالة التي ينشدها صاحبها فيه لا تُردُّ عليه ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول لمن يفعل هذا بالمسجد " لا ردها الله عليكم " .
وإنْ جعل الله الأرض كلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً ، لكن فَرْقٌ بين الصلاة في المسجد والصلاة في أيِّ مكان آخر ، المسجد خُصِّص للعبادة ، ولا نذكر فيه إلا الله ، أمّا الأماكن الأخرى فتصلح للصلاة ، وأيضاً لمزاولة أمور الدنيا .
وإلا ، فكيف تعيش كل وقتك لأمور الدنيا على مدار اليوم والليلة ، ثم تستكثر على ربك هذه الدقائق التي تؤدي فيها فَرْض الله عليك فتجرجر الدنيا معك حتى في بيت الله؟ ألا تعلم أن بيوت الله ما جُعِلت إلا لعبادة الله؟ لابد للمؤمن أن يترك دُنْياه خارج المسجد ، وأن ينوي الاعتكاف على عبادة ربه والمداومة على ذِكْره في بيته ، فلا يليق بك أن تكون في بيت الله وتنشغل بغيره .
فإن التزمتَ بآداب المسجد تلقيتَ من ربك نوراً على نور ، وزال عن كاهلك الهمّ والغم وحُلَّت مشاكلك من حيث لا تحتسب .
إذن : فالحق تبارك وتعالى جعل في الفطرة الإيمانية أن تؤمن بإله ، فالإيمان أمر فطري مهما حاول الإنسان إنكاره ، فالكافر الذي ينكر وجود الله ساعة يتعرَّض لأزمة لا منجاةَ منها بأسباب البشر تجده تلقائياً يتوجه إلى الله يقول : يا رب ، لا يمكن أن يكذبَ على نفسه في هذه الحالة أو يُسلم نفسه ويبيعها رخيصة .
وفي ذلك يقول تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } [ الزمر : 8 ] .
ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع } [ الجمعة : 9 ] .
فذكر طرفاً واحداً من عملية التجارة وهو البيع ، ولم يقل : والشراء ، قالوا : لأنه حين يُمنع البيع يُمنع الشراء في الوقت نفسه؛ ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره ، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء ، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال .
إذن : قوله تعالى : { وَذَرُواْ البيع } [ الجمعة : 9 ] إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها ، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع؛ لذلك يحزن البائع إذا لم يَبِعْ ، أما المشتري فيقول حين لا يجد الشيء أو يجد المحل مُغلَقاً : بركة يا جامع .
ثم إذا انتهتْ الصلاة يعيدنا من حديد إلى حركة الحياة :
(1/6333)

{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] .
كأنك ذهبتَ للمسجد لتأخذ شحنة إيمانية تعينك وتسيطر على كُلِّ حواسك في حركتك في التجارة ، وفي الإنتاج ، وفي الاستهلاك ، وفي كل ما ينفعك ويُنمي حياتك . وحين يأمرك ربك أن تفرغ لأداء الصلاة لا يريد من هذا الفراغ أن يُعطّل لك حركة الحياة ، إنما ليعطيك الوقود اللازم لتصبح حركة حياتك على وَفْق ما أراده الله . وما أشبه هذا الوقت الذي نختزله من مصالح دنيانا في عبادة الله بشحن بطارية الكهرباء ، فحين تذهب بالبطارية إلى جهاز الشحن لا نقول : إنك عطلت البطارية إنما زدتَ من صلاحيتها لأداء مهمتها وأخْذ خيرها .
فأنت تذهب إلى بيت الله بنور الإيمان ، وبنور الاستجابة لنداء : الله أكبر ، فتخرج بأنوار متعددة من فيوضات الله؛ لذلك ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً لها النور بالمصباح الذي يتنامى نوره ويتصاعد؛ لأنه في زجاجة تزيد من ضوئه؛ لأنها مثل كوكب دُريٍّ والنور يتصاعد؛ لأنها بزيت زيتونة ، ويتصاعد لأنها شرقية وغربية في آن واحد ، إذن : عندنا ألوان متعددة في المثل ، فكذلك النور في بيوت الله .
لذلك قال بعض العارفين : أهل الأرض ينظرون في السماء نجوماً متلألئة ، والملائكة في السماء ينظرون نجوماً متلألئة من بيوت الله ، ولا عجبَ في ذلك لأنها أنوار الله تتلألأ وتتدفق في بيته وفي مسجده ، وكيف نستبعد ذلك ونحن نرى نور الشمس كيف يفعل حينما يعكس على سطح القمر فيُلقِي إلينا بالضوء الذي نراه؟ والشمس والقمر أثر من آثار نور الله الذي يَسْطع في بيوت الله ، ألاّ يعطينا ذلك الإشعاع الذي يفوق إشعاع البدور؟
ثم يقول تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] .
فالمساجد جُعِلَتْ لتسبيح الله؛ لذلك كان بعض الصالحين إذا نزل بلداً يتحيل أن ينزلها في غير وقت الصلاة ، ثم يذهب إلى المسجد فإنْ وجده عامراً في غير وقت الصلاة بالمسبحين علم أن هؤلاء ملتزمون بمنهج الله ، حيث يجلسون قبل وقت الصلاة يُسبِّحون الله وينتظرون الصلاة ، وإنْ وجد الحال غير ذلك انصرف عنها وعلم أنها بلد لا خيرَ فيها .
والغُدوُّ : يعني الصباح ، والآصال : يعني المساء ، فهي لا تخلو أبداً من ذكْر الله وتسبيحه ، وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله }
(1/6334)

رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
قلنا : إن التجارة هي قمة حركة الحياة؛ لأنها واسطة بين منتج زارع أو صانع وبين مستهلك ، وهي تقتضي البيع والشراء ، وهما قمة التبادلات ، وهؤلاء الرجال لم تُلْهِهِمْ التجارة عن ذِكْر الله لأنهم عرفوا ما في الزمن المستقطع للصلاة من بركة تنثر في الزمن الباقي .
أو نقول : إن التجارة لم تُلْههم عن ذِكْر الله في ذاتها ، فهُمْ حالَ تجارتهم لا يغفلون عن ذكر الله ، وقد كنا في الصِّغَر نسمع في الأسواق بين البائع والمشتري ، يقول أحدهما للآخر : وحدِّ الله ، صَلِّ على النبي ، مدَّح النبي ، بالصلاة على النبي ، كل هذه العبارات انقرضت الآن من الأسواق والتعاملات التجارية وحَلَّ محلَّها قيم وعبارات أخرى تعتمد على العَرْض والإعلان ، بل الغش والتدليس . ولم نَعُدْ نسمع هذه العبارات ، حتى إذا لم يتم البيع كنت تسمع البائع يقول : كسبنا الصلاة على النبي ، فهي في حَدِّ ذاتها مكسب حتى لو لم يتم البيع .
{ وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة } [ النور : 37 ] الصلاة لأنها تأخذ وقتاً من العمل ، وكثيراً ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظاناً أنها ستُضيِّع عليه الوقت ، وتُفوِّت عليه مصالح كثيرة ، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله ، وهذه نظرة خاطئة حمقاء؛ لأن الفلاح الذي يُخرِج من مخزنه أردباً من القمح ليزرع به أرضه : الأحمق يقول : المخزن نقص أردباً ، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافاً مضاعفة .
أو : أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره ، فيبارك له في وقته ، وينجز من الأعمال من الوقت المتبقي ما لا ينجزه تارك الصلاة ، أو : يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق ، ومن حيث لا يحتسب ، والبركة كما قلنا قد تكون سَلْباً وقد تكون إيجاباً ، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه .
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } [ النور : 37 ] ذلك لأنهم يتجارون لهدف أسمى وأخلد ، فأهل الدنيا إنما يتاجرون لصيانة دنياهم ، أمّا هؤلاء فيتجارون مع الله تجارة لن تبور ، تجارة تصون الدنيا وتصون الآخرة .
وإذا قِسْتَ زمن دنياك بزمن أُخْراك لوجدته هباء لا قيمةَ له ، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون ، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت ، إمّا الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة ، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حَلاَ وطال ، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع .
إذن : فَهُمْ يعملون للآخرة { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } [ النور : 37 ] واليوم في ذاته لا يُخاف منه ، وإنما يُخَاف ما فيه ، كما يقول الطالب : خِفْت يوم الامتحان ، واليوم يوم عادي لا يخاف منه ، إنما يُخاف مما سيحدث في هذا اليوم ، فالمراد : يخافون عذاب هذا اليوم .
(1/6335)

ومعنى { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } [ النور : 37 ] يعني : رجفة القلب واضطراب حركته ، وما ينتابه من خفقان شديد ، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا ، فما بالك بهوْل الآخرة ، وما يحدث من اضطراب في القلب؟
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلَّب هنا وهناك؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب ، تنظر هنا وتنظر هنا عَلَّها ترى ما يُطمئنها أو يُخفِّف عنها ما تجد ، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعاً آخر أشدّ وأَنكى .
لذلك ينتهي الموقف إلى : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } [ القلم : 43 ] { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } [ النازعات : 89 ] يعني : ذليلة منكسرة حيث لا مفرَّ ولا مَنْجى ، ولن يجد في هذا اليوم راحة إلا مَنْ قدم له العمل الصالح كالتلميذ المجتهد الواثق من نفسه ومعلومات ، يتلهف إلى ورقة الأسئلة ، أما الآخرة فيقف حائراً لا يدري .
ثم يقول الحق سبحانه : { لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ }
(1/6336)

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
أي : في هذا اليوم يجزيهم الله أحسن ما عملوا ، ما شاء الله على رحمة الله!! لكن كيف بأسوأ ما عملوا؟ هذه دَعْوها لرحمة الله ولمغفرته { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النور : 38 ] لأن الله تعالى لا يعاملنا في الحسنات بالعدل ، ولا يجازينا عليها بالقسطاس المستقيم وعلى قَدْر ما نستحق ، إنما يزيدنا من فضله .
لذلك ورد في الدعاء : اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل ، وبالإحسان لا بالميزان . فليس لنا نجاة إلا بهذا ، كما يقول سبحانه : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] .
{ والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ النور : 38 ] والرزق : كُلُّ ما يُنتفع به ، وكل معنى فيه فوقية لك هو رزق ، فالصحة رزق ، والعلم رزق ، والحلم رزق ، والشجاعة رزق . . الخ .
والبعض يظن أن الرزق يعني المال ، وهذا خطأ؛ لأن الرزق مجموعُ أمورٍ كثيرة ، فإنْ كان رزُقك علماً فعلِّم الجاهل ، وإنْ كان رزقك قوةً فأعِن الضعيف ، وإنْ كان رزقك حِلْماً فاصبر على السَّفيه ، وإن كان رزقك صنعة تجيدها ، فاصنع لآخرقَ لا يجيد شيئاً .
وإذن : هذا كله رزق ، وما دام ربك عز وجل يرزقك بغير حساب ، ويفيض عليك من فضله فأعْطِ المحتاجين ، وارزق أنت أيضاً المعدمين ، واعلم أنك مُنَاول عن الله ، والرزق في الأصل من الله وقد تكفّل لعباده به ، وما أنت إلا يد الله الممدودة بالعطاء ، واعلم أنك ما دُمْتَ واسطة في العطاء ، فأنت تعطي من خزائن لا تنفد ، فلا تضنّ ولا تبخل ، فما عندكم ينفد وما عند الله بَاقٍ .
والحساب : أنْ تحسب ثمرة الأفعال : هذه تعطي كذا ، وهذا ينتج كذا ، يعني ميزانية ودراسة جدوى ، أمّا عطاء الله فيأتيك دون هذه الحسابات ، فأنت تحسب؛ لأن وراءك مَنْ سيحاسبك ، أمّا ربك عز وجل فلا يحاسبه أحد؛ لذلك يعطيك بلا عمل ودون أسباب ، ويعطيك بلا مُقدِّمات ، ويعطيك وأنت لا تستحق ، أَلاَ ترى مَنْ تتعثر قدمه فيجد تحتها كنزاً؟
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ }
(1/6337)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يلفت أنظار مَنْ شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة ، فيصنعون صنائع معروفٍ كثيرة ، لكن لم يُخلصوا فيها النية لله ، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله ، وسوف يُواجَه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث : " عملت ليقال وقد قيل " .
لقد مدحوك وأثنَواْ عليك ، وأقاموا لك التماثيل وخَلَّدوا ذِكْراك؛ لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] .
{ أَعْمَالُهُمْ } [ النور : 39 ] أي : التي يظنونها خيراً ، وينتظرون ثوابها ، والسراب : ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك . وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء ، و " قِيعة " : جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة .
وأسند الفعل { يَحْسَبُهُ } [ النور : 39 ] إلى الظمآن؛ لأنه حاجة للماء ، وربما لو لم يكُنْ ضمآناً لما التفتَ إلى هذه الظاهرة ، فلظمئه يجري خلف الماء ، لكنه لا يجد شيئاً ، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما { وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } [ النور : 39 ] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير ، إله لم يؤمن به ، والآن فقط يتنبه ، ويصحو من غَفْلته ، ويُفَاجأ بضياع عمله .
إذن : تجتمع عليه مصيبتان : مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِياً ، ومصيبة العذاب الذي ينتظره ، كما قال الشاعر :
كَما أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامَةٌ ... فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِ
وسبق أن ضربنا مثلاً لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغاً ، فطلب الماء ، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه واستشرف المسكين للارتواء أراق الحارسُ الكوبَ ، ويُسمُّون ذلك : يأْسٌ بعد إِطْماع .
لذلك الحق تبارك وتعالى يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس ، فالعمل للناس لا بُدَّ أن يكون من أجل الله . وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه ، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله ، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس ، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنهتي من مباشرة هذ الفعل .
وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء ، فلا ينبت شيئاً : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ] .
وقوله تعالى : { والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث ، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به ، كما قال سبحانه : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .
والله تعالى أخفى الموت أسباباً وميعاداً؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان ، وبإبهام الموت تظل ذاكراً له عاملاً للآخرة؛ لأنك تتوقعه في أي لحظة ، فهو دائماً على بالك ، ومَنْ يدريك لعلَّك إنْ خفضْتَ طرْفك لا ترفعه ، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع؛ لذلك قالوا : مَنْ مات فقد قامت قيامته .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ }
(1/6338)

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
هذا مَثَل آخر توضيحي لأعمال الذين كفروا ، والبحر اللجي : الواسع الكبير الذي تتلاطم فيه الأمواج ، بعضها فوق بعض ، وفوق هذا كله سحاب إذن : فالظلام مُطبق؛ لأنه طبقات متتالية ، وفي أعماق بعيدة ، وقد بلغتْ هذه الظلمة حداً لا يرى الإنسان معها حتى يده التي هي جزء منه ، فما بالك بالأشياء الأخرى؟
وقوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أي : لم يقرب من أنْ يراها ، وإذا نفى القُرْب من أن يرى فقد نفى الرؤية من باب أَوْلَى؛ ذلك لأنه ليس له نور من الله يرى به ويهتدي { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] فكما أنه لم ينتفع بالنور ، ولم يَرَ حتى يده ، كذلك لا ينتفع بشيء من عمله .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض }
(1/6339)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى ما يدّل على وحدة الخالق الأعلى ، وكمال قيوميته ، وكمال قدرته ، وذُكِرَتْ هذه الآية بعد عدة أوامر نواهٍ ، وكأن ربك عز وجل يريد أنْ يُطمئِنك على أن هذا الكون الذي خلقه من أجلك وقبل أن تُولد ، بل ، وقبل أن يخلق الله آدم أعدَّ له هذه الكون ، وجعله في استقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه ، يقول لك ربك : اطمئن فلن يخرج شيء من هذا الكون عن خدمتك فهو مُسخَّر لك ، ولن يأتي يوم يتمرّد فيه ، أو يعصي أوامر الله :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض } [ النور : 41 ] .
{ أَلَمْ تَرَ } [ النور : 41 ] يعني : ألم تعلم ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد عام الفيل ، ولم يَرَ هذه الحادثة ، فلماذا لم يخاطبه ربُّه بألم تعلم ويريح الناس الذين يتشكّكون في الألفاظ؟
قالوا : ليدلّك على أن ما يخبرك الله به غيباً عنك أوثقُ مما تخبرك به عينُك مشهداً لك؛ لأن مصدر علمك هو الله ، أَلاَ ترى أن النظر قد يصيبه مرض فتختل رؤيته ، كمن عنده عمى ألوان أو قِصَر نظر . . إلخ إذن : فالنظر نفسه وهو أوثق شيء لديك قد يكذب عليك .
والتسبيح : هو التنزيه ، والتنزيه أن ترتفع بالمنزّه عن مستوى ما يمكن أنْ يجولَ بخاطرك : فالله تعالى له وجود ، وأنت لك وجود ، لكن وجودَ الله ليس كوجودك ، الله له ذاته وصفات ، لكن ليست كذاتك وصفاتك . . إلخ .
إذن : نزَّه ذات الله تعالى عن الذوات التي تعرفها؛ لأنها ذوات وُهِبَتْ الوجود ، أما ذات الله فغير موهوبة ، ذات الله ذاتية ، كذلك لك فِعْل ، ولله تعالى فِعْل .
وقد ذكرنا في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } [ الإسراء : 1 ] .
إن الذين اعترضوا على هذا الفعل اعترضوا بغباء ، فلم يُفرِّقوا بين فِعْل الله وفِعْل العبد ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل : سريْتُ من مكة ألى بيت المقدس . إنما قال : أُسْرِي بي .
فالاعتراض على هذا فيه مغالطة ، فإنْ كنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ فذلك لأن سَيْركم خاضع لقدرتكم وإمكاناتكم ، أمّا الله تعالى فيقول للشيء : كُنْ فيكون ، فلا يحتاج في فِعْله سبحانه إلى زمن . فمن الأدب أَلاَّ تقارن فِعْل الله بفعلك ، ومن الأدب أنْ تُنزِّه الله عن كل مَا يخطر لك ببال ، نزَّه الله ذاتاً ، ونزِّهه صفاتاً ، ونزهه أفعالاً .
ألا ترى أن ( سبحان ) مصدر للتسبيح ، يدل على أن تنزيه الله ثابت له سبحانه قبل أن يخلق مَنْ ينزهه ، كما جاء في قوله تعالى :
(1/6340)

{ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] فشهد الحق تبارك وتعالى لنفسه قبل أنْ تشهدوا ، وقبل أن تشهد الملائكة ، فهذه هي شهادة الذات للذات . وقبل أن يخلق الله الإنسان المسبِّح سبَّح لله السموات والأرض ساعة خلقهما سبحانه وتعالى .
وحين تتتبع ألفاظ التسبيح في القرآن الكريم تجدها جاءت مرة بصيغة الماضي { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } [ الحديد : 1 ] فهل سبّحَتْ السموات والأرض مرة واحدة ، فقالت : سبحان الله ثم سكتَتْ عن التسبيح؟ لا إنما سبَّحَتْ في الماضي ، ولا تزال تُسبِّح في الحاضر : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] .
وما دام أن الكون كله سبَّح لله ، وما يزال يُسبِّح فلم يَبْقَ إلا أنت يا ابن آدم : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] يعني : استح أن يكون الكون كله مُسبِّحاً وأنت غير مُسبِّح ، فصِلْ أنت تسبيحك بتسبيح كل هذه المخلوقات .
وعجيب أن نسمع من يقول أن ( مَنْ ) في الآية للعاقل ، فهو الذي يُسبِّح أمّا السموات والأرض فلا دخلَ لهما في هذه المسألة ، ونقول : لا دخلَ لها في تصورك أنت ، أمّا الحقيقة فإنها مثلك تُسبِّح كما قال تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] .
وقال : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } [ الرعد : 13 ] فليس لك بعد كلام الله كلام .
وآخر يقول لك : التسبيح هنا ليس على الحقيقة ، إنما هون تسبيح دلالة وحال ، لا مقال ، يعني : هذه المخلوقات تدلُّ بحالها على تسبيح الله وتنزيهه ، وأنه واحد لا شريك له ، على حد قول الشاعر :
وَفِي كُلِّ شَيء لَهُ آيَةٌ ... تدُلُّ على أنَّه الوَاحِدُ
وهذا القول مردود بقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
إذن : فهذه المخلوقات تُسبِّح على الحقيقة ولها لسان ولغة ، لكنك لا تفهم عنها ولا تفقه لغاتها ، وهل فهمتَ أنت كل لغات بني جنسك حتى تفهم لغات المخلوقات الأخرى؟ إن العربي إذا لم يتعلم الإنجليزية مثلاً لا يستطيع أن يفهم منها شيئاً ، وهي لغة منطوقة مكتوبة ، ولها ألفاظ وكلمات وتراكيب مثل العربية .
إذن : لا تقُلْ تسبيحَ حال ، هو تسبيح مقال ، لكنك لا تفهمه ، وكل شيء له مقال ويعرف مقاله ، بدليل أن الله تعالى إنْ شاء أطلع بعض أهل الاصطفاء على هذه اللغات ، ففهمها كما فهم سليمان عليه السلام عن النملة { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } [ النمل : 19 ] وسمع كلام الهدهد وفهم عنه ما يقول عن ملكة سبأ .
ونقول لأصحاب هذا الرأي : تأملوا الخلية المسدَّسة التي يصنعها النحل وما فيها من هندسة تتحدى أساطين الهندسة والمقاييس أن يصنعوا مثلها ، تأمَّلوا عش الطائر وكيف ينسج عيدان القش ، ويُدخل بعضها في بعض ، ويجعل للعُشِّ حافَّة تحمي الصغار ، فإذا وضعْتَ يدك في العُشِّ وهو من القَشِّ وجدتَ له ملمسَ الحرير ، تأملوا خيوط العنكبوت وكيف يصطاد بها فرائسه؟
لقد شاهدت فِليماً مصوراً يُسجِّل صراعاً بين دب وثور ، الدب رأى قرون الثور طويلة حادة ، وعلم أنها وسيلة الثور التي ستقضي عليه ، فما كان منه إلا أن هجم على الثور وأمسك قَرْنَيْه بيديه ، وظل ينهش رأس الثور بأسنانه حتى أثخنه جراحاً حتى سقط فراح يأكله .
(1/6341)

إذن : كيف نستبعد أن يكون لهذه المخلوقات لغات تُسبِّح الله بها لا يعرفها إلا بنو جنسها ، أو مَنْ أفاض الله عليه بعلمها؟
ثم ألم يتعلَّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى لما قَتَل قابيلُ هابيلَ؟ كما يقول سبحانه : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } [ المائدة : 31 ] وكأن ربنا عز وجل يُعلِّمنا الأدب وعدم الغرور .
وقرأنا أن بعض الباحثين والدارسين لحياة النمل وجدوا أنه يُكوِّن مملكة متكاملة بلغت القمة في النظام والتعاون ، فقد لاحظوا مجموعة تمرُّ هنا وهناك ، حتى وجدتْ قطعة من طعام فتركوها وانصرفوا ، حيث أتوا ، ثم جاءت بعدهم كوكبة من النمل التفتْ حول هذه القطعة وحملتْها إلى العُشِّ ، ثم قام الباحث بوضع قطعة أخرى ضِعْف الأولى ، فإذا بمجموعة الاستكشاف ( أو الناضورجية ) تمر عليها وتذهب دون أنْ تحاول حَمْلها ، وبعدها جاء جماعة من النمل ضِعْف الجماعة الأولى ، فكأن النمل يعرف الحجم والوزن والكتلة ويُجيد تقديرها .
وفي إحدى المرات لاحظ الباحث فتاتاً أبيض أمام عُشِّ النمل ، فلما فحصه وجده من جنين الحبة الذي يُكوِّن النبتة ، وقد اهتدى النمل إلى فصل هذا الجنين حتى لا تُنبت الحبة فتهدم عليهم العُشّ ، لهذا الحد عَلِم النمل قانون صيانته ، وعلم كيف يحمي نفسه ، وهو من أصغر المخلوقات ، أبعد هذا كله نستبعد أن يكون للنمل أو لغيره لُغته الخاصة؟
ثم يقول سبحانه : { والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] فلماذا خَصَّ الطير بالذكْر مع أنها داخلة في { مَن فِي السماوات والأرض } [ النور : 41 ] .
قالوا : خَصَّها لأن لها خصوصية أخرى وعجيبة ، يجب أن نلتفت إليها؛ لأن الله تعالى يريد أنْ يجعل الطير مثلاً ونموذجاً لشيء أعظم ، فالطير كائن له وزن وثِقل ، يخضع لقانون الجاذبية التي تجذب للأرض كُلَّ ثقل يعلَقُ في الهواء .
لكن الحق سبحانه وتعالى يخرق هذا القانون للطير حين يصُفُّ أجنحته في الهواء ، يظل مُعلّقاً لا يسقط : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } [ الملك : 19 ] .
وكان الخالق عز وجل يقول : خُذُوا من الطير المشاهد نموذجاً ووسيلة إيضاح ، فإذا قلتُ لكم : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] فَصِدِّقوا وآمنوا أن الله يُمسك السماء ، بل : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } [ فاطر : 41 ] .
(1/6342)

فخُذْ من المشهد الذي تدركه دليلاً على ما لا تدركه .
لكن ، مَن الفاعل في { عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] .
يمكن أن يكون الفاعل الطير وكل ما في الوجود ، وأحسن منه أن نقول : علم الله صلاتها وتسبيحها؛ لأنه سبحانه خالقها وهاديها إلى هذا التسبيح . إذن : فكل ما في الوجود يعلم صلاته ويعلم تسبيحه ، كما تعلم أنت المنهج ، لكنه استقام على منهجه لأنه مُسخّر وانحرفت أنت لأنك مُخيَّر .
فإنْ أردتَ أنْ تستقيمَ أمور حياتك فطبِّق منهج الله كما جاءك؛ لذلك لا تجد في الكون خللاً أبداً إلا في منطقة الاختيار عند الإنسان ، كل شيء لا دخْلَ للإنسان فيه يسير منتظماً ، فالشمس لم تعترض في يوم من الأيام ولم تتخلف ، كذلك القمر والنجوم والهواء ، إنها منضبطة غاية الإنضباط ، حتى إن الناس يضبطون عليها حساباتهم ومواعيدهم واتجاهاتهم .
لذلك يقول تعالى : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] يعني : بحساب دقيق ، وما كان للشمس أنْ تضبط الوقت إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة .
{ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [ النور : 41 ] أي : لقيوميته تعالى على خَلْقه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض }
(1/6343)

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
يريد ربك عز وجل أنْ يُطمئنك أن الذي كلَّفك بما كلَّفك به يضمن لك مُقوِّمات حياتك ، فلن ينقطع عنك الهواء في يوم من الأيام ، ولن تتأبَّى عليك الشمس أو القمر أو الأرض؛ لأنها مِلْك لله ، لا يشاركه سبحانه في ملكيتها أحد يمنعها عنك ، فاطمئن إلى أنها ستؤدي مهمتها في خدمتك إلى يوم القيامة ، ولا تشغل نفسك بها ، فقد ضمنها الله .
ثم يقول رب العزة سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً }
(1/6344)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } [ النور : 43 ] يعني : ألم تعلم ، وقد وقفنا مع تطور العلم على كيفية تكوُّن المطر بين التبخير والتكثيف الذي يُكوِّن السحاب ، وقلنا سابقاً : إن مُسطح الماء على الأرض ثلاثة أرباع اليابسة حتى تكفي هذه المساحة البخر اللازم لتكوّن المطر ، ونحن نُجري مثل هذه العملية في تقطير الماء حين نغلي الماء ونستقبل البخار على سطح بارد ، فتحدث له عملية التكثيف .
وقد أوضحنا هذه العملية بكوب الماء حين تتركه ممتلئاً وتسافر مثلاً ، فحين تعود تجد الكوب قد نقص قليلاً ، أما إذا أرقْتَهُ على الأرضِ ، فإنه يجفُّ سريعاً ، وقبل أن تغادر المكان ، لماذا؟ لأنك وسََعْتَ مساحة البَخْر .
ومعنى { يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] أي : يرسله برِفْق ومَهَل؛ لذلك لما وصف الشاعر مَشْي الفتاة قال :
كَأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بيْتِ جَارَتِها ... مَرُّ السَّحابَة لاَ رَيْث ولاَ عَجَل
{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } [ النور : 43 ] أي : يجمع بعضه على بعض ، وحين يُجمع الشيء بعضه على بعض لا بُدَّ أن يبقى بينه فاصل ، فلا يلتحم بغيره التحاماً تاماً ، ولولا هذه الفواصل بين قِطَع السحاب ، ولولا هذه الفتوق ما نزل الوَدَق من خلاله .
ولو شاء سبحانه لجعل السحاب قطعة واحدة ، ولكنه سبحانه يؤلف بينه ويُجمِّعه بعضه على بعض دون أنْ يُوحِّده تكويناً ، فيحدث بذلك فراغاً بين قطع السحاب . أرأيتَ حين نلصق الورق بالصمغ مثلاً فمهما وضعت عليه من ثقل لا بُدَّ أن يبقى بينه فراغات؛ لأنه ليس ذاتاً واحدة .
وعملية تفريغ الهواء هذه تلاحظها حين تضع كوباً مبلولاً وتتركه لفترة ، فيتبخر الماء من تحته ويخرج الهواء ، فإذا أردْتَ رفعه وجدته صعباً لماذا؟ لتفريغ الهواء من تحت قاعدة الكوب ، وفي هؤلاء الذين يعالجون الآلام الناتجة عن البرد ، فيضعون الكوب مقلوباً على مكان الألم ، ثم يُشعِلُون بداخله قطعة من القماش مثلاً لتحرق الهواء بداخل الكوب .
وبذلك نمنع الخلل في التقاء الكوب بالجسم ، وهذه المسألة هي سِرُّ عظمة قدماء المصريين في البناء ، حيث تتماسك الحجارة دون وجود ( مونه ) تربط بينها .
إذن : وجود الهواء بين الشيئن يُحدِث خللاً بينهما ، ولولا هذا الخلل في السحاب ما نزل منه الماء ، والمطر آية عظيمة من آيات الله لا نشعر بها ، ولك أنْ تتصور كم يُكلِّفنا كوب الماء المقطّر حين نُعِدُّه في المعمل ، فما بالك بالمطر الذي يسقي الأرض كلها؟
ثم يقول تعالى : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } [ النور : 43 ] يعني : مُكدَّساً بعضه على بعض ، وفي آية أخرى : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] متراكم بعضه على بعض { فَتَرَى الودق } [ النور : 43 ] أي : المطر : { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ النور : 43 ] أي : من خلال هذه الفجوات والفواصل التي تفصل بين السُّحُب .
(1/6345)

وهذا الماء الذي ينزل من السماء فيُحيي به الله الأرض قد يأتي نقمةً وعذاباً ، كما قال سبحانه : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } [ النور : 43 ] ولنا في أهل مأرب الذين أغرقهم الله عبرةٌ وعظة .
ولو تأملتَ لوجدتَ الماء والنار عدويْن متقابلين يصعب مقاومتهما؛ لذلك كان العرب إلى عهد قريب يخافون الماء لما عاينوه من غرق بعد انهيار سدِّ مأرب؛ لذلك آثروا أنْ يعيشوا في الصحراء بعيداً عن الماء .
وبالماء نجَّى الله تعالى موسى عليه السلام وأغرق عدوه فرعون ، ففعل سبحانه الشيء وضده بالشيء الواحد .
وقوله تعالى : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } [ النور : 43 ] أي : الضوء الشديد الذي يُحدِثه السحاب يكاد أن يخطف الأبصار ، وفي البرق تتولد النار من الماء؛ لذلك حينما يقول تعالى : { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] فصدِّق هذه الآية الغيبية؛ لأنك شاهدت نموذجاً لها في مسألة البرق .
ثم يقول الحق سحبانه : { يُقَلِّبُ الله اليل والنهار }
(1/6346)

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
فالليل والنهار آيتان يتتابعان لكن دون رتابة ، فالليل قد يأخذ من النهار ، والنهار يأخذ من الليل ، وقد يستويان في الزمن تماماً . ومن تقليب الليل والنهار ما يعتريهما من حَرٍّ أو برد أو نور وظلمة .
إذن : فالمسألة ليست ميكانيكية رتيبة ، إنما هي قيومية الله تعالى وقدرته في تصريف الأمور على مراده تعالى؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } [ النور : 44 ] .
العِبرة والعَبرة والعبور والتعبير كلها من مادة واحدة ، نقول : هذا مكان العبور يعني الانتقال من جهة إلى جهة أخرى ، وفلان عبَّر عن كذا ، يعني : نقل الكلام النفسي إلى كلام باللسان ، والعبرة أنْ ننظرَ في الشيء ونعتبر ، ثم ننتقل منه إلى غيره ، وكذلك العَبْرة لأنها حزن أسال شيئاً ، فنزل من عيني الدمع .
والعبرة هنا لمن؟ { لأُوْلِي الأبصار } [ النور : 44 ] والمراد : الأبصار الواعية لا الأبصار التي تدرك فقط ، والإنسان له إدراكات بوسائلها ، وله عقل يستقبل المدركات ويغربلها ، ويخلُص منها إلى قضايا ، ومن الناس مَنْ يبصر لكنه لا يرى شيئاً ولا يصل من رؤيته إلى شيء ، ومنهم أصحاب النظر الواعي المدقِّق ، فالذي كتشف قوة البخار رأى القِدْر وهي تغلي وتفور فيرتفع عليها الغطاء ، وهذا منظر نراه جميعاً الرجل والمرأة ، والكبير والصغير ، لكن لم يصل أحد إلى مثل ما وصل إليه .
إذن : المراد الأبصار التي تنقل المبصر إلى العقل ليُحلِّله ويستنبط ما فيه من أسباب ، لعله يستفيد منها بشيء ينفعه ، والله تعالى قد خلق في الكون ظواهرَ وآياتٍ لو تأملها الإنسان ونظر إليها بتعقُّل وتبصُّر لاستنبطَ منها مَا يُثري حياته ويرتقي بها .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ }
(1/6347)

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
الدابة : كلّ ما يدبُّ على الأرض ، سواء أكان إنساناً أو أنعاماً أو وحشاً ، فكُلُّ ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء حتى النملة لها على الأرض دبيب .
وكل شيء يضخم قابل لأنْ يُصغَّر ، وقد يُضخَّم تضخيماً لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهه ، وقد يَصْغُر تصغيراً حتى لا تكاد تراه ، وتحتاج في رؤيته إلى مُكبِّر ، ومن عجائب الخَلْق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومُقوِّماتها ، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم ، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامته ، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته .
ألاَ ترى أن ساعة ( بج بن ) أخذتْ شهرتها لضخامة حجمها ، ثم جاء بعد ذلك مَنْ صنع الساعة في حجم فصِّ الخاتم ، وفيها نفس الآلات التي في ساعة ( بج بن ) ، كذلك خلق الله من الماء الفيل الضخم ، وخلق الناموسة التي تؤرق الفيل رغم صِغَرها . . سبحان الخالق .
ولما كان الماء هو الأصل في خِلْقة كل شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأنْ يحجبوا عنه المائية فيموت ، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها ، فلا يجد الميكروب وسطاً مائياً يعيش فيه .
وهذه الخِلْقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة ، إنما هي ألوان وأشكال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] .
والمشي : هو انتقال الموصوف بالمشي من حَيِّز مكاني إلى حَيِّز مكاني آخر ، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين ، لكن يُوضِّح لنا سبحانه أن المشْي أنواع : فمن الدوابِّ مَنْ يمشي على بطنه ، ومنه مَنْ يمشي على رِجْليْن ، ومنهم مَنْ يمشي على أربع .
وربنا سبحانه وتعالى بسط لنا هذه المسألة بَسْطاً يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه ، فلم يذكر مثلاً أن من الدواب مَنْ له أربع وأربعون مثلاً ، وفي تنوع طُرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خَلْقه .
لذلك قال بعدها : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ } [ النور : 45 ] لأن الآية لم تستقْص كل ألوان المشي ، إنما تعطينا نماذج ، وتحت { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ } [ النور : 45 ] تندرج مثلاً ( أُم أربعة وأربعين ) وغيرها من الدواب ، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه .
وكما سخر الله الإنسان لخدمة الإنسان ، كذلك سخَّر الحيوان لخدمة الحيوان ليُوفِّر له مُقوِّمات حياته ، ألاَ ترى الطير يقتات على فضلات الطعام بين أسنان التمساح مثلاً فينظفها له ، إذن : فما في فم التمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطيور ، ويحدث بينها توافق وانسجام وتعاون ، حتى إن الطير إنْ رأى الصياد الذي يريد أن يصطاد التمساح فإنها تُحدِث صوتاً لتنبه التمساح حتى ينجو .
ومن المشْيِ أيضاً السَّعْي بين الناس بالنميمة ، كما قال تعالى : { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } [ القلم : 11 ] .
وبعد أن أعطانا الحق تبارك وتعالى الأدلة على أن المْلك له وحده ، وأن كل شيء يُسبِّح بحمده تعالى وإليه تُرجَع الأمور ، وأنه تعالى خلق كُلَّ دابة من ماء ، قال سبحانه : { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ }
(1/6348)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
يعني : مَنْ ملك هذا الملْك وحده ، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بينات تحمل إليكم الأحكام ، فكما فعل لكم الجميل ، ووفر لكم ما يخدمكم في الكون ، سمائه وأرضه ، فأدُّوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه ، واتبعوا هذه الآيات البينات .
ومعنى : { مُّبَيِّنَاتٍ } [ النور : 46 ] أي : لاستقامة حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تحتاج لأنْ يتحرك الجميع ويؤدي كُلٌّ مهمته حتى تتساند الحركات ولا تتعاند ، فالذي يُتعب الدنيا أن تبنى وغيرك يهدم .
إذن : لا بُدَّ من ضابط قيمي يضبط كل الحركات ويحثّ كل صانع أنْ يتقن صَنْعته ويُخلِص فيها ، والإنسان غالباً لا يحسن إلا زاوية واحدة في حياته ، هي حرفته وتخصصه ، وربما لا يحسنها لنفسه؛ لأنه لا يتقاضى عليها أجراً ، لذلك يقولون ( باب النجار مخلع ) أما إنْ عمل للآخرين فإنه يُحسِن عمله ويتقن صنعته ، وكذلك يتقن الناس لك ما في أيديهم ، فتستقيم الأمور ، فأحْسن ما في يدك للناس ، يحسنْ لك الناسُ ما في أيديهم .
وقوله تعالى : { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النور : 46 ] .
ولقائل أنْ يسأل : وما ذنب مَنْ لم يدخل في هذه المشيئة فلم يُهْتد؟ وسبق أن قلنا : إن الهداية نوعان : هداية الدلالة وهداية المعونة على الدلالة .
فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدلالة ، ويبين للكل أسباب الخير وسُبل النجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة ، فمَنْ سمع كلام الله ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدلالة أعانه بهداية المعونة .
فساعة تسمع : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] .
{ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ البقرة : 258 ] .
فاعلم أنهم امتنعوا عن هداية الدلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة ، لا هداية الدلالة والإرشاد والبيان .
وقلنا : إن كلمة { أَنزَلْنَآ } [ النور : 46 ] تشعر باحترام الشيء المنزّل؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من العُلُو إلى الأدنى ، فكأن ربك عز وجل حين يكلفك يقول لك : أريد أن أرتفع بك من مستوى الأرض إلى عُلو السماء؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] .
أي : لا تضعوا لأنفسكم القوانين ، ولا تسيروا خلف آرائكم وأفكاركم ، إنما تعالوا إلى الله وخذوا منه سبحانه منهج حياتكم ، فهو الذي خلقكم ، وخلق لكم هذه الحياة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول }
(1/6349)

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ النساء : 61 ] .
وهؤلاء هم المنافقون ، وخَيْبة المنافق أنه متضارب الملكات النفسية؛ ذلك لأن للإنسان مَلَكات متعددة تتساند حال الاستقامة ، وتتعاند حال المعصية ، فالإنسان تراه طبيعياً حين ينظر إلى ابنته أو زوجته ، لأن مَلَكاته منسجمة مع هذا الفعل ، أما حين ينظر إلى محارم الغير فتراه يختلس النظرة ، يخاف أنْ يراه أحد يتلصّص ويحتاط؛ لأن مَلَكاته مضطربة غير منسجمة مع هذا الفعل .
لذلك يقولون : الاستقامة استسامة ، فملكات النفس بطبيعتها متساندة لا تتعارض أبداً ، لكن المنافق فضلاً عن كذبه ، فهو متضارب الملَكات في نفسه؛ لأن القلب كافر واللسان مؤمن .
لذلك فكرامة الإنسان تكون بينه وبين نفسه قبل أن تكون بينه وبين الناس ، فقد يصنع الإنسان أمام الناس صنائع خير تُعجب الآخرين ، لكنه يعلم من نفسه الشر ، فهو وإن كسب ثقة المجتمع من حوله ، إلا أنه خسر رَأْي نفسه في نفسه ، وإذا خسر الإنسان نفسه فلن يُعوِّضه عنها شيء حتى إنْ كسب العالم كله؛ لأن المجتمع لا يكون معك طول الوقت ، أمّا نفسك فملازمة لك كل الوقت لا تنفك عنها ، فأنا كبير أمام الناس ما دُمْت معهم ، أمّا حين أختلي بنفسي أجدها حقيرة : فعلتْ كذا ، وفعلت كذا .
إذن : أنت حكمتَ أنّ رأى الناس أنفَسُ من رأيك ، ولو كان لرأيك عندك قيمة لحاولت أن يكون رأيك في نفسك صحيحاً ، لكن أنت تريد أن يكون رأي الناس فيك صحيحاً ، وإنْ كان رأيك عند نفسك غير ذلك .
ويقول تعالى في هؤلاء : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 60 ] .
فقد حكم عليهم أنهم يزعمون ، والزعم مطيّة الكذب ، والدليل على أنهم يزعمون أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، ولو كانوا مؤمنين بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك ما تحاكموا إلى الطاغوت ، وهكذا فضحوا هم أنفسهم ، فالثانية فضحتْ الأولى .
لذلك قالوا : إن الكافر أحسن منهم؛ لأنه منسجم الملَكات : قلبه موافق للسانه ، قلبه كافر ولسانه كذلك ، ومن هنا كان المنافقون في الدَّرْك الأسفل من النار .
والحق تبارك وتعالى يعطينا صورة ونموذجاً يحذرنا ألاَّ نحكم على القول وحده ، فيقول تعالى عن المنافقين : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] .
وهذه المقولة { إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله } [ المنافقون : 1 ] مقولة صادقة ، لكن القرآن يُكذِّبهم في أنهم شَهدوا بها .
وقد نزلتْ هذه الآية في أحد المنافقين أظن أنه بشر ، وكانت له خصومة مع يهودي ، فطلب اليهودي أن يتحاكما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطلب المنافق أنْ يتحاكما عند كعب بن الأشرف ، لكن رَدَّ اليهودي حكومة كعب لما يعلمه من تزييفه وعدم أمانته والإنسان وإن كان في نفسه مُزِّيفاً إلا أنه يحب أنْ يحتكم في أمره إلى الأمين العادل وفعلاً تغلّب اليهودي وذهبا إلى رسول الله فحكم لليهودي .
(1/6350)

وفي هذا دلالة على أن اليهودي كان ذكياً فَطِناً ، يعرف الحق ويعرف مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لكن المنافق لم يَرْضَ حكم رسول الله ، وانتهى بهما الأمر إلى عمر رضي الله عنه وقَصَّا عليه ما كان ، ولما علم أن المنافق رَدَّ حكم رسول الله قام عمر وجاء بالسيف يُشْهِره في وجه المنافق وهو يقول : مَنْ لم يَرْضَ بقضاء رسول الله فذلك قضائي فيه .
إذن : فهؤلاء يقولون : { آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } [ النور : 47 ] كلام جميل وأكثر الله من خيركم ، لكن هذا قول فقط لا يسانده تطبيق عملي ، والإيمان يقتضي أن تجيء الأعمال على وَفْق منطوق الإيمان .
فهذا منهم مجرد كلام ، أما التطبيق : { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } [ النور : 47 ] والتولِّي : الانصراف عن شيء كان موجوداً إلى شيء مناقض { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } [ النور : 47 ] فما داموا قد تولوا فهم لم يطيعوا ولم يؤمنوا .
(1/6351)

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
المراد ما كان من أمر بشر واليهودي ، وقد أعرضا عن حكم الله ورسوله ، وإنْ كان إعراض المنافق واضحاً فالآية لا تريد تبرئة ساحة اليهودي ، لأنه ما رضي بحكم الله إلا لأنه واثق أن الحق له وواثق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق ، حتى وإنْ كان ليهودي ، وإذن : ما أذعن لحكم الله ورسوله محبةً فيه أو إيماناً به ، إنما لمصلحته الشخصية ، لذلك يقول تعالى بعدها : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا }
(1/6352)

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
والمرض : خروج الشيء عن استقامة سلامته ، فكل عضو من أعضائك له سلامة : العين لها سلامة ، والأذن لها سلامة . . الخ والعجيب أن تعيش بالجارحة لا تدري بها طالما هي سليمة صحيحة ، فإذا أصابها مرض تنبهتَ إليها ، وأحسست بنعمة الله عليك فيها حال سلامتها .
{ أَمِ ارتابوا } [ النور : 50 ] يعني : شكُّوا في رسول الله { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } [ النور : 50 ] يعني : يجور ويظلم { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } [ النور : 50 ] أي : لأنفسهم أولاً ، وذلك منتهى الحُمْق أن يظلم الإنسان نفسه ، لو ظلم غيره لَقُلْنا : خير يجلبه لنفسه ، لكن ما الخير في ظلم الإنسان لنفسه؟ ومَنْ ظلم نفسه لا تَلُمْه إن ظلَم الآخرين .
والحق تباك وتعالى حينما يعاقب الظالم ، فذلك لمصلحته حتى لا يتمادى في ظُلْمه ، ويجرُّ على نفسه جزاء شر بعد أن كان الحق سبحانه يُمنّيه بجزاء خير .
ثم يأتي السياق بالمقابل : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين }
(1/6353)

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
فما دُمْت قد آمنتَ ، والإيمان لا يكون إلا عن رغبة واختيار لا يجبرك أحد عليه ، فعليك أن تحترم اختيار نفسك بأنْ تطيعَ هذا الاختيار ، وإلا سفَّهتَ رأيك واختيارك ، لذلك كان حال المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا : سمعنا وأطعنا .
ولو تأملتَ الكون من حولك لوجدتَهُ يسير على هذه القاعدة ، فما دون الإنسان في كَوْن الله مُسيَّر لا مُخيَّر ، وإنْ كان الأصل أنه خُيِّر أولاً ، فاختار أن يكون مُسيّراً من البداية ، وأراح نفسه ، كما قال سبحانه :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [ الأحزاب : 72 ] .
وتصدير الآية الكريمة ب ( إنما ) يدل على أنها سبقها مقابل ، هذا المقابل على النقيض لما يجيء بعدها ، فالمنافقون أعرضوا وردُّوا حكم الله ورسوله ، والمؤمنون قالوا سمعنا وأطعنا ، كما تقول : فلان كسول إنما أخوه مُجِدٌّ . فقول المنافقين أنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله ، أمّا المؤمنون فيقبلون حكْم الله ورسوله .
ومعنى { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] يعني : سمعنا سمعاً واعياً يليه إجابة وطاعة ، لا مجرد أنْ يصل الصوت إلى أذن السامع دون أن يُؤثر فيه شيء .
ويقول تعالى في موضع آخر : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } [ المائدة : 83 ] .
فالسمع له وظيفة ، وهو هنا بمعنى : أجَبْنا يا رب ، وصممنا على الإجابة ، وهذا وعد كلامي يتبعه تنفيذ وطاعة . مثل قولنا في الصلاة : سمع الله لمن حمده ، يعني : أجاب الله مَنْ حمده .
{ وأولئك هُمُ المفلحون } [ النور : 51 ] المفلحون : الفائزون الذين بلغوا درجة الفلاح ، ومن العجيب أن يستخدم الحق سبحانه كلمة الفلاح ، وهي من فلاحة الأرض؛ لأن الفلاحة في الأرض هي أصل الاقتيات ، وكل مَنْ أتقن فلاحة أرضه جاءت عليه بالثمرة الطيبة ، وزاد خيره ، وتضاعف محصوله ، حتى إن حبة القمح تعطي سبعمائة حبة ، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي من يزرعها كل هذا العطاء ، فما بالك بخالق الأرض كيف يكون عطاؤه؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ }
(1/6354)

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
كان سيدنا الشيخ موسى شريف رحمه الله ورضي الله عنه يدرس لنا التفسير ، فلما جاءت هذه الآية قال : اسمعوا ، هذه برقية من الله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفآئزون } [ النور : 52 ] فلم تَدَع هذه الآية حُكْماً من أحكام الإسلام إلا جاءتْ به في هذه البرقية الموجزة التي جمعتْ المنهج كله .
ومعنى { يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } [ النور : 52 ] آمن بالله وأطاعه وصدَّق رسوله { وَيَخْشَ الله } [ النور : 52 ] أي : يخافه لما سبق من الذنوب { وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في الباقي من عمره { فأولئك هُمُ الفآئزون } [ النور : 52 ] وهكذا جمعتْ الآيةُ المعانيَ الكثيرة في اللفظ القليل الموجز .
ومعلوم أن التعبير الموجز أصعب من الإطناب والتطويل ، وسبق أنْ ذكرنا قصة الخطيب الإنجليزي المشهور حين قالوا له : إذا طُلِب منك إعداد خطاب تلقيه في ربع ساعة في كم تُعِدّه؟ قال : في أسبوع ، قالوا : فإنْ كان في نصف ساعة؟ قال : أُعِدُّه في ثلاثة أيام ، قالوا : فإذا كان في ساعة؟ قال : أُعِدّه في يومين ، قالوا : فإنْ كان في ثلاث ساعات؟ قال : أُعِده الاّن .
وقالوا : إن سعد باشا زغلول رحمه الله أرسل من فرنسا خطاباً لصديق في أربع صفحات قال فيه : أما بعد ، فإني أعتذر إليك عن الإطناب ( الإطالة ) ؛ لأنه لا وقت عندي للإيجاز .
وبعد أنْ تحدّث القرآن عن قَوْل المنافقين وعن ما يقابله من قول المؤمنين وما ترتب عليه من حكم { فأولئك هُمُ الفآئزون } [ النور : 52 ] ذلك لأن ذِكْر المقابل يُظهِر المقابل ، كما قالوا : والضد يظهر حُسْنَه الضِّدُّ . بعدها عاد إلى الحديث عن النفاق والمنافقين ، فقال سبحانه : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }
(1/6355)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
القَسَم : هو اليمين والحَلِف ، والإنسان يُقسم ليؤكد المقسَم عليه يريد أن يطمئن المخاطب على أن المقسَم عليه حَقٌّ ، وهؤلاء لم يقسموا بالله سِراً في أنفسهم ، إنما { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } [ النور : 53 ] يعني : بَالَغوا وأتَوْا بمنتهى الجهد في القسم ، فلم يقل أحدهم : وحياة أمي أو أبي ، إنما أقسموا بالله ، وليس هناك قَسَم أبلغ من هذا القسم ، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كان حالفاً فليحلف بالله ، أو ليصمت " .
فلما أقسموا بالله للرسول أنْ يخرجوا من بيوتهم وأولادهم وأموالهم إلى الجهاد مع رسول الله فضح الله سرائرهم ، وكشف سترهم ، وأبان عن زيف نواياهم ، كما قال في آية أخرى : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ } [ النساء : 81 ] .
وتأمل دقَّة الأداء القرآني في : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 81 ] وهذا احتياط؛ لأن منهم أُنَاساً يراود الإيمان قلوبهم ويفكرون في أنْ يُخلِصوا إيمانهم ونواياهم لله تعالى ، ويعودوا إلى الإسلام الصحيح .
والقرآن يفضح أمر هؤلاء الذي يُقسِمون عن غير صِدْق في القَسَم ، كمن تعوَّد كثرة الحَلِف والحِنْث فيه؛ لذلك ينهاهم عن هذا الحَلِف : { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } [ النور : 53 ] ولا يمكن أن ينهي المتكلمُ المخاطبَ عن القسم خصوصاً إذا أقسم على خير ، لكن هؤلاء حانثون في قَسَمهم ، فهو كعدمه ، فهم يُقسِمون باللسان ، ويخالفون بالوجدان .
وقوله تعالى : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } [ النور : 53 ] . يُشعِر بتوبيخهم ، كأنه يقول لهم : طاعتكم معروفة لدينا ولها سوابق واضحة ، فهي طاعة باللسان فحسب ، ثم يؤكد هذا المعنى فيقول : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ النور : 53 ] والذي يؤكد هذه الخبرة أنه يفضح قلوبهم ويفضح نواياهم .
والعجيب أنهم لا يعتبرون بالأحداث السابقة ، ولا يتعظون بها ، وقد سبق لهم أنه كان يجلس أحدهم يُحدِّث نفسه الحديث فيفضح الله ما في نفسه ويخبر به رسول الله ، فيبلغهم بما يدور في نفوسهم ، كما جاء في قول الله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] .
ومع ذلك لم يعتبروا ولم يعترفوا لرسول الله بأنه مُؤيَّد من الله ، وأنه تعالى لن يتخلى عن رسوله ، ولن يدعه لهم يخادعونه ويغشُّونه ، وهذه سوابق تكررتْ منهم مرات عِدّة ، ومع ذلك لم ينتهوا عما هم فيه من النفاق ، ولم يُخلِصوا الإيمان لله .
وبعد هذا كله يوصي الحق تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُبقِي عليهم ، وألاَّ يرمي ( طوبتهم ) لعل وعسى ، فيقول عز وجل : { قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول }
(1/6356)

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
وكأنه تعالى لا يريد أنْ يُغلق الباب دونهم ، فيعطيهم الفرصة : جَدِّدوا طاعة لله ، وجَدِّدوا طاعة لرسوله ، واستدركوا الأمر؛ ذلك لأنهم عباده وخَلْقه .
وكما ورد في الحديث الشريف : " لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة " .
ونلحظ في هذه الآية تكرار الأمر أطيعوا { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 54 ] وفي آيات أخرى يأتي الأمر مرة واحدة ، كما في الآية السابقة : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } [ النور : 52 ] ، وفي { أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الأنفال : 20 ] وفي { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] أي : أن طاعتهما واحدة .
قالوا : لأن القرآن ليس كتابَ أحكام فحسب كالكتب السابقة ، إنما هو كتاب إعجاز ، والأصل فيه أنه مُعْجز ، ومع ذلك أدخل فيه بعض الأصول والأحكام ، وترك البعض الآخر لبيان الرسول وتوضيحه في الحديث الشريف ، وجعل له صلى الله عليه وسلم حقاً في التشريع بنصِّ القرآن : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
والقرآن حين يُورد الأحكام يوردها إجمالاً ثم يُفصِّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالصلاة مثلاً أمر بها الحق تبارك وتعالى وفرضها ، لكن تفصيلها جاء في السنة النوبية المطهرة ، فإنْ أردتَ التفصيل فانظر في السنة .
كالذي يقول : إذا غاب الموظف عن عمله خمسة عشر يوماً يُفصَل ، مع أن الدستور لم ينص على هذا ، نقول : لكن في الدستور مادة خاصة بالموظفين تنظم مثل هذه الأمور ، وتضع لهم اللوائح المنظِّمة للعمل .
وذكرنا أن الشيخ محمد عبده سأله بعض المستشرقين : تقولون في القرآن : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] فهات لي من القرآن : كم رغيفاً في إردب القمح؟ فما كان من الشيخ إلا أن أرسل لأحد الخبازين وسأله هذا السؤال فأجابه : في الإردب كذا رغيف . فاعترض السائل : أريد من القرآن .
فردَّ الشيخ : هذا من القرآن؛ لأنه يقول : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
فالأمر الذي يصدر فيه حكم من الله وحكم من رسول الله ، كالصلاة مثلاً : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
وفي الحديث : " الصلاة عماد الدين " .
ففي مثل هذه المسألة نقول : أطيعوا الله والرسول؛ لأنهما متواردان على أمر واحد ، فجاء الأمر بالطاعة واحداً .
أما في مسائل عدد الركعات وما يُقَال في كل ركعة وكوْنها سِراً أو جهراً ، كلها مسائل بيَّنها رسول الله . إذن : فهناك طاعة لله في إجمال التشريع أن الصلاة مفروضة ، وهناك طاعة خاصة بالرسول في تفصيل هذا التشريع ، لذلك يأتي الأمر مرتين { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 54 ] .
كما نلحظ في القرآن : { وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 56 ] هكذا فحسب .
قالوا : هذه في المسائل التي لم يَرِدْ فيها تشريع ونَصٌّ ، فالرسول في هذه الحالة هو المشرِّع ، وهذه من مميزات النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل ، فقد جاءوا جميعاً لاستقبال التشريع وتبليغه للناس ، وكان صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي فُوِّض من الله في التشريع .
(1/6357)

ثم يقول تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] لأنه تعالى أعلم بحِرْص النبي على هداية القوم ، وكيف أنه يجهد نفسه في دعوتهم ، كما خاطبه في موضع آخر : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه : قُلْ لهم وادْعُهم مرة ثانية لتريح نفسك { قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 54 ] وإنْ كنت غير مكلَّف بالتكرار ، فما عليك إلا البلاغ مرة واحدة .
ومعنى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] أي : من الله تعالى ، فالرسول حُمِّل الدعوة والبلاغ ، وأنتم حُمِّلْتم الطاعة والأداء ، فعليكم أن تُؤدُّوا ما كلَّفكم الله به .
{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } [ النور : 54 ] نلحظ أن المفعول في { وَإِن تُطِيعُوهُ } [ النور : 54 ] مفرد ، فلم يقل : تطيعوهما ، لتناسب صدر الآية { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 54 ] ذلك لأن الطاعة هنا غير منقسمة ، بل هي طاعة واحدة .
وقوله : { وَمَا عَلَى الرسول } [ النور : 54 ] تكليفاً من الله { إِلاَّ البلاغ المبين } [ النور : 54 ] المحيط بكل تفصيلات المنهج التشريعي لتنظيم حركة الحياة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات }
(1/6358)

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
في أول الحديث عن سورة النور قلنا : إنها سُمِّيَتْ بالنور؛ لأنها تبين للناس النور الحسيّ في الكون ، وتقيس عليه النور المعنوي في القيم ، وما دُمْنا نطفىء أنوارنا الحسية حين يظهر نور الله في الشمس ، يجب كذلك أن نطفىء أنوارنا المعنوية حين يأتينا شرع من الله .
فليس لأحد رَأْيٌ مع شرع الله؛ ذلك لأن الخالق عز وجل يريد لخليفته في الأرض أن يكون في نور حِسِّيٍّ ومعنوي ، ثم ضمن له مقومات بقاء حياته بالطعام والشراب شريطةَ أنْ يكون من حلال حتى تبنى خلاياه وتتكون من الحلال فيَسلم له جهاز الاستقبال عن الله وجهاز الإرسال إنْ أراد الدعاء .
وفي الحديث الشريف : " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك؟ " .
فهذه أجهزة مُعطَّلة خَرِبة أشبه ما تكون بالراديو الذي لا يحسن استقبال ما تذيعه محطات الإذاعة ، فالإرسال قائم يستقبله غيره ، أما هو فجهاز استقباله غير سليم .
فإذا ضمنتَ سلامة تكوينك بلقمة الحلال ضمن الله لك إجابة الدعاء ، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : " أطِبْ مَطْعمك تكُنْ مُسْتجاب الدعوة " .
ثم ضمن الله للإنسان مُقوِّمات بقاء نوعه بالزواج لاستمرار الذرية لتستمر الخلافة في الأرض طاهرة نظيفة ، ثم تحدثتْ السورة مُحذِّرة إياكم أنْ تجترئوا على أعراض الناس ، أو ترْمُوا المحصنات ، أو تدخلوا البيوت دون استئذان ، حتى لاتطّلعوا على عورات الناس . . إلخ .
فالحق سبحانه وتعالى يريد سلامة المجتمع وسلامة الخلافة في الأرض ، وكل هذه الأحكام والمعاني تصبُّ في هذه الآية :
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } [ النور : 55 ] . فمَنْ فعل ذلك كان أَهْلاً للخلافة عن الله ، إنها معركة ابتلاءات وتمحيص تُبيِّن الغَثَّ من السَّمين ، أَلاَ ترى المسلمين الأوائل كيف كانوا يُعذَّبون ويُضطهدون ، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتى اضطروا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ، وقد قال تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] .
وهؤلاء الصحابة هم الذي حملوا للدنيا مشاعلَ الهداية ، وساحوا بدعوة الله في أنحاء الأرض ، فلا بُدَّ أن يُربوا هذه التربية القاسية ، وأن يُمتحنوا كل هذا الامتحان ، وهم يعلمون جيداً ثمن هذه التضحية وينتظرون ثوابها من الله ، فأهل الحق يدفعون الثمن أولاً ، أما أهل المبادىء الباطلة فيقبضون الثمن أولاً قبل أنْ يتحركوا في اتجاه مبادئهم .
(1/6359)

وهذا الابتلاء الذي عاشه المسلمون الأوائل هو من تنقية الخليفة ليكون أَهْلاً لها .
لذلك قال سبحانه : { وَعَدَ الله } [ النور : 55 ] والوَعْد : بشارة بخير لم يَأْتِ زمنُه بعد ، حتى يستعد الناس بالوسيلة له ، وضِدّه الوعيد أو الإنذار بشرٍّ لم يأتِ زمنه بعد ، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافي الوقوع في أسبابه .
وما دام الوعد من الله تعالى فهو صِدْق ، كما قال سبحانه : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } [ النساء : 122 ] وقال سبحانه : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } [ التوبة : 111 ] .
والذي يفسد على الناس وعودهم ، ويجرُّ عليهم عدم الوفاء أن الإنسان مُتغِّير بطَبْعه مُتقلِّب ، فقد يَعِد إنساناً بخير ثم يتغير قلبه عليه فلا يفي له بما وعد ، وقد يأتي زمن الوفاء فلا يقدر عليه ، أمّا الحق تبارك وتعالى فلا يتغير أبداً ، وهو سبحانه قادر على الوفاء بما وعد به ، فليست هناك قوة أخرى تمنعه ، فهو سبحانه واحد لا إله غيره؛ لذلك فوَعْده تعالى ناجز .
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ النور : 55 ] قلنا : إن الإيمان الذي يقوم على صفاء الينبوع والعقيدة ليس مطلوباً لذاته ، إنما لا بُدَّ أن تكون له ثمرة ، وأن يُرى أثره طاعة وتنفيذاً لأوامر الله ، فطالما آمنتَ بالله فنفَّذ ما يأمرك به ، وهناك من الناس مَنْ يفعل الخير ، لكن ليس من منطلق إيماني مثل المنافقين الذين قال الله فيهم : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } [ الحجرات : 14 ] فَردَّ الله عليهم : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] يعني : خضعنا للأوامر ، لكن عن غير إيمان ، إذن : فقيمة الإيمان أن تُنفِّذ مطلوبه .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 13 ] .
فبماذا وعد الله الذين آمنوا؟ { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } [ النور : 55 ] وهذه ليست جديدة ، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ النور : 55 ] ، فاستخلاف الذين آمنوا ليس بدْعاً ، إنما هو أمر مُشاهد في مواكب الرسل والنبوة ومُشَاهد في المسلمين الأوائل من الصحابة الذين أُذوا وعُذِّبوا واضطهدوا وأُخْرِجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم ولم يُؤمَروا بردِّ العدوان .
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة في جَمْع من صحابته استقبله الأنصار بالحفاوة ، واحتضنوا هؤلاء المهاجرين ، وفعلوا معهم نموذجاًَ من الإيثار ليس له مثيل في تاريخ البشرية ، وهل هناك إيثار أعظم من أنْ يعرض الأنصاري زوجاته على المهاجر يقول : اختر إحداهما أُطلِّقها لك ، إلى هذه الدرجة فعل الإيمان بنفوس الأنصار .
ولما رأى كفار قريش ما صنعه الأنصار مع المهاجرين توقَّدوا ناراً : كيف يعيش المهاجرون في المدينة هذه العيشة الهنية وتكتلوا جميعاً ضد هذا الدين ليضربوه عن قَوْس واحدة ، وتآمروا على القدوة ليقضوا على هذا الدين الوليد الذي يشكل أعظم الخطر عليهم .
(1/6360)

حتى إن الأمر قد بلغ بالمهاجرين والأنصار أنهم لا يبيتون إلا بالسلاح ، ولا يصبحون إلا بالسلاح مخافةَ إنْ ينقضَّ عليهم أعداؤهم ، حتى إن أحد الصحابة يقول لإخوانه : أتروْنَ أنَّا نعيش حتى نأمن ونطمئن و لانبيت في السلاح ونصبح فيه ، ولا ننخشى إلا الله؟ يعني : أهناك أمل في هذه الغاية؟
وآخر يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون . ؟ ألاَ يأتينا يوم نضع فيه السلاح ونبيت آمنين؟
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق من وعد ربه ، وليس كلاماً قد يُكذَّب فيما بعد : " لا تصبرون إلا يسيراً ، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتبياً ليست فيه حديدة " يعني : في الملأ الواسع ، والاحتباء جلسة المستريح الهانىء ، والحديدة كناية عن السلاح .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ مُلْك أمتي ما زُوِيَ لي منها " .
ومعنى " إن الله زوى لي الأرض " معلوم أن للإنسان مجالَ رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق ، أمّا الأرض ذاتها فواسعة ، فُزويَتْ الأرض لرسول الله يعني : جُمعت في زاوية ، فصار ينظر إليها كلها .
إذن : فهم في هذه المرحلة يشتهون الأمن وهدوء البال ، وقد قال تعالى عنهم في هذه الفترة : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } [ البقرة : 214 ] .
وفي غمرة هذه الشدة وقمة هذا الضيق يُنزل تعالى على رسوله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] حتى إن الصحابة ليتعجبون ، يقول عمر رضي الله عنه : أيُّ جمع هذا؟ وقد نزلت الآية وهم في مكة في أشد الخوف لا يستطيعون حماية أنفسهم .
لكن بعد بدر وبعد أنْ رأى ما نزل بالكفار قال : صدق الله { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
ثم ينزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض الآيات التي تُطمئن المؤمنين وتصبرهم : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [ الرعد : 41 ] .
فاطمئنوا ، فكل يوم ننقص من أرض الكفر ، ونزيد من أرض الإيمان ، فالمقدِّمات في صالحكم ، ثم يأتي فتح مكة ويدخلها النبي صلى الله عليه وسلم في موكب مهيب مُطْأطِئاً رأسه ، تواضعاً لمن أدخله ، مُظهِراً ذِلة العبودية لله .
حتى إن أبا سفيان لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموكب يقول للعباس : لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً ، فيقول العباس : إنها النبوة يا أبا سفيان ، يعني : المسألة ليست مُلْكاً إنما هو بشائر النصر لدين الله وظهوره على معقل الأصنام والأوثان في مكة .
ثم يذهب إلى خيبر معقل أهل الكتاب من بني قَيْنُقَاع وبني النضير وبني قريظة وينتصر عليهم ، ثم تسقط في يده البحرين ومجوس هَجَر ، ويدفعون الجزية .
(1/6361)

بعد ذلك يرسل صلى الله عليه وسلم كُتبه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام ، فيرسل إلى النجاشي مَلِك الحبشة ، وإلى المقوقِس ، وإلى هرقل ، وإلى كسرى ، وتأتيه الهدايا من كُلِّ هؤلاء .
ويستمر المدُّ الإسلامي والوفاء بوعد الله تعالى لخليفة رسول الله ، فإنْ كان المد الإسلامي قد شمل الجزيرة العربية على عهد رسول الله ، فإنه تعدّاها إلى شتى أنحاء العالم في عهد الخلفاء الراشدين ، حتى ساد الإسلامُ العالمَ كله ، وأظهره الله على أكبر حضارتين في ذلك الوقت : حضارة فارس في الشرق ، وحضارة الروم في الغرب في وقت واحد ، ويتحقق وعد الله للذين آمنوا بأنْ يستخلفهم في الأرض .
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحقق النبؤات التي أخبر بها ، ومنها ما كان من أمر سراقة بن مالك الذي خرج خلف رسول الله في رحلة الهجرة يريد طلبه والفوز بجائزة قريش ، وبعد أن تاب سُرَاقة وعاد إلى الجادة كان الصحابة يعجبون لدقة ساعديْه ويصفونهما بما يدعو إلى الضحك " فكان صلى الله عليه وسلم يقول عن ساعدي سراقة : كيف بهما في سواري كسرى؟ "
ويفتح المسلمون بعد ذلك مُلْك كسرى ، ويكون سِوَارا كسرى من نصيب سُرَاقة ، فيلبسهما ، ويراهما الناس في يديه .
هذه كلها بشائر ومقدمات لوعد الله يراها المؤمنون في أنفسهم ، لا فيمن يأتي بعد { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] يعني المسألة لن تطول .
كذلك " أم حرام بنت ملحان التي خرجت في غزوة ذات الصواري وركبت البحر ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام هناك ثم يصحو وهو يضحك ، فقالت له : ما يُضحكك يا رسول الله؟ قال : " أناس من أمتي يركبون زَبَد هذا البحر ، ملوك على الأَسِرَّة أو كالملوك على الأَسِرّة " فقال : ادْعُ الله أن أكون منهم ، فدعا لها فاستجاب الله دعاءه ، وخرجتْ في الغزوة ، ولما ركبوا البحر الأبيض أرادت أن تخرج فماتت " .
إذن : فالبشارة في هذه الآية ليست بشارة لفظية ، إنما هي بشارة واقعية لها واقع يؤيدها ، قد حدث فعلاً .
لكن ، ما المراد بالأرض في { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } [ النور : 55 ] ؟ إذا جاءت الأرض هكذا مُفْردةً غير مضافة لشيء فتعني كل الأرض ، كما في قوله تعالى : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض } [ الإسراء : 104 ] يعني : تقطّعوا في كل أنحائها ، { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة } [ الإسراء : 104 ] الذي وعد الله به { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] يعني : جمعناكم من الأراضي كلها ، وهذا هو الأمل القوي الذي نعيش عليه ، وننتظر من الله أنْ يتحقق .
ثم يقول تعالى : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ } [ النور : 55 ] ففوق الاستخلاف في الأرض يُمكِّن الله لهم الدين ، ومعنى تمكين الدين : سيطرته على حركة الحياة ، فلا يصدر من أمور الحياة أمر إ لا في ضوئه وعلى هَدْيه ، لا يكون ديناً مُعطّلاً كما نُعطِّله نحن اليوم ، تمكين الدين يعني توظيفه وقيامه بدوره في حركة الحياة تنظيماً وصيانة .
(1/6362)

وقوله سبحانه : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } [ النور : 55 ] وهم الذين قالوا : نبيت في السلاح ، ونصبح في السلاح ، فيبدلهم الله بعد هذا الخوف آَمْناً ، فإذا ما حدث ذلك فعليهم أنْ يحافظوا على الخلافة هذه ، وأنْ يقوموا بحقها { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون } [ النور : 55 ] .
ومعنى { كَفَرَ بَعْدَ ذلك } [ النور : 55 ] يعني : بعد أن استخلفه الله ، ومكّن له الدين وأمَّنه وأزال عنه أسباب الخوف .
وفَرْق بين تمكين الإسلام وتمكين مَنْ يُنسب إلى الإسلام ، فالبعض يدَّعي الإسلام ، ويركب موجته حتى يحكم ويستتب له الأمر وتنتهي المسألة ، لا . . لأن التمكين ليس لك أيها الحاكم ، إنما التمكين لدين الله .
(1/6363)

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
دائماً ما يقرن القرآن بين هذيْن الركنين ، وتأتي الزكاة بعد الصلاة؛ ذلك لأن الصلاة هي الركن الوحيد الذي فُرِض من الله مباشرة ، أما بقية الأركان فقد فُرِضَتْ بالوحي ، وضربنا لذلك مثلاً ، ولله تعالى المثَل الأعلى بالرئيس الذي يُكلِّف مرؤوسيه بتأشيرة أو بالتليفون ، فإنْ كان الأمر مُهماً استدعى الموظف المختص إلى مكتبه وكلَّفه بهذا الأمر مباشرة لأهميته .
فكذلك الحق تبارك وتعالى أمر بكل التكاليف الشرعية بالوحي ، إلا الصلاة فقد فرضها على رسول الله بعد أن استدعاه إلى رحلة المعراج فكلّفه بها مشافهةً دون واسطة ، ولما يعلمه الله تعالى من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قال له : " أنا فرضتُ عليك الصلاة بالقرب ، وكذلك أجعلها للمصلى في الأرض بالقرب ، فإنْ دخل المسجد وجدني " .
وإنْ كانت أركان الإسلام خسمة ، فإن الشهادة والصلاة هما الركنان الدائمان اللذان لا ينحلان عن المؤمن بحال من الأحوال ، فقد لا تتوفر لك شروط الصوم أو الزكاة أو الحج فلا تجب عليك ، كما أن الصلاة هي الفريضة المكررة على مدار اليوم والليلة خمس مرات ، وبها يتم إعلان الولاء لله دائماً ، وقد وزَّعها الحق سبحانه على الزمن ليظل المؤمن على صلة دائمة بربه كلما شغلتْه الدنيا وجد ( الله أكبر ) تناديه .
وانظر إلى عظمة الخالق عز وجل حين يطلب من صنعته أن تقابله وتعُرض عليه كل يوم خمس مرات ، وهو سبحانه الذي يطلب هذا اللقاء ويفرضه عليك لمصلحتك أنت ، ولك أن تتصور صنعة تعُرض على صانعها كل يوم خمس مرات أيصيبها عَطَبَ؟
وربك هو الذي يناديك ويدعوك للقائه ويقول : " لا أملّ حتّى تملَّوا " ومن رحمته بك ومحبته لك تركَ لك حرية اختيار الزمان والمكان ، وترك لك حرية إنهاء المقابلة متى تشاء ، فإنْ أردتَ أنْ تظلّ في بيته وفي معيته فعلى الرَّحْب والسَّعَة .
ولأهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام اجتمع فيها كل أركان الإسلام ، ففي الصلاة تتكرر الشهادة : لا إلا إلا الله محمد رسول الله ، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة فرع العمل ، والعمل فرع الوقت ، والصلاة تأخذ الوقت نفسه ، وفيها صيام حيث تمتنع في الصلاة عما تمتنع عنه في الصوم بل وأكثر ، وفيها حج لأنك تتجه في صلاتك إلى الكعبة .
إذن : فالصلاة نائبة عن جميع الأركان في الاستبقاء ، لذلك كانت هي عمود الدين ، والتي لا تسقط عن المؤمن بحال من الأحوال حتى إنْ لم يستطع الصلاة قائماً صلى جالساً أو مضطجعاً ، ولو أن يشير بأصبعه أو بطرفه أو حتى يخطرها على باله؛ ذلك لاستدامة الولاء بالعبودية لله المعبود .
والصلاة تحفظ القيم ، فتُسوِّي بين الناس ، فيقف الغني والفقير والرئيس والمرؤوس في صَفٍّ واحد ، الكل يجلس حَسْب قدومه ، وهذا يُحدِث استطراقاً عبودياً في المجتمع ، ففي الصلاة مجال يستوي فيه الجميع .
(1/6364)

وإنْ كانت الصلاة قوامَ القيم ، فالزكاة قوام المادة لمنْ ليستْ له قدرة على الكسب والعمل . إذن : لدينا قوانين للحياة ، ولاستدامة الخلافة على الأرض قوام القيم في الصلاة ، وقوام المادة في الزكاة .
ثم يقول سبحانه : { وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ النور : 56 ] وهنا في الصلاة والزكاة خَصَّ الرسول بالإطاعة؛ لأنه صاحب البيان والتفصيل لما أجمله الحق سبحانه في فرضية الصلاة والزكاة ، حيث تفصيل كل منهما في السُّنة المطهرة ، فقال : { وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النور : 56 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض }
(1/6365)

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
يعود السياق للحديث عن الكافرين : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض } [ النور : 57 ] يعني : لا تظنن ، والشيء المعجز هو الذي يثبت العجز للمقابل ، نقول : عملنا شيئاً مُعْجزاً لفلان يعني : لا يستطيع الإتيان بمثله .
فإياك أنْ تظن أن الكافرين مهما عَلَتْ مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يُفْلِتون من عقاب الله ، فلن يثبتوا له سبحانه العجز عنهم أبداً ، ولن يُعجِزوه ، إنما يُملي لهم سبحانه ويمهلهم حتى إذا أخذهم ، أخذهم أَخذ عزيز مقتدر ، وهو سبحانه مُدرِكهم لا محالةَ .
وجاء على لسان الجن : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } [ الجن : 12 ] .
ونلحظ في قوله تعالى : { وَمَأْوَاهُمُ النار } [ النور : 57 ] أنها عطفتْ هذه الجملة على سابقتها ، وهي منفية { لاَ تَحْسَبَنَّ } [ النور : 57 ] فهل يعني هذا أن معناها : ولا تحسبن مأواهم النار؟ قالوا : لا ، إنما المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض لأن مأواهم النار .
{ وَلَبِئْسَ المصير } [ النور : 57 ] أي : المرجع والمآب .
ثم ينتقل السياق إلى سلوك يمسُّ المجتمع من داخله والأسرة في أدقِّ خصوصياتها ، بعد أنْ ذكر في أول السورة الأحكام الخاصة بالمجتمع الخارجي ، فيقول سبحانه : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم }
(1/6366)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء ، ثم الأتباع مثل الخدم وغيرهم ، والحق تبارك وتعالى يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون ، ويخصّ بالنداء هنا الذين آمنوا ، يعني : يا من آمنتم بي رباً حكيماً مُشرِّعاً لكم حريصاً على مصلحتكم استمعوا إلى هذا الأدب : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } [ النور : 58 ] .
معلوم أن طلب المتكلم من المخاطب يأتي على صورتين : فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر ، فقوله تعالى : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } [ النور : 58 ] يعني : عَلِّموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم مثل : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } [ النور : 33 ] يعني : استعفوا ، لأن اللام هنا لام الأمر ، ومثل : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] .
وهذا الأدب تكليف من الله تعالى يُكلِّف به كل مؤمن داخل الأسرة ، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور ، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصغار ، فأمر الله الكبارَ أن يُعلِّموا الصغار ، كما ورد في الحديث الشريف : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " .
فلم يُكلِّف بهذا الصغار إنما كُلِّف الكبار؛ لأن الأطفال لم يبلغوا بَعْد مبلغ التكليف من ربهم ، إنما بلغوا مبلغ التكليف عندكم أنتم ، لذلك أنت الذي تأمر وأنت الذي تتابع وتعاقب .
وأْمُرْ الصغير بالصلاة أو بالاستئذان لِتُربي فيه الدربة والتعود على أمر قد يشقُّ عليه حال كِبَره ، إنما إنْ عوَّدته عليها الآن فإنها تسهل عليهم عند سِنِّ التكليف ، وتتحول العادة في حقه إلى عبادة يسير عليها .
وشرع الله لنا آداب الاستئذان؛ لأن الإنسان ظاهراً يراه الناس جميعاً ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين ، إذن : فَرُقْعة الأهل والملاصقين لك أوسع ، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام ، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة ، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام ، فإنْ كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسعَ من حريته مع الأسرة .
فلا بُدَّ إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات ، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة ، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة .
ومعنى : { الذين مَلَكَتْ أيمانكم } [ النور : 58 ] هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير يستطيع أن يتركك في أي وقت ، أمَّا العبد فليس كذلك؛ لأنه مملوك الرقبة لا حريةَ له ، فالمملوكية راجحة في هؤلاء ، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يُفْلت منه .
{ والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ } [ النور : 58 ] هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبْلَغ التكليف ، ويقضون المصالح؛ فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضوابط ، فهل نتركهم هكذا يطَّلِعون على خصوصياتنا؟
وللخدم في البيت طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا ، وكذلك الصغار ، إلا في أوقات ثلاثة لا يُسْمح لهم فيها بالدخول إلا بعد الاستئذان : { مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر } [ النور : 58 ] لأنه وقت متصل بالنوم ، والإنسان في النوم يكون حُرَّ الحركة واللباس { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة } [ النور : 58 ] وهو وقت القيلولة ، وهي وقت راحة يتخفّف فيها المرء من ملابسه { وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء } [ النور : 58 ] وبعد العشاء النوم .
(1/6367)

هذه أوقات ثلاثة ، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلا بإذنك .
وانظر إلى هذا التحفّظ الذي يوفره لك ربك عز وجل حتى لا تُقيِّد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة ، وكأن هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك ، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذن .
أما في بقية الأوقات فالكل يستأذن عليك حتى الزوجة .
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سيدنا عمر في أمر من الأمور ، فأرسل إليه غلاماً من الأنصار ، فلما ذهب الغلام دفع الباب ونادى : يا عمر . فلم يرد؛ لأنه كان نائماً ، فخرج الغلام وجلس في الخارج ودَقَّ الباب فلم يستيقظ عمر ، فماذا يفعل الغلام؟
رفع الغلام يديه إلى السماء وقال : يا رب أيقظه . ثم دفع الباب ودخل عليه ، وكان عمر نائماً على وضع لا يصح أن يراه عليه أحد ، واستيقظ عمر ولحظ أن الغلام قد رآه على هذا الوضع ، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله نريد أن يستأذن علينا أبناؤنا ونساؤنا وموالنا وخدمنا ، فقد حدث من الغلام كيت وكيت ، فنزلت هذه الآية .
ويُسمِّي الله تعالى هذه الأوقات الثلاثة عورة : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } [ النور : 58 ] والعورة : هي ما يحب الإنسان ألاّ يراها أحد ، أو يراه عليها؛ لأنها نوع من الخلل والخصوصية ، والله لا يريد أنْ يراك أحد على شيء تكرهه .
لذلك يقولون لمن به خَلَل في عينه مثلاً : أعور : والعرب تقول للكلمة القبيحة : عوراء ، كما قال الشاعر :
وعَوْراء جاءتْ من أخٍ فردَدْتُها ... بِسالمةِ العَيْنيْنِ طَالِبةً عُذْراً
يعني : كلمة قبيحة لم أردّ عليها بمثلها ، إنما بسالمة لا عين واحدة ، بل بسالمة العينين الاثنين .
ثم يقول سبحانه : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } [ النور : 58 ] يعني : بعد هذه الأوقات : لا إثمَ ولا حرجَ عليكم ، ولا على المماليك ، أو الصغار أنْ يدخلوا عليكم ، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مُسْتعداً لممارسة حياته العادية ، ولا مانع لديه من استقبال الخَدَم أو الأَطفال الصغار دون استئذان؛ لأن طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار .
لذلك قال تعالى بعدها : { طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } [ النور : 58 ] يعني : حركتهم في البيت دائمة ، دخولاً وخروجاً ، فكيف نُقيِّدها في غير هذه الأوقات؟
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات } [ النور : 58 ] أي : بياناً واضحاً ، حتى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد { والله عَلِيمٌ } [ النور : 58 ] بكل ما يُصلح الخلافة في الأرض { حَكِيمٌ } [ النور : 58 ] في تشريعاته وأوامره ، لا يضع الحكم إلا بحكمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم }
(1/6368)

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الطفل حين كان طفلاً لم يبلغ الحُلُم كان يدخل دون استئذان في غير هذه الأوقات ، فإنْ بلغ الحُلُم فعليه أنْ يستأذن ، لا نقول : إنه تعوَّد الاستئذان في هذه الأوقات فقط ، لا ، إنما عليه أنْ يستأذن في جميع الأوقات فقد شَبَّ وكَبِر ، وانتهتْ بالنسبة له هذه الحالة .
وبلوغ الحلم أن ينضج الإنسان نُضْجاً يجعله صالحاً لإنجاب مثله ، فهذه علامة اكتمال تكوينه ، وهذا لا يتأتّى إلا باستكمال الغريزة الجنسية التي هي سَبَب النَّسْل والإنجاب ، ومثّلْنا ذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نُضْجها ، فإنْ تركتَها بعد النضج سقطتْ من نفسها ، وهذه آية من آيات الله لبقاء النوع ، فلو أكلنا الثمرة قبل نُضْجها لا تنبت بذرتها وينقرض نوعها ، فمن حكمة الله في الخَلْق ألاَّ تحلو الثمرة إلا بعد النُّضْج .
كذلك الولد حين يبلغ يصبح صالحاً للإنجاب ، ونقول له ، انتهتْ الرخصة التي منحها لك الشرع ، وعليك أن تستأذن في جميع الأوقات .
لذلك يقول تعالى في موضع آخر : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } [ النور : 31 ] .
وجاء بالطفل بصيغة المفرد؛ لأن الأطفال في هذه السِّنِّ لم تتكوّن لديهم الغريزة ، وليست لهم هذه الميول أو المآرب ، فكأنهم واحد ، أمّا بعد البلوغ وتكوُّن الميول الغريزية قال : { الأطفال } [ النور : 59 ] لأن لكل منهم بعد البلوغ ميوله وشخصيته وشطحاته .
وقوله : { كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ النور : 59 ] أي : من الكبار الذين يستأذنون في كل الأوقات { كذلك } [ النور : 59 ] أي : مثل ما بينَّا في الاستئذان الأول { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ } [ النور : 59 ] لأنه سبحانه { عَلِيمٌ } [ النور : 59 ] بما يُصلِحكم { حَكِيمٌ } [ النور : 59 ] لا يُشرِّع لكم إلا بحكمة .
ثم يقول سبحانه : { والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً }
(1/6369)

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
نعلم أن الشارع الحكيم وضع للمرأة المسلمة قواعد تسير عليها في زِيِّها وسلوكها ومِشْيتها ، حمايةً لها وصيانةً للمجتمع من الفتنة ، وحتى لا يطمع فيها أصحاب النفوس المريضة ، فجعل لها حجاباً يسترها يُخفي زينتها لا يكون شفافاً ولا واصفاً ، وقال : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] .
لكن القواعد من النساء والكبيرات منهن لَهُنَّ حكم آخر .
والقواعد : جمع قاعد لا قاعدة ، قاعدة تدل على الجلوس ، أمّا القاعد ذكراً أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة ، ولم يَعُدْ له مهمة الإنجاب ، ومثل هؤلاء لم يَعُدْ فيهنَّ إِرْبة ولا مطمع؛ لذلك لا مانعَ أن يتخفَّفْنَ بعض الشيء من اللباس الذي فُرِض عليهن حال وجود الفتنة ، ولها أن تضع ( طرحتها ) مثلاً .
لكن هذه مسألة مقولة بالتشكيك : نسبية يعني : فمِن النساء مَنْ ينقطع حَيْضها ويدركها الكِبَر ، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربنا تبارك وتعالى وضع لنا الحكم الاحتياطي { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ] ثم يدلُّهُن على ما هو خير من ذلك { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } [ النور : 60 ] .
والمقصود بوَضْع الثياب : التخفّف بعض الشيء من الثياب الخارجية شريطة { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ] فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أَخْذاً بهذه الرخصة ، ثم تضع الزينة وتتبرج . ونخشى أن نُعلِّم النساء هذا الحكم فلا يأخذْنَ به حتى لا نقول عنهن : إنهن قواعد!!
وتعجب حين ترى المرأة عندما تبلغ هذه السِّنَّ فتجدها وَرِعة في ملبسها ، وَرِعة في مظهرها ، وَرِعة في سلوكها ، فتزداد جمالاً وتزداد بهاءً وآسرية ، على خلاف التي لا تحترم سِنّها فتضع على وجهها المساحيق والألوان فتبدو مَسْخاً مُشوَّهاً .
ومعنى { يَسْتَعْفِفْنَ } [ النور : 60 ] أي : يحتفظْنَ بملابسهن لا يضعْنَ منها شيئاً ، فهذا أَدْعى للعفة .
(1/6370)

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } [ النور : 61 ] الحرج : هو الضيق ، كما جاء في قوله سبحانه : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } [ الأنعام : 125 ]
أو الحرج بمعنى : الإثم ، فالحرج المرفوع عن هؤلاء هو الضِّيق أو الإثم الذي يتعلق بالحكم الآتي في مسألة الأكل ، بدليل أنه يقول { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] .
والأعمى يتحرَّج أنْ يأكل مع الناس؛ لأنه لا يرى طعامه ، وربما امتدتْ يده إلى أطيب الطعام فيأكله ويترك أدناه ، والأعرج يحتاج إلى راحة خاصة في جلْسته ، وربما ضايق بذلك الآخرين ، والمريض قد يتأفف منه الناس . فرفَع الله تعالى عن عباده هذا الحرج ، وقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } [ النور : 61 ] .
فيصح أن تأكلوا معاً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يجعل التكامل في الذوات لا في الأعراض ، وأيضاً أنك إنْ رأيتَ شاباً مَؤوفاً يعني به آفة ، ثم تعامله معاملة خاصة فربما جرحْتَ شعوره ، حتى إنْ كان ما به أمراً خَلْقياً من الله لا يتأباه ، والبعض يتأبى أن يخلقه الله على هيئة لا يرضاها .
لذلك كانوا في الريف نسمعهم يقولون : اللي يعطي العمى حقه فهو مبصر ، لماذا؟ لأنه رضي بهذا الابتلاء . وتعامل مع الناس على أنه كذلك ، فطلب منهم المساعدة؛ لذلك ترى الناس جميعاً يتسابقون إلى مساعدته والأخذ بيده ، فإنْ كان قد فقد عيناً فقد عوَّضه الله بها ألف عَيْن ، أما الذي يتأبّى ويرفض الاعتراف بعجزه ويرتدي نظارة سوداء ليخفي بها عاهته فإنه يسير مُتعسِّراً يتخبّط لا يساعده أحد .
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد لأصحاب هذه الآفات أن يتوافقوا مع المجتمع ، لا يأخذون منه موقفاً ، ولا يأخذ المجتمع منهم موقفاً؛ لذلك يعطف على { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } [ النور : 61 ] ثم يقول سبحانه { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] يعني : هم مثلكم تماماً ، فلا حرجَ بينكم في شيء .
{ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] إلخ .
وكان في الأنصار قزازة ، إذا جلس في بيت لا يأكل منه إلا إذا أَذِنَ له صاحب البيت ، وقد يسافر الرجل منهم ويترك التابع عنده في البيت دون أنْ يأذنَ له في الأكل من طعام بيته ويعود ، فيجد الطعام كما هو ، أو يجده قد فسد دون أنْ يأكل منه التابع شيئاً ، فأراد الحق سبحانه أنْ يرفع هذا الحرج عن الناس ، فقال :
{ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] إلى آخر هذه المعطوفات .
(1/6371)

ولقائل أنْ يقول : وأيّ حرج في أنْ يأكل المرء في بيته؟ وهل كان يخطر على البال أنْ تجد حَرَجاً ، وأنت تأكل من بيتك؟
قالوا : لو حاولتَ استقصاء هؤلاء الأقارب المذكورين في الآية لتبيّن لك الجواب ، فقد ذكرتْ الآية آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم ، ولم تذكر شيئاً عن الأبناء وهم في مقدمة هذا الترتيب ، لماذا؟
قالوا : لأن بيوت الأبناء هي بيوت الآباء ، وحين تأكل من بيت ولدك كأنك تأكل من بيتك ، على اعتبار أن الولد وما ملكتْ يداه مِلْك لأبيه ، إذن : لك أن تضع مكان { بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] بيوت أبنائكم . ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لم يُرِدْ أنْ يجعل للأبناء بيوتاً مع الآباء ، لأنهما شيء واحد .
إذن : لا حرجَ عليك أن تأكل من بيت ابنك أو أبيك أو أمك أو أخيك أو أختك أو عمك أو عمتِك ، أو خالك أو خالتك { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } [ النور : 61 ] يعني : يعطيك صاحب البيت مفتاح بيته ، وفي هذا إذْنٌ لك بالتصرُّف والأكل من طعامه إنْ أردتَ .
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] ٍ وتلحظ في هذه أنها الوحيدة التي وردتْ بصيغة المفرد في هذه الآية ، فقبلها : بيوتكم ، آباءكم ، أمهاتكم . . إلخ إلا في الصديق فقال { أَوْ صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] ولم يقل : أصدقائكم .
ذلك لأن كلمة صديق مثل كلمة عدو تستعمل للجميع بصغية المفرد ، كما في قوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] .
لأنهم حتى إنْ كانوا جماعة لا بُدَّ أنْ يكونوا على قلب رجل واحد ، وإلا ما كانوا أصدقاء ، وكذلك في حالة العداوة نقول عدو ، وهم جمع؛ لأن الأعداء تجمعهم الكراهية ، فكأنهم واحد .
ثم يقول سبحانه : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } [ النور : 61 ] { جَمِيعاً } [ النور : 61 ] سوياً بعضكم مع بعض ، { أَوْ أَشْتَاتاً } [ النور : 61 ] متفرقين ، كُلٌّ وحده .
وقوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } [ النور : 61 ] علىأنفسكم ، لأنك حين تُسلِّم على غيرك كأنك تُسلِّم على نفسك ، لأن غيرك هو أيضاً سيسلم عليك ، ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة ، فحين تقول لغيرك : السلام عليكم سيردّ : وعليكم السلام . فكأنك تُسلِّم على نفسك .
أو : أن المعنى : إنْ دخلتم بيوتاً ليس فيها أحد فسلِّموا على أنفسكم ، وإذا دخلوا المسجد قالوا : السلام على رسول الله وعلينا من ربنا ، قالوا : تُسمع الملائكة وهي ترد .
وقوله تعالى : { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } [ النور : 61 ] وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [ النساء : 86 ] .
والتحية فوق أنها من عند الله فقد وصفها بأنها { مُبَارَكَةً } [ النور : 61 ] والشيء المبارك : الذي يعطي فوق ما ينتظر منه { كَذَلِكَ } [ النور : 61 ] أي : كما بيَّن لكم الأحكام السابقة يُبيِّن لكم { الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ النور : 61 ] .
أي : أن الذي كلّفكم بهذه الأحكام رَبٌّ يحب الخير لكم ، وهو غنيٌّ عن هذه ، إنما يأمركم بأشياء ليعود نَفْعها عليكم ، فإنْ أطعتموه فيما أمركم به انتفعتُم بأوامره في الدنيا ، ثم ينتظركم جزاؤه وثوابه في الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ }
(1/6372)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
المؤمن : مَنْ آمن بإله وآمن بالرسول المبلّغ عن الإله ، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالرسول المبلِّغ عن الله فلا بُدَّ أن تكون حركتك خاضعةً لأوامره ، ويجب أن تكون ذاتك له ، فإذا رأى الرسول أمراً جامعاً يجمع المسلمين في خَطْب أو حدث أو حرب ، ثم يدعوكم إلى التشاور لِيُدلي كل منكم برأيه وتجربته ، ويُوسِّع مساحة الشورى في المجتمع ليأتي الحكم صحيحاً سليماً موافقاً للمصلحة العامة .
فالمؤمن الحق إذا دُعي إلى مثل هذا الأمر الجامع ، لا يقوم من مجلسه حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس إلزاماً أنْ يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أمر المسلمين الجامع لهم قد يكون أهمّ من الأمر الذي يشغلك ، وتريد أن تقوم من أجله ، وتترك مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } [ النور : 62 ] فالاستئذان هنا من علامات الإيمان ، لا يقوم خِلْسة ( وينسلت ) من المجلس ، لا يشعر به أحد ، لا بُدَّ من أن يستأذن رسول الله حتى لا يُفوت مصلحة على المؤمنين ، ولربما كان له رَأْيٌ ينتفع به .
والرسول إما يستشير أصحابه ليستنير برأيهم وتجاربهم ، فحين يدعوهم إلى أمر جامع يجب أن يُفهم هذا الأمر على نطاق منزلة الرسول من بلاغة عن الله للأمة ، فإذا دعا نفر نفراً للتشاور ، فإنما يتشاوران في أمر شخصي يخصُّ صاحبه ، لكن حين يدعوهم رسول الله لا يدعو لخصوصية واحدة ، وإنما لخصوصية أمة ، شاء الله أن تكون خير أمة أُخْرِجَتْ للناس ، وسوف يستفيد الفرد أيضاً من هذه الدعوة ، وربما كانت استفادته من الاستجابة للدعوة العامة التي تنتظم كل الناس خَيْراً من استفادته من دعوته الخاصة ، فيجب أنْ يُقدِّر المدعو هذا الفارق .
ومع وجود هذا الفارق لم يَحرِم اللهُ بعضَ الناس الذين لهم مشاغل أنْ يستأذنوا فيها رسول الله وينصرفوا؛ لذا شرع لهم الاستئذان ، لكن يجب أنْ يضعوا هذا الفارق في بالهم ، وأنْ يذكروا أنهم انصرفوا لبعض شأنهم ، والرسول قائم في أمر لشئون الدنيا كلها إلى أنْ تقوم الساعة .
فكأنه إنْ شارك في هذا الاجتماع فسيستفيد كفرد ، وستستفيد أمته : المعاصرون منهم والآتُون إلى أنْ تقومَ الساعة ، فإنْ فضّل شأنه الخاص على هذه الشئون فقد أساء ، وفعل مَا لا يليق بمؤمن؛ لذلك أُمر رسول الله أنْ يأذنَ لمنْ يشاء ، ثم يستغفر له اللهَ .
يقول سبحانه : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [ النور : 62 ] فالأمر متروك لرسول الله يُقدِّره حَسْب مصلحة المسلمين العامة ، فَلَهُ أن يأذنَ أو لا يأذنَ .
إذن : لا بُدَّ من استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن لمَنْ يشاء منهم ممَّنْ يرى أن في الباقين عِوَضاً عنه وعن رأيه ، فإنِ استأذن صاحب رأي يستفيد منه المسلمون لم يأذن له .
(1/6373)

ثم يقول سبحانه : { واستغفر لَهُمُ الله } [ النور : 62 ] ، وكأن مسألة الاستئذان والقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لا يريده الله تعالى .
حتى إن استأذنتَ لأمر يهمك ، وحتى إنْ أَذِن لك رسول الله ، فالأفضل ألاَّ تستأذن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعو لأمر جامع يُهِمّ جماعة المسلمين ، يجب ألاَّ ينشغل أحد عَمَّا دُعِي إليه ، وألاَّ يُقدِّم على مصلحة المسلمين ومجلس رسول الله شيئاً آخر ، ففي الأمر الجامع ينبغي أنْ يُكتّل الجميع مواهبهم وخواطرهم في الموضوع ، وساعة تستأذن لأمر يخصُّك فأنت منشغل عن الجماعة شارد عنهم .
فحين تنشغل بأمرك الخاص عن أمر المسلمين العام ، فهذه مسألة تحتاج إلى استغفار لك من رسول الله ، فالرسول يأذن لك ، ثم يستغفر لك الله .
ثم يقول الحق سحبانه : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً }
(1/6374)

لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله سبحانه : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [ النور : 63 ] فأنتم يدعو بعضكم بعضاً في مسألة خاصة ، لكن الرسول يدعوكم لمسألة عامة تتعلق بحركة حياة الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة .
أو : أن الدعاء هنا بمعنى النداء يعني : يناديكم الرسول أو تنادونه؛ لأن لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم آداباً يجب مراعاتها ، فهو ليس كأحدكم تنادونه : يا محمد ، وقد عاب القرآن على جماعة لم يلتزموا أدب النداء مع رسول الله ، فقال : { إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] .
فأساءوا حين قالوا : يا محمد ، ولو قالوا حتى : يا أيها الرسول فقد أساءوا؛ لأنه لا يصحّ أنْ يتعجّلوا رسول الله ، ويجب أنْ يتركوه على راحته ، إنْ وجد فراغاً للقائهم خرج إليهم ، إذن : أساءوا من وجهين .
ولا يليق أن نناديه صلى الله عليه وسلم باسمه : يا محمد . لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد ، إنما الجامع أنه رسول الله ، فلا بُدَّ أنْ نناديه بهذا الوصف . ولِمَ لا وربه عز وجل وهو خالقه ومصطفيه قد ميّزه عن سائر إخوانه من الرسل ، ومن أولي العزم ، فناداهم بأسمائهم :
{ يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] .
وقال : { يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [ هود : 48 ] .
وقال : { ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } [ الصافات : 104105 ] .
وقال : { ياموسى إني أَنَا الله } [ القصص : 30 ] .
وقال : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] .
وقال : { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض } [ ص : 26 ] .
لكن لم يُنَادِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم باسمه أبداً ، إنما يناديه ب " ياأيها " الرسول ، ياأيها النبي . فإذا كان الحق تبارك وتعالى لم يجعل دعاءه للرسول كدعائه لباقي رسله ، أفندعوه نحن باسمه؟ ينبغي أن نقول : يا أيها الرسول ، يا أيها النبي ، يا رسول الله ، يا نبي الله ، فهذا هو الوصف اللائق المشرِّف .
وكما نُميِّز دعاء رسول الله حين نناديه ، كذلك حين ينادينا نحن يجب أن نُقدِّر هذا النداء ، ونعلم أن هذا النداء لخير عام يعود نفعه على الجميع .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] .
لا شكَّ أن الذين يستأذنون رسول الله فيهم إيمان ، فيُراعنون مجلس رسول الله ، ولا يقومون إلا بإذنه ، لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان : { يَتَسَلَّلُونَ } [ النور : 63 ] والتسلل : هو الخروج بتدريج وخُفْية كأنْ يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج ، أو يُوهِمك أنه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم فينسلِتُ من المجلس خُفْية ، وهذا معنى { يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } [ النور : 63 ] يلوذ بآخر ليخرج بسببه .
ويحذر الله هؤلاء : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] والتحذير إنذار بالعاقبة السيئة التي تترتب على الانسحاب من مجلس رسول الله ، كأنه يقول لهم : قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرسول وبين ما ينتظركم من العقاب عليه .
(1/6375)

وقال : { يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] لا يخالفون أمره ، فجعل في المخالفة معنى الإعراض ، لا مجرد المخالفة ، فالمعنى : يُعرِضون عنه .
والأمر : يُراد به فعل الأمر أو النهي أو الموضوع الذي نحن بصدده يعني : ليس طلباً ، وهذا المعنى هو المراد هنا : أي الموضوع الذي نبحثه ونتحدث فيه ، فانظروا ماذا قال رسول الله ولا تخالفوه ولا تعارضوه؛ لأنه وإنْ كان بشراً مثلكم إلا أنه يُوحَى إليه .
لذلك يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم مركزه كبشر وكرسول ، فيقول : " يَرِدُ عليَّ يعني من الحق الأعلى فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويُؤخَذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " .
لذلك كان الصحابة يفهمون هذه المسألة ، ويتأدبون فيها مع رسول الله ، ويسألونه في الأمر : أهو من عند الله قد نزل فيه وَحْي ، أم هو الرأْي والمشورة؟ فإنْ كان الأمر فيه وَحْيٌ من الله فلا كلامَ لأحد مع كلام الله ، وإنْ كان لم يرد فيه من الله شيء أدْلَى كُلٌّ منهم برأيه ومشورته .
وهذا حدث فعلاً " في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً رأى بعض الصحابة أن غيره خير منه ، فسألوا رسول الله : أهذا منزل أنزلكَهُ الله ، أم هو الرأْيُ والمشورة؟ فقال : " بل هو الرأي والمشورة " فأخبروه أنه غير مناسب ، وأن المكان المناسب كذا وكذا " .
وقوله تعالى : { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [ النور : 63 ] أي : في الدنيا { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] أي : في الآخرة ، فإنْ أفلتوا من فتنة الدنيا فلنْ يُفلتوا من عذاب الآخرة .
ثم تختم السورة بقوله تعالى : { ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض }
(1/6376)

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
ألا : أداة تنبيه لشيء مهم بعدها ، والتنبيه يأتي لأن الكلام سفارة بين المتكلم والمخاطب ، المتكلم عادة يُعد كلامه ، ولديْه أُنْسُّ بما سيقول ، لكن المخاطب قد لا يكون خالي الذِّهْن فيفاجئه القول ، وربما شغله ذلك عن الكلام ، فيضيع منه بعضه .
والحق تبارك وتعالى يريد ألاَّ يضيع منك حرف واحد من كلامه ، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها ، إلا أنها تنبهك وتُذهِب ما عندك من دهشة أو غفلة ، فتعي ما يُقال لك ، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب ، وتحدثتْ به قبل نزول القرآن .
ويقول الشاعر الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس :
أَلاَ هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبِحِيناَ ... وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدرِينَا
يريد أن ينبهها إلى الكلام المفيد الذي يأتي بعد .
وبعد ألا التنبيهية يقول سبحانه : { إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } [ النور : 64 ] .
والسموات والأرض ظرف فيهما كل شيء في الكون العُلْوي والسُّفْلي ، فلله ما في السموات وما في الأرض أي : المظروف فيهما ، فما بال الظرف نفسه؟ قالوا : هو أيضاً لله ، كما جاء في آية أخرى : { للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } [ النور : 42 ] إذن : فالظرف والمظروف مِلْك له سبحانه .
وعادةً ما يكون الظرف أقلَّ قيمةً من المظروف فيه ، فما بداخل الخزينة مثلاً أثمن منها ، وما بداخل الكيس أثمن منه ، وكذلك عظمة السموات والأرض بما فيهما من مخلوقات . لذلك إياك أنّْ تجعل المصحف الشريف ظرفاً لشيء مهم عندك فتحفظه في المصحف؛ لأنه لا شيء أغلى ولا أثمن من كتاب الله ، فلا يليق أن تجعله حافظةً لنقودك ، أو لأوراقك المهمة؛ لأن المحفوظ عادة أثمن من المحفوظ فيه .
وفي الآية : { ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } [ النور : 64 ] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور ، فكلُّ ما في السموات ، وكل ما في الأرض مِلْكٌ لله وحده ، لا يشاركه فيه أحد ، وعلى كثرة المفترين في الألوهية والفرعونية لم يَدَّعِ أحد منهم أن له مُلْكَ شيء منها .
حتى إن النمورد الذي جادل أبانا إبراهيم عليه السلام وقال : أنا أُحي وأميت لمَّا قال له إبراهيم : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } [ البقرة : 258 ] لم يستطع فِعْل شيء وبُهِت وانتهت المسألة .
ومُلْكه تعالى لم يقتصر على الخَلْق ، فخَلَق الأشياء ثم تركها تؤدي مهمتها وحدها ، إنما خلقها وله تعالى قيومية على ما خلق ، وتصرّف في كل شيء ، فلا تظن الكون من حولك يخدُمك آلياً ، إنما هو خاضع لإرادة الله وتصرّفه سبحانه .
فالماء الذي ينساب لك من الأمطار والأنهار قد يُمنع عنك ويصيب أرضك الجفاف ، أو يزيد عن حَدِّه ، فيصبح سيولاً تغرق وتدمر ، إذن : المسألة ليست رتابة خَلْق ، وليست المخلوقات آلاتٍ ( ميكانيكية ) ، إنما لله المْلك والقيومية والتصرُّف في كل ما خلق .
(1/6377)

ثم يقول سبحانه : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [ النور : 64 ] لفهم هذه الآية لا بُدَّ أن نعلم أن علاقة الحق تبارك وتعالى بالأحداث ليستْ كعلاقتنا نحن ، فنحن نعلم من علم النحو أن الأفعال ماضٍ ، وهو ما وقع بالفعل قبل أن تتكلم به مثل : جاء محمد ، ومضارع وهو إما للحال مثل : يأكل محمد . أو للاستقبال مثل : سيأكل محمد .
أما بالنسبة لله تعالى ، فالأحداث سواء كلها مَاضٍ وواقع ، وقد تكلمنا في هذه المسألة في قوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] .
ومعلوم أن الاستعجال يكون للأمر الذي يأْتِ بَعْد ، والقيامة لم تأتِ بعد لكن عبَّر عنها بالماضي ( أتى ) لأنه سبحانه لا يعوقه ولا يُخرجه شيء عن مراده ، فكأنها أتتْ بالفعل ، إذن : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ليست منطقية مع كلامك أنت ، إنما هي منطقية مع كلام الله .
كذلك في قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [ النور : 64 ] فقد : للتحقيق ، ويعلم بالنسبة لله تعالى تعني عَلِم ، لكنه بالنسبة لك أنت يعلم : إذن : فهناك طرف منك وطرف من الحق سبحانه ، فبالنسبة للتحقيق جاء بقد ، وبالنسبة للاستقبال جاء بيعلم .
ثم يقول سبحانه : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } [ النور : 64 ] وجاء في آية أخرى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] .
فإياك أن تفهم أن نظر الله ورؤيته سبحانه للأبعاض المختلفة في الأماكن المختلفة رؤية جزئية ، تتجه إلى شيء فلا ترى الآخر ، إنما هي رؤية شاملة ، كأن لكل شيء رؤية وحده ، وهذا واضح في قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] .
فسبحانه لا يشغله سَمْع عن سمع ، ولا بَصَر عن بصر ، فبصره سبحانه محيط ، واطلاعه دقيق؛ لذلك يأتي جزاؤه حقاً يناسب دِقّة اطلاعه ، فإياك إذن أن تغفل هذه الحقيقة ، فربُّك قائم عليك ، ناظر إليك ، لا تَخْفى عليه منك خافية .
فيا مَنْ تتسلل لِواذاً احذر ، فلا شيء أهمّ من مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله نفسه كان حريصاً أن يرى أصحابه في مجلسه بإستمرار ، والله تعالى يوصيه بذلك فيقول له : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } [ الكهف : 28 ] .
وكان بعض أصحابه يُصلِّي خلفه ، فكان عندما يسلم ينصرف الرجل مسرعاً فيراه صلى الله عليه وسلم في أول الصلاة ، ولا يراه في آخرها ، فاستوقفه في إحدى الصلوات وقال له : " أزهداً فينا "؟ وكأنه يعزّ على رسول الله أن يجد أحد أصحابه لا يتواجد مع حضرته ، أو يَزْهَد في مجلسه ، فيُحرم من الخيرات والتجليات التي تتنزل على مجلس رسول الله ، ويُحرَم من إشعاعات بصيرته وبصره إليه .
(1/6378)

لذلك أُحرِج الرجل ، وأخذ يوضح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدفعه كل صلاة إلى الإسراع بالانصراف ، وأن هذا منه ليس زهداً في حضرة رسول الله ومجلس رسول الله ، فقال : يا رسول الله إن لي امرأة بالبيت تنتظر ردائي هذا لتصلي فيه .
يعني : ليس لديه في بيته إلا ثوبٌ واحد ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير ، فلما عاد لزوجته سألته عن سبب غيابه ، فقصَّ عليها ما كان من أمر رسول الله ، وأنه استوقفه وحكى لها ما دار بينهما ، فقالت لزوجها : أتشكو ربك لمحمد؟
ولما سألوها بعد ذلك قالت : " غاب عني مقدار مائة تسبيحة " فانظر إلى ساعتها التي تضبط عليها وقتها .
(1/6379)

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
{ تَبَارَكَ } [ الفرقان : 1 ] مادة الباء والراء والكاف عادةً تدلُّ على البركة ، وهي أن يعطيك الشيء من الخير فوق ما تظن فيه ويزيد عن تقديرك ، كما لو رأيتَ طعام الثلاثة يكفي العشرة ، فتقول : إن هذا الطعام مُبَاركٌ أو فيه بركة .
ومن معاني تبارك : تعالى قَدْره و { تَبَارَكَ } [ الفرقان : 1 ] تنزّه عن شبه ما سواه ، وتبارك : عَظُم خَيْره وعطاؤه . وهذه الثلاثة تجدها مُكمِّلة لبعضها .
ومن العجيب أن هذا اللفظ { تَبَارَكَ } [ الفرقان : 1 ] مُعجز في رَسْمه ومُعْجز في اشتقاقه ، فلو تتعبتَ القرآن لوجدتَ أن هذه الكلمة وردتْ في القرآن تسْع مرات : سبع منها بالألف { تَبَارَكَ } [ الفرقان : 1 ] ومرتان بدون الألف ، فلماذا لم تُكتب بالألف في الجميع ، أو بدونها في الجميع؟ ذلك ليدلُّك على أن رَسْم القرآن رَسْم توقيفيّ ، ليس أمراً ( ميكانيكياً ) ، كما في قوله تعالى في أول سورة العلق : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] فرَسْم كلمة اسم هنا بالألف ، وفي باقي القرآن بدون الألف .
إذن : فالقرآن ليس عادياً في رَسْمه وكتابته ، وليس عادياً في قراءته ، فأنت تقرأ في أي كتاب آخر على أيِّ حال كنتَ ، إلا في القرآن لا بُدَّ أن تكون على وضوء وتدخل عليه بطُهْر . . الخ ما نعلم من آداب تلاوة القرآن .
ومن حيث الاشتقاق نعلم أن الفعل يُشتَقُّ منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل . . الخ ، لكن { تَبَارَكَ } [ الفرقان : 1 ] لم يذكر منها القرآن إلا هذه الصيغة ، وكأنه يريد أنّْ يخصَّها بتنزيه الله تعالى ، مثلها مثل كلمة سبحان؛ لذلك على كثرة ما مرَّ في التاريخ من الجبابرة أرغموا الناس على مدحهم والخضوع لهم ، لكن ما رأينا واحداً مهما كان مجرماً في الدين يقول لأحد هؤلاء : سبحانك .
لذلك نقول في تسبيح الله : سبحانك ، ولا تُقال إلا لك . مهما اجترأ الملاحدة فإنهم لا ينطقونها لغير الله .
إذن : { تَبَارَكَ } [ الفرقان : 1 ] تدور حول معَانٍ ثلاثة : تعالى قَدْره ، وتنزَّه عن مشابهة ما سواه ، وعَظُم خَيْره وعطاؤه ، ومَنْ تعاظُم خَيْره سبحانه أنه لا مثيل له : في قَدْره ، ولا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في فعله . وهذا كله من مصلحتنا نحن ، فلا كبيرَ إلا الله ، ولا جبارَ إلا الله ، ولا غنيَّ إلا الله .
وسُمِّي القرآن فرقاناً؛ لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل ، وقد نزل القرآن ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور ، فيسير الناس على هُدىً وعلى بصيرة ، فالقرآن إذن فَرَق لهم مواضع الخير عن مواضع العطب ، فالفرقان سائر في كل جهات الدين ، ففي الدين قمة هي الحق تبارك وتعالى ومُبلِّغ عن القمة هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومُرْسَل إليه هم المؤمنون ، فجاء القرآن ليفرُقَ بين الحق والباطل في هذه الثلاثة .
(1/6380)

ففي القمة ، وُجدِ مَنْ ينكر وجود إله خالق لهذا الكون ، وآخرون يقولون بوجود آلهة متعددة ، وكلاهما على طرفي نقيض للآخر ، ليس هناك سيال فكر يجمعهم ، فجاء القرآن ليفرق بين الحق والباطل في هذه المسألة ، ويقول : الأمر وسط بين ما قُلْتم : فالإله موجود ، لكنه إله واحد لا شريكَ له ، ففرقَ في مسألة القمة .
كذلك فَرق في مسألة الرسول وهو بشر من قومه ، فلما اعترض بعضهم عليه وحسدوه على هذه المكانة وهو واحد منهم أيَّده الله بالمعجزة التي تُؤيده وتُظهِر صِدْقه في البلاغ عن الله ، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في شيء نبغ فيه القوم ، وهي الفصاحة والبلاغة والبيان ، والعرب أهل بيان ، وهذه بضاعتهم الرائجة وتحدَّاهم بهذه المعجزة فلم يستطيعوا .
وكذلك فَرَق في مسألة الخَلْق من حيث مُقوِّمات حياتهم ، فبيَّن لهم الحلال والحرام ، وفي استبقاء النوع بيَّن لهم الحلال ، وشرع لهم الزواج ، ونهاهم عن الزنا ليحفظ سلالة الخليفة لله في الأرض .
إذن : فَرق القرآن في كل شيء : في الإله ، وفي الرسول ، وفي قِوَام حياة المرسَل إليهم ، وما دام قد فَرقَ في كل هذه المسائل فلا يوجد لفظ أفضل من أن نُسمِّيه " الفرقان " .
ولا شكَّ أن الألفاظ التي ينطق بها الحق تبارك وتعالى لها إشعاعات ، وفي طياتها معَانٍ يعلمها أهل النظر والبصيرة ممَّنْ فتح الله عليهم ، وما أشببها بفصوص الماس! والذي جعل الماس ثميناً أن به في كل ذرة من ذراته تكسراتٍ إشعاعية ليست في شيء غيره ، فمن أيِّ ناحية نظرتَ إليه قابلك شعاع معكوس يعطي بريقاً ولمعاناً يتلألأ من كل نواحيه ، وكذلك ألفاظ القرآن الكريم .
ومن معاني الفرقان التي قال بها بعض العلماء أنه نزل مُفَرَّقاً ، كما جاء في قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] يعني : أنزلناه مُفرَّقاً لم ينزل مرة واحدة كالكتب السابقة عليه ، وللحق تبارك وتعالى حكمة في إنزال القرآن مُفرقاً ، حيث يعطي الفرصة لكل نَجْم ينزل من القرآن أنْ يستوعبه الناس؛ لأنه يرتبط بحادثة معينة ، كذلك ليحدث التدرّج المطلوب في التشريعات .
يقول تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] .
لقد كان المسلمون الأوائل في فترة نزول القرآن كثيري الأسئلة ، يستفسرون من رسول الله عن مسائل الدين ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] فكان النجم من القرآن ينزل ليُجيب عليهم ويُشرَّع لهم ، وما كان يتأتَّى ذلك لو نزل القرآن جملة واحدة .
وكلمة : { نَزَّلَ الفرقان } [ الفرقان : 1 ] تؤيد هذا المعنى وتسانده؛ لأن نزّل تفيد تكرار الفعل غير " أنزل " التي تفيد تعدِّى الفعل مرة واحدة .
وقوله تعالى : { على عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] كأن حيثية التنزيل عليه هي العبودية لله تعالى ، فهو العبد المأمون أن ينزل القرآن عليه .
(1/6381)

وسبق أن قلنا : أن العبودية لفظ بغيض إنِ استُعمِل في غير جانب الحق سبحانه ، أمّا العبودية لله فيه عِزٌّ وشرف ولفظ محبوب في عبودية الخَلْق للخالق؛ لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خير عبده ، أمّا العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده .
لذلك جعل الله تعالى العبودية له سبحانه حيثية للارتقاء السماوي في رحلة الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] فالرِّفْعة هنا جاءتْ من العبودية لله .
ثم يقول سبحانه : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] العالمين : جمع عَالَم ، والعَالَم ما سوى الله تعالى ، ومن العوالم : عالم الملائكة ، عالم الإنس ، وعالم الجن ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعالم الجماد ، إلا أن بعض هذه العوالم لم يَأْتِها بشير ولا نذير؛ لأنها ليست مُخيَّرة ، والبشارة والنذارة لا تكون إلا للمخيّر .
يقول تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
فإنْ عزلْتَ من هذه العوالم مَنْ ليس له اختيار ، فيتبقى منها : الجنّ والإنس ، وإليهما أُرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً ، لكن لماذا قال هنا { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] ولم يقل : بشيراً ونذيراً؟
قالوا : لأنه سبحانه سيتكلم هنا عن الذين خاضوا في الألوهية ، وهؤلاء تناسبهم النَّذَارة لا البشارة؛ لذلك قال في الآية بعدها : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض }
(1/6382)

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
في آخر سورة النور قال سبحانه : { ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } [ النور : 64 ] فذكر ملكية المظروف ، وهنا قال : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } [ الفرقان : 2 ] فذكر مِلْكية الظرف أي : السماوات والأرض .
ثم تكلّم سبحانه في مسألة القمة التي تجرّأوا عليها ، فقال : { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] .
وسبق أنْ تكلمنا كثيراً عن مسألة اتخذا الولد والحكمة منها ، فالناس تحب الولد ، إما ليكون امتداداً للذكْر ، وإما ليساند والده حالَ ضَعْفه ، وإما للكثرة ، والحق تبارك وتعالى هو الحيُّ الباقي الذي لا يموت ، ولا يحتاج لمن يُخلِّد ذِكْراه ، وهو القويُّ الذي لا يحتاج لغيره ، فَلِمَ إذنْ يتخذ ولداً؟
وقوله : { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] وهذا أمر يؤيده الواقع؛ لأن الله تعالى أول ما شَهِد شهد لنفسه ، فقال سبحانه : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] .
أي : لما خلقتُ الملائكة شهدوا لله تعالى ، ثم شهد أولو العلم بالاستدلال ، فشهادة الحق سبحانه لنفسه شهادة الذات للذات ، والملائكة شهدتْ شهادةَ المشاهدة ، ونحن شهدنا شهادةَ الاستدلال والبرهان .
والحق تبارك وتعالى يُعطينا الدليل على صِدْق هذه الشهادة ، فيقول تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] .
وقال سبحانه : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] .
وهذا هو التفصيل المنطقي العاقل الذي نردُّ به على هؤلاء ، فلو كان مع الله تعالى آلهة أخرى لَذهبَ كل منهم بجزء من الكون ، وجعله إقطاعية خاصة به ، وعَلاَ كل منهم على الآخر وحاربه ، ولو كان معه سبحانه آلهة أخرى لاجتمعوا على هذا الذي أخذ الملْك منهم ليحاكموه أو ليتوسَّلوا إليه .
وقلنا : إن الدَّعْوى تثبُتُ لصاحبها إذا لم يَدّعِهَا أحد غيره لنفسه ، وهذه المسألة لم يدَّعها أحد ، فهي إذن ثابتة لله تعالى إلى أنْ يُوجَد مَنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه .
وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بجماعة في مجلس فَقَد أحدهم محفظته فيه ، ولما انصرفوا وجدها صاحب البيت ، فسألهم عنها ، فلم يدَّعِها أحد منهم ، ثم اتصل به أحدهم يقول : إنها لي ، فلا شكّ أنها له حتى يوجد مُدَّعٍ آخر ، فنفصل بينهما .
ثم يقول تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] فخَلْق الله تعالى ليس خَلْقاً كما اتفق ، إنما خَلْقه سبحانه بقَدَرٍ وحساب وحكمة ، فيخلق الشيء على قَدْر مهمته التي يُؤدِّيها؛ لذلك قال في موضع آخر : { الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 23 ] .
(1/6383)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
أي : أتوْا بآلهة غير الله ، هذه الآلهة بإقرارهم وبشهادتهم وواقعهم لا تخلق شيئاً ، ويا ليتها فقط لا تخلق شيئاً ، ولكن هي أنفسها مخلوقة ، فاجتمع فيها الأمران .
وهذه من الآيات التي وقف عندها المستشرقون وقالوا : إن فيها شهبة تناقض؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فأثبت أن معه آخرين لهم صفة الخَلْق ، بدليل أنه جمعهم معه ، وهو سبحانه أحسنهم . وفي موضع آخر يقول سبحانه : { وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 49 ] .
وللردِّ على هؤلاء نقول : تعالوْا أولاً نفهم معنى الخَلْق ، الخَلْق : إيجاد لمعدوم ، كما مثّلْنا سابقاً بصناعة كوب الزجاج من صَهْر بعض المواد ، فالكوب كان معدوماً وهو أوجده ، لكن من شيء موجود ، كما أن الكوب يجمد على حالته ، لكن الحق سبحانه وتعالى يُوجِد من معدوم : معدوماً من معدوم ، ويُوجده على هيئة فيها حياة ونمو وتكاثر من ذاته ، كما قال سبحانه : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] .
والذين يصنعون الآن الورد الصناعي ، ويحاولون جاهدين مُضَاهاة الورد الطبيعي الذي خلقه ، فيضعون عليه رائحة الورد ليتوفر لها الشكل والرائحة ، ثم ترى الوردة الصناعية زاهية لا تذبُل ، لكن العظمة في الوردة الطبيعية أنها تذبل؛ لأن ذُبولها يدلُّ على أن بها حياة .
لذلك سمَّى اللهُ الإنسانَ خالقاً ، فأنصفه واحترم إيجاده للمعدوم ، لكنه سبحانه أحسنُ الخالقين ، ووَجْه الحُسْن أن الله تعالى خلق من لا شيء ، وأنت خلقتَ من موجود ، الله خلق خَلْقاً فيه حياة ونمو وتكاثر ، وأنت خلقتَ شيئاً جامداً على حالته الأولى ، ومع ذلك أنصفك ربك .
ففي قوله تعالى : { أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ آل عمران : 49 ] معلوم أنه في مقدور كل إنسان أنْ يُصوِّر من الطين طَيْراً؟ ويُصمِّمه على شكله ، لكن أَيُقال له : إنه خلق بهذا التصوير طَيْراً؟ وهل العظمة في تصويره على هيئة الطير؟ العظمة في أنْ تبعثَ فيه الحياة ، وهذه لا تكون إلا من عند الله؛ لذلك قال عيسى عليه السلام : { فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 49 ] .
فإنْ سلَّمْنا أنهم يخلقون شيئاً فهم في ذات الوقت مخلوقون ، والأدْهَى من هذا أن الذي يتخذونه إلهاً لا يستطيع حتى أن يحمي نفسه أو يقيمها ، إنْ أطاحتْ به الريح ، وإنْ كُسِر ذراع الإله أخذوه لِيُرمموه ، الإله في يد العامل ليصلحه!! شيء عجيب وعقليات حمقاء .
لذلك يقول تعالى عن آلهتهم : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } [ الفرقان : 3 ] يعني : لا تنفعهم إنْ عبدوها ، ولا تضرّهم إنْ كفروا بها { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً } [ الفرقان : 3 ] أي : موتاً أو حياة لغيرهم ، فهم لا يملكون شيئاً من هذا كله ، لأنه من صفات الإله الحق الذي يُحيي ويُميت ، ثم ينشر الناس في الآخرة . إذن : للإنسان مراحل متعددة ، فبعد أنْ كان عَدَماً أوجده الله ، ثم يطرأ عليه الموت فيموت ، ثم يبعثه الله ، ويُحييه حياة الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ }
(1/6384)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
بعد أن تكلم الفرقان وفرَق في مسألة القمة والألوهية واتخاذ الولد والشركاء ، وبيَّن الإله الحق من الإله الباطل ، أراد سبحانه أنْ يتكلّم عن الفرقان في الرسالة ، فيحكى ما قاله الكفار عن القرآن { إِنْ هذا } [ الفرقان : 4 ] يعني : ما هذا أي القرآن الذي يقوله محمد { إِلاَّ إِفْكٌ } [ الفرقان : 4 ] الإفك : تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق ، وسبق أن قُلْنا : إن النسبة الكلامية إنْ وافقت الواقع فهي صٍِدْق ، وإنْ خالفتْه فهي كذب .
والإفْك قَلْب للواقع يجعل الموجود غير موجود ، وغير الموجود موجوداً ، كما جاء في حادثة الإفك حين اتهموا عائشة أم المؤمنين بما يخالف الواقع ، فالواقع أن صفوان أناخ لها ناقته حتى ركبت دون أن ينظر إليها ، وهذا يدل على مُنْتهى العِفَّة والصيانة ، وهُمْ بالإفك جعلوا الطُّهْر والعفة عُهْراً .
ومن العجيب أن هؤلاء الذين اتهموا القرآن بأنه إفك هم أنفسهم الذين قالوا عنه :
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
فهم يعترفون بالقرآن ويشهدون له ، لكن يُتعبهم ويُنغِّص عليهم أن يُنزل على محمد بالذات ، فلو نزل فرضاً على غير محمد لآمنوا به .
ومن حُمْقهم أن يقولوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
والمنطق أن يقولوا فاهْدنا إليه ، لكنه العناد والمكابرة .
وقوله : { افتراه } [ الفرقان : 4 ] أي : ادعاه ، وعجيب أمر هؤلاء ، يتهمون القرآن بأنه إفك مُفْترى ، فلماذا لا يفترون هم أيضاً مِثْله ، وهم أمة بلاغة وبيان؟!
وفي موضع آخر يقول تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] .
وقديماً قالوا : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً ، وإلا فكيف تتهمون محمداً أن رجلاً أعجمياً يُعلِّمه القرآن ، والقرآن عربي؟
وقوله تعالى : { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [ الفرقان : 4 ] الذي قال هذه المقولة هو النضر بن الحارث ، ولما قالها رددها بعده آخرون أمثال : عدَّاس ، ويسَّار ، وأبي فكيهة الرومي ، والقرآن يرد على كل هذه الاتهامات : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } [ الفرقان : 4 ] أي : حكموا به والظلم هو : الحكم بغير الحق ، والزّور هو : عُدَّة الحكم ودليله . والظلم يأتي بعد الزور ، لأن القاضي يستمع أولاً إلى الشهادة ، ثم يُرتِّب عليها الحكم ، فإن كانت الشهادةُ شهادةَ زور كان الحكم حينئذ ظالماً .
لكن الحق تبارك وتعالى يقول { ظُلْماً وَزُوراً } [ الفرقان : 4 ] وهذا دليل على أن الحكم جاء منهم مُسبقاً ، ثم التمسوا له دليلاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين }
(1/6385)

وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
الأساطير : جمع أسطورة ، مثل أعاجيب جمع أعجوبة ، وأحاديث جمعُ أُحْدوثة ، والبكرة أو النهار ، والأصيل آخره ، والمعنى أنهم قالوا عن القرآن : إنه حكايات وأساطير السابقين { اكتتبها } [ الفرقان : 5 ] يعني : أمر بكتابتها . وهذا من ترددهم واضطراب أقوالهم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ، وقولهم : { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] أي : باستمرار ليُكرِّرها ويحفظها .
ويردُّ القرآن عليهم : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر }
(1/6386)

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{ أَنزَلَهُ } [ الفرقان : 6 ] أي : القرآن مرة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا { الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض } [ الفرقان : 6 ] فلا تظن أنك بمجرد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله في كونه ، إنما ستظل إلى قيام الساعة تقف على سر ، وتقف عند سر آخر .
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبطل هذه المدعيات ، ويأتي بأشياء غيبية لم تكن تخطر على بال المعاصرين لمحمد ، ثم تتضح هذه الأشياء على مَرَّ القرون ، مع أن القرآن نزل في أُمة أمية ، والرسول الذي نزل عليه القرآن رجل أمي ، ومع ذلك يكشف لنا القرآن كل يوم عن آية جديدة من آيات الله .
كما قال سبحانه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ] .
والحق تبارك وتعالى يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغيبيات ، ليراها المعاصرون له ليلقم الكفارَ الذين اتهموه حجراً ، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة بعد أن عرف أن مكة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة ، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفار ، ويقول : " هذا مصرع أبي جهل ، وهذا مصرع عتبة بن ربيعة . . " . الخ يخطط على الأرض مصارع القوم .
ومَنِ الذي يستطيع أن يحكم مسبقاً على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ ، وضَرْب وانتقال وحركة ، ثم يقول : سيموت فلان في هذا المكان .
والوليد بن المغيرة والذي قال عنه القرآن { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } [ القلم : 16 ] يعني : ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه ، وبعد المعركة يتفقده القوم فيجدونه كذلك .
هذه كلها أسرار من أسرار الكون يخبر بها الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، والرسول يخبر بها أمته في غير مظنَّة العلم بها .
ومن ذلك ما يُروى من " أن ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجتا من ولدين لأبي لهب ، فلما حدثت العداوة بينه وبين رسول الله أمر ولديْه بتطليق ابنتي رسول الله ، وبعدها رأى أحد الولدين رسول الله ماشياً ، فبصق ناحيته ، ورأى رسول الله ذلك فقال له : " أكلك كلب من كلاب الله " . فقال أبو لهب بعد أن علم بهذه الدعوة : أخاف على ولدي من دعوة محمد .
وعجيب أنْ يخاف الكافر من دعوة رسول الله ، وهو الذي يتهمه بالسحر وبالكذب ويكفر به وبدعوته .
ولما خرج هذا الولد في رحلة التجارة إلى الشام أوصى به القوم أن يحرسوه ، ويجعلوا حوله سياجاً من بضائعهم يحميه خشية أن تنفذ فيه دعوة محمد ، وهذا منه كلام غير منطقي ، فهو يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مُرْسَل من عند الله ، لكن يمنعه من الإيمان حقده على رسول الله وتكبّره على الحق .
(1/6387)

وخرج الولد في رحلة التجارة ورغم احتياطهم في حمياته هجم عليه سبع في إحدى الليالي واختطفه من بين أصحابه ، فتعجبوا لأن رسول الله قال : " كلب من كلاب الله " وهذا أسد ليس كلباً . قال أهل العلم : ما دام أن رسول الله نسب الكلب إلى الله ، فكلب الله لا يكون إلا أسداً .
فالمعنى : قل يا محمد في الرد عليهم ولإبطال دعاواهم : { أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض } [ الفرقان : 6 ] وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله من قولكم إفك وكذب وافتراء وأساطير الأولين ، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ الناس جميعاً .
وعلى عهد رسول الله قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الروم ، فحزن رسول الله لهزيمة الروم؛ لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله وبالرسول ، أما الفرس فكانوا كفاراً لا يؤمنون بالله ويعبدون النار وغيرها . فمع أنهما يتفقان في تكذيبهم لرسول الله ، إلا أن إيمان الروم بالله جعل رسول الله يتعصب لهم مع أنهم كافرون به ، فعصبية رسول الله لا تكون إلا لربه عز وجل .
فلما حزن رسول الله لذلك أنزل الله تعالى عليه : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } [ الروم : 15 ] .
فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدة سنوات؟ لو أن المعركة ستحدث غداً لأمكن التنبؤ بنتيجتها ، بناءً على حساب العَدد والعُدة والإمكانات العسكرية ، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة . فلو أن هذه المدة مرَّت ولم يحدث ما أخبر به رسول الله لكفَر به مَنْ آمن وانفضَّ عنه مَنْ حوله .
إذن : ما قالها رسول الله قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلا وهو واثق من صِدْق ما يخبر به؛ لأن الذي يخبره ربه عز وجل الذي يعلم السرَّ في السموات والأرض؛ لذلك قال هنا الحق سبحانه وتعالى :
{ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض } [ الفرقان : 6 ] .
ومن العجيب أن ينتصر الروم على الفُرْس في نفس اليوم الذي انتصر فيه الإيمان على الكفر في غزوة بدر ، هذا اليوم الذي قال الله تعالى عنه : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } [ الروم : 45 ] .
وما دام أن الذي أنزل القرآن هو سبحانه الذي يعلم السِّر في السماوات والأرض ، فلن يحدث تضارب أبداً بين منطوق القرآن ومنطوق الأكوان؛ لأن خالقهما واحد سبحانه وتعالى فمن أين يأتي الاختلاف أو التضارب؟
ثم يقول سبحانه : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرحمة هنا؟ قالوا لأن الله تبارك وتعالى يريد أن يترك لهؤلاء القوم الذين يقرعهم مجالاً للتوبة وطريقاً للعودة إليه عز وجل وإلى ساحة الإيمان .
(1/6388)

لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أشار عليه بقتل الكفار : " لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " .
وكان الصحابة يألمون أشد الألم إنْ أفلتَ أحد رءوس الكفر من القتل في المعركة ، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما ، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد .
فقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] حتى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بمحمد على مَنْ كان كافراً به ، فيقول لهم : على رغم ما حدث منكم . إنْ عُدْتم إلى الجادة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله ورحمته .
والحق تبارك وتعالى يُبيِّن لنا هذه المسألة حتى في النزوع العاطفي عند الخَلْق ، فهند بنت عتبة التي أغرتْ وَحْشِياً بقتل حمزة عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله ، ولم تكتف بهذا ، بل مثَّلتْ به بعد مقتله ولاكَتْ كبده رضي الله عنه ، ومع ذلك بعد أنْ أسلمتْ وبايعتْ النبي صلى الله عليه وسلم نُسيت لها هذه الفعلة وكأنها لم تكُنْ .
ولما قال أحدهم لعمر بن الخطاب : هذا قاتل أخيك ( يشير إليه ) والمراد زيد بن الخطاب ، فما كان من عمر إلا أن قال : وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام )
(1/6389)

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
عجيب أمر هؤلاء المعاندين : يعترضون على رسول الله أنْ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لكسْب العيش ، فهل سبق لهم أنْ رَأَوْا نبياً لا يأكل الطعام ، ولا يمشي في الأسواق؟ ولو أن الأمر كذلك لكان لاعتراضهم معنى ، إذن : قولهم { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] قولٌ بلا حجة من الواقع ، ليستدركوا بهذه المسألة على رسول الله .
فماذا يريدون؟
قالوا : { لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] صحيح أن الملَك لا يأكل ، لكن معنى { لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } [ الفرقان : 7 ] يعني : يسانده ، وفي هذه الحالة لن يُغيِّر من الأمر شيئاً ، وسيظل كلام محمد هو هو لا يتغير . إذَن : لن يضيف الملَك جديداً إلى الرسالة . . وعليه ، فكلامهم هذا سفسطة وجَدَلٌ لا معنى له .
وكلمة { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] لم يقولوا بشيراً ، مما يدل على اللدَد واللجاج ، وأنهم لن يؤمنوا؛ لذلك لن يفارقهم الإنذار .
(1/6390)

أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
تلحظ أنهم يتنزلون في لَدَدهم وجَدَلهم ، فبعد أنْ طلبوا مَلَكاً يقولون { أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ } [ الفرقان : 8 ] أي : ينزل عليه ليعيش منه { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } [ الفرقان : 8 ] أي : بستان { وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الفرقان : 8 ] .
والمسحور هو الذي ذهب السِّحْر بعقله ، والعقل هو الذي يختار بين البدائل ويُرتِّب التصرُّفات ، ففاقد العقل لا يمكن أن يكونَ منطقياً في تصرفاته ولا في كلامه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك ، فأنتم تعرفون خُلقه وأمانته ، وتُسمُّونه " الصادق الأمين " وتعترفون بسلامة تصرفاته وحكمته ، كيف تقولون عنه مجنون؟
لذلك يقول تعالى ردًّا عليهم : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 14 ] .
والخُلُق يسوي تصرُّفات الإنسان فيجعلها مُسْعدة غير مفسدة ، فكيف إذن يكون ذو الخُلق مجنوناً؟ إذن : ليس محمد مسحوراً .
وفي موضع آخر قالوا : ساحر ، وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم ساحر ، فلماذا لم يسحركم كما سَحَر المؤمنين به؟ إنه لَجَج الباطل وتخبّطه واضطرابه في المجابهة . ثم يقول الحق سبحانه : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال }
(1/6391)

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{ انظر } [ الفرقان : 9 ] خطاب لإيناس رسول الله وتطمينه { كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } [ الفرقان : 9 ] أي : اتهموك بشتّى التهم فقالوا ساحر . وقالوا : مسحور . وقالوا : شاعر . وقالوا : كاهن { فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الفرقان : 9 ] لأنهم يقولون كذباً وهُرَاءً وتناقضاً في القول .
{ فَضَلُّواْ } [ الفرقان : 9 ] أي : عن المثل الذي يصدُق فيك ليصرف عنك المؤمنين بك ، ويجعل الذين لم يؤمنوا يُصرُّون على كفرهم ، فلم يصادفوا ولو مثلاً واحداً ، فقالوا : ساحر وكذبوا وقالوا : مسحور وكذبوا { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الفرقان : 9 ] أي : إلى ذلك .
ثم يقول الحق سبحانه : { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً }
(1/6392)

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{ تَبَارَكَ } [ الفرقان : 10 ] كما قلنا : تنزّه وعَظُم خيره؛ لأن الكلام هنا أيضاً فيه عطاء مُتمثِّل في الخير الذي ساقه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فعطاؤه سبحانه دائم لا ينقطع ، بحيث لا يقف خبر عند عطائه ، بل يظل عطاؤه خيراً موصولاً ، فإذا أعطاك اليوم عرفتَ أن ما عنده في الغد خير مما أعطاك بالأمس .
ثم يقول الحق سبحانه : { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة }
(1/6393)

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
يُضرِب السياق عن الكلام السابق ، ويعود إلى مسألة تكذيبهم وعدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإيمان ليس في مصلحتهم ، فالإيمان يقتضي حساباً وجزاءً ، وهم يريدون التمادي في باطلهم والاستمرار في لَغْوهم واستهتارهم ومعاصيتهم؛ لذلك يُكذِّبهم أنفسهم ويخدعونها ليظلوا على ما هم عليه .
ولذلك ترى الذين يُسرفون على أنفسهم في الدنيا من الماديين والملاحدة والفلاسفة يتمنون أنْ تكون قضية الدين قضية فاسدة كاذبة ، فينكرونها بكل ما لديْهم من قوة ، فالدين عندهم أمر غير معقول؛ لأنهم لو أقروا به فمصيبتهم كبيرة .
ومعنى : { وَأَعْتَدْنَا } [ الفرقان : 11 ] هيّأنا وأعددْنا لهم سعيراً؛ لأن عدم إيمانهم بالساعة هو الذي جَرَّ عليهم العذاب ، ولو أنهم آمنوا بها وبلقاء الله وبالحساب وبالجزاء لاهتَدوْا ، واعتدلوا على الجادة ، ولَنجَوْا من هذا السعير .
والسعير : اسم للنار المسعورة التي التي تلتهم كل ما أمامهم ، كما نقول : كَلْب مسعور ، ثم يقول سبحانه في وصفها : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
(1/6394)

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
يريد الحق تبارك وتعالى أن يُشخِّص لنا النار ، فهي ترى أهلها من بعيد ، وتتحرّش بهم تريد من غَيْظها أنْ تَثِبَ عليهم قبل أنْ يصلوا إليها .
والتغيُّظ : ألم وجداني في النفس يجعل الإنسان يضيق بما يجد ، ومن ذلك نسمع مَنْ يقول : ( أنا ح أطلق من جنابي ) ، يعني : نتيجة ما بداخله من الغيظ لا يتسع له جوفه ، وما دام الغيظ فوق تحمُّل النفس وسِعَتها فلا بُدَّ أن يشعر الإنسان بالضيق ، وأنه يكاد ينفجر .
لذلك يقول تعالى عن النار في موضع آخر { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } [ الملك : 8 ] تميّز يعني : تكاد أبعاضها تنفصل بعها عن بعض .
لكن ، لماذا تميِّز النار من الغيظ؟ قالوا : لأن الكون كله مُسبِّح لله حامد شاكر لربه؛ لذلك يُسَّرُّ بالطائع ويحبه ، ويكره العاصي ، أَلاَ ترى أن الوجود كله قد فرح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فرح لمولده الجمادُ والنباتُ والحيوانُ واستبشر ، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء ليعيد للإنسان انسجامه مع الكون المخلوق له ، ويعدل الميزان .
ومع ذلك نرى من البشر العقلاء أصحاب الاختيار مَنْ يكفر ، لذلك تغتاظ النار من هؤلاء الذي شذُّوا عن منظومة التسبيح والتحميد ورَضُوا لأنفسهم أن يكونوا أَدْنى من الجماد والنبات والحيوان ، ومن ذلك يقولون : نَبَا بهم المكان من كفرهم ، يعني الأماكن من الأرض تُنكرهم وتتضايق من وجودهم عليها ، كما تفرح الأرض بالطائع وتحييه؛ لأنه منسجم معها ، المكان والمكين ينتظمان في منظومة التسبيح والطاعة .
لذلك يُنبِّهنا إلى هذه المسألة الإمام على رضي الله عنه فيقول : إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في السماء ، وموضع في الأرض ، أما في الأرض فموضع مُصلاَّه؛ لأنه حُرِم من صلاته ، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب .
والحق تبارك وتعالى يُظهر لنا هذه الصورة في قوله سبحانه : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
فالنار تتشوّق لأهلها كالذي يأكل ولا يشبع ، فمهما أُلْقِي فيها من العصاة تقول : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
ومعنى { وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] النفَس الخارج . وفي موضع آخر يقول تعالى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ } [ الملك : 7 ] فذكر أن لها شهيقاً وزفيراً ، وهي في المكان الضيق .
(1/6395)

وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
فجمع الله عليهم من العذاب ألواناً حتى يقول الواحد منهم لمجرد أن يرى العذاب : { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] وهنا يدعو بالويل والثبور ، يقول : يا ويلاه يا ثبوراه يعني : يا هلاكي تعالَ احضر ، فهذا أوانك لتُخلِّصني مما أنا فيه من العذاب ، فلن يُنجيني من العذاب إلا الهلاك؛ لذلك يقولون : أشدّ من الموت الذي يطلب الموت على حَدِّ قول الشاعر :
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المْوتَ شَافِياً ... وَحَسْبُ المنَايَا ِأنْ يكُنَّ أَمانِياً
ولك أن تتصور بشاعة العذاب الذي يجعل صاحبه يتمنى الموت ، ويدعو به لنفسه .
ثم يقول الحق سبحانه : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً }
(1/6396)

لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
يُوبِّخهم الحق سبحانه وتعالى ويُبكِّتهم : يا خيبتكم ويا ضياعكم ، لن ينفعكم أنْ تدعوا ثُبوراً واحداً ، بل ادعوا ثُبوراً وثبوراً وثبوراً؛ لأنها مسألة لن تنتهي ، فسوف يُسْلِمكم العذاب إالى عذاب ، حتى ينادوا : { يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] وهو عذاب متجدد : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب } [ النساء : 56 ] .
ثم يذكر الحق سبحانه المقابل ليكون ذلك أنْكَى لأهل الشر وأَغْيظ لهم ، فيذكر بعد العذاب الثوابَ على الخير وعِظَم الجزاء على الطاعة ، ومثل هذه المقابلات كثيرة في كتاب الله ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الإنفطار : 1314 ] .
ويقول سبحانه : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ التوبة : 82 ] .
وهنا بعد أنْ ذكر النار وما لها من شهيق وزفير ، يقول سبحانه : { قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد }
(1/6397)

قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
{ قُلْ } [ الفرقان : 15 ] أَمْر لرسول الله بأن يقول ، والمقول له هم الذين اعترضوا على نبوته صلى الله عليه وسلم باعتراضات واهية من المعاصرين له ، وكانوا يتخبّطون في هذه المسائل تخبُّط مَنْ لا يعرف فيها حقيقة ، وإنما غرضه فقط أنْ يتعرّض لرسول الله في أمر دعوته ، والتعرُّض لأيِّ نبيِّ في أمر دعوته من المعاصرين له أمر طبيعي؛ لأن الرسل إنما يجيئون حين يستشري الفساد .
وسبق أنْ قُلْنا : إن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس ملَكةً تجعل الإنسان يفعل شيئاً ، ثم تأتي ملَكة أخرى فيه لتلومه على ذلك ، حينئذ تكون المناعة في ذات الإنسان ويُسمُّونها النفس اللوَّامة ، لكن قد تنطمس فيه هذه الملَكة ، فتتعاون كل مَلَكاته على الشر ، بحيث تكون النفس بكل مَلَكاتها أمّارة بالسوء ، وهي أمَّارة بصيغة المبالغة لا آمرة أي : أنها أخذْت هذا الأمر حِرْفةً لها .
كما لو رأيت رجلاً يَنْجُر في قطعة من الخشب تقول له : ناجر ، فإنِ اتخذها حرفةً له ، لا يعمل إلا هي ، تقول له : نجار ، ومثله : خائط وخيّاط . فالمعنى : أمّارة يعني : لم يَعُدْ لها عمل في أن تردع عن الشر ، بل دائماً تُقوِّي نوازع الشر في النفس ، وتتأصل فيها تصير لها حرفة .
فماذا يكون الموقف إذن؟
لا بُدَّ أنْ يجعل الحق سبحانه في نفوس قوم آخرين مَلَكة الخير ليواجهوا أصحاب هذه الأنفس الأمّارة بالسوء ، يواجهونهم بالنصح والإرشاد والموعظة ، ويصرفونهم عن الشر إلى الخير . فإذا ما فسد المجتمع كله ، لا نفسٌ مانعة ، ولا مجتمعٌ مانع ، فلا بُدَّ أنْ تتدخّل السماء برسول جديد .
ومن رحمة الله بالعالم أنه سبحانه ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكون فيها النفس اللوامة ، وضمن لها أنْ يظل مجتمعها آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر؛ لذلك لا حاجةَ لرسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن : فالمناعة موجودة في أمة الإسلام ، ولو لم تكُنْ هذه المناعة موجودة في النفس أولاً ، وفي المجتمع ثانياً لتدخلتْ السماء بعد رسول الله برسول جديد ومعجزة جديدة ليعيد الخَلْق إلى رُشْدهم .
ولا شكَّ أن في المجتمع طائفةً تنتفع بهذا الفساد ، ويعيشون في ترف في ظله ، فطبيعي إذن أنْ يدافعوا عنه ، وطبيعي أنْ يتصدَّوْا لدعوة الرسول التي جاءتْ لتعدل ميزان المجتمع ، وأنْ يقفوا له بالمرصاد؛ لأنه يهدِّد هذه النفعية ويقضي على مصلحتهم .
وإنْ كان الرسل السابقون قد تعرّضوا لمثل هذا الاضطهاد ، فقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضعاف ما تعرَّضوا له؛ لأن اضطهاده صلى الله عليه وسلم جاء مناسباً لضخامة مهمته ، فقد جاءتْ الرسل قبله ، كُلٌّ إلى أمته خاصة في زمن محدد ، أمّا رسالته صلى الله عليه وسلم فقد جاءت للناس كافة ، تعمُّ كل الزمان وكل المكان إلى أن تقوم الساعة ، فلا بُدَّ إذن أن تكون مهمته أصعب .
(1/6398)

وهؤلاء الكبراء الذين ينتفعون بالفساد في المجتمع يظنون أن رسول الله إذا لُوِّح له بالمال والنعيم يمكن أن يتنازل عن دعوته ، ويترك لهم الساحة؛ لذلك اجتمع صناديد قريش على رسول الله ، يُلوِّحون له بالمال والجاه والسلطان ، ليصدُّوه عن الدعوة ويصرفوه عنها ، هؤلاء الذين سماهم أستاذنا الشيخ موسى : دستة الشر ، وكانوا اثنا عشر رجلاً ، منهم : أبو البختري ، وأبو جهل ، وأبو سفيان ، والأسود بن المطلب ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، وعتبة بن ربيعة ، ومُنبِّه بن الحجاج ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وشيبة بن ربيعة ، ونُبيه بن الحجاج .
لقد ذهب هؤلاء إلى سيدنا محمد رسول الله يقولون : " نحن وفد قومك إليك ، جئنا لنقدِّم المعذرة حتى لا يلومنا أحد بعد ذلك ، فإنْ كنتَ تريد مالاً جمعنا لك الأموال ، وإنْ كنتَ تريد شرفاً سوَّدناك علينا ، وإن كنت تريد مُلْكاً ملّكناك علينا " .
وفَرْق بين المال والشرف : المال أن يكون الإنسان غنياً ، لكن ربما لا شرفَ له ، ولا مكانةَ بين الناس ، وهناك مَنْ له شرف وسيادة ، وليس له مال .
ونلحظ أنهم ارتقوْا في مساومة رسول الله من المال إلى الشرف والسيادة ، ثم إلى الملْك . فماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم ؟ كان موقفه هو الموقف الذي مهَّد الله له به ، حينما عرض عليه جبريل عليه السلام أن يجعل الله له جبال مكة ذهباً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل أشبع يوماً فأشكر ، وأجوع ثلاثة أيام فأتضرع " .
وفي موقف آخر ، قال له جبريل : " يُخيِّرك ربك أن تكون نبياً ملكاً ، أو نبياً عبداً فقال : بل نبياً عبداً " .
والنبي مالك منهج السماء ، والملك الذي يملك السيطرة بحيث لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه ، مثل سليمان عليه السلام ، حيث آتاه الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، ومع ذلك لم يكن هذا الملْك هو المطلوب في ذاته ، بدليل أن سليمان عليه السلام مع ما أوتية من الملْك كان لا يأكل إلا الخوشكار يعني : الخبز الأسمر غير النقي ( الردَّة ) في حين يأكل عبيده ومواليه الدقيق الفاخر النقي ، فلم يكن سليمان يريد الملْك لذاته ، إنما ليقْوَى به على دعوته ، فلا يعارضه فيها أحد .
لذلك ، لما أرسلتْ إليه ملكة سبأ بهدية لتستميله بها وتَصْرفه عما يريد رَدّ عليها : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتان الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] .
لذلك جاءته صاغرة تقول : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } [ النمل : 44 ] .
إذن : مسألة المال هذه عُرِضَتْ على رسول الله قبل أن يقترحها كفار مكة ، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد رفضه مِمَّن يملكه ، فكيف يقبله مِمَّنْ لا يملك شيئاً؟ لذلك قال لهم :
(1/6399)

" والله ما بي حاجة إلى ما تقولون ، ، فلست طالب مال ، ولا مُلْك ، ولا شرف ، إنما أنا رسول الله أُرسِلْتُ إليكم ، ومعي كتاب فيه منهجكم ، وأمرني ربي أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فإنْ جئتم على ما أحب فقد ضمنتم حظّ الدنيا والآخرة ، وإنْ رددتُمْ عليَّ قولي فإنني سأصبر إلى أن يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين " .
فلجئوا إلى عم النبي صلى الله عليه وسلم ، لعله يستطيع أن يستميله ، فلما كلَّمه عمه قال قولته المشهورة : " والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يُظهِره الله أو أهلك دونه " .
{ أذلك } [ الفرقان : 15 ] أي : ما أنتم فيه الآن من العذاب خير ، أم جنة الخلد التي وُعِد المتقون؟ احكموا أنتم في هذه المسألة وسنرضى بحكمكم ، إنها إغاظة لأهل النار ، حيث جمع الله عليهم مقاساة العذاب مع النظر إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم ، ولو كانت الأُولى وحدها لكانت كافية ، إنما هو في العذاب ويأتيه أهل الجنة لِيُبكّتوه : انظر ما فاتك من النعيم!!
وفيها أيضاً تقريع لهم ، فليس هناك وجه للمقارنة بين الجنة والنار ، فأنت مثلاً لا تقول : العسل خير أم الخل؛ لأنه أمر معروف بداهة .
وسبق أنْ تكلّمنا عن الصراط ، ولماذا ضُرِب على مَتْن جنهم ، والجميع يمرون عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد أنْ يجعل لك من مرائي النار التي تمرُّ عليها فوق الصراط نعمة أخرى تُذكِّرك بالنجاة من النار قبل أنْ تباشر نعيم الجنة .
لذلك لا يمتن الله علينا بدخول الجنة فحسب ، إنما أيضاً بالنجاة من النار ، فيقول سبحانه : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] .
فالحق سبحانه وتعالى يذكر لنا النار ، وأن من صفاتها كذا وكذا ، أما في الآخرة فسوف نراها رَأْي العين ، كما قال سبحانه : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } [ التكاثر : 7 ] وذلك حين تكون على الصراط ، فتحمد الله على الإسلام الذي أنجاك من النار ، وأدخلك الجنة ، فكل نعمة منها أعظم من الأخرى .
وفي قوله تعالى : { قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } [ الفرقان : 15 ] كلمة خير في اللغة تدور على معنيين : خير يقابله شَرٌّ ، وخير يقابله خير أعظم منه . كما جاء في الحديث الشريف : " المؤمن القوي خير وأَحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كُلٍّ خير " فكلاهما فيه خير ، وإن زاد الخير في المؤمن القوي ، وعادة ما تأتي ( من ) في هذا الأسلوب : هذا خير من هذا .
أما الخير الذي يقابله شر ، فمثل قوله تعالى : { أولئك هُمْ خَيْرُ البرية }
(1/6400)

[ البينة : 7 ] .
والجنة كما نستعملها في استعمالات الدنيا ، هي المكان المليء بالأشجار والمزروعات التي تستر السائر فيها ، أو تستر صاحبها أنْ ينتقلَ منها إلى خارجها؛ لأن بها كل متطلبات حياته ، بحيث يستغني بها عن غيرها ، لذلك أردفها الحق تبارك وتعالى بقوله { الخلد } [ الفرقان : 15 ] .
إذن : فالجنة التي تراها في الدنيا مهما بلغت فليست هي جنة الخلد؛ لأنها لا بد إلى زوال ، فعُمرها من عُمْر دُنْياها ، كأنه سبحانه يقول لكل صاحب جنة في الدنيا : لا تغترْ بجنتك؛ لأنها ستؤول إلى زوال ، وأشدّ الغم لصاحب السرور أنْ يتيقن زواله ، كما قال الشاعر :
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدي فِي سُرُورٍ ... تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُه انْتِقَالاَ
لذلك يُطمئِن الله تعالى عباده المؤمنين بأن الجنة التي وعدهم بها هي جنة الخلد والبقاء ، حيث لا يفنى نعيمها ، ولا يُنغّص سرورها ، فلذَّاتها دائمة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة .
وقوله تعالى : { التي وُعِدَ المتقون } [ الفرقان : 15 ] الوعد هنا من الله تعالى الذي يملك كل أسباب الوفاء ، والوَعْد بشارة بخير قبل مجيئه لتستعد لأن تكون من أهله ، ويقابله الإنذار ، وهو التهديد بشرٍّ قبل مجيئه لتتلافاه ، وتجتنب أسباب الوقوع فيه .
وكلمة ( مُتَّقٍ ) الأصل فيها مَنْ جعل بينه وبين الشر وقاية ، كما يقول سبحانه : { فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] يعني : اجعلوا بينكم وبينها وقاية .
ومن العجيب أن يقول سبحانه : { واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] ويقول { فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] والمعنى : اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله القهرية وقايةً؛ لأنكم لا تتحمّلون صفات قَهْره ، والنار جُنْد من جنود الله في صفات جلاله ، فكأنه تعالى قال : اتقوا جنود صفات الجلال من الله .
وقوله تعالى : { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً } [ الفرقان : 15 ] أي : جزاءً لما قدَّموا ، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ] فهذا تعليلُ ما هم فيه من النعيم : أنهم كثيراً ما تَعِبُوا ، واضطهدوا وعُذِّبوا ، وجزاء من عُذِّب في ديننا أن نُسعده الآن في الآخرة .
{ وَمَصِيراً } [ الفرقان : 15 ] أي : يصيرون إليه ، إذن : لا تنظر إلى ما أنت فيه الآن ، لكن انظر إلى ما تصير إليه حَتْماً ، وتأمل وجودك في الدنيا ، وأنه موقوت مظنون ، ووجودك في الآخرة وأنه باقٍ دائم لا ينتهي ، لذلك يقولون : إياك أنْ تدخل مدخلاً لا تعرف كيفية الخروج منه .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ }
(1/6401)

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
في الآية السابقة قال سبحانه : { جَنَّةُ الخلد } [ الفرقان : 15 ] وهنا يقول : { خَالِدِينَ } [ الفرقان : 16 ] وهذه من المواضع التي يرى فيها السطحيون تكراراً في كلام الله ، مع أن الفرق واضح بينهما ، فالخُلْد الأول للجنة ، أما الثاني فلأهلها ، بحيث لا تزول عنهم ولا يزولون هم عنها .
وقوله : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } [ الفرقان : 16 ] كأن امتياز الجنة أن يكون للذي دخلها ما يشاء ، وفي هذه المسألة بَحْث يجب أن نتنبه إليه { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } [ الفرقان : 16 ] يعني : إذا دخلتَ الجنة فلك فيها ما تشاء . إذن : لك فيها مشيئة من النعيم ، ولا تشاء إلا ما تعرف من النعيم المحدود ، أما الجنة ففيها ما لا عَيْن رأتْ ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وهذا الوعد لا يتحقق للمؤمن إلا في الجنة ، أما في الدنيا فلا أحدَ ينال كل ما يشاء حتى الأنبياء أَلاَ ترى أن نوحاً عليه السلام طلب من ربه نجاة ولده . فقال : { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] فلم يُجَبْ إلى ما يشاء .
ومحمد صلى الله عليه وسلم رغم كل المحاولات لم يتمكن من هداية عمه أبي طالب ، وهذا لا يكون إلا في الدنيا ، لذلك فاعلم أن الله تعالى حين يحجب عنك ما تشاء في الدنيا إنما ليدخره لك كما يشاء في الآخرة ، مع أن الكثيرين يظنون هذا حرماناً ، وحاشا لله تعالى أن يحرم عبده .
وفي قوله : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } [ الفرقان : 16 ] عطاءات أخرى ، لكن ربك يعطيك على قَدْر معرفتك بالنعيم ، ويجعل عليك ( كنترولاً ) فأنت تطلب وربُّكَ يعطيك ، ويدخر لك ما هو أفضل مما أعطاك .
والمشيئة في الأخرى ستكون بنفسيات ومَلَكات أخرى غير نفسيات ومَلكات مشيئات الدنيا ، إنها في الآخرة نفوس صفائية خالصة لا تشتهي غير الخير ، على خلاف ما نرى في الدنيا من ملَكات تشتهي السوء ، لأن الملَكات هنا محكومة بحكم الجبر في أشياء والاختيار في أشياء : الجبر في الأشياء التي لا تستطيع أن تتزحزح عنها كالمرض والموت مثلاً ، أما الاختيار ففي المسائل الأخرى .
ثم يقول سبحانه : { كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } [ الفرقان : 16 ] الوعد كما قلنا البشارة بخير قبل أوانه . وبعض العلماء يرى أن وعداً هنا بمعنى حق ، لكن هل لأحد حق عند الله؟
وفي موضع آخر يُسمِّه تعالى جزاءً ، فهل هو وعد أم جزاء؟ نقول : حينما شرع الحق سبحانه الوعد صار جزاءً؛ لأن الحق تبارك وتعالى لا يرجع في وعده ، ولا يحول شيء دون تحقيقه .
وكلمة { مَّسْئُولاً } [ الفرقان : 16 ] مَن السائل هنا؟ قالوا : الله تعالى علَّمنا أن نسأله ، واقرأ قوله تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] فقد سألناها نحن .
وكذلك سألتها الملائكة ، كما جاء في قوله سبحانه على لسان الملائكة : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] .
فالجنة إذن مسئولة من أصحاب الشأن ، ومسئولة من الملائكة الذين يستغفرون لنا .
(1/6402)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } [ الفرقان : 17 ] الحشر : جَمْع الناس أجمعين من لَدُنْ آدم عليه السلام وإلى أنْ تقومَ الساعة في مكان واحد ، ولغاية واحدة ، وإذا كنا الآن نضجّ من الزحام ونشكو من ضيق الأرض بأهلها ، ونحن في جيل واحد ، فما بالك بموقف يجمع فيه كل الخلائق من آدم إلى قيام الساعة؟
والعبادة : أن يطيع العابدُ أوامرَ معبوده ، فينبغي أن ننظر في كل مَنَ له أمر نطيعه : أهو أمر من ذاته؟ أم أمر مُبلَّغ من أعلى منه : رسول أو إله؟ فإنْ كان الأمر من ذاته فعليك أن تنظر أهو مُبَاح أم يتعارض مع نصٍّ شرعي؟ فإنْ كان مباحاً فلا بأسَ في إطاعته ، أما إنْ كان مخالفاً للشرع فإنْ أطعْتَه فكأنك تعبده من دون الله .
إذن : حينما يأمرك الآمر بالصلاة أو الزكاة أو الصوم فأنت قبل أن تطيعه أطعتَ مَنْ حَمَّله هذه الأمانة ، والذين يطيعون مَنْ يأمرونهم بأشياء مخالفة لمنهج الله عبدوهم من دون الله ، وجعلوهم آلهة مُطاعين ، كما قال سبحانه في الشياطين : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] وآخرون عبدوا الطاغوت ، أو عبدوا الشمس ، أو القمر ، أو النجوم ، أو الأصنام والجماد .
ومعلوم أن عبادة هذه الجمادات عبادة باطلة خاطئة ، فالعبادة إطاعة أمر ، وهل للجمادات أمر لأحد؟ إنما العبادة إنْ صَحَّتْ بهذا المعنى فتكون لمَنْ يملك أمراً أو سلطة زمنية من الرهبان ، أو من الشياطين ، أو الملائكة ، أو من عيسى عليه السلام حيث قال البعض بألوهيته أو العزيز الخ . ودخلت الجمادات مع هؤلاء على سبيل العموم .
لذلك يقول تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الفرقان : 17 ] يعني : يجمع العابد على الضلال والمعبود على الضلال في مكان واحد معاً ، لماذا؟ لأن العابد إذا وجد نفسه في العذاب ربما انتظر معبوده أنْ ينقذه من العذاب ، لكن ها هو يسبقه إلى النار ويقطع عنه كلَّ أمل في النجاة .
وقول الحق سبحانه وتعالى : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } [ الفرقان : 17 ] .
والخطاب هنا مُوجَّه لمن يعقل منهم ، ولا مانعَ أن يكون للجميع ، فنحن نتحدث عن القانون الذي نعرفه ، وقد بيَّن لنا الحق تبارك وتعالى أن لكل شيء لغةً ، فلماذا نستبعد أن يكون الخطاب هنا للعاقل ولغير العاقل ، بدليل قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
وقد قال سليمان عليه السلام وهو مِمَّن فقه التسبيح : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [ الأحقاف : 15 ] لما سمع النملة تُحذِّر قومها : { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] فتبسَّم سليمان عليه السلام لما سمع من النملة وسمَّاه قَوْلاً ، وفي هذا رَدٌّ على مَنْ يقول : إن التسبيح هنا من النملة تسبيحُ حال ، لا تسبيح مقال .
(1/6403)

وهو قوْل مخالف لنصِّ القرآن الذي قال : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] فقد حكم الحق سبحانه بأنك لا تفقه هذا التسبيح ، فإن قُلْتَ : هو تسبيح دلالة فقد فقهته ، وقد حكم سبحانه بعدم فِقْهك له إلا إذا عرّفك الله تعالى ، وأطلعك على لغات هذه المخلوقات .
ولماذا نستبعد هذه المسألة والعلم الحديث يُقرِّر الآن أن لكل أمة من أمم الموجودات لغتها الخاصة ، وألسْنَا نتحدث الآن فيما بيننا بلغة غير منطوقة ، وهي لغة الإشارات التي يتفاهم بها البحارة مثلاً؟
فالحق سبحانه وتعالى يسأل المعبودين : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } [ الفرقان : 17 ] والله يعلم إنْ كانوا أضلُّوهم أم لا؛ لذلك أجاب عيسى عليه السلام على مثل هذا السؤال في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } [ المائدة : 116 ] .
وسؤال الله للمعبودين تقريع للعابدين أمام مَنْ عبودهم ، ولو أن عبادتهم بحقٍّ لكان المعبودون دافعوا عن هؤلاء أمام الله؛ لذلك أجاب عيسى عليه السلام : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 117 ] .
أما الآخرون فقالوا : ما أضللناهم ، بل هم ضَلُّوا السبيل .
وكلمة { عِبَادِي } [ الفرقان : 17 ] سبق أن قلنا إن ( عبد ) تُجمع على ( عباد ) و ( عبيد ) ، وعبد يعني أنه خاضع لأمر السيد ، وليس له تصرُّف من ذاته ، إنْ نظرتَ هذه النظرة فكل خَلْق الله عبيد؛ لأن هناك أشياء لا يخرجون فيها عن مراد الله تعالى كميلاده على شكل خاص أو مرضه أو وفاته .
لذلك نقول للذين أَلِفُوا مخالفة أوامر الله والتمرد عليه سبحانه : قد تتمردون على الإيمان به فتكفروا ، وقد تتمردون على الإيمان برسوله فتكذِّبوا ، وقد تتمردون على حُكْم من الأحكام فتخالفوه .
إذن : لكم جَرْأة على المخالفة وإلْف للتمرد ، وما دام لك دُرْبة على ذلك ، فعليك أنْ تتمرد أيضاً عند المرض وتقول : لن أمرض وتتمرّد علىلموت فلا تموت ، لكن هيهات ، فهذه مسائل ، الكل فيها عبيد لله مقهورون لإرادته سبحانه ، المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي .
وهناك أمور أخرى جعلها الله بالاختيار ، فالذين سبقتْ لهم من الله الحسنى ، وأُلْهموا التوفيق يتنازلون عن اختيارهم لاختيار ربهم ومراده ، فيكونون عبيداً لله في كل الأمور القهريات وغير القهريات ، وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يكونوا عباداً لله .
فالعباد إذن يشتركون مع العبيد في القهريات ، ويتميزون عنهم بتنازلهم عن مرادهم لمراد ربهم ، وعن اختيارهم لاختياره عَزَّ وجلَّ؛ لذلك سمّاهم عباداً ، كما جاء في قوله سبحانة :
{ وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }
(1/6404)

[ الفرقان : 63 ] .
والاستفهام في قوله سبحانه : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي } [ الفرقان : 17 ] يقول فيه بعض غير المؤهَّلين للفَهْم عن الله : أما كان يقول : أأضللتم عبادي؟ ونقول لهؤلاء : ليس لديكم الملَكَة اللغوية لفَهْمِ القرآن ، فأنت تستفهم عن الفعل إذا لم يكن موجوداً أمامك ، تقول : أبنيتَ البيت الذي أخبرتني أنك ستبنيه؟ فيخبرك : بنيتُه أو لم أَبْنِه ، أمَّا حين تقول : أبنيتَ هذا البيت؟ فالسؤال ليس عن البناء ، إنما عن فاعله ، أنت أم غيرك؟ لأن البناء قائم أمامك .
إذن : فَرْقٌ بين السؤال عن الحَدث ، والسؤال عن فاعل الحدث ، والضلال هنا موجود فعلاً ، فالسوال عن الفاعل { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } [ الفرقان : 17 ] .
وسمَّاهم عباداً هنا مع أنهم ضالون؛ لأن الكلام في الآخرة ، حيث لم يَعُدْ لأحد اختيار ، الاختيار كان في الدنيا وعليه ميَّزنا بين العبيد والعباد ، أما في الآخرة فالجميع عبيد والجميع عباد ، فقد زال ما يُميِّزهم؛ لأنهم جمعياً مقهورون لا اختيارَ لأحد منهم .
(1/6405)

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
كلمة ( سبحان ) أي : تنزيهاً لله تعالى في ذاته عن مشابهة الذوات ، وتنزيهاً لله تعالى في صفاته وأفعاله عن مشابهة الصفات والأفعال ، فللّه سَمْع ولك سمع ، ولله وجود ولك وجود ، ولله حياة ولك حياة ، لكن أحياتك كحياة الله؟ الله جبار وأنت قد تكون جباراً ، الله غني وأنت قد تكون غنياً ، فهل غِنَاك كغِنَى الله؟ ولله تعالى فِعْل ولك فعل ، فهل فِعْلك كفِعْل الله؟
إذن : هناك فَرْق بين الصفات الذاتية والصفات الموهوبة التي يقبضها واهبها إنْ شاء .
وقد تُقال سبحان الله ويُقصَد بها التعجب ، فحين تسمع كلاماً عجيباً تقول : سبحانه الله يعني : أنا أنزه أن يكون هذا الكلام حدث .
لذلك يقولون هنا : { سُبْحَانَكَ } [ الفرقان : 18 ] يعني : عجيبة أننا نضل ، كيف ونحن نعبدك نجعل الآخرين يعبدوننا ، والمعنى : أن هذا لا يصح مِنَّا ، كيف ونحن ندعو الناس إلى عبادتك ، وليس من المعقول أننا ندعوهم إلى عبادتك ونتحوّل نحن لكي يعبدونا : { سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } [ الفرقان : 18 ] .
فأنت وليُّنا الذي نتقرّب إليه ، وقد بعثْتنا لمهمة من المهمات ، ولا بُدَّ أن صواب اختيارك لنا يمنعنا أن نفعل هذا ، وإلا ما كُنا أمناء على هذه المهمة . فسبحانك : تنزيهاً لك أن تختار مَنْ ليس جديراً بالمهمة ، فيأخذ الأمر منك لنفسه .
ومعنى : { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ } [ الفرقان : 18 ] نفي الانبغاء ، نقول : ما ينبغي لفلان أن يفعل كذا ، كما قال تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] والشعر مَلكَة وموهبة بيان أدائية ، وكان العرب يتفاضلون بهذه الموهبة ، وإنْ نبغ فيهم شاعر افتخروا به ورفع من شأنهم ، ولقد توفرت لرسول الله هذه الملَكة .
ولو كان صلى الله عليه وسلم شاعراً لكان شاعراً مُبْدعاً ، لكنه صلى الله عليه وسلم ما ينبغي له ذلك؛ لأن الشعر مبنيٌّ على التخيُّل؛ لذلك أبعده الله عن الشعر حتى لا يظن القوم أن ما يأتي به محمد من القرآن تخيلات شاعر ، فلم تكُنْ طبيعة رسول الله جامدة لا تصلح للشعر ، إنما كان صلى الله عليه وسلم ذا إحساس مُرْهَفٍ ، ولو قُدِّر له أنْ يكون شاعراً لكان عظيماً .
وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن الشعراء :
{ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 224226 ] .
وقالوا عن الشعر : أَعْذبه أكذبُه ، لذلك لم يدخل رسول الله طِوَال حياته هذا المجال .
إذن : فقولهم { سُبْحَانَكَ } [ الفرقان : 18 ] ردٌّ على { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } [ الفرقان : 17 ] ثم يذكر الدليل على { أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } [ الفرقان : 17 ] في قوله : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } [ الفرقان : 18 ] فلما متَّعتهم يا ربّ أترفهم النعيم ، وشغلتْهم النعمة عن المنعِم ، فانحرفوا عن الجادَّة .
(1/6406)

والآية تنبه المؤمن ألاّ يَأْسَى على نعيم فاته ، فربما فتنك هذا النعيم وصرفك عن المنعِم عزَّ وجل ، فمن الخير إذن أنْ يمنعه الله عنك؛ لأنك لا تضمن نفسك حال النعمة .
وقوله تعالى : { حتى نَسُواْ الذكر } [ الفرقان : 18 ] أي : نسُوا المُنْعِم ، وحَقُّ النعمة ألاَّ تُنَسِى المنعم ، لذلك سبق أنْ قُلْنا : إن الصحيح إنْ كان في نعمة العافية من المنعم سبحانه ، فالمريض الذي حُرِم منها ليس في نعمة المنعِم ، إنما في صحبته ومعيته .
ومن هنا لما مرض أحد العارفين بالله كان يغضب إذا دُعِي له بالشفاء ، ويقول لعائده : لا تقطع عليَّ أُنْسي بربي .
وجاء في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، مرضتُ فلم تَعُدْني ، قال : وكيف أعودُكَ وأنت ربُّ العالمين ، قال : أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْهُ ، أما إنك لو عُدته لوجدتني عنده " .
إذن : حينما يعلم المريض أنه في معية الله يستحي أن يجزع ومعنى { قَوْماً بُوراً } [ الفرقان : 18 ] البُور : الهلاك ، ومنه أرض بُور ، وهي التي لا تُنبت .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ }
(1/6407)

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
بعد أن سألهم الحق تبارك وتعالى وهو أعلم بهم : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } [ الفرقان : 17 ] وأجابوا : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } [ الفرقان : 18 ] وقد هَزَّهم هذا السؤال هِزَّة عنيفة أراد سبحانه أنْ يُبرئهم فقال { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } [ الفرقان : 19 ] يعني : أنا أعرف أنكم قلتم الحق ، لكنهم كذَّبوكم بما تقولون { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } [ الفرقان : 19 ] فالتفت إليهم . والصرف : أن تدفع بذاتك عن ذاتك الشر إنْ تعرّض به أحد لك ، والنصر : إذا لم تستطع أنت أنْ تدفع عن نفسك فيأتي مَنْ يدفع عنك .
ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ الفرقان : 19 ] وقد يسأل سائل : لماذا يخاطب الحق سبحانه أولياءه بهذا العنف؟ قالوا : في الواقع ليس هذا العنف نَهْراً لأولياء الله ، إنما زجر ولَفْتُ نظرٍ للآخرين ، فإذا كان الحق سبحانه يخاطب أهل طاعته بهذا العنف ، فما بالك بأعدائه ، والخارجين على منهجه؟
إنهم حين يسمعون هذا الخطاب لا بُدَّ أن يقولوا : مع أن الله اصطفاهم وقرّبهم لم يمنعه ذلك أنْ يُوجِّههم إلى الحق وينهرهم .
ألم يقل سبحانه عن حبيبه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 4446 ] فالحق تبارك وتعالى يتحدث عن نبيه بهذه الطريقة ليخيف الآخرين ويرهبهم .
والظلم : أخْذُ حقِّ الغير ، ما دام أن الله تعالى حرَّم ذلك ، فهذا يعني أن الله يريد أنْ يتمتع كل واحد بثمرة مجهوده؛ لأن أمور الحياة لا تستقيم إنْ أخذ الإنسان ثمرةَ غيره ، وتعوَّد أن يعيش على دماء الآخرين وعَرقهم؛ لذلك نرى في المجتمع بعض المجرمين والمنحرفين ( الفاقدين ) الذين يعيشون على عَرق الآخرين وهم لا يعرقون .
وحين يُؤخَذ الحق من صاحبه ، ثم لا يجد مَنْ ينصفه ، ويعيد له حقه المسلوب يميل إلى الكسل ويزهَد في العمل وبذْل المجهود ، ومعلوم أن العمل لا تعود ثمرته على صاحبه فحسب ، وإنما على الآخرين حيث يُيسِّر للناس مصالحهم ، ويُسهِم بحركته في حركة المجتمع .
وسبق أن قلنا : إن الفرْق بين المؤمن وغيره في العمل أن الكافر يعمل لنفسه ، أمّا المؤمن فيعمل لما يكفيه ، ويجهد ليساعد الآخرين؛ لذلك عليك أن تعمل على قَدْر طاقتك لا على قَدْر حاجتك ، فحاجتك تتوفر لك مما أتيته بطاقتك ، ثم يكون الباقي عندك لمن لا يقدر على العمل وليس لديه طاقة .
والمعركة التي تدور بين الكفار والمؤمنين وعلى رأسهم الرسل ، اللهُ تعالى يفصل فيها ، يقول : لا يستطيع أحد من خَلْقي أن يظلمني ، لأن المظلوم فيه نقطة ضعف ، والظالم فيه نقطة قوة؛ لذلك يقول سبحانه : { وَمَا ظَلَمُونَا } [ البقرة : 57 ] أي : لا يقدر أحد على ذلك
(1/6408)

{ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] فظُلْمهم لأنفسهم ، لا للمؤمنين .
فالحق تبارك وتعالى يغَارُ على عبده أن يظلم نفسه؛ لأن للإنسان ملكات متعددة : ملكة الاشتهاء العاجل وملكة التأنِّي الآجل . فالتلميذ المجتهد اختار الراحة الآجلة ، والكسول اختار الراحة العاجلة ، فكلاهما مُحِبٌ لنفسه يسعى إلى راحتها ، لكن فَرْق بين حُبِّ واعٍ ، وحُبٍّ أحمق ، فالأول يتحمل المشاق لينال في نهاية الأمر أعلى المراتب ، والآخر تستهويه الراحة العاجلة ، وسرعان ما يجد نفسه صُعْلوكاً في المجتمع ، فمتعة الأول أبقى وأطول ، ومتعة الآخر سريعة منتهية .
هذه قاعدة عامة تُقال في عمل الدنيا ، وتُقال في عمل الآخرة ، فالحق تبارك وتعالى خلق الإنسان ويحب منه ألاَّ تظلم ملكَة في النفس ملكةً أخرى ، وألا تظلم ملكة العجلة ملكة التأنِّي؛ لأن ملكة العجلة تأخذ خيراً عاجلاً منتهياً ، أما ملكة التأني فتنال الخير الآجل الباقي غير المنتهي .
إذن : فالله تعالى يريد لصنعته ، سواء المؤمن أو الكافر ألاّ يظلم نفسه؛ لأن الله كرَّمه وخلق الكون كله لخدمته وسخَّره من أجله؛ لذلك يقول له : إنك لا تستطيع أن تظلمني ولا تظلم المؤمنين ، إنما تظلم نفسك ، فربٌّ يعاقب الإنسان على أنه ظلم نفسه فهو نِعْم الربّ .
لذلك جاء في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، أنا لك مُحبٌّ بدليل أنني أعاقبك إذا ظلمتَ نفسك فبحقِّي عليك كُنْ لي مُحِباً " .
وحين يُضخِّم الحق سبحانه وتعالى العقوبة : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ الفرقان : 19 ] إنما ليُنفِّر عباده منها ، ويبتعد بهم عن أسبابها ، فلا تقع .
وكثيراً ما يعترض أعداء الإسلام على قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] يقولون : فلماذا تقتلون مَنْ يرتدّ عن الإسلام؟ وهؤلاء لا يَدْرُون أن هذا الحكم نضعه عقبةً في طريق كل مَنْ يريد الإيمان ، وتنبيه له حتى يفكر جيداً فيما هو مُقبل عليه إن اختار الإسلام ، فلا يدخله إلا بعد رضاً واقتناع تام ، وحين يعلم هذا الحكم يحتاطُ للأمر فيدخل عليه بمَحْضِ اختياره وتعقّله .
فالإسلام لا يريد كثرة مُتسرِّعة ، إنما يريد تروياً وتعقّلاً وتدبراً ، وهذا يُحسب للإسلام لا عليه ، فهو سلعة غالية يثق صاحبها في جَوْدتها ، كما تذهب إلى تاجر القماش مثلاً ، فيعرض عليك بضاعته ويُظهِر لك جودتها ويختبرها أمامك ، لماذا؟ لأنه واثق من جودة بضاعته .
ومن ذلك ما خُتِمَتْ به كثير من آيات الذكر الحكيم مثل : تفكِّرون ، تعقلون ، تذكِّرون . وهذا دليل على أنك لو تعقلتَ ، لو تدبرتَ ، لو تذكرتَ لاهتديت إلى ما جاء به القرآن .
إذن : فقوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ الفرقان : 19 ] كان الذي يؤخذ على القرآن ، أو على الحق سبحانه أن الظالم حين يظلم هو يُعاقِب لنفسه حيث أُخِذ منه شيء ، لكن الحق سبحانه ما أُخذ منه شيء ، إنما هو سبحانه بصفات الكمال فيه سبحانه خلقكم ، فما ظلمتم إلا أنفسكم .
ثم يقول الحق سبحانه عن رسله وأنبيائه : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين }
(1/6409)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
سبق أن تكلمنا في قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] وهذه صِفَة كل الرسل ، وليس محمد بِدْعاً في ذلك ، وإذا كان أكْل الطعام يقدح في كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً ، وكانوا يريدون رسولاً لا يأكل الطعام ، فنقول : بالله إذا كان أكْل الطعام منعه عندكم أن يكون رسولاً ، فكيف تقولون لمن أكل الطعام أنه إله؟ كيف وأنتم ما رضيتم به رسولاً؟
وقد جعل الحق تبارك وتعالى الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق؛ لأن الرسول يجب أن يكون قدوة وأُسوْة في كل شيء للخَلْق ، ولذلك كان رسول الله على أقلِّ حالات الكون المادية من ناحية أمور الدنيا من أكْل وشُرْب ولباس ، ذلك ليكون أُسْوة للناس ، وكذلك نجده صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يكون أهل بيته مثله ، لذلك لم يجعل لهم نصيباً في الزكاة التي يأخذها أمثالهم من الفقراء .
ويقول صلى الله عليه وسلم : " إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " .
ومَنْ كان عليه دَيْن من المسلمين تحمّله عنه رسول الله ، وهذا كله إنْ دلَّ فإنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم واثق من جزاء أُخْراه ، فلا يُحبّ أن يناله منه شيء في الدنيا .
لذلك قُلْنا : لو نظرتَ في مبادىء الحق ومبادىء الباطل أمامك في الدنيا لوجدتَ أن مبدأ الباطل يدفع ثمنه أولاً ، فمثلاً لكي تكون شيوعياً لا بُدَّ أن تأخذ الثمن أولاً ، أما مبدأ الحق فأنت تدفع الثمن مُقدّماً : تتعب وتُظلم وتُعذَّب وتجوع وتتشرد ، وتخرج من أهلك ومن مالك ، ثم تنتظر الجزاء في الآخرة . وبهذا المقياس تستطيع أنْ تُفرِّق بين الحق والباطل .
وقوله تعالى : { وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] أي : يرتادونها لقضاء مصالحهم وشراء حاجياتهم ، دليلٌ على تواضعهم وعدم تكبُّرهم على مثل هذه الأعمال؛ لذلك كان سيدنا رسول الله يحمل حاجته بنفسه ، فإنْ عرض عليه أحدُ صحابته أنْ يحملها عنه يقول صلى الله عليه وسلم : " صاحب الشيء أحقُّ بحمله " .
ومعنى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } [ الفرقان : 20 ] فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض؟ كما في قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] أيُّ بعض مرفوع ، وأيّ بعض مرفوع عليه؟
نلاحظ في مثل هذه المسائل أن الناس لا تنظر إلا إلى زاوية واحدة : أن هذا غنيٌّ وهذا فقير ، لكنهم لو أخذوا في المفاضلة بكل جوانب النفس الإنسانية لوجدوا أن في كل إنسان موهبةً خَصّه الله بها ، فكلٌّ مِنّا عنده مَيْزةٌ ليست عند أخيه؛ ذلك ليتكاتف الناس ويتكامل الخَلْق؛ لأن العالم لو كان نسخة واحدة مكررة ما احتاجَ أحدٌ لأحد ، وما سأل أحد عن أحد ، أمّا حين تتعدد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي ، فيترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التفضل .
(1/6410)

ولو تصورنا الناس جميعاً تخرجوا في الجامعة وأصبحوا ( دكاترة ) فمَنْ يكنس الشارع؟ ساعتها سيتطوع أحدنا يوماً لهذه المهمة ، إذن : تصبح الحاجة بنت تطوُّع وتفضُّل ، والتفضُّل لا يُلزِم أحداً بعمل ، فقد تتعطل المصالح . أمّا حين تدعوك الحاجة فأنت الذي تُسرع إلى العمل وتبحث عنه .
أَلاَ ترى أصحاب المهن الشاقة يخرجون في الصباح يبحثون عن عمل ، ويغضب الواحد منهم إذا لم يجد فرصة عمل في يومه مع ما سيتحمله من آلام ومشاق ، لماذا؟ إنها الحاجة .
فالعامل الذي يعمل في المجاري مثلاً ويتحمَّل أذاها هو في قدرته على نفسه ورضاه بقدَر الله فيه أفضل مِنِّي أنا في هذه المسألة ، لأنني لا أقدر على هذا العمل وهو يقدر ، ولو ترك الله مثل هذه الأعمال للتفضّل ما أقدم عليها أحد ، إذن : التسخيرات من الحق سبحانه وتعالى لحكمه .
ومثل هذه الأعمال الشاقة أو التي تؤذي العامل يعدُّها البعض أعمالاً حقيرة ، وهذا خطأ ، فأيُّ عمل يُصلح المجتمع لا يُعَدُّ حقيراً ، فلا يوجد عمل حقير أبداً ، وإنما يوجد عامل حقير .
فمعنى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } [ الفرقان : 20 ] كل بعض منا فتنة للآخر ، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير ، والفقير فتنة للغني . . الخ فحين يتعالى الغني على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا قتنة للغني ، وحين يحقد الفقير على الغني ويحسده ، فالغنيّ هنا فتنة للفقر ، وهكذا الصحيح فتنة للمريض ، والرسل فتنة لمن كذّبوهم ، والكفار فتنة للرسل .
والناس يفرون من الفتنة في ذاتها ، وهذا لا يصح؛ لأن الفتنة تعني الاختبار ، فالذي ينبغي أن نفر منه نتيجة الفتنة ، لا الفتنة ذاتها ، فالامتحان فتنة للطلاب ، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ . إذن : الفتنة في ذاتها غير مذمومة .
لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذهب حين يُصْهر ، ومعلوم أن الذهَب أفضل المعادن ، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه ، لماذا؟ لأن من مَيْزاته أنه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره ، وهو كذلك سهل السَّبْك؛ لذلك يقولون : المعدن النفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره ، سريع جَبْره . فمثلاً حين يتكسر الذهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزجاج مثلاً .
إذن : الفتنة اختبار ، الماهر مَنْ يفوز فيه ، فإنْ كان غنياً كان شاكراً مُؤدِّياً لحقِّ الغني مُتواضعاً يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم ، والفقير هو العاجز عن الكسب ، لا الفقير الذي احترف البلطجة وأَكْل أموال الناس بالباطل .
ولما كانت الفتنة تقتضي صَبْراً من المفتون ، قال سبحانه : { أَتَصْبِرُونَ } [ الفرقان : 20 ] فكل فتنة تحتاج إلى صبر ، فهل تصبرون عليها؟
ولأهمية الصبر يقول تعالى في سورة العصر : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 12 ] يعني : مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلاّ أنْ يتصف بهذه الصفات : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ] .
وتُختم الآية بقوله سبحانه : { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ الفرقان : 20 ] لينبهنا الحق سبحانه أن كل حركة من حركاتكم في الفتنة مُبْصَرة لنا ، وبصرنا للأعمال ليس لمجرد العلم ، إنما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا }
(1/6411)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
واللقاء : يعني البعث ، وقد آمنا بالله غَيْباً وفي الآخرة نؤمن به تعالى مَشْهداً { لِّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] حتى مَنْ لم يؤمن في الدنيا سيؤمن في الآخرة .
لذلك يقول سبحانه في موضع آخر : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] .
ويا ليته جاء فلم يجد عمله ، المصيبة أنه وجد عمله كاملاً ، ووجد الله تعالى يحاسبه ويُجازيه ، ولم يكن هذا كله على باله في الدنيا؛ لذلك يُفَاجأ به الآن .
وقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ الفرقان : 21 ] يعني : لا يتنظرونه ولا يؤمنون به؛ لذلك لم يستعدوا له ، لماذا؟ لأنهم آثروا عافية العاجلة على عافية الآجلة ، ورأوْا أمامهم شهواتٍ ومُتَعاً لم يصبروا عليها ، وغفلوا عن الغاية الأخيرة .
ما هو اللقاء؟ اللقاء يعني الوَصْل والمقابلة ، لكن كيف يتم الوَصْل والمقابلة بين الحق تبارك وتعالى وبين الخَلْق وهذه من المسائل التي كَثُر فيها الجدال ، وحدثت فيها ضجّة شككتْ المسلمين في كثير من القاضيا .
قالوا : اللقاء يتقضي أن يكون الله تعالى مُجسّماً وهذا ممنوع ، وقال آخرون : ليس بالضرورة أن يكون اللقاء وَصْلاً ، فقد يكون مجردَ الرؤية؛ لأن رؤية العَيْن للرب ليست لقاء ، وهذا قول أهل السنة .
أما المعتزلة فقد نفَوْا حتى الرؤية ، فقال : لا يلقونه وَصْلاً ولا رؤية ، لأن الرائي يحدد المرئي ، وهذا مُحَال على الله عز وجل .
ونقول للمعتزلة : أنتم تأخذون المسائل بالنسبة لله ، كما تأخذونها بالنسبة لمخلوقات الله ، لماذا لا تأخذون كل شيء بالنسبة لله تعالى في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] فإذا كان لكم ببعض لقاء يقتضي الوَصْل ، فالله تعالى لقاء لا يقتضي الوصل ، وإذا كانت الرؤية تحدد فلله تعالى رؤية لا تحدد . إن لك سَمْعاً ولله سمع أسمعُك كسمع الله عز وجل؟ إذن : لماذا تريد أن يكون لقاء الله كلقائك يقتضي تجسُّداً ، أو رؤيته كرؤيتك؟
لذلك في قصة رؤية موسى عليه السلام لربه عز وجل ، ماذا قال موسى؟ قال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] فطلب من ربه أن يُريه لأنه لا يستطيع ذلك بذاته ، ولا يصلح لهذه الرؤية ، ألا أن يُريه الله ويطلعه ، فالمسألة ليست من جهة المرئيّ ، إما من جهة الرائي . لكن هل قرَّعه الله على طلبه هذا وقال عنه : استكبر وعتا عُتُواً كبيراً كما قال هنا؟ لا إنما قال له : { لَن تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] ولم يقُلْ سبحانه : لن أُرَى ، وفرْق بين العبارتين .
فقوله : { لَن تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] المنع هنا ليس من المرئيّ بل المنع من الرائي؛ لذلك أعطاه ربه عز وجل الدليل : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }
(1/6412)

[ الأعراف : 143 ] يعني : أأنت أقوى أم الجبل؟ { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] .
ولاحظ : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } [ الأعراف : 143 ] كلمة تجلى أي : أن الله تعالى يتجلى على بعض خَلْقه ، لكن أيصبرون على هذا التجلي؟ وليس الجبل أكرم عند الله من الإنسان الذي سخّر اللهُ له الجبل وكلّ شيء في الوجود .
إذن : فالإنسان هو الأكرم ، لكن تكوينه وطبيعته لا تصلح لهذه الرؤية ، وليس لديه الاستعداد لتلقّي الأنوار الإلهية؛ ذلك لأن الله تعالى خلقه للأرض . أما في الآخرة فالأمر مختلف؛ لذلك سيُعدِّل الله هذا الخلق بحيث تتغير حقائقه ويمكنه أن يرى ، وإذا كان موسى عليه السلام قد صُعِق لرؤية المتجلَّى عليه وهو الجبل ، فكيف به إذا رأى المتجلِّي عز وجل؟
لذلك ، كان من نعمة الله تعالى على عباده في الآخرة : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 2223 ] .
وقال عن الكفار : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] : إذن : ما يُميِّز المؤمنين عن الكافرين أنهم لا يُحجبون عن رؤية ربهم عز وجل بعد أنْ تغيَّر تكوينهم الأخروي ، فأصبحوا قادرين على رؤية ما لم يَرَوْه في الدنيا . وإذا كان البشر الآن بتقدّم العلم يصنعون لضعاف البصر ما يُزِيد من بصرهم ورؤيتهم ، فلماذا نستبعد هذا بالنسبة لله تعالى؟
لذلك ، تجد المسرفين على أنفسهم يجادلون بما يريحهم ، فتراهم يُنكِرون البعث ، ويُبعِدون هذه الفكرة عن أنفسهم؛ لأنهم يعلمون سوء عاقبتهم إنْ أيقنُوا بالبعث واعترفوا به .
ومن المسرفين على أنفسهم حتى مؤمنون بإله ، يقول أحدهم : ما دام أن الله تعالى قدَّر عليَّ المعصية ، فلماذا يُحاسبني عليها؟ ونعجب لأنهم لم يذكروا المقابل ولم يقولوا : ما دام قد قدَّر علينا الطاعة ، فلماذا يثيبنا عليها؟ إذن : لم يقفوا الوقفة العقلية السليمة؛ لأن الأولى ستجرُّ عليهم الشر فذكروها ، أما الأخرى فخير يُسَاق إليهم؛ لذلك غفلوا عن ذِكْرها .
وقولهم : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] وهذا يدلّ على تكبُّرهم واعتراضهم على كَوْن الرسول بَشَراً ، وفي موضع آخر قالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] .
إذن : كل ما يغيظهم أن يكون الرسول بشراً ، وهذا الاستدراك يدلُّ على غبائهم ، فلو جاء الرسول ملَكاً ما صَحَّ أن يكون لهم قدوة ، وما جاء الرسول إلا ليكون قُدْوةً ومُعلِّماً للمنهج وأُسْوة سلوك ، ولو جاء ملَكاً لأمكنه نعم أنْ يُعلِّمنا منهج الله ، لكن لا يصح أنْ يكون لنا أُسْوة سلوك ، فلو أمرك بشيء وهو مَلَك لَكان لك أنْ تعترض عليه تقول : أنت مَلَكٌ تقدر على ذلك ، أمَّا أنا فبشر لا أقدر عليه .
فالحق سبحانه يقول : لاحظوا أن للرسل مهمتين : مهمةَ البلاغ ، ومهمة الأُسْوة السلوكية ، فلو أنهم كانوا من غير طبيعة البشر لتأتّى لهم البلاغ ، لكن لا يتأتى لهم أن يكونوا قُدْوة ونموذجاً يُحتذى .
(1/6413)

ولو جاء الرسول ملَكَا على حقيقته ما رأيتموه ، ولا حتجتم له على صورة بشرية ، وساعتها لن تعرفوا أهو ملَكَ أم بشر ، إذن ، لا بُدَّ أن تعود المسألة إلى أن يكون بشراً ، لذلك يقول سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] .
ومسألة نزول الملائكة مع الرسول من الاقتراحات التي اقترحها الكفار على رسول الله ليطلبها من ربه ، وهذا يعني أنهم يريدون دليلَ تصديق على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وسبق أنْ جاءهم رسول الله بمعجزة من جنس ما نبغُوا فيه وعجزوا أنْ يُجَاروه فيها ، ليثبت أن ذلك جاء من عند ربهم القوي ، ومعنى هذه المعجزة أنها تقوم مقام قوله صدق عبدي في كل ما يُبلِّغ عني . وما دامت المعجزة قد جاءتْ بتصديق الرسول ، فهل هناك معجزة أَوْلَى من معجزة؟
لقد كانت معجزة القرآن كافية لتقوم دليلاً على صِدْق الرسول في البلاغ عن الله ، وأيضاً جاءكم بغيبيّات لا يمكن أن يطلع عليها إنسان ، لا في القديم الذي حدث قبل أنْ يُولدَ ، ولا في الحديث الذي سيكون بعد أنْ يُولد .
إذن : فدليل صدق الرسول قائم ، فما الذي دعاكم إلى اقتراح معجزات أخرى؟
وقولهم : { أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] والله ، لو كان إله يُرَى لكم ما صَحَّ أن يكون إلهاً؛ لأن المرئي مُحَاطٌ بحدقة الرائي ، وما دام أحاط به فهو إذن محدود ، ومحدوديته تنافي الوهيته .
وإلاَّ فالمعاني التي تختلج بها النفس الإنسانية مثل الحق والعدل الذي يتحدث عنه الناس وينشدونه ويتعصَّبون له ، ويتهافتون عليه لحلِّ مشاكلهم وتيسير حياتهم : أتدرك هذه المعاني وأمثالها بالحواس؟ كيف تطلب أن تدرك خالقها عز وجل وبالحواسّ؟
لذلك يختم الحق سبحانه هذه المسألة بقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيرا } [ الفرقان : 21 ] استكبر وتكبَّر : حاول أن يجعل نفسه فوق قَدْره ، وكلُّ إنسان مِنّا له قَدْر محدود .
ومن هنا جاء القول المأثور : " رَحِمَ الله امرءً عرف قدر نفسه " . فلماذا إذن يتكبّر الإنسان؟ لو أنك إنسان سوىّ فإنك تسعد حين نمنع عنك مَنْ يسرقك ، أو ينظر إلى محارمك أو يعتدي عليك ، فلماذا تغضب حينما نمنعك عن مثل هذا؟
النظرة العقلية أن تقارن بين مَا لك ومَا عليك ، لقد منعنا يدك وهي واحدة أنْ تسرق ، ومقابل ذلك منعنا عنك جميع أيدي الناس أن تسرق منك ، منعنا عينك أن تمتد إلى محارم الآخرين ، ومنعنا جميع الأَعْيُن أنْ تمتدّ إلى محارمك؛ فلماذا إذن تفرح لهذه وتغضب من هذه؟ كان يجب عليك أن تحكم بنفس المنطق ، فإنْ أحببتَ ما كان لك وكرهتَ ما كان لغيرك فقد جانبتَ الصواب وخالفتَ العدالة .
ومن استكبارهم مواجهتهم لرسول الله في بداية دعوته وقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ }
(1/6414)

[ الزخرف : 31 ] إذن : القرآن لا غبارَ عليه ، وهذا حكم واقعي منهم؛ لأنهم أمة بلاغة وفصاحة ، والقرآن في أَرْقَى مراتب الفصاحة والبيان ، إنما الذي وقف في حُلُوقهم أن يكون الرسول رجلاً من عامة الناس ، يريدونه عظيماً في نظرهم ، حتى إذا ما اتبعوه كان له حيثية تدعو إلى اتباعه .
إذن : الاستكبار أن تستكبر أن تكون تابعاً لمنْ تراه دونك ، ونحن ننكر هذا؛ لأنك لم تَرَ محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يقوم بالرسالة أنه دونك ، بل كنت تضعه في المكان الأعلى ، وتُسمِّيه الصادق الأمين ، فمتى إذن جعلْتَه دونك؟ إنها الهبة التي وهبه الله ، إنها الرسالة التي جعلتك تأخذ منه ما كنتَ تعطيه قبل أن يكون رسولاً .
وهل سبق لكم أَنْ سمعتم عن رسول جاء معه ربه عَزَّ وجَلَّ يقول لقومه : هذا رسولي؟ وما دام أن الله تعالى سيواجهكم هذه المواجهة فلا داعيَ إذن للرسول؛ لأن الله تعالى سيخاطبكم بالتكليف مباشرة وتنتهي المسألة . ومعلوم أن هذا الأمر لم يحدث ، فأنتم تطلبون شيئاً لم تسمعوا به ، وهذا دليل على تلكؤكم واستكباركم عن قبول الإيمان فجئتم بشيء مستحيل .
إذن : المسألة من الكفار تلكؤٌ وعناد واستكبار عن قبول الحق الواضح ، وقد سبق أن اقترحوا مثل هذه الآيات والمعجزات ، فلما أجابهم الله كذّبوا ، مع أن الآيات والمعجزات ليست باقتراح المرسل إليهم ، إنما تفضُّل من الله تعالى واهب هذه الرسالة .
والاستكبار مادته الكاف والباء والراء . وتأتي بمعانٍ عِدَّة : تقول كَبَرَ يكْبَر أي : في عمره وحجمه ، وكَبُر يكبُر أي : عَظُم في ذاته ، ومنها قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ] .
وتكبَّر : أظهر صفة الكبرياء للناس ، واستكبر : إذا لم يكُنْ عنده مؤهلات الكِبر ، ومع ذلك يطلب أن يكون كبيراً .
فالمعنى { استكبروا } [ الفرقان : 21 ] ليس في حقيقة تكوينهم إنما { استكبروا في أَنفُسِهِمْ } [ الفرقان : 21 ] في أنهم يتبعُون الرسول ، أي : أنها كبيرة عليهم أن يكونوا تابعين لرجل يروْنَ غيره أغنى منه أو أحسن منه ( على زعمهم ) .
ونرى مثلاً أحد الفتوات الذي يخضع له الجميع إذا ما رأى مَنْ هو أقوى منه انكمشَ أمامه وتواضع؛ لأنه يستكبر بلا رصيد وبشيء ليس ذاتياً فيه . . إذن : المتكبر بلا رصيد غافل عن كبرياء ربه ، ولو استشعر كبرياء الله عَزَّ وجَل لاستحَى أنْ يتكبّر .
لذلك نرى أهل الطاعة والمعرفة دائماً منكسرين ، لماذا؟ لأنهم دائماً مستشعرون كبرياءَ الله ، والإنسان ( لا يتفرعن ) إلا إذا رأى الجميع دونه ، وليس هناك مَنْ هو أكبر منه . فينبغي ألا يَتكبَّر الإنسان إلا بشيء ذاتي فيه لا يُسلبَ منه ، فإن استكبرت بِغنَاك فربما افتقرتَ ، وإنِ استكبرتَ بقوتك فرُبّما أصابك المرض ، وإنِ استكبرتَ بعلمك لا تأمنْ أن يُسلبَ منك لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً .
(1/6415)

ومن لُطْف الله بالخَلْق ورحمته بهم أنْ يكون له وحده الكبرياء ، وله وحده سبحانه التكبُّر والعظمة ، ويعلنها الحق تبارك وتعالى : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته جهنم " .
والحق تبارك وتعالى لا يجعلها جبروتاً على خَلْقه ، إنما يجعلها لهم رحمة؛ لأن الخَلْق منهم الأقوياء والفُتوات والأغنياء . . حين يعلمون أن لله تعالى الكبرياء المطلق يعرف كل منهم قدره ( ويرعى مساوى ) ، فالله هو المتكبر الوحيد ، ونحن جميعاً سواء .
لذلك يقول أهل الريف ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) وحين يكون في البلد كبير يخاف منه الجميع لا يجرؤ أحد أنْ يعتديَ على أحد في وجوده ، إنما إنْ فُقِد هذا الكبير فإن القوي يأكل الضعيف . إذن : فالكبرياء من صفات الجلال لله تعالى أنْ جعلها الله لنفع الخَلْق .
ولو تصورنا التكبر مِمَّنْ يملك مؤهلاته ، كأن يكون قوياً ، أو يكون غنياً . . إلخ فلا نتصور الكبر من الضعيف أو من الفقير؛ لذلك جاء في الحديث : " أبغض ثلاثاً وبغضي لثلاث أشد ، أبغض الغني المتكبر وبُغضي للفقير المتكبر أشد ، وأبغض الفقير البخيل وبغضي للغني البخيل أشدّ ، وأبغض الشاب العاصي وبغضي للشيخ العاصي أشد " .
وقوله تعالى : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] عتوا : بالغوا في الظلم والتحدي وتجاوزوا الحدود ، وكأن هذا غير كافٍ في وصفهم ، فأكّد العُتُو بالمصدر ( عتواً ) ثم وصف المصدر أيضاً { عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] لماذا كل هذه المبالغة في التعبير؟ قالوا : لأنهم ما عَتَوْا بعضهم على بعض ، إنما يتعاتون على رسول الله ، بل وعلى الله عز وجل؛ لذلك استحقُّوا هذا الوصف وهذه المبالغة .
والعاتي الذي بلغ في الظُّلم الحدَّ مثل الطاغوت الذي إنْ خاف الناس منه انتفش ، وتمادى وازداد قوة .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] ومعلوم أن الكِبَر ضعف ، كما قال سبحانه : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } [ الروم : 54 ] فكيف إذن يصف الكبر بأنه عَاتٍ؟ قالوا : العاتي هو القوي الجبار الذي لا يقدر أحد على صَدِّه أو رَفْع رأسه أمامه ، وكذلك الكِبَر على ضَعْفه ، إلا أنه لا توجد قوة تطغى عليه فتمنعه .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة }
(1/6416)

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
يتحدث الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء الذين اقترحوا على رسول الله الآيات وطلبوا أن تنزل معه الملائكة فيرونها ، وتشهد لهم بصدقه صلى الله عليه وسلم ، فيقول لهم سبحانه : أنتم تشتهون أنْ تروْا الملائكة ، فسوف تروْنها لكن في موقف آخر ، ليس موقف البُشْريات والخيرات ، إنما في موقف الخزي والندامة والعذاب :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] فسوف ترونهم رؤيا الفزع والخوف عندما يأتون لقبْض أرواحكم ، أو سترونْهَم يوم القيامة يوم يُبشِّرونكم بالعذاب .
يوم يستقبلون المؤمنين : { بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الحديد : 12 ] فيستشرف الكفار لسماع هذه الكلمة لكن هيهات { لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] فيمنعون عنهم هذه الكلمة المحبّبة التي ينتظرونها ، ويقابلونهم بكلمة أخرى تناسبهم .
يقولون لهم : { حِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 22 ] والحِجْر : المنع ، ومنه : نحجر على فلان يعني : نمنعه من التصرُّف . وقديماً كانوا يقولون في دفع الشر : حِجْراً محجوراً يعني : منعاً ، ومثل ذلك ما نسمعهم يقولون إذا ذُكِرَ الجن : حابس حابس يعني : ابتعد عني لا تقربني .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }
(1/6417)

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
حين تنظر في غير المؤمنين تجد من بينهم أهلاً للخير وعمل المعروف ، ومنهم أصحاب مَلَكات طيِّبة ، كالذين اجتمعوا في حلف الفضول لنصْرة المظلوم ، وكأهل الكرم وإطعام الطعام ، ومنهم مَنْ كانت له قِدْر عظيمة استظلْ رسول الله في ظلها يوم حر قائظ ، وهذا يعني أنها كانت كبيرة واسعة منصوبة وثابتة كالبناء ، كان يُطْعم منها الفقراء والمساكين ، وحتى الطير والوحوش ، وما زِلْنا حتى الآن نضرب المثل في الكرم بحاتم الطائي . وكان منهم مَنْ يصل الرحم ويغيث الملهوف . . الخ .
لكن هؤلاء وأمثالهم عملوا لجاه الدنيا ، ولم يكُنْ في بالهم إله يبتغون مرضاته ، والعامل يأخذ أجْره ممَّنْ عمل له ، كما جاء في الحديث القدسي : " فعلت ليقال ، وقد قيل " .
والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذه المسألة في قوله تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] .
وقال تعالى أيضاً : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] .
فقد عمل هؤلاء أعمالَ خير كثيرة ، لكن لم يكُنْ في بالهم الله ، إنما عملوا للإنسانية وللشهرة وليُقال عنهم؛ لذلك نراهم في رفاهية من العيش وسَعة مُمتَّعين بألوان النعيم ، لماذا؟ لأنهم أخذوا الأسباب المخلوقة لله تعالى ، ونفّذوها بدقة ، والله تبارك وتعالى لا يحرم عبده ثمرةَ مجهوده ، وإنْ كان كافراً ، فإنْ ترك العبدُ الأسبابَ وتكاسل حرَمه الله وإنْ كان مؤمناً . وفَرْق بين عطاءات الربوبية التي تشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي ، وبين عطاءات الألوهية .
فمن الكفار مَنْ أحسن الأَخْذ بالأسباب ، فاخترعوا أشياء نفعتْ الإنسانية ، وأدوية عالجتْ كثيراً من الأمراض . ولا بُدَّ أن يكون لهم جزاء على هذا الخير ، وجزاؤهم أخذوه في الدنيا ذِكْراً وتكريماً وتخليداً لذِكْراهم ، وصُنِعت لهم التماثيل وأُعْطوا النياشين ، وأُلِّفتْ في سيرتهم الكتب ، كأن الله تعالى لم يجحدهم عملهم ، ولم يبخسهم حقهم .
ألاَ ترى أن أبا لهب الذي وقف من رسول الله موقِفَ العداء حتى نزل فيه قوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [ المسد : 12 ] ومع ذلك يُخفِّف الله عنه العذاب؛ لأنه أعتقَ جاريته ثويبة حينما بشَّرته بميلاد محمد بن عبد الله؛ لأنه فرح بهذه البُشْرى وأسعده هذا الخبر .
ومن العجيب أن هؤلاء يقفون عند صناعات البشر التي لا تعدو أن تكون تَرَفاً في الحياة ، فيُؤرِّخون لها ولأصحابها ، وينسون خالق الضروريات التي أعانتهم على الترقِّي في كماليات الحياة وترفها .
وكلمة { هَبَآءً } [ الفرقان : 23 ] : الأشياء تتبين للإنسان ، إما لأن حجمها كبير أو لأنها قريبة ، فإنْ كانت صغيرة الحجم عزَّتْ رؤيتها ، فمثلاً يمكنك رؤية طائرة أو عصفور إنْ طار أمامك أو حتى دبور أو نحلة ، لكن ما لو طارتْ أمامك بعوضة لا تستطيع رؤيتها .
(1/6418)

إذن : الشيء يختفي عن النظر لأنه صغير التكوين ، لا تستطيع العين إدراكه؛ لذلك اخترعوا المجاهر والتليسكوب .
وقد يكون الشيء بعيداً عنك فلا تراه لبُعده عن مخروطية الضوء؛ لأن الضوء يبدأ من نقطة ، ثم يتسع تدريجياً على شكل مخروط ، كما لو نظرتَ من ثُقْب الباب الذي قُطْره سنتيمتر فيمكن رؤية مساحة أوسع منه بكثير .
إذن : إنْ أردتَ أن ترى الصغير تُكبِّره ، وإنْ أردتَ أنْ ترى البعيد تُقرِّبه .
والهباء : هو الذرّات التي تراها في المخروط الضوئي حين ينفذ إلى حجرتك ، ولا تراها بالعين المجرّدة لدِقّتها ، وهذا الهباء الذي تراه في الضوء { هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] يعني : لا تستطيع أنْ تجمِّعه؛ لأنه منتشر وغير ثابت ، فمهما أوقفتَ حركة الهواء تجدْه في الضوء يتحرك لِصِغَر حجمه .
فإنْ قلتَ : نراهم الآن يصنعون ( فلاترَ ) لحجز هذا الهباء فتُجمّعه وتُنقِّي الهواء منه ، وهي على شكل مَسامّ أسفنجية يعْلَق بها الهباء ، فيمكن تجميعه .
نقول : حتى مع وجود هذه الفلاتر ، فإنها تجمع على قَدْر دِقّة المسامّ ، وتحجز على قَدْرها ، وعلى فَرْض أنك جمعتَه في هذا الفلتر ، ثم أفرغته وقُلتْ لي : هذا هو الهباء ، نقول لك : أتستطيع أنْ ترد كل ذرة منها إلى أصلها الذي طارتْ منه؟
(1/6419)

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
بعد أن وصف الحق تبارك وتعالى ما يؤول إليه عمل الكافرين أراد سبحانه أنْ يُحدِّثنا عن جزاء المؤمنين على عادة القرآن في ذكر المتقابلات التي يظهر كل منها الآخر ، وهذه الطريقة في التعبير كثيرة في كتاب الله منها : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } [ التوبة : 82 ] .
ومنها أيضاً قول الحق سبحانه : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 1314 ] .
وهكذا ، ينقلك القرآن من الشيء إلى ضِدّه لتميز بينهما ، فالمؤمن في النعيم ينظر إلى النار وحَرِّها ، فيحمد الله الذي نجاه منها ، وهذه نعمة أخرى أعظم من الأولى . والكافر حين ينظر إلى نعيم الجنة يتحسَّر ويعلم عاقبةَ الكفر الذي حرمه من هذا النعيم ، فيكون هذا أبلغَ في النكاية وأشد في العذاب؛ لذلك قالوا : وبضدِّها تتميز الأشياء .
وقوله سبحانه : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] صاحب الشيء : المرافق له عن حُبَّ ، فكأن الجنةَ تعشَق أهلها وهم يعشقونها ، فقد نشأت بينهما محبة وصُحْبة ، فكما تحب أنت المكان يحبك المكان ، وأيضاً كما تبغضه يبغضك . ومنه قولهم : نَبَا به المكان يعني : كَرِهه المكان .
وكلمة { أَصْحَابُ الجنة } [ الفرقان : 24 ] تدل أيضاً على الملكية؛ لأنهم لن يخرجوا منها ، وهي لن تزول ولن تنتهي .
وكلمة { خَيْرٌ } [ الفرقان : 24 ] قلنا : إنها تُستعمل استعمالين : خير يقابله شرّ ، كما في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 78 ] وقوله تعالى : { أولئك هُمْ خَيْرُ البرية } [ البينة : 7 ] . . . . { أولئك هُمْ شَرُّ البرية } [ البينة : 6 ] .
وهناك أيضاً خير يقابله خير ، لكن أقلّ منه ، كما لو قلت : هذا خير من هذا ، وكما في الحديث الشريف : " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " .
وفي بعض الأساليب لا نكتفي بصيغة ( خير ) للتمييز بين شيئين ، فنقول بصيغة أفعل التفصيل : هذا أَخْبر من هذا .
وكلمة { مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] المستقر : المكان الذي تستقر أنت فيه ، والإنسان لا يُؤْثِر الاستقرار في مكان عن مكان آخر ، إلا إذا كان المكان الذي استقر فيه أكثرَ راحةً لنفسه من غيره ، كما نترك الغرفة مثلاً في الحرِّ ، ونجلس في الحديقة أو الشُّرْفة .
ومن ذلك نقول : إذا ضاقتْ بك أرض فاتركها إلى غيرها ، على حَدِّ قوله تعالى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً } [ النساء : 100 ] .
ويقول الشاعر :
لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَتْ بلاَدٌ بأهْلِهَا ... وَلكِنَّ أخْلاقَ الرجَالِ تَضِيقُ
ومعنى { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] المقيل : هو المكان الذي كانت تقضي فيه العرب وقت القيلولة ، وهي ساعة الظهيرة حين تشتدّ حرارة الشمس ، ونسميها في العامية ( القيالة ) ويقولون لمن لا يستريح في هذه الساعة : العفاريت مِقيّلة!!
(1/6420)

لكن أَفِي الجنة قيلولة وليس فيها حَرٌّ ، ولا برد ، ولا زمهرير؟
قالوا : القيلولة تعني محلّ فراغ الإنسان لخاصة نفسه ، أَلا ترى أن الحق تبارك وتعالى حينما ذكر أوقات الاستئذان في سورة النور جعل منها هذا الوقت ، فقال سبحانه : { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظهيرة } [ النور : 58 ] فأمر الصغار أن يستأذنوا علينا في هذا الوقت؛ لأنه من أوقات العورة .
إذن : المستقر شيء ، والمقيل للراحة النفسية الشخصية شيء آخر ، لأنك قد تستقر في مكان ومعك غيرك ، أمَّا المقيل فمكان خاصّ بك ، إذن : لك في الجنة مكانان : عام وخاص؛ لذلك قالوا في قول الله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] قالوا : جنة عامة وجنة خاصة ، كما يكون لك مكان لاستقبال الضيوف ، ومكان لخاصّة نفسك وأهلك .
ويقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام }
(1/6421)

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
وقد سبق منهم أنْ طلبوا من الله أنْ ينزل عليهم ملائكة ، فها هي الملائكة تنزل عليهم كما يريدون ، لكن في غير مسرّة لكم ، ولا إجابة لسؤال منكم .
والسماء : هي السقف المرفوع فوقنا المحفوظ الذي ننظر إليه ، فلا نرى فيه فطوراً ولا شروخاً ، ولك أن تنظر إلى السماء حال صفائها ، وسوف تراها ملساء لا نتوءَ فيها ، ولا اعوجاج على اتساعها هذا وقيامها هكذا بلا عَمَد .
لذلك يدعوك الحق تبارك وتعالى إلى النظر والتأمل ، يقول لك : لن نغشك . . انظر في السماء وتأمل : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] .
والسماء التي تراها فوقك على هذه القوة والتماسك لا يُمسكها فوقك إلا الله ، كما يقول سبحانه : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } [ فاطر : 41 ] .
ويقول تعالى : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] إذن : هناك إذْن للسماء أن تقع على الأرض ، وأنْ تتشقق وتتبدل ، كما قال سبحانه : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] .
ويقول تعالى عن تشقُّق السماء في الآخرة : { إِذَا السمآء انشقت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 12 ] .
معنى : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } [ الانشقاق : 2 ] يعني : استمعتْ وأطاعتْ بمجرد الاستماع .
وهنا يقول تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] أي : تنشقّ وينزل من الشقوق الغمام ، وقد ذُكِر الغمام أيضاً في قوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة } [ البقرة : 210 ] .
وقوله تعالى : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] يدل على قوة النزول ليباشروا عملية الفصل في موقف القيامة .
(1/6422)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
إنْ كانت الدنيا يُملِّك اللهُ فيها بعض خَلْقه بعض خَلْقه ، كما قال سبحانه : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ . . . } [ آل عمران : 26 ] وقلنا : فَرْق بين المِلْك والمُلْك : المِلْك كل ما تملك ولو كان حتى ثوبك الذي ترتديه فهو مِلك ، أمّا المُلْك فهو أن تملك مَنْ يملك ، وهذا يعطيه الله تعالى ، ويهبه لمن يشاء من باطن مُلْكه تعالى ، كما أعطاه للذي حاجّ خليلَه إبراهيم عليه السلام : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك } [ البقرة : 258 ] .
هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فلا مْلك ولا مُلْك لأحد ، فقد سلب هذا كله ، والملْك اليوم لله وحده : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
إذن : فما في يدك من مُلْك الدنيا مُلْك غير مستقر ، سرعان مان يُسلَب منك؛ لذلك يقول أحد العارفين للخليفة : لو دام الملْك لغيرك ما وصل إليك ، فالمسألة ليست ذاتية فيك ، فمُلْكك من باطن مُلْك الله تعالى صاحب الملك ، وهو الملك الحق ، فمُلْكه تعالى ثابت مستقر ، لا ينتقل ولا يزول .
وإن انتقلتْ الملكية في الدنيا من شخص لآخر فإنها تُجمَع يوم القيامة في يده تعالى ، وتجمّع الملْك والسلطة في يد واحدة إنْ كانت ممقوتة عندنا في الدنيا ، حيث نكره الاحتكار والدكتاتورية التي تجعل السلطة والقهر في يد واحدة ، إنْ كانت هذه مذمومة في البشر فهي محمودة عند الله تعالى؛ لأنها تتركز في الدنيا في يد واحد صاحب هوى .
أما في الآخرة فهي في يده تعالى ، فالرحمة في الدنيا أن يوزع الملْك والسلطان ، والرحمة في الآخرة أن تُجمع في يده تعالى : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] إذن : اجتماع الملْك يوم القيامة لله تعالى من مظاهر الرحمة بنا ، فلا تأخذها على أنها احتكار أو جبروت؛ لأنها في يد الرحمن الرحيم .
وكأن الحق تبارك وتعالى يُطمئنك : لا تقلق ، فالملْك يوم القيامة ليس لأحد تخاف أن تقع تحت سطوته ، إنما الملك يومئذ الحق للرحمن .
والحق : الشيء الثابت الذي لا يتغير ، وما دام ثابتاً لا يتغير فهو لا يتناقض ولا يتعارض ، فالرجل إذا كلّمك بكلام له واقع في الحياة وطلبتَ منه أن يعيده لك أعاده ألف مرة ، دون أن يُغيّر منه شيئاً ، لماذا؟ لأنه يقول من خلال ما يستوحي من الحقيقة التي شاهدها ، أمّا إنْ كان كاذباً فإنه لا يستوحي شيئاً؛ لذلك لا بُدَّ أن يختلف قوله في كل مرة عن الأخرى؛ لذلك قالوا : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً .
ومن رحمانيته تعالى أن يقول سبحانه : { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } [ الفرقان : 26 ] فينبهنا إلى الخطر قبل الوقوع فيه ، وهذه رحمة بنا أن ينصحنا ربنا ويعدل لنا ، وإلا لو فاجأنا بالعقوبة لكان الأمر صعباً .
فإن ذكرت المقابل تقول إنه يسير على المؤمنين ، فاحرص أيها الإنسان أن تكون من الميسّر لهم لا من المعسّر عليهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ }
(1/6423)

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
هذه عدّة أيام ذكرتها هذه الآيات : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] ، { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ، { الملك يَوْمَئِذٍ الحق } [ الفرقان : 26 ] ، { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] فيوم القيامة جامع لهذا كله .
وقلنا : إن الظالم : الذي يأخذ حَقَّ غيره ، والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذا الظلم بقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] .
لأنهم لا يقدرون على ظُلْم الله تعالى ، ولا على ظُلْم النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلمة الله ورسوله هي العُلْيا ، وسينتصر دين الله في نهاية المطاف . ومع ذلك يعاقبهم الله تعالى على ظلمهم لأنفسهم ، فنِعْم الإله إله يفعل هذا مع مَنْ عصاه .
والكافر حتى في مظهرية ظُلْمه للغير يظلم نفسه؛ لأنه يضعها في موضع المسئولية عن هذه المظالم . إذن : لو حقَّق الإنسان الظلم لوجده لا يعود إلا على الظالم نفسه .
وحين يرى الظالمُ عاقبةَ ظُلْمه ، ويعاين جزاء فِعْله يعضُّ على يديْه ندماً وحَسْرة . والعَضُّ : انطباق الفكيْن الأعلى والأسفل على شيء ، وللعضِّ مراحل تتناسب مع المُفْزع الذي يُلجىء الإنسانَ له ، وفي موضع آخر يقول سبحانه : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] .
والأنامل : اطراف الأصابع وعَضُّها من الغيظ عادة معروفة حينما يتعرّض الإنسان لموقف يصعُب عليه التصرف فيه فيعضُّ على أنامله عَضّاً يناسب الموقف والحدث ، فإنْ كان الحدث أعظمَ ناسبه أنْ يعضّ يده لا مجرد أصابعه ، فإنْ عظم عَضَّ على يديْه معاً كما يحدث لهم في الآية التي معنا : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] لأنه في موقف حسرة وندم على الفرصة التي فاتته ولن تعود ، والخطأ الذي لا يمكن تداركه؛ لذلك يُعذِّب نفسه قبل أن يأتيه العذاب .
فيعضُّ على يديْه معاً ، فكأن الأمر المُفْزِع الذي يعاينه بلغ الغاية؛ لذلك عضَّ على يديه ليبلغ الغاية في المعضوض ، وهو العاضّ والمعضوض ، ولا يُعذِّب نفسه بهذه الطريقة إلا مَنْ يئس من النجاة .
ثم يُبيِّن علة ذلك : { يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } [ الفرقان : 27 ] وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في حدث مخصوص وفي شخص بعينه ، فإنها تعمّ كل مَنْ فعل هذا ، فالعبرة كما يقولون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهذا جزاء كل ظالم حَادَ عن الجادة .
وهذه الآية " نزلت في حدث خاص باثنين : عقبة بن أبي معيط ، وكان رجلاً كريماً يُطعم الطعام ، وقد دعا مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه ، لكن رسول الله اعتذر له وقال : لا أستطيع أن أحضر طعامك إلا أنْ تشهد أن : لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فلما شهد الرجل الشهادتين زاره رسول الله وأكل من طعامه ، فأغضب ذلك أمية ابن خلف صاحب عقبة فقال له : لقد صبوتَ يا عقبة ، فقال عقبة : والله ما قلتُ ذلك إلا لأنني أحببتُ أن يأكلَ محمد عندي كما يأكل الناس ، فقال أمية : فلا يبرئك مني إلا أنْ تذهب إلى محمد في دار الندوة فتطأ عنقة وتبصق . . إلخ ، وفعل عقبة ما أشار عليه به صاحبه " فنزلت الآية : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } [ الفرقان : 27 ] والمراد بالسبيل قوله : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
ثم يقول : { ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً }
(1/6424)

يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
الويل : الهلاك ، فهو يدعو الهلاك ويناديه أنْ يحلّ به ، والإنسان لا يطلب الهلاك لنفسه إلا إذا تعرّض لعذاب أشدّ من الهلاك ، كما قال أحدهم :
أَشَدُّ من السّقم الذي يُذهِب السّقما ... وقول الشاعر :
كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى الموْتَ شَافِياً ... وحَسْبُ المنَايَا أنْ يكُنَّ أَمَانِيَا
فلما كانت المسألةُ أكبر منه وفوق احتماله نادى يا ويلتي احضري ، فهذا أوانك لتُخلِّصيني مما أنا فيه من العذاب .
وقوله { لَيْتَنِي } [ الفرقان : 28 ] تَمَنٍّ ، والتمنّي طلب أمر محبوب لا سبيلَ إلى حصوله ، كما قال الشاعر في التمني :
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو لِي فَأَنظِمَهَا ... عُقودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لكُمْ كَلمِي
وهذا أمر لا يمكن أنْ يُنال .
وآخر يقول :
فيا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً ... فَأُخبرَه بِمَا فعَل المشيبُ
فقصارى ما يعطيه أسلوب التمني أنه يدلّ على أمر محبوب ، كنت أحب أن يحدث ، لكن أيحدث بالفعل؟ لا .
وكلمة ( فلان ) تقولها كناية عن شخص لا تحب حتى ذِكْر اسمه ، فعقبة ( ابن أبي مُعيط ) لم يقل : ليتني لم أتخذ أمية ( بن خلف ) خليلاً إنما قال ( فلاناً ) لأنه كاره له يبغض حتى ذكر اسمه .
والخليل : من الخُلَّة والمخالَّة يعني : الصداقة المتداخلة المتبادلة وفي ذلك يقول الشاعر :
وَلَمَّا التقَيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْده ... خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وعِتَاباَ
كأنَّ خَلِيلاً في خِلاَلِ خَلِيلهِ ... تَسرَّب أَثْنَاءَ العِنَاقِ وغَابَا
ثم ذكر علة ذلك : { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر }
(1/6425)

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{ خَذُولاً } [ الفرقان : 29 ] صيغة مبالغة من الخذلان ، نقول : خاذل وخذول ، ومعنى خذلك أي : تخلّى عنك في الأمر بعد أنْ مدَّ لك حبالَ الأمل ، فإذا ما جاء وقت الحاجة إليه تخلّى عنك وتركك ، كذلك الشيطان يفعل بأوليائه ، كما جاء في آيات أخرى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ الحشر : 16 ] وفي آية أخرى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ] .
وفي موضع آخر يقول لأتباعه : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] .
فحين يقولون له : لقد أغويتنا وأضللْتنا يقول لهم : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ إبراهيم : 22 ] لا سلطانَ حجة أقنعكم به ولا سلطان قهر أحملكم به وأقهركم على طاعتي ، بل كنتم على ( تشويرة ) : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] .
ثم يقول الحق سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي }
(1/6426)

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
القوم : قوْم الرجل : أهله وعشيرته والمقيمون معه ويجمعهم : إما أرض ، وإما دين . وسُمُّوا قَوْماً لأنهم هم الذين يقومون على أمر الأشياء ، فهم الرجال خاصة؛ لأن النساء المفروض فيهن السكن والقرار في البيوت .
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هذا الفرق في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] إذن : فالقوم هم الرجال خاصة .
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر :
وَمَا أدري ولَسْتُ إخَالُ أَدْرِي ... أَقُوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
وقوله تعالى : { إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] أضاف القوم إليه صلى الله عليه وسلم لأنه منهم يعرفونه ويعرفون أصْله ، وقد شهدوا له بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعثَ ، وكان عندهم مؤتمناً على نفائس أموالهم؛ لذل خاطبهم الحق تبارك وتعالى بقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
إذن : فالرسول ليس بعيداً عنكم ، ولا مجهولاً لكم ، فمَنْ لم يؤمن به كرسول ينبغي أنْ يؤمن به كأسْوة وقدوة سلوك لسابق تاريخه فيكم .
لذلك نرى أن سيدنا أبا بكر ما انتظر من رسول الله دعوةً ، ولا أنْ يقرأ له قرآناً ، أو يُظهِر له معجزة ، إنما آمن وصدَّق بمجرد أن قال رسول الله ، فما دام قد قال فقد صدق ، ليس بمعجزة رآها أبو بكر ، إنما برصيده القديم في معرفة رسول الله في سلوكه وخُلُقه ، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَدع الكذب على الخَلْق ، ويكذب على الخالق .
وكذلك السيدة خديجة : هل انتظرت من رسول الله ما يُثبت نبوته؟ إنها بمجرد أن قال رسول الله صدَّقتْ به ، ووقفت بجانبه وثبَّتته وهدَّأتْ من روعه ، وقالت له : " والله لا يُسلمك الله أبداً ، إنك لتصِلُ الرحم ، وتحمل الكَلَّ ، وتعين على نوائب الدهر " .
ومعنى : { مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] من الهجر وهو قَطْع الصلة ، فإنْ كانت من جانب واحد فهي هَجْر ، وإن كانت من الجانبين فهي ( هاجراً ) . والمعنى : أنهم هجروا القرآن ، وقطعوا الصلة بينهم وبينه ، وهذا يعني أنهم انقطعوا عن الألوهية وانقطعوا عن الرسالة المحمدية ، فلم يأخذوا أدلة اليقين العقدية ، وانقطعوا عن الرسالة المحمدية حينما كذَّبوا بها ، وانقطعوا عن الأحكام حينما عَصَوْها ، وبذلك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً في كل هذه المسائل : العقائد والعبادات والتصديق بالرسول .
مع أن العرب لو فهموا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] لمجّدوا القرآن وتمسَّكوا به ، فهو الذي عصمهم وعصم لغتهم ، وأعْلَى ذِكْرهم بين الأمم ، ولو أن كل أمة من الأمم المعاصرة أخذتْ لهجتها الخاصة الوطنية ، وجعلت منها لغةً لتلاشت العربية كلغة .
(1/6427)

وفي كثير من بلدان الوطن العربي لو حدَّثوك بلهجتهم الخاصة لا تفهم منها شيئاً ، ولولا أن الفُصْحى لغة القرآن تربط بين هذه اللهجات لأصبحتْ كلٌّ منها لغةً خاصة ، كما حدث في اللغات اللاتينية التي تولدت منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية ، ولكل منها أسسها وقواعدها الخاصة بها ، وكانت في الأصل لغة واحدة ، إلا أنها لا رابطَ لها من كتاب مقدس .
فالحق تبارك وتعالى يُنبِّههم إلى أن القرآن فيه ذِكْرهم وشرفهم وعزتهم ، وفيه شهرتهم وصيتهم ، فالقرآن جعل العرب على كل لسان ، ولولاه لذابوا بين الأمم كما ذابتْ قبلهم أمم وحضارات لم يسمع عنها أحد .
لذلك يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنْ تؤمنوا بما جئت به يكُنْ حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوا عليَّ قولي صبرتُ حتى يحكم الله بيني وبينكم " .
(1/6428)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
وإذا لم يكُنْ للرسول أعداء ، فلماذا جاء؟ لو انتظرنا من الجميع ساعةَ يأتي الرسول أنْ يُصدقوه ويؤمنوا به إذن : فلماذا جاء الرسول؟ لا يأتي الرسول إلى إذا طَمَّ الفساد وعَمّ ، كما أننا لا نأتي بالطبيب إلا إذا حدث مرض أو وباء .
وهؤلاء القوم كانت لهم سيادة ومكانة ، وقد جاء الإسلام ليُسوّي بين الناس ، ويسلب هؤلاء سيادتهم ، فلا بُدَّ أن يقفوا منه موقف العداء ، وهذا العداء هو حيثية وجود الرسول فيهم . وليس النبي صلى الله عليه وسلم بِدْعاً في ذلك ، فما من نبي إلا وكان له أعداء ، مع أن الأنبياء السابقين كان النبي منهم في فترة زمنية محدودة وفي مكان محدود .
أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت رسالة عامة في الزمان وفي المكان ، ولا بُدَّ أنْ يتناسب العداء إذن مع انتشار الرسالة وعمومها في الزمان والمكان إلى قيام الساعة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوطِّن نفسه على ذلك .
وكلمة ( عدو ) من الكلمات التي تُطلق مفردة ، وتشمل المثنى والجمع ، ومن ذلك قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين } [ الشعراء : 77 ] .
وفي سورة الكهف : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] ولم يقل : أعداء .
وفي بعض الآيات تأتي بصيغة الجمع كما في قوله تعالى : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } [ آل عمران : 103 ] فلو كانت قضية لغوية لجاءتْ بصيغة المفرد في كل الآيات .
لكن لماذا عدلَ القرآن هنا عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع؟
قالوا : إنْ كانت العداوة من المفرد والمثنى والجمع عداوة واحدة قال : ( عدو ) بصيغة المفرد لاتحاد سبب العداوة ، فإنْ كانت العداوات مختلفة : هذا يعاديك لشرفك ، وهذا يعاديك لعلمك ، وهذا يعاديك لمالك ، فتعددت أسباب العداوة قال ( أعداء ) أما في مسألة الإيمان واليقين بالنسبة للكافرين فالعداوة واحدة ، لكن في أمور الدنيا العداوات متعددة : هذا يعاديك لكذا ، وهذا يعاديك لكذا؛ لأنه مخالف لهواه .
وحينما تحدثنا عن قوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] كلها بصيغة الجمع إلا في قوله تعالى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] بصيغة المفرد ، لماذا؟ لأن صداقة المؤمنين ينبغي ألاَّ تكون إلا لمعنى واحد ، هو الحب لله ، وفي الله ، لا ينبغي أن يكون لك صديق لكذا وصديق لكذا .
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأنْ يحبَّ المرءَ لا يُحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار " .
(1/6429)

فإذا كان أصدقاؤك يحبونك لله ، فهم جميعاً كصديق واحد .
وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } [ الفرقان : 31 ] يعني : كأعدائك الذين اتخذوا القرآن مهجوراً ، والذين وقفوا منك موقف التعنت والإيذاء والسخرية .
{ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } [ الفرقان : 31 ] أي : الذين يُجرِمون يعني : يرتكبون الجرائم ، وهي المعاصي والذنوب حَسْب مدلولاتها .
الحق تبارك وتعالى حينما يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة أعدائه ، وأنهم كثيرون ، وأنهم مجرمون إنما ليوَطِّن نفسه على ذلك ، فلا يُفَاجأ به ، ويتحمل أذاهم إنْ أصابوه بسوء . وهذه المسألة كالمصْل والتحصين الذي يعطونه للناس لمواجهة المرض قبل حدوثه ، فالحق سبحانه يعطي رسوله المناعة اللازمة لمواجهة أعداء الدعوة .
لذلك نجد " تشرشل " القائد البريطاني الذي ساس الحرب العالمية الثانية كان يواجه جنوده بالحقائق أفظع مما هي في الواقع ليُوطِّن شعبه على قوة التحمل ، وعلى التصدِّي للصعوبات الشديدة ، ومهما واجههم من مصاعب قال لهم ما زال هناك المزيد منها ، حتى إذا ما حدث ذلك كانوا على استعداد له .
وقوله تعالى : { وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [ الفرقان : 31 ] أي : أن الله تعالى سيهديك إلى الطريق الذي بمقتضاه تنتصر على هؤلاء جميعاً . وسبق أن ذكرنا عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه حينما نزل قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] قال : أيُّ جمع هذا؟ يعني تعجب كيف سنهزم هؤلاء ونحن الآن عاجزون حتى عن حماية أنفسنا؟ ولا نبيت إلا في السلاح ، ولا نصبح إلا في السلاح نخاف أن يتخطفنا الناس ، فلما وقعتْ بدر وهُزِم المشركون وحُصدت أرواح صناديدهم قال : صدق الله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
كيف حدث هذا؟ حدث من هداية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى أسباب النصر ، والحق تبارك وتعالى ينصر بالشيء وينصر بضده ، وقد اجتمع في بدر سادات قريش وأقوياؤها وأغنياؤها وصناديد الكفر بها ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه مكة ، قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها " وقد خرجوا جمعياً على حال الاستعداد للحرب ، أما المؤمنون فقد كانوا قِلَّة مستضعفين على غير استعداد للحرب ، ومع ذلك نصرهم الله .
والحق سبحانه يُطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 249 ] .
وقال تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] .
وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الرعد : 41 ] أي : ننقص من أرض الكفر ، ونزيد في أرض الإيمان ، والحق سبحانه أخبرنا بقضايا ، يجب أن تُوجَد أحداث في الحياة والواقع خادمةً لتصديق هذه القضايا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ }
(1/6430)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
هذا أيضاً أحد الأمور التي يتعلقون بها كي لا يؤمنوا ، وكيف يطلبون أن ينزل القرآن جملةً واحدة ، وهم لا يطيقون منه آية واحدة؟ لكنه الجدل والسفسطة والإفلاس في الحجة ، فاعتراضهم على نزول القرآن مُنَجّماً .
إذن : لا غضاضة عندهم في القرآن ، وعَيْبه في نظرهم أنه نزل على محمد بالذات ، وأنه ينزل مُنجّماً لا جملة واحدة ، وكان طاقة الإيمان عندهم تناسب نزول القرآن جملة واحدة!!
ثم يقول سبحانه : { كَذَلِكَ } [ الفرقان : 32 ] يعني : أنزلناه كذلك مُنجّماً حَسْب الأحوال ، والحكمة من ذلك { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] لأنك ستتعرض على مدى ثلاث وعشرين سنة لمواقف تزلزل ، فكلما تعرضْتَ لموقف من هذه المواقف نزل القرآن تسليةً لك وتثبيتاً وَصِلةً بالسماء لا تنقطع . ولو نزل القرآن مرة واحدة لكان التثبيت مرة واحدة ، ثم تأتي بقية الأحداث بدون تثبيت ، ولا شكَّ أن الصلة بالسماء تُقوِّي المنهج وتُقوِّي الإيمان .
كما أن القرآن لو نزل مرة واحدة ، كيف يتسنى لهم أنْ يسألوا عما سألوا عنه مما حكاه القرآن : يسألونك عن كذا ، يسألونك عن كذا . . إلخ . إذن : نزوله مُنجّماً اقتضاء لحكمة الحق سبحانه ليُعدِّدَ مواقف تثبيتك ، لتعدد مواقف الإيذاء لك .
ومعنى : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] أي : أنزلناه مُنجمّاً حَسْب الأحوال ، فكلما نزل نجم تمكنتم من حِفْظه وتكراره في الصلاة .
(1/6431)

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
المَثَل مثل قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] أو قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] والمثل : الأشياء العجيبة التي طلبوها .
ولو أجابهم الله لما قالوا لأنكروا قولهم وتنصّلوا منه ، كما قال تعالى عن اليهود : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ومع ذلك قالوا ما حكاه القرآن عنهم . أمَا كان فيهم رجل يتنبه لقوْل القرآن ، فيحذرهم من هذا القول ليُوقِع رسول الله في حرج ، ويُظهر القرآن على أنه كذب ، ويقول كلاماً يخالف الحقيقة ، وعندها ، لهم أنْ يقولوا : لقد قال القرآن كذا وكذا ولم يحدث منا هذا؟
(1/6432)

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{ الذين } [ الفرقان : 34 ] إجمال الأشخاص معروفين بذواتهم ، وقفوا من الرسول موقف العداء ، ومنهم مَنْ سبق أن قال : { ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً * ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } [ الفرقان : 2728 ] .
والحشر : الجمع للحساب ، لكن سيُحشَرون على وجوههم؛ لذلك لما نزلت هذه الآية سألوا رسول الله : كيف يمشُون على وجوههم قال صلى الله عليه وسلم : " الذي أمشاهم على أرجلهم ، قادر أن يُمشيهم على وجوههم " .
فالذي يمشي على وجهه كالذي يمشي على بطنه ، ولعله يُجَر جراً ، سواء أكان على وجهه أو على شيء آخر ، ثم إن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل عن أمور هي مناط القدرة المطلقة .
والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذه المسألة في قوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ النور : 45 ] .
إذن : المشْي لا ينحصر في الحالات التي نعرفها فقط ، إنما هي طلاقة القدرة التي تفعل ما تشاء .
لكن ، لماذا لم يذكر القرآن أسماء هؤلاء الأشخاص الظالمين المعاندين للإسلام؟ قالوا : هذا من باب إرخاء العِنَان للخَصْم ، وكلمة ( العنان ) تأتي بكسر العين وفتحها ، واللغويون يقولون : هي على وزن ما هي بمعناه ، فإنت قصدتَ بها عَنان السماء فهي على وزن سَحَاب ، وإن أردتَ بها عِنان الفرس ، فهي على وزن لِجَام .
وراكب الدابة إنْ أرخى لها العِنان تركها تسير كما تشاء ، كذلك الحق تبارك وتعالى يُرخِي للخصم العِنان ليقول كل ما عنده ، وليأخذه إلى جانبه ، لا بما يكره ، بل بما يحب . وقد علَّم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يردُّ عليهم ويجادلهم الجدل الهادىء بالتي هي أحسن . فحين قالوا عنه مفتر ، وعن القرآن مُفترىً ومكذوب ردّ عليهم : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] .
ثم يترقَّى في جدالهم : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [ هود : 35 ] وفي آية أخرى يرد عليهم : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
وهل النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف مَنْ على الهدى ومَنْ على الضلال؟ لا شكَّ أنه إرخاء العِنان للخصم ، يقول لهم : أنا وأنتم على طَرَفي نقيض : أنا أقول بإله واحد وأنتم تُكِّذبون قولي ، فأنا متناقض معكم في هذه القضية ، والقضية لا بُدَّ أن تأتي على شكل واحد ، فإمَّا أنا على الهدى ، وإمّا أنتم ، وأنا لا أدّعي الحق لنفسي .
إذن : المطلوب أنْ تُعمِلوا عقولكم لِتُميِّزوا مَنْ مِنّا على الهدى ومَنْ منّا على الضلال ، وكأن رسول الله يرتضي حكومتهم في هذه المسألة ، وما ترك لهم رسول الله الحكمَ إلا وهو واثق أنهم لو تجردوا من الهوى لعرفوا أن الحق معه ، وأنه على الهدى ، وأنهم على الضلال .
(1/6433)

إذن : عندما تكلم القرآن عن كفار قريش الذين تعنتوا في اقتراحاتهم ، وعاندوا وآذوا رسول الله بكل أنواع الإيذاء ، ومع ذلك حينما تكلم عنهم جاء بأسلوب عام فقال : ( الذين ) ولم يقل هؤلاء ، بل جاء بالقضية العامة ولم يُواجههم بالجزاء مما يدلّ على التلطف في أمر الدعوة ، وهذا نوع من استمالة الخَصْم لنقطع منه شراسة العداء والعناد .
لذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] كأنك لم تَلِنْ لهم بطبْعك؛ لأن عنادهم وأذاهم كان سيُرغم طبْعك على أن تكون قاسياً معهم ولكن رحمة الله شملتْك فَلِنْتَ لهم { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 ] .
هذا يعني أن الداعية لا بُدَّ أن يكون رَحْب الصدر ، رَحْب الساحة ، ذلك لأنه يُخرِج أهل الضلال عما أَلِفوه إلى شيء يكرهونه ، فلا تُخرجهم من ذلك بأسلوب يكرهونه ، فتجمع عليهم شدتين ، إنما تلطَّفْ معهم ، كما قال عز وجل لموسى وهارون عندما أمرهما بدعوة فرعون : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] .
لأن الذي بلغ من عناده أنْ يتكبّر لا على المخلوقين أمثاله ، إنما يتكبّر على الخالق فيدّعي الألوهية لا بُدَّ أنْ تأتيه بأسلوب ليِّن لطيف .
وفي آية أخرى يُعلِّم الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يجادل المشركين ، فيقول سبحانه : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا } [ سبأ : 25 ] وهل يُتصوَّر الإجرام من رسول الله؟! وفي المقابل : { وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] مع أن منطق الجدل هنا أن يقول : ولا نُسأل عما تُجرِمون ، لكنه نسب الإجرام لنفسه ، ولم يذكره في حَقِّ الآخرين ، فهل هناك تلطُّفٌ وترقيق للقلوب فوق هذا؟
الحق تبارك وتعالى يعرض لكل هذه المسائل ليثبت أن رسوله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان قومه ، وأنه لم يدّخِرْ وُسْعاً في سبيل هدايتهم وجَذْبهم إليه؛ لدرجة أنه حمّل نفسه فوق ما يطلبه الله منه ، حتى قال له ربه : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
وقال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] .
يعني : مُهلكٌ نفسك من أجل هدايتهم ، وما عليك إلا البلاغ ، ولا يقول له ربه هذا الكلام إلا إذا كان قد عَلِم منه حِرْصاً ورغبة أكيدة في هداية قومه .
ومعنى : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 34 ] قوله تعالى { شَرٌّ } [ الفرقان : 34 ] ولم يقُلْ أشر؛ لأن معناها : أن الجهة الثانية فيها شر ، وهذا أيضاً من إرخاء العِنان للخصم .
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن أقوام الرسل السابقين : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب }
(1/6434)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
سبق قول الحق تبارك وتعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } [ الفرقان : 31 ] فلا بُدَّ أن يكون لكل نبي أعداء؛ لأنه جاء ليعدل ميزان المكارم الذي تحكم فيه ناس مُستبدون في شراسة ، وأهلُ فساد سيُحْرمون من ثمرة هذا الفساد ، فطبيعي أنْ يقفوا في وجه الدعوة .
لذلك يضرب الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بعض الأمثال من موكب الرسالات ، فيقول : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً } [ الفرقان : 35 ] .
كأن الحق سبحانه يقول لرسوله : لقد تعرضتَ لمشقة دعوة أُنَاس لا يؤمنون بالإله ، أمّا موسى فقد تعرض لدعوة مَن ادعى أنه إله ، إذن : هناك مَنْ تحمل كثيراً من المشقات في سبيل الدعوة ، لدرجة أن موسى عليه السلام رأى نفسه لن يستطيع القيام بهذه المهمة وحده .
فنراه وهو النبي الرسول الذي اختاره الله يقول : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي } [ القصص : 34 ] وهذا يعني أن موسى عليه السلام يعلم مدى المشقة ، وحجم المهمة التي سيقوم بها .
فالرسالات السابقة كان الرسول يُبعَث إلى أمته المحدودة في الزمان وفي المكان ، ومع ذلك لاقوا المشقات ، أما أنت يا محمد فقد أُرسلتَ برسالة عامة في الزمان وفي المكان إلى أنْ تقوم الساعة ، فلا بُدَّ أن تكون متاعبك مثل متاعب مَنْ سبقوك جميعاً .
(1/6435)

فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
الخطاب في { اذهبآ } [ الفرقان : 36 ] للرسول موسى ، وللوزير هارون وقال : { إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ الفرقان : 36 ] مع أن فيهم مَنِ ادعى الألوهية استمراراً لإرخاء العِنَان للخَصْم ، فقد كذّب فرعون بأن من آيات الله أن يؤمن بإله واحد .
ثم كانت النهاية { فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } [ الفرقان : 36 ] لأنهم وقفوا من موسى وهارون موقفَ العداء ، وقامت بينهما معركة تدخل فيها الحق سبحانه ، ودمرهم تدميراً ، كأن الحق سبحانه يقول لرسوله : اطمئن فإنْ حادوا عن جادة الحق وأبَوْا أنْ يأتوك طائعين ، فسوف تكون نهايتهم كنهاية هؤلاء . { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل }
(1/6436)

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
ذكر الحق تبارك وتعالى نوحاً بعد موسى عليهما السلام؛ لأن كلاً منهما تميَّز في دعوته بشيء ، وتحمَّل كل منهما ألواناً من المشقة ، فموسى واجه مَنِ ادعى الألوهية ، ونوح أخذ سُلْطة زمنية واسعة انتظمتْ كل الموجودين على الأرض في وقته ولا يعني هذا أنه عليه السلام أُرسِل إلى الناس كلهم ، إنما كان قومه هم الموجودون على الأرض في هذا الوقت فقد لَبِثَ فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً .
واقرأ قصته عليه السلام في سورة نوح لتقف على مدى معاناته في دعوة قومه طوال هذه الفترة ، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل ، وكانت الغَلَبة له في النهاية .
وأيضاً لأنه عليه السلام تعرّض لأمر يتعلق بالبنوة ، بُنوّة في المنهج ، وبُنوة في النسب ، فقد كان ابنه نسباً كافراً ، ولم يتمكن من هدايته ، ولما قال لربه عز وجل { إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] قال له : { يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] .
فجعل حيثية النفي { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] فالنسب هنا عمل وطاعة ، فكأن البنوة للأنبياء بنوة عمل ، لا بنوة نسب ، فابنك الحق مَنْ سار على منهجك ، وإنْ لم يكُنْ من دمك .
مسألة أخرى نلحظها في الجمع بين موسى ونوح عليهما السلام في مقام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهما يشتركان في ظاهرة كونية تستحق التأمل والنظر ، فكل مظاهر الكون التي أمامنا لو حققنا في كل مظهر من مظاهرها بعقل وتُؤدَة ويقين لأمكَننا أن نستنبط منها ما يُثري حياتنا ويُترِفها ويُسعدها .
لذلك الحق تبارك وتعالى ينعى على الذين يُعرضون عن النظر في آياته ، فيقول : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
وسبق أن قلنا : إن كل المخترعات التي رفَّهتْ حياة الناس وأسعدتهم ، وقلّلت مجهوداتهم ، وقصّرت الوقت عليهم ، كانت نتيجة الملاحظة والتأمل في مظاهر الكون كالذي اخترع العجلة والبخار . . إلخ .
وهنا نلاحظ أن العلاقة بين موسى ونوح عليهما السلام أن الله تعالى يُهلِك ويُنجي بالشيء الواحد ، فالماء الذي نجَّى موسى هو الماء الذي أغرق فرعون ، والماء الذي نجَّى نوحاً هو الماء الذي أغرق الكافرين من قومه . فهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى إنْ أراد الإنجاء يُنجِّي ، وإنْ أراد الإهلاك يُهلِك ، ولو بالشيء الواحد .
ألاَ ترى أن أصحاب موسى حينما رأوا البحر من أمامهم ، وفرعون من خلفهم قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فهذه حقيقة وقضية كونية مَنْ يملك ردّها؟ إنما ردها موسى فقال ( كَلاَّ ) لن نُدرَك ، قالها بملء فيه ، لا ببشريته ، إنما بالربوبية التي يثق في أنها لن تسلمه ،
(1/6437)

{ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
وكذلك كانت مسألة نوح عليه السلام ، لكن بطريقة أخرى ، هي السفينة ، وفكرة السفينة لم تكُنْ موجودة قبل نوح عليه السلام ، ألم يصادف واحد شجرة مُلْقاة في الماء تطفو على سطحه ، ففكّر في ظاهرة الطفو هذه ، وكيف أن الشجرة لم تغطس في الماء؛ لقد كان النجارون الماهرون يقيسون كثافة الخشب بأن يُلْقوه في الماء ، ثم ينظروا مقدار الغطس منه في الماء ، وعليه يعرفون كثافته .
هذه الظاهرة التي تنبه لها أرشميدس وبنَى عليها نظرية الأجسام الطافية والماء المُزَاح ، وتوصّل من خلالها إلى النقائض ، فبها تطفو الأشياء أو تغوص في الماء ، إنْ زادت الكثافة يثقل الشيء ويغوص في الماء ، وإنْ قلَّتْ الكثافة يطفو .
وتلاحظ ذلك إذا رميتَ قطعة نقود مثلاً ، فإنها تغطس في الماء ، فإنْ طرقتَها حتى جعلتها واسعةَ الرقعة رقيقة ، فإنها تطفو مع أن الكتلة واحدة ، نعم الكتلة واحدة ، لكن الماء المُزَاح في الحالة الثانية أكثر ، فيساعد على طفْوها .
وقد أراد الحق تبارك وتعالى أن يُنبِّه الإنسان إلى هذه الظواهر ، ويهديه إلى صناعة السفن التي تحمله في الماء؛ لأن ثلاثة أرباع الكرة الأرضية مياه ، وقد جعل الله لك وسائل مواصلات في الربع ، أَلاَ يجعل لك مواصلات في الثلاثة أرباع ، فتأخذ خيرات البحر ، كما أخذت خيرات البَرِّ؟
وتأمل أسلوب القرآن : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } [ الفرقان : 37 ] ومعلوم أنهم كذَّبوا رسولهم نوحاً لا جميع الرسل ، قالوا : لأن النبوة لا تأتي بمتعارضات ، إنما تأتي بأمور مُتفق عليها؛ لذلك جعل تكذيبَ رسول واحد كتكذيب جميع الرسل .
ثم ذكر عاقبة ذلك : { أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } [ الفرقان : 37 ] وكلمة { أَغْرَقْنَاهُمْ } [ الفرقان : 37 ] تعني : أن الذي أغرق المكذبين نَجَّى المؤمنين ، وإغراق المكذبين أو عملية تردُّ على سخريتهم من نوح ، حينما مرُّوا عليه وهو يصنع السفينة : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] .
ولم يكن الغرق نهاية الجزاء ، إنما هو بدايته ، فهناك العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة : { وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفرقان : 37 ] وهكذا جمع الله عليهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة .
ثم يضرب الحق تبارك وتعالى لرسوله مثلاً آخر : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس }
(1/6438)

وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
إنها نماذج من المتاعب التي لاقاها الرسل من أممهم ، كما قال في موضع آخر : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] . { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } [ الاعراف : 73 ] .
وكانت النهاية أن نصر الله أولياءه ورسله ، ودحر خصومهم والمكذِّبين بهم ، كل ذلك ليقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : يا محمد لست بدعاً من الرسل ، فإنْ وقف منك قومك موقفَ العناد والتكذيب ، فكُنْ على يقين وعلى ثقة من نصر الله لك كما قال :
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171173 ] .
إنها قضية يطلقها الحق تبارك وتعالى لا للتاريخ فقط ، ولكن لتربية النفس البشرية ، فإنْ أردتَ الغلبة فكُنْ في جند الله وتحت حزبه ، ولن تُهزَم أبداً ، إلا إذا اختلّتْ فيك هذه الجندية ، ولا تنْسَ أن أول شيء في هذه الجندية الطاعة والانضباط ، فإذا هُزِمْتَ في معركة فعليك أن تنظر عن أيٍّ منهما تخليْتَ .
لذلك رأينا في غزوة أحد أن مخالفة الرماة لأمر رسول الله قائد المعركة كانت هي سبب الهزيمة ، وماذا لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر الرسول؟ لو انتصروا لَفهِموا أنه ليس من الضروري الطاعة والانقياد لأمر رسول الله . إذن : هذا دليل على وجوب الطاعة ، وألاَّ يخرجوا عن جندية الإيمان أبداً خضوعاً وطاعة ، ولا تقولوا : إن الرسول بيننا فهو يُربيكم؛ لأنه لن يخلد فيكم .
وقوله تعالى : { وَأَصْحَابَ الرس } [ الفرقان : 38 ] الرسّ : هو البئر أو الحفرة ، وكانت في اليمامة ، ويُسمُّونها الأخدود ، وقد ورد ذكرها في سورة البروج .
وقد قال سبحانه هنا : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] لم يُرِد الحق سبحانه أنْ يُعدِّد كل الأمم السابقة ، واكتفى بذِكْر نماذج منها ، وفي مواضع أخرى يجمعهم جملةَ ، فيقول تعالى : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } [ العنكبوت : 40 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال }
(1/6439)

وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{ وَكُلاًّ } [ الفرقان : 39 ] أي : كُلٌّ من المتقدمين { ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } [ الفرقان : 39 ] يَعني : لم أدع رسولاً إلا وجئتُ له بالعبرة برسول قبله ، أقول له : انظر فيمَنْ سبقك كيف كذَّبه قومه؟ وكيف عاندوه ووقفوا منه هذا الموقف ، ومع ذلك كانت له الغلبة عليهم؛ ذلك ليأخذ كُلُّ نبي شحنةَ مناعة وطاقة يصمد بها أمام شدائد الدعوة ، فلا يلين ، ولا ييأس ، وليْكُنْ على يقين أن النهاية له وفي صالحه .
{ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } [ الفرقان : 39 ] أي : أهلكنا ودمرنا كل من كذَّب الرسل بأنواع مختلفة ومتعددة من ألوان العذاب ، فعوقب بعضهم بالصيحة أو الخسف أو الإغراق أو بالريح الصرصر العاتية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية }
(1/6440)

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
هذه المشاهد لم تكن مجرد تاريخ يحكيه القرآن ، إنما مشاهد ومَرَاءٍ رآها كفار مكة في رحلة الصيف يمرون على هذه الديار ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137138 ] إذن : فهذا التاريخ له واقع يسانده ، وآثار تدل عليه .
والقرية التي أُمطرتْ مطر السَّوْء هي سدوم قرية قوم لوط { أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } [ الفرقان : 40 ] ألم يشاهدوها في أسفارهم .
{ بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } [ الفرقان : 40 ] كلمة ( بَلْ ) للإضراب ، فهي تنفي ما قبلها ، وتُثبِت ما بعدها ، فالمعنى : أنهم مَرُّوا عليها وشاهدوها ، ويَعْرفونها تمام المعرفة ، لكنهم لا يرجُونَ نُشُوراً يعني : لا ينتظرون البعث ، ولا يؤمنون به ، ولا يعترفون بالوقوف بين يدي الله للحساب ، ألم يقولوا : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ] .
وعجيبٌ ألاَّ يؤمنَ هؤلاء بالبعْث والحساب ، وهم أنفسهم كانوا إذا رأَوْا ظالماً وقفوا في وجهه ومنعوه من الظلم ، كما كان في حِلْف الفضول مثلاً ، فيأخذون الظالم ويعاقبونه حتى يرجع عن ظُلْمه ، ثم يردُّون للمظلوم حَقّه ، لكن ألم ينظروا في حال الظالمين الذين مرُّوا في الدنيا دون عقاب ، ودون قصاص؟ أليس من العدل أن تكون لهم دَارٌ أخرى يُحاسبون فيها؟
لذلك كنا نردُّ على الشيوعيين بهذه المسألة ، نقول لهم : لقد عذبتُمْ أعداءكم من الإقطاعيين والرأسماليين ، وأنتقمتُم منهم فما بال الذين سبقوكم ولم تدركوهم؟ أليس من العدل أنْ تعترفوا بيوم جامع يُحاسب فيه هؤلاء؟
ولما قال القائل : لن يموت ظلوم حتى ينتقم الله منه ، قالوا له : إن فلاناً الظالم قد مات ، ولم نَرَ فيه شيئاً ، فقال : إن وراء هذه الدار داراً يُجازي فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
وبعد أن عرض الحق تبارك وتعالى بعض النماذج من موكب النبوات تسليةً لرسوله صلى الله عليه وسلم يُبيِّن أن الأمر مع هؤلاء الكفار لن يتوقف عند العِنَاد والتعنّت بمطالب سخيفة ، إنما يتعدَّى ذلك إلى محاولة الاستهزاء به والسخرية منه ، فقال سبحانه : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً }
(1/6441)

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
( إنْ ) نافية بمعنى : ما يتخذونك إلا هُزُواً ، ثم ذكر صيغة الاستهزاء : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] وفي موضع آخر قالوا : { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } [ الأنبياء : 36 ] كأنه صلى الله عليه وسلم دون هذه المنزلة ، وما دام الرسول في نظرهم دون هذه المنزلة فإنهم يريدون شخصاً على مستوى المنزلة ، كما قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
ومعنى هذا أنهم مؤمنون بضرورة وجود إله ورسول ومنهج ، وكل اعتراضهم أن تكون الرسالة في محمد بالذات .
ثم تناقضون مع أنفسهم ، فيقولون : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا }
(1/6442)

إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
فكيف تستهزئون به وترَوْنه دون مستوى الرسالة ، ثم تقولون إنه كاد أنْ يُضلكم عن آلهتكم يعني : قَرُبَ أنْ يُضلّكم عن آلهتكم ، مع ما أنتم عليه من التعنّت والعناد؟ هذا دليل وشهادة لرسول الله أنه قويٌّ وأنه على مستوى الرسالة ، وأنه لم يدخر وُسْعاً في دعوتكم ، حتى كاد أنْ يصرفكم عن آلهتكم .
والدليل على أنهم كانوا يخافون من تأثير رسول الله عليهم قولهم لأتباعهم إذا رأوهم يستمعون للقرآن : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] إذن : يريدون أنْ يُشوِّشوا على القرآن لما يعلمون من تأثيره في النفوس ، وهم أمة فصاحة وبلاغة ، فإنْ سمعوا القرآن فلا بُدَّ أن يُؤثّر في قلوبهم ويجذبهم إليه .
ألا ترى قصة إسلام عمر رضي الله عنه وكيف كان قبل الإسلام شديداً جباراً؟ فلما تهيأت له الفرصة فاستمع للقرآن وصادف منه ملَكةً سليمة وفطرة نقية ، حيث أعاده حادث ضَرْبه لأخته وشَجِّه لها ، أعاده إلى سلامة الفطرة والطويّة ، فلما سمع منها القرآن وصادف منه قلباً نقياً وفطرة سليمة تأثر به ، فأسرع إلى رسول الله يعلن إسلامه .
إذن : فقولكم : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } [ الفرقان : 42 ] دليل على أنه كُفْء للمهمة التي بعث بها ، وهذا يناقض قولكم سخريةً منه واستهزاءً : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] .
وقولهم : { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } [ الفرقان : 42 ] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فعل معهم أفعالاً اقتضتْ منهم أنْ يصبروا على الضلال { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 42 ] سيعرفون ذلك ، لكن بعد فوات الأوان ، وبعد ألاَّ تنفعهم هذه المعرفة .
(1/6443)

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
الحق تبارك وتعالى يضع لرسوله صلى الله عليه وسلم قضية ، هي أن الدين إنما جاء ليعصم الناس من أهواء الناس ، فلكُلِّ نفس بشرية هَوىً ، وكل إنسان يعجبه هواه ، وما دام الأمر كذلك فلن ينقاد لغيره؛ لأن غيره أيضاً له هوىً؛ لذلك يقول تعالى : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } [ المؤمنون : 71 ] .
لكن ، لماذا تختلف الأهواء؟ قالوا : لأن طبيعة الحياة تتطلب أن تكون الأهواءُ مختلفةً؛ لأن مجالات الحياة متعددة ، فهذا هواه في كذا ، وهذا هواه في كذا . فترى الصَّديقَيْن يلازم أحدهما الآخر ، ويشاركه طعامه وشرابه ، فلا يفرقهما شيء ، فإذا ما ذهبا لشراء شيء ما تباينتْ أهواؤهما ، كما أن هوىً مختلفاً يخدم هوىً مختلفاً ، فالذين اختلفوا مثلاً في تصميم الأشياء يخدمون اختلاف الأذواق والأهواء ، لذلك يقولون : خلاف هو عَيْن الوفاق ، ووفاق هو عَيْن الخلاف .
وقد ضربنا لذلك مثلاً بسيطاً : هَبْ أنك دخلتَ مطعماً ، وأنت تفضل مثلاً ورك الدجاجة وغيرك كذلك يفضله ، وصادف أن في المطعم ( وركاً ) واحداً ، فلا شكَّ أنكما ستختلفان عليه . إذن : اتفقتما في الأول لتختلفا في الآخر ، لكن إن اختلفتْ رغباتكما ، فسوف ينتج عن هذا الاختلاف اتفاقٌ في النهاية ، فأنت ستأخذ الورك ، وغيرك سيأخذ الصدر ، فهذا إذن خلاف يؤدي إلى وفاق ، ووفاق يؤدي إلى خلاف .
هنا يقول الحق سبحانه : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] الهَوَى . أن تكون هناك قضية ظاهرٌ فيها وَجْه الحق ، إلا أنك تميلُ عنه وأنت تعرفه ، لا أنك تجهله .
لذلك يقول العلماء : آفةُ الرأْي الهوى . فالرأي قد يكون صائباً ، لكن يميل به الهوى حيث يريد الإنسان ، وقلنا : لا أدلّ على ذلك من أن الرجل منهم كان يسير فيجد حجراً أجمل من حَجره الذي يعبده ، فيَلْقي الإله الذي يعبده ليأخذ هذا الذي هو أجمل منه فيتخذه إلهاً ، إذن : هواه في جمال الحجر غلب أنه إله .
وقد وقف المستشرقون عند قوله تعالى في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] .
يقولون : كيف يحكم الله بأن رسوله لم ينطق عن الهوى ، وقد عدَّل له بعض ما نطق به ، مثل قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
وقال تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ } [ التوبة : 43 ] .
ولا بُدَّ أن نُحدِّد مفهوم الهوى أولاً : أنت مدرك أن لديه قضيتين : الحق واضح في إحداهما ، إلا أن هواه يميل إلى غير الحق . إنه صلى الله عليه وسلم نطق لأنه لم تكن هناك قضية واقعة ، وهو يعرف وجه الحق فيها ، فهو إذن لم يَسِرْ على الهوى ، إنما على ما انتهى إليه اجتهاده .
(1/6444)

ألاَ ترى قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في مسألة تبنِّيه لزيد بن حارثة { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } [ الأحزاب : 5 ] فمعنى أن نسبته لأبيه أقسط أن رسول الله لم يكُنْ جائراً ، فما فعله قِسْط ، لكن فِعْل الله أقسط منه .
فالحق تبارك وتعالى لم يُخطّىء رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسمّى فِعْله عدلاً ، وهو عَدْل بشرى يناسب ما كان من تمسُّك زيد برسول الله ، وتفضيله له على أهله ، فلم يجد رسول الله أفضلَ من أنْ يتبنَّاه مكافأةً له .
ثم يقول سبحانه : { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } [ الفرقان : 43 ] وكيلاً يتولَّى توجيهه ، ليترك هواه ويتبع الحق ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] وقال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] وقال : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] .
فالذي اتبع هواه حتى جعله إلهاً له لا يمكن أنْ تحمله على أنْ يعدل عن هواه؛ لأن الأهواء مختلفة ، فالبعض يريد أنْ يتمتع بجهد غيره ، فيضع يده في جيوب الآخرين ليسرقهم ، لكن أيسرُّه أن يفعل الناسُ معه مثلَ فِعْله معهم؟ إذن : هوى صادمَ هوى ، فأَيُّهما يغلب؟ يغلب مَنْ يحكم بلا هوى ، لا لك ولا عليك ، وقضية الحق في ذاتها لا توجد إلا من الله تعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ }
(1/6445)

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{ يَسْمَعُونَ } [ الفرقان : 44 ] أي : سماع تعقُّل وتدبُّر ، فلو سَمعُوا وعَقِلوا ما وصلتْ بهم المسائل إلى هذا الحدِّ { إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام } [ الفرقان : 44 ] مع أن الأنعام مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها ولم تمتنع عن شيء خُلِقَتْ له ، فقد شبَّههم الله بالأنعام؛ لأن الأنعام لا يُطلب منها أن تسمع الهداية لأنها مُسخَّرة ، والذي يُطلب منه السماع والهداية هو المخيِّر بين أن يفعل أو لا يفعل .
كأن الحق سبحانه يقول : أتظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ وكلمة { أَكْثَرَهُمْ } [ الفرقان : 44 ] تدل على أن بعضهم يسمع ويعقل ، وهذا من قانون الاحتمال ، فكثير من كفار قريش ناصبوا رسول الله العداء ، وانتهى الأمر بهم إلى أَنْ أسلموا وحَسُن إسلامهم ، إذن : كان فيهم مَنْ يسمع ، ومَنْ يفكر ويعقل؛ لذلك قال : { أَكْثَرَهُمْ } [ الفرقان : 44 ] ليحمي هذا الحكم ، وليحتاط لما سيقع من إيمان هؤلاء البعض ، هذا دِقَّة في تحرِّي الحقيقة .
وسبق أنْ ذكرنا ما كان من أسف المؤمنين حين يفوتهم قَتْل أحد صناديد الكفر في المعركة ، فكانوا يألمون لذلك أشدَّ الألم ، وهم لا يدرون أن حكمة الله كانت تدخرهم للإيمان فيما بعد ، ومنهم خالد ابن الوليد الذي أصبح بعد ذلك سيف الله المسلول .
والأنعام قُلْنا : لا دخلَ لها في مسألة الهداية أو الضلال؛ لأنها مُسخَّرة لا اختيارَ لها؛ لذلك ضرب الله بها المثل لليهود : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] فالحمار مهمته أنْ يحمل فحسب ، أمّا أنت أيها اليهودي فمهمتك أن تحمل وتطبق ، الحمار لا يطبق؛ لأنه لم يُطلب منه ذلك ، مع أن الحيوان يعرف صاحبه ويعرف طعامه ومكان شرابه ، ويعرف طريقه ومكان مبيته ، حتى أن أحدهم مات على ظهر جواده ، فسار به الجواد إلى بيته .
إذن : فالأنعام تفهم وتعقل في حدود المهمة التي خلقها الله لها ، ولا تُقصِّر في مهمتها ، أما المهمة الدينية فتعلمها في باطن الأمر ، لكن لا يُطلَب منها شيء الآن ، لأنها انتهتْ من هذه المسألة أولاً ، كما قال سبحانه وتعالى :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] ؟
فاختاروا أن يكونوا مُسيَّرين بالغريزة محكومين بها ، إذن : فلهم اختيار ، لكن نفّذوا اختيارهم جملةً واحدة من أول الأمر .
خُذْ مثلاً الهدهد وهو من المملوكات التي سخّرها الله لسليمان عليه السلام يقول له : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] أيُّ ديمقراطية هذه التي تمتَّع بها الهدهد مع سليمان . ؟! إذن : فحتى الحيوانات تعرف هذه القضية ، وإنْ لم يُطلَب منها شيء ، والحيوانات لا يمكن أنْ تفعل شيئاً إلا إذا كان منوطاً بغرائزها وفي مقدورها .
وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالحمار إذا أردتَ منه أن يقفز فوق جدول ماء فإنه ينظر إليه ، فإنْ كان في مقدوره قفزَ ، وإنْ كان فوق مقدوره تراجَع ، ولا يمكن أنْ يُقدِم مهما ضربته؛ لأنه علم بغريزته أنه فوق إمكاناته ، أما الإنسان فقد يُقدِم على مثل هذا دون حساب للإمكانات ، فيُوقع نفسه فيما لا تُحمد عقباه .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل }
(1/6446)

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
الحق سبحانه وتعالى وهو خالق الآيات في الكون يُنبِّه إليها الخَلْق ، وكان من المفروض ممَّن يرى الآيات أنْ يتنبه إليها دون أنْ يُنبه ، فإذا رأى عجيبة من عجائب الكون تأملها ، وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً بمَنِ انقطعت به السُّبل في صحراء شاسعة ، ليس بها أنيس ولا حياة ، وقد بلغ به الجهد حتى نام ، فلما استيقظ وجد مائدة عليها أطايب الطعام أو الشراب ، بالله قبل أنْ تمتدَّ يده إلى الطعام ، أليس من المفروض أنْ يفكر في هذا الطعام ، مَنْ أتى به؟ وأعدَّه على هذه الصورة؟
إذن : في الكون آياتٌ كان يجب أنْ تشدَّ انتباهك لتبحث فيها وفي آثار وجودها وكلها آيات عالية عَنّا وفوق إمكاناتنا : الشمس والقمر ، الهواء والمطر . . إلخ . ومع ذلك لم يتركك الله؛ لأن تتنبه أنت ، بل نبَّهك ولفتَك وجذب انتباهك لهذه ولهذه .
وهنا ، الحق تبارك وتعالى يعرض الآيات والكونيات التي يراها الإنسان برتابة كل يوم ، يراها الفيلسوف كما يراها راعي الشاة ، يراها الكبير كما يراها الصغير كل يوم على نظام واحد ، لا يكاد يلتفت إليها .
يقول سبحانه : { أَلَمْ تَرَ } [ الفرقان : 45 ] أي : ألم تعلم ، أو ألم تنظر إلى صَنْعة ربك { كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } [ الفرقان : 45 ] نعم نرى الظل ، فما هو؟ الظل أنْ يَحْجب شيء كثيف على الأرض مثل جبل أو بناء أو شجرة أو نحوه ضوءَ الشمس ، فتظهر منطقة الظل في المكان المُشْمِس ، فالمسألة إذن متعلقة بالشمس ، وبالأرض التي نعيش عليها .
وقد علمنا أن الأرض كرة تواجه الشمس ، فالجهة المواجهة منها للشمس تكون مُضَاءة ، والأخرى تكون ظلاماً لا نقول ظلاً ، فما الفرق بين الظلِّ والظلام؟ قالوا : إذا كان الحاجبُ لضوء الشمس من نفس الأرض فهي ظُلْمة ، وإنْ كان الحاجب شيئاً على الأرض فهو ظل .
والظل نراه في كل وقت ، وقد ورد في عدة مواضع من كتاب الله ، فقال سبحانه : { إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } [ المرسلات : 41 ] .
وقال : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ } [ النحل : 48 ] .
ينبهنا ربنا تبارك وتعالى إلى مهمة أخرى من مهام الظل ، وهي أنه يحمينا من وَخْزة الشمس وحرارتها ، ويرتقي الإنسان في استخدام الظل فيجعله كما قال تعالى { ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] أي : أن الظل نفسه مُظلَّل ، فيجعلون الخيمة مثلاً لها سقفان منفصلان حتى لا يتأثر داخلُ الخيمة بالحرارة خارجها .
لذلك تجد ظل الشجرة ألطفَ من ظِلِّ الحائط مثلاً أو المظلة؛ لأن أوراق الشجرة يُظلِّل بعضها بعضاً ، فالظل يأتيك من مُظلل آخر ، فتشعر تحت ظل الشجرة وكأنك في ( تكييف ) ؛ لأن الأوراق تَحجب عنك حرارة الشمس ، في حين تسمح بمرور الهواء ، كما قال الشاعر في وصف دوحة :
(1/6447)

يصدُّ الشمسَ أنَّي وَاجَهتْنَا ... فَيحْجُبُها وَيَأْذَنُ لِلْنَسِيمِ
وقال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } [ الأعراف : 171 ] .
وحين تتأمل هذه الظاهرة ساعة طلوع الشمس ترى الشيء الكثيف الذي يحجب ضوء الشمس يطول ظِلُّه إلى نهاية الأفق ، ثم يأخذ في القِصر كلما ارتفعتْ الشمس إلى أنْ يصير في زوال ، ثم ينعكس الظل مع ميل الشمس ناحية الغرب فيطول إلى نهاية الأفق .
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نلاحظ هذه الظاهرة ، وأنْ نتأملها { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] أي : ساعة طلوع الشمس { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } [ الفرقان : 45 ] لأن مشيئة الله تستطيع أن تخلق الشيء ونقيضه ، فإنْ شاءَ مَدَّ الظل ، وإنْ شاء أمسكه .
لكنه يتغير : ينقص في أول النهار ، ويزيد في آخره وكل ما يقبل الزيادة يقبل النقص ، والنقص أو الزيادة حركة ، وللحركة نوعان : حركة قَفْزية كحركة عقرب الدقائق في الساعة ، فهو يتحرك بحركة قفزية ، وهي أنْ يمرَّ على المتحرك وقت ساكن ثم يتحرك ، إنما أتدرك ذلك في حركة عقرب الساعات؟ لا؛ لأنه يسير بحركة انسيابية ، بحيث توزع أجزاء الحركة على أجزاء الزمن .
ومثَّلْنا هذه الحركة بنمو الطفل الصغير الذي لا تدرك حركة نموه حالَ نظرك له منذ ولادته ، إنما إنْ غبْتَ عنه فترة أمكنك أنْ تلاحظ أنه يكبر ويتغير شكله؛ لأن نموه مُوزَّع على فترات الزمن ، لا يكبر هكذا مرة واحدة ، فهي مجموعات كِبَر تجمعتْ في أوقات متعددة ، وليس لديك المقياس الدقيق الذي تلاحظ به كبر الطفل في فترة قصيرة .
وإذا كنا نستطيع إجراء هذه الحركة في الساعات مثلاً ، فالحق تبارك وتعالى يُحدِثها في حركة الظل وينسبها لعظمها إلى نفسه تعالى؛ لأن الظل لا يسير بحركة ميكانيكية كالتي تراها في الساعة إنما يسير بقدرة الله .
والحق سبحانه يلفتنا إلى هذه الظاهرة ، لا لأنها مجرد ظاهرة كونية نراها وتعجب منها ، إنما لأننا سنستغلها وننتفع بها في أشياء كثيرة .
فقدماء المصريين أقاموا المسلات ليضبطوا بها الزمن عن طريق الظل ، وصنع العرب المسلمون المزْولة لضبط الوقت مع حركة الشمس ، ونرى الفلاح البسيط الآن ينظر إلى ظل شيء ويقول لك : الساعة الآن كذا؛ لأنه تعودَّ أن يقيس الوقت بالظل ، مع أن مثل هذا التقدير يكون غير دقيق؛ لأن للشمس مطالعَ متعددة على مرِّ أيام العام؛ لذلك في أحد معابد الفراعنة معبد به 365 طاقة ، تدخل الشمس كل يوم واحدة منها .
إذن : أفادنا الظل في المسلات والمزاول ، ومنها انتقل المسلمون إلى عمل الساعات ، وأولها الساعة الدقاقة التي كانت تعمل بالماء ، وقد أهدوْا شارلمان ملك فرنسا واحدة منها فقال : إن فيها شيطاناً ، هكذا كان المسلمون الأوائل .
وقوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } [ الفرقان : 45 ] أي : أن الضوء هو الذي يدل على الظلِّ .
(1/6448)

ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
الحق تبارك وتعالى يُبيِّن الحركة البطيئة للظل فيقول : { قَبْضاً يَسِيراً } [ الفرقان : 46 ] لا تدركه أنت أبداً؛ لأن في كل لحظة من لحظات الزمن حركة فلا يخلو الوقت مهما قَلَّ من الحركة ، لكن ليس لديك المقياس الذي تدرك به بُطْءَ هذه الحركة .
وقوله : { قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } [ الفرقان : 46 ] دليل على أن المسألة ليست ميكانيكاً ، إنما هي بقيومية الله تعالى؛ لذلك فكأن الحق سبحانه يقول : يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم ، فربُّكم قيُّوم على مصالحكم لا ينام .
وأهل المعرفة يستنبطون من ظاهرة الظل أسراراً ، فيروْنَ أن ظِلَّ الأشياء الشاهقة المتعالية يخضع لله تعالى ، ويسجد على الأرض ، رغم أنه متعالٍ شامخ ، كما جاء في قوله سبحانه : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
وقال سبحانه : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] فللظل حركة بطيئة لا يعلمها إلا الله؛ لأنك لا تدرك مدى صِغَرها؛ لذلك قُلْنا في الهباء : إنه نهاية ما يمكن أن يكون من التفتيت المنظور .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً }
(1/6449)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{ اليل } [ الفرقان : 47 ] يعني : الظلْمة لا الظل ، فالظلمة هي التي منعتْ النور ، وإياك أن تظن أن الظلمة ضد النور ، وتحاول أنت أن تنسخ الظلمة بنور من عندك ، وهذه آفة الحضارة الآن أنْ جعلتَ الليل نهاراً .
وقد تنبه العلماء أخيراً إلى مدى ضرر الأشعة على صحة الإنسان ، لذلك جاء في الحديث الشريف : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " فالشعاع له عمل وقت حركتك ، لكن ساعة نومك وراحتك ليس له مهمة ، بل هو ضار في هذا الوقت .
والحق تبارك وتعالى يمتنُّ علينا بالليل والنهار ، فيقول : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 7172 ] .
إذن : فلليل مهمة ، وللنهار مهمة يُوضِّحها هنا الحق سبحانه بقوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً } [ الفرقان : 47 ] أي : ساتراً ، كما أن اللباس يستر الجسم ، والنوم ردع ذاتي يقهر الكائن الحي ، وليس ردعاً اختيارياً .
لذلك تلاحظ أنك إنْ أردت أنْ تنامَ في غير وقت النوم تتعب وترهق ، أمّا إنْ أتاك النوم فتسكن وتهدأ ، ومن هنا قالوا : النوم ضيف ثقيل إنْ طلبته أَعْنَتكَ ، وإنْ طلبك أراحك .
لذلك ساعة يطلبك النوم تنام مِلْء جفونك ، ولو على الحصى يغلبك النوم فتنام ، وكأن النوم يقول لك : اهمد واسترح ، فلم تَعُدْ صالحاً للحركة ، أما مَنْ غالب هذه الطبيعة فأخذ مثلاً حبوباً تساعده على السهر ، فإنْ سهر ليلة نام بعدها ليلتين ، كما أن الذي يغالب النوم تأتي حركته مضطربة غير متوازنة .
فعليك إذن أن تخضع لهذه الطبيعة التي خلقك الله عليها وتستسلم للنوم إنْ ألحَّ عليك ، ولا تكابر لتقوم في الصباح نشيطاً وتستأنف حركة حياتك قوياً صالحاً للعمل وللعطاء .
وللصوفية في النوم مَلْحظ دقيق يُبْنَى على أن الكون كله غير المختار مُسبِّح لربه ، كما قاله تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] وعليه ، فذرات الكافر في ذاتها مؤمنة ، يؤلمها ويغيظها أن صاحبها عَاصٍ أو كافر فتطيعه ، وهي كارهة لفعله بدليل أنها ستشهد عليه يوم القيامة ، فإنْ كانت مُسخِّرة لمراداته في الدنيا فإنها ستتحرر من هذه الإرادة في الآخرة .
فاللسان مُسخَّر لصاحبه ، إنْ شاء نطق به الشهادتين ، وإنْ شاء نطق به كلمة الكفر؛ لأنه مقهور لإرادته ، أما في القيامة فلا إرادة إلا للحق تبارك وتعالى .
وفي النوم ترتاح هذه الجوارح وهذه الذرات من سيئات صاحبها ومن ذنوبه ، تستريح من نكده وإكراهه لها على معصية الله . فالنوم رَدْع طاقيّ ، فلم يَعُد الإنسان صالحاً للحركة ، ولا للتعايش السالم مع جوارحه ، لقد كثُرتْ ذنوبه ومعاصيه حتى ضاقتْ بها الجوارح ، فيأتي النوم ليريحها .
(1/6450)

وهذه الظاهرة نشاهدها مثلاً في موسم الحج ، يقول لك الحاج : يكفيني أنْ أنامَ في اليوم ساعة أو ساعتين لماذا؟ لأن السيئات في هذا المكان قليلة ، فجوارحك في راحة وانسجام معك فلا تحملك على النوم ، أمّا العاصي فلا يكفيه أن ينام عشرة ساعات؛ لأن جوارحه وأعضاءه مُتْعَبة متضايقة من أفعاله .
وهذه نُفسِّر بها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه ذلك لأن جوارحه صلى الله عليه وسلم تصحبه خير صُحْبة ، فهي في طاعة دائمة مستمرة ، فكيف تحمله على أنْ ينام؟
والخالق عز وجل يعامل الناس على المعنى العام ، فالنفوس دائماً ميَّالة للشر جانحة للسوء؛ لذلك تتعب الطاقة وتتعب الجوارح ، وكأن الله تعالى يريد إحداث هُدْنة للتعايش بينك وبين جوارحك ، نَمْ لتصبح نشيطاً .
ومعنى { والنوم سُبَاتاً } [ الفرقان : 47 ] السّبْت أي : القطْع . فمعنى { سُبَاتاً } [ الفرقان : 47 ] يعني : قاطعاً للحركة ، لا انقطاعاً نهائياً ، إنما انقطاعاً مُسْتأنفاً لحركة أفضل ، وبدن أقوى وأصحّ ، فالذي يقضي ليله ساهراً يقوم من نومه مُتْعباً مُضطرباً ، على خلاف مَنْ جعل وقت النوم للنوم؛ لأن الخالق عز وجل جعل نومك بالليل على قَدْر ما تتحرك بالنهار ، فإنْ أردتَ حركة مُتزنة نشيطة وقوية فنَمْ على مقدار هذه الحركة .
وقوله تعالى : { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } [ الفرقان : 47 ] النشور مثل الشُّكور : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ] أي : شكر ، وكذلك النشور أي نشر ، والنشر يعني الانطلاق في الأرض بالحركة ، كما في قوله تعالى : { فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح }
(1/6451)

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
قلنا : إن الرياح إذا جاءت هكذا بصيغة الجمع دلَّتْ على الخير ، وإنْ جاءتْ مفردة فهي آتية بالشر ، وإذا نظرتَ إلى الجبال العالية وإلى ناطحات السحاب تقول : ما الذي يقيم هذه المباني العالية ، فلا تميل؟ الذي يسمكها هو الهواء الذي يحيط بها من كل ناحية ، ولو فرَّغْتَ الهواء من أحد نواحيها تنهار فوراً .
إذن : فالريح من هنا ، ومن هنا ، ومن هنا ، فهي رياح متعددة تُصلِح ولا تُفسِد ، وتُحدِث هذا التوازن الذي نراه في الكون ، أمّا الريح التي تأتي من ناحية واحدة فهي مدمرة مهكلة ، كما جاء في قوله تعالى : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] .
وقال الحق سبحانه وتعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأحقاف : 24 ] .
ومعنى { بُشْراً } [ الفرقان : 48 ] بسكون الشين ، مع أنها في الأصل بُشُراً مثل رُسُل ، فلما خُفِّفَتْ صارت بُشْراً ، والبُشْرى هي الإخبار بما يسرُّ قبل زمنه ، فلا تقول يبشر إلا في الخير ، وكان العربي ساعة تمر عليه الرياح يعرف كم بينه وبين المطر ، فيحكم على مجيء المطر بحركة الرياح الطرية التي تداعب خدّه .
وقوله سبحانه : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الفرقان : 48 ] يقال : بين يديك يعني : أمامك . والمراد هنا المطر الذي يسبق رحمة الله .
ثم قول تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] السماء لها معنى لُغوي ، ومعنى شرعي . فهي لغةً : كل ما علاك ، وشرعاً : هي هذه السماء العالية والتي تتكون من سبع سموات ، لكن أينزل المطر من السماء أم من جهة السماء؟
المطر ينزل من الغمام من جهة السماء ، والغمام أصله من الأرض نتيجة عملية البخر الذي يتجمع في طبقات الجو ، كما قال سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] .
إذن : فرحمة الله هي الماء الذي خلق الله منه كلّ شيء حيٍّ .
وقوله تعالى : { مَآءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] الطَّهُور : الماء الطاهر في ذاته ، المطهِّر لغيره ، فالماء الذي تتوضأ به طاهر ومطهر ، أما بعد أنْ تتوضأ به فهو طاهر في ذاته غير مُطهِّر لغيره ، وماء السماء طاهر ومُطهر؛ لأنه مُصفّى مُقطّر ، والماء المقطر أنقى ماء .
بالإضافة إلى أن الماء قِوَام الحياة ، منه نشرب ونسقي الزرع والحيوان والطير ، فالماء يعطيك الحياة ويعطيك الطهارة .
ثم يقول الحق سبحانه : { لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ }
(1/6452)

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قوله تعالى : { بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الفرقان : 49 ] أي : أرض بلدة مَيْت ، وفرْق بين ميْت وميِّت : الميْت هو الذي مات بالفعل ، والميِّت هو الذِّي يؤول أمره إلى الموت ، وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة ، ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
والأرض الميْتة هي الجرداء الخالية من النبات ، فإذا نزل عليها الماء أحياها بالنبات ، كما في قوله سبحانه : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] .
وقوله تعالى : { وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } [ الفرقان : 49 ] يُقال سقاه وأسقاه : أسقاه : أعدَّ له ما يستقى منه ، وإنْ لم يشرب الآن ، لكن سقاه يعني : ناوله ما يشربه ، ومن ذلك قوله سبحانه : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] .
أمّا في المطر فيقول سبحانه : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } [ الحجر : 22 ] أي : أعددناه لِسُقْياكم إنْ أردتم السُّقْيا .
ومعنى { وَأَنَاسِيَّ } [ الفرقان : 49 ] جمع إنسان ، وأصلها أناسين ، وخُفِّفَتْ إلى أناسيّ .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ }
(1/6453)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
التصريف : التحويل والتغيير ، والمعنى حَوّلناه من هنا إلى هنا ، ومع كل هذه العبر والآيات { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } [ الفرقان : 50 ] فالكافرون بآيات الله كثير لا يلتفتون إلى آيات الله ، حتى بعد أنْ تقدَّم العلم وتقدَّمتْ الحضارة الإنسانية ، ووقف الناس على كثير من الآيات .
فالحق تبارك وتعالى يُصرِّف المطر إلى بلاد بغزارة ، فإنْ شاء أصابها الجفاف والجدب حتى تموت مزروعاتهم وحيواناتهم . إذنْ : ليست المسألة بيئة باردة أو كثيرة الأمطار ، إنما المسألة مرادات خالق ، ومرادات حق .
(1/6454)

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
يريد الحق تبارك وتعالى أن يمتنّ على رسوله صلى الله عليه وسلم مِنَّةَ ، فيقول له : المسألة ليست قلةَ رسل عندنا حتى نرسل رسولاً للناس كافة وللزمن كله ، ونحن نستطيع أن نُخفِّف عنك ونبعث في كل قرية رسولاً يُخفِّف عنك عبء الرسالة ، لكنّا نريد لك أنْ تنال شرف الجهاد وشرف المكافحة ، فجمعناها كلها لك إلى أنْ تقوم الساعة .
ونستفيد من هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى حين يَهَبُ الطاقات لا يعنى هذا أن الطاقة هي التي تحكم قدرته في الأمر أن يبعث في كل قرية رسولاً ، إنما يقدر أن يرسل رسولاً ويعطيه طاقة تتحمل هذا كله .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلاَ تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ }
(1/6455)

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
أي : ما دُمْنا قد جمعنا لك كل القرى ، وحمّلناك الرسالة العامَة في كل الزمان وفي كل المكان ، فعليك أن تقف الموقف المناسب لهذه المهمة { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } [ الفرقان : 52 ] إنْ لوَّحُوا لك بالملك أو بالمال أو بالجاه والشرف ، واعلم أن ما أعده الله لك وما ادخره لك فوق هذا كله .
وحين يقول سبحانه لرسول صلى الله عليه وسلم { فَلاَ تُطِعِ الكافرين } [ الفرقان : 52 ] فإنه يعذره أمامهم ، فالرسول ينفذ أوامر الله .
وَنَهْى الرسول عن طاعة الكافرين لا يعني أنه صلى الله عليه وسلم يطيعهم ، فهذه كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] فكيف يطلب الإيمان ممَّنْ ناداهم بالإيمان؟ إنه تحصيل حاصل . قالوا المعنى : أنت آمنتَ قبل أن أقول لك هذه الكلمة ، وأقولها لك الآن لتُواصل إيماناً جديداً بالإيمان الأول ، وإياك أنْ ينحلّ عنك الإيمان . إذن : إذا طُلِب الموجود فالمراد استدامة الوجود .
وقوله تعالى : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } [ الفرقان : 52 ] أي : بما جاءك من القرآن { جِهَاداً كَبيراً } [ الفرقان : 52 ] واعلم أنك غالب بأمر الله عليهم ، ولا تقُلْ : إن هناك تيارَ إشراك وكفر وإيمان ، وسوف أعطيك مثلاً كونياً في أهم شيء في حياتك ، وهو الماء .
(1/6456)

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
تأتي هذه الآية استمراراً لذكْر بعض آيات الله في الكون التي تلفت نظر المكابرين المعاندين لرسول الله ، وسبق أنْ ذكر سبحانه : الظل والليل والرياح . . الخ إذن : كلما ذكر عنادهم يأتي بآية كونية ليلفتهم إلى أنهم غفلوا عن آيات الله ، وجدالهم مع رسول الله يدل على أنهم لم يلتفتوا إلى شيء من هذا؛ لذلك ذكر آية كونية من آيات الله المرئية للجميع ومكررة ، وعليها الدليل القائم إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : { وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين } [ الفرقان : 53 ] .
المَرْجح : المرعى المباح ، أو الكلأ العام الذي يسوم فيه الراعي ماشيته تمرح كيف تشاء .
فمعنى { مَرَجَ البحرين } [ الفرقان : 53 ] أي : جعل العَذْب والمالح يسيران ، كُلٌّ كما يشاء ، لذلك تجد البحار والمحيطات المالحة التي تمثل ثلاثة أرباع الياسبة ليس لها شكل هندسي منتظم ، بل تجده تعاريج والتواءات ، وانظر مثلاً إلى خليج المكسيك أو خليج العقبة ، وكأن الماء يسير على ( هواه ) ودون نظام ، فلا يشكل مستطيلاً أو مربعاً أو دائرة .
وكذلك الأنهار التي تولدتْ من الأمطار على أعلى الجبال ، فتراها حين تتجمع وتسير تسير كما تشاء ، ملتوية ومُتعرِّجة؛ لأن الماء يشقُّ مجراه في الأماكن السلهة ، فإنْ صادفته عقبة بسيطة ينحرف هنا أو هناك ، ليكمل مساره ، وانظر إلى التواء النيل مثلاً عند ( قنا ) .
إذن : الماء عَذْبٌ أو مالح يسير على هواه ، وليست المسألة ( ميكانيكا ) ، وليست منتظمة كالتي يشقُّها الإنسان ، فتأتي مستقيمة .
ونلحظ هذه الظاهرة مثلاً حينما يقضي الإنسان حاجته في الخلاء ، فينزل البول يشقّ له مجرىً في المكان الذي لا يعوقه ، فإنْ صادفته حصاة مثلاً انحرف عنها كأنه يختار مساره على هواه .
والبحر يقال عادة للمالح وللعذب على سبيل التغليب ، كما نقول الشمسان للشمس والقمر .
ومرْج البحرين آية كوينة تدل على قدرة الله ، فالماء مع ما عُرف عنه من خاصية الاستطراق يعني : يسير إلى المناطق المنخفضة ، يسير المالح والعذب معاً دون أن يختلط أحدهما بالآخر ، ولو اختلطا لَفَسدا جميعاً؛ لأن العَذْب إنْ خالطه المالح أصبح غيْرَ صالح للشرب ، وإنْ خالط المالح العذب فسد المالح ، وقد خلقه الله على درجة معينة من الملوحة بحيث تُصلحه فلا يفسد ، وتحفظه أن يكون آسناً .
فالماء العذب حين تحصره في المكان يأسن ويتغير ، أمّا البحر فقد أعدَّه الله ليكون مخزن الماء في الكون ومصدر البَخْر الذي تتكون منه الأنهار؛ لذلك حفظه ، وجعل بينه وبين الماء العذب تعايشاً سِلْمياً ، لا يبغي أحدهما على الآخر رغم تجاورهما .
وقوله تعالى : { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ } [ الفرقان : 53 ] أي : مُفرِط في العذوبة مستساغ ، ومن هذه الكلمة سَمَّوْا نهر الفرات لعذوبة مائه ، فلَيس المراد بالفرات أن الماء كماء نهر الفرات؛ لأن الكلمة وُضِعت أولاً ، ثم سُمِّيَ بها النهر ، ذلك لأن القرآن هو كلام الله الأزلي .
(1/6457)

{ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ الفرقان : 53 ] أي : شديد الملوحة ، ومع ذلك تعيش فيه الأسماك والحيوانات المائية ، وتتغذى عليه كما تتغذى على الماء العَذْب ، كما قال سبحانه : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } [ الفرقان : 53 ] البرزخ : شيء بين شيئين ، وأصل كلمة برزخ : اليابسة التي تفصل بين ماءين ، فإن كان الماء بين يابستين فهو خليج .
{ وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] الحِجْر : هو المانع الذي ينمع العَذْب والمالح أنْ يختلطا ، والحِجْر نفسه محجور ، مبالغة في المنع من اختلاط الماءيْن ، كما جاء في قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] .
ومثل قوله تعالى : { ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء }
(1/6458)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
وفي آية عامة عن الماء ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] يعني : كل شيء فيه حياة فهو من الماء ، لا أن الماء داخل في كل شيء ، فالمعنى : { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] أي : كل شيء موصوف بأنه حي ، فالماء إذن دليل الحياة؛ لذلك إذا أراد العلماء أن يقضوا على الميكروبات أو الفيروسات جعلوا لها دواءً يفصل عنها المائيةَ فتموت .
والإنسان الذي كرَّمه الله تعالى وجعله أعلى الأجناس ، خلقه الله من الماء ، { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } [ الفرقان : 54 ] وفي موضع آخر قال سبحانه : { فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } [ الطارق : 57 ] وهو ماء له خصوصية ، وهو المنيُّ الذي قال الله فيه : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى } [ القيامة : 3738 ] .
والبشر أي : الإنس { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } [ الفرقان : 54 ] فمن الماء خلق الله البشر ، وهم قسمان : ذكور وإناث ، فكلمة ( نَسَباً ) تعني : الذكورة ( وَصِهْراً ) تعني : الأنوثة؛ لأن النسب يعني انتقال الأدنى من الأعلى بذكورة ، فيظل الإنسان فلان بن فلان بن فلان . . الخ .
فالنسب يأتي من ناحية الذكورة ، أما الأنوثة فلا يأتي نسب ، إنما مصاهرة ، حينما يتزوج رجل ابنتي ، أو أتزوج ابنته ، يُسمُّونه صِهْرا .
لذلك قال الشاعر :
وَإنَّما أُمَّهَاتُ القَوْمِ أَوْعِية ... مُسْتحدثَات ولِلأَحْسَابِ آبَاءُ
فمن عظمة الخالق عز وجل أن خلق من الماء هذيْن الشيئين ، كما قال في موضع آخر : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] ، وقد توصَّل العلماء مُؤخّراً إلى أن بويضة الأنثى لا دَخْلَ لها في نوع الجنين ، وما هي إلا حاضنة للميكروب الذَّكَري الآتي من منيّ الرجل .
وهذا معنى قوله تعالى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 3739 ] .
فالذكر والأنثى كلاهما من المنيّ ، والذي يُطلق عليه العلماء الآن ( الإكس ، والإكس واي ) فالحيوان المنويّ يخرج من الرجل ، منه ما هو خاص بالذكورة ، ومنه ماهو خاص بالأنوثة ، ثم تتم عملية انتخاب للأقوى الذي يستطيع تلقيح البويضة .
وهذه الظاهرة واضحة في النحل ، حيث تضع الملكة البيض ، ولا يُخصِّبها إلا الأقوى من الذكور ، لذلك تطير الملِكة على ارتفاعات عالية ، لماذا؟ لتنتخب الأقوى من الذكور .
كذلك الميكروب ينزل من الرجل ، والأقوى منه هو الذي يستطيع أن يسبق إلى بويضة المرأة ، فإنْ سبق الخاص بالذكورة كان ذكراً ، وإنْ سبق الخاص بالأنوثة كان أنثى ، والحق سبحانه قال : { الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 23 ] .
وبهذه الآية الكونية في خَلْق الإنسان نرد على الذين يحلو لهم أن يقولوا : إن الإنسان خُلِق صُدْفة ، فإذا كان الإنسان ذكراً وأنثى بينهما مواصفات مشتركة وأجهزة ومُقوِّمات واحدة ، إلا أن الذكَر يختلف في الجهاز التناسلي وكذلك الأنثى ، فهل يُردّ هذا الى الصدفة؟
ومعلوم أن الصُّدْفة من أعدائها الاتفاق ، فإذا جاء الذكّر صدفة ، وجاءت الأنثى كذلك صدفة ، فهل من الصدفة أن يلتقيا على طريقة خاصة ، فيثمر هذا اللقاء أيضاً ذكورة وأنوثة؟! إذن : المسألة ليست مصادفةً ، إنما هي غاية مقصودة للخالق عز وجل .
(1/6459)

ثم يقول سبحانه في ختام الآية { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } [ الفرقان : 54 ] وذكر سبحانه القدرة هنا؛ لأن هذه مسألة دقيقة لا تحدث إلا بقدرة الله تعالى .
وقد فَطِن العرب حتى قبل نزول القرآن إلى هذه العملية بالفطرة ، فهذه زوجة أبي حمزة تعاتبه؛ لأنه تركها وتزوج من أخرى ، لأنها لم تَلِدْ له ذَكَراً ، فتقول :
مَا لأَبي حَمْزةَ لاَ يَأْتِينَا ... غَضْبان أَلاَّ نَلِدَ البَنِينَا
تَاللهِ ما ذَلكَ في أَيْدينا ... فَنَحْنُ كَالأرْضِ لِغَارِسينَا
نُعطِي لَهُمْ مِثْلَ الذي أُعْطِينَا ... وهذه المسألة التي فَطِن إليها العربي القديم لم يعرفها العلم إلا في القرن العشرين .
وبعد هذه الآية الكونية يعود سبحانه وتعالى إلى خطابهم مرة أخرى لعل قلوبهم ترقّ ، فالحق تبارك وتعالى يتعهدهم مرة بالنُّصح ، ومرة بإظهار آياته تعالى في الكون .
(1/6460)

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
يعني : أيليق بهم بعد أنْ أوضحنا لهم كلَّ هذه الآيات أنْ يلتفتوا إلى غير الله ، ويقصدوه بالعبادة؟
وقوله تعالى : { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ } [ الفرقان : 55 ] البعض يرى أن هذه الآلهة نعم لا تنفع لكنها تضر ، نقول لهم : هي لا تنفع ، ولا تضر ، أمَّا الذي يضر فهو الإله الحق الذي انصرفوا عنه إلى عبادة غيره ، والمعنى هنا : { مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } [ الفرقان : 55 ] إنْ عبدوه { وَلاَ يَضُرُّهُمْ } [ الفرقان : 55 ] إنْ كفروا به وتركوه .
والقرآن يُسمِّي فعلهم من هذه الآلهة عبادة ، وهم أنفسهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
إذن : أثبتوا لهم عبادة ، والعبادة طاعة العابد للمعبود فيما يأمر به ، وفيما ينهي عنه ، فما الذي أمرتْهم به الأصنام؟ وما الذي نهتْهم عنه؟ فكلمة عبادة هنا خطأ ، وهم ما عبدوا هذه الآلهة إلا لأنها لا أوامر لها ولا التزام معها ، فتديّنهم تديّن ( فنطزية ) .
وما أسهل أن تعبد إلهاً لا يأمرك ولا ينهاك ، والذي يكرهونه في التديُّن الحقيقي أنه التزام وتكليف : افعل كذا ، ولا تفعل كذا .
لذلك ترى المسرفين على أنفسهم من خَلْق الله يتمنى كلٌّ منهم أن يكون هذا الدين كذباً ، لماذا؟ ليسيروا على هواهم ، ويعملوا ما يحلو لهم . كذلك رأينا الدجالين الذين ادَّعَوْا النبوة بداية من مسيلمة وسجاح ، كيف كانوا يجذبون الناسَ إليهم؟ كانوا يجذبونهم بتخفيف الأوامر وتبسيط الدين ، ولما شقَّتْ الزكاة على البعض أسقطوها من حسابهم ، وأعفَوْ الناس منها . . إلخ .
ولكل زمان دجالون يناسبون العصر الذي يعيشون فيه ، وفي عصرنا الحاضر دجالون يُخفِّفون عنك الدين ويُطوِّعونه لأهواء الناس ورغباتهم ، فلا مانع عندهم من الاختلاط ، ولا بأس في أن ترتدي المرأة من اللباس ما تشاء . . إلى آخر هذه المسائل .
ثم يقول سبحانه : { وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } [ الفرقان : 55 ] .
الظهير : هو المعين : كما ورد في قوله سبحانه وتعالى : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] .
وكانوا في الماضي يحملون الأحمال على الظّهْر قبل اختراع آلات الحمل ، وحتى الآن نرى ( الشيالين ) يحملون الأثقال على ظهروهم ، ويخيطون لهم ( ظهرية ) يرتدونها على ظهورهم؛ لتحميهم ساعة حَمْل الأثقال ، وإذا أراد أحدهم معاونة الآخر يقول له : أعطني ظهرك ، فكان الظهر إذن بهذا المعنى .
والظهر أيضاً يقتضي العلو ، ومنه قوله تعالى عن السد الذي بناه ذو القرنين : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً } [ الكهف : 97 ] يعني : ما استطاعوا اعتلاءه .
لكن ، كيف يكون الكافر ظهرياً على الله؟ قالوا : لأنه يفعل المعصية ، ويتخذ أُسْوة فيها يُقلده الناس ، ولو كان طائعاً لكان أُسْوة خير ونموذجَ صلاحٍ ، فالكافر أسوة شر ، وأسوة فساد ، وهو شيطان الإنس الذي يوازي شيطان الجن الذي عصى ربه ، ورفض السجود لآدم .
(1/6461)

وتوعَّد ذريته حين قال : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] .
وكلٌّ من شياطين الجن وشياطين الإنس يستعين بالنفس فيُسلِّطها على صاحبها حتى تُوقعه ، فالإنسان حينما يستمع لنداء الشيطان ، سواء شيطان الإنس أو شيطان الجن ويطيعه بعمل المخالفة ، فإنه يُعينه على الله ، والمعنى الصحيح : على معصية الله .
كما أن الظهير يُطلق على مَنْ جعلْتَه وراء ظهرك ، لا تأبه به ، ولا تلتفت إليه ، ومنه قول العرب : ( لا تجعلنَّ حاجتي منك بظهر ) يعني : اجعلها أمام عينيك لا تطوِها وراء ظهرك .
إذن : فكِلاَ المعنيين جائز : ظهيراً أي : مُعِيناً ، كأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : اعلم يا محمد أن الكافر ظهير على الله ، فقِفْ بالمرصاد ، وجاهده ما استعطتَ ، فكأنه تعالى يُحمِّس رسوله ليقف هذا الموقف ، ويُشجِّعه ليكون من عدوه على حَذَر وعلى يقظة .
أو : ظهيراً لا يُؤبه له ، وهذا طمأنه لرسول الله ، فالكافر هَيِّن على الله ، فلا يهمك كيدهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }
(1/6462)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
صحيح أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] لكن لا يعني هذا أن يهلك رسول الله نفسه في دعوتهم ، ويألم أشد الألم لعدم إيمانهم؛ لأن مهمة الرسول البلاغ ، وقد أسف رسول الله لحال قومه حتى خاطبه ربه بقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
وما أمره الله بجهاد الكفار والمنافقين إلا ليحفزه ، فلا يترك جُهْداً إلا بذله معهم ، وإلاّ فأنت عندي مُبشِّر ومُنذِر { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً } [ الفرقان : 56 ] أي : بالخير قبل أوانه ليتلفت الناس إلى وسائله { وَنَذِيراً } [ الفرقان : 56 ] أي : بالشر قبل أوانه ليحذره الناس ، ويجتنبوا أسبابه ووسائله .
ثم يوجه رب العزة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }
(1/6463)

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
في آية أخرى : يقول تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [ الطور : 40 ] .
يعني : غير قادرين على دَفْع الثمن؛ لأنهم بخلاء وعندهم كزازة؟ أو لا يريدون أنْ يُخرِجوا من جيوبهم شيئاً تنتفع أنت به؟ مع أنك لم تسألهم أجراً ، فهل يعني ذلك أن النبي كان من المفروض أن يسألهم أجراً؟
قالوا : نعم؛ لأنه إذا قدَّم إنسانٌ لإنسان شيئاً نافعاً ، فعليه أن يدفع له أجراً بمقتضى التبادل والمعاوضة ، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم : لقد قدَّمتُ إليكم جميلاً يفترض أن لي عليه أجراً ، لكني لا أريد منكم أجراً ، والمسألة من عندي تفضُّل .
وما هو الأجر؟ الأجر : جُعْلٌ يقابل عملاً ، والثمن : جعل يقابل تملُّكاً ، وقيمة هذا الجُعْل تختلف باختلاف مشقة العمل ، و طُول زمنه ، ومهارة العامل فيما يقتضيه العمل ومخاطر ما يقتضيه العمل .
فكل مسألة من هذه ترفع من قيمة الأجر ، فحين تسافر مثلاً تحتاج إلى ( شيَّال ) يحمل لك الحقائب ، فتعطيه الأجر الذي يتناسب ومجهوده ، فإن استأجرت سيارة وسِرْتَ بها مسافة فلا بُدَّ أن الأجر سيزيد؛ لأنه أخَذ مجهوداً ووقتاً أكثر ، فإن احتجتَ مثلاً سباكاً ليصلح لك شيئاً فسوف ترى ما في هذا العمل من المشقة ، ولا تبخل عليه بأكثر من سابقيه .
وربما كان العمل في نظرك بسيطاً لا يستغرق وقتاً ، لكنه يحتاج إلى مهارة . هذه المهارة ليست وليدة اللحظة ، ولكنها مجهود ونتيجة عوامل من التعلُّم والخبرة حتى وصل صاحبها إلى هذه المهارة .
فالمهندس مثلاً الذي يُصمِّم لك منزلك في ساعة أو ساعتين ، ومع ذلك يطلب مبلغاً كبيراً ، لماذا؟ لأنه لا يتقاضى أجراً على هذا الوقت ، إنما على سنواتٍ طويلة من الدراسة والمجهود والتحصيل ، حتى وصل إلى هذه المهارة .
إذن : كل أجر يُقدَّر بما يقابله من عمل ، ويتناسب مع ما يقتضيه العمل من وقت ومجهود ومشقة ومخاطرة ومهارة . . ألخ .
وإذا كان الأمر كذلك فانظروا إلىعمل الرسول وإلى مدى إفادتكم من رسالته ، انظروا إلى المنهج الذي جاءكم به ، وكيف أنه يريحكم مع أنفسكم ، ويريحكم مع المجتمع ، ويريحكم مع ربكم عز وجل ، ويريحكم من شرور أنفسكم ، ومن شرور الناس جميعاً .
إذن : للرسول عمل كبير ومجهود عظيم ، لو قدَّرْتَ له أجراً لكان كذلك عظيماً . إن الإنسان إذا أَجَّر مثلاً حارساً يحرسه بالليل ، كم يدفع له؟ فالنبي يأتيك بمنهج يحرسك ويحميك في نفسك وفي مالك وفي عِرْضك وفي كل ما تملك ، ولا يحميك من فئة معينة إنما يحميك من الناس أجمعين .
بل إن حماية منهج الله لك لا تقتصر على الدنيا ، إنما تتعدَّى إلى الآخرة ، فتحميك فيها حماية ممتدة لا نهايةَ لها ، فإنْ قدَّرْت لهذه الحماية أجراً ، فكم يكون؟
إنما أنا أقول لك : لا أريد أجراً ، لا كراهيةً في الأجر ، بل لأنك أنت أيها الإنسان لا تستطيع تقدير هذا العمل أو تقييم الأجر عليه ، أمَّا الذي يُقدِّر ذلك فهو ربِّي الذي بعثني ، وأنت أيها العبد مهما قدَّمْتَ لي من أجر على ذلك فهو قليل .
(1/6464)

وحكينا قصة الرجل الطيب الذي قابلناه في الجزائر ، يقف على الطريق يُلوِّح لسيارة تحمله ، فوقفنا وفتحنا له الباب ليركب معنا ، وقبل أن يركب قال : بكَمْ؟ يعني : الأجرة . فقال له صاحبي : لله ، فقال الرجل : إذن فهي غالية جداً . هذا هو المعنى في قوله تعالى : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } [ هود : 29 ] .
وفي موضع آخر يقول سبحانه : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] فما العلاقة بين الأجر وبين { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ؟
كأن المسلم ينبغي عليه أن يعمل العمل ، لا لمن يعمل له ، ولكن يعمله لله ليأخذ عليه الأجر الذي يناسب هذا العمل من يده تعالى ، إنما إنْ أخذه من صاحبه فهو كالذي " فعل ليقال وقد قيل " وانتهتْ المسألة ، وربما حتى لا يُشكر على عمله .
لذلك وردتْ هذه العبارة على ألسنة كل الرسل : { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 109 ] وليس هناك آية طلب فيها الأجر الظاهر إلا هذه الآية التي نحن بصددها : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] .
وقوله تعالى : { إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] .
ومعنى : { إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] أي : سبيلاً للمثوبة ، وسبيلاً للأجر من جهاد في سبيل الله ، أو صدقة على الفقراء . . إلخ .
وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ } [ الفرقان : 57 ] تدل على التخيير في دَفْع الأجر ، فالرسول لا يأخذ إلا طواعية ، والأجر : { أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] من الجهاد والعمل الصالح ، فكأن أجر الرسول العمل للغير ، لتأخذ أنت الأجر من الله ، فالرسول لا يأخذ شيئاً لنفسه .
ونلحظ في آيات الأَجْر أنها جاءت مرة { أَجْراً } [ الأنعام : 90 ] ومرة { مِنْ أَجْرٍ } [ الفرقان : 57 ] و البعض يرى أن ( من ) هنا زائدة ، وهذا لا يُقال في كلام الله ، عَيْب أن نتهم كلام الله بأن فيه زيادة ، فكلُّ حرف فيه له معناه .
وسبق أن ضربنا لمِنْ هذه مثلاً بقولنا : ما عندي مال ، وما عندي من مال . فالأولى نفَتْ أنْ يكون عندك مالٌ يُعتدُّ به ، لكن قد يكون عندك القليل منه ، أما القول الثاني فيعني نَفْي المال مطلقاً بدايةً مِمَّا يقال له مال ، إذن : فأيّهما أبلغ في النفي؟ فمِنْ هنا تفيد العموم .
لذلك يقول تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } [ المؤمنون : 72 ] لماذا؟ لأنه سيعطيك ويُكافئك على قَدْره هو ، وبما يناسب جُودَه تعالى وكرمه الذي لا ينفد ، أما الإنسان فسيعطيك على قَدْره وفي حدود إمكاناته المحدودة .
(1/6465)

مَلْحظ آخر في هذه المسألة في سورة الشعراء ، وهي أحفَلُ السُّور بذِكْر مسألة الأجر ، حيث تعرَّضَتْ لموكب الرسل ، فذكرت ثمانية هم : موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب .
تلحظ أن كل هؤلاء الرسل قالوا : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] عدا إبراهيم وموسى عليهما السلام لم يقولا هذه الكلمة ، لماذا؟
قالوا : لأنك حين تطلب أجراً على عمل قمتَ به لا يكون هناك ما يُوجب عليك أنْ تعمل له مجاناً ، فأنت لا تتقاضى أجراً إنْ عملتَ مثلاً مجاملةً لصديق ، وكذلك إبراهيم عليه السلام أول ما دعا إلى الإيمان دعا عمه آزر ، ومثل هذا لا يطلب منه أجراً ، وموسى عليه السلام أول ما دعا دعا فرعون الذي احتضنه وربَّاه في بيته ، ولو طلب منه أجراً لقال له : أيّ أجر وقد ربَّيتك وو . . إلخ .
الآية الأخرى في الاستثناء هي قوله تعالى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] فكأن المودة في القربى أجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رسالته ، لكن أيُّ قُرْبى : قُرْبى النبي أم قُرْباكم؟
لا شكَّ أن النبي الذي يجعل حُبَّ القريب للقريب ورعايته له هو أجره ، يعني بالقُرْبى قُرْبى المسلمين جميعاً ، كما قال عنه ربُّه عَزَّ وجَلَّ : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
(1/6466)

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
الحق تبارك وتعالى يُطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم يا محمد لا تهتم بكثرة الكفار ومكرهم بك وتعاونهم مع شياطين الإنس والجن؛ لأن هؤلاء سيتساقطون ويموتون ، إما بأيديكم ، أو بعذاب من عند الله ، وعلى فَرْض أنهم عاشوا فلن تغلب قوتهم وحِيلُهم قوة الله تعالى ومكره ، وإنْ توكلوا على أصنام لا تضر ولا تنفعَ ، فتوكل أنت على الله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] .
والعاقل لا يتوكل إلا عل مَنْ يثق به ويضمن معانوته ، وأنه سيوافقك في كل ما تريد ، لكن ما جدوى أنْ تتوكل على أحد ليقضي لك مصلحة ، وفي الصباح تسمع خبر موته؟
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن ينصِّح خَلْقه : إنْ أردتَ أنْ تتوكل فتوكل على مَنْ ينفعك ولا يتركك ، على مَنْ يظل على العهد معك لا يتخلى عنك ، على مَنْ لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . هذه هي الفِطْنة .
لكن ما جدوى أن تتوكل على مَنْ ليس فيه حياة؟ وعلى فرض أن فيه حياةً دائمة فلا تضمن ألا يتغير قلبه عليك؟
{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } [ الفرقان : 58 ] سبِّح يعني : نزِّه ، والتنزيه تضعه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] فلله وجود ، ولك وجود ، لكن وجوده تعالى ليس كوجودك ، ولله صفة ولك نفس الصفة ، لكن صفته تعالى ليست كصفتك ، ولله تعالى فعل ، ولك فعل ، لكن فعله تعالى ليس كفعلك .
إذن : نزَّه الله في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله عن مشابهة الخَلْق ، وما دام الحق سبحانه مُنزَّهاً في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، فأنت تتوكّل على إله لا تطرأ عليه عوامل التغيير أبداً .
وهذا التنزيه لله تعالى ، وهذه العظمة والكبرياء له سبحانه في صالحك أنت أيها الإنسان ، من صالحك ألاَّ يوجد لله شبيه ، لا في وجوده ، ولا في بقائه ، ولا في تصرُّفه ، من صالحك أن يعرف كل إنسان أن هناك مَنْ هو أعلى منه ، وأن الخَلْق جميعاً محكومون بقانون الله ، فهذا يضمن لك أن تعيش معهم آمناً ، إذن : من الخير لنا أن يكون الإله ليس كمثله شيء ، وأن يكون سبحانه عالياً فوق كل شيء .
ويجب عليك حين تُنزه الله تعالى ألاَّ تُنزِّهه تنزيهاً مُجرّداً ، إنما تنزيهاً مقرونا بالحمد { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } [ الفرقان : 58 ] فتحمده على أنه واحد لا شريك له ، ولا مثيلَ له ، وليس كمثله شيء ، ففي ظل هذه العقيدة لا يستطيع القويُّ أن يطغى على الضعيف ، ولا الغني على الفقير . . إلخ .
ثم يقول سبحانه : { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 58 ] نقول : كفاك فلان . يعني : لا تحتاج لغيره . كقولنا : حَسْبُك الله يعني : كافيك عن الاحتياج لغيره؛ لأنه يعطيك كُلَّ ما تحتاج إليه ، ويمنع عنك الشر ، وإنْ كنت تظنه خيراً لك .
(1/6467)

وكأن الحق تبارك وتعالى يقيم لك ( كنترولاً ) يضبط حياتك ويضمن لك السلامة ، لذلك حين تدعو الله فلا يستجيب لك ، لا تظن أن الله تعالى موظفٌ عندك ، لا بُدَّ أن يُجيبك لما تريد ، إنما هو ربك ومتولٍّ أمرَك ، فيختار لك ما يصلح لك ، ويُقدِّم لك الجميل وإن كنت تراه غير ذلك .
وقد ضربنا لهذه المسألة مثلاً بالأم التي تكثِر الدعاء على ولدها ، فكيف بها إذا استجابَ الله لها؟ إذن : من رحمة الله بها أنْ يردَّ دعاءها ، ويمنع إجابتها ، فمنع الإجابة هنا إجابة .
{ وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 58 ] المعنى : إذا توكلتَ على الحيِّ الذي لا يموت ، فآثار هذا التوكل أنْ يحميك من ذنوب العباد ، فهو وحده الذي يعلم ذنوبهم ، ويعلم حتى ما يدور في أنفسهم .
ألم يقُل الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } [ المجادلة : 8 ] .
فما زال القَوْلُ في أنفسهم لم يخرج ، ومع ذلك أخبره الله به ، وكأن الحق سبحانه يُطمئن رسوله : مهما تآمروا عليك ، ومهما دبّروا لك ، ومهما تكاتف ضدك جنودُ الإنس والجن ، فاطمئِنْ لأن ربك عليم بالذنوب التي قد لا تدركها أنت ، ولا حيلة عندك لردِّها ، فيكفيك أن يعلم اللهُ ذنوبَ أعدائك .
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] .
والخبير : الذي يعلم خبايا الأمور ، حتى في مسائل الدنيا الهامة نقول : نستدعي لها الخبير؛ لأن المختص العادي لا يقدر عليها .
وفي موضع آخر يقول تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] .
ثم ينقلنا الحق تبارك وتعالى إلى آية كونية ، تنضاف إلى الآيات السابقة ، والهدف من ذكر المزيد من الآيات الكونية أنه لعلَّها تصادف رقَّة قلبٍ واستمالة مواجيد ، فتعطف الخَلْق إلى الخالق ، وتُلفِت الأنظار إليه سبحانه .
(1/6468)

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
البعض يظن أن خَلْق السموات والأرض شيء سهل ، وأعظم منه خَلْق الإنسان ، لكن الحق تبارك وتعالى يقول : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] .
فالإنسان يخلقه الله ، وقد يموت بعد يوم ، أو بعد مائة عام ، وقد تصيبه في حياته الأمراض ، أمّا السموات والأرض ، فقد خلقها الله تعالى بهندسة دقيقة ، وقوانين لا تختلف ولا تختل مع ما يمرُّ عليها من أزمنة ، وكأن الحق سبحانه يقول للإنسان : إن السموات والأرض هذه خلْقتي وصَنْعتي ، لو تدبرتَ فيها وتأملتَها لوجدتَها أعظم من خَلْقك أنت .
وقوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الفرقان : 59 ] سبق أن تكلَّمنا في هذه المسألة وقلنا : إن جمهرة آيات القرآن تدل على أن الخَلْق تمَّ في مدة ستة أيام إلا سورة واحدة تُشعِر آياتها أن الخلق في ثمانية أيام ، وهي سورة فصلت .
حيث يقول فيها الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ فصلت : 912 ] .
وجملة هذه ثمانية أيام ، وكل مُجْمل يخضع للتفصيل إلا تفصيل العدد فيرجع للمجمل ، كيف؟
الحق سبحانه يتكلم هنا عن خَلْق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم تكلَّم عن خَلْق الأرض في يومين ، وجعل فيها رواسي من فوقها ، وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، فالأربعة الأيام هذه تكملة لخلّق الأرض فهي تكملة لليومين ، كأنه قال في تتمة أربعة أيام ، فالأرض في يومين والباقي أكمل الأربعة . كما تقول : سِرْتُ إلى طنطا في ساعة ، وإلى الأسكندرية في ساعتين أي يدخل فيهما الساعة الأولى إلى طنطا ، فاليومان من الأربعة الأيام .
لكن ، كيف نُقدِّر هذا اليوم؟ الله يخاطبنا باليوم الذي نعرفه ونعرف مدلوله ، فالمعنى : في ستة أيام من أيامكم التي تعرفونها . وإلاَّ لو كان المراد يوماً لا نعرفه نحن ، فسيكون لا معنى له؛ لأننا لا نفهمه .
ولقائل أن يقول : كيف يستغرق الخَلْق كل هذه المدة والحق تبارك وتعالى يخلق بكُنْ ، وكن لا تحتاج وقتاً؟ قالوا : فَرْق بين عملية الخَلْق وما يحتاجه المخلوق في ذاته .
فأنت مثلاً ، إنْ أردتَ أنْ تصنع كوباً من الزبادي تحضر اللبن مثلاً وتضع عليه خميرة الزبادي المعروفة المأخوذة من زبادي دسم سبق صُنْعه ، وتضعه في درجة حرارة معينة ، بعد هذه العملية تكون قد صنعت الزبادي فعلاً ، لكن هل يمكنك أن تأكل منه فَوْر الانتهاء من صناعته؟ لا ، بل لا بُدَّ أن تتركه عدة ساعات لتتفاعل عناصره ، فهل تقول : أنا صنعت الزبادي في عدة ساعات مثلاً؟
كذلك ، حين تذهب إلى ( الترزي ) لتفصيل ثَوْب مثلاً يقول لك : موعدنا بعد شهر ، فهل تستغرق خياطة الثوب شهراً؟ لا ، إنما مدته عنده شهر .
(1/6469)

فالحق تبارك وتعالى يفعل ويخلق دون معالجة ، وبالتالي دون زمن؛ لأنه سبحانه يقول للشيء : كُنْ فيكون .
وقوله : سبحانه : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } [ الفرقان : 59 ] سبق أن تكلمنا في هذه المسألة : فاستوى تعني : صعد وارتفع وعلا وجلس ، ونحن نُنزِّه الله تعلى عن استواء يشابه استواء خَلْقه .
والاستواء هنا رمزية لتمام الأمر بما نعرفه في عادة الملوك في الجلوس على كرسي العرش ، حين يتم لهم الأمر ويستتبّ .
و { الرحمن } [ الفرقان : 59 ] دليل على أن مسألة الخَلْق كلها تدور في إطار الرحمانية { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] لأنه سبحانه خلق السموات والأرض وخلقنا ، ومع ذلك لا نعرف : كيف تم هذا الخَلْق؟ ولن نستطيع أن نقف على تفصيل هذا الخَلْق ، إلا إذا أطعلنَا الخالق عليه ، وإلاَّ فهذا أمر لم نشاهده ، فكيف نخوض فيه ، كمن يقول : إن الأرض كانت قطعةَ من الشمس ، ثم انفصلتْ عنها مع دوران الشمس . . إلخ هذه الأقوال .
لذلك الحق تبارك وتعالى يُحذِّرنا من سماع مثل هذه النظريات ، لأن مسألة الخَلْق لا تخضع للعلم التجريبي أَبداً ، فيقول سبحانه : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] .
إذن : سيوجد في الكون مُضلون يقولون للناس مثل هذه الأقوال في الخَلْق ويدَّعُون بها أنهم علماء يعرفون ما لا يعرفه الناس ، فاحذروهم فما شاهدوا عملية الخَلْق ، وما كانوا مساعدين لله تعالى ، فيطلعوا على تفاصيل الخَلْق .
لذلك تقوم هذه الأقوال في خَلْق الإنسان وخَلْق السماء والأرض دليلاً على صِدْق هذه الآية ، فما موقف هذه الآية إذن إذا لم تقل هذه الأقوال؟
ومثال ذلك الذين يحلو لهم التعصب للقرآن الكريم ضد الحديث النبوي يقول لك أحدهم : حدِّثني عن القرآن ، سبحان الله ، أتتعصّب للقرآن ضد الرسول الذي بلَّغك القرآن ، وما عرفتَ القرآن إلا من طريقه؟ يعني ( الواد ربَّانيّ ) لا يعترف إلا بالقرآن . ونقول لمثل هذا الذي يهاجم الحديث النبوي : أنت صليتَ المغرب ثلاث ركعات ، فأين هذا من القرآن؟
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يُوشك الرجل يتكىء على أريكته يُحدَّث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما كان حراماً حرَّمْناه ، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله " .
لماذا؟ لأنِّي أقول لكم من باطن قَوْل الله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا }
(1/6470)

[ الحشر : 7 ] .
بالله ، لو لم يُوجَد الآن مَنْ يقول بهذا القول ، فماذا سيكون موقف هذا الحديث؟ وكيف لنا أن نفهمه؟ لقد فضحهم هذا الحديث ، وأبان ما عندهم من غباء ، فقد كان بإمكانهم بعد أنْ عرفوا حديث رسول الله أنْ يُمسِكوا عن التعصب للقرآن ضد الحديث النبوي ، فيكون الحديث ساعتها غير ذي معنى لكن هيهات .
نعود إلى موضوعنا ، ونحن بصدد الكلام عن خَلْق السموات وخَلْق الأرض ، واستواء الحق تبارك وتعالى على العرش ، وهاتان المسألتان لا تسأل فيهما إلا الله { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] لأنه وحده الذي يعلم خبايا الأمور ، وهذه أمور لم يطلّع عليها أحد فيخبرك بها .
وكلمة : ( سأل ) الإنسان لا يسأل عن شيء إلا إذا كان يجهله ، والسؤال له مراحل : فقد تجهل الشيء ولا تهتم به ، ولا تريد أن تعرفه ، فأنت واحد من ضمن الذين لا يعرفون ، وقد تجهل الشيء لكن تهتم به ، فتسأل عنه لاهتمامك به ، فمرَّة نقول : اسأل به . ومرة نقول : اسأل عنه .
والمعنى : اسأل اهتماماً به ، أي : بسبب اهتمامك به اسأل عنه خبيراً ليعطيك ويخبرك بما تريد ، فهو وحده الذي يعرف خبايا الأمور ودقائقها ، وعنده خبر خَلْق السموات وخَلْق الأرض ، ويعلم مسألة الاستواء على العرش؛ لذلك إنْ سألتَ عن هاتين المسألتين ، فلا تسأل إلا خبيراً .
والذين قالوا في قوله تعالى : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي : ممَّنْ يعلم الكلام عن الله من أهل الكتاب نقول : لا بأسَ؛ لأنه سيؤول إلى الله تعالى في النهاية .
(1/6471)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
نلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما ذكر الصفة الملزمة لأنْ تخضع له سبحانه لم يَقُلْ مثلاً : اسجدوا لله ، إنما { اسجدوا للرحمن } [ الفرقان : 60 ] وأتى بالصفة التي تُعدِّي رحمانيته إليك ، فكان من الواجب أنْ تطيع ، وأن تخضع له . كما قُلْنا سابقاً : اجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه .
{ قَالُواْ وَمَا الرحمن } [ الفرقان : 60 ] كأنهم لا يعرفون هذه الكلمة ، إنهم لا يعرفون إلا رحمن اليمامة .
وقولهم : { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [ الفرقان : 60 ] دليل على أن الامتناع عن السجود ليس للذات المسجود لها ، بل لمن أمر بالسجود ، كما سبق وأنْ قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] فكأنهم إنْ أمرهم الله بالسجود لسجدوا ، لكن كيف يأتي الأمر من الرسول خاصة؟ وما مَيْزته عليهم حتى يأمرهم؛ لذلك قال بعدها : { وَزَادَهُمْ نُفُوراً } [ الفرقان : 60 ] والنفور : الانفكاك عن الشيء بكُرْه .
ثم يقول الحق سبحانه : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء }
(1/6472)

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
يعود السياق مرة أخرى لذِكْر آية كونية؛ لأن الحق تبارك وتعالى يراوح بين آية تطلب منهم شيئاً ، وأخرى تلفتهم إلى قدرة الله وعظمته ، وهذا يدل على مدى تعنتهم ولجاجتهم وعنادهم ، وحرص الحق سبحانه وتعالى على لَفْتهم إليه ، والأخْذ بأيديهم إلى ساحته تعالى .
ولو شاء سبحانه لَسرَد الآيات الكونية مرة واحدة ، وآيات التكذيب مرة واحدة ، ولكن يُزاوج سبحانه وتعالى بين هذه وهذه لتكون العبرة أنفذ إلى قلوب المؤمنين .
قلنا : { تَبَارَكَ } [ الفرقان : 61 ] يعني : تنزّه ، وعَلاّ قدره ، وعَظُم خيره وبركته . والبروج : جمع بُرْج ، وهو الحصن الحصين العالي الذي لا يقتحمه أحد ، والآن يُطلقونها على المباني العالية يقولون : برج المعادي ، برج النيل . . الخ ، ومنه قوله تعالى : { والسمآء ذَاتِ البروج } [ البروج : 1 ] .
وقوله سبحانة : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] .
والبروج : منازل في السماء يحسب الناسُ بها الأوقات ، ويربطون بينها وبين الحظوظ ، فترى الواحد منهم أول ما يفتح جريدة الصباح ينظر في باب " حظك اليوم " ، وقد دلَّتْ الآيات على أن هذه البروج جعلها الله لتُسهِّل على الناس أمور الحساب .
كما قال سبحانه : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] .
وقال تعالى : { والشمس والقمر حُسْبَاناً } [ الأنعام : 96 ] .
يعني : بها تُحسب المواقيت ، فالشمس تعطيك المواقيت اليومية والليلية ، والقمر يدلُّك على أول كل شهر؛ لأنه يظهر على جِرْم معين ، وكيفية مخصوصة تُوضّح لك أول الشهر ومنتصفه وآخره ، ثم تعطيك الشمس بالظل حساب جزيئات الزمن .
ومعلوم أن في السماء اثنيْ عَشَر بُرْجاً جمعها الناظم في قوله :
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزةَ السَّرطَانِ ... وَرَعَى الليْثُ سُنْبُلَ الميزاَنِ
عَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو ... وحُوت مَا عَرفنَا من أُمَّة السُّرْيَانِ
فهي : الحملَ ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . فأوّلها الحَمل ، وآخرها الحوت ، وكلُّ بُرْج يبدأ من يوم 21 في الشهر وينتهي يوم 20 .
ثم يقول تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] السراج هو المصباح الذي نشعله ليعطي حرارة وضوءاً ذاتياً ، والمراد هنا الشمس؛ لأن ضوءها ذاتيٌّ منها ، وكذلك حرارتها ، على خلاف القمر الذي يضيء بواسطة الأشعة المنعكسة على سطحه ، فإضاءته غير ذاتية؛ لذلك يقولون عن ضوء القمر : الضوء الحليم؛ لأنه ضوء بلا حرارة .
والعجيب أن سطح القمر كما وجدوه حجارة ، ولما أخذوا منه حجراً ليُجروا عليه بحوثهم فهلْ قَلَّ ضوء القمر؟ لا لأن دائرته الكاملة هي التي تعكس إلينا ضوء الشمس وحين تأخذ منه حجراً يعكس لك ما تحته أشعة الشمس .
وفي موضع آخر ، يوضح الحق سبحانه هذه المسألة ، فيقول تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] فالضياء هو الذي يأتي من الكوكب ذاتياً ، والنور هو انعكاس الضوء على جسم آخر ، فهو غير ذاتي .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار }
(1/6473)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
عرفنا أن الليل : غياب الشمس عن نصف الكرة الأرضية ، والنهار مواجهة الشمس للنصف الآخر ، والليل والنهار متعاقبان { خِلْفَةً } الفرقان : 62 ] يأتي الليل ثم يعقبه النهار ، كل منهما خَلْف الآخر ، وهذه المسألة واضحة لنا الآن ، لكن كيف كانت البداية عندما خلق الله تعالى الخَلْق الأول ، فساعتها ، هل كانت الشمس مواجهة للأرض أم غائبة عنها؟
إنْ كان الحق سبحانه خلق الشمس مواجهةً للأرض ، فالنهار هو الأول ، ثم تغيب الشمس ، ويأتي الليل ليخلف النهار ، أما النهار فلم يُسبق بليْل . وكذلك كانت الشمس عند الخَلْق غير مواجهة للأرض ، فالليل هو الأول ، ولا يسبقه نهار ، وفي كلتا الحاليتن يكون أحدهما ليس خلْفة للآخر ، ونحن نريد أن تصدُقَ الآية على كليْهما .
إذن : لا بد أنهما خِلْفة منذ الخَلْق الأول؛ ذلك لأن الأرض كما عرفنا ولم يَعُدْ لدينا شك في هذه المسألة كروية ، والحق تبارك وتعالى حينما خلق الشمس والقمر الخَلق الأول كان المواجه منها للشمس نهاراً ، والمواجهة منها للقمر ليلاً ، ثم تدور حركة الكون ، فيخلف أحدهما الآخر منذ البداية .
وهذه النظرية لا تستقيم إلا إذا قُلْنا بكروية الأرض ، وهذه يؤيدها قوله تعالى : { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } [ يس : 40 ] .
والمعنى أيضاً : ولا النهار سابق الليل ، لكن ذكر الليلَ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الليل خُلِق أولاً ، لماذا؟ لأن الزمن عندهم يثبت بليله ، كما يحدث مثلاً في الصوم ، فهل تصوم أولاً في النهار ثم ترى الهلال بالليل؟ إنما ترى الهلال بالليل أولاً ، فكأن رمضان يبدأ يومه بليله .
وما دام الأمر كذلك فالليل سابقُ النهار عندهم ، وهذه قضية يعتقدونها ومُسلَّمة عندهم ، وجاء القرآن وخاطبهم على أساس هذا الاعتقاد : أنتم تعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار يعني : النهار لا يسبق الليل ، نعم لكن : اعلموا أيضاً أن الليل لا يسبق النهار . إذن : المحصلة : لا الليلُ سابقُ النهار ، ولا النهار سابق الليل .
ولو قلنا بأن الأرض مسطوحة لَمَا استقام لنا هذا القول .
لكن أيّ ليل؟ وأيّ نهار؟ نهاري أنا ، أم نهار المقابل لي؟ وكل واحد على مليون من الثانية يولد نهار ويبدأ ليل؛ لأن الشمس حين تغيب عني تشرق على آخرين ، والظهر عندي يوافقه عصر أو مغرب أو عشاء عند آخرين .
إذن : كل الزمن فيه الزمن ، وهذا الاختلاف في المواقيت يعني أن نغمة الأذان ( الله أكبر ) شائعة في كل الزمن ، فالله معبود بكل وقت وفي كل زمن ، فأنت تقول : الله أكبر وغيرك يقول : أشهد أن لا إله إلا الله . . وهكذا .
وإنْ كان الحق تبارك وتعالى خلق الليل للسُّبات وللراحة ، والنهار للسعي والعمل ، فهذه الجمهرة العامة لكنها قضية غير ثابتة ، حيث يوجد من مصالح الناس ما يتعارض وهذه المسألة ، فمن الناس مَنْ تقتضي طبيعة عمله أن يعمل بالليل كالخبازين والحراس والممرضين .
(1/6474)

. إلخ .
فهؤلاء يُسمح لهم بالعمل بالليل والراحة بالنهار ، ولو لم يكُنْ لهؤلاء منفذ لقلنا : إن هذا الكلام متناقض مع كونيات الخَلْق؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار } [ الروم : 23 ] فتراعي هذه الآية ظروف هؤلاء الذين يضطرون للعمل ليلاً ، وللراحة نهاراً .
وقوله تعالى : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] يعني : يا مَنْ شغله نهار عمله عن ذكر ربه انتهِزْ فرصة الليل ، ويا مَنْ شغله نوم الليل عن ذِكْر ربه انتهز فرضة النهار ، وذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " .
فمَن فاته شيء في ليله فليتداركه في نهاره ، ومَنْ فاته شيء في نهاره فليتداركه في ليله ، وإذا كان الله تعالى يبسط يده بالليل ويبسط يده بالنهار ، وهما مستمران ، فمعنى ذلك أن يده تعالى مبسوطة دائماً .
ومعنى { يَذَّكَّرَ } [ الفرقان : 62 ] يتمعنّ ويتأمل في آيات الله ، في الليل وفي النهار ، كأنه يريد أن يصطاد لله نعماً يشكره عليها ، على خلاف الغافل الذي لا يلتفت إلى شيء من هذا ، فمن فضل الله علينا أن يُنبِّهنا إلى هذه النعم ، ويلفت نظرنا إليها؛ لأننا أهل غفلة .
وقوله : { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] أي : شكراً ، فهي صغية مبالغة في الشكر .
(1/6475)

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
يعطينا الحق تبارك وتعالى صورة للعبودية الحقة ، ونموذجاً للذين اتبعوا المنهج ، كأنه سبحانه وتعالى يقول لنا : دَعْكُم من الذين أعرضوا عن منهج الله وكذَّبوا رسوله ، وانظروا إلى أوصاف عبادي الذين أمنوا بي ، ونفَّذوا أحكامي ، وصدَّقوا رسولي .
نقول : عباد وعبيد . والتحقيق أن ( عبيد ) جمع لعبد ، وأن ( عباد ) جمع لعابد مثل : رجال جمع راجل : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] إذن : عبيد غير عِبَاد .
وسبق أن تحدثنا عن الفَرْق بين العبيد والعباد ، فكلنا عبيد لله تعالى : المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، فما دام يطرأ عليه في حياته ما لا يستطيع أنْ يدفعه مع أنه يكرهه فهو مقهور ، فالعبد الكافر الذي تمرَّد على الإيمان بالله ، وتمرَّد على تصديق الرسول ، وتمرد على أحكام الله فلم يعمل بها .
فهل بعد أن أَلِفَ التمرد يستطيع أن يتمرد على المرض إنْ أصابه؟ أو يستطيع التمرد على الموت إنْ حلّ بساحته؟ إذن : فأنت عبد رغماً عنك ، وكلنا عبيد فيما نحن مقهورون عليه ، ثم لنا بعد ذلك مساحة من الاختيار .
أما المؤمن فقد خرج عن اختياره الذي منحه الله في أن يؤمن أو يكفر ، وتنازل عنه لمراد ربه ، فاستحق أن يكون من عباد الله { وَعِبَادُ الرحمن } [ الفرقان : 63 ] فنحن وإنْ كنا عبيداً فنحن سادة؛ لأننا عبيد الرحمن؛ لذلك كانت حيثية تكريم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الإسراء هي عبوديته لله تعالى ، حيث قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] ، فالعبودية هي علة الارتقاء .
فلما أخلص رسول الله العبودية لله نال هذا القُرْب الذي لم يسبقه إليه بشر .
لذلك وصف الملائكة بأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وباستقراء الآيات لم نجد سوى آية واحدة تخالف في ظاهر الأمر هذا المعنى الذي قُلْناه في معنى العباد ، وهي قوله تعالى في الكلام عن الآخرة : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } [ الفرقان : 17 ] .
فقال للضالين ( عبادي ) وهي لا تُقال إلا للطائعين ، لماذا؟ قالوا : لأن في القيامة لا اختيارَ لأحد ، فالجميع في القيامة عباد ، حيث انتفى الاختيار الذي يُميِّزهم .
والعلماء يقولون : إن العباد تُؤخَذ منها العبادية ، وأن العبيد تُؤخَذ منها العبودية : العبادية في العباد أن يطيع العابد أمر الله ، وينتهي عن نواهيه طمعاً في ثوابه في الآخرة ، وخوفاً من عقابه فيها ، إذن : جاءت العبادية لأخذ ثواب الآخرة وتجنّب عقابها .
أما العبودية فلا تنظر إلى الآخرة ، إنما إلى أن الله تعالى تقدّم بإحسانه على عبيده إيجاداً من عدم ، وإمداداً من عُدْمٍ ، وتربية وتسخيراً للكون ، فالله يستحق بما قدّم من إحسان أن يُطاع بصرف النظر عن الجزاء في الآخرة ثواباً أو عقاباً .
أما العبودة فهي : ألاَّ ينظر العبد إلى ما قدَّم من إحسان ، ولا ما أخّر من ثواب وعقاب ، وإنما ينظر إلى أن جلال الله يستحق أنْ يطُاع ، وإنْ لم يسبق له الإحسان ، وإنْ لم يأتِ بعد ذلك ثواب وعقاب .
(1/6476)

وإن كانت العبودية مكروهة في البشر كما قال أحد الساسة : متى استعبدتم الناس ، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ذلك لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خيْر عبده ، أما العبودية لله تعالى فِعزٌّ وشرف ، حيث يأخذ العبد خَيْر سيده ، فهي عبودية سيادة ، لا عبودية قهر .
فحين تؤمن بالله يعطيك الله الزمام : يقول لك : إنْ أردت أنْ أذكرك فاذكرني ، وفي الحديث القدسي : " مَنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي ، ومَنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " .
وإنْ كان سبحانه وتعالى يستدعيك إلى خَمْس صلوات في اليوم والليلة ، فما ذلك إلا لتأنسَ بربك ، لكن أنت حر تأتيه في أيِّ وقت تشاء من غير موعد ، وأنت تستطيع أن تحدد بَدْءَ المقابلة ونهايتها وموضوعها . . إلخ ، فزمام الأمر في يدك .
وقد تعلم سيدنا رسول الله خُلق الله ، فكان إذا وضع يده في يد أحد الصحابة يُسلِّم عليه لا ينزع يده منه حتى يكون هو الذي ينزع يده من يد رسول الله ، وهذا أدب من أدب الحق تبارك وتعالى إذن : فالعبودية لله تعالى عبودية لرحمن ، لا عبودية لجبار .
وأول ما نلحظ في هذه الآية أنه تعالى أضاف العباد إلى الرحمن ، حتى لا نظن أن العبودية لله ذِلَّة ، وأن القرآن كلام رب وُضِع بميزان ، ثم يذكر سبحانه وتعالى صفات هؤلاء العباد ، صفاتهم في ذواتهم ، وصفاتهم مع مجتمعهم ، وصفاتهم مع ربهم ، وصفاتهم في الارتقاء بالمجتمع إلى الطُّهر والنقاء .
أما في ذواتهم ، فالإنسان له حالتان هما محلُّ الاهتمام : إما قاعد ، وإما سائر ، ونُخرِج حالة النوم لأنه وقت سكون ، أما حال القعود فالحركة محدودة في ذاته ، والمهم حال الحركة والمشي ، وهذا هو الحال الذي ينبغي الالتفات إليه .
لذلك يوضح لنا ربنا عز وجل كيف نمشي فيقول : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .
يعني : برفق وفي سكينة ، وبلين دون اختيال ، أو تكبُّر ، أو غطرسة ، لماذا؟ لأن المشي هو الذي سيُعرِّضك لمقابلة مجتمعات متعددة ، وهذا الأدب الرباني في المشي يُحدِث في المجتمع استطراقاً إنسانياً يُسويِّ بين الجميع .
وفي موضع آخر يقول تعالى في هذه المسألة : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ لقمان : 18 ] { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } [ الإسراء : 37 ] .
وتصعير الخدِّ أنْ تُميله كِبْراً وبَطَراً وأصله ( الصعر ) مرض في البعير يصيب عنقه فيسير مائلاً ، ومَنْ أراد أن يسير مُتكبِّراً مختالاً فليتكبر بشيء ذاتي فيه ، وهل لديك شيء ذاتي تستطيع أن تضمنه لنفسك أو تحتفظ به؟
إنْ كنتَ غنياً فقد تفتقر ، وإنْ كنتَ قوياً صحيحاً قد يصيبك المرض فيُقعدك ، وإنْ كنتَ عزيزاً اليوم فقد تذلّ غداً .
(1/6477)

إذن : فكل دواعي التكبُّر ليست ذاتية عندك ، إنما هي موهوبة من الله ، فعلامَ التكبُّر إذن؟!
لذلك يقولون في المثل ( اللي يخرز يخرز على وركه ) إنما يخرز على ورك غيره؟! وأصل هذا المثل أن صانع السروج كان يأتي بالصبي الذي يعمل تحت يده ، ويجعله يمدّ رِجله ، ويضع السرج على وركه ، ثم يأخذ في خياطته ، فرآه أحدهم فرَقَّ قلبه للصبي فقال للرجل : إنه ضعيف لا يتحمل هذا ، فإنْ أردتَ فاجعله على وركك أنت . كذلك الحال هنا ، مَنْ أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه ، لا بشيء موهوب له .
والمتكبِّر شخص ضُرِب الحجاب على قلبه ، فلم يلتفت إلى ربه الأعلى ، ويرى أنه أفضل من خَلْق الله جميعاً ، ولو استحضر كبرياء ربه لاستحى أن يتكبر على خَلْق الله ، فتكبُّره دليل على غفلته عن هذه المسألة .
لذلك يقول الناظم :
فَدَع كُلَّ طاغِيةٍ للزمَان ... فَإِنَّ الزمَانَ يُقيم الصَّعَرْ
يعني : سيرَى من الزمان ما يُقوِّم اعوجاجه ، ويُرغِم أنفه .
ومعنى { مَرَحاً } [ لقمان : 18 ] المرح : الفرح ببطر . والبطر : أنْ تأخذ النعمة وتنسى المنعم ، وتتنعّم بها ، وتعصى مَنْ وهبك إياها ، إذن : المنهيّ عنه الفرح المصاحب للبطر ، وإنكار فضل المنعم ، أما الفرح المصاحب للشكر فمحمود ، كما قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] .
وفي موضع آخر يُعلِّمنا أدب المشي ، فيقول : { واقصد فِي مَشْيِكَ واغضض مِن صَوْتِكَ } [ لقمان : 19 ] .
وقالوا : إن المراد بالمشي الهَوْن ، هو الذي يسير فيه الإنسان على سجيته دون افتعال للعظمة أو الكِبْر ، لكن دون انكسار وذِلّة ، وسيدنا عمر رضي الله عنه حينما رأى رجلاً يسير متماوتاً ضربه ، ونهاه عن الانكسار والتماوت في المشية ، وهكذا فمِشْية المؤمن وَسَط ، لا متكبر ولا متماوت متهالك .
ثم تتحدث الآية بعد ذلك عن صفات عباد الرحمن وعلاقاتهم . بالناس : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] والجاهل : هو السَّفيه الذي لا يزن الكلام ، ولا يضع الكلمة في موضعها ، ولا يدرك مقاييس الأمور ، لا في الخَلْق ولا في الأدب .
وسبق أن فرَّقْنا بين الجاهل والأميّ : الأميّ هو خالي الذهن ، ليس عنده معلومة يؤمن بها ، وهذا من السهل إقناعه بالصواب . أما الجاهل فعنده معلومة مخالفة للواقع؛ لذلك يأخذ منك مجهوداً في إقناعه؛ لأنه يحتاج أولاً لأن تُخرِج من ذهنه الخطأ ، ثم تُدخِل في قلبه الصواب .
والمعنى : إذا خاطبك الجاهل ، فحذار أن تكون مثله في الردِّ عليه فتَسْفَه عليه كما سَفِهَ عليك ، بل قرِّعه بأدب وقُلْ { سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] لتُشعِره بالفرق بينكما .
والحق تبارك وتعالى يُوِضِّح في آية أخرى ثمرة هذا الأدب ، فيقول : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }
(1/6478)

[ فصلت : 34 ]
وما أجملَ ما قاله الإمام الشافعي في هذا المعنى :
إذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلا تُجِبْهُ ... فَخَيْر مِنْ إجَابتهِ السُّكُوتُ
فإنْ كلَّمتَه فرجتَ عَنْه ... وَإنْ خلَّيْته كَمَداً يمُوتُ
فإنِ اشتد السفيه سفاهة ، وطغى عليك وتجبر ، فلا بُدَّ لك من رَدِّ العدوان بمثله؛ لأنك حَلُمتَ عليه ، فلم يتواضع لك ، وظنَّ حلْمك ضعفاً ، وهنا عليك أن تُريه الفرق بين الضعف وكرم الخُلق ، كالشاعر الذي قال :
صَفَحْنَا عَنْ بني ذُهْل ... وَقُلْنَا القَوْمُ إخوَانُ
عَسَى الأيامُ أنْ يُرْ ... جِعْنَ قَوْماً كالذي كَانُوا
فَلما صرَّح الشَّر فَأمْ ... سَى وَهْو عُريانُ
ولم يَبقَ سوَى العُدْوا ... ن دِنَّاهُمْ كما دَانُوا
مشَيْنا مَشْية الليْثِ ... غَدا والليثُ غَضْبانُ
بضَرْب فيه توهينٌ ... وتخضيعٌ وإقرانُ
وطَعْن كفم الزِّق ... غَدا والزِّق ملآنُ
وفي الشرٍِّ نجاةٌ حي ... نَ لاَ يُنجيك إحْسَانُ
وبعْضُ الحِلْم عِنْد الجهْ ... ل لِلْذِلّةِ إِذْعَانُ
وللإمام علي كرَّم الله وجهه :
إذَا كُنْتَ مُحتاجاً إلى الحِلْم إنّني ... إلى الجْهلِ في بَعْضِ الأحَايين أَحْوجُ
ولِي فَرسٌ للحِلْم بالحِلْم مُلجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ للجَهْلِ بالجهْلِ مُسْرَجُ
فَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإنِّي مُقوِّمٌ ... ومَنْ رَامَ تَعْويجي فَإنِّي مُعوِّجُ
ومعنى : { قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] قالوا : المراد هنا سلام المتاركة ، لا سلام الأمان الذي نقوله في التحية ( السلام عليكم ) فحين تتعرَّض لمن يؤذيك بالقول ، ويتعدى عليك باللسان تقول له سلام يعني : سلام المتاركة .
وبعض العلماء يرى أن كلمة { قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] هنا تعني المعنيين : سلام المتاركة ، وسلام التحية والأمان ، فحين تحلُم على السَّفيه فلا تُجَاريهِ تقول له : لو تماديتُ معك سأوذيك ، وأفعل بك كذا وكذا ، فأنت بذلك خرجتَ من سلام المتاركة إلى سلام التحية والأمان .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] .
ألم يقُلْ إبراهيم عليه السلام لعمه آزر لما أصرَّ على كُفْره : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] .
والمعنى : لو وقفتُ أمامك لربما اعتديتُ عليك ، وتفاقمتْ بيننا المشكلة .
وبعد أن تناولتْ الآيات حال عباد الرحمن في ذواتهم ، وحالهم مع الناس ، تتحدث الآن عن حالهم مع ربهم .
(1/6479)

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
والبيتوتة تكون بالليل ، حين يأوي الإنسان إلى بيته بعد عناء اليوم وسَعْيه ، وبعد أن تقلَّب في ألوان شتَّى من نِعَم الله عليه ، فحين يأوي إلى مبيته يتذكر نِعَم الله التي تجلَّتْ عليه في ذلك اليوم ، وهي نِعَم ليست ذاتية فيه ، إنما موهوبة له من الله؛ لذلك يتوجّه إليه سبحانه بالشكر عليها ، فيبيت لله ساجداً وقائماً .
كما قال سبحانه : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] .
وقال سبحانه : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 1718 ] .
لكن ، أيطلبُ اللهُ تعالى منَّا ألاَّ نهجعَ بالليل ، وقد قال في آية أخرى : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] .
قالوا : ليس المراد قيام الليل كله ، إنما جزء منه حين تجد عندك النشاط للعبادة ، كما قال الحق سبحانه وتعالى في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم :
{ قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } [ المزمل : 24 ] .
حتى قال ابن عباس : مَنْ صلّى بعد العشاء ركعتين فأكثر كان كَمَنْ بَاتَ لله ساجداً وقائماً ، فربُّك يريد منك أن تذكره قبل تنام ، وأن تتأمل نِعَمه عليك فتشكره عليها .
وذكر سبحانه حالتي السجود والقيام { سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] لأن بعض الناس يصعُب عليهم أنْ يسجدوا ، وآخرين يسهل عليهم السجود ، ويعصب عليهم القيام ، فذكَر الله سبحانه الحالتين ليعدل فيهما .
(1/6480)

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
هذا القول يناسب عباد الرحمن الذين يفعلون الخيرات ، طمعاً في الثواب ، وخوفاً من العقاب ، فهم الذين يقولون { رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] كلمة ( غرام ) نقولها بمعنى الحب والُهيَام والعشق ، ومعناها : اللزوم ، أي لازم لهم لا ينفك عنهم في النار أبداً؛ لأن العاقبة إما جنة أبداً ، أو نار أبداً .
فمعنى { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] أي : لازماً دائماً ، ليس مرة واحدة وتنتهي المسألة .
ومنه كلمة ( الغريم ) ، وهو الذي يلازم المدين ليأخذ منه دَيْنه .
وكلمة { رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } [ الفرقان : 65 ] كأنهم متصورون أن جهنم ستسعى إليهم ، وأن بينها وبينهم لدداً ، بدليل أنها ستقول : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
ثم تذكر الآيات سبب هذه المقوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }
(1/6481)

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
ساء الشيء أي : قَبُحَ ، وضده حَسُن ، لذلك قال تعالى عن الجنة في مقابل هذه الآية : { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] وهكذا السوء يلازمه القُبْح ، والحُسْن يلازمه الحُسْن .
وقال : { مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] حتى لا يظنوا أن النار فترة وتنتهي ، ثم يخرجون منها ، فهي مستقرهم الدائم ، ومُقامهم الذي لا يفارقونه .
أو أن الحق سبحانه وتعالى أراد بهذا نوعين من الناس : مؤمن أسرف في بعض السيئات ولم يتُبْ ، أو لم يتقبل الله منه توبته ، فهو في النار لحين ، والمستقر هنا بمعنى المكان المؤقت ، أما المقام فهو الطويل .
إذن : النار ساءتْ مستقراً لمن أسرف على نفسه ولم يتُبْ ، أو لم يتقبل الله توبته ، إنما ليست إقامة دائمة ، والمقام يكون للخالدين فيها أبداً .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ }
(1/6482)

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
الإسراف : تبديد ما تملك فيها عنه غَنَاء ، فلا نقول ( مسرف ) مثلاً للذي يأكل ليحفظ حياته؛ لذلك يقول سيدنا عمر رضي الله عنه لولده عاصم : كُلْ نصف بطنك ، ولا تطرح ثوباً إلا إذا استخلقْتَه ، ولا تجعل كل رزقك في بطنك وعلى جسدك .
والإسراف أن تنفق في غير حِلٍّ ، فلا سرف في حِلٍّ ، حتى إنْ أسرف الإنسان في شيء من الترف المباح ، فإنه يؤدي لنفسه بعض الكماليات ، في حين يؤدي للمجتمع أشياء ضرورية ، فالذي لا يرتدي الثوب إلا ( مكْوياً ) كان بإمكانه أن يرتديه دون كَيًّ ، فكَيُّ الثوب في حقه نوع من الترف ، لكنه ضرورة بالنسبة ( للمكوجي ) حيث يسَّر له أكل العيش .
والذي يستقل سيارة أجرة وهو قادر على السير ، أو يجلس على ( القهوة ) كل يوم ليمسح حذاءه وهو قادر على أن يمسحه بنفسه ، هذه كلها ألوان من الترف بالنسبة لك ، لكنها ضرورة لغيرك ، فلا يُسمَّى هذا إسرافاً .
وقوله تعالى : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] أي : بين الإسراف والتقتير { قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] يعني : وسطاً أي : أن الإنفاق وسط بين طرفين ، وقوام الشيء : ما به يقوم ، والحياة كلها تقوم على عملية التوسُّط بين الإسراف والتقتير .
وأذكر ونحن تلاميذ كانوا يُعلِّموننا نظرية الروافع ، وكيف نُوسِّط مركزاً على عصا من الخشب ، بحيث يتساوى الذراعان ، ويكونان سواء ، لا تميل إحداهما بالأخرى ، وإذا أرادتْ إحداهما أن تميل قاومتْها الأخرى ، كأنها تقول لها : نحن هنا . فإذا ما علقتَ ثِقَلاً بأحد الذراعين لزمك أن تطيل الأخرى لتقاوم هذا الثقل .
ويروي أن عبد الملك بن مروان لما أراد أن يُزوِّج ابنته فاطمة من عمر بن عبد العزيز اختبره بهذا السؤال ليعرف ميزانه في الحياة : يا عمر ، ما نفقتك؟ قال : يا أمير المؤمنين ، نفقتي حسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
فعلم الخليفة أن زوج ابنته يسير سَيْراً يضمن له ولزوجته مُقوّمات الحياة ، ويضمن كذلك المقومات العليا للنفس وللمجتمع .
وسبق أن ذكرنا أن الإنسان الذي ينفق كل دَخْله لا يستطيع أن يرتقي بحياته وحياة أولاده؛ لأنه أسرف في الإنفاق ، ولم يدخر شيئاً ليبني مثلاً بيتاً ، أو يشتري سيارة . . الخ .
ومصيبة المجتمع أعظم في حال التقتير ، فمصلحة المجتمع أنْ تُنفق ، وأن تدخر ، كما قال سبحانه : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] .
وهكذا جعل الله لنا ميزاناً بين الإسراف والتقتير؛ ذلك لأن المال قِوَام الحياة ، والذي يُقتِّر يُقتِّر على نفسه وعلى الناس ، فليست له مطلوبات يشتريها ، ويشارك بها في حركة الحياة ، وينتفع بها غيره ، فهذه السلع وهذه الصناعات وهؤلاء العمال ، وأهل الحِرَف من أين يرتزقون إذن وليس هناك استهلاك ورواج لسلعهم؟ لا شَكَّ أن التقتير يُحدِث كساداً ، ويُحدِث بطالة ، وهما من أشد الأمراض فتكاً بالمجتمع .
(1/6483)

ولو نظرتَ إلى رغيف العيش ، وهو أبسط ضروريات الحياة ، كم وراءه من عمال وصُنَّاع وزُرَّاع ومهندسين ومطاحن ومخازن ومصانع وأفران ، وهَبْ أنك أحجمت مثلاً عنه ، ماذا يحدث؟
إذن : ربك يريدك أن تنفق شيئاً ، وتدخر شيئاً يتيح لك تحقيق ارتقاءات حياتك وطموحاتها؛ لذلك خُتِمَتْ الآية السابقة بقوله تعالى : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] .
ملومَ النفس لما بددتَ من أموال لم ينتفع بها عيالك ، ومحسوراً حينما ترى غيرك ارتقى في حياته وأنت لم تفعل شيئاً . إذن : فالإنسان ملومٌ إنْ أسرف ، محسورٌ إنْ قتّر ، والقوام في التوسُّط بين الأمرين ، وبالحسنة بين السيئتين ، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، ولذلك قالوا : خير الأمور الوسط .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ }
(1/6484)

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
وهنا قد يسأل سائل : أبعد كل هذه الصفات لعباد الرحمن ننفي عنهم هذه الصفة { لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] وهم مَا اتصفوا بالصفات السابقة إلا لأنهم مؤمنون بالإله الواحد سبحانه؟ قالوا : هذه المسألة عقيدة وأساس لا بُدَّ للقرآن أن يكررها ، ويهتم بالتأكيد عليها .
ومعنى : { لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] أي : لا يدعون أصحاب الأسباب لمسبِّباتهم ، وهذا هو الشرك الخفيّ . ومنه قولهم : توكلتُ على الله وعليك . فنقول له ، انتبه ليس عليَّ شيء ، الأمر كله على الله . فقُلْ : توكلت على الله . وإنْ أردتَ فقُلْ : ثُمَّ عليك .
ونسمع آخر يقول للأمر الهام : هذا عليَّ ، والباقي على الله ، فجعل الأصل المهم لنفسه ، وأسند الباقي لله ، أيليق هذا والمسألة كلها أصلها وفروعها على الله؟
إذن : يمكن أن تكون هذه الآية للمفتونين في الأسباب الذين ينتظرون منها العطاء ، وينسْونَ المسبِّب سبحانه ، وهذا هو الشرك الخفي .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الفرقان : 68 ] سبق أنْ تحدثنا عن الفرق بين الموت والقتل ، وقلنا : إن كليهما تذهب به الحياة ، لكن في الموت تذهب الحياة أولاً ، ثم تُنقض البنية بعد ذلك ، أما في حالة القتل فتُنقض البنية أولاً ، ثم يتبعها خروج الروح . فالموت إذن بيد الله عز وجل ، أما القتل فقد يكون بيد البشر .
وهنا نَهْى صريح عن هذه الجريمة؛ لأنه " ملعون مَنْ يهدم بنيان الله " ويقضي على الحياة التي وهبها الله تعالى لعباده .
وقوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } [ الفرقان : 68 ] أي : حق يبيح القتل كرَجْم الزاني حتى الموت ، وكالقصاص من القاتل ، وكقتْل المرتد عن دينه ، فإنْ قتلْنا هؤلاء فقتلُهم بناء على حَقٍّ استوجب قتلهم .
فإن قال قائل : فأين حرية الدين إذن؟ نقول : أنت حر في أن تؤمن أو لا تؤمن ، لكن اعلم أولاً أنك إنْ ارتددتَ عن إيمانك قتلناك ، فإياك أنْ تدخل في ديننا إلا بعد اقتناع تام حتى لا تُعرِّض نفسك لهذه العاقبة .
وهذا الشرط يمثِّل عقبة وحاجزاً أمام مَنْ أراد الإيمان ويجعله يُفكّر ملياً قبل أن ينطق بكلمة الإيمان ويحتاط لنفسه ، إذن : فربُّكَ عز وجل يُنبِّهك أولاً ، ويشترط عليك ، وليس لأحد بعد ذلك أن يقول : أين حرية الدين؟
وقوله تعالى : { وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] تحدثنا عن هذه المسألة في أول سورة النور وقلنا : إن الإنسان الذي كرَّمه الله وجعله خليفة له في أرضه أراد له الطُّهْر والكرامة ، وإنْ يسكن الدنيا على مقتضى قانون الله ، فلا يُدخِل في عنصر الخلافة شيئاً يخالف هذا القانون؛ لأن الله تعالى يريد أن يبنى المجتمع المؤمن على الطُّهْر ويبنيه على عناية المربِّي بالمربَّى .
(1/6485)

لذلك تجد الرجل يعتني بولده مطْعماً ومشرباً وملبساً ويفديه بنفسه ، لماذا؟ لأنه ولده من صُلْبه ومحسوب عليه ، أمّا إنْ شكَّ في نسب ولده إليه فإنه يُهمله ، وربما فكّر في الخلاص منه ، وإنْ رُبِّي مثل هذا رُبَّي لقيطاً لا أصلَ له ، وهذا لا يصلح لخلافة الله في أرضه ، ولا لأن يحمل هذا الشرف .
وهذا يدل على أن الفطرة السليمة تأبى أنْ يوجد في كون الله شخص غير منسوب لأبيه الحق ، من هنا نهى الإسلام عن الزنا ، وجعل من صفات عباد الرحمن أنهم لا يزنون .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] أثاماً مثل : نكالاً وَزْناً ومعنىً ، والآثام : عقوبة الإثم والجزاء عليه .
(1/6486)

يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
كيف نفهم مضاعفة العذاب في هذه الآية مع قوله تعالى في آية أخرى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
ويقول سبحانه : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ الأنعام : 160 ] .
الحقيقة لا يُوجد تناقض بين آيات القرآن الكريم ، فالذي يرتكب هذه الفِعْلة يكون اسْوة في المجتمع تُجرِّىء الغير على ارتكاب هذه الجريمة؛ لذلك عليه وزْرة كفاعل أولاً ، وعليه وِزْر مَنِ اقتدى به .
كما جاء في قوله تعالى حكايةً عن الكفارين : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] إذن : فوجود الآباء كقدوة للشر يزيد من شرِّ الأبناء ، فكأنهم شركاء فيه .
لذلك يقول الله تعالى في موضع آخر : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] .
وقال : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] .
فالوِزْر الأول لضلالهم في ذاته ، والوِزْر الآخر؛ لأنهم أضلّوا غيرهم ، هذا هو المراد بمضاعفة العذاب .
وقوله تعالى : { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] معنى ( مُهَاناً ) : حينما وصف القرآن العذاب وصفه مرةً بأنه أليم ، ومرةً عظيم ، ومرة مُهين . فالذي ينظر إلى إيلام الجوارح يقول : هذا عذاب أليم؛ لأنه يُؤلم كل جارحة فيه ، فالعذاب أمر حِسيّ ، أما الإهانة فأمر معنوي ، ومن الناس مَنْ تؤلمه كلمة تنال من كرامته ، ومنهم مَنْ يُضرب فلا يؤثر فيه .
والخالق عز وجل خلق الناس وعلم أزلاً أنهم أبناء أغيار ، ليس معصوماً منهم إلا الرسل ، إذن : فالسيئة مُحْتملة منهم .
ومن تمام رحمته تعالى بربوبيته أنْ فتح باب التوبة لعباده ، لمن أسرف منهم على نفسه في شيء؛ لأن صاحب السيئة إنْ يئس من المغفرة استشرى خطره وزاد فساده ، لكن إنْ فتحتَ له باب التوبة والمغفرة عاد إلى الجادة ، واستقام على الطاعة ، وفي هذا رحمة بالمجتمع كله .
يقول تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً }
(1/6487)

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
فربُّكم كريم ورحيم ، إنْ تُبتْم تاب عليكم وقَبِلكم ، فإنْ قدَّمْتُم العمل الصالح واشتدّ ندمكم على ما فات منكم من معصية يُبدِّل سيئاتكم حسنات .
وللتوبة أمران : مشروعيتها من الله ِأولاً ، وقبولها من صاحبها ثانياً ، فتشريعها فَضْل ، وقبولها فَضْل آخر؛ لذلك يقول سبحانه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] والمعنى : تاب عليهم بأنْ شرَّع لهم التوبة حتى لا يستحُوا من الرجوع إلى الله .
وقوله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] تاب وآمن لمن عمل معصية تُخرجه عن الإيمان ، فالعاصي لم يقارف المعصية إلا في غفلة عن إيمانه ، كما جاء في الحديث الشريف : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .
ولو استحضر العاصي جلالَ ربه ما عصاه ، ولتضخمتْ عنده المعصية فانصرف عنها ، وما دام قد غاب عنه إيمانه فلا بُدَّ له من تجديده ، ثم بعد ذلك يُوظِّف هذا الإيمان في العمل الصالح .
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] فالجزاء { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] وليس المراد أن السيئة تُبدَّل فتصير حسنة مباشرة ، إنما يرفع العبد السيئة ويحل محلها التوبة ، وبعد التوبة يضع الله له الحسنة .
وقد أطمعتْ رحمة الله ومغفرته بعض الناس ، حتى قال الشاعر :
مَوْلاَي إنِّي قَدْ عصيتُكَ عَامِداً ... لأراكَ أجملَ ما تكُون غَفُوراً
وَلَقْد جنيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ كبَارَهَا ... ضَنّاً بعفْوِك أنْ يكُونَ صَغِيراً .
حتى وصل الحال ببعضهم أنْ يستكثر من السيئة طمعاً في أن تُبدَّل حسنات ، لكن مَنْ يضمن له أن يعيش إلى أنْ يتوب ، أو أنه إنْ تاب قَبِل الله منه؟
والعلة النفسية التي تكلَّم عنها العلماء في هذه المسألة أن الذي ابتعد عن المعصية فلم يقع في شراكها لم يدرك لذة الشهوة ، فلا تَأْتِي على باله ، أمّا مَنْ خاض فيها ، وذاق لذتها ، وأسرف فيها على نفسه فيعاني كثيراً حينما يحجز نفسه وينأى به عن معصية الله ، فهذه المعاناة هي التي جعلتْ له هذه المنزلة .
(1/6488)

وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
معنى { يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } [ الفرقان : 71 ] يعني : توبة نصوحاً ، لا عودة بعدها إلى المعصية ، لا يرجع في توبته كالمستهزيء بربه ، يقول : أفعل كذا ثم أتوب ، وكلمة { مَتاباً } [ الفرقان : 71 ] تعني : العزم ساعةَ أنْ يتوبَ ألاَّ يعود ، والخطر في أن يُقدِم العبد على الذنب لوجود التوبة ، فقد بُقبض في حال المعصية ، وقبل أنْ يُمِكنه التوبة .
ثم تذكر الآيات خصلة أخرى من خصال عباد الرحمن : { والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ }
(1/6489)

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
الزُّور : الشيء الكذب ، ويُزوِّر في الشهادة . أي : يُثبت الحق لغير صاحبه ، لكن نلاحظ أن الآية لم تقُلْ : والذين لا يشهدون بالزور ، مما يدلّ على أن للآية معنى أوسع من النطق بقول الزور في مجال التقاضي ، حيث تقول عند القاضي : فلان فعل وهو لم يفعل .
فللشهادة معنى آخر : أي : لا يحضرون الزور ، والزور كلُّ مَا خالف الحق ، ومنه قوله تعالى في شهر رمضان : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] .
فمعنى : { لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } [ الفرقان : 72 ] أي : لا يحضرون الباطل في أيّ لون من ألوانه قولاً أو فعلا ً أو إقراراً ، وكل ما خالف الحق .
لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] .
ويقول سبحانه : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] .
وقال تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ النساء : 140 ] .
ومعلوم أن قَوْل الزور والشهادة بغير حق تقلب الحقائق وتضرُّ بالمجتمع؛ لأنك حين تشهد بالزُّور تأخذ الحق من صاحبه وتعطيه لغيره ، وهذا يؤدي إلى تعطل حركة الحياة ، وتجعل الإنسان لا يأمن على ثمار تعبه وعرقه ، فيحجم الناس عن السعي والعمل ما دامت المسألة زوراً في النهاية .
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " .
لماذا؟ لأن شهادة الزُّور تهدم كُلَّ قضايا الحق في المجتمع .
ثم يقول سبحانه : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] اللغو : هو الذي يجب في عُرْف العاقل أنْ يُلْغى ويُتْرك ، وهو الهُراء الذي لا فائدة منه؛ لذلك قال فيمن يتركه { مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] والكرام يقابلها اللئام ، فكأن المعنى : لا تدخل مع اللئام مجالَ اللغو والكلام الباطل الذي يُصادِم الحق ليصرف الناس عنه .
ومن ذلك ما حكاه القرآن عن الكفار ليصرفوا الناس عن الاستماع لآيات الذكر : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ]
يعني : شوِّشوا عليه حتى لا يتمكّن الناس من سماعه ، وهذه شهادة منهم بأنهم لو تركوا آذان الناس على طبيعتها وسجيتها فسمعت القرآن ، فلا بُدَّ أن ينفعلوا به ، وأن يؤمنوا به ، ولو لم يكُنْ للقرآن أثر في النفوس ما قالوا هذه المقولة .
وقولهم : { والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] يعني : وإنْ سمعتموه يُقرأ فالْغوْا فيه ، وشوِّشوا عليه ، حتى لا يصل إلى الآذان ، لماذا؟ ألم يؤمن سيدنا عمر لما سمع آيات منه في بيت أخته فاطمة؟ لكن لماذا أثّر القرآن في عمر هذه المرة بالذات ، وقد سمعه كثيراً فلم يتأثر به؟
قالوا : لأن اللجج والعناد يجعل الإنسان يسمع غير سامع ، أما سماع عمر هذه المرة ، فكان بعد أن ضرب أخته فشجَّها ، وسال منها الدم ، فحرّك فيه عاطفة الأخوة وحنانها ، ونفض عنه الكبرياء والعناد واللجاج ، فصادف القرآنُ منه نفساً صافية ، وقلباً خالياً من اللدد للإسلام فأسلم .
(1/6490)

ألاَ ترى الكفار يقول بعضهم لبعض عند سماع القرآن كما حكاه القرآن : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً } [ محمد : 16 ] .
يعني : ما معنى ما يقول ، أو ما الجديد الذي جاء به ، وهذا على وجه التعجُّب منهم . فيردّ القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ]
إذن : فالقرآن واحد ، لكن المُسْتقبِل له مختلف : هذا استقبله بنفس صافية راضية ، وهذا استقبله بلَدد وقلب مُغْلق ، فكأنه لم يسمع ، فالمسألة مسألة فِعْل وقابل للفِعْل ، وسبق أن مثَّلنا لذلك بمَنْ ينفخ في يده أيام البرد والشتاء بقصد التدفئة ، وينفخ في كوب الشاي مثلاً بقصد التبريد ، فالفعل واحد ، لكن المستقبل مختلف .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ }
(1/6491)

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قوله تعالى : { ذُكِّرُواْ } [ الفرقان : 73 ] لا تُقال إلا إذا كان المقابل لك الذي تذكره عنده إلْفٌ بالذكْر ، وعنده عِلْم به ، والآيات التي تُذكِّر بها لها قدوم أول ، ولها قدوم ثانٍ : القدوم الأول : هو الإعلان الأول بها ، والقدوم الثاني : حين تنسى نُذكّرك بها .
وسبق أنْ قُلْنا : إن الآيات تُطلَق على معاَنٍ ثلاثة : إمّا آيات كونية تُلفِت النظر إلى قدرة الله تعالى ، وأنه صانع حكيم . . الخ ، وإمّا آيات معجزات جاءت لتأييد الرسل وإثبات صِدْقهم في البلاغ عن الله ، وإمّا آيات الذكْر الحكيم ، والتي تسُمَّى حاملة الأحكام ، وهي تُنبِّه من الغفلة ، وتُذكِّر الناس .
فالمعنى { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [ الفرقان : 73 ] أي : في القرآن الكريم : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] لم يخروا : الخرّ : السقوط بلا نظام وبلا ترتيب .
كما جاء في قوله تعالى : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] فالسقف إنْ خَرّ يخرّ بلا نظام وبلا ترتيب .
ومنه قوله تعالى في صفات المؤمنين : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } [ الإسراء : 108109 ] لأنهم يخرّون بانفعال قَسْريّ ، ينشأ من سماع القرآن .
إذن : حين يُذكَّرون بآيات الله لم يخرّوا عليها ُصُمّاً وعمياناً ، إنما يخِرُّون وهم مُصغون تمام الإصغاء ، ومبصرون تمام الإبصار .
ثم يقول الحق سبحانه عنهم : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا }
(1/6492)

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
هذه صفة أخرى من صفات عباد الرحمن ، يطلبون فيها أمرين { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] والذرية لا تأتي إلا بعد الزواج؛ لذلك جاء الدعاء للأزواج ، ثم للذرية .
وكلمة { قُرَّةَ } [ الفرقان : 74 ] تُستعمل بمعنيين ، وفي اللغة شيء يسمونه ( عامل اشتقاق ) يعني : يشتق اللفظ من معنى عام ، وقد يختلف معناه ، لكن في النهاية يلتقيان على معنى واحد .
وكملة ( قُرَّة ) تأتي بمعنى اللزوم والثبات ، من قَرَّ في المكان يعني : لزمه وثبت فيه ، وتأتي بمعنى السرور؛ والقُرُّ يعني أيضاً : شدة البرودة ، كما جاء في قول الشاعر :
أَوْقِدْ فإنََّ اللْيلَ لَيْلُ قُرٌ ... والريحَ يَا غُلامُ ريحُ صُرّ
عَلَّ أنْ يَرى نَارك مَنْ يمرُّ ... إنْ جلبتْ ضَيْفاً فأنتَ حُرّ
فالقُر : البرد : والقرور : السُّكون ، والعين الباردة : دليل السرور ، والعين الساخنة دليل الحزن والألم ، على حَدِّ قول الشاعر :
فَأمَّا قُلوبُ العَاشِقِينَ فأُسخنَتْ ... وأمَّا قُلوبُ العَازلين فقرَّتِ
لذلك يكنُون ببرودة العين عن السرور ، وبسخونتها عن الحزن ، يقولون : رزقني الله ولداً قرَّتْ به عيني ، ويقولون : أسخن الله عين فلان يعني : أصابه بحُزْن تغلي منه عينه .
ولأن العين جوهرة غالية في جسم الإنسان فقد أحاطها الخالق عز وجل بعناية خاصة ، وحفظ لها في الجسم حرارةً مناسبة تختلف عن حرارة الجسم التي تعتدل عند 37ْ ، فلو أخذتْ العينُ هذه الدرجة لانفجرتْ .
ومن عجيب قدرة الله تعالى أن تكون حرارة العين تسع درجات ، وحرارة الكبد أربعين ، وهما في جسم واحد .
فالمعنى { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] يعني : اجعل لنا من أزواجنا ما نُسَرُّ به ، كما جاء في الحديث الشريف عن صفات الزوجة الصالحة : " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة : إنْ أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرَّته ، وإن أقسم عليها أبرَّته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله " .
وهَبْ لنا من ذرياتنا أولاداً ملتزمين بمنهج الله ، لا يحيدون عنه ، ولا يُكلِّفوننا فوق ما نطيق في قول أو فعل؛ لأن الولد إنْ جاء على خلاف هذه الصورة كان مصيبة كبرى لوالديه ، بدليل أن الرجل قد يسرف على نفسه بأنواع المعاصي ، وقد يُقصِّر في حق الله ، لكن يحزن إنْ فعل ولده مثل فِعْله .
فالأب قد لا يصلي ، لكن يحثُّ ولده على الصلاة ، ويفرح له إنْ صلى واستقام ، لماذا؟ لأنه يريد أن يرى وأن يُعوِّض ما فاته من الخير الجمال في ابنه ، ولا يحب الإنسان أن يرى غيره أحسن منه إلا ولده ، لأنه امتداده وعِوَضه فيما فات .
وإنْ أخذنا { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] على أنها بمعنى الاستقرار والثبات ، فالمعنى أن تكون الزوجة على خُلُق وأدب وجمال ، بحيث تُرضِي الزوج ، فلا تمتد عينه إلى غيرها ، وتسكن عندها لأنها استوفت كل الشروط ، ومن ذلك قوله تعالى :
(1/6493)

{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [ الحجر : 88 ] .
وكذلك إنْ وجد صفات الخير والأدب والجمال في أولاد بحث لا تمتد عينه إلى أكثر من ذلك؛ لأنه يرى في أولاده كُلَّ تطلعاته ، وكل ما يتمناه ، فلا يتطلع إلى غيرهم؛ لذلك حين يمدحون . يقولون : فلان لم يَعُدْ عنده تطلعات ، لماذا؟ لأنه حقَّق كل ما يريد .
ويقولون في المدح أيضاً : فلان هذا قَيْد النظر ، يعني : حين تراه تسكن عنده عينك ، ولا تتحول عنه لجماله وكمال صفاته .
والولد حين يكون على هذه الصورة ، يريد والديه في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه ولد صالح لا ينقطع بِرّه بوالديه لموتهما ، إنما يظل بارّاً بهما حتى بعد الموت فيدعو لهما . وفي الآخرة يجمعهم الله جميعاً في مستقر رحمته : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] .
وهكذا كله في الأزواج وفي الأولاد هبة ومنحة من الله .
ونلحظ أن بعض الأزواج يعيشون مع أزواجهم على مَضَض ، وربما على كُرْه تحملهم عليه ظروف الحياة والأولاد واستقرار الأسرة ، فإنْ قلتَ للزوج : إن زوجتك ستكون معك في الجنة يقول : كيف ، حتى في الآخرة؟! وهو لا يعلم أن الله تعالى سيُطهِّرها من الصفات التي كرهها منها في الدنيا .
قال سبحانه : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ آل عمران : 15 ] .
ويقول سبحانه : { إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ } [ يس : 5556 ] .
وقول تعالى : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان : 74 ] نلحظ أن الدعوة هنا جماعية ، ومع ذلك لم يقُلْ أئمة ، وذكر إماماً بصيغة المفرد ، فلماذا؟
قالوا : لأنه تعالى يُنبِّهنا إلى أنّ الإمام هو الذي يسير على وَفْق منهج الله ولا يحيد عنه؛ لذلك إنْ تعددتْ الأئمة فهُمْ جميعاً في حُكْم إمام واحد؛ لأنهم يصدرون عن رب واحد ، وعن منهج واحد لا تحكمهم الأهواء فتُفرِّقهم كالأمراء مثلاً . فجمعهم في القول من كل منهم على حدة ووحدهم في الإمامة .
ثم يقول الحق سبحانه عن جزاء عباد الرحمن : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ }
(1/6494)

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{ أولئك } [ الفرقان : 75 ] خبر عن عباد الرحمن الذين تقدمتْ أوصافهم ، فجزاؤهم { يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] وجاءت الغرفة مفردةً مع أنهم متعددون ، يحتاج كل منهم إلى غرفة خاصة به .
قالوا؛ لأن الغرفة هنا معناها المكان العالي الذي يشتمل على غرفات ، كما قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] .
وهذا الجزاء نتيجة { بِمَا صَبَرُواْ } [ الفرقان : 75 ] صبوا على مشاقِّ الطاعات ، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة بقوله : " حُفَّتْ الجنة بالمكاره ، وحُفَّتْ النار بالشهوات " .
فالجنة تستلزم أن أصبر على مشاقِّ الطاعات ، وأن أُقدِّر الجزاء على العمل ، أستحضره في الآخرة ، فإنْ ضِقْتَ بالطاعات وكذَّبْتَ بجزاء الآخرة ، فَلِمَ العمل إذن؟
ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يجدّ ويجتهد في دروسه ، لأنه يستحضر يوم الامتحان ونتيجته ، وكيف سيكون موقفه في هذا اليوم ، إذن : لو استحضر الإنسانُ الثوابَ على الطاعة لَسهُلَتْ عليه وهانتْ عليه متاعبها ، ولو استحضر عاقبة المعصية وما ينتظره من جزائها لا بتعد عنها .
فالتكاليف الشرعية تستلزم الصبر ، كما قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
فالحق تبارك وتعالى يريد منّا ألاَّ نعزل التكاليف عن جزائها ، بل ضَعِ الجزاء نُصْب عينيك قبل أنْ تُقدِم على العمل .
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أحد صحابته : " كيف أصبحتَ يا حارثة " فيقول : أصبحتُ مؤمناً حقاً ، فقال : " إنَّ لكل حقّ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك " .
قال : عزفتْ نفسي عن الدنيا ، حتى استوى عندي ذهبها ومدرها ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون ، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون " .
فالمسألة إذن في نظرهم لم تكُنْ غيباً ، إنما مشاهدة ، كأنهم يرونها من شدة يقينهم بها؛ لذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفتَ فالزم " .
والإمام علي كرَّم الله وجهه يقول : لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً . لماذا؟ لأنه بلغ من اليقين في الغيب إلى حَدِّ العلم والمشاهدة .
ثم يقول تعالى : { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } [ الفرقان : 75 ] .
التحية أن نقول له : إننا نُحيِّيك يعني : نريد حياتك بأُنْسك بِنَا ، والسلام : الأمان والرحمة ، لكن ممَّنْ يكون السلام؟ ورَدُّ السلام في القرآن الكريم بمعان ثلاثة : سلام من الله ، كما في قوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وسلام من الملائكة : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 2324 ] .
وسلام من أهل الأعراف ، وهم قوم استوتْ حسناتهم وسيئاتهم ، فلم يدخلوا الجنة ، ولم يدخلوا النار ، وهؤلاء يقولون : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ الأعراف : 46 ] .
إذن : فعباد الرحمن يُلَقَّوْن في الجنة سلاماً من الله ، وسلاماً من الملائكة ، وسلاماً من أهل الأعراف .
ثم يقول الحق سبحانه : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ }
(1/6495)

خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
وسبق أنْ قال تعالى عن النار { سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] لأنها قبيحة ، ومقابلها هنا { حَسُنَتْ } [ الفرقان : 76 ] والمستقر : مكان الإقامة العابرة غير الدائمة ، والمقام : مكان الإقامة الدائمة ، ومعلوم أن مَنْ يدخل الجنة يقيم فيها إقامة أبدية دائمة ، أما مَنْ يدخل النار فقد يخرج منها ، إنْ كان مؤمناً . فكيف قال عن كل منهما : مُستقراً ومُقَاماً؟
قالوا : لأنهم ساعةَ يأتيهم نعيم وجزاء نقول لهم : ليس هذا هو النعيم الدائم ، فالمستقر في نعمة واحدة ، إنما المقام في نِعَم أخرى كثيرة مُترقية مُستعلية ، لدرجة أن الكمالات في عطاء الله لا تتناهى .
ثم يُنهي الحق سبحانه سورة الفرقان بقوله تعالى : { قُلْ مَا يَعْبَؤُاُْ بِكُمْ رَبِّي }
(1/6496)

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن عباد الرحمن ، وذكر أوصافهم وجزاءهم توجّه إلى الآخرين الذين لم يتصرفوا بهذه الصفات ولن ينالهم شيء من هذا النعيم ، يقول لهم : إياكم أنْ تظنوا أن الله تعالى سيبالي بكم ، أو يهتم ، أو يكون في معونتكم؛ لأن الله تعالى لا يبالي إلا بعباده الذين عبدوه حَقَّ العبادة ، وأطاعوه حَقَّ الطاعة ، وأنتم خالفتُمْ الأصل الأصيل من إيجاد الخَلْق ، ولم تحققوا معنى الاستخلاف في الأرض الذي خلقكم الله تعالى من أجله .
فكما أنكم انصرفتم عن منهج الله ولم تَعْبئوا به ولم تعبدوه ، ولم يكُنْ على بالكم ، فكذلك لا يعبأ الله بكم ، ولن تكونوا على ذِكْر منه سبحانه ، وسوف يهملكم .
وقوله تعالى : { لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } [ الفرقان : 77 ] يعني : لولا عبادتكم ، حيث إنها لم تقع { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } [ الفرقان : 77 ] أي : بالأصل الأصيل ، وهو أنكم مخلوقون للعبادة { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } [ الفرقان : 77 ] كما لازمتم أنتم الكفر بي ولم تعبدوني وأصررتُم على الكفر ، كذلك يكون الجزاء من جنس العمل لِزاماً لكم ، فلا يُفارقكم أبداً .
(1/6497)

طسم (1)
سبق أن تكلمنا عن الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقلنا فَرْق بين اسم الحرف ومُسمّى الحرف ، مُسمّى الباء مثلاً : بَا أو بُو أو بِي أو إبْ في حالة السكون ، إنما اسمها : باءٌ مفتوحة ، أو مضمومة ، أو ساكنة ، لكن حين تنطق هذا الحرف في كَتَب مثلاً تقول : كَتَبَ فتنطق مُسمَّى الحرف لا اسمه .
وقُلْنا : في هذه المسألة معانٍ كثيرة ، أيسرها : أن القرآن ، وهو كلام الله المعجز مُنزَّل من حروف مثل حروفكم التي تتكلمون بها ، وكلمات مثل التي في لغتكم ، لكن ما الذي جعله متميزاً بالإعجاز عن كلامكم؟ نقول : لأنه كلام الله ، هذا هو الفَرْق ، أمّا الحروف فواحدة .
ولو تأملتَ لوجدتَ أن الحروف المقطعة في أوائل السور مجموعها أربعة عشر حرفاً ، هي نصف الحروف الهجائية ، مرة يأتي حرف واحد ، ومرة حرفان ، ومرة ثلاثة أحرف ، ومرة أربعة أحرف ، ومرة خمسة أحرف . وهذا يدُّلنا على أن القرآن مُعْجِز ، مع أنه بنفس حروفكم ، وبنفس كلماتكم .
وسبق أن ضربنا لتوضيح هذه المسألة مثلاً : هَبْ أنك أردت أن تختبر جماعة في إجادة النسج مثلاً ، فأعطيت أحدهم صوفاً ، وللثاني حريراً ، وللثالث قطناً ، وللرابع كتاناً ، فهل تستطيع أن تحكم على دِقَّة نَسْج كل منهم وأيهما أرقّ وأجمل؟ بالطبع لا تستطيع؛ لأن الحرير أنعم وأرقّ من القطن ، والقطن أرقّ من الصوف ، والصوف أرقّ من الكتان ، فإنْ أردتَ تمييز الدقة والمهارة في هذه الصنعة فعليك أنْ تُوحِّد النوع .
إذن : سِرّ الإعجاز في القرآن أن تكون مادته ومادة غيره من الكلام واحدة ، حروفاً وكلمات؛ لذلك كثيراً ما يقول الحق تبارك وتعالى بعد الحروف المقطعة : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين }
(1/6498)

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
أي : أن الكتاب المبين مُكوَّن من مثل هذه الحروف ، ولله تعالى معَانٍ أخرى ، فيها مرادات له سبحانه ، لعلّ الزمن يكشف لنا عنها . . والقرآن كلام الله ، وصفاته لا تتناهى في الكمال ، فإنِ استطعتَ أن تصف الأشياء ، هذا كذا ، وهذا كذا فهذه طاقة البشر والعقل البشري . أمّا آيات الله في كتابه المبين فهي الآيات الفاصلة التي لها بَدْء ولها ونهاية ، وتتكوّن منها سور القرآن .
ومعنى { المبين } [ الشعراء : 2 ] الواضح المحيط بكل شيء ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ }
(1/6499)

لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
هذه هي التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه حمّل نفسه في تبليغ الرسالة فوق ما يُطيق ، وفوق ما يطلبه الله منه حِِرْصاً منه على هداية الناس ، وإرجاعهم إلى منهج الله؛ ليستحقوا الخلافة في الأرض ، ولأن من شروط الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك .
والحق تبارك وتعالى يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال له في سورة الكهف : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ لكهف : 6 ] .
كأن ترى ولدك يُرهق نفسه في المذاكرة ، فتشفق عليه أنْ يُهلك نفسه ، فأنت تعتب عليه لصالحه ، كذلك الحق تبارك وتعالى يعتب على رسوله شفقة وخوفاً عليه أنْ يُهلِك نفسه .
ومعنى { بَاخِعٌ } [ الشعراء : 3 ] البخع : الذَّبْح الذي لا يقتصر على قَطْع المرىء والودجين ، إنما يبالغ فيه حتى يفصل الفقرات ، ويخرج النخاع من بينها ، والمعنى : تحزن حزناً عميقاً يستولي على نفسك حتى تهلك ، وهذا يدل على المشقة التي كان يعانيها الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه له .
وفي موضع آخر ، يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] فهذا أمر نهائي واضح ، ونَهْي صريح ، بعد أنْ لفتَ نظره بالإنكار ، فقال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [ الشعراء : 3 ] .
وقد نبّه الله تعالى رسوله في عِدّة مواضع حتى لا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها ، فقال الحق سبحانه وتعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] .
وقال : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] .
وقال : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] .
فالحق تبارك وتعالى يقول لرسوله : يسِّر على نفسك ، ولا تُكلِّفها تكليفاً شاقّاً مُضْنياً ، والعتاب هنا لصالح الرسول ، لا عليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء }
(1/6500)

إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
والآية هنا ليست آيةَ إقناع للعقول ، إنما آية تُرْغمهم وتُخضع رقابهم ، وتُخضع البنية والقالب ، وهذا ليس كلاماً نظرياً يُقال للمكذبين ، إنما حقائق وقعتْ بالفعل في بني إسرائيل . واقرأ إنْ شئت قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } [ الأعراف : 171 ] .
فأخذوا ما آتيناهم بقوة ، لماذا؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعتْ قوالبهم ، لكن الحق تبارك وتعالى كما قلنا لا يريد بالإيمان أنْ يُخضع القوالب ، إنما يريد أن يُخضع القلوب باليقين والاتباع .
فلو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعاً ، لا يتخلف منهم أحد ، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلاً وعصمهم ، ولم يجعل للشيطان سبيلاً عليهم ، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهّد أن يُغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] .
والشيطان نفسه يقول : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 8283 ] .
إذن لو أراد سبحانه لجعلَ الناس جميعاً مؤمنين وما عَزَّ عليه ذلك ، لكنه أراد سبحانه أن يكون الإيمان باختيار المؤمن ، فيأتي ربه طواعية مختاراً .
حتى في أمور الدنيا وأهلها ، قد ترى جباراً يضرب الناس ، ويُخضعِهم لأمره ونهيه ، فيطيعونه طاعةَ قوالب ، إنما أيستطيع أنْ يُخضِع بجبروته قلوبهم؟!
وقال : { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] خَصَّ الأعناق؛ لأنها مظهر الخضوع ، فأول الخضوع أنْ تلوى الأعناق ، أو الأعناق تُطلَق عند العرب على وجوه القوم وأعيانهم؛ لذلك يقولون في التهديد : هذه مسألة تضيع فيها رقاب .
والمراد : الرقاب الكبيرة ذات الشأن ، لا رقاب لمامة القوم ، والضعفاء ، أو العاجزين . ومثلها كلمة صدور القوم يعني : أعيانهم والمقدَّمين منهم الذين يملأون العيون .
والمعنى : فأنت لا تُخضِع الناس؛ لأني لو أردتُ أنْ أُخضعهم لأخضعتُهم؛ لذلك يقول تعالى في آية آخرى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] .
فإذا كان ربك لا يُكرِه الناسَ على الإيمان ، أفتُكرههم أنت؟ ولماذا الإكراه في دين الله؟ : إن الحق تبارك وتعالى يوالي تنزيل القرآن عليهم آية بعد آية فلعل نجماً من نجومه يصادف فراغاً ، وقلباً صافياً من الموجدة على رسول الله فيؤمن .
لكن هيهات لمثل هؤلاء الذين طُبِعوا على اللدد والعناد والجحود أن يؤمنوا؛ لذلك يقول الله عنهم : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .
وقال عنهم : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ }
(1/6501)

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
قوله : { مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] يعني : جديد على أذهانهم؛ لأننا لا نلفتهم بآية واحدة ، بل بآيات الواحدة تلو الأخرى : { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [ الشعراء : 5 ] .
فكلما جاءتهم آية كذَّبوها ، وهذا دليل على اللدد والعداوة التي لا تفارق قلوبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بحيث لا يصادف نجم من القرآن قلوباً خالية ، فكأن عداوتهم لك يا محمد منعتْهم من الإيمان بالقرآن ، فهم مستعدون للإيمان بالقرآن إنْ جاء من غيرك .
أليسوا هم القائلين : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
إذن : فاللدَد والخصومة ليستْ في منهج الله ، إنما في شخص رسول الله؛ لذلك ربُّك يُعزِّيك ويحرص عليك : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ } [ الأنعام : 33 ] مرة ساحر ، ومرة مجنون . . إلخ . انظر إلى التسلية : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } [ الأنعام : 33 ] فأنت عندهم صادق أمين { ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .
وقوله تعالى : { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [ الشعراء : 5 ] أي : في غباء ولَدَد ، وهل هناك أشدّ لَدَداً من قولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
بدل أن يقولوا : اهدنا إليه!!
(1/6502)

فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
أي : كلما جاءهم ذِكْر من الرحمن ، وآية من آياته أصرُّوا على تكذيبها { فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الشعراء : 6 ] .
كما جاء في آيات أخرى : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] .
وقال : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] .
يعني : غداً تعلمون عاقبة تكذيبكم ، فآيات الله تسير أمامكم ، فكلُّ يوم يزداد المؤمنون بمحمد ، ويتناقص عدد الكافرين ، كل يوم تزداد أرض الإيمان ، وتتراجع أرض الكفر .
ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى لهم : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } [ الأنبياء : 44 ] .
فهذه إذن مقدمات تروْنها بأعينكم ، وكان ينبغي عليكم أن تأخذوا منها عبرةً وعظة ، فبوادر نجاح الدعوة وظهور الدين واضحة ، هذا معنى : { فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الشعراء : 6 ] .
فليتهم اقتصروا على التكذيب والإصرار عليه ، إنما تعدّى الأمر منهم إلى الاستهزاء بالرسل وبكلام الله ، ألم يقولوا على سبيل الاستهزاء : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض }
(1/6503)

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
لَمَّا لم يفلح الذكر المُحْدث والآيات المتجددة مع هؤلاء المعاندين فلم يَرْعَوُوا . ردَّهم الله تعالى إلى الآيات الكونية الظاهرة لهم والتي سبقتهم في الوجود ، آيات في السماء : الشمس والقمر والنجوم ، وآيات في الأرض : البحار والقفار والجبال والنبات والحيوان .
وكلها آيات كونية لم يدَّعها أحد منهم ، بل جاء الإنسان إلى الوجود وطرأ عليها ، وقد سبقتْه هذه الآيات التي يراها : الكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، والعاقل وغير العاقل ، أَلاَ ينظرون فيها نظرةَ اعتبار ، فيسألون عن مبدعها؟
ضربنا لذلك مثلاً بالإنسان الذي انقطعتْ به السُّبُل في صحراء جرداء حتى أشرف على الهلاك ، فأخذته سِنَة فنام ، ولما استيقظ وجد في هذا المكان المنقطع مائدةً ، عليها أطايب الطعام والشراب ، أَلا ينبغي عليه قبل أنْ تمتدَّ يده إلى هذا الطعام أن يسأل نفسه من الذي أعده له؟
كذلك الإنسان طرأ على كوْن مُعَدٍّ لاستقباله ، وعلى وجود لا تتناوله قدرته ، ولا سلطانَ له عليه ، فهو لا يتناول الشمس مثلاً ليُوقِدها ولم يدَّعِ هذه الآيات الكونية أحد ، أَلاَ يدلّ ذلك على الخالق عزَ وجل ويُوجِب علينا الإيمان به؟
لذلك يقول سبحانه { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] .
وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] .
ولو تأمل الإنسان في ( اللمبة ) الصغيرة التي تضيء غرفة ، ولها عمر افتراضي لا يتعدَّى عدة أشهر وهي عُرْضَة للكسر وللأعطال ، ومع ذلك تكاتف في صناعتها فريق من المهندسين والعمال والفنيين ، وكثير من الآلات والعِدَد ، ومع ذلك نُؤرِّخ لمخترع المصباح ، ونعرف تاريخه ، وكيفية صنعه . . الخ . نعرف مخترع ( التلفون والراديو ) و . .
أليس من الأَوْلَى أن ننظر ونتأمل في خَلْق الشمس ، هذا الكوكب العظيم الذي يضيء الدنيا كلها ، دون وقود ، أو قطعة غيار ، أو عُطْل طِوَال هذه المدَد المتعاقبة؟
فإذا ما جاء رسول ، وقطع على الناس هذه الغفلة ، وقال لهم : أَلاَ أُنبّئكم بمَنْ خلق كل هذا؟ إنه الله . كان يجب عليهم أنْ يُعيروه آذانهم ويؤمنوا .
هنا يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض } [ الشعراء : 7 ] وهي آية ظاهرة أمام أعينهم ، يروْنَها هامدة جرداء مُقْفرة ، فإذا نزل عليها الماء أحياها الله بالنبات ، ألم ينظروا إلى الجبال والصحراء بعد نزول المطر ، وكيف تكتسي ثوباً بديعاً من النبات بعد فَصْل الشتاء .
ألم يسألوا أنفسهم : مَنْ نقل هذه البذور وبذرها في الجبال؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] .
وقوله تعالى هنا : { كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] كم : خبرية تفيد الكثرة ، جاءت بصيغة الاستفهام للتقرير ، كما تقول لصاحبك : كم أحسنتُ إليك ، بدل أنْ تُعدِّد مظاهر إحسانك إليه ، فتسأله لأنك واثق أن الإجابة في صالحك ، فالكلام بالإخبار دَعْوى منك ، لكن الإجابة على سؤال إقرار منه .
(1/6504)

فالمعنى : أن نبات الأرض كثير يفوق الحصر .
والزوج : الصنف ، والزوج أيضاً الذكر أو الأنثى ، والبعض من العامة يظن أن الزوج يعني الاثنين وهذا خطأ ، فالزوج واحد معه مثله ، كما في قوله سبحانه : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 143144 ] .
فهذه أربعة أصناف ، فيها ثمانية أزواج ، فالزوج فرد واحد معه مثله ، فلا تقول زوج أحذية . بل زَوْجَا أحذية . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] .
وكذلك النبات لا بُدَّ فيه من ذكورة وأنوثة ، وإنْ كانت غير واضحة فيه كله كما هي واضحة مثلاً في النخل ، ففيه ذكر نُلقِّح منه الأنثى لتثمر ، وكذلك شجرة الجميز منها ذكر وأنثى . لكن لم نَرَ ذكورة وأنوثة في الجوافة مثلاً أو في الليمون ، لماذا؟
قالوا : مرة توجد الذكورة والأنوثة في الشيء الواحد كعود الذرة مثلاً ، قبل أنْ يُخرِج ثمرته تخرج سنبلة في أعلاه تحمل لقاح الذكورة ، وحينما يهزها الريح يقع اللقاح على شُرَابة ( كوز ) الذرة ، وتتم عملية التلقيح . وقد تكون الذكورة والأنوثة في شيء لا تعرفه أنت كالمناجو والتفاح مثلاً ، فلم نعلم لها ذكراً وأنثى .
لكن الحق تعالى قال : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] .
وقال : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] .
ثم وصف الزوج بأنه { كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] فماذا يعني الكرم هنا؟ قالوا : لأنك إذا أخذتَ الثمرة الواحدة ونظرت وتأملتَ فيها لوجدتَ لها صفات متعددة ونِعَماً كثيرة ، كما قال سبحانه : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وهي نعمة واحدة بصيغة المفرد ولم يقل نعم الله .
قالوا : لأن الحق عزّ وجلَّ يريد أن يلفتنا إلى أن كل نعمة واحدة لو استقصيتَ عناصرها وتكوينها لوجدتَ في طياتها نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى .
فمعنى { كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] يعني : كثير العطاء وكثير الخيرات .
(1/6505)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } [ الشعراء : 8 ] أي : في آية الإنبات ، وكل زوج كريم يخرج من الأرض { لآيَةً } [ الشعراء : 8 ] شيء عجيب ودلالة واضحة على مُكوِّن حكيم يعمل الشيء بقصد ونظام ، ينبغي أن تلفتنا إلى قدرة الخالق عز وجل .
{ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 ] يعني : مع كل هذه الآيات لم يؤمنوا ، إلا القليل منهم كما قال تعالى في آية أخرى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] مع أنك لو تأملتَ آية واحدة لكانت كافية لأنْ تلفتك إلى الله .
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدلُّ عَلَى أَنَّه الوَاحِدُ
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم }
(1/6506)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة { العزيز } [ الشعراء : 9 ] بعد أن قال { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 ] لنعلم أن الذين كفروا لم يكفروا رَغْماً عن الله ، إنما كفروا بما أودع الله فيهم من الاختيار .
فهو سبحانه الذي أعانهم عليه لَمَّا أحبوه وأصروا عليه؛ لأنه تعالى ربُّهم ، بدليل أنه تعالى لو تركهم مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئاً يخالف منهج الله أبداً ، وبدليل أنهم مجبرون الآن على أشياء ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة ، ومع ذلك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج على شيء من ذلك .
فمع إِلْفهم العناد والتمرد على منهج الله ، أيستطيع أحدهم أنْ يتأبَّى على المرض ، أو على الموت ، أو على الأقدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم يوم مولده مثلاً ، أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو قوته أو ذكاءه؟
لكن لما أعطاهم الله الصلاحية والاختيار اختاروا الكفر ، فأعانهم الله على ما أحبُّوا ، وختم على قلوبهم حتى لا يخرج منها كفر ، ولا يدخلها إيمان .
وكلمة { العزيز } [ الشعراء : 9 ] تعني : الذي لا يُغلَب ولا يُقْهر ، لكن هذه الصفة لا تكفي في حقَّه تعالى؛ لأنها تفيد المساواة للمقابل ، فلا بُدَّ أنْ نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضاً .
لذلك يقول سبحانه وتعالى : { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } [ يوسف : 21 ] فالله تعالى عزيز يَغْلِب ولا يُغْلَب .
ومثال ذلك قوله تعالى : { يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] .
ثم يذكر سبحانه بعدها صفة الرحمة ، فهو سبحانه مع عزته رحيم ، إنه تعالى رحيم حين يَغْلب ، ألم يتابع لهم الآيات ويَدْعُهم إلى النظر والتأمل ، لعلَّهم يثوبون إلى رُشْدهم فيؤمنوا؟ فلما أصرُّوا على الكفر أمهلهم ، ولم يأخذهم بعذاب الاستئصال ، كما أخذ الأمم الأخرى حين كذَّبتْ رسلها .
كان الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم يُبلِّغون الدعوة ، ويُظهرون المعجزة ، فمَنْ لم يؤمن بعد ذلك يعاقبه الله ، كما قال سبحانه : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } [ العنكبوت : 40 ] .
أمَّا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى في شأنها : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
وقال هنا : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } [ الشعراء : 9 ] فالحق تبارك وتعالى في كل هذه الآيات يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويعطيه عبرةً من الرسل الذين سبقوه ، فليس محمد بِدْعاً في ذلك ، ألم يقل له ربه : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] فالمسألة إذن قديمة قِدَم الرسالات .
لذلك ، يأخذنا السياق بعد ذلك إلى موكب النبوات ، فيذكر الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم طرفاً من قصة نبي الله موسى : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى }
(1/6507)

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
الحق تبارك وتعالى يقصُّ على رسوله قصص الأنبياء ، وهو أحسن القصص لحكمة : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمعارك كثيرة مع الكفر ، فكان يحتاج إلى تثبيت مستمر كلما تعرض لشدة؛ لذلك تكرر القصص القرآني لرسول الله على مدى عمر الدعوة ، والقصص القرآني لا يراد به التأريخ لحياة الرسل السابقين ، إنما إعطاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم عِبرةً وعظة بمَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لذلك كانت القصة تأتي في عدة مواضع ، وفي كل موضع لقطة معينة تناسب الحدث الذي نزلت فيه .
وهنا يقول سبحانه : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } [ الشعراء : 10 ] يعني : اذكر يا محمد ، إذ نادى ربك موسى أي : دعاه . لكن لماذا بدأ بقصة موسى عليه السلام بالذات؟
قالوا : لأن كفار مكة كفروا بك أنت ، فلا تحزن؛ لأن غيرهم كان أفظع منهم ، حيث ادعى الألوهية ، وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] .
والسياق هنا لم يذكر : أين ناداه ربه ، ولا متى ناداه ، وبدأ الحوار معه مباشرة ، لكن في مواضع أخرى جاء تفصيل هذا كله .
ثم يأتي الأمر المباشر من الله تعالى لنبيه موسى : { أَنِ ائت القوم الظالمين } [ الشعراء : 10 ] أي : الذين ظلموا أنفسهم ، بأنْ جعلوا لله تعالى شريكاً ، والشرك قِمَّة الظلم { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
ولم يُبيِّن القرآن مَنْ هم هؤلاء الظالمون؛ لأنهم معروفون مشهورون ، فهم في مجال الشرك أغنياء عن التعريف ، بحيث إذا قلنا { القوم الظالمين } [ الشعراء : 10 ] انصرف الذِّهْن إليهم ، إلى فرعون وقومه؛ لأنه الوحيد الذي تجرّأ على ادعاء الألوهية ، وبعد أنْ ذكرهم بالوصف يُعيِّنهم : { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ }
(1/6508)

قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
أي : قُلْ لهم يا موسى ألا تتقون ربكم؟ واعرض عليهم هذا العرض؛ لأن الطلب يأتي مرة بالأمر الصريح : افعل كذا ، ومرة يتحنّن إليك بأسلوب العرض ، ألا تفعل كذا؟ على سبيل الاستفهام والعرض والحضِّ .
والمعنى : ألا يتقون الله في ظلمهم لأنفسهم باتخاذهم مع الله شريكاً ولا إله غيره ، وظلموا بني إسرائيل في أنهم يُذبِّحونَ أبناءهم ويستحيُون نساءهم .
لكن ، لماذا تكلم عن قوم فرعون أولاً ، ولم يعرض عليه هو أولاً ، وهو رأس الفساد في القوم؟
ويجيب على هذا السؤال المثل القائل ( يا فرعون ماذا فرعنك؟ قال : لأنني لم أجد أحداً يردني ) فلو وقف له قومه ورَدَعوه لارتدع ، لكنهم تركوه ، بل ساروا في رَكْبه إلى أنْ صار طاغية ، وأعانوه حتى أصبح طاغوتاً .
فقال موسى : { قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ }
(1/6509)

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
لما دعا الحق تبارك وتعالى ، نبيه موسى عليه السلام لأنْ يذهب إلى قوم فرعون لم يبادر بالذهاب ، إنما أبدى لربه هواجس نفسه وخلجاتها؛ لأنه يعلم مُقدَّماً مشقة هذه المهمة ، فقد عاش مع فرعون ويعلم طبيعته ، فقال : { إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ الشعراء : 12 ] وكيف لمن يدّعي الألوهية أنْ يسمع لرسول؟
ويُرْوَى أنه في عهد الخليفة المأمون ادَّعَى أحدهم النبوة ، فحبسوه ، ثم ادعاها آخر فقال : اجمعوا بينهما حتى يواجه أحدهما الآخر ، فلما حضرا قالوا : يا هذا إن هذا الرجل يدَّعي النبوة ، فقال : كذب ، أنا لم أُرسِل أحداً . وهكذا جعل من نفسه إلهاً بعد أن كان نبياً .
ويواصل موسى الحديث عن مخاوفه : { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي }
(1/6510)

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
يضيق صدري ساعةَ يكذّبونني ، وضيق الصدر ينتج عنه أن أتلجلج وأتعصب ، فلا أستطيع أن أتكلم الكلام المُقْنِع؛ ذلك لأنني سأشاهد باطلاً واضحاً يُجابه حقاً واضحاً ، ولا بُدَّ أنْ يضيق صدري بذلك ، خاصة وأن موسى عليه السلام سابقه في مسألة الكلام .
لذلك قال : { فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ } [ الشعراء : 13 ] وفي آية أخرى : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ] .
يعني : مساعداً لي يتكلم بدلاً عني ، إنْ عجز لساني عن الكلام ، وهذا يدل على حرصه عليه السلام على تبليغ دعوة ربه إلى فرعون وقومه .
وعليه ، فقد كان موسى وهارون كلاهما رسول ، إلا أن القرآن قال مرة عنهما : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] بصيغة المفرد ، وقال مرة أخرى : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] بصغية المثنى .
الرسول : هو المرسَل من شخص لآخر ، سواء كان واحداً أو مُثَنى أو جمعاً .
ومعلوم أن الإنسان يحتاج لا ستبقاء حياته طعاماً وشراباً ، وقبل ذلك وأهمَ منه يحتاج لاستبقاء نفسه ، أَلاَ تراه يصبر على الطعام ، ويصبر على الشراب ، لكنه لا يصبر بحال على الهواء ، فإنْ حُبِس عنه شهيق أو زفير فارق الحياة؟
وسبق أن قلنا : إن من رحمة الله تعالى بنا أنْ يُملِّك الطعام كثيراً ، وقليلاً ما يُملِّك الماء ، لكن الهواء لا يُملّكه الله لأحد ، لماذا؟ لأنه لو ملَّك عدوك الهواء فمنعه عنك ، فسوف تموت قبل أنْ يرضى عنك ، بالإضافة إلى أن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة ، وعليه تقوم حركاتها .
ونلحظ أن الإنسان إذا صعد مكاناً عالياً ( ينهج ) ، وتزداد ضربات قلبه وحركة تنفسه ، لماذا؟ لأن الحركة تحتاج لكثير من الهواء ، فإنْ قَلَّ الهواء يضيق الصدر؛ لأنه يكفي فقط لا ستبقاء الحياة ، لكنه لا يكفي الحركة الخارجية للإنسان .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ }
(1/6511)

وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
وليت المسألة تقف بين نبي الله موسى وبين قومه عند مسألة الكلام ، إنما لهم عنده ثَأْرٌ قديم؛ لأنه قتل منهم واحداً ، وإنْ كان عَنْ غير قصد ، كما قال تعالى في آية أخرى : { فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } [ القصص : 15 ] فأخاف أنْ يقتلوني به .
فيقول الحق سبحانه لموسى وهارون : { قَالَ كَلاَّ فاذهبا }
(1/6512)

قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
( كَلاَّ ) تفيد نَفْي ما قبلها ، وقبلها مسائل ثلاث : { أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ الشعراء : 12 ] ، { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } [ الشعراء : 13 ] ، { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 14 ] فعلى أيٍّ منها ينصَبُّ هذا النفي؟
النفي هنا يتوجَّه إلى ما يتعلق بموسى عليه السلام لا بما يتعلق بالقوم من تكذيبهم إياه ، يقول له ربه : اطمئن ، فلن يحدث شيء من هذا كله . ولا ينصبُّ النفي على تكذيبهم له؛ لأنه سيُكذَّب؛ لذلك نرى دقة الأداء القرآني حيث جاءت { أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ الشعراء : 12 ] في نهاية الآية ، وبعدها كلام جديد { وَيَضِيقُ صَدْرِي } [ الشعراء : 13 ] وهو المقصود بالنفي .
وقد بيَّنَتْ سورة الفجر معنى ( كلا ) بوضوح في قوله تعالى { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 1516 ] .
فيقول تعالى بعدها رداً عليها { كَلاَّ } [ الفجر : 17 ] يعني : ليس الإعطاء دليلَ إكرام ، ولا المنعُ دليلَ إهانة ، إنما المراد الابتلاء بالنعمة وبالنقمة .
وكيف يكون الأمر كما تظنون ، وقد أعطاكم الله فبخلتُم ، وأحببتم المال حُبّا جماً ، فلم تنفقوا منه على اليتيم أو المسكين ، بل تنافستُم في جَمْعه حتى أكلتم الميراث ، وأخذتم أموال الناس .
إذن : فالمال الذي أكرمكم الله به لم يكُنْ نعمة لكم؛ لأنكم جعلتموه نقمة ووبالاً ، حين أُعطيتم فمنعتم .
وكلمة ( كَلاَّ ) هذه أصبح لها تاريخ مع موسى عليه السلام فقد تعلَّمها من ربه ، ووعى درسها جيداً ، فلما حُوصِر هو وأتباعه بين البحر من أمامهم ، وفرعون وجنوده من خلفهم ، حتى أيقن أتباعه أنهم مُدْركون هالكون ، قالها موسى عليه السلام بملء فيه { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
وقوله تعالى : { فاذهبا بِآيَاتِنَآ } [ الشعرءا : 15 ] الآيات هنا يُقصَد بها المعجزات الدالة على صِدْقهما في البلاغ عن الله ، وهي هنا العصا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } [ الشعراء : 15 ] كما قال لهما في موضع آخر : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] .
فمرّة يأتي بالسمع فقط ، ومرّة بالسمع والرؤية ، لماذا؟ لأن موقفه مع فرعون في المقام الأول سيكون جدلاً ونقاشاً ، وهذا يناسبه السمع ، وبعد ذلك ستحدث مقامات في ( فعل ) و ( عمل ) في مسألة السحر وإلقاء العصا ، وهذا يحتاج إلى سمع وإلى بصر؛ لأن الإيذاء قد يكون من السمع فقط في أول اللقاء ، وقد يكون من السمع والعين فيما بعد .
(1/6513)

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
وسبق أن قال سبحانه : { أَنِ ائت القوم الظالمين * قَوْمَ فِرْعَوْنَ } [ الشعراء : 1011 ] فذكر قومَ فرعن أولاً؛ لأنهم سبب فرعنته ، حين سمعوا كلامه وأعانوه عليه ، وهنا يُذكِّره { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ } [ الشعراء : 16 ] لأن حين يُهزَم فرعون يُهزَم قومه الذين أيَّدوه ، فالكلام هنا مع قمة الكفر مع فرعون .
{ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] إنَّا : جمع يُقَال للمثنى ، ومع ذلك جاءت رسول بصيغة الإفراد ، ولم يقُل : رسُولا؛ لأن الرسول واسطة بين المرسَل والمرسَل إليه ، سواء أكان مفرداً أو مُثَنى أو جمعاً .
وكلمة { إِنَّا } [ الشعراء : 16 ] سيقولها موسى وهارون في نَفَس واحد؟ لا ، إنما سيتكلم المقدَّم منهما ، وينصت الآخر ، فيكون كمنْ يُؤمِّن على كلام صاحبه . ألاَ ترى القرآن الكريم حينما عرض قضية موسى وقومه يوضح أن فرعون علا في الأرض واستكبر . . الخ .
حتى دعا عليهم : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
هذا كلام موسى عليه السلام فردّ الله عليه : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] بالمثنى مع أن المتكلم واحد . قالوا : لأن موسى كان يدعو ، وهارون يُؤمِّن على دعائه ، والمؤمِّن أحد الداعيين ، وشريك في الدعوة .
فما مطلوبك يا رسول رب العالمين؟ { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا }
(1/6514)

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
فالأصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب ، ثم يُبلِّغهم منهج الله ، ويأخذ أيديهم إليه ، وجاءت دعوة فرعون للإيمان ونقاشه في ادعائه الألوهية تابعة لهذا الأصل .
وفي موضع آخر : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } [ طه : 47 ] .
إذن : فتلوين الأساليب في القصص القرآني يشرح لقطاتٍ مختلفة من القصة ، ويُوضِّح بعض جوانبها ، وإنْ بدا هذا تكراراً في المعنى الإجمالي ، وهذا واضح في وقوله تعالى في أول قصة موسى عليه السلام : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
وفي أية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] وكأن الله تعالى يقول : ستأخذونه ليكون قُرَّة عين لكم ، إنما هو سيكون عدواً .
والله تعالى يقول : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] ففرعون في حين كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل ، ويستحيي البنات ، جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللافتة للنظر ، فكان عليهم أنْ يفهموا أن مَنْ أُلقِي في التابتوت وفي اليمِّ بافتعال ، هو بهدف نجاته من القتل ، فلو كان فرعون إلهاً ، فكيف مرّت عليه هذه الحيلة وجازتْ عليه؟
وهذا يدل على أن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم ، وحال بين المرء وقلبه ، ويدل على غباء قومه؛ لأنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعون في ادعائه الألوهية .
فكان ردّ فرعون على موسى عليه السلام : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً }
(1/6515)

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
يريد فرعون أنْ يُذكِّر موسى بما كان من أمر تربيته في بيته لعدة سنوات ، حتى شَبَّ وكبر ، وكأنه يُوبِّخه كيف يقف منه هذا الموقف العدائي بعدما كان منه .
{ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] ويقال : إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سِنِّ الثامنة عشرة ، أو سِنِّ الثلاثين ، فالمعنى أنه ربَّاه ولبث معه أيضاً عدة سنوات .
والمتأمل في هذه الحجة التي يظنها فرعون لصالحه يجد أنها ضده ، وأنها تكشف عن غبائه ، فلو كان إلهاً كما يدعي لعرف أن هلاكه سيكون على يدي هذا الطفل الذي ضَمَّه إليه ورعاه .
(1/6516)

وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
والمراد بالفِعْلة قتل موسى عليه السلام للرجل الذي وكزه فمات { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } [ الشعراء : 19 ] يصح من الكافرين بألوهية فرعون ، أو من الجاحدين لنعمنا عليك وتربيتنا لك .
لذلك العقلاء يروْنَ أن الإنسان حين يربي الأولاد ويراهم كما يحب ، فليعلم أنه توفيق وعناية من الله تعالى ، بدليل أن الأبناء يُربَّون في بيئة واحدة ، وربما كانا توأميْن ، ومع ذلك ترى أحدهما صالحاً والآخر طالحاً ، فالمسألة عناية إلهية عليا ، وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال :
إِذَا لَمْ تُصاَدِفَ في بَنيكَ عِنَايةً ... فقَدْ كذَبَ الراجي وخَابَ المؤَمَّلُ
فمُوسى الذِي رَبَّاه جِبْريلُ كَافِرٌ ... ومُوسَى الذي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَلُ
والمراد موسى السامري صاحب العجل ، وقد وضعته أمه في صحراء وماتت ، فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام يرعاه ويُربِّيه . ولا تأتي هذه المفارقات إلا بعناية الله سبحانه .
(1/6517)

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
يقول موسى عليه السلام : أنا لا أنكر أنني قتلتُ ، لكنني قتلتُ وأنا من الضالين . يعني : الجاهلين بما يترتب على عملية القتل ، وما كنت أعتقدُ أبداً أن هذه الوَكْزة ستقضي على الرجل .
فكلمة { الضالين } [ الشعراء : 20 ] هنا لا تعني عدم الهدى ، فمن هذا المعنى للضلال قولهم : ضَلَّ الطريق ، وهو لم يتعمد أن يضل ، إنما تاه رَغْماً عنه .
ومنه قوله تعالى في الشهادة : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } [ البقرة : 282 ] .
وقوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } [ الضحى : 7 ] أي : متحيراً بين الباطل الذي يمارسه قومه ، وبين الحق الذي لا يجد له بينة .
(1/6518)

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
{ حُكْماً } [ الشعراء : 21 ] أي : أنْ أضع الأشياء في مواضعها ، وجاءت هذه الكلمة بعد { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] كأنه يقول : أنا وكزتُ الرجل ، هذا صحيح ، فمات ، وهذا خطأ غير مقصود وإنني مظلوم فيه؛ لأن الله قد أعطاني حكماً وقدرة لأضع الأشياء في محلها .
ليس هذا فحسب ، إنما أيضاً : { وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين } [ الشعراء : 21 ] .
(1/6519)

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
يعني : ما مَّن به فرعون على موسى من قوله :
{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ } [ الشعراء : 1819 ] .
كأنه يقول له : أتمُنُّ عليَّ بهذه الأشياء ، وتذكر هذه الحسنة ، وهي لا تساوي شيئاً لو قارنتَها بما حدث منك من استعباد بني إسرائيل وتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم ، وتسخيرهم في خدمتك .
وقتل الذّكْران واستحياء الإناث ، لا يعني الرأفة بهن ، إنما يعني لَهُنَّ الذلة والهوان ، حين لا تجد المرأة من محارمها مَنْ يحميها أو يدافع عنها ، فتبقى بعد الرجال في هوان وذِلَّة في خدمة فرعون .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين }
(1/6520)

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
يعني : مسألة جديدة هذه الذي جئتَ بها يا موسى ، فمن رَبُّ العالمين الذي تتحدث عنه؟
(1/6521)

قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
لأن السماوات بما فيها من كواكب ونجوم وشمس وقمر وأفلاك وأبراج ، والأرض وما فيها من بحار وأنهار وجبال وقِفَار ونبات وحيوان وإنسان . قد وُجِدتْ قبل أن توجد أنت أيها الإله الفرعون!!
إذن : رَدَّ عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه ، وقبل مولده . وكأن المعنى المراد لموسى عليه السلام : أخبرني يا فرعون ، يا مَنْ تدعي الألوهية ، ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له؟ وإنْ كان هذا الكون كله بسمائه وأرضه لله رب العالمين ، فماذا فعلتَ أنت؟
ولم يقتصر على السماوات والأرض ، وإنما { وَمَا بَيْنَهُمَآ } [ الشعراء : 24 ] أي : من هواء وطير يَسْبح في الفضاء ، وكانوا لا يعرفون ما نعرفه الآن من أسرار الهواء ، وانتقال الصوت والصورة من خلاله ، ففي جَوِّ السماء فيما بين السماء والأرض من الأسرار ما يستحق التأمل .
ثم يتلطف معهم فيقول : { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } [ الشعراء : 24 ] يعني : إنْ كنتم موقنين بأن هذه الأشياء لم يخلقها إلا الله .
ثم يقول الحق سبحانه ذاكراً جدال فرعون ، فقال : { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ }
(1/6522)

قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
يقول فرعون لمن حوله من أتباعه الذين أقروا له بالألوهية : ألا تستمعون لما يقول؟ يعني : موسى عليه السلام . وهذه الكلمة لا يقولها فرعون إلا إذا أحسَّ من قومه ارتياحاً لما قاله موسى من نَفْي الربوبية والألوهية عن فرعون ونسبتها لله تعالى ، خالق السموات والأرض .
وكان فرعون ينتظر من قومه أنْ يتصدَّوْا لما يقوله موسى ، فينهروه ويُسْكِتوه ، لكن لم يحدث شيء من هذا ، مما يدل على أنهم كانوا يتمنْونَ أن ينتصر موسى ، وأن يندحر فرعون؛ لأنه كبت حرياتهم وآراءهم ، كما كانوا يعرفون كذبه وينتظرون الخلاص منه .
بدليل ما حكاه القرآن عن الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون ، وبدليل الذين أتوا فيما بعد وحَسَّنوا له مسألة السحرة وهم يريدون أن يُهزَم .
وقبل أنْ يردَّ أحد من قوم فرعون بادرهم موسى عليه السلام : { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ }
(1/6523)

قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
هنا ينقل موسى عليه السلام فرعونَ من الجو الكوني المحيط به في السماء والأرض وما بينهما إلى ذات نفسه ، يقول له : إنَّ لك آباء قبل أنْ تُولد ، وقبل أن تدعي الألوهية ، فمن كان ربهم؟
فلما ضَيَّق موسى عليه السلام الخناق على فرعون ، أراد أنْ يخرج من هذا الجدل وهذه المناظرة الخاسرة فقال محاولاً إنقاذ موقفه : { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ }
(1/6524)

قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
وهذه العبارة من فرعون تفضح المتكلِّم بها ، فقد شهد لموسى بأنه رسول ، وخانه لفظه من حيث لا يدري .
(1/6525)

قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
يرد موسى عليه السلام بحجة أخرى ، لكن يختمها هذه المرة بقوله : { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [ الشعراء : 28 ] وقد قال في سابقتها { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } [ الشعراء : 24 ] كأنه يقول لفرعون : ما دام قد وصل بك الأمر لأنْ تتهمني بالجنون فلن أقول إنْ كنتم موقنين ، إنما إنْ كنتم تعقلون ، فجاء بمقابل الجنون .
فيُنهي فرعون هذا النقاش ، ويأتي بخلاصة الأمر كما يرى ، فيقول : { قَالَ لَئِنِ اتخذت }
(1/6526)

قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
وهذا من فرعون إفلاس في الحجة ، ولو كان عنده رَدٌّ لما يقوله موسى لردّ عليه ، ولَقرع الحجة بالحجة ، لكنه تقوَّى على خَصْمه بأن هدده بالسجن والإبعاد ، وكان المسجون عندهم يظل في السجن حتى الموت .
ولم يُراع فرعون في هذه المسألة الناس من حوله ، أن يكتشفوا هذا الإفلاس ، وهذا الحمق في رَدِّه .
ويُؤخِّر موسى عليه السلام ما معه من الآيات ، ويستمر في الجدل وإظهار الحجة : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ }
(1/6527)

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
يعني : إذا لم تقنع بكل الحجج السابقة ، فهل لو جئتك بآية واضحة دالة على صدق رسالتي ، أتجعلني أيضاً من المسجونين؟
(1/6528)

قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
انظر إلى تعارض فرعون مع نفسه ، فكان عليه ساعةَ أنْ يسمع من موسى هذا الكلام أنْ يُصر على سجنه ، لكن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يُظهر حجته ، فيجعل فرعون هو الذي يطلبها بنفسه { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 31 ] وما كان لموسى أن يأتي بآية إلا أنْ يطلبها منه فرعون .
(1/6529)

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
إلقاء العصا له في القرآن ثلاث مراحل : الأولى : هي التي واكبتْ اختيار الله لموسى ليكون رسولاً ، حين قال له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ] وقلنا : إن موسى عليه السلام أطال في إجابة هذا السؤال لحرصه على إطالة مدة الأُنْس بالله عز وجل فقال : { هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ اطه : 18 ] .
فالعصا في نظر موسى عليه السلام عود من الخشب قريب عهد بأصله ، كغصن في شجرة ، لكنها عند الله لها قصة أخرى : { قَالَ أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 1920 ] .
وما صارت العصا عصاً إلا بعد أنْ قُطِعت من شجرتها ، وفقدت الحياة النباتية ، وتحولت إلى جماد ، فلو عادت إلى أصلها وصارت شجرةً من جديد لكان الأمر معقولاً ، لكنها تجاوزتْ مرتبة النباتية ، وتحولت إلى الحيوانية ، وهي المرتبة الأعلى؛ لذلك فزع منها موسى وخاف فطمأنه ربه :
{ قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ] .
وكانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلام؛ ليألف العصا على هذه الحالة ، وكأن الله تعالى أراد لموسى أنْ يُجري هذه التجربة أمامه ، ليكون على ثقة من صِدْق هذه الآية ، فإذا ما جاء لقاء فرعون ألقاها دون خوف ، وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة .
إذن : كان الإلقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته ، ثم كان الإلقاء للمرة الثالثة أمام السحرة .
ومعنى { ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الشعراء : 32 ] يعني : بيِّن الثعبانية ، فيه حياة وحركة ، وقال { ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الشعراء : 32 ] يعني : واضح للجميع؛ لأنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويُخيِّلون للناس مثل هذه الأشياء ، ويجعلونها تسعى وتتحرك ، ولم تكن عصا موسى كذلك ، إنما كانت ثعباناً مبيناً واضحاً وحقيقياً لا يشكّ في حقيقته أحد .
والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد السياق يُسمِّيها مرة ثعباناً ، ومرة حية ، ومرة جاناً ، لماذا؟ قالوا : لأنها جمعت كل هذه الصفات : فهي خفة حركتها كأنها جان ، وفي شكلها المرعب كأنها حية ، وفي التلوِّي كأنها ثعبان . والجان : فرخ الحية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ }
(1/6530)

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
هنا يتكلم عن نزع اليد؛ لأنه قال في آية أخرى : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ القصص : 32 ] .
وهكذا تتكامل لطقات القصة الواحدة ، والتي يظنها البعض تكراراً ، وليست هي كذلك .
{ وَنَزَعَ } [ الشعراء : 33 ] يعني : أخرج يده { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [ الشعراء : 33 ] مع أن موسى عليه السلام كان آدم اللون يعني فيه سُمْرة ، ومع ذلك خرجتْ بيضاء ، لها شعاع وبريق يأخذ بالأبصار .
وبمقارنة هذه الآية بآية سورة القصص نجد أنه حذف من آية سورة الشعراء الجيب ، وهو فتحة الثوب من أعلى ، لا الجيب المتعارف عليه ، والذي نضع فيه النقود مثلاً ، وكانوا في الماضي يجعلون الجيب بداخل ملابس الإنسان ، ليكون في مأمن ، فإذا أراد الإنسان شيئاً فيه مَدَّ يده من خلال الفتحة العليا للثوب ، فسُمِّيتْ جيباً .
(1/6531)

قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
الملأ : هم عليْة القوم ، الذين يملأون العيون ، ويتصدَّرون المجالس { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ الشعراء : 34 ] فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال : ساحر لأن موسى لم يمارس هذه المسألة إلا مرة واحدة هي التي أجراها أمام فرعون ، لكن الملأ على علم بالسحر وإِلْف له ، وعندهم سحارون كثيرون .
وفَرْق بين ساحر وسحَّار : ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة ، إنما سحَّار مبالغة تدل على أنها أصبحت حِرْفته ، مثل ناجر ونجّار ، وخائط وخيّاط .
و { عَلِيمٌ } الشعراء : 34 ] أي : بسحره .
(1/6532)

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
هنا يستعدي فرعون قومه على موسى ، ويُحذرهم أنه سيفسد العامة والدهماء ، وتكون له الأغلبية ، وتكون له شيعة يناصرونه عليكم حتى يُخرِجكم من أرضكم ، وهذا أقلّ ما يُنتظر منه ، يريد أن يهيج عليه الملأ من قومه؛ ليكونوا أعداء له يقفون في صَفِّ فرعون .
وعجيب أنْ يقول الفرعون الإله { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الشعراء : 35 ] فهذه هي الألوهية الكاذبة التي انحدرتْ إلى مرتبة العبيد ، ومتى يأخذ الإله رأي عبيده ، ويطلب منهم المعونة والمشورة؟ ولو كان إلهاً بحق لكان عنده الحل ولديه الردّ .
فلما نزل فرعون من منزلة الألوهية ، وطلب الاستعانة بالملأ من قومه التفتوا إلى كذبه ، ووجدوا الفرصة مواتية للخلاص منه ، ومما يدل على أن أكثرهم وجمهرتهم كانوا يجارونه على مضض ، وينتظرون لحظة الخلاص من قَهْره وكذبه؛ لذلك قالوا : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ }
(1/6533)

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{ أَرْجِهْ } [ الشعراء : 36 ] من الإرجاء وهو التأخير ، أي : أخّره وأخاه لمدة { وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ } [ الشعراء : 36 ] ابعث رسلك يجمعون السَّحارين من أنحاء البلاد ، ليقابلوا بسحرهم موسى وهارون . والمدائن : جمع مدينة .
(1/6534)

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
وقال { سَحَّارٍ } [ الشعراء : 37 ] بصيغة المبالغة { عَلِيمٍ } [ الشعراء : 37 ] أي : بفنون السِّحْر وألا عيب السَّحَرة .
(1/6535)

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
الميقات : أي الوقت المعلوم ، وفي آية أخرى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } [ طه : 59 ] وكان يوماً مشهوداً عندهم ، ترتدي في الفتيات أبهى حُلَلها ، وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي سيُلْقونها فيه ، فحدد اليوم ، ثم لم يترك اليوم على إطلاقه ، إنما حدد من اليوم وقت الضحى { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] .
وفي لقطة أخرى حدد المكان ، فقال : { مَكَاناً سُوًى } [ طه : 58 ] يعني : فيه سوائية ، إما باستواء المكان حتى يتمكّن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية ، بحيث تكون في ساحة مستوية الأرض ، أو يكون مكاناً سواسية متوسطاً بين المدائن التي سيجمع منها السحرة ، بحيث لا يكون متطرفاً ، يشقّ على بعضهم حضوره .
وهكذا تتكاتف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة .
ونرى في هذه المشورة حِرْصَ الملأ على إتمام هذا اللقاء ، وأن يكون على رؤوس الأشهاد ، لأنهم يعلمون أنها ستكون لصالح موسى ، وسوف يفضح هذا اللقاءُ كذبَ فرعون في ادعائه الألوهية .
(1/6536)

وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
أي : أخذوا يدعُون الناس ، وكأنهم في حملة دعاية وتأييد ، إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في الخفاء ، وإما لفرعون ، فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة .
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلاً ، فما بالك بمباراة بين سحرة مَنْ يدَّعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول : إن له إلهاً غير هذا الإله؟ إنه حَدَثٌ هَزَّ الدنيا كلها ، وجذب الجميع لمشاهدته .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا جَآءَ السحرة }
(1/6537)

فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
فانظر إلى مسيرة الإله فرعون في رعيته ، فالإله الحق يُطْعِم ولا يُطْعم ، ويجير ولا يُجَار عليه ، الإله الحق يُعطي ولا يأخذ ، ولما اجتمع السحرة وهم أبطال هذه المباراة ، ويعلمون مدى حاجة فرعون إليهم في هذا الموقف؛ لذلك بادروا بالاتفاق معه والاشتراط عليه : إنْ كنت تُسخِّر الناس في خدتمك دون أجر ، فهذه المسألة تختلف ، ولن تمر هكذا دون أجر .
وهذا دليل على معرفتهم بفرعون ، وأنه رجل ( أَكَلْتى ) ، لذلك اشترطوا عليه أجراً إنْ كانوا هم الغالبين ، ولا ندري فربما جاء آخر يهدد هذه الألوهية ، فنحن ندخركم لمثل هذا الموقف .
(1/6538)

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
هنا يتنازل فرعون عن تعاليه وكبريائه ويذعن لشروط سَحرته ، بل ويزيدهم فوق ما طلبوا { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } [ الشعراء : 42 ] فسوف تكونون من خاصتنا ، نستعين بكم في مثل هذه الأمور ، ولا نستغني عنكم؛ لأنكم الذين حافظتم على باطل ألوهيتنا .
(1/6539)

قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
هنا كلام محذوف ، نعرفه من سياق القصة؛ لأن الآية السابقة كان الكلام ما يزال بين فرعون والسحرة ، والقرآن يحذف بعض الأحداث اعتماداً على فِطْنة السامع أو القارىء ، كما قلنا في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان ، حيث قال له : { اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ] .
ثم قال بعدها : { قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] وحذف ما بين هذين الحدثيْن مما نعلمه نحن من السياق .
وقوله : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } [ الشعراء : 43 ] هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع السحرة .
(1/6540)

فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
فكانت العصىّ والحبال هي آلات سحرهم { وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ] بعزة فرعون : هذا قسمهم ، وما أخيبه من قسم؛ لأن فرعون لا يُغلَب ولا يُقهر في نظرهم ، وسبق أن أوضحنا أن العزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة ، لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة وكبرياء بلا رصيد من حق ، وعزة بالإثم كالتي قال الله عنها : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } [ البقرة : 206 ] .
وقال تعالى : { ص والقرآن ذِي الذكر * بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 12 ] أي : عزة بإثم ، وعزة بباطل .
ومنه أيضاً قوله تعالى عن المنافقين : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] فصدّق القرآن على قولهم بأن الأعزَّ سيُخرج الأذلّ ، لكن { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
وما دام الأمر كذلك فأنتم الأذّلة ، وأنتم الخارجون ، وقد كان .
ويقال : إن أدوات سحرهم وهي العصيّ والحبال كانت مُجوفة وقد ملئوها بالزئبق ، فلما ألقوها في ضوء الشمس وحرارتها أخذتْ تتلاعب ، كأنها تتحرك ، وهذا من حيل السَّحَرة وألاعيبهم التي تُخيِّل للأعين وهي غير حقيقية ، فحقيقة الشيء ثابتة ، أمّا المسحور فيخيل إليه أنها تتحرك .
ثم يقول الحق سبحانه : { فألقى موسى عَصَاهُ }
(1/6541)

فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
ولم يَأْت إلقاء موسى عليه السلام لعصاه مباشرة بعد أن ألقى السحرة ، إنما هنا أحداث ذُكِرتْ في آيات أخرى ، وفي لقطات أخرى للقصة ، يقول تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] .
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ } [ طه : 6769 ] .
هكذا كانت الصورة ، فلما خاف موسى ثبَّته ربه ، وأيّده بالحق وبالحجة ، وتابعه فيما يفعل لحظةً بلحظة؛ ليوجهه وليُعدِّل سلوكه ، ويشدّ على قلبه ، وما كان الحق تبارك وتعالى ليرسله ثم يتخلى عنه ، وقد قال له ربه قبل ذلك : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] وقال : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الأوامر ، ويعطيه الحجة لتنفيذها ، ثم يتابعه بعنايته ورعايته .
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه نوح : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [ هود : 37 ] .
فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث ، ويُكمّل بعضها بعضاً ، وهذا يظنه البعض تكراراً ، وليس هو كذلك .
إذن : جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من الله أثناء المعركة : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } [ طه : 69 ] وهنا : { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الشعراء : 45 ] ومعنى { تَلْقَفُ } [ الشعراء : 45 ] تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة ، أما السرعة واختصار الزمن والقوة ، فتدل على الأخذ بشدة وعُنْف ، وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة ، فلم تضعف قوته لما رأى من ألاعيب السَّحَرة .
ومعنى { مَا يَأْفِكُونَ } [ الشعراء : 45 ] من الإفك يعني : قلْب الحقائق؛ لذلك سَمَّوْا الكذب إفْكاً؛ لأنه يقلب الحقيقة ويُغير الواقع .
ومنها { والمؤتفكة أهوى } [ النجم : 53 ] وهي القرى الظالمة التي أهلكها الله ، فجعل عاليها سافلها .
وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقَلْب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم ، فللكلام نِسَبٌ ثلاث : نسبة في الذِّهْن ، ونسبة على اللسان ، ونسبة في الواقع . فإنْ طابقتْ النسبةُ الكلامية الواقع ، فأنت صادق ، وإنْ خالفتْه فأنت كاذب .
وسَمَّى ما يفعله السحرة إفكاً؛ لأنهم يُغيِّرون الحقيقة ، ويُخيِّلون للناس غيرها .
(1/6542)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
لم يقُل الحق سبحانه : فسجد السحرة ، إنما { فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } [ الشعراء : 46 ] والإلقاء يدل على سرعة الاستجابة ، وأن السجود تَمَّ منهم دون تفكير؛ لأنه أمر فوق إرادتهم ، وكأن جلال الموقف وهيبته وروعة ما رَأوْا ألقاهم على الأرض ساجدين لله ، صاحب هذه الآية الباهرة؛ لذلك لم يقولوا عندها آمنَّا بربِّ موسى وهارون ، إنما قالوا : { قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين }
(1/6543)

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
وحين نتأمل ردَّ فِعْل السحرة هنا نجد أنهم خرُّوا لله ساجدين أولاً ، ثم أعلنوا إيمانهم ثانياً ، ومعلوم أن الإيمان يسبق العمل ، وأن السجود لا يتأتي إلا بعد إيمان ، فكيف ذلك؟
قالوا : هناك فَرْق بين وقوع الإيمان ، وبين أنْ تخبر أنت عن الإيمان ، فالمتأخر منهم ليس الإيمان بل الإخبار به؛ لأنهم ما سجدوا إلا عن إيمان واثق ينجلي معه كل شكٍّ ، إيمان خطف ألبابهم وألقاهم على الأرض ساجدين لله ، حتى لم يمهلهم إلى أنْ يعلنوا عنه ، لقد أعادهم إلى الفطرة الإيمانية في النفس البشرية ، والمسائل الفطرية لا علاجَ للفكر فيها .
وكأن سائلاً سألهم : لِمَ تسجدون؟ قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 4748 ] .
وقالوا : ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين ، ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول مثلاً : أنا رب العالمين ، فأزالوا هذا اللبْس بقولهم { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 48 ] .
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان عليه السلام لم تقل : أسلمت لسليمان ، إنما قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } [ النمل : 44 ] فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو الله رب العالمين ، وهكذا يكون إسلام الملوك ، وحتى لا يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك .
(1/6544)

قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
إذن : فهو لا يشك في أن ما رآه السحرة موجب للإيمان ، ولا يُشَكّك في ذلك ، لكن المسألة كلها { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } [ الشعراء : 49 ] فما يزال حريصاً على ألوهيته وجبروته ، حتى بعد أن كُشِف أمره وظهر كذبه ، وآمن الملأ بالإله الحق .
ثم أراد أنْ يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد : إنه هزم وضاعت هيبته ، فقال : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } [ الشعراء : 49 ] في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر ، لكن فرعون يأخذها ذريعة ، لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدّم ، وألوهيته التي ضاعت .
ثم يُهدِّدهم بأسلوب ينمّ عن اضطرابه ، وأنه فقد توازنه ، اختلّ حتى في تعبيره ، حيث يقول { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الشعراء : 49 ] وسوف تدل على المستقبل مع أنه لم يُؤخّر تهديده لهم بدليل أنه قال بعدها : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الشعراء : 49 ] { مِّنْ خِلاَفٍ } [ الشعراء : 49 ] يعني : اليد اليمنى مع الرِّجْل اليُسْرى ، أو اليد اليسرى مع الرِّجْل اليمنى .
وقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ } [ الشعراء : 49 ] أوضحه في آية أخرى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
فما كان جواب المؤمنين برب العالمين؟ { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ }
(1/6545)

قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
أي : لا ضررَ علينا إنْ قتلتنا؛ لأن مصير الجميع إلى الموت ، لكن إنْ كانت نهايتنا على يديك فوسف نسعد نحن بلقاء ربنا ، وتَشْقى أنت بجزاء ربك . كالطاغية الذي قال لعدوه : لأقتلنك فضحك ، فقال له : أتسخر مني وتضحك؟ قال : كيف لا أضحك من أمر تفعله بي يُسعدني الله به ، وتشقى به أنت؟
إذن : لا ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لأننا سنرجع إلى الله ربنا ، وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة ، فكأنك فعلتَ فينا جميلاً ، وأسديتَ لنا معروفاً إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء ، وما تظنه في حقنا شَرٌّ هو عين الخير ، لذلك فَهِم الشاعر هذا المعنى ، فقال عنه :
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلى أَيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرعي
يعني : ما دُمْتُ قد مُتُّ في سبيل الإسلام ، فلا يُهم بعد ذلك ، ولا أبالي أيّ موتة هي .
والمؤمنون هنا حريصون على أمرين : الأول : نَفْي الضرر؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصحلة ، والثاني : التأكيد على النفع الذي سينالونه من هذا القتل .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ }
(1/6546)

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
لأنك أكرهتنا على السحر ، وحملْتنا على الكذب ، ومكثنا عمراً نعتقد أنك إله ، فلعلَّ مبادرتنا إلى الإيمان وكوْننا أولَ المؤمنين يشفع لنا عند ربنا ، فيغفر لنا خطايانا ، وفي موضع آخر : { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } [ طه : 73 ] .
فذكر هناك مسألة الإكراه ، وذكر هنا العلة : { أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين } [ الشعراء : 51 ] .
(1/6547)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
قلنا : الوحي لغةَ : إعلام بخفاء ، وشرعاً : إعلام من الله لرسول من رسله بمنهج خير لخَلْقه .
ومن الوحي المطلق قوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً } [ النحل : 68 ] .
وقوله سبحانه : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] .
وقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] .
فالوحي العام إذن لا نسأل عن الموحِي ، أو الموحَى إليه ، أو موضوع الوحي ، فقد يكون الوحي من الشيطان ، والموحَى إليه قد يكون الأرض أو الملائكة أو الحيوان ، على خلاف الوحي الشرعي ، فهو محدد ومعلوم .
لقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى عليه السلام وحشد الناس لمشاهدة هذه المباراة ، وهذا دليل على أنه قدَّر أنه سيغَلِب ، لكن خيَّب الله ظنه ، وكانت الجولة لمصلحة موسى عليه السلام ، فآمن السحرة بالله تعالى رب موسى وهارون ، فأخذ يهددهم ويتوعدهم ، وهو يعلم أنَّ ما رأوْه من الآيات الباهرات يستوجب الإيمان .
ومع ذلك لما غُلِب فرعون وضاعتْ هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس ، فلم ينادوا بسقوطه ، واكتفوا بسماع أخبار موسى ، وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها الآيات التسع التي أنزلها الله ببني إسرائيل .
ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار ، ولم يحاول التخلص منه حتى لا يزداد أتباعه وتقوى شوكته ، فكأن مسألة الآيات التسع التي أرسلها الله عليهم قد هَدَّتْ كيانه وشغلته عن التفكير في آمر موسى عليه السلام .
وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له إغلبية وشعبية ، حتى إن الأقباط أتباع فرعون كانوا يعطفون على أمر موسى وقومه؛ لذلك استعاروا من القبط حُليَّ النساء قبل الخروج مع موسى ، ومن هذه الحلي صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد .
وهنا يقول تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } [ الشعراء : 52 ] وقبل ذلك نبَّهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } [ القصص : 20 ] .
أما الآن ، فالمؤامرة عليه وعلى مَنْ معه من المؤمنين .
ومعنى { أَسْرِ } [ الشعراء : 52 ] الإسراء : المشي ليلاً { إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } [ الشعراء : 52 ] يعني : سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن }
(1/6548)

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
الفاء هنا للتعقيب ، فوَحْى الله لموسى أن يَسْري ببني إسرائيل تَمَّ قبل أن يبعثَ فرعون في المدائن حاشرين ، وكأن الله تعالى يحتاط لنبيه موسى ليخرج قبل أن يهيج فرعونُ الناسَ ، ويجمعهم ضد موسى ويُجري لهم ما نسميه نحن الآن ( غسيل مخ ) ، أو يعلن على موسى وقومه حرب الأعصاب التي تؤثر على خروجهم .
و { حَاشِرِينَ } [ الشعراء : 53 ] من الحشر أي : الجمع ، لكن جمع هذه المرة للجنود لا للسحرة ، لأنهم هُزِموا في مُباراة السحرة ، فأرادوا أنْ يستخدموا سلاحاً آخر هو سلاح الجبروت والتسلُّط والحرب العسكرية ، فإنْ فشلت الأولى فلعلّ الأخرى تفلح ، لكن الحق تبارك وتعالى أخبر نبيه موسى بما يُدبِّر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل .
وقَوْل فرعون عن أتباع موسى : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] يريد أن يُهوِّن من شأنهم ويُغري قومه بهم ، ويُشجِّعهم على مواجهتهم ، لكن مع ذلك يُحذِّرهم من خطرهم ، فيقول { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } [ الشعراء : 55 ] فأَعِدُّوا لهم العدة ، ولا تستهينوا بأمرهم .
(1/6549)

وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
يعني : لا بُدَّ أن نأخذ حذرنا ونحتاط للأمر .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ }
(1/6550)

فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
أي : لم ينفعه احتياطه ، ولم يُجْدِ حذره ، فلا يمنع حَذَر من قَدَر { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ } [ الشعراء : 57 ] أي : بساتين وحدائق { وَعُيُونٍ } [ الشعراء : 57 ] أي : عيون تجري بالماء { وَكُنُوزٍ } [ الشعراء : 58 ] كانت عندهم { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 58 ] يعني : عيشة مُتْرفة في سَعَةٍ ورَغَدٍ من الحياة ، وخدَم وحَشَم .
ثم يقول الحق سبحانه : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ }
(1/6551)

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{ كَذَلِكَ } [ الشعراء : 59 ] أي : الأمر كما أقول لكم وكما وصفتُ { وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] أي : أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل ، وهنا قد يسأل سائل : كيف وقد ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها ، ولم يأخذوا شيئاً من هذا النعيم؟
قالوا : المعنى أورثهم الله أرضاً مثلها ، قد وعدهم بها في الشام .
(1/6552)

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
أي : عند الشروق ، وعادةً ما تكون الغارة على الجيش عند الصباح ، ومن ذلك قوله تعالى :
{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } [ الصافات : 177 ] .
وعادةً ما يقوم الإنسان من النوم كسولاً غير نشيط ، فكيف بمَنْ هذه حاله إِن التقى بعدوه؟
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا تراءا الجمعان }
(1/6553)

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
معنى : { تراءا الجمعان } [ الشعراء : 61 ] أي : صار كل منهما يرى الآخر ، وحدثتْ بينهما المواجهة ، وعندها { قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فالحال أن البحر من أمامهم وجنود فرعون من خلفهم ، فلا مناصَ ولا مهرب ، لكن موسى عليه السلام وقد سبق أن تعلم كلمة ( كلا ) من ربه تعالى ، حينما قال : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 14 ] فردّ عليه ربه : { كَلاَّ } [ الشعراء : 62 ] عندها تعلَّمها موسى ، وعرف كيف ومتى يقوله قَوْلةَ الواثق بها .
(1/6554)

قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
لكن كيف يقول موسى عليه السلام هذه الكلمة ( كلا ) بملء فِيهِ ، والأمر بقانون الماديات أنه عُرْضة لأنْ يُدْرَك قبل أن يكملها؟
والإجابة في بقية الآية : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] فلم يقُلْ موسى : كَلاّ اعتماداً على قوته واحتياطه للأمر ، إنما قالها اعتماداً على ربه الذي يكلؤه بعينه ، ويحرسه بعنايته .
فالواقع أنني لا أعرف ماذا أفعل ، ولا كيف أتصرف ، لكن الشيء الذي أثق منه { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] لذلك يأتي الفرج والخلاص من هذا المأزق مباشرة : { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى }
(1/6555)

فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
ذلك لأن البحر هو عائقهم من أمامهم ، والبحر مياه لها قانونها الخاص من الاستطراق والسيولة ، فلما ضرب موسى بعصاه البحر انفلق وانحصر الماء على الجانبين ، كل فِرْقٍ أي : كل جانب كالطودْ يعني الجبل العظيم .
لكن بعد أن صار الماء إلى ضِدِّه وتجمّد كالجبل ، وصنع بين الجبلين طريقاً ، أليس في قاع البحر بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها الإنسان؟
إننا نشاهد الإنسان لا يكاد يستطيع أن ينقل قدماً إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلاً ، فما بالك بوحْل البحر؟
لذلك قال له ربه : { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] .
فالذي جعل الماء جبلاً ، سيجعل لك الطريق يابساً .
والحق تبارك وتعالى لم يُبيِّن لنا في انفلاق البحر ، إلى كَمْ فلقة انفلق ، لكن العلماء يقولون : إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد الأسباط ، بحيث يمر كل سَبْط من طريق .
وفي لقطة أخرى من القصة أراد موسى عليه السلام أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى طبيعته ، فيسُدُّ الطريق في وجه فرعون وجنوده على حَدِّ تفكيره كبشر ، لكن الحق تبارك وتعالى نهاه عن ذلك : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان : 2324 ] .
اتركه على حاله ليُغري الطريق اليابس فرعون وجنوده ، لذلك قال سبحانه : { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين }
(1/6556)

وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
أي : قرّبناهم من منتصف البحر ، ثم أطبقه الله عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون استطراقه ، وهكذا يُنجِّي الله ويُهلِك بالشيء الواحد و { الآخرين } [ الشعراء : 64 ] يعني : قوم فرعون ، و { ثَمَّ } [ الشعراء : 64 ] أي : هناك وسط البحر .
وللعصا مع موسى عليه السلام تاريخ طويل منذ أن سأله ربه { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ] فأخبر بما يعرفه عنها { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } [ طه : 18 ] .
وقوله { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } [ طه : 18 ] لا تعني كما يظن البعض أنها مجرد الإشارة بها إلى الغنم أو ضربها ، فأهشُّ تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط ، فتأكلها الأغنام الصغار التي لا تطول أوراقَ الشجر ، أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد .
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] كأنْ أدافع بها عن نفسي ليلاً ، إنْ تعرَّض لي كلب أو ذئب مثلاً ، أو أغرسها في الأرض وأُلقي عليها بثوبي لأستظلَّ به وقت القيلولة ، أو أجعلها على كتفي وأُعلِّق عليها متاعي حين أسير . . الخ .
هذه مهمة العصا كما يراها موسى عليه السلام لكن للعصا مهمة أخرى لا يعلمها ، فهي حُجّته وآية من الآيات التي أعطاه الله ، فبها انتصر في معركة الحجة مع السَّحَرة ، وبها انتصر في معركة السلاح حين ضرب بها البحر فانفلق .
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر ، فيصر جبلاً ، ويضرب بها الحجر فينفجر بالماء ، وهذه آيات باهرات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلاً وعَلَماً على الانتصار في كل شيء ، فلما كان الخصيب والياً على مصر ، وتمرد عليه بعض قُطَّاع الطرق ، وكانت لديه القوة التي قهرهم بها ، لذلك قال :
فَإِنْ يَكُ بَاقٍ إِفْكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ ... فَإنَّ عَصَا مُوسَى بكَفِّ خَصِيبِ
وفي هذا المعنى يقول شاعر آخر :
إذَا جَاءَ مُوسَى وأَلْقَى العَصَا ... فَقَدْ بَطُلَ السِّحْرُ والسَّاحِرُ
إذن : صارتْ عصا موسى عليه السلام مثَلاً وعَلَماً للغَلبة في أيِّ مجال من مجالات الحياة .
(1/6557)

وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
فقد حُسِمتْ هذه المعركة لصالح موسى ومَنْ معه دون إراقة دماء ، ودون خسارة جندي واحد ، في حين أن المعارك على فرض الانتصار فيها لا بُدَّ أن تكون لها نسبة خسائر في الأرواح وفي العَتَاد ، أما هذه فلا .
(1/6558)

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
أي : بنفس السبب الذي أنجى الله به موسى وقومَه أهلك فرعون وقومه؛ لأنه وحده سبحانه القادر على أن يُنجِي ، وأنْ يُهلِك بالشيء الواحد .
(1/6559)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
قوله سبحانه { إِنَّ فِي ذَلِكَ } [ الشعراء : 67 ] أي : فيما حدث { لآيَةً } [ الشعراء : 67 ] وهي الأمر العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة ، فيثير إعجاب الناس ، ويستوجب الالتفات إليه والنظر فيه ، والآية تُقنِع العقل بأن الله هو مُجْريها على يَدَيْ موسى ، وتدل على صِدْق رسالته وبلاغة عن الله ، وإلا فهي مسألة فوق طاقة البشر .
ومع ذلك { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 67 ] أي : أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة مع هذه الآيات ، حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلام واتبعوه وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق ، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا ، كما يحكي القرآن عنهم :
{ وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
سبحان الله ، لقد كفروا بالله ، وما تزال أقدامهم مُبتلَّة من عبور البحر ، وما زالوا في نَشوة النصر وفرحة الغلبة!!
(1/6560)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
أي : بعد ما مرّ من حيثيات فإن الله تعالى هو العزيز ، أي : الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر ، إنماهو الغالب وهو القاهر ، فهو سبحانه يغلِب ولا يُغلب ، ويُطعِم ولا يُطعَم ، ويُجير ولا يُجار عليه . ومع عِزته سبحانه وقوته بحيث يغلب ولا يُغلب هو أيضاً { الرحيم } الشعراء : 68 ] لأنه رب الخَلْق أجمعين ، يرحمهم إنْ تابوا ، ويقبلُهم إنْ رجعوا إلى ساحته ، كما جاء في الحديث الشريف :
" لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " .
(1/6561)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
جاءت هذه الآية بعد الانتهاء في إيجاز مُبسّط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون ، وخُتمت بقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } [ الشعراء : 6768 ] .
ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلام { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [ الشعراء : 69 ] مما يدل على أن المسألة في القرآن ليست سَرْداً للتاريخ ، فإبراهيم كان قبل موسى ، ولو أردنا التأريخ لجاءت قصة إبراهيم أولاً ، إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العِبْرة والعِظَة واتخاذ الأُسوة من تاريخ الرسل ، ليُثبِّت الله بها فؤاد رسوله صلى الله عليه وسلم حينما يواجه الأحداث الشاقة والعصيبة .
والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلام يجد أن موسى جاء ليعالج مسألة هي قمة العقيدة ، ويواجه مَنِ ادّعى الألوهية وقال : إني إله من دون الله ، أما إبراهيم فقد عالج مسألة الشرك مع الله وعبادة الأصنام ، فعندهم طَرَف من إيمان ، بدليل أنهم إذا ضيّقنا عليهم الخناق قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
لذلك كانت قصة موسى أَوْلَى بالتقديم هنا .
ومعنى : { واتل عَلَيْهِمْ } [ الشعراء : 69 ] أي : اقرأ ، أو وضِّح ، أو عبِّر ، ونقول للقراءة ( تلاوة ) لأنه لا يُتلَى إلا المكتوب المعلوم المفهوم { عَلَيْهِمْ } [ الشعراء : 69 ] على أمة الدعوة كلها ، أَمْ على المكذبين خاصة؟
قالوا : على المكذِّبين خاصة؛ لأن المصدِّقين برسول الله لا يحتاجون هذه التلاوة ، وإنْ تُليَتْ عليهم فإنما التلاوة للتذكرة أو لعلم التاريخ . إذن : المراد هنا المكذِّبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل رسل الله في دعوتهم النصر والغلبة ، وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والاندحار .
فكأن القرآن يقول لهم : لا تغتروا بقوتكم ، ولا بجاهكم ، ولا تنخدعوا بسيادتكم على العرب ، ومعلوم أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت الله الحرام ، وما أَمِنُوا في طرق تجارتهم إلاَّ بقداسة بيت الله وحُرْمته .
ولولا البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة ، بدليل قوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف } [ قريش : 12 ] .
ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ولا سيطرة على الجزيرة العربية ، وما دام أن الله تعالى فعل معهم هذا { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 34 ] .
ومعنى { نَبَأَ } [ الشعراء : 69 ] أي : الخبر الهام الذي يجب أنْ يُقال ، ويجب أنْ يُنصتَ له ، وأنْ تُؤخَذ منه عِبْرة وعِظة ، فلا يُقال ( نبأ ) للخبر العادي الذي لا يُؤبَهُ له .
ولو تتبعتَ كلمة ( نبأ ) في القرآن لوجدتها لا تُقَال إلا للأمر الهام ، كما في قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 12 ] .
وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام والهدهد :
(1/6562)

{ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] .
إذن : { نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [ الشعراء : 69 ] يعني : الخبر الهام عنه . وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذي مدحه ربه مدحاً عظيماً في مواضع عدة من القرآن ، فقال الحق سبحانه عنه : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] .
والأمة لا تُطلَق إلا على جماعة تنتسب إلى شيء خاص ، ويجمعهم مكان وزمان وحال . كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أضفى الله عليه كمالات من صفات كماله لا يستطيع بشر أن يتحملها .
لذلك جاء في الحديث الشريف : " الخير فِيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " .
الخير فيَّ حصراً ، الخير على عمومه ، وفي كل جوانب شخصيته : داعيةً وأباً وزوجاً . . الخ وخصال الخير من شجاعة ، وحِلْم ، وعِلْم ، وكرم . . ألخ . وكذلك الخير في أمتي منثورٌ بين أفرادها ، يأخذ كل منهم من الخير بطرف ، وله منه نصيب ، لكن لا أحدَ يستطيع أن يجمع الكمال المحمدي أبداً ، ولا أن يتصف به .
كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام ( أمة ) ؛ لأن خصال الخير تُوزَّع على أفراد الأمة : هذا ذكى ، وهذا حليم ، وهذا عالم ، وهذا حكيم . . الخ أما إبراهيم عليه السلام فقد جمع من الخير ما في أمة بأكملها ، وهذا ليس كلاماً يُقَال في مدح نبي الله إبراهيم ، إنما من واقع حياته العملية .
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى عن إبراهيم : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] .
وحَسْب إبراهيم عليه السلام من الخير هذه الدعوة : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } [ البقرة : 129 ] .
فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم .
(1/6563)

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
فأول دعوته كانت لأبيه ، وأقرب الناس إليه لا للغريب ، والدعوة التي توجه أولاً للقريب لا بُدَّ أنها دعوة حَقٍّ ودعوة خير؛ لأن الإنسان يحب الخير أولاً لنفسه ، ثم لأقرب الناس إليه ، ولو كانت في خيريتها شَكٌّ لقصد بها الغرباء والأباعد عنه .
والمراد بأبيه هو ( آزر ) الذي ورد ذكره في موضع آخر .
وسؤاله لأبيه وقومه { مَا تَعْبُدُونَ } [ الشعراء : 70 ] سؤال استهجان واستنكار ، وسؤال استدلال ليظهر لهم بطلان هذه العبادة؛ لأن العبادة أنْ يطيعَ العابدُ المعبودَ فيما أمر وفيما نهى ، فالذين يعبدون الأصنام بماذا أمرتهم وعمَّ نهتهم؟
إذن : فهي آلهة دون منهج ، وما أسهلَ أن يعبد الإنسان مثل هذا الإله الذي يأمره بشيء ، ولا ينهاه عن شيء ، وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب؛ لأنها لا تثيب مَنْ أطاعها ، ولا تعاقب مَنْ عصاها .
إذن : فكلمة عباده هنا خطأ ، ومع ذلك يُسمِّيها الناس آلهة ، لماذا؟ لأن الإله الحق له أوامر لا بُدَّ أن تُنفّذ ، وإنْ كانت شاقة على النفس ، وله نواهٍ لا بُدَّ أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها ، فهي عبادة شاقة ، أما عبادة الأصنام فما أسهلها ، فليس عندها أمْر ولا نَهْي ، وليس عندها منهج يُنظِّم لهم حركة الحياة؛ لذلك تمسَّك هؤلاء بعبادة الأصنام ، وسمَّوْها آلهة ، وهذا خبل واضح .
كما أن الإنسان في مجال العبادة إذا عزَّتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل ، أو خرجت عن طاقته ، عندها يجد له رباً يلجأ إليه ، ويستعين به فيقول : يا رب . فماذا عن عابد الأصنام إذا تعرَّض لمثل هذه المسائل؟ هل يتوجه إليها بالدعاء؟ وهَبْ أنه يدعو إنساناً مثله يمكن أنْ يسمعه أيستجيبُ له؟
لذلك يقول سبحانه : { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [ الشعراء : 7173 ] .
إذن : فعبادة غير الله حُمْق وغباء .
لكن هذا البحث من إبراهيم ، وهذا الجدل مع أبيه وقومه ، أكان بعد الرسالة أم قبلها؟ قالوا : إن إبراهيم عليه السلام كان ناضجاً مُتفتِّحاً منذ صِغَره ، وكان مُنكراً لهذه العبادة قبل أن يُرسَل ، لذلك قال الله عنه : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] .
وكذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كارهاً للأصنام ، معترضاً على عبادتها ، يتعجب حين يرى قومه يعبدونها ، وقد رأى صلى الله عليه وسلم أحد الآلهة وقد كُسر ذراعه فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الإله ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجَّب لما يرى : العابد يصلح المعبود؟ بعدها اعتزلهم رسول الله ، ولجأ إلى الغار يفكر في الإله الحق والمعبود الحق .
فكأن أيَّ دين يأمر الله به لو تفكَّر فيه الإنسان برشد لانتهى إلى الحق بدون رسول؛ لأن دين الله هو دين الفطرة السليمة ، فإنْ توفَّرت لدى الإنسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق .
(1/6564)

بدليل ما كان يحدث من عمر رضي الله عنه وكان يُحدث رسول الله بالأمر ، فتتنزل به الآيات من عند الله ، وقد وافقتْ الآيات رأيه في أكثر من موقف ، وقد أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون رسول .
وتستطيع أنت أنْ تعرض أيَّ قضية من قضايا الدين على العقل السليم ، وسوف تجد أنها طيبة وجميلة توافق الذَّوْق السليم والتفكير السويّ ، فالكذب مثلاً خُلُق يأباه العقل ويأباه الدين ، وكذلك الرشوة؛ لأنك بها تأخذ ما ليس لك ، وقد يُسلِّط عليك رَاشٍ ، فيأخذ منك حقك ، كما أخذتَ أنت حقوق الناس .
ولو تأمل العقل مثلاً تحريم النظر إلى المحرمات ، لوجد أن الدين قيَّد نظرك وأنت فرد ، وقيَّد من أجلك نظر الناس جميعاً ، فكما طلب منك طلب لك ، وكذلك الأمر في تحريم السرقة والقتل . . إلخ .
وقد سُئلْنا في إحدى الرحلات عن قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ومرة يقول : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ التوبة : 33 ] ومرة يقول : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ التوبة : 32 ] .
يقولون : وبعد أربعة عشر قرناً ، والمسلمون في الكون أقلية ، ولم يظهر الدين على الدين كله ، فكيف إذن نفهم هذه الآية؟
فقلتُ للسائل : لو فهمتَ الآية السابقة لعرفتَ الجواب : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ التوبة : 32 ] .
فالمعنى : أن الدين سيظهر في وجود الأديان الأخرى ، وليس المراد أن هذه الأديان ستزول ، ولن يكون لها وجود ، بل هي موجودة ، لكن يظهر عليها الإسلام ظهور حجة ، بدليل ما نراه من هجمات على الإسلام وأحكامه وتشريعاته ، كما في مسألة الطلاق مثلاً ، أو مسألة تعدُّد الزوجات وغيرها . وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الاجتماعية إلى هذه التشريعات ، ولا يجدون غيرها لحل مشاكلهم .
ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 أول ما شرَّعوا منعوا الربا الذي كان جائزاً عندهم ، لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين ، لكن مصالحهم في ذلك ، فهذه وأمثالها غلبة لدين الله وظهور له على كل الأديان .
وليس معنى { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أن يصير الناس جميعاً مؤمنين ، لا ، إنما يظل كُلٌّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره ، لكن لا يجد حلاً لقضاياه إلا في الإسلام ، وهذا أوقع في ظهور الدين .
ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردِّهم على إبراهيم عليه السلام : { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً }
(1/6565)

قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
إذن : شهد شاهد من أهلها ، وقالوا بأنفسهم { نَعْبُدُ أَصْنَاماً } [ الشعراء : 71 ] والعبادة طاعة ، فماذا قالت لهم الأصنام؟ وبماذا أمرتهم؟ طبعاً ، ليس عندهم جواب .
وليت الأمر يقف عند العبادة ، إنما { فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } [ الشعراء : 71 ] أي : قائمين على عبادته ليلَ نهار ، نعم ولكم حق؛ لأنها آلهة دون تكليف ، وعبادة بلا مشقة وبلا التزام ، إنها بلطجة تأخذون فيها حظَّ أنفسكم ، وتفعلون معها ما تريدون .
لكن ، كيف جادلهم إبراهيم عليه السلام؟ وبم رَدَّ عليهم؟
(1/6566)

قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
فالأصنام لا تسمع مَنْ توجّه إليها بالدعاء ، ولا تنفع مَنْ عبدها ، ولا تضر مَنْ كفر بها؛ لذلك لم يجدوا رداً ، وحاروا جواباً ، ولم يجدوا حُجّة إلا أن قالوا :
{ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ }
(1/6567)

قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
إذن : أنتم لم تُحكِّموا عقولكم في هذه المسألة ، كما قالوا في موضع آخر : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
ونقول لهم : ومتى ظللتم على تقليد آبائكم فيما يفعلون؟ إنكم لو أقمتُم على تقليد الآباء ما ارتقيتم في حياتكم أبداً ، فلماذا إذن تحرصون على التقليد في هذه المسألة بالذات دون غيرها .
(1/6568)

قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
يقول إبراهيم عليه السلام : لا تلقوا بالمسألة على الآباء ، وتُعلِّقوا عليهم أخطاءكم ، ثم يعلنها صريحة متحدية كأنه يقول لهم : الحمرة في خيلكم اركبوها .
{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] وكلمة عدو جاءت مفردة مع أنها مسبوقة بضمير جمع وتعود على جمع { فَإِنَّهُمْ } [ الشعراء : 77 ] ومع ذلك لم يقل : أعداء لي . قالوا : لأن العداوة في أمر الدين واحدة على خلاف العداوة في أمر الدنيا؛ لأنها متعددة الأسباب ، كما جاء في قوله تعالى : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } [ آل عمران : 103 ] .
فجاءت : { أَعْدَآءً } [ آل عمران : 103 ] هنا جمع؛ لأنها تعود على عداوة الدنيا ، وهي متعددة الأسباب ، أمّا العداوة في الدين فواحدة على قلب رجل واحد .
ومن ذلك ما قلناه في سورة النور عند قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] .
كلها بصيغة الجمع إلا في { صَدِيقِكُمْ } [ النور : 61 ] جاءت بصغية المفرد؛ لأن الصداقة الحقة هي ما كانت لله غير متعددة الأغراض ، فهي إذن لا تتعدد .
وفي إعلان إبراهيم لعداوته لهذه الأصنام تحدٍّ لهم : فها أنا ذا أعلن عداوتي لهم ، فإنْ كانوا يقدرون على مضرّتي فليفعلوا . وبعد أن أعلن إبراهيم عليه السلام عداوته للأصنام نجحت دعوته ، وظل إبراهيم هو إبراهيم لم يُصبْه شيء .
(1/6569)

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
كأن الحق تبارك وتعالى يقول لهم : يا أغبياء ، اعلموا أن للعبادة أسباباً وحيثيات . ويوضح إبراهيم عليه السلام حيثيات عبادة ربه عزَّ وجل فيقول : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] أي : خلقني من عدم ، وأمدَّني من عُدْم ، وجعل لي قانون صيانة يحفظ حياتي ، ويضمن سلامتي حيث كلَّفني بشرعه : افعل كذا ولا تفعل كذا ، وهو سبحانه لا ينتفع بشيء من هذا ، بل النفع يعود علينا نحن ، وهل فعلتْ الأصنام لكم شيئاً من هذا؟ إذن : فهو واحده المستحق للعبادة .
وقوله سبحانه { فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] أي : بقانون الصيانة الذي يشبه ( الكتالوج ) الذي يجعله البشر لصناعتهم؛ ليضمنوا سلامتها وأدائها لمهمتها على أكمل وجه ، ولا بُدَّ أن يحدِّد لها المهمة قبل أنْ يَشرَع في صناعتها ، وهل رأينا آلةَ صنعها صاحبها ، ثم قال لنا : انظروا في أيِّ شيء تستخدم هذه ، ( بوتاجاز ) أو ثلاجة مثلاً؟
فإذا ما حدث خلل في هذه الآلة ، فعليك بالنظر في هذا ( الكتالوج ) أو أن تذهب بها إلى المهندس المختص بها؛ لذلك إذا أردتَ أن تأخذ قانون صيانتك ، فلا تأخذه إلا من صانعك وخالقك عز وجل ولا يجوز أن يخلق الله تعالى وتضع أنت لخِلْقة الله قانون صيانتها ، فهذا مِثْل : أن تقول للجزار مثلاً : اعمل لي قانون صيانة ( التلفزيون ) .
ثم يذكر بعد ذلك مُقوِّمات استبقاء الحياة ، فيقول : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 7980 ] .
ونقف هنا عند الضمير المنفصل ( هو ) الذي جاء للتوكيد ، والتوكيد لا يأتي ابتداءً ، إنما يكون على درجات الإنكار ، وقد أكّد الحق تبارك وتعالى نسبة الهداية والإطعام والسُّقْيا والشفاء إليه تعالى؛ لأن هذه المسائل الأربع قد يدعيها غيره تعالى ، وقد يظن البعض أن الطبيب هو الشافي أو أن الأب مثلاً هو الرازق؛ لأنه الجالب له والمناول .
والهداية قد يدّعيها واضعوا القوانين من البشر ، وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية والبعثية وغيرها ، وكلها تدّعي أنها لصالح البشر ، وأنها طريق هدايتهم؛ لذلك أكد الله تعالى لنفسه هذه المسألة { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] فالهداية لا تكون إلا من الله ، وفي شِرْعته تعالى .
وقد تسأل في قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] ولماذا نذهب إلى الطبيب إذن؟ نقول : الطبيب يعالج ، وهو سبب للشفاء ، أمّا الشفاء فمن الله ، بدليل أن الطبيب ربما يمرض ، ويعجز هو عن شفاء نفسه ، وقد يعطي المريض حقنة ويكون فيها حَتْفه .
وحين نُعرب : { مَرِضْتُ } [ الشعراء : 80 ] نقول : مرض فعل ماضٍ والتاء فاعل ، فهل أنا الذي فعلتُ المرض؟ وهذا مِثْل أن نقول : مات فلان ، ففلان عامل مع أنه لم يحدث الموت؛ لذلك يجب أن نتنبه إلى أن الفاعل يعني مَنْ فعل الفعل ، أو اتصف به ، والفاعل هنا لم يفعل الفعل وإنما اتصف به . وقال { مَرِضْتُ } [ الشعراء : 80 ] تأدباً مع الله تعالى ، فلم يقل : أمرضني ونسب المرض الظاهر إلى نفسه .
أما في المسائل التي لا يدَّعيها أحد ، فتأتي بالفعل دون توكيد ، كما في الآية بعدها : { والذي يُمِيتُنِي }
(1/6570)

وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
فلم يقُل؟ هنا : بميتني أو هو يُحييني؛ لأن الحياة والموت بيده تعالى لا يدَّعيها أحد ، فإنْ قُلْتَ : وماذا عن قتْل الإنسان لغيره أَلاَ يُعَدُّ موتاً؟ وقد سبق أنْ أوضحنا الفرق بين الموت والقتل ، بدليل قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } [ آل عمران : 144 ] .
فالموت أن تخرج الروح ، والجسم سليم الأجزاء كامل الإعضاء ، وبعد خروج الروح تُنقض البنية ، أما القتل فيكون بنقْض البنية نَقْضاً يترتب عليه خروج الروح .
إذن : الموت لم يدَّعه أحدٌ لنفسه ، ولما ادعاه النمرود جادله إبراهيم عليه السلام في ذلك ، وكشف زيف هذا الادعاء ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .
ولم يفعل إلا أنْ جاء برجل فأمر بقتله ، ثم عفا عنه؛ لذلك رأى إبراهيم عليه السلام أنْ يقطع عليه الطريق ، فقال : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] .
وهكذا أنهى هذه السفسطة ، وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند .
وتأمل حرف العطف { والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] و ( ثم ) تفيد العطف مع التراخي ، ولم يقل : ويحيين؛ لأن الواو تفيد مُطلَق العطف ، وبين الموت والإحياء الآخر مسافة طويلة ، ألا ترى قوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 2122 ] .
(1/6571)

وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
عجيب أن يصدر هذا الدعاء من إبراهيم ، وما أدراك ما إبراهيم؟
إنه أبو الأنبياء الذي وصفه ربه بأنه أمة قانتاً لله ، ولم يكن من المشركين ، إبراهيم الذي ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن ، ومع هذا كله يقول : { أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] .
إنه أدب عَالٍ مع الله وهضم لعمله؛ لأن الإنسان مهما قدَّم من الخير فهو دون ما يستحق الله تعالى من العبادة؛ لذلك كان طلب المغفرة من الطمع .
ويجب أن ننظر هنا : متى دعا إبراهيم ربه ومتى تضرع إليه؟ بعد أن ذكر حيثيات الألوهية ، واعترف لله بالنعم السابقة وأقرَّ بها ، فقد خلقه من عدم ، وأمدَّه من عُدْم ، وووفّر له كل مقومات الحياة .
وإقرار العبد بنعم الله عليه يقضي على كبرياء نفسه ، ويُصفِّي روحه وأجهزته ، فيصير أهلاً لمناجاة الله ، وأهلاً للدعاء ، فإن اعترفتَ لله بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللاحقة ، على خلاف مَنْ لا يذكر لله نعمة ، ولا يقرّ له سبحانه بسابقة خير ، فكيف يقبل منه دعاء؟ وبأيِّ وجه يطلب من الله المزيد؟
إذن : لا تَدْعُ ربك إلا بعد صفاء نفس وإخلاص عبودية؛ لذلك ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم " .
ويقول سبحانه : { إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] يقول لك ربك : أنت مأمون على ما علمتَ ، عامل به ، فخُذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي ، خُذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني وصفاء روحي ، جعلك أهلاً للمناجاة والدعاء .
فإبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء لم يجترىء على الدعاء بشيء آتٍ إلا بعد أنْ ذكر لله النعم السابقة ، وشكره عليها ، فوافق قوله تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
لذلك فإن أهل المعرفة يقولون : إن العبد مهما اجتهد في الدعاء ، فإنه يدعو بالخير على حسْب فهمه ومنطقه وبمقدار علمه ولو أنه ذكر النعيم الأول لله تعالى ، وأقرّ له بالفضل ، ثم ترك المسألة له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيراً له؛ لأن ربه عز وجل يعطيه على حَسْب قدرته تعالى وحكمته .
وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي : " مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " .
فعطاء الله لا شكَّ أوسع ، واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه ، كما لو ذهبتَ في رحلة مثلاً وقلت لولدك : ماذا تريد أنْ أُحضر لك من البلد الفلاني؟ فإنْ قال : أريد كذا وكذا فقد ضيّق على نفسه ، وإنْ ترك لك الاختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه .
(1/6572)

رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
نلحظ أنه لم يدْعُ بشيء من الدنيا ، ومعنى { حُكْماً } [ الشعراء : 83 ] فرق بين الحكم والحكمة : الحكمة أن تضع الشيء في موضعه ، أما الحكم فأنْ تعلم الخير أولاً ، ثم تعمل بما علمت ثانياً .
وقال في دعائه : { هَبْ لِي } [ الشعراء : 83 ] لأن الهبة عطاء دون مقابل ، فكأنه قال : يا رب أنا لا أستحق ، فاجعلها لي هِبةَ من عندك { وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] أي : ألحقني بهم في العمل والأُسْوة لأنالَ بعدها الجزاء ، وليس المراد : ألحقني بهم في الجزاء ، إنما في العمل .
وقد أجابه الله تعالى في هذه الدعوة ، فقال سبحانه : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] .
والملكوت : المخلوقات غير المحسّة ، أطلعه الله عليها؛ لأنه عمل بما علم من الملك المحسّ ، وكذلك قال : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] فأجابه في الدعوة الأخرى . { واجعل لِّي لِسَانَ }
(1/6573)

وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
نعرف أن اللسان وسيلة التعبير ، ومعنى { لِسَانَ صِدْقٍ } [ الشعراء : 84 ] يعني : ذكراً حسناً يذكر بحق ، ويذكر بصدق ، لا كما نفعل الآن حين نقيم ذكرى لأحد الأشخاص ، فنظل نكيل له المدائح ونُثني عليه بالصِّدْق وبالكذب ، وبما فعل وبما لم يفعل ، فهذا ذكر ، لكنه ذكر غير صادق ومخالف للحقيقة وللواقع .
وسبق أن أوضحنا أن الصدق هو الكلام المطابق للواقع ، وقد ورد هذا المعنى في الأمهات الخمس في القرآن الكريم ، في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] .
يعني : أدخلني بصدق لا بغشٍّ يعني مدخلاً أستطيع منه الخروج ، وكذلك أخرجني مُخرج صدق .
وفي قوله تعالى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] .
وفي قوله تعالى : { وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } [ الأحقاف : 16 ] هذه المواضع الخمس لكلمة الصدق .
ومعنى : { فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] يعني : يتعدى الذّكْر الحسن مدة حياتي إلى مَنْ بعدي ، فاجعل لي لسان صدق في المعاصرين ، وفيمن يأتي بعدك أترك أثراً طيباً يُذكَر من بعدي؛ لأن لي نصيباً من الخير والثواب في كل مَن اقتدى بي ، وجعلني أُسْوة .
وقد أجابه الله في هذه ، فقال سبحانه : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 108109 ] .
(1/6574)

وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
بعد أن دعا لأمر في الدنيا ، ثم لأمر بعد موته دعا لنفسه بجنة النعيم الدائم في الآخرة ، ولا شك أن ربه عز وجل قد أجابه إلى هذه ، فهو من ورثة جنة النعيم ، بدليل قوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] .
وكلمة ميراث الجنة وردتْ في القرآن أيضاً في قوله تعالى :
{ أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1011 ] .
والميراث أنْ تأخذ مِلكاً من آخر بعد موته ، فكيف تكون الجنة ميراثاً؟
قال العلماء : إن الخالق عز وجل لم يخلق الجنة على قدر أهلها وكذلك النار ، إنما خلق الجنة تتسع للناس جميعاً ، إنْ آمنوا ، وخلق النار تتسع للناس جميعاً إنْ كفروا؛ ذلك لأنه سبحانه خلق الخَلْق مختارين ، مَنْ شاء فليؤمن ، ومَنْ شاء فليكفر . وعليه ، فميراث الجنة يعني أنْ يرث المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة ، يتقاسمونها فيما بينهم .
والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه ، لكن لا يسأل عنها ، إنما يأخذها طيبة حتى إنْ جمعها صاحبها من الحرام ، إلا إنْ أراد الوارث أن يبرىء ذمة المورِّث ، فيردَ المظالم إلى أهلها .
إذن : الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هِبة ، وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة أن الله تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبةً منه سبحانه ، وتفضّلاً عليهم ، وليس بعملهم ، فالجنة جاءتهم كما يأتي الميراث لأهله دون تعب منهم ودون سَعْي .
وهذا تصديق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي : " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
قالوا : فالجنة ميراث؛ لأن الأصل أنك لا تُجازَى على الخير الذي قدمته؛ لأن تكليف من الله تعالى يعود خيره عليك في الدنيا ، حيث تستقيم به حياتك وتسعد بها ، وما دام التكليف في صالحك ، فكيف تأخذ أجراً عليه؟ كالوالد حيث يحثّ ولده على المذاكرة والجد في دروسه ، فهذا يعود نفعه على الولد ، لا على الوالد .
وكأن ربك عز وجل يقول لك : ما دُمْتَ قد احترمتَ تكليفي لك ، وأطعتني فيما ينفعك أنت ، ولا يعود عليَّ منه شيء ، فحين أعطيك الجنة أعطيك بفضلي وهِبَة مني ، أو أننا نأخذ الجنة بالعمل ، والمنازل بالفضل .
إذن : لا غِنَى لأحد مِنّا عن فَضْل الله .
لذلك يقول سبحانه : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]
هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة ، وينبغي ألاَّ تعوِّل على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة ، واعلم أن النجاة لا تكون إلا برحمة الله وفضل منه سبحانه .
ثم ترك الدعاء لذاته وانتقل لمن رباه فقال : { واغفر لأبي }
(1/6575)

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
لم ينْسَ إبراهيم عليه السلام في دعائه أن يدعو لمن رباه؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الخالق ، إنما جعل الوالدين هما السبب المباشر في الخَلْق والإيجاد؛ لذلك جعلهما أصحاب الفضل والأحق بالطاعة بعده تعالى ، لكن قد ينجب الوالدان ويهملان ولدهما فيربيه غيرهما؛ لذلك يأخذ المنزلة الثالثة ، فعندنا ربوبية خَلقَت من عدم ، وأبوة جاءت بأسباب الإيجاد ، وأبوة أخرى ربّت واعتنتْ .
وهذا المعنى واضح في قوله سبحانه : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] فحيثية الدعاء بالرحمة هنا ، لا لأنهما أبوان وهما سبب الإيجاد ، إنما لأنهما ربَّياني صغيراً ، إذن : لو ربّاني غير والديّ لأخذوا هذه المنزلة واستحقوا مني هذا الدعاء .
لكن لم يُستجَبْ لإبراهيم عليه السلام في هذه ، لأنه سأل الله لأبيه قبل أن يعرف أنه عدو لله ، يقول تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ }
(1/6576)

وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
بأيِّ شيء يكون الخزي في الآخرة؟ الخزي يكون حين يعاتبك ربك يوم القيامة على رؤوس الأشهاد على ما فَرَط منك من تقصير؛ لذلك الحساب اليسير ما كان بين العبد وربه ، وقد أُجيب إبراهيم عليه السلام في هذه الدعوة بقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] .
(1/6577)

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } [ الشعراء : 88 ] فأتى بالمسألة التي تشغل الناس جميعاً ، فكل إنسان يريد أن يكون غنياً صاحب مال وأولاد وعِزْوة ، ومَنْ حُرِم واحدة منهما حَزِن وألم أشدّ الألم .
والحق تبارك وتعالى يقول : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } [ الكهف : 46 ] .
ويقول سبحانه : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } [ آل عمران : 14 ] .
نعم ، هي زينة الحياة الدنيا ، ومعنى الزينة : الحُسْن غير الذاتي ، فالحُسْن قد يكون ذاتياً في الجوهر كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها الله عليها ، دون أنْ تتكلّف الجمال ، أو الزينة الظاهرة من مساحيق أو ذهب أو خلافه ، لذلك سمَّوْها في اللغة ( الغانية ) وهي التي استغنْت بجمالها الطبيعي الذاتي عن أنْ تتزّين بأيِّ شيء آخر .
وقوله : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] يعني : مع أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، فهذا لا يمنع نفعهما لصاحبهما إنْ أحسن التصرُّف في ماله ، فأنفقه في الخير ، وأحسن تربية أولاده التربية الصالحة ، لكن هذه أيضاً لا تصفو له ولا تستقيم إلا إذا { أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] .
يعني : توفّر له الإخلاص في هذا كله ، وإلاَّ فالرياء يُحبط العمل ، ويجعله هباءً منثوراً ، إنْ كنتَ تفعل الخير في الدنيا ولا تؤمن بالله ولا تُنزهه سبحانه عن الشريك ، فلن ينفعك عملك ، ولن يكون لك منه نصيب في ثواب الآخرة .
كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وفي الحديث القدسي : " . . . فعلت ليقال وقد قيل . . . " .
فعلتَ ليُقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك ، فعلتَ لتأخذ نيشاناً وقد أخذتَه ، فعلتَ ليُكتب اسمك على باب المسجد وقد كُتِب ، إذن : انتهت المسألة .
فقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } [ الشعراء : 88 ] لا ينفي نفع المال والبنين ، فهي نافعة شريطة أنْ تأتي اللهَ بقلب سليم ، والسلامة هنا تعني : أن يظلَ الشيء على حاله وعلى صلاحه الذي خلقه الله عليه لا يصيبه عطب في ذاته ، فيؤدي مهمته كما ينبغي .
فكأن السلامة تُوجد أولاً ، ونحن الذين نُفسِد هذه السلامة .
ومن ذلك قوله تعالى :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 1112 ] .
لذلك لو تأمّل الناس فيما يُتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه الله على مقتضى حكمته تعالى ، بدليل أن كل حركة في الكون لا يتدخل فيها الإنسان تراها مُستقيمة منتظمة لا تتخلف ، فإنْ تدخَّل الإنسان وُجِد الفساد ووُجِد الظلم للغير ، حتى للنبات وللجماد وللحيوان ، وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله .
(1/6578)

هذا إنْ تدخّل الإنسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه ، فإنْ تدخَّل على هَدْى من منهج الله استقامتْ الأمور وتحققتْ السلامة .
ألا ترى قوله تعالى في سورة الرحمن :
{ الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ * والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 57 ] .
لذلك تجد كل شيء في الكون موزوناً بقدر وبحكمة : الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء . . الخ وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة ، لماذا؟ لأنه لا دَخْلَ للإنسان فيها .
فمعنى القلب السليم : القلب الذي لا يعمُر إلا بما أراد الله أنْ يعمُرَ به ، وقد ورد في الحديث القدسي : " ما وسعتني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " .
إذن : لا تزحم قلبك بما يَشْغَله من أمور الدنيا ، واجعله خالياً لله مُنْشغلاً به ، فهذه هي سلامة القلب؛ لأن القلب مفطور على هذا ، مطبوع عليه . . ساعة خلقه الله خلقه صافياً سليماً من المشاغل؛ لذلك يقول سبحانه : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } [ النحل : 78 ] لماذا؟ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
إذن : لا تأخذ المال والبنين منفصليْن عن سلامة القلب؛ لأن ربك يقول : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] .
وفي آية : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } [ آل عمران : 14 ] ختمها الحق سبحانه بقوله : { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } [ آل عمران : 14 ] .
ومن سلامة القلب أن يخلو من الشرك ، وأن يخلو من النفاق؛ لأن المنافق يؤمن بلسانه ، ولا يؤمن بقلبه ، فقلبه لا يوافق لسانه؛ لذلك هو غير سليم القلب ، فكان أشد إثماً من الكافر ، وجعله الله في الدَّرْك الأسفل من النار .
المنافق أشد تعذيباً من الكافر؛ لأن الكافر مع كُفْره هو منطقيّ مع نفسه ، حيث كفر بقلبه وبلسانه ، ونطق بما يعتقده ، أما المنافق فقد غشَّنا وحُسِب علينا ظاهراً ، ومنهم مَنْ كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول ، وهو في حقيقة الأمر من الطابور الخامس داخل صفوف المسلمين .
وكذلك الرياء ينافي سلامة القلب ، فالمرائي يعمل للناس ولا يعمل لله ، ونعجب حين نرى مَنْ يُقدِّم الجميل رياءً وسُمْعة ، ثم يتهم مَنْ أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل ، نقول له : لماذا تتهمه وقد سبقته فأنكرتَ جميل الله ، حيث لم تجعله على بالك حين فعلتَ الخير .
إذن : فهذا جزاؤك جزاءً وفاقاً ، لأنك ما فعلتَ الخير لله ، إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء . وصَفْقَة المرائي خسارة ، وتجارته بائرة؛ لأنه حين يعطي رياءً يستفيد منه الآخذ ويخرج هو صُفْر اليدين ، كما قال سبحانه : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً } [ البقرة : 264 ] .
وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي ، ويُنكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلاً ، ولو عمل ذلك لله لأبقى الله ذِكْره بين الناس ، فحفظوا جميله ، وأَثنَوْا عليه بالخير .
" ويُرْوى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً في يدها ، فلما سألها عنه قالت : لأنّي قد نويتُ أنْ أتصدّق به ، فقال لها : تصدَّقي به وهو على حاله ، فقالت : أنا أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً " .
ثم يذكر الحق تبارك وتعالى نتيجة سلامة القلب وثمرة الإخلاص في العلم ، فيقول : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ }
(1/6579)

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{ وَأُزْلِفَتِ } [ الشعراء : 90 ] يعني : قرِّبت ، لكن كيف تقرب منهم وهم بداخلها؟ قالوا : تُقرَّب منهم قبل أن يدخلوها ، وهم ما زالوا في شدة الموقف وهو القيامة والحساب ، فتُقرَّب منهم الجنة ليطمئنوا بها ، ويهون عليهم هذا الموقف الصعب .
وفي آية أخرى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] يعني : يروْنها عياناً ، ويعرفون أنها النعيم الذي ينتظرهم ، وسوف يباشرونه عن قريب ، كما لو دُعِيْتَ إلى مائدة أحد العظماء ، وقد أُعدَّتْ على أتمَّ وجه ، فإن من النعيم أن تمر بها وتشاهد ما عليها من أطايب الطعام قبل أن يحين وقت الاجتماع عليه .
(1/6580)

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
وهذه لمن أتى الله بقلب غير سليم ، قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء ، وفي آية أخرى يقول تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] .
والورود لا يعني دخول النار ، إنما رؤيتها والمرور بها؛ لأن الصراط مضروب على مَتْن جهنم ، فالورود شيء والدخول شيء آخر ، ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] مع أن موسى عليه السلام ورد الماء يعني : مكان الماء ، ولم يشرب منه .
والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن فَضْل الإيمان عليه ، وأنه سبب نجاته من هذه النار التي يراها ، وهذه أعظم نعمة عليه؛ لذلك يقول سبحانه : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] .
ومعنى { لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] جمع غَاوٍ ، وهو إما أنْ يكون غاوياً في نفسه ، أو أغوى غيره ، فتطلق على الغاوي ، وعلى الذي يُغوِي غيره .
(1/6581)

وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ } [ الشعراء : 92 ] أرونا مَنْ أشركتموهم مع الله ، أين هم الآن؟
وفي موضع آخر : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } [ الصافات : 2225 ] .
لقد ضلوا عنكم ، وتركوكم ، بل وتبرأوا منكم : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] .
ثم ياتي الذين اتبعوا فيقولون : { رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } [ فصلت : 29 ] .
نعم ، إنها معركة؛ لأن الله تعالى قال : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] .
وقوله تعالى : { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] يعني : لا يستطيعون نصركم ، أو الدفاع عنكم ، ولا حتى نَصْر أنفسهم ، فإنْ كان نصرهم لأنفسهم ممنوعاً فلغيرهم من باب أَوْلَى ، ففي الآية تقريع لهم ولمن عبدوهم من دون الله ، وتحقير لشأنهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ }
(1/6582)

فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
الفعل كَبْكب ، يعني : كبّوا مرة بعد أخرى على وجوههم ، فهي تعني تكرار الكَبِّ ، فكلما قام كُبَّ على وجهه مرة أخرى ، وهي على وزن فعللة الدال على التكرار كما تقول : زقزقة العصافير ، ونقنقة الضفادع . والمراد هنا الأصنام تكبّ على وجوهها ، وتسبق مَنْ عبدها إلى النار ، كما قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] .
وقال : { هُمْ والغاوون } [ الشعراء : 94 ] فالغاوون يسبقون مَنْ أغْوَوْهم وأضلوهم؛ ليقطع أمل التابعين لهم في النجاة ، فلو دخل التابعون أولاً لقالوا : سيأتي منْ عبدناهم لينقذونا ، لكن يجدونهم أمامهم قد سبقوهم ، كما قال تعالى عن فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] .
(1/6583)

وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
ولإبليس جنودٌ من الجن ، وجنود من الإنس ، سيجتمعون جمعياً في النار .
(1/6584)

قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
هذه لقطة من ساحة القيامة ، حيث يختصم أهل الضلال مع مَنْ أضلوهم ، ويُلْقِي كل منهم بالتبعة على الآخر .
وهذه الخصومة وردتْ في قوله تعالى على لسان الشيطان : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] والمعنى : لم يكُنْ لي عليكم سلطانُ قَهْر أحملكم به على طاعتي ، ولا سلطان حجة أقنعكم به .
ثم يعترف أهل الضلال بضلالهم ويقسمون { تالله } [ الشعراء : 97 ] يعني : والله { إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 97 ] يعني : ظاهر ومحيط بنا من كل ناحية ، فأين كانت عقولنا { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } [ الشعراء : 98 ] أي : في الحب ، وفي الطاعة ، وفي العبادة .
كما قال سبحانه : { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله } [ البقرة : 165 ] .
(1/6585)

وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
يعني : يا رب أرنا هؤلاء المجرمين ، ومَكِنّا منهم لننتقم لأنفسنا ، ونجعلهم تحت أقدامنا ، وهكذا أخرجوا كل سُمِّهم في هؤلاء المجرمين ، وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه .
(1/6586)

فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
الشافع من الشَّفْع أي : الاثنين ، والشافع هو الذي يضمُّ صوته إلى صوتك في أمر لا تستطيع أن تناله بذاتك ، فيتوسط لك عند مَنْ لديه هذا الأمر ، والشفاعة في الآخرة لا تكون إلا لمن أَذِن الله له ، يقول تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .
ويقول سبحانه :
{ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .
إذن : ليس كل أحد صالحاً للشفاعة مُعداً لها ، وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك إلا صاحب منزلة ومكانة ، وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته ، فهي شفاعة مدفوعة الثمن ، فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له .
لذلك نرى في الريف مثلاً رجلاً له جاه ومنزلة بين الناس ، فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم ، فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته .
ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه ، ومعلوم أن الشركة تحتاج إلى مال أو عمل ، لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ولا يستطيع العمل ، لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس ، فنأخذه شريكاً معنا بما لديه من هذه الميزة .
والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس قُوِّمت بالمال؛ لأنه ما نالها من فراغ ، إنما جاءت نتيجة جَهْد وعمل ومجاملات للناس ، احترموه لأجلها ، فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بَقِي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس . . ومن ذلك أيضاً شراء العلامة التجارية .
ومعنى { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 101 ] فرْق بين الشافع والصديق ، فالشافع لا بُدَّ أن تطلب منه أن يشفع لك ، أما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه ، إنما يبادرك بالمساعدة ، ووصف الصديق بأنه حميم؛ لأن الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل إنسان مشغول بنفسه .
فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية ، فلن يسأل صديق عن صديقه ، كما قالت تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 3437 ] .
وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطاً كثيراً من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن الكريم ، فجاء أحدهم يقول : تقولون إن القرآن معجزة في البلاغة ، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين ، فإنْ كان الأول بليغاً فالآخر غير بليغ ، وإنْ كان الثاني بليغاً فالأول غير بليغ ، ثم يقول عن مثل هذه الآيات : إنها تكرار لا فائدة منه .
ونقول له : أنت تنظر إلى المعنى في إجماله ، وليس لديك الملَكة العربية التي تستقبل بها كلام الله ، ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتهمتَ القرآن ، فكل آية مما تظنه تكراراً إنما هي تأسيس في مكانها لا تصلح إلا له .
(1/6587)

والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة ، هما متفقتان في الصدر مختلفتان في العَجْز ، أحدهما :
{ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] .
والأخرى :
{ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 123 ] .
إذن : فصدْر الآيتين متفق ، أما عَجُز الأولى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] .
وعَجُز الأخرى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] فهما مختلفتان .
وحين تتأمل صَدْرَيْ الآيتين الذي تظنه واحداً في الآيتين تجد أنه مختلف أيضاً ، نعم هو مُتحد في ظاهره ، لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما : إما يعود على الشافع ، وإما يعود على المشفوع له ، فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له : لا نأخذ منك عدلاً ، ولا تنفعك شفاعة ، وإنْ عاد الضمير على الشافع نقول له : لا نقبل منك شفاعة ونُقدِّم الشفاعة أولاً ولا نأخذ منك عدلاً .
إذن : ليس في الآيتين تكرار كما تظنون ، فكلٌّ منهما يحمل معنى لا تؤديه الآية الأخرى .
وقد أوضحنا هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] .
والأخرى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } [ الأنعام : 151 ] .
فصدْرا الآيتين مختلف ، وكذلك العَجْز مختلف ، فعَجُز الأولى : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [ الإسراء : 31 ] .
وعَجُز الأخرى : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [ الأنعام : 151 ] .
وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها ، وليس فيهما تكرار كما يظن البعض .
ففي الآية الأولى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] إذن : فالفقر غير موجود ، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد ، فهو مشغول برزق الولد ، لا برزقه هو؛ لأنه غني غير محتاج؛ لذلك قدَّم الأولاد في عَجُز الآية ، كأنه يقول للأب : اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولاً ، وسوف تُرزَق أنت أيضاَ معهم .
أما الآية الأخرى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } [ الأنعام : 151 ] فالفقر في هذه الحالة موجود فعلاً ، وشُغل الأب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الآية : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [ الأنعام : 151 ] فقدَّمهم على الأولاد .
إذن : لكل آية معناها الذي لا تؤديه عنها الآية الأخرى .
ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً }
(1/6588)

فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
معنى : { كَرَّةً } [ الشعراء : 102 ] أي : عودة إلى الدنيا ورجعة { فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الشعراء : 102 ] أي : نستأنف حياة جديدة ، فنؤمن بالله ونطيعه ، ونستقيم على منهجه ، ولا نقف هذا الموقف .
وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة ، يقول تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 99100 ] .
يعني : { كَلاَّ } [ المؤمنون : 100 ] لن يعودوا مرة أخرى ، وما هي إلا كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون النجاة بها ، لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخٌ يعزلهم عنها ، ويمنعهم العودة إليها ، وسوف يظل هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون .
وفي أية أخرى حول هذا المعنى يُرقِّي الحق تبارك وتعالى المسألة من موقف الموت إلى موقف القيامة ، فيقول سبحانه : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] .
وهذا كَذِب منهم وقَوْل باللسان لا يوافقه العمل؛ لذلك ردَّ الحق تبارك وتعالى عليهم بقوله : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً }
(1/6589)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
الآية : هي الأمر العجيب الملفت للنظر ، وما كان ينبغي أنْ يمرَّ على العقول بدون تأمّل واعتبار { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 103 ] رغم أن هذه الآيات ظاهرة واضحة ، ومع ذلك كان أكثرهم غير مؤمنين .
(1/6590)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
أي : مع كونهم لم يؤمن أكثرهم ، فالله تعالى هو العزيز الذي لا يُغلَب ، إنما يغلِب ، ومع عِزّته تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التوبة لمن تاب .
ثم ينتقل السياق القرآني من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى قصة أخرى من رَكْب الأنبياء ومواكب الرسل هي قصة نوح عليه السلام : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ }
(1/6591)

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
القوم : هم الرجال خاصة ، وسُمُّوا قوماً؛ لأنهم هم الذين يقومون بأهم الأشياء ، ويقابل القوم النساء ، كما جاء شرح هذا المعنى في قوله سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] .
فالرجال هم القوم؛ لأنهم يقومون بأهم الأمور ، وعليهم مدار حركة الحياة ، والنساء يستقبلْنَ ثمار هذه الحركة ، فينقونها بأمانة ويُوجِّهونها التوجيه السليم .
والشاعر العربي أوضح هذا المعنى بقوله :
وَمَا أَدْرِي ولسْتُ إخَاَلُ أدْرِي ... أَقْوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
ونفهم أيضاَ هذه القِوامة للرجل من قَوْل الله تعالى حينما وعظ آدم وحذَّره من الشيطان : { إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة } [ طه : 117 ] وحسب القاعدة نقول : فتشقيا .
لكن الحق تبارك وتعالى يقول : { فتشقى } [ طه : 117 ] أنت يا آدم وحدك في حركة الحياة ، فالرجل يتحمل هذه المشقة ويكرم المرأة أن تُهَان أو تشقى ، لكن ماذا نفعل وهي تريد أن تُشقِي نفسها؟!
ونلحظ أن الآية تقول : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] كيف وهم ما كذّبوا إلا رسلهم نوحاً عليه السلام؟ وكانوا مؤمنين قبله بآدم وإبراهيم مثلاً .
قالوا : لأن الرسل عن الله إنما جاءوا في أصول ثابتة في العقيدة وفي الأخلاق لا تتغير في أي دين؛ لذلك فمن كذَّب رسوله فكأنه كذَّب كل الرسل ، ألاَ ترى أن من أقوال المؤمنين أن يقولوا :
{ قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 84 ] .
وقال تعالى : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] .
فإنْ قُلْتَ : فماذا عن اختلاف المناهج والشرائع من نبي لآخر؟ نقول : هذه اختلافات في مسائل تقتضيها تطورات المجتمات ، وهي فرعيات لا تتصل بأصل العقائد والأخلاق الكريمة .
لذلك نجد هذه لازمة في كُلِّ مواكب الرسالات ، يقول : المرسِلِين ، المرسَلِين؛ لأن الذي يُكذِّب رسوله فيما اتفق فيه الأجيال من عقائد وأخلاق ، فكأنه كذّب جميع المرسلين .
(1/6592)

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ] يريد أن يُحنِّن قلوبهم عليه بكلمة { أَخُوهُمْ } [ الشعراء : 106 ] التي تعني أنه منهم وقريب الصِّلة بهم ، ليس أجنبياً عنهم ، فهم يعرفون أصله ونشأته . ويعلمون صفاته وأخلاقه .
لذلك لما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغ الناس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب الناس إليه ، وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة ، وكذلك الصِّديق أبو بكر وغيرهما من المؤمنين الأوائل ، لماذا؟
لأنهم بَنَوْا على تاريخه السابق ، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة ، فعلموا أن الذي لا يكذب على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس .
والسيدة خديجة رضوان الله عليها تعتبر أول فقيهة ، وأول عالمة أصول في الإسلام ، حينما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو ما يعاني ، ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئياً من الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره ، قالت له انظر إلى العظمة " والله إنك لتصل الرحم ، وتَقْرى الضيف ، وتحمل الكَلَّ ، وتُعين على نوائب الدهر ، والله لا يخزيك الله أبداً " .
ولما علم الصِّدِّيق بحادثة الإسراء والمعراج بادر بالتصديق ، ولم يتردد ، ولما سُئل عن ذلك قال : إننا نصدقه في الأمر يأتي من السماء فكيف لا نصدقه في هذه ، فإنْ كان قال فقد صدق .
إذن : فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول الله؛ لذلك استحق الصِّديق هذا اللقب عن جدارة ، حتى " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول في حقه : " كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان يعني : في خصال الخير فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني ، ولو سبقني لاتبعته " .
هذه كلها معانٍ نفهمها من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ } [ الشعراء : 106 ] .
وهذا معنى قوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] فهذه من حكمة الله في الرسل ، وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم : نريد ملكاً رسولاً ، وأن يقفوا من رسول الله موقف العداء ، وكان يجب عليهم على الأقل أن يُمكِّنوه من دعوته ، ويُمكِّنوا عقولهم من أنْ تفهم لا أن تدخل في الأمر على هوى سابق .
فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل ، والحق لا يجتمع مع الباطل ولا يضمهما محلٌّ واحد؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة ، فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل أولاً ، ثم حكِّم عقلك في الأمر ، واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله .
وهذه نراها حتى في الماديات ، فالحيز الواحد لا يسع شيئين أبداً ، يقولون : عدم تداخل ، كما لو ملأت قارورة بالماء مثلاً ، فقبل أن يدخل الماء لا بُدَّ أنْ يخرج الهواء ، فنراه على شكل فقاعات .
(1/6593)

لذلك يقول تعالى : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } [ المؤمنون : 71 ] .
ولك أن تلاحظ مثلاً زجاجة ( الكولونيا ) ذات الثُّقْب الضيق إذا وضعْتها في الماء ، لا يمكن أن يدخلها الماء ، لماذا؟ لأن ثقبها ضيق ، لا يسمح بخروج الهواء أو دخول الماء .
ولأمر ما سُمِّي الهوى من الهواء ، فكما أن الهواء الذي نُحِسُّه لو أتى من ناحية واحدة لمبنى أو جبل مثلاً لانهدم إلى الناحية الأخرى ، لماذا؟ لأن الهواء هو الذي يتولّى حِفْظ توازن هذه المباني العالية وناطحات السحاب التي نراها ، يحفظ توازنها حين يحيط بها من كل جهاتها ، فإنْ فرّغتَ الهواء من أحدى الجهات انهدم المبنى في نفس هذه الجهة .
والهواء من القوى العظيمة التي يستخدمها الإنسان ويُحولِّها إلى طاقة ، وانظر مثلاً إلى قوة تفريغ الهواء وما تُحدِثه من هزة عنيفة ، أو إلى الحاويات والشاحنات العملاقة التي تسير على الهواء في عجلاتها ، وكذلك الهوى إنْ كان في الباطل كان قوياً ومدمراً ، ومن هذا المعنى سُمِّي السقوط هويّا ، تقول : هَوَى الشيء يعني : سقط .
وقوله : { أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ] هذه الكلمة جاءت على لسان كل الرسل أو يقولها الرسول أوَّلَ ما يبعث ، ومعناها : اتقوا الله و ( أَلاَ ) أداة للخصِّ ، والحثِّ على الفعل . كما تقول للولد المهمل : أَلاَ تذاكر أو هَلاَّ تذاكر .
وحين نحلل أسلوب الحضِّ أو الحثِّ نجد أنه يأتي على صورة التعجب من نفي الفعل ، كما تقول للولد الذي لا يصلي وتريد أن تحثَّه على الصلاة : ألا تصلي؟ استفهام بالنفي وعندها يستحي الولد أن يقولها ، لكن حين تستفهم بالإثبات : أتصلي؟ يقولها بفخر : نعم .
إذن : معنى الحثِّ : تعجُّب من ترْك الفعل وإنكار يحمل معنى الأمر .
فمعنى : { أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ] أُنكِر عليكم ألاَّ تكونوا متقين ، والمراد : أطلب منكم أن تكونوا متقين ، وما دُمْت قد أنكرت النفي فلا بُدَّ أنك تريد الإثبات .
(1/6594)

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
وقوله تعالى : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } [ الشعراء : 107 ] فإنْ كانت عندكم غفلة فقد رَحِم الله غفلتكم ، ونبّهكم برسول أمين يَعِظكم ويعلّمكم ويُبلّغكم منهج الله ، وهو أمين لن يغشَّكم في شيء حتى لا تقولوا : إنَّا كنَّا غافلين .
وما دُمْت أنا مرسلاً من الله إليكم ، وأميناً عليكم وعلى دعوتي ، فاسمعوا مني؛ لذلك كرَّر الأمر بالتقوى : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ }
(1/6595)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
وكأنه يتصالح معهم ، فيُخفف من أسلوب النُّصْح ، ويأتي بالأمر صريحاً بعد أن أتى به في صورة إنكار ألاَّ يكونوا متقين . وثمرة التقوى طاعة الأوامر واجتناب النواهي ، وهذه لا نعرفها إلا من الرسول حامل المنهج ومُبلِّغ الدعوة والأمين عليها .
وقد ترددتْ هذه الآية على ألسنة كثير من رسل الله : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ الشعراء : 107108 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }
(1/6596)

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
هذه العبارة { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 109 ] لم نسمعها على لسان إبراهيم عليه السلام ، ولا على لسان موسى عليه السلام ، فأول مَنْ قالها نوح عليه السلام ، وكوْنك تقول لآخر : أنا لا أسألك أَجْراً على هذا العمل ، فهذا يعني أنك تستحق أجراً على هذا العمل ، وأنت غير زاهد في الأجر ، إنما إنْ أخذته من المنتفع بعملك ، فسوف يُقوِّمه لك بمقاييسه البشرية؛ لذلك من الأفضل أن تأخذ أجرك من الله .
فكأن نوحاً عليه السلام يقول : أنتم أيها البشر لا تستطيعون أن تُقوِّموا ما أقوم به من أجلكم؛ لأنني جئتكم بمنهج هداية يُسعِدكم في الدنيا ، ويُنجيكم في الآخرة ، وأنتم لن تٌقوِّموا هذا العمل ، وأجري فيه على الله؛ لأنكم تُعطون على قَدْر إمكاناتكم وعلمكم .
وسبق إنْ حكيْنَا لكم قصة الرجل الذي قابلناه في الجزائر ، وكان رجلاً تبدو عليه علامات الصلاح ، وقد أشار لنا لنقف بسيارتنا ونحمله معنا ، فلما توقفنا ليركب معنا مالَ إلى السائق ، وقال ( على كم ) يعني : الأجرة فقال له الرجل ، وكان المحافظ : نُوصلك لله ، فقال ( غَلِّتها يا شيخ ) . نعم ، إنْ كان الأجر على الله فهو غَالٍ .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [ الطور : 40 ] .
ثم يقول : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] إنْ هنا بمعنى ما النافية؛ لأنه تعالى القادر على أن يُكافئني على دعوتي ، فهو الذي أرسلني بها ، وهو سبحانه رب العالمين الذي تبرع بالخَلْق من عدم ، وبالإمداد من عدم ، وخلق لي ولكم الأرزاق ، وهذا كله لصالحكم؛ لأنه سبحانه لا ينتفع من هذا بشيء .
والربوبية تقتضي عناية ، وتقتضي نفقة وخلقاً وإمداداً ، فصاحب كل هذه الأفضال والنعم هو الذي يعطيني أجري .
(1/6597)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
بعد أن بيَّن لهم كرم الربوبية في مسألة الأجر على الدعوة وأعطاهم ما يشجعهم على التقوى وعلى الطاعة؛ لأنهم سينتفعون برسالة الرسول دون أجر منهم . ومعنى { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ الشعراء : 110 ] أي : ليست لي طاعة ذاتية ، إنما أطيعوني؛ لأني رسول من قِبَل الله تعالى .
ثم يقول الحق سبحانه حاكياً ردَّهم على نوح عليه السلام : { قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ }
(1/6598)

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
الأَرْذَلُونَ : جمع أرذل ، وهو الردىء من الشيء ، ورُذَال الفاكهة : المعطوب منها وما نسميه ( نقاضة ) والاستفهام هنا للتعجب : كيف نؤمن لك ونحن السادة ، والمؤمنون بك هم الأرذلون؟
يقصدون الفقراء وأصحاب الحِرَف والذين لا يُؤْبَه بهم ، وهؤلاء عادة هم جنود الرسالة؛ لأنهم هم المطحونون من المجتمع الفاسد ، وطبيعي أن يتلقفوا مَنْ يعدل ميزان المجتمع .
وفي آية أخرى : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 27 ] .
وقولهم : { أَنُؤْمِنُ لَكَ } [ الشعراء : 111 ] دليل على عدم فهمهم لحقيقة الإيمان؛ لأنه لم يقُلْ لهم : آمنوا بي ، إنما آمنوا بالله .
أو : أن المعنى { أَنُؤْمِنُ لَكَ } [ الشعراء : 111 ] أي : نُصدِّقك فمن معاني آمن أي : صدَّق ، كما في قوله تعالى : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] أي : صَدَّق به ، وآمن تكون بمعنى صَدَّق إذا جاءت بعدها اللام ، فإنْ جاء بعدها الباء فهي بمعنى الإيمان .
(1/6599)

قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
يعني : ما دام الحساب على ربي وهم يريدون الإيمان ، فلا بُدَّ أنْ يأخذوا جزاءهم وافياً { لَوْ تَشْعُرُونَ } [ الشعراء : 113 ] .
(1/6600)

وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
وقد طلبوا منه أن يطرد هؤلاء المؤمنين من مجلسه ليُجلِسهم هم ، وفي آية أخرى قال سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } [ الأنعام : 52 ] .
(1/6601)

إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
فمَنْ يسمع إنذاري ، ويسمع بشارتي ، ويأتي مجلسي ، فعلى عيني أرافقه . فالله ما أرسلني لأخص ذوي الغنى دون الفقراء بمجلسي ، إنما أرسلني لأبلغكم ما أرسلت به ، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله ، وإن كان فقيراً .
(1/6602)

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
وهكذا أعلنوا الحرب على نبي الله نوح ، يقولون : لا فائدةَ من تحذيرك ، وما زِلْتَ مُصِراً على دعوتك { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ } [ الشعراء : 116 ] عما تدعيه من الرسالة ، وما تقول به من تقوى الله وطاعته ، وما تفعله من تقريب الأرذلين إلى مجلسك ، لتكوِّن جمهوراً من صغار الناس .
{ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } [ الشعراء : 116 ] أي : إذا لم تنتهِ فسوف نرجمك ، إنه تهديد صريح للرسول الذي جاءهم من عند الله يدعوهم إلى الخير في الدنيا والآخرة .
كما قال سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
وهذا التهديد منهم لرسول الله يدلُّ على أنهم كانوا أقوياء ، وأصحابَ جاه وبطْشٍ .
(1/6603)

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
تأمل هنا أدب نوح عليه السلام حين يشكو قومه إلى الله ويرفع إليه ما حدث منهم ، كل ما قاله : { إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } [ الشعراء : 117 ] ولم يذكر شيئاً عن التهديد له بالرجم ، وإعلان الحرب على دعوته ، لماذا؟ لأن ما يهمه في المقام الأول أن يُصدِّقه قومه ، فهذا هو الأصل في دعوته .
وقوله : { فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } [ الشعراء : 118 ] الفتح في الشيء إما : حسياً وإما معنوياً ، فمثلاً الباب المغلَق بقُفْل نقول : نفتح الباب : أي نزيل أغلاقه .
فإنْ كان الشيء مربوطاً نزيل الأشكال ونفكّ الأربطة .
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف : { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } [ يوسف : 65 ] أي : أزالوا الرباط عن متاعهم ، هذا هو الفتح الحسِّيّ .
أما الفتح المعنوي فنُزيل الأغلاق والأشكال المعنوية ليأتي الخير وتأتي البركة ، كما في قوله سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] .
وفي آية أخرى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] .
والخير الذي يفتح الله به على الناس قد يكون خيراً مادياً ، وقد يكون عِلْماً ، كما في قوله تعالى : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 76 ] .
أي : من العلم في التوراة ، يخافون أن يأخذه المؤمنون ، ويجعلوه حجة على أهل التوراة إذا ما كان لهم الفتح والغَلَبة ، فمعنى : { بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 76 ] أي : بما علَّمكم من علم لم يعلموه هم .
وقد يكون الفتح بمعنى الحكم ، مثل قوله سبحانه : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] .
ويكون الفتح بمعنى النصر ، كما في قوله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] .
ثم يقول نوح عليه السلام : { وَنَجِّنِي } [ الشعراء : 118 ] من كيدهم وما يُهدِّدونني به من الرَّجْم { وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين } [ الشعراء : 118 ] لأن الإيذاء قد يتعدّاه إلى المؤمنين معه ، وتأتي الإجابة سريعة : { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ }
(1/6604)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
وقد وردتْ قصة السفينة في الأعراف ، وفي هود ، ولنوح عليه السلام سورة خاصة هي سورة نوح مثل سورة محمد؛ ذلك لأن له في تاريخ الرسالات ألف سنة إلا خمسين عاماً ، ويستحق أنْ يخصَّه الله تعالى بسورة بأسمه .
لذلك عندما يكرر أحد الناس لك الكلام ، ويُعيده عليك ، تقول له ( هيَّه سورة ) ، فكلام العامة والأُميين له أَصْلٌ من استعمال اللغة .
وفي موضع آخر ذكر الحق تبارك وتعالى قصة صُنْع السفينة في قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } [ هود : 38 ] وهذا دليل على أنها كانت أول سفينة يصنعها الإنسان ، وقد صنع نوح سفينته بأمر الله ووحيه وتحت عينه تعالى ، وفي رعايته : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [ هود : 37 ] .
وما كان الله تعالى ليُكلِّفه بصُنْع السفينة ثم يتركه ، إنما تابعه ، حتى إذا ما حدث خطأ نبَّهه إليه من البداية ، كما قال تعالى لسيدنا موسى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] .
وبمثل هذه الآيات نردُّ على الذين يقولون : إن الله تعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة فخلق الخَلْق ، ثم ترك القوانين تسيره ، ولو كان الأمر كذلك لوجدنا العالم كله يسير بحركة ( ميكانيكية ) ، لكن ظواهر الكون وما فيه من معجزات تدلُّ على قيوميته تعالى على خَلْقه .
لذلك يقول لهم : ناموا ملء جفونكم ، فإن لكم رباً لا ينام ، كيف لا وأنت إذا استأجرتَ حارساً لمنزلك مثلاً تنام مطمئناً اعتماداً على أنه يَقِظ؟ وكيف إذا حرسك ربُّك عز وجل الذي لا تأخذه سِنَة ولا نَوْمٌ؟ وأَلاَ يدلُّ ذلك على قيوميته تعَالى؟
هذه القيومية التي تنقضُ العزائم ، وتفسَح القوانين ، قيومية تقول للنار كوني برداً وسلاماً فتكون ، وتقول للماء : تجمَّد حتى تكون جبلاً فيتجمد ، تقول للحجر : انفلق فينفلق . . ولو كان الأمر ( ميكانيكياً ) كما يقولون لما حدث هذا ، ولما تخلَّف قانون واحد من قوانين الكون .
والمشحون : الذي امتلأ ، ولم يَبْقَ به مكان خَالٍ ، فكانت السفينة مشحونة بما حمل فيها ، لأنها صُنِعَتْ بحساب دقيق ، لا يتسع إلا لمن كُلِّف نوح بحملهم في سفينته ، وكانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة ومن كل حيوان زوجين اثنين .
والفلك المشحون يُطلَق ويُراد به الواحدة ، ويُطلَق ويراد به الجماعة كما في قوله سبحانه : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
(1/6605)

ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
وهم الكافرون الذين لم يركبوا معه ، و { بَعْدُ } [ الشعراء : 120 ] أي : بعد ما ركب من ركب ، وبعد { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 1112 ] .
(1/6606)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
والآية : الأمر العجيب الذي يجب الالتفات إليه والاعتبار به ، لكن مَنْ سيعتبر بعد أنْ غرق الباقون؟ سيعتبر بهذه الآية المؤمنون الذين ركبوا السفينة حين يروْنَ نتيجة التكذيب ، ومصير المكذِّبين الكافرين .
(1/6607)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
أي : ورغم كُفْرهم وتكذيبهم ، ورغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين ، فالله تعالى هو العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب ، وهو سبحانه الرحيم بعباده الذي يتوب على مَنْ تاب منهم .
ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى في موكب الأمم المكذِّبة : { كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين }
(1/6608)

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
وقال هنا أيضاً { المرسلين } [ الشعراء : 123 ] لأن تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لكل الرسل؛ لأنهم جميعاً جاءوا بقواعد وأصول واحدة في العقائد وفي الأخلاق .
وعاد : اسم للقبيلة ، وكانت القبائل تُنسَب إلى الأب الأكبر فيها ، ولصاحب الشهرة والنباهة بين قومه ، فعاد هو أبو هذه القبيلة ، وقد يُطلَق عليهم بنو فلان أو آل فلان ، ثم يذكر لنا قصتهم ، ومتى كان منهم هذا التكذيب : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ }
(1/6609)

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
قلنا : إن ( أَلاَ ) للحثِّ والحضِّ ، وحين يُنكّر النفي { أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 124 ] فإنه يريد الإثبات فكأنه قال : اتقوا . وقال { أَخُوهُمْ } [ الشعراء : 124 ] ليرقق قلوبهم ويُحنِّنهم إليه ، وليعرفوا أنه واحد منهم ليس غريباً عنهم ، فهو أخوهم ، والأخ من دَأبه النُّصْح والشفقة والرحمة ، وهذا إيناس للخَلْق .
(1/6610)

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)
وهذه المقولة لازمة من لوازم الرسُل في دعوتهم ، سبق أنْ قالها نوح عليه السلام .
(1/6611)

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
قلنا : إن هذه العبارة أول مَنْ قالها نوح عليه السلام ثم سيقولها الأنبياء من بعده . لكن : لماذا لم يقل هذه العبارة إبراهيم؟ ولم يقُلْها موسى؟
قالوا : لأن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا دعا عمه آزر ، فكيف يطلب منه أَجْراً؟ وكذلك موسى عليه السلام أول دعوته دعا فرعون الذي ربَّاه في بيته ، وله عليه فضل وجميل ، فكيف يطلب منه أجراً ، وقد قال له : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] .
لذلك لم تأْت هذه المقولة على لسان أحد منهما .
وقال : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 127 ] لأن الربَّ هو الذي يتولَّى الخَلْق بالبذْل والعطايا والإمداد . وقلنا : إن عدم أخذ الأجر ليس زُهْداً فيه ، إنما طمعاً في أنْ يأخذ أجره من الله ، لا من الناس .
ثم يتوجّه إليهم ليُصحِّح بعض المسائل الخاصة بهم : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ }
(1/6612)

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
وهذه خصوصية من خصوصيات قوم هود ، والرِّيع : هو المكان المرتفع ، لذلك بعض الناس يقولون : كم رِيع بنائك؟ يعني : ارتفاعه كم متراً ، فكأن الارتفاع يُثمِّن البقعة ، ويُطلق الريع على الارتفاع في كل شيء .
وكلمة { آيَةً } [ الشعراء : 128 ] بعد { أَتَبْنُونَ } [ الشعراء : 128 ] تعني : القصور العالية التي تعتبر ِآيةً في الإبداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والاتساع والرِّفْعة في العُلُو .
وقال { تَعْبَثُونَ } [ الشعراء : 128 ] لأنهم لن يخلُدوا في هذه القصور ، ومع ذلك يُشيِّدونها لتبقى أجيالاً من بعدهم ، فعدّ هذا بعثاً منهم؛ لأن الإنسان يكفيه أقلّ بناء ليأويه فترة حياته .
أو { تَعْبَثُونَ } [ الشعراء : 128 ] لأنهم كانوا يجلسون في شُرفات هذه القصور يصدُّون الناس ، ويصرفونهم عن هود وسماع كلامه ودعوته التي تَلْفِتهم إلى منهج الحق .
ونحن لم نَرَ حضارة عاد ، ولم نَرَ آثارهم ، كما رأينا مثلاً آثار الفراعنة في مصر؛ لأن حضارة عاد طمرتْها الرمال ، وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تُسمَّى الآن بالرَّبْع الخالي؛ لأنها منطقة من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها ، لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله تعالى في سورة الفجر :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 68 ] .
وما دامت لم يُخلَق مثلها في البلاد ، فهي أعظم من حضارة الفراعنة التي نشاهدها الآن ، ويفد إليها الناس من كل أنحاء العالم ليشاهدوا الأهرام مثلاً ، وقد بنيت لتكون مجرد مقابر ، ومع تقدُّم العلم في عصر الحضارة والتكنولوجيا ، ما زال هذا البناء مُحيِّراً للعلماء ، لم يستطيعوا حتى الآن معرفةَ الكثير من أسراره .
ومن هذه الأسرار التي اهتدَوْا إليها حديثاً كيفية بناء أحجار الأهرام دون ملاط مع ضخامتها ، وقد توصَّلوا إلى أنها بُنيَتْ بطريقة تفريغ الهواء مما بين الأحجار ، وهذه النظرية تستطيع ملاحظتها حين تضع كوباً مُبلّلاً بالماء على المنضدة مثلاً ، ثم تتركه فترةً حتى يتبخر الماء من تحته ، فإذا أردتَ أن ترفعه من مكانه تجده قد لصق بالمنضدة .
وليس عجيباً أنْ تختفي حضارةٌ ، كانت أعظم حضارات الدنيا تحت طبقات الرمال ، فالرمال حين تثور تبتلع كل ما أمامها ، حتى إنها طمرتْ قبيلة كاملة بجِمالها ورجالها ، وهذه هبة واحدة ، فما بالك بثورة الرمال ، وما تسفوه الريح طوال آلاف السنين؟
وأنا واثق من أنهم إذا ما نبشوا هذه الرمال وأزاحوها لوجدوا تحتها أرضاَ خصبة وآثاراً عظيمة ، كما نرى الاكتشافات الأثرية الآن كلها تحت الأرض ، وفي فيينا أثناء حفر أحد خطوط المجاري هناك وجدوا آثاراً لقصور ملوك سابقين .
وطالما أن الله تعالى قال عن عاد : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } [ الشعراء : 128 ] فلا بُدَّ أن هناك قصوراً ومبانيَ مطمورة تحت هذه الرمال .
(1/6613)

وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
المصانع تُطلَق على موارد الماء ، وتطلق على الحصون ، لماذا .
قالوا : لأن الحصون لا تُبنَى للإيواء فقط؛ لأن الإيواء يمنع الإنسان من هوام الحياة العادية ، أمّا الحصون فمتنعه أيضاً من الأعداء الشرسين الذي يتربصون به ، فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة ، لماذا؟
{ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 129 ] يعني : أتبنون هذه الحصون هذا البناء القوي المسلح تريدون الخلود؟ وهل أنتم مُخلَّدون في الحياة؟ إن فترة مُكْث الإنسان في الدنيا يسيرة لا تحتاج كل هذا التحصين ، فهي كظلِّ شجرة ، سرعان ما يزول .
(1/6614)

وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
والبَطْش : الأخْذُ بشدة وبعنف ، يقول تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد } [ البروج : 12 ] ويقول : { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] .
لأن الأَخْذ يأخذ صُوراً متعددة : تأخذه بلين وبعطف وشفقة ، أو تأخذه بعنف .
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بَطْشهم { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] .
لأنك قد تأخذ عدوك بعنف ، لكن بعد ذلك يرقُّ له قلبك ، فترحم ذِلَّته لك ، فتُهوِّن عليه وترحمه ، لكن هؤلاء جبارون لا ترقّ قلوبهم .
وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 128130 ] .
هذه الصفات تخدم صفة التعالي ، وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العُلُو التي تُقرِّبهم من الألوهية؛ لأنه لا أحدَ أعلى من الحق سبحانه ، ثم يريدون أيضاً استدامة هذه الصفة واستبقاء الألوهية : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 129 ] .
وفي صفة البَطش الشديد والجبارية يريدون التفرُّد على الغير ، والقرآن يقول : { تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً } [ القصص : 83 ] .
فإنْ كنتَ تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة ، فعليك أنْ تؤديها ، لا للتّعالي؛ لأن حينئذ ستأخذ حظك من العُلُو والغَلَبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة ، أمّا إنْ فعلتَ وفي بالك ربُّك ، وفي بالك أنْ تُيسِّر للناس مصالح الحياة ، فإنك تُرقَّي عملك وتُثمِّره ، ويظل لك أجره ، طالما وجد العمل ينتفع الناس به إلى أنْ تقوم الساعة ، وهذا أعظم تصعيد لعمل الإنسان .
ولم يفعل قوم عاد شيئاً من هذا ، إنما طلبوا العُلُو في الأرض ، وبطشوا فيها جبارين ، لكن أيتركهم ربهم عز وجل يستمرون على هذه الحال؟
إن من رحمة الله تعالى بعباده أنْ يُذكِّرهم كلما نَسُوا ، ويُوقظهم كلما غفلوا ، فيرسل لهم الرسل المتوالين؛ لأن الناس كثيراً ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } [ الأعراف : 172173 ] .
وقلنا : إن الحق تبارك وتعالى يضع المناعة في خليفته في الأرض ، ويعطيه المنهج الذي يصلحه ، لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه ، فينحرف عنه ، والإنسان بطبيعته يحمل مناعةً من الحق ضد الباطل وضد الشر ، فإنْ فسدَتْ فيه هذه المناعة فعلى الآخر أن يُذكِّره ويُوقظ فيه دواعي الخير . ومن هنا كان قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ] .
فإنْ وجدتَ أخاك على باطل فخُذْ بيده إلى الحق .
ومعنى { وَتَوَاصَوْاْ } [ العصر : 3 ] أي : تبادلوا التوصية ، فكل منكم عُرْضة للغفلة ، وعُرْضة للانحراف عن المنهج ، فإنْ غفلتُ أنا توصيني ، وإنْ غفلتَ أنت أوصيك ، وهذه المناعة ليست في الذات الآن ، إنما في المجتمع المؤمن ، فمنْ رأى فيه اعوجاجاً قوَّمه .
(1/6615)

لكن ما الحال إنْ فسدت المناعة في الفرد وفسدَتْ في المجتمع ، فصار الناس لا يعرفون معروفاً ، ولا يُنكِرون منكراً ، كما قال تعالى عن بني إسرائيل :
{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } [ المائدة : 79 ] .
وعندها لا بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد ، ومعجزة جديدة تُوقِظ الناس ، وتعيدهم إلى جادة ربهم .
ومن شرف أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها ، فجعلهم الله توابين ، إنْ فعل أحدهم الذنب تاب ورجع ، وإنْ لم يرجع وتمادى رَدَّه المجتمع الإيماني وذكَّره .
وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة إلى قيام الساعة ، كما ورد في الحديث : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " .
لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المناعة ملازمة لها في الذات ، وفي النفس اللوامة ، وفي المجتمع الإيماني الذي لا يُعدم فيه الخير أبداً .
لذلك يقول سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } [ آل عمران : 110 ] .
وهذه صفة تفردتْ بها هذه الأمة عن باقي الأمم؛ لذلك يقول هود عليه السلام مُذكّراً لقومه ومُوقِظاً لهم : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ }
(1/6616)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
أي : أن ربكم عز وجل لم يترككم على ما أنتم عليه من الضلال تعبثون بالآيات ، وتتخذون مصانع تطلبون الخلود ، وأنكم بطشتم جبارين ، وها هو يدعوكم : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ الشعراء : 131 ] فتقوى الله تعالى وطاعته كفيلة أنْ تُذهب ماضيكم وتمحو ذنوبكم ، بل وتُبدِّله خيراً وصلاحاً { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] .
وأنا حين أُوصيكم بتقوى الله وطاعته ، لا أوصيكم بهذا لصالحي أنا ، فلا أقول لكم ، اتقوني أو أطيعوني ولن أنتفع من طاعتكم بشيء . كذلك الحق تبارك وتعالى غني عنكم وعن طاعتكم؛ لأن له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق ، فهو سبحانه متصف بالخَلْق قبل أن يخلق ، وبالقدرة قبل أن يُوجَد المقدور عليه . . إلخ .
إذن : فوجودكم لم يَزِدْ شيئاً في صفاته تعالى ، وما كانت الرسالات إلا لمصلحتكم أنتم ، فإذا لم تطيعوا أوامر الله ، وتأخذوا منهجه ، لأنه يفيدكم فأطيعوه جزاءَ ما أنعم عليكم من نِعَم لا تُعدُّ ولا تُحصَى ، فالإنسان طرأ على كون أُعِدَّ لاستقباله وهُيِّىء لمعيشته ، وخلق له الكون كله : سماءً ، فيها الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر ، وأرضاً فيها الخصب والماء والهواء . هذا كله قبل أن تُوجَد أنت ، فطاعتك لله إذن ليست تفضُّلاً منك ، إنما جزاء ما قدَّم لك من نِعَم .
وعجيب أن ترى هذه المخلوقات التي جُعِلَتْ لخدمتك أطول عمراً منك ، فالإنسان قد يموت يوم مولده ، وقد يعيش عدة أيام أو عدة سنوات ، أمّا الشمس مثلاً فعمرها ملايين السنين ، وهي تخدمك دون سلطان لك عليها ، ودون أن تتدخل أنت في حركتها .
ثم يقول تعالى : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ }
(1/6617)

وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
لم تعدد الآية ما أمدنا الله به ، وتركتْ لنا أن نُعدِّده نحن؛ لأننا نعرفه جيداً ونعيشه ، وندركه بكل حواسِّنا ومداركنا ، فما من آلة عندك إلا وتحت إدراكها نعمة لله ، بل عدة نِعَم ، فالعين ترى المناظر ، والأذن تسمع الأصوات ، والأنف يشم الروائح ، واليد تبطش . . إلخ .
{ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } [ الشعراء : 132 ] فقولوا أنتم واشهدوا على أنفسكم وعَدِّدوا نِعَم ربكم عليكم .
(1/6618)

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
المراد الأنعام : الضأن والماعز والإبل والبقر ، ثمانية أزواج .
(1/6619)

وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
فإنْ قلت : فنحن نمرُّ بديارهم ، فلا نرى إلا خلاءً تسْفُو فيه الرياح ، نعم لقد كانت لهم جنات وعيون هي الآن تحت أطباق التراب { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] .
(1/6620)

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
أي : أن تقوى الله وطاعته لا تعَدُّ شكراً على نعمه فحسب ، إنما أيضاً تكون لكم وقاية من عذاب الآخرة ، فلا تظنوا أنكم أخذتُم نِعَم الله ، ثم بإمكانكم الانفلات منه أو الهرب من لقائه ، فالقاؤه حق لا مفرَّ منه ، ولا مهرب ، فإنْ لم تَخَفْ السابق من النعم ، فخَفِ اللاحق من النِّقَم .
فماذا كان ردّهم على مقالة نبيِّهم وموعظته لهم؟ { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ }
(1/6621)

قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
وقولهم { أَوَعَظْتَ } [ الشعراء : 136 ] دليل على أن الحق لا بُدَّ أن يظهر ، ولو على ألسنة المكابرين ، ولا يكون الوعظ إلا لمَنْ علم حكماً ، ثم تركه ، فيأتي الواعظ ليُذكِّره به ، فهو إذن مرحلة ثانية بعد التعليم ، فهذا القول منهم اعتراف ودليل أنهم علموا المطلوب منهم ، ثم غفلوا عنه .
وهؤلاء يقولون لنبيهم { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } [ الشعراء : 136 ] يعني : أرح نفسك ، فسواء علينا وعظُك وعدم وعظِك ، ونلحظ أنهم قالوا : { أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } [ الشعراء : 136 ] ولم يقولوا مثلاً : سواء علينا أوعظتَ أم لم تَعِظْ؛ لأن نفي الوَعْظ يُثبت له القدرة عليه .
إنما { لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } [ الشعراء : 136 ] يعني : امتنع منك الوعظ نهائياً ، وكأنهم لا يريدون مسألة الوعظ هذه أبداً ، حتى في المستقبل لن يسمعوا له .
(1/6622)

إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
إنْ : بمعنى ما النافية ، يعني : ما هذا الذي جئتَ به إلا { خُلُقُ } [ الشعراء : 137 ] الأولين يعني : عادة مَنْ سبقوك واختلاقهم ، يقصدون الرسل السابقين ، كما قالوا : { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النمل : 68 ] .
وقالوا : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } [ يس : 15 ] .
فوصفوا نبيهم ، ومَنْ سبقوه من الرسل بالكذب والاختلاق وإيجاد شيء لم يكن موجوداً .
والخُلُق : صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الأفعال بيُسْر وسهولة ، والصفات التي يكتسبها الإنسان لا تعطي مهارة من أول الأمر ، بل تعطي مهارة بعد الدُّرْبة عليها ، فتصير عند صاحبها كالحركة الآلية لا تحتاج منه إلى مجهود أو معاناة .
وسبق أن ضربنا مثلاً بالصبي الذي يتعلم مثلاً الحياكة ، وكم يعاني ويضربه معلمه في سبيل تعلُّم لضم الخيط في الإبرة ، حتى إذا ما تعلمها الصبي وأجادها تراه فعل ذلك تلقائياً ، ودون مجهود وربما وهو مُغْمض العينين .
وأنت حينما تتعلم قيادة السيارة مثلاً لأول مرة ، كم تعاني وتقع في أخطاء وأخطار؟ لكن بعد التدريب والدُّرْبة تستطيع قيادتها بمهارة ، وكأنها مسألة آلية ، وكذلك الخُلُق المعنوي ، مثل هذه الدُّرْبة والآلية في الماديات .
إذن : { خُلُقُ الأولين } [ الشعراء : 137 ] يعني : دعوى ادعوْهَا جميعاً أي : الرسل .
وفي قراءة أخرى تُوجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللام ( خُلْق ) أي : اختلاق والمعنى : نحن كمن سبقونا من الأمم لا نختلف عنهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
وهؤلاء السابقون قالوا : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] .
فهذه الصفة أصبحت عندنا ثابتة متأصِّلة في النفس ، فلا تحاول زحزحتنا عنها ، فالمراد : نحن مثل السابقين لا نؤمن بمسألة البعث ، فأرح نفسك ، فلن يجديَ معنا وعْظُك .
(1/6623)

وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
يقولونها صريحة ردّاً على قوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 135 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ }
(1/6624)

فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
وكانت السماء قبل محمد صلى الله عليه وسلم تجعل الرسول يُدلِي بمعجزته ، أو يقول بمنهجه ، لكن لا تطلب منه أن يُؤدِّب المعاندين والمعارضين له إنما تتولّى السماء عنه هذه المهمة فتُوقِع بالمكذبين عذابَ الاستئصال .
وقد أُمِنَتْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم من عذاب الاستئصال ، فمَنْ كفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يأخذه الله كما أخذ المكذِّبين من الأمم السابقة ، إنما يقول سبحانه : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 14 ] .
وكملة { فَأَهْلَكْنَاهُمْ } [ الشعراء : 139 ] كلمة صادقة ، لها دليل في الوجود نراه شاخصاً ، كما يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 68 ] .
نعم ، كانت لهم حضارة بلغتْ القمة ، ولم يكُنْ لها مثيل ، ومع هذا كله ما استطاعت أنْ تصون نفسها ، وأخذها الله أَخْذ عزيز مقتدر .
قال تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137138 ] .
وقال : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا } [ النمل : 52 ] .
أي : أنها شاخصة أمامكم تروْنها وتمرُّون عليها ، وأنتم لم تبلغوا مبلغَ هذه الحضارة ، فإذا كانت حضارتهم لم تمنعهم من أَخْذ الله العزيز المقتدر ، فينبغي عليكم أنْ تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم ، وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذِّبين ليس ببعيد عن أمثالهم من الأمم الأخرى .
لذلك تجد الحضارات التي تُتوَارث في الكون كلها آلتْ إلى زوال ، ولم نجد منها حضارة بقيتْ من البداية إلى النهاية ، ولو بُنِيَتْ هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال .
وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } [ الشعراء : 139 ] أي : في إهلاك هذه الحضارة لأمر عظيم ، يُلفِت الأنظار ، ويدعو للتأمل : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 139 ] .
(1/6625)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
قال { رَبَّكَ } [ الشعراء : 140 ] ولم يقُلْ ربهم؛ لأن منزلة المربِّي تعظم في التربية بمقدار كمال المربِّي ، فكأنه تعالى يقول : أنا ربُّك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال ، فَمنْ أراد أنْ يرى قدرة الربوبية فليرها في تربيتك أنت ، والمربَّى يبلغ القمة في التربية إنْ كان مَنْ ربَّاه عظيماً .
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " أدَّبني ربي فأحسن تأديبي " .
إذن : فمن عظمة الحق تبارك وتعالى أنْ يُعطي نموذجاً لدقّة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه ، ولما يصنعه على عَيْنه تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكأنه صلى الله عليه وسلم أكرمُ مخلوق مُربَّى في الأرض؛ لذلك قال { رَبَّكَ } [ الشعراء : 140 ] ولم يقل : ربهم مع أن الكلام ما يزال مُتعلقاً بهم .
وقوله تعالى : { لَهُوَ العزيز الرحيم } [ الشعراء : 140 ] العزيز قلنا : هو الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب ، لكن لا تظن أن في هذه الصفة جبروتاً؛ لأنه تعالى أيضاً رحيم ، ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يجمع بين هاتين الصفتين : عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلامي يُربِّي الإسلام عليه أتباعه ، ألا وهو الاعتدال فلا تطغى عليك خصلة أو طبْع أو خُلُق ، والزم الوسط؛ لأن كل طبْع في الإنسان له مهمة .
وتأمل قول الله تعالى في صفات المؤمنين :
{ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] .
فالمسلم ليس مجبولاً على الذلّة ولا على العزة ، إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلاً ، أو يجعله عزيزاً ، فالمؤمن يتصف بالذلّة والخضوع للمؤمنين ، ويتصف بالعزّة على الكافرين .
ومن ذلك أيضاً : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها ضَعْف وخَوَر ، فمثلاً الوالد الذي يرفض أن يُجري لولده جراحة خطرة فيها نجاته وسلامته خوفاً عليه ، نقول له : إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محلّه .
ثم يقول الحق سبحانه : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين }
(1/6626)

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
بعد أن ذكر طرفاً من قصة إبراهيم وموسى ونوح وهود عليهم السلام ذكر قصة ثمود قوم صالح عليه السلام ، وقد تكررتْ هذه اللقطات في عدة مواضع من كتاب الله؛ ذلك لأن القرآن في علاجه لا يعالج أمةً واحدة في بيئة واحدة بخُلق واحد ، إنما يعالج عالماً مختلف البيئات ومختلف الداءات ومختلف المواهب والميول .
فلا بُدَّ أن يجمع الله له الرسل كلهم ، ليأخذ من كل واحد منهم لقطة؛ لأنه سيكون منهجاً للناس جميعاً في كُلِّ زمان وفي كُلِّ مكان ، أمّا هؤلاء الرسل الذين جمعهم الله في سياق واحد فلم يكونوا للناس كافة ، إنما كل واحد منهم لأمة بعينها ، ولقابل واحد في زمن مخصوص ، ومكان مخصوص .
لقد بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ليكون رسولاً يجمع الدنيا كلها على نظام واحد ، وخَلُق واحد ، ومنهج واحد ، مع تباين بيئاتهم ، وتباين داءاتهم ومواهبهم . إذن : لا بُدَّ أن يذكر الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم طرفاً من سيرة كل نبي سبقه .
لذلك قال سبحانه : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ في حاجة لأن يُثبِّت الله فؤاده مرة واحدة ، إنما كلّما تعرّض لمواقف احتاج إلى تثبيت ، فيُثّبته الله ، يقول له : تذكّر ما كان من أمر إبراهيم ، وما كان من أمر نوح وهود . . . إلخ فكان تكرار القصص لتكرار التثبيت ، فالقصة في القرآن وإنْ كانت في مجموعها مكررة ، إنما لقطاتها مختلفة تؤدي كُلٌّ منها معنى لا تؤديه الأخرى .
وهنا يقول سبحانه كما قال عن الأمم السابقة : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين } [ الشعراء : 141 ] لأن الرسل جميعاً إنما جاءوا بعقيدة واحدة ، لا يختلف فيها رسول عن الآخر ، وصدروا من مصدر واحد ، هو الحق تبارك وتعالى ، ولا يختلف الرسل إلا في المسائل الاجتماعية والبيئية التي تناسب كلاً منهم .
لذلك يقول تعالى : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى } [ النساء : 163 ] .
وقال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ }
(1/6627)

إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
قال هنا أيضاً : { أَخُوهُمْ } [ الشعراء : 142 ] ليرقِّق قلوبهم ويُحنِّنها على نبيهم { أَلا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 142 ] قلنا : إنها استفهام إنكاري . تعني : اتقوا الله ، ففيها حَثٌّ وحَضّ على التقوى ، فحين تُنكر النفي ، فإنك تريد الإثبات .
ولما كانت التقوى تقتضي وجود منهج نتقي الله به ، قال : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } [ الشعراء : 143 ] وما دُمْتُ أنا رسول أمين لن أغشّكم { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } [ الشعراء : 144 ] وكرر الأمر بالتقوى مرة أخرى ، وقرنها بالطاعة .
(1/6628)

وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
فكأن العمل الذي أقدمه من أجلكم في عُرْف العقلاء يستحق أجراً ، فالعامل الذي يعمل لكم شيئاً جزئياً من مسائل الدنيا يزول وينتهي يأخذ أجراً عليه ، أما أنا قأقدّم لكم عملاً يتعدَّى الدنيا إلى الآخرة ، ويمدّ حياتك بالسعادة في الدنيا والآخرة ، فأجْري إذن كبير؛ لذلك لا أطلبه منكم إنما من الله .
(1/6629)

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
يريد أن يُوبِّخهم : أتظنون أنكم ستخلّدون في هذا النعيم ، وأنتم آمنون ، أو أنكم تأخذون نِعَم الله ، ثم تفرُّون من حسابه ، كما قال سبحانه :
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] .
فمَنْ ظن ذلك فهو مخطيء قاصر الفهم؛ لأن الأشياء التي تخدمك في الحياة لا تخدمك بقدرة منك عليها ، فأنت لا تقدر على الشمس فتأمرها أنْ تشرق كل يوم ، ولا تقدر على السحاب أن ينزل المطر ، ولا تقدر على الأرض أن تعطيها الخصوبة لتنبت ، ولا تقدر على الهواء الذي تتنفسه . . إلخ وهذه من مُقوِّمات حياتك التي لا تستطيع البقاء بدونها .
وكان من الواجب عليك أن تتأمل وتفكر : مَن الذي سخرَّها لك ، وأقدرك عليها؟ كالرجل الذي انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى أشرف على الهلاك ، ثم أخذته سِنَة أفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب ، بالله ، أليس عليه قبل أنْ تمتد يده إليها إنْ يسأل نفسه : مَنْ أعدّ لي هذه المائدة في هذا المكان .
كذلك أنت طرأتَ على هذا الكون وقد أُعِدَّ لك فيه كل هذا الخير ، فكان عليك أن تنظر فيه ، وفيمَنْ أعدّه لك . فإذا جاءك رسول من عند الله ليحلَّ لك هذا اللغز ، ويخبرك بأن الذي فعل كل هذا هو الله ، وأن من صفات كماله كذا وكذا ، فعليك أن تُصدِّقه .
لأنه إما أن يكون صادقاً يهديك إلى حَلِّ لغز حار فيه عقلك ، وإما هو كاذب والعياذ بالله وحاشا لله أن يكذب رسول الله على الله فإن صاحب هذا الخلق عليه أن يقوم ويدافع عن خَلْقه .
ويقول : هذا الرسول مُدَّعٍ وكاذب ، وهذا الخَلْق لي : فإذا لم يقُمْ للخَلْق مُدَّعٍ فقد ثبتتْ القضية لله تعالى إلى أنْ يظهر مَنْ يدَّعيها لنفسه .
(1/6630)

فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
وقوله تعالى : { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الشعراء : 147 ] امتداد للآية السابقة ، يعني : لا تظنوا أن هذا يدوم لكم . و ( جنات ) : جمع جنة ، وهي المكان المليء بالخيرات ، وكل ما يحتاجه الإنسان ، أو هي المكان الذي إنْ سار فيه الإنسان سترتْه الأشجار؛ لأن جنَّ يعني ستر . كما في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } [ الأنعام : 76 ] أي : ستره .
ومنه الجنون . ويعني : سَتْر العقل . وكذلك الجنة ، فهي تستر عن الوجود كله ، وتُغنيك عن الخروج منها إلى غيرها ، ففيها كل ما تتطلبه نفسك ، وكل ما تحتاجه في حياتك .
ومن ذلك ما نسميه الآن ( قصراً ) لأن فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد .
وقال بعدها : { وَعُيُونٍ } [ الشعراء : 147 ] لأن الجنة تحتاج دائماً إلى الماء ، فقال { وَعُيُونٍ } [ الشعراء : 147 ] ليضمن بقاءها .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا }
(1/6631)

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
النخل من الزروع ، لكن خصَّ النخل بالذِّكْر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتم به ، وشبَّهه بالمؤمن في الحديث : " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها " قال الراوي : فوقع الناس في شجر البوادي ، ولم يهتدوا إليها ، فلما خرج عمر وابنه عبد الله قال : يا أبي ، لقد وقع في ظني أنها النخلة؛ لأنها مثل المؤمن كل ما فيه خير .
نعم لو تأملتَ النخلة لوجدتَ أن كل شيء فيها نافع ، وله مهمة ، وينتفع الزارع به ، ولا يُلْقَى منها شيء منهما كان بسيطاً . فالجذوع تُصنع منها السواري والأعمدة ، وتُسقف بها البيوت قبل ظهور الخرسانة ، ومن الجريد يصنعون الأقفاص ، والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى ( القحف ) والذي لا يصلح للأقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين ، فيصير ( مقشّة ) يكنسون بها المنازل .
ومن الليف يصنعون الحبال ، ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها ، حتى الأشواك التي تراها في جريد النخل خلقه الله لحكمة وبقدَرٍ؛ لأنها تحمي النخلة من الفئران أثناء إثمارها ، والليف الذي يمنو بين أصول الجريد جعله الله حماية للنخلة ، وهي في طور النمو ، وما تزال غَضَّة طرية ، فلا يحمي بعضها على بعض .
إذن : هي شجرة خيِّرة كالمؤمن ، وقد تم أخيراً في أحد البحوث أن أخذوا الجزء الذي يسمى بالقحف ، وجعلوه في تربة مناسبة ، فأنبتوا منه نخلة جديدة .
لذلك " لما قال ابن عمر : إنها النخلة . ذهب عمر إلى رسول الله ، وحكى له مقالة ولده ، فقال صلى الله عليه وسلم : " صدق ولدك " فقال عمر : ( فوالله ما يسرني أن فَطِن ولدي إليها أن لي حمر النعم ) " .
والذين يزرعون النخيل يروْنَ فيه آيات وعجائب دالّة على قدرة الله تعالى .
ومعنى { طَلْعُهَا هَضِيمٌ } [ الشعراء : 148 ] الطَّلْع : هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الأُنْثى ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر ، والتي قال الله عنها : { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } [ الأنعام : 99 ] .
وفي الذَّكر يخرج من الكوز المادة المخصِّبة للنخلة ، وللقِنْوان أو الشماريخ أطوار في النمو يُسمُّونه ( الخلا ) ، فيظل ينمو ويكبر إلى أنْ يصل إلى نهايته حَدّاً حيث يجمد على هذه الحالة ، ويكتمل نموه الحجمي ، ثم تبدأ مرحلة اللون .
يقولون ( عفَّر ) النخل : يعني شاب خضرته حمرة أو صفرة . فإذا اكتمل احمرار الأحمر واصفرار الأصفر ، يسمى ( بُسْر ) ثم يتحول البُسْر إلى ( الرطب ) حيث تلين ثمرته وتنفصل قِشْرته ، فإنْ كان الجو جافاً فإنَّ الرُّطَب يَيْبس ، ويتحول إلى ( التمر ) حيث تتبخَّر مائيته ، وتتماسك قِشْرته ، وتلتصق به .
ومعنى { هَضِيمٌ } [ الشعراء : 148 ] يعني : غَضٌّ ورَطْب طريٌّ ، وهذا يدل على خصوبة الأرض ، ومنه هضم الطعام حتى يصبر ليِّناً مُسْتساغاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال }
(1/6632)

وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الآن الأنفاق مثلاً ، لا يبنونها كما نبني بيوتنا ، ومعنى { فَارِهِينَ } [ الشعراء : 149 ] الفاره : النشط القوي ظاهر الموهبة ، يقولون : فلان فاره في كذا يعني؛ ماهر فيه ، نشط في ممارسته .
(1/6633)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
المسرف : هو الذي يتجاوز الحدِّ؛ وتجاوز الحدِّ له مراحل؛ لأن الله تعالى أحلَّ أشياء ، وحرّم أشياء ، وجعل لكل منهما حدوداً مرسومة ، فالسَّرَف فيما شرع الله أن تتجاوز الحلال ، فتُدخل فيه الحرام .
أو : يأتي الإسراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام . وقد يُلزم الإنسان نفسه بالحلال في الكسب ، لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرَّمه الله . إذن : يأتي الإسراف في صور ثلاثة : إما في الأصل ، وإما في الكسب ، وإما في الإنفاق .
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما يكلمنا عن الحلال ، يقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] .
أما في المحرمات فيقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] أي : ابتعد عنها؛ لأنك لا تأمن الوقوع فيها ، ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . فلم يقل الحق سبحانه مثلاً : لا تُصَلُّوا وأنتم سكارى . إنما قال : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] .
والمعنى : خُذِ الحلال كله ، لكن لا تتعداه إلى المحرَّم ، أما المحرَّم فاحذر مجرد الاقتراب منه؛ لأن له دواعي ستجذبك إليه .
ونقف عند قوله تعالى : { وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين } [ الشعراء : 151 ] حيث لم يقل : ولا تسرفوا ، وكأن ربنا عزّ وجلّ يريد أن يُوقِظ غفلتنا ويُنبِّهنا ويُحذِّرنا من دعاة الباطل الذين يُزيِّنون لنا الإسراف في أمور حياتنا ، ويُهوِّنون علينا الحرام يقولون : لا بأس في هذا ، ولا مانع من هذا ، وهذا ليس حرام . ربنا يعطينا المناعة اللازمة ضد هؤلاء حتى لا ننساق لضلالالتهم .
لذلك جاء في الحديث الشريف : " استفت قلبك ، واستفتِ نفسك ، وإنْ أفتوك ، وإنْ أفتوك ، وإنْ أفتوك " .
وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم ، ويُزيِّنون للناس الباطل ، ويُقنعونهم به . والفتوى من الفُتوة القوة ، ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] .
وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] .
كذلك الفتوى تعني : القوة في أمر الدين والتمكُّن من مسائله وقضاياه ، وإنْ كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حَدٌّ تنتهي عنده فإنْ القوة في أمر الدين لا تنتهي إلى حَدٍّ ، لأن الدين أمدُه واسع ، وبحره لا ساحلَ له . والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي ، لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين .
نقول : فلان فتيٌّ يعني : قويٌّ بذاته ، وأفتاه فلان أي : أعطاه القوة ، كأنه كان ضعيفاً في حُكم من أحكام الشرع ، فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني : أعطاه فتوة في أمر الدين . مثل قولنا : غَنيَ فلان أي : بذاته ، وأغناه أي : غيره ، كما يقول سبحانه : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 74 ] .
إذن : فمهمة المفتي أن يُقوِّي عقيدتي ، لا أن يسرف لي في أمر من أمور الدين ، أو يُهوِّن عليَّ ما حرّم الله فيُجرِّئني عليه ، وعلى المفتي أن يتحرَّى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلافية التي يقول البعض بحلِّها ، والبعض بحرمتها ، يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي الإسلام المتمثل في الحديث الشريف :
(1/6634)

" الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن ، وبينهما أمور مُشْتبهات ، فمن ترك ما شُبِّه له لا من فعل ما شُبِّه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة فقد استبرأ لدينه إن كان متديناً وعِرْضه إن لم يكُنْ متديناً " .
إذن : مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرىء لدينه ولا لعِرْضه . ومَنْ لم يُفْتِ على هذا الأساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين لا يُقوِّيه ، وبدل أن نقول : أفتاه . نقول : أضعفه .
(1/6635)

الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين ، كأن الأرض خلقها الخالق عز وجل على هيئة الصلاح في كل شيء ، لكن يفسدها الإنسان بتدخلّه في أمورها؛ لذلك سبق أن قلنا : إنك لو نظرتَ إلى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال ، وفي منتهى الاستقامة ، طالما لا تتناوله يد الإنسان ، فإنْ تدخّل الإنسان في شيء ظهرتْ فيه علامات الفساد .
ولا يعني هذا ألاَّ يتدخل الإنسان في الكون ، لا إنما يتدخل على منهج مَنْ خَلقَ فيزيد الصالح صلاحاً ، أو على الأقل يتركه على صلاحه لا يفسده ، فإن تدخَّل على غير هذا المنهج فلا بُدَّ له أن يفسد .
فحين تمر مثلاً ببئر ماء يشرب منه الناس ، فإما أنْ تُصلح من حاله وتزيده ميزة وتُيسِّر استخدامه على الناس ، كأن تبني له حافّة ، أو تجعل عليه آلة رَفْع تساعد الناس ، أو على الأقل تتركه على حاله لا تفسده؛ لذلك يقول تعالى : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } [ البقرة : 205 ] .
أما هؤلاء القوم فلم يكتَفِ القرآن بوصفهم بالفساد وحسب ، إنما أيضاً هم { وَلاَ يُصْلِحُونَ } [ الشعراء : 152 ] ذلك لأن الإنسان قد يُفسِد في شيء ، ويُصلح في شيء ، إنما هؤلاء دأبهم الفساد ، ولا يأتي منهم الصلاح أبداً .
ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يروْنها في ظاهرها صلاحاً ، وهي عَيْن الفساد؛ لأنهم لم يأخذوها بكل تقنيناتها القيمية ، وانظر مثلاً إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا : إنها فتح علمي ، وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع ، وبمرور الزمن أصبحت هذه المبيدات وبالاً على البشرية كلها ، كيث تسمِّم الزرع وتسمِّم الحيوان ، وبالتالي الإنسان ، حتى الماء والتُّرْبة والطيور ، لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها الله .
وفي هؤلاء قال تعالى :
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103104 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { قالوا إِنَّمَآ أَنتَ }
(1/6636)

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{ المسحرين } [ الشعراء : 153 ] جمع مُسحَّر ، وهي صيغة مبالغة تدلُّ على وقوع السحر عليه أكثر من مرة ، نقول : مسحور يعني : مرة واحدة ومُسَحَّر يعني عدة مرات ، ومن ذلك قوله تعالى عن ملأ فرعون أنهم قالوا له : { وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } [ الشعراء : 3637 ] .
ولم يقل : بكل ساحر ، إنما سحَّار يعني : هذه مهنته ، وكما تقول : ناجر ونجار ، وخائط وخياط .
وإنْ كان بعضهم قال عن نبيهم : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] فهؤلاء يقولون لنبيهم { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين } [ الشعراء : 153 ] وعجيب أمر أهل الباطل؛ لأنهم يتخبطون في هجومهم على الأنبياء ، فمرَّة يقولون : ساحر . ومرة يقولون : مسحور ، كيف والساحر لا يكون مسحوراً؛ لأنه على الأقل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر . قالوا : بل المراد بالمسحور اختلاط عقله ، حتى إنه لا يدري ما يقول .
ثم إن نبيكم صالحاً عليه السلام إنْ كان مسحوراً فمَنْ سحره؟ أنتم أم أتباعه؟ إنْ كان سحره منكم فأنتم تقدرون على كَفِّ سحركم عنه ، حتى يعود إلى طبيعته ، وترونه على حقيقته ، وإنْ كان من أتباعه ، لا بُدَّ أنهم سيحاولون أنْ يعينوه على مهمته ، لا أن يُقعدوه عنها .
إذن : فقولهم لنبيهم : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين } [ الشعراء : 153 ] يريدون أن يخلُصُوا إلى عدم اتباعه هو بالذات ، فهم يريدون تديُّناً على حسب أهوائهم ، يريدون عبادة إله لا تكليفَ له ولا منهج . كالذين يعبدون الأصنام وهم سعداء بهذه العبادة ، لماذا؟
لأن آلهتهم لا تأمرهم بشيء ولا تنهاهم عن شيء . لذلك ، فكل الدجالين ومُدَّعُو النبوة رأيناهم يُخفِّفون التكاليف عن أتباعهم ، فقديماً أسقطوا عن الناس الزكاة ، وحديثاً أباحوا لهم الاختلاط ، فلا مانع لديهم من الالتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخُلْوة بها والرقص معها ، وماذا في ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
فإنْ قالوا : ساحر ، نردُّ عليهم نعم هو ساحر ، قد سحر مَنْ آمنوا به ، فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي هذه المسألة؟ إذن : هذه تُهَم لا تستقيم ، لا هو ساحر ، ولا هو مسحور ، إنه مجرد كذب وافتراء على أنبياء الله ، وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا }
(1/6637)

مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
وقولهم : { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 154 ] إذن : فوجه اعتراضهم أن يكون النبي بَشَراً ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] .
ولو بعث الله لهم مَلَكاً لجاءهم على صورة بشر ، وستظل الشُّبْهة قائمة ، فمن يدريكم أن هذا البشر أصله مَلَك؟ { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] .
فالمعنى : ما دام أن الرسول بشر ، لا يمتاز علينا في شيء فنريد منه أنْ يأتينا بآية يعني : معجزة تُثبِت لنا صِدْقه في البلاغ عن ربه { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 154 ] .
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى ينتهز فرصة طلَبهم لآية ومعجزة ، فأسرع إليهم بما طلبوا ، ليقيم عليهم الحُجة ، فقال بعدها : { قَالَ هذه نَاقَةٌ }
(1/6638)

قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
هذا إجابة لهم؛ لأنهم طلبوا من نبيهم أنْ يُخرِج لهم من الصخرة ناقة تلد سَقْباً لا يكون صغيراً كولد الناقة ، إنما تلد سَقْباً في نفس حجمها ، فأجابهم { قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ } [ الشعراء : 155 ] يعني : يوم تشرب فيه ، لا يشاركها في شُرْبها شيء من مواشيكم .
{ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] أي : تشربون فيه أنتم ، وكانت الناقة تشرب من الماء في يومها ما تشربه كلّ مواشيهم في يومهم ، وهذه معجزة في حَدِّ ذاتها .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ }
(1/6639)

وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون ، وأن القوم لن يتركوا هذه الآية ، إنما سيتعرضون لها بالإيذاء ، فقال : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } [ الشعراء : 156 ] لكنهم تعدَّوْا مجرد الإيذاء والإساءة فعقروها .
ثم يتوعدهم : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 156 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ }
(1/6640)

فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
قال ( عقروها ) بصيغة الجمع ، فهل اشتركتْ كل القبيلة في عَقْرها؟ لا بل عقرها واحد منهم ، هو قدار بن سالف ، لكن وافقه الجميع على ذلك ، وساعدوه ، وارتضوا هذا الفعل ، فكأنهم فعلوا جميعاً؛ لأنه استشارهم فوافقوا .
{ فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } [ الشعراء : 157 ] وقال العلماء : الندم مقدمة التوبة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ }
(1/6641)

فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
فإنْ قُلْتَ : كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا ، والندم من مقدمات التوبة؟
نعم ، الندم من مقدمات التوبة ، لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عنها : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } [ النساء : 18 ] .
إذن : ندموا وتابوا في غير أوان التوبة ، أو : أنهم أصبحوا نادمين لا ندمَ توبة من الذنب ، إنما نادمون؛ لأنهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به إنْ فعلوا .
ثم تُختم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مُكذِّبة : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز }
(1/6642)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
عزيز : يَغلِب ولا يُغْلَب ، ومع ذلك هو رحيم في غَلَبه .
ثم ينتقل الحق سبحانه إلى قصة أخرى من مواكب الأنبياء والرسل : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ }
(1/6643)

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)
فقال هنا أيضاً { أَخُوهُمْ } [ الشعراء : 161 ] لأنه منهم ليس غريباً عنهم ، وليُحنِّن قلوبهم عليه { أَلا تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 161 ] إنكار لعدم التقوى ، وإنكار النفي يطلب الإثبات فكأنه قال : اتقوا الله .
(1/6644)

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
وهكذا كانت مقالة لوط عليه السلام كما قال إخوانه السابقون من الرسل؛ لأنهم يصدُرون جميعاً عن مصدر واحد .
ثم يخصُّ الحق سبحانه قوم لوط لما اشتُهروا به وكان سبباً في إهلاكهم : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين }
(1/6645)

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
فكأنها مسألة وخصلة تفردوا بها دون العالم كله .
لذلك قال في موضع آخر : { أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } [ الأعراف : 80 ] .
أي : أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة ، ولكنهم فعلوها ، فوَصْفه لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية .
(1/6646)

وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
يعني : كان عندكم مندوحة عن هذه الفِعْلة النكراء بما خلق الله لكم من أزواجكم من النساء ، فتصرفون هذه الغريزة في محلها ، ولا تنقلونها إلى الغير .
أو { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } [ الشعراء : 166 ] أي : أنهم كانوا يباشرون هذه المسألة أيضاً مع النساء في غير محلِّ الاستنبات ، فقوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } [ البقرة : 223 ] .
البعض يظنها على عمومها وأن { أنى شِئْتُمْ } [ البقرة : 223 ] تعطيهم الحرية في هذه المسألة ، إنما الآية محددة بمكان الحَرْث واستنبات الولد ، وهذا محله الأمام لا الخلف .
لذلك قال بعدها : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 166 ] والعادي هو الذي شُرع له شيء يقضي فيه إربته ، فتجاوزه إلى شيء آخر حرَّمه الشرع .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ }
(1/6647)

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
أي : إن لم تنته عن ملامنا ومعارضتنا فيما نفعله من هذه العملية { لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } [ الشعراء : 167 ] كما قالوا في آية أخرى : { أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ } [ النمل : 56 ] أي : لا مكان لهم بيننا ، لكن لماذا؟ { إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] سبحان الله جريمتهم أنهم يتطهرون ، ولا مكان للطُّهْر بين هؤلاء القوم الأراذل .
ثم يقول الحق سبحانه عن لوط : { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ }
(1/6648)

قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
وفرْقٌ بين كوني لا أعمل العمل ، وكوْني أكره مَنْ يعمله ، فالمعنى : أنا لا أعمل هذا العمل ، إنما أيضاً أكره مَنْ يعمله ، وهذا مبالغة في إنكاره عليهم .
ثم يقول لوط : { رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي }
(1/6649)

رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
لم يملك لوط عليه السلام أمام عناد قومه وإصرارهم على هذه الفاحشة إلا أنْ يدعو ربَّه بالنجاة له ولأهله ، فأجابه الله تعالى { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } [ الشعراء : 171 ] .
والمراد : امرأته التي قال الله في حقها : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ } [ التحريم : 10 ] .
فجعلها الله عز وجل مثالاً للكفر والعياذ بالله؛ لذلك لم تكُنْ من الناجين ، ولم تشملها دعوة لوط عليه السلام ، وكانت من الغابرين . يعني : الهالكين .
(1/6650)

ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
{ الآخرين } [ الشعراء : 172 ] أي : الذين لم يؤمنوا بدعوته ، ولم ينتهوا عن هذه الفاحشة ، ثم بيَّن نوعية هذا التدمير ، فقال : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } [ الشعراء : 173 ] ولما كان المطر من أسباب الخير وعلامات الرحمة ، حيث ينزل الماء من السماء ، فيُحيي الأرض بعد موتها ، وصف الله هذا المطر بأنه { فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } [ الشعراء : 173 ] فهو ليس مطرَ خَيْر ورحمة ، إنما مطر عذاب ونقمة .
كماء جاء في آية أخرى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ الأحقاف : 2425 ] .
وهذا يُسمُّونه ( يأس بعد إطماع ) ، وهو أبلغ من العذاب والإيلام ، حين تستشرف للخير فيُفاجئك الشر ، وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالسجين الذي يطلب من الحارس شَرْبة ماء ، ليروي بها عطشه ، فلو حرمه الحارس من البداية لَكانَ الأمر هيِّناً لكنه يحضر له كوب الماء ، حتى إذا جعله على فيه أراقه على الأرض ، فهذا أشد وأنكَى؛ لأنه حرمه بعد أن أطمعه ، وهذا عذاب آخر فوق عذاب العطش .
وفي لقطة أخرى بينَّ ما هية هذا المطر ، فقال : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } [ هود : 8283 ] .
فالحجارة من { سِجِّيلٍ } [ هود : 82 ] أي : طين حُرِق حتى تحجَّر وهي { مُّسَوَّمَةً } [ هود : 83 ] يعني : مُعلَّمة بأسماء أصحابها ، تنزل عليهم بانتظام ، كل حجر منها على صاحبه .
وبجمع اللقطات المتفرقة تتبين معالم القصة كاملة .
(1/6651)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
وتُختم القصة بنفس الآيات التي خُتمِتْ بها القصص السابقة من قصص المكذِّبين المعاندين .
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قوم آخرين كذبوا رسولهم شعيباً : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة }
(1/6652)

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
الأيكة : هي المكان الخِصْب الذي بلغ من خصوبته أنْ تلتفّ أشجاره ، وتتشابك أغصانها ، وقال هنا أيضاً { المرسلين } [ الشعراء : 76 ] مع أنهم ما كذَّبوا إلا رسولهم؛ لأن تكذيب رسول واحد كتكذيب كُلِّ الرسل؛ لأنهم جميعاً جاءوا بمنهج واحد في العقيدة والأخلاق .
(1/6653)

إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
نلحظ اختلاف الأسلوب هنا ، مما يدل على دِقَّة الأداء القرآني ، فلم يقل : أخوهم شعيب ، كما قال في نوح وهود وصالح ولوط ، ذلك لأن شعيباً عليه السلام لم يكن من أصحاب الأيكة ، إنما كان غريباً عنهم .
وباقي الآيات متفقة تماماً مع مَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لأن الوحدة في المنهج العقدي أنتجتْ الوحدة في علاج المنهج؛ لذلك قرأنا هذه الآيات عند كل الرسل الذين سبق ذكرهم .
ثم يأخذ في تفصيل الأمر الخاص بهم؛ لأن كل أمة من الأمم التي جاءها رسول من عند الله إنما جاء ليعالج داءً خاصاً تفشَّى بها ، وكانت الأمم من قبل منعزلةً ، بعضها عن بعض ، ولا يوجد بينها وسائل اتصال تنقل هذه الداءات من أمة لأخرى .
فهؤلاء قوم عاد ، وكان داءَهم التفاخُرُ بالبناء والتعالي على الناس ، فجاء هود عليه السلام ليقول لهم :
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 128130 ] .
وثمود كان داءهم الغفلةُ والانصراف بالنعمة عن المُنْعم ، فجاء صالح عليه السلام يقول لهم : { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ } [ الشعراء : 146149 ] .
أما قوم لوط عليه السلام فقد تفرَّدوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين ، وهي إتيان الذكْران ، فجاء لوط عليه السلام ليمنعهم ويدعوهم إلى التوبة والإقلاع :
{ أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165166 ] .
أما أصحاب الأيكة ، فكان داءهم أنْ يُطفِّفوا المكيال والميزان ، فجاء شعيب عليه السلام ليقول لهم : { أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ }
(1/6654)

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
الكيل : آلة تُقدّر بها الأشياء التي تُكال ، ووحدته : كَيْلة أو قَدح أو أردب . والميزان كذلك : آلة يُقدَّر بها ما يُوزَن .
ومعنى { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } [ الشعراء : 181 ] المخسِر : هو الذي يتسبب في خسارة الطرف الآخر في مسألة الكيل ، بأن يأخذ بالزيادة ، وإنْ أعطى يُعطِي بالنقصان . وفي الوزن قال { بالقسطاس المستقيم } [ الشعراء : 182 ] .
والقسطاس : يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحرِّي الدّقّة في الوزن ، مع مراعاة اختلاف الموزونات ، فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلاً ، غير وزن العدس أو السمسم ، فعليك أنْ تتحرّى الدقة قَدْر إمكانك ، لتحقق هذا القسطاس المستقيم .
لكن ، لماذا خصَّ الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم ، ولم يذكر مثلاً القياس في المساحات والمسافات بالمتر أو بالذراع؟
قالوا : لأن الناس قديماً وكانت أمماً بدائية لا تتعامل فيما يُقاس ، فلا يشترون القماش مثلاً : لأنه يُغزل ، تغزله النساء ويغزله الرجال ، ولم يكُنْ أحد يغزل لأحد أو يبيع له ، فهذه صورة حضارية رأيناها فيما بعد .
وقديماً ، كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة ، وفي هذه الحالة لا يوجد بائع على حِدَة ولا مُشْترٍ على حِدَة ، فلا يتفرد البائع بالبيع ، والمشتري بالشراء ، إلا في حالة مبادلة السلعة بثمن ، كما قال تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] أي : باعوه .
أما في حالة المقايضة ، فأنت تأخذ القمح تأكله ، وأنا آخذ التمر آكله ، فالانتفاع هنا انتفاع مباشر بالسلعة ، فإنْ قدَّرْتَ أن كل واحد في الصفقة بائع ومشترْ . تقول : شَرَى وباع . وإنْ قدَّرْت الأثمان التي لا ينتفع بها انتفاعاً مباشراً كالذهب والفضة ، أو أي معدن آخر ، وهذه الأشياء لا تؤكل فهي ثمن ، أمّا الأشياء الأخرى فصالحة أنْ تكون سلعة ، وصالحة لأنْ تكون ثمناً .
وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي " سورة المطففين " ، يقول سبحانه : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 13 ] .
نقول : كال له يعني : أعطاه ، واكتال عليه يعني : أخذ منه . فإن أخذ أخذ وافياً ، وإنْ أعطى أعطى بالنقص والخسارة . والقرآن لا ينعى عليه أن يستوفى حقّه ، لكن ينعى عليه أن ينقص من حَقِّ الآخرين ، ولو شيئاً يسيراً .
فمعنى ( المطففين ) من الشيء الطفيف اليسير ، فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف ، فما بال مَنْ يظلم من الكل؟
فاللوم هنا لمَنْ يجمع بين هذين الأمرين : يأخذ بالزيادة ويُعطي بالنقص ، أما مَنْ يعطي بالزيادة فلا بأس ، وجزاؤه على الله ، وهو من المحسنين ، الذين قال الله فيهم : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ } [ التوبة : 91 ] .
ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمُّون بقياس دقة آلات الكيل والوزن والقياس ، فَوُجِدت هيئات متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة دِقّتها؛ لأنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو الزيادة ، فمثلاً سنجة الحديد التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحث تتراكم عليها الزيوت والتراب ، وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت ، كما تنقص مثلاً أكرة الباب من كثرة الاستعمال ، فتراها لامعة ، ولمعانها دليل النقص ، وإنْ كان يسيراً .
(1/6655)

وفي فرنسا ، نموذج للياردة وللمتر من معدن لا يتآكل ، جُعِلَتْ كمرجعٍ يُقاس عليه ، وتُضبط عليه آلات القياس .
ورأينا الآن آلاتٍ دقيقة جداً للوزن وللقياس ، تضمن لك منتهى الدقة ، خاصة في وزن الأشياء الثمينة؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج ، حتى لا تُؤثِّر فيه حركة الهواء من حوله .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ }
(1/6656)

وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
البخس : النقص ، ومعنى { أَشْيَآءَهُمْ } [ الشعراء : 183 ] حقوقهم إذن : فالنقص من حَقِّ الغير ذنب ، وقد يكون البخس بأخْذ الشيء كله غَصْباً ، أو بالتصرف فيه دون أمر صاحبه ، أو على وجه لا يرضاه .
وهذا كله داخل في { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } [ الشعراء : 183 ] كل ما ينقص الحق بأخذه بإنقاص . أو غَصْب أو تصرّف على غير إرادة صاحبه فهو بَخْسٌ للشيء .
فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه ، فالزكاة مثلاً حينما يقول ربك عَزَّ وجَلَّ : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم } [ المعارج : 2425 ]
فما دام قد قيَّده الشرع ، فلا تبخس أنت حَقَّ الفقير ، لأنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله الله من مالك للفقير ، تجهد أنه وُضِع بحكمة تُراعِي مدى حركة المموِّل ، وما بذل من جهد ونفقات في سبيل تنمية ماله ، حتى وجبتْ فيه الزكاة .
فكلما زادتْ حركتك قَلَّ مقدار الزكاة في مالك ، فمثلاً الأرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر ، والتي تُسْقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر ، وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال رُبْع العُشْر ، ذلك لأن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الأموال ، حتى لا يأتي مَنْ يقول : كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي؟
والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء ، فإنما يحمي به الفقراء والأغنياء على حَدِّ سواء . وقد حدَّد الشارع هذا الحق ، حتى لا تزهد في العطاء ، خاصة في الزكاة .
إن منهج الله يريد أنْ يُصوِّب حركة الحياة من الأحياء ، يريد ألاَّ يجري دم في جسد إلا بخروج عَرق من هذا الجسد ، وألا يدخل دم في جسد من عرق سواه ، وإلاَّ فسد المجتمع ، وضَنَّ كل قادر على الحركة بحركته؛ لأنه لا يطمئن إلى ثمار حركته أنها لا تعود عليه ، أو أن غيره سيغتصبها منه بأيِّ لون من ألوان الاغتصاب .
عندما يفسد المجتمع؛ لأن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد ، والآخذ سيتعوَّد البطالة والكسل والخمول ، ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره ، وبمرور الوقت يصعب عليه العمل ، وتثقُل عليه الحركة ، فيركَنُ إلى ما نُسمِّيه ( بلطجي ) في الحياة ، يعيش عالة على غيره .
إذن : الحق تبارك وتعالى يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة سَعْيه ، فلا يتلصص أحد على ثمرة حياة الآخر؛ لأنه إنْ كان عاجزاً عن الحركة فقد ضمن له ربُّه حقاً في حركة الآخرين تأتيه إلى باب بيته ، سواء أكانت زكاةً أم كانت صدقة؛ وبذلك تسْلَم حركة الحياة للجميع .
لذلك أراد سبحانه وتعالى أن يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلامة التعامل بين الناس : فإنْ كِلْتَ لغيرك فوفِّ الكيل ، وإنْ وزنتَ فوَفِّ الميزان ، واجعله بالقسطاس المستقيم ، ولا تبخس الناس حقوقهم بأي صورة من الصور .
(1/6657)

ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل فحسب ، إنما هي نماذج للتعامل ، تستطيع القياس عليها في كل أمور الحياة فيما يُقَاس وفيما يُعَدُّ ، في الأعمال وفي الصناعات . . إلخ .
إذن : فاحذر أنْ تتلصَّص على حقوق الآخرين ، أو أن تبخسها ، بأيِّ نوع من أنواع التسلُّط : غَصْباً أو اختطافاً أو سرقةً أو اختلاساً أو رِشْوة . . إلخ .
وقلنا : إن السرقة أن تأخذ شيئاً من حِرْزه في غير وجود صاحبه ، والخطف يكون صاحب الشيء موجوداً ، لكنك تأخذه خَطْفاً وتفرّ به قبل أن يُمسك بك ، فإنْ أمسك بك فغالبْتَه وأخذتها رَغماً عنه فهي غَصْب ، أما الاختلاس فأنْ تأخذ من مالٍ أنت مؤتمَنٌ عليه ، مالا يحقَّ لك أخْذه .
فإذا علم كُلُّ متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه ، وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعاً إنْ لم يعمل وهو قادر دبَّتْ الحركة في كل الأحياء ، وهذا ما يريده الله تعالى لخليفته في الأرض خاصة ، وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به ، والطاقة التي نعمل بها ، والمادة التي نستعين بها ، فكلُّ ما علينا أن نُوظّف هذه الإمكانات التي خلقها الله توظيفاً مثمراً .
ثم إنْ كانت الزكاة كحقِّ معلومة محددة ، فهناك حَقٌّ آخر غير مُحَّدد ، في قوله سبحانه : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ] ولم يقل ( معلوم ) ؛ لأن المراد هنا الصدقة المطلقة ، وقد تركها الحق تبارك وتعالى ولم يُقيِّدها ليترك الباب مفتوحاً أمام أريحية المعطي ، ومدى كرمه وإحسانه؛ لذلك جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن صفات المحسنين :
{ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 1519 ] .
ولأن الحق هنا تفضُّل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد .
وعجيب أن نرى أصحاب الأموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع الشعر مثلاً من ماله ، لا ينظر إلى ما تبقّى له من رأس المال ، وهي نسبة 97 . 5% ، وينظر إلى حَقِّ الفقير وهو يسير 2 . 5% .
فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه ، أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر ، كالذي يعطي زكاته للخادمة مثلاً ، ليُرضِي أمها حتى لا تأخذها من يده ، ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى؛ وهذا كله لا يجوز؛ لأن مال الزكاة حَقٌّ للمستحقين المعروفين نصاً في كتاب الله ، ولا يصح أنْ يُوجِّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبداً .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ الشعراء : 183 ] عثا : أي أفسد . فالمعنى : لا تُفسِدوا في الأرض ، فلماذا كرَّر الإفساد مرة أخرى فقال { مُفْسِدِينَ } [ الشعراء : 183 ] ؟ قالوا : المراد : لا تعثَوْا في الأرض حالةَ كونِكم مفسدين ، أو في نيتكم الإفساد .
(1/6658)

وليس في الآية تكرار؛ لأنه فرَّق بين إفساد شيء وأنت لا تقصد إفساده ، إنما حركتك في الحياة أفسدتْه ، وبين أنْ تُفسد عن قصد وعَمْد للإفساد ، حتى لا نمنع العقول أن تفكر وتُجرِّبَ لتصلَ إلى الأفضل ، وتُثري حركة الحياة ، فما دُمْتَ قد قصدتَ الصلاح ، فلا عليك إنْ أخطأتَ؛ لأن ربك عَزَّ وجَلَّ يتولى تصحيح هذا الخطأ ، بل ويُعوِّضك عنه ، فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر ، ومَنِ اجتهد فأصاب فله أجران .
إذن : المعنى : لا تُفسِدوا في الأرض وأنتم تقصدون الإفساد ، لكن فكيف نُفسِد الأرض؟ إن إفساد الأرض يعني إفسادَ المتحرك عليها؛ لأن الأرض خُلقَتْ للإنسان { والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] .
وقد خلقها الله تعالى على هيئة الصلاح ، والإنسان هو الذي يُفسِدها ، بدليل أنك لا تجد الفساد إلا فيما للإنسان دَخْل فيه ، أما مَا لا تطوله يده ، فيظل على صلاحه ، وعلى استقامته وسلامته .
والإنسان الذي خلقه الله وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الأرض وزيادة صلاحها ، تحقيقاً لقول ربه عَزَّ وجَلَّ : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ] .
ولا يصلح أن نستعمر الأرض وهي خراب ، فإذا ما كَثُر النسل لا يقابل زيادة في استثمار الأرض ، فتحدث الأزمات ، ولو أن استثمار الأرض وإصلاحها سار مع زيادة النسل في خطين متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق ، ولما أحاطت بهم الأزمات .
والآن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلاً تجد المزارع في الصحراء ، وتجد القرى الجديدة تحولت فيها الأرض الجرداء إلى خضرة ونماء ، فأين كانت هذه الثورة؟ لقد كنا كُسالى وفي غفلة حتى عَضَّنا الجوع ، وضاقت بنا الأرض الخضراء في الوادي والدلتا .
وإذا لم يُصلِح الإنسان في الأرض فلا أقلَّ من أنْ يتركها على حالها الذي خلقها الله عليه . لكن رأينا الإنسان يُفسد الماء ويُلوثه حين يصرف فيه مُخلَّفاته ويُفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع ، ويُفسِد التربة بالكيماويات والمبيدات ، وكل هذا الإفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها الله لنا؛ ذلك لأننا نظرنا إلى النفع العاجل ، وأغفلنا الضرر الآجل .
لقد خلق الله لنا وسائل الركوب والانتقال ، وجعلها آمنة لا ضررَ منها : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] .
وقال : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس } [ النحل : 7 ] نعم ، وسائل النقل الحديث أسرع ، وأراحتْ هذه المواشي ، لكنها أتعبتْ الإنسان الذي خلق الله الكون كله لراحته .
فترى الرجل يركب سيارته وكل هَمِّه أنْ يُسرع بها دون أنْ يهتم بضبطها وصيانتها ، فينطلق بها مُخلِّفاً سحابة من الدخان السَّام الذي يؤذي الناس ، أما هو فغير مكترث بشيء؛ لأن الدخان خلفه لا يشعر به .
لكن ، احذر جيداً ، إن ربك عز وجل قيوم لا يغفل ولا ينام ، وكما تدين تُدان في نفسك ، أو في أولادك .
(1/6659)

كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهِّد لها الطرق حتى لا تثير الغبار في وجوه الناس ، وتؤذي تنفسهم ، بل وتؤذي الزرع أيضاً ، كل هذه وُجوه للإفساد في الأرض؛ لأننا ندرس عاجلَ النفع ولا ندرس آجل الضرر .
وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدِّمات سليمة ، لتصل إلى النتائج السليمة ، ولا تكُنْ من المفسدين في الأرض .
ومن الإفساد في الأرض قَطْع الطريق ، وهو أن المتلصِّص يقيم في مكانه يرصُد ضحيته إلى أن تمر به ، والإغارة وهي أنْ يذهب المغير إلى المغَار عليه في مَأْمنه ، فيسلبه ماله .
ومن الإفساد في الأرض الرِّشْوة ، وهي من أنكَى النكبات التي بُلِي بها المجتمع ، وهي تُولِّد التسيّب وعدم الانضباط ، فحين ترى غيرك يستغلك ، ويستحلّ مالك دون حق ، تعامله وتعامل غيره نفس المعاملة ، فتصير الأمور في الأجهزة والمصالح إلى فوضى لايعلم مداها إلا الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { واتقوا الذي خَلَقَكُمْ }
(1/6660)

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
فإياك أن تظن أن الله تعالى خلقنا عبثاً ، أو يتركنا هملاً ، إنما خلقنا لمهمة في الكون ، وجعلنا جميعاً عبيداً بالنسبة له سواء ، فلم يُحَابِ من أحداً على أحد ، وليس عنده سبحانه مراكز قوى؛ لذلك لم يتخذ صاحبه ولا ولداً .
ولأننا جميعاً أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا ، فقد تكفّل لنا بالرزق ورعاية المصالح ، فَمنِ ابتلاه الله بالعجز عن الحركة فتحركْتَ أنت لقضاء مصالحه ، لا بُدَّ ان ينظر الله إليك بعين البركة والمضاعفة .
فالمعوَّق والفقير بحقٍّ لا الذي يتخذها مهنة وحرفة يرتزق بها هذا الفقير وهذا المعوَّق هم خَلْق الله وأهل بلائه ، فحين تعطيه من ثمرة حركتك أنت ، وتذهب إليه وهو مطمئن في بيته ، أنت بهذا العمل إنما تستر على الله بلاءه ، وتكون يد الله التي يرزق بها هؤلاء ، وعندها لا بُدَّ أن يحبك الفقير ، وأنْ يدعو لك بالخير والبركة والزيادة والأَجْر والعافية والثواب ، ويعلم أن الله خلقه ولم يُسلمه .
أمّا إنْ ضَنَّ الغنيُّ الواجد على الفقير المعدَم ، وتخلى عن أهل البلاء ، فلا بُدَّ أنْ يسخط الفقير على الغني ، بل يسخط على الله والعياذ بالله لأنه ما ذنبه أن يكون فقيراً ، وغيره غنيٌّ في مجتمع لا يرحم .
وعجيب أن نرى مُبتليً يُظهر بلواه للناس ، بل ويستغلها في ابتزازهم ، فيُظهِر لهم إعاقته ، كأنه يشكو الخالق للخَلْق ، ولو أنه ستر على الله بلاءه وعَلِم أنه نعمة أنعم الله بها عليه لَسخَّر الله له عافية غير المبتلى ، ولجاءه رزقه على باب بيته ، فلو رَضِي أهل البلاء لأعطاهم الله على قَدْر ما ابتلاهم .
فمعنى : { واتقوا الذي خَلَقَكُمْ } [ الشعراء : 184 ] أي : احذروا جبروته؛ لأنه خلقكم ، وضمن لكم الأرزاق ، وضمن لكم قضاء الحاجات ، حتى العاجز عن الحركة سخَّر له القادر ، وجعل للغنى شرطاً في إيمانه أنْ يُعطى جزءاً من سَعْيه للفقير ، ويُوصِّله إليه وهو مطمئن .
ومعنى : { والجبلة الأولين } [ الشعراء : 184 ] الجبلة من الجبَل ، وكان له دور في حياة العربي ، وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم ، ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات ، فاشتقوا من الجبل ( الجبلّة ) وتعني الملازمة والثبات على الشيء .
ومن ذلك نقول : فلان مجبول على الخير يعني : ملازم له لا يفارقه ، وفلان كالجبل لا تزحزحه الأحداث ، والعامة تقول : فلان جِبلَّة يعني : ثقيل على النفس ، وقد يزيد فيقول : ( مال جبلّتك وارمة ) مبالغة في الوصف .
حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل ، حتى بعد موته ، فيقول عن ممدوحه وقد حملوه في نعشه :
مَا كنتُ أَحْسَبُ قَبْل نَعْشِكَ أنْ أَرَى ... رَضْوى عَلَى أيدي الرجَالِ يَسِير
ورَضْوى جبل اشْتُهر بين العرب بضخامته .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] .
ومعنى : { والجبلة الأولين } [ الشعراء : 184 ] أي : الناس السابقين الذين جُبِلوا على العناد وتكذيب الرسُل ، فالله خالقكم وخلقهم ، وقد رأيتُم ما فعل الله بهم لما كذَّبوا رسُله ، لقد كتب الله النصر لرسله والهزيمة لمن كذّبهم ، فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم جُبِلوا على التكذيب ، وكانوا ثابتين عليه لم يُزحزحهم عن التكذيب شيء ، فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم . فماذا كان ردّهم؟
(1/6661)

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
قلنا : إن مُسحَّر : أي سحَره غيره ، وهي صغية مبالغة للدلاَلة على حدوث السحر ووقوعه عليه أكثر من مرة ، فلو سُحِر مرة واحدة لَقُلْنا : مسحور والمعنى : أنك مخْتَلٌّ العقل والتفكير ، مجنون ، لن نسمع لك .
(1/6662)

وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
وما دُمْت أنت بشراً مثلنا ، ولم تتميز عنَّا بشيء ، فكيف تكون رسولاً؟ ثم { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } [ الشعراء : 186 ] أي : وما ظنك إلا كذاباً ، كالذين سبقوك .
(1/6663)

فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
أي : إنْ كنتَ صادقاً { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء } [ الشعراء : 187 ] يطلبون العذاب ويستعجلونه ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأحقاف : 22 ] .
ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا ، كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب؟
ومعنى { كِسَفاً } [ الشعراء : 187 ] مفردها كِسْفة ، مثل قِطَع وقطعة ، وقد وردتْ هذه الكلمة على ألسنة كثير من المكذِّبين ، وقالها الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وسلم : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 9092 ] .
وقالوا { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
وكان عليهم أن يقولوا : اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدِنا إليه ، وهذا يدلُّك على حُمْقهم وعنادهم .
(1/6664)

قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
فهو سبحانه العليم بكم : إنْ كنتم أهلاً للتوبة والندم والأمل ، أنْ تتوبوا فلن يصيبكم العذاب ، أو كنتم مُصرِّين على العصيان والتكذيب ، فسوف يصيبكم عذاب الهلاك والاستئصال ، فأنا لن أحكمَ عليكم بشيء؛ لأنني بشر مثلكم لا أعرف ما في نياتكم؛ لذلك سأكلُ أمركم إلى ربكم عز وجل الذي يعلم أمري وأمركم ، وسِرِّي وسرَّكم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ }
(1/6665)

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
فكيف يُكذّبونه ، وهو لم ينسب الأمر لنفسه ، ووكلهم إلى ربهم إذن : فهم لا يُكذِّبونه إنما يُكذِّبون الله؛ لذلك يأتي الجزاء : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } [ الشعراء : 189 ] .
وهو عذاب يوم مشهود ، حيث سلط الله عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام ، عاشوها في قيظ شديد ، وقد حجز الله عنهم الريح إلا بمقدار ما يُبقي رَمَق الحياة فيهم ، حتى اشتد عليهم الأمر وحميَتْ من تحتهم الرمال ، فراحوا يلتمسون شيئاً يُروِّح عنهم ، فرأوا غمامة قادمة في جو السماء فاستشرفوا لها وظنوها تخفف عنهم حرارة الشمس ، وتُروِّح عن نفوسهم ، فلما استظلُّوا بها ينتظرون الراحة والطمأنينة عاجلتهم بالنار تسقط عليهم كالمطر .
على حَدِّ قوْل الشاعر :
كَمَا أمطَرتْ يَوْماً ظماءً غمامةٌ ... فلمَّا رَأؤْهَا أقشعَتْ وتجلَّتِ
ويا ليت هذه السحابة أقشعت وتركتهم على حالهم ، إنما قذفتهم بالنار والحُمَم من فوقهم ، فزادتهم عذاباً على عذابهم .
كما قال سبحانه في آية أخرى :
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 2425 ] .
لذلك وصف الله عذاب هذا اليوم بأنه { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] فما وَجْه عظمته وهو عذاب؟ قالوا : لأنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة ، ففاجأهم ما زادهم عذاباً ، وهذا ما نسميه " يأس بعد إطماع " وهو أنكَى في التعذيب وأشقّ على النفوس .
(1/6666)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
قوله سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } [ الشعراء : 190 ] أي : فما حدثتكم به { لآيَةً } [ الشعراء : 190 ] يعني : عبرة ، وسُمِّيَتْ كذلك لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال ، فإنْ كان مُكذباً آمن وصدق ، وإن كان معانداً لاَنَ للحق وأطاع .
وما قصصتُه عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم ، وهذا الموكب يضم سبعة من رسل الله مع أممهم : موسى ، وإبراهيم ، ونوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب عليهم جميعاً وعلى نبينا السلام ، وقد مضى هذا الموكب على سنة لله ثابتة لا تتخلف ، هي : أن ينصر الله عز وجل رسله والمؤمنين معهم ، ويخذل الكافرين المكذِّبين .
فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } [ الشعراء : 190 ] يعني عبرةً لكم ، وسُمِّيتْ عبرة؛ لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال ، فإن كان مُكذِّباً آمن وصدَّق ، وإنْ كان معانداً لاَنَ للحق وأطاع ، وقد رأيتم أننا لم نُسْلِم رسولاً من رسلنا للمكذبين به ، وكانت سنتنا من الرسل أن ننصرهم .
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171172 ] .
وقال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] .
ومن العبرة نقول : عبر الطريق يعني : انتقل من جانب إلى جانب ، والعبرة هنا أن ننتقل من التكذيب واللدَد والجحود والكبرياء إلى الإيمان والتصديق والطاعة ، حتى العَبرة ( الدَّمْعة ) مأخوذة من هذا المعنى .
وفي قوله تعالى : { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 190 ] حماية واحتراس حتى لا نهضم حق القِلَّة التي آمنت .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ }
(1/6667)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
ربك : الرب هو المتولِّي الرعاية والتربية . وبهذه الخاتمة خُتمتْ جميع القصص السابقة ، ومع ما حدث منهم من تكذيب تُختم بهذه الخاتمة الدَّالة على العزة والرحمة .
ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أنْ قدَّم لنا العبرة والعِظة في موكب الرسل السابقين ، فيقول الحق سبحانه : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ }
(1/6668)

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{ وَإِنَّهُ } [ الشعراء : 192 ] على أيِّ شيء يعود هذا الضمير؟ المفروض أن يسبقه مرجع يرجع إليه هذا الضمير وهو لم يُسبَق بشيء . تقول : جاءني رجل فأكرمتُه فيعود ضمير الغائب في أكرمته على ( رجل ) .
وكما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فالضمير هنا يعود على لفظ الجلالة ، مع أنه متأخر عنه ، ذلك لاستحضار عظمته تعالى في النفس فلا تغيب .
كذلك { وَإِنَّهُ } [ الشعراء : 192 ] أي : القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه { لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] وقُدِّم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذِّهْن إلا إليه ، فحين تقول : { هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] لا ينصرف إلا إلى الله ، { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] لا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم .
وقال : { لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] .
أي : أنه كلام الله لم أقلْهُ من عندي ، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبق له أنْ وقف خطيباً في قومه ، ولم يُعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب قَوْل .
إذن : فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة ، فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتُوا بمثله؟ وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ، فإن كان محمد قد افترى القرآن فأنتم أقدر على الافتراء؛ لأنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة .
و { العالمين } [ الشعراء : 190 ] : كل ما سوى الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين للإنس وللجن وللملائكة وغيرها من العوالم .
لذلك لما نزلت : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] " سأل سيدنا رسول الله جبريل عليه السلام : " أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي جبريل؟ " فقال : نعم ، كنت أخشى سوء العاقبة كإبليس ، فلما أنزل الله عليك قوله : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] أمنْتُ العاقبة ، فتلك هي الرحمة التي نالتني " .
وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين ، إما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين ، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط ، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صِدْقه في البلاغ عن الله .
فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة ، ومعجزته العصا ، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل ، ومعجزته إبراء الأكمة والأبرص بإذن الله ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه القرآن ومعجزته أيضاً ، فالمعجزة هي عَيْن المنهج . فلماذا؟
قالوا : لأن القرآن جاء منهجاً للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فلا بد إذن أن يكون المنهج هو عَيْن المعجزة ، والمعجزة هي عَيْن المنهج ، وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة إلا الله ، فهو تنزيل رب العالمين .
أما الكتب السابقة فقد كانت لأمة بعينها في فترة محددة من الزمن ، وقد نزلتْ هذه الكتب بمعناها لا بنصِّها؛ لذلك عيسى عليه السلام يقول : " سأجعل كلامي في فمه " أي : أن كلام الله سكيون في فم الرسول بنصِّه ومعناه من عند الله ، ما دام بنصِّه من عند الله فهو تنزيل رب العالمين .
ثم يقول الحق سبحانه : { نَزَلَ بِهِ الروح }
(1/6669)

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله إلهاماً أو نَفْثاً في الرَّوْع؛ لذلك قال تعالى بعدها : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] إذن : الأمر ليس نَفْثاً في رَوْع رسول الله بحكم ما ، إنما يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له : قال الله كذا وكذا .
لذلك لم يثبت القرآن إلا بطريق الوحي ، بواسطة جبريل عليه السلام ، فيأتيه الملَك؛ ولذلك علامات يعرفها ويحسّها ، ويتفصّد جبينه منه عرقاً ، ثم يُسرِّي عنه ، وهذه كلها علامات حضور الملَك ومباشرته لرسول الله ، هذا هو الوحي ، أمَّا مجرد الإلهام أو النَّفْث في الرَّوْع فلا يثبت به وَحْي .
لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي ، وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى الله عليه وسلم كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه ، وكان الأمر يثقل على رسول الله ، حتى إنه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل ، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به ، كما قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] .
ولم تهدأ مشقَّة الوحي على رسول الله إلا بعد أنْ فتَر عنه الوحي ، وانقطع فترة حتى تشوَّق له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظره ، وبعدها نزل عليه قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 14 ] .
ونزلت عليه : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 14 ] .
يعني : سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقَّة ، ولن تتعب في تلقيه ، كما كنتَ تعاني من قبل .
وقوله : { نَزَلَ } [ الشعراء : 193 ] تفيد العلو ، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله ، ليس من وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصحلة ، كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدِّل كل يوم ، ولا تتناسب ومقتضيات التطور ، والتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم .
ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به ، لا نعانده ، ولا نتكبر عليه؛ لأنك تتكبر على مساوٍ لك ، أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك الانقياد له ، عن اقتناع .
وفي الريف نسمعهم يقولون ( اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم ) لماذا؟ لأنه قُطِع بأمر الأعلى منك ، بأمر الله لا بأمر واحد مثلك .
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] .
كلمة ( تعالوا ) تعني : اتركوا حضيض تشريع الأرض ، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السماء ، فتعالوا أيْ : تعلَّوا وارتفعوا ، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض ، وإلا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث؛ لأن الذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية ، فهم لا يعلمون حقائق الأمور ، فإنْ أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء ، وسوف تُضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها .
(1/6670)

إذن : فالأسلم لكم أنْ تأخذوا من الأعلى؛ لأنه سبحانه العليم بما يُصلحكم .
إذنك { نَزَلَ } [ الشعراء : 193 ] تفيد أنه من الأعلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من نِعَم الله ، لما تكلم عنه قال سبحانه : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب } [ الحديد : 25 ] .
ولم يَقُلْ مثلاً : أنزلناه الألماظ أو الألماس ، أو غيره من المعادن النفيسة ، لماذا؟ لأن الحديد أداة من أدوات نُصْرة الدعوة وإعلاء كلمة الله .
وسُمِّي جبريل عليه السلام الروح؛ لأن الروح بها الحياة ، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادة ، فكأنهم أرواح مطلقة ، أما البشر فمادة فيها روح .
كما أن كلمة الروح استُعملَتْ عدة استعمالات منها { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] والمراد الروح التي نحيا بها .
وسُمِّي القرآن روحاً : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] إذن : فالقرآن روح ، والملَك الذي نزل به روح ، فإنْ قلتَ : فما حاجتي إلى الروح وفيَّ روح؟
نقول لك : هذه الروح التي تحيا بها مادتك ، والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة ، أمّا الروح التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة ، إنها منهج الله الذي يعطيك الحياة الأبدية التي لا تنتهي .
لذلك ، فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدٍّ سواء ، أمّا الروح التي تأتيك من كتاب الله وفي منهجه ، فهي للمؤمن خاصة ، وهي باقية ، وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة الفانية .
واقرأ إن شئت قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
كيف وها نحن أحياء؟ نعم ، نحن أحياء بالروح الأولى روح المادة الفانية ، أمَّا رسول الله فهو يدعونا للحياة الباقية ، وكأنه عز وجل يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة الحقيقية؛ لأنها ستنتهي ، وهناك حياة أخرى باقية دائمة .
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لأن الأحياء هم الذين لا يموتون ، وهذه الحياة لا تأتي إلا بمنهج الله ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] فالحيوان مبالغة في الحياة ، أي : الحياة الحقيقية ، أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها المرء يوم مولده ، أو حتى بعد مائة عام؟!
ثم يَصِف الحق سبحانه وتعالى الروح بأنه { الأمين } [ الشعراء : 193 ] أي : على الوحي ، القرآن إذن مَصُون عند الله ، مصون عند الروح الأمين الذي نزل به ، مَصُون عند النبي الأمين الذي نزل عليه .
لذلك يقول سبحانه : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 4447 ] .
وقال تعالى : { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [ التكوير : 2425 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { على قَلْبِكَ لِتَكُونَ }
(1/6671)

عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
نزل القرآن على أذن رسول الله ، أم على قبله؟ الأذن هي : أداة السمع ، لكن قال تعالى { على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 194 ] لأن الأذن وسيلة عبور للقلب ، لأنه محلُّ التلقِّي ، وهو ( دينامو ) الحركة في جسم الإنسان ، فبالدم الذي يضخُه في أعضاء الجسم وأجهزته تتولَّد الطاقات والقدرة على الحركة وأداء الوظائف .
لذلك نرى المريض مثلاً يأخذ الدواء عن طريق الفم ، فيدور الدواء دروة الطعام ، ويُمتصُّ ببطء ، فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل ، لكن الأسرع من هذا أن تعطيه حقنة في الوريد ، فتختلط بالدم مباشرة ، وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة ، فالدم هو وسيلة الحياة في النفس البشرية .
إذن : قالقلب هو محلُّ الاعتبار والتأمل ، وليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الأذن؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } [ البقرة : 97 ] .
فالمعنى : نزَّله على قلبك مباشرة ، كأنه لم يمرّ بالأذن؛ لأن الله الله تعالى اصطفى لذلك رسولاً صنعه على عينه ، وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه المباشرة ، فكأن قلبه صلى الله عليه وسلم منتبهاً لتلقّي كلام الله؛ لأنه مصنوع على عَيْن الله ، أما الذين سمعوا كلام الله بآذانهم فلم يتجاوبوا معه ، فكانت قلوبهم قاسية فلم تفهم .
والقلب محل التكاليف ، ومُستقرّ العقائد ، وإليه تنتهي مُحِصِّلة وسائل الإدراك كلها ، فالعيْن ترى ، والأذن تسمع ، والأنف يشمّ ، والأيدي تلمس . . ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل ، فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به؛ لذلك نسميها عقيدة يعني : أمْر عقد القلب عليه ، فلم يَعُدْ يطفو إلى العقل ليبحث من جديد ، لقد ترسَّخ في القلب ، وأصبح عقيدة ثابتة .
وفي آيات كثيرة نجد المعوّل والنظر إلى القلب ، يقول تعالى : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] .
وفي آية أخرى يُبيِّن أن التقوى محلُّها القلب : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } [ الحج : 32 ] .
وفي الشهادة يقول تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] من أن الشهادة باللسان ، لا بالقلب .
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير : " ألا إن في الجسد مُضْغة ، إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله ، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " .
ويُحدِّثنا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي رُبْعين أو ثلاثة أرباع مرة واحدة ، فإذا ما سُرِّى عنه صلى الله عليه وسلم قال : اكتبوا ، ثم يقرؤها عليهم مع وَضْع كل آية في مكانها من سورتها ، ثم يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فتكون هي هي كما أملاها عليهم؛ ذلك لأن القرآن باشر قلبه لا أذنه .
(1/6672)

وكان صلى الله عليه وسلم لحِرْصه على حفظ القرآن يُردِّده خلف جبريل ويكرره حتى لا ينساه ، فأنزل الله عليه : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] .
وقال في موضع آخر : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] .
وقال تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 1619 ] .
ومن عجيب أمر القرآن أنك لا تجد شخصاً يُلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلاً ، ثم يعيدها عليك كما قالها نَصّاً ، أمّا النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تُلْقَى عليه السورة ، فيعيدها كما هي ، ذلك من قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] .
وقوله سبحانه : { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } [ الشعراء : 194 ] المنذر : الذي يُحذِّر من الشر قبل وقوعه ليحتاط السامع فلا يقع في دواعي الشر ، ولا يكون الإنذار ساعةَ وقوع الشر ، لأنه في هذه الحالة لا يُجْدي ، وكذلك البشارة بالخير تكون قبل حدوثه لتحثَّ السامع على الخير ، وتحفزه إليه .
ويقول سبحانه في آية أخرى : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [ يس : 6 ] .
فكما أنذر الرسلُ السابقون أقوامهم ، أنْذِر أنت قومك ، وانضمّ إلى موكب الرسالات .
ثم يقول الحق سبحانه : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }
(1/6673)

بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] فإنْ كان القرآن قد نزل على قلبك ، فكيف يسمعونه؟ وكيف يكتبونه؟ ويحفظونه؟ يأتي هنا دَوْر اللسان العربي الذي يُخرِج القرآن إلى الناس . إذن : فمنطق رسول الله بعد نزوله على القلب ، ويُؤخِّر اللسان؛ لأنه وسيلة الحفظ والصيانة والقراءة .
ومعنى { مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] أي : واضح ظاهر ، محيط بكل أقضية الحياة ، لكن يأتي مَنْ يقول : إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي ، فما بال الكلمات غير العربية التي نطق بها؟ فكلمة قسطاس رومية ، وآمين حبشية ، وسجيل فارسية .
ونقول : معنى اللسان العربي ما نطق به العرب ، ودار على ألسنتهم؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربياً ، وإنْ كان من لغات أخرى ، والمراد أنه لم يَأْتِ بكلام جديد لم تعرفه العرب ، فقبل أنْ ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي .
ونزل القرآن باللسان العربي خاصةً؛ لأن العرب هم أمة استقبال الدعوة وحاملوها إلى باقي الأمم ، فلا بُدَّ أنْ يفهموا عن القرآن . فإنْ قُلْتَ : فالأمم الأخرى غير العربية مخاطبةٌ أيضاً بهذا القرآن العربي ، فكيف يستقبلونه ويفهمون عنه؟ نقول : مَنْ سمعه من العرب عليه أن يُبلغه بلسان القوم الذين يدعوهم ، وهذه مهمتنا نحن العرب تجاه كتاب الله .
(1/6674)

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
الضمير في { وَإِنَّهُ } [ الشعراء : 196 ] يصح أنْ يعود على القرآن كسابقه ، ويصح أنْ يعود على رسول الله ، ومعنى { زُبُرِ } [ الشعراء : 196 ] جمع زبور يعني : مكتوب مسطور ، ولو أن العقول التي عارضتْ رسول الله ، وأنكرتْ عليه رسالته ، وأنكرتْ عليه معجزته فَطنوا إلى الرسالات السابقة عليه مباشرة ، وهي : اليهودية والنَصرانية في التوراة والإنجيل لوجبَ عليهم أنْ يُصدِّقوه؛ لأنه مذكور في كتب الأولين .
كما قال سبحانه في موضع آخر : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 1819 ] .
فالمبادىء العامة من العقائد والأخلاق والعدل الإلهي وقصص الانبياء كلها أمور ثابتة في كل الكتب وعند جميع الأنبياء ، ولا يتغير إلا الأحكام من كتاب لآخر ، لتناسب العصر والأوان الذي جاءتْ فيه .
وحين تقرأ قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] .
تقول : ولماذا إذن نزل القرآن؟ ولماذا لم يَقُل وصَّينا به محمداً؟
قالوا : لأن الأحكام ستتغير؛ لتناسب كل العصور التي نزل القرآن لهدايتها ، ولكل الأماكن ، ولتناسب عمومية الإسلام .
لذلك رُوي عن عبد الله بن سلام وآخر اسمه ابن يامين ، وكانوا من أهل الكتاب ، وشهد كلاهما أنه رأى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وفي الإنجيل . والقرآن يقول عنهم : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
ولما سمعها ابن سلام قال : ربنا تساهل معنا في هذه المسألة ، فوالله إني لأعرفه كمعرفتي لولدي ، ومعرفتي لمحمد أشد .
ويقول تعالى في هذا المعنى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] .
ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلام حين يقف خطيباً في قومه : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] .
إذن : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } [ الشعراء : 196 ] أي : محمد صلى الله عليه وسلم أو هو القرآن الكريم ، فكلاهما صحيح؛ لأن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة في هذه الكتب ، أو القرآن في عموم مبادئه في العقائد والأخلاق والبعث وسير الأنبياء .
فكان الواجب على الذين جاءهم القرآن أنْ يؤمنوا به ، خاصة وأن رسول الله كان أمياً لم يجلس إلى معلم ، وتاريخه في ذلك معروف لهم ، حيث لم يسبق له أن قرأ أو كتب شيئاً .
والقرآن يؤكد هذه المسألة ، فيقول تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم :
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] .
{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ القصص : 45 ] .
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] .
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [ آل عمران : 44 ] .
فكل هذه الآيات وغيرها دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لا عِِْلمَ له بها إلا بواسطة الوَحْي المباشر في القرآن الكريم ، وكان على القوم أن يؤمنوا به أول ما سمعوه .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ }
(1/6675)

أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
آية : أي دليلاً وعلامةً على أن القرآن من عند الله؛ لأن علماء بني إسرائيل كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، أو لم يقولوا للأوْس والخزرج في المدينة : لقد أَطلَّ زمان نبيٍّ يأتي سنتبعه ونقتلكم به أيها المشركون قَتْل عاد وإرم ، ومع ذلك لما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم أنكروه وكفروا به ، وهم يعرفون أنه حق ، لماذا؟
قالوا : لأنهم تنبَّهوا إلى أنه سيسلبهم القيادة ، وكانوا في المدينة أهل علم ، وأهل كتاب ، وأهل بصر ، وأهل حروب . . ألخ . وليلةَ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانوا يستعدون لتتويج عبد الله بن أُبيٍّ ملِكاً عليها ، فلما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم أفسد عليهم هذه المسألة؛ لذلك حسدوه على هذه المكانة ، فقد أخذ منهم السُّلْطة الزمنية والتي كانت لهم .
وقال { عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 197 ] لأنهم كانوا يعرفون صِدْق رسول الله ، ولأنه صلى الله عليه وسلم جاء بأشياء لا يعرفها إلا هم ، وقد اشتهر منهم خمسة ، هم : عبد الله بن سلام ، وأسد ، وأسيد ، وثعلبة ، وابن يامين .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ }
(1/6676)

وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
لقد أنزلنا القرآن بلسان عربي على أمة عربية ، ولو أنزلناه على الأعاجم ما فهموه .
وقال الحق وسبحانه وتعالى في موضع آخر : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] .
لماذا؟ لأن المستقبل مقفول ، فإنْ أردتَ استقبال أيِّ قضية فعليك أنْ تُخرِج من قبلك أيّ قضية أخرى معارضة لها ، ثم بعد ذلك لك أنْ تدرس القضيتين ، فما وافق الحق فأدخِلْه .
لذلك يقول تعالى : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب : 4 ] فهو قلب واحد ، لذلك أخرج منه كل قضية سابقة ، وها هو القرآن واحد ، وقائله واحد ، ومُبلِّغه واحد ، ولسانه عربي .
يقول تعالى في وصفهم حالَ سماع القرآن : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 127 ] أي : يريدون التسلُّل والخروج .
ويقول تعالى في آية أخرى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] أي : ماذا أفادتكم؟ وماذا زادتْ في إيمانكم .
ويقول سبحانه : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ] يعني : ما الجديد الذي جاء به؟
ويقول عن الذين آمنوا : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
و { الأعجمين } [ الشعراء : 198 ] جمع : أعجمي ، والأعجم هو الذي لا يُحسِن الكلام العربي ، وإنْ كان ينطق به ، والعجميّ ضد العربيّ والعجم غير العرب . فالمعنى { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ } [ الشعراء : 198 ] أي : القرآن العربي على بعض الأعجمين ما فهمه ، وقال { بَعْضِ } [ الشعراء : 198 ] لمراعاة الاحتمال ، فمن العجم مَنْ تعلَّم العربية وأجادها ويستطيع فَهْم القرآن .
وقوله تعالى : { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 199 ] لأنهم لم يفهموا منه شيئاً ، فكذلك أنتم مثل هؤلاء العجم في تلقِّي واستقبال كلام الله ، لم تفهموا منه شيئاً .
ذلك لأنهم أحبوا الكفر والعناد وأصرُّوا عليه ، واستراحتْ إليه قلوبهم حتى عَشقوه ، فأعانهم الله عليه ، وختم على قلوبهم ، فلا يدخلها إيمانٌ ، ولاَ يخرج منها كفر .
(1/6677)

كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
معنى { سَلَكْنَاهُ } [ الشعراء : 200 ] أدخلناه في قلوب المجرمين ، كأنهم عجم لا يفهمون منه شيئاً ، لذلك { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ الشعراء : 201 ] وما داموا لن يؤمنوا به حتى يروا العذاب الأليم فلن يُقبلَ منهم إيمان .
ومعنى { بَغْتَةً } [ الشعراء : 202 ] أي : فجأة ، ومن حيث لا يشعرون .
لذلك لما نزل القرآن وآمن برسول الله بعض الصحابة اضْطهد رسول الله وصحابته ، وأوذوا حتى صاروا لا يأمنون على أنفسهم من بَطْش الكفار ، حتى كانوا يبيتون في السلاح ، ويستيقظون في السلاح ، لا يجدون مَنْ يحميه .
وفي هذه الحالة نزل قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] فتعجب عمر رضي الله عنه : أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ، والمسلمون على هذه الحال؟ فلما شهد بدراً وما كان فيها من قتْل المشركين ونُصْرة دين الله ، قال : نعم صدق الله ، سيُهزم الجمع ويُولُّون الدبر .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ }
(1/6678)

فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
أي : انظرونا وتمهَّلوا علينا ، وأخِّروا عَنَّا العذاب ، سبحان الله ألم تستعجلوه؟ وهذه طبيعة أهل العناد والكفر إنْ تركناهم طلبوا أنْ ينزل عليهم ، وإنْ نزل بهم العذاب قالوا : انظرونا وتمهَّلوا علينا .
ثم يقول رب العزة سبحانه : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ }
(1/6679)

أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
{ أَفَرَأَيْتَ } [ الشعراء : 205 ] يعني : أخبرني { إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } [ الشعراء : 205206 ] ومع طول المدة ، إلا أن الغاية واحدة { مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } [ الشعراء : 207 ] .
(1/6680)

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
كما قال سبحانه في آية أخرى : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ الأنعام : 131 ] ، فقد جاءهم رسول يُعلِّمهم وينذرهم؛ ليقيم عليهم الحجة ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
هذا كله { ذكرى } [ الشعراء : 209 ] تعني : نذكره لنُوقِظ غفلتكم { وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الشعراء : 209 ] فأنتم الذين فعلتم هذا بأنفسكم { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] .
ثم يقول الحق سبحانه عن القرآن : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين }
(1/6681)

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
لأنهم قالوا : إنما تنزَّلت الشياطين على محمد بالقرآن ، وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره عندهم ، فلكل شاعر شيطان يُمليه الشِّعْر ، وعندهم وادٍ يُسمَّى وادي " عبقر " هو وادي الجن ، فيقولون : فلان عبقري أي : موصول بالجن في هذا الوادي .
لكن ، كيف والكتاب نزل على محمد عدو للشياطين ، يلعنهم في كل مناسبة ، ويُحذِّر أتباعه منهم : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } [ البقرة : 268 ] ويقول الحق سبحانه : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } [ فاطر : 6 ] .
فكيف إذن يمده الشيطان ويُمليه عليه ، وهو عدوه؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباءه؟ هذه واحدة .
الاخرى : { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [ الشعراء : 211 ] إن الله جعل القرآن مُعْجزاً ومنهجاً ، والمعجزة لا يتسلَّط عليها إنس ولا جن فيفسدها ، لذلك قال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
أما الكتب السابقة فقد طلبتْ من المؤمنين بها أنْ يحفظوها ، وفَرْق بين الحفظ مني ، وطلب الحفظ منكم؛ لأن الطلب تكليف وهو عُرْضة لأنْ يُطاع ولأنْ يُعصَى ، وقد جربنا حفظ البشر فلم يحافظوا على كتبهم السابقة؛ لذلك تولّى الحق سبحانه وتعالى حِفْظ قرآنه بنفسه ، ولم يكِلْه إلى أحد من خَلْقه .
لذلك تجد في هذا المجال كثيراً من العجائب والمفارقات ، فمع تقدُّم الزمن وطغيان الحضارات المعادية للإسلام ، والتي تُمطرنا كل يوم بوابل من الانحرافات والخروج عن تعاليم الدين ، ومِنّا مَنْ ينساق خلفهم ، وهذا كله ينقص من الأحكام المطبّقة من الإسلام .
لكن مع هذا كله تجد القرآن يزداد توثيقاً ، ويزداد حفظاً ، ويتبارى حتى غير المسلمين في حِفْظ كتاب الله وتوثيقه ، والتجديد في طباعته ، حتى رأينا مصحفاً في ورقة واحدة ، ومصحفاً في حجم عقلة الإصبع ، ويفخر بعضهم الآن بأنه يملك أصغر مصحف في العالم . . إلخ بصرف النظر عن دوافعهم مِنْ وراء هذا .
المهم أن الله تعالى يُسخِّر حتى أعداء القرآن لحِفْظ القرآن { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } [ المدثر : 31 ] .
أليس من وسائل نَشْر القرآن والمحافظة عليه آلات التسجيل وآلات تكبير الصوت التي تنشر كلام الله في كل مكان؟ ولم يَلْق شيءٌ من الكتب السابقة مثل هذه العناية .
إذن : فالعناية بالقرآن كنصٍّ لا تتناسب مع النقص في أحكامه وانصراف أهله عنها ، وكأن الله عز وجل يقول لنا : سأحفظ هذا النصِّ بغير المؤمنين به ، وسأجعلهم يُوثِّقونه ويهتمون به؛ ليكون ذلك حجة عليكم .
لذلك كان عند الألمان قبل الحرب العالمية خزانة بها أدراج ، في كل درج منها أية من القرآن ، يُحفظ به كل ما كُتب عن هذه الآية بدايةً من تفسير ابن عباس إلى وقتها ، وهذا دليل على أنهم مُسخَّرون بقوة خفية لا يقدر عليها إلا الله عز وجل
(1/6682)

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وسبق أن قلنا : إن بعض النساء يَسِرْنَ في الشوارع كاشفات عن صدورهن ، ومع ذلك تتحلّى بمصحف على صدرها ، وليتها تستر صدرها ولا تُعلِّق المصحف .
فكيف تقولون تنزلت به الشياطين ، وقد جاء القرآن ليعلن لأهله عداءه لهم والحذر منهم؟ كيف والشياطين لا تتنزل إلا على كفَّار أثيم ، وأنتم أوْلَى بأن تتنزَّل عليكم { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] .
ومعنى : { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [ الشعراء : 211 ] أن هذه المسألة فوق قدراتهم؛ لأن الحق تبارك وتعالى قال : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ }
(1/6683)

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
وقد شرح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله تعالى : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [ الجن : 89 ] .
وبعد ذلك يتكلم عن استقبال المنهج من الرسول ومن آله وأتباعه ، ومن المؤمنين جميعاً : { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله }
(1/6684)

فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
خاطب الحق تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : { فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الشعراء : 213 ] فهل كان صلى الله عليه وسلم مظنة أن يدعو مع الله إلهاً آخر؟ قالوا : لا ، إنما المراد ابتداء توجيه ، وابتداء تكليف ، كأنه يقول له : اجعل عندك مبدءًا ، أنك لا تتخذ مع الله إلهاً آخر ، لا أن الرسول اتخذ إلهاً ، فجاء الوحي لينهاه ، إنما هو بداية تشريع وتكليف ، وإذا كان العظيم المرسَل صلى الله عليه وسلم يتوعده الله إنْ أراد أن يتخذ إلهاً آخر ، فما بالك بمَنْ هو دونه؟
فساعَة يسمع الناس هذا الخطاب مُوجّهاً إلى النبي المرسَل إليهم ، فلا بُدَّ أنْ يصغوا إليه ، ويحذروا ما فيه من تحذير ، كما لو وجَّه رئيس الدولة أمراً إلى رئيس الوزراء مثلاً ولله المثل الأعلى وحذَّره من عاقبة مخالفته ، فلا شكَّ أن مَنْ دونه من الموظفين سيكون أطوع منه لهذا الأمر .
(1/6685)

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
وهكذا نقل الأمر من رسول الله إلى أهله وعشيرته الأقربين ، ذلك ليطمئن الآخرون من قومه ، فهو يأمرهم بأمر ليس بنجْوة عنه ، فأول ما ألزم به ألزم نفسه ثم عشيرته ، وهذا أدْعى للطاعة وللقبول ، فأنت تردُّ أمري إذا كنتُ آمرك به ولا أفعله ، لكني آمرك وأسبقك إلى الفعل .
لذلك سيدنا عمر رضي الله عنه وكان على المنبر يخطب في الناس ، ويقول : أيها الناس ، اسمعوا وأطيعوا ، فقام أعرابي وقال : لا سمعَ لك ولا طاعة ، انظر إلى هذه الجرأة على مَنْ؟ على عمر وهو على المنبر فقال له عمر : ولِمَ؟
قال : لأن ثيابك أطول من ثيابنا وكان القماش يُوزَّع بين المسلمين بالتساوي لا فَرْق بين طويل وقصير فقال عمر لابنه عبد الله : قُم يا عبد الله لتُرِي الناس ، فقام عبد الله فقال : إن أبي رجل طِوَال مبالغة في الطول وثوبه في المسلمين لم يكْفِه ، فأعطيته ثوبي فوصَله بثوبه ، وها أنذا بمُرقَّعتي بينكم ، عندها قال الأعرابي : إذنْ نسمع ونطيع .
لكن أين القدوة في دوائرنا ومصالحنا الحكومية الآن؟ وأين هو رئيس المصلحة الذي يحضر ، ويجلس على مكتبه في الثامنة صباحاً ليكون قدوة لمرؤوسيه؟ وإن من أشد ما ابتُلينا به أن نفقد القدوة في الرؤساء والمسئولين . لذلك أول ما وُجِّه التشريع والتكليف وُجِّه إلى رسول الله ، وإلى أقرب الناس إليه وهم عشيرته الأقربون؛ لأن الفساد يأتي أول ما يأتي من دوائر القُرْبى والحاشية التي تحيط بالإنسان ، وقد يكون الرئيس أو الحاكم بخير ، لكن حاشيته هي سبب الفساد ، حيث تستغل اسمه في فسادها أو تُضلِّله وتُعمِّي عليه الحقائق . . إلخ .
لذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه ساعة يريد أن يُقرِّر شيئاً للأمة ، ويعلم أنه قَاسٍ عليهم يجمع أهله أولاً ويقول لهم : لقد شاء الله أن أقرر كذا وكذا ، فمَنْ خالفني منكم في شيء من هذا جعلته نكالاً لعامة المسلمين ، وهكذا يضمن أهله وأقاربه أولاً ، ويبدأ بهم تنفيذ ما أرادوه للمسلمين .
وتأمل { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] والإنذار كما ذكرنا التحذير من الشرِّ قبل أوانه ، فلم يقُلْ : بشِّر عشيرتك ، كأنه يقول له : إياك أنْ يأخذك به لين ورَأْفة ، أو عطف لقرابتهم لك ، بل بهم فابدأ .
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه ، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لقرابته : " يا عباس يا عم رسول الله ، يا صفية عمة رسول الله ، يا فاطمة بنت محمد ، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ، ولا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم " .
وفي الوقت الذي يدعوه إلى إنذار عشيرته الأقربين يقول في مقابلها : { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك }
(1/6686)

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
بعد أن أمره بالشدة على أهله وقرابته يأمره باللين ، وخَفْض الجناح لباقي المؤمنين به ، وخَفْض الجناح كناية عن اللُّطْف واللين في المعاملة ، وقَد أُخِذ هذا المعنى من الطائر حين يحنو على فراخه ، ويضمهم بجناحه .
وخَفْض الجناح دليل الحنان ، لا الذلّة والانكسار ، وفي المقابل نقول ( فلان فارد أجنحته ) إذا تكبَّر وتجبَّر ، وتقول ( فلان مجنح لي ) إذا عصا أوامرك .
وفي موضع أخر : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] .
وقال في حَقِّ الوالدين : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } [ الإسراء : 24 ] فلا نقول : كُنْ ذليلاً لهم ، إنما كُنْ رحيماً بهم ، حَنُوناً عليهم ، ففي هذا عِزّك ونجاتك .
(1/6687)

فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
فإنْ عصاك الأقارب فلا تتردد في أنْ تعلنها { إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ الشعراء : 216 ] وعندها لا تراعي فيهم حَقَّ الرحم ، ولا حَقّ القُرْبى ، لأنه لا حَقَّ لهم؛ لذلك قال { فَقُلْ } [ الشعراء : 216 ] ولم يقل تبرأ منهم؛ لأنه قد يتبرأ منهم فيما بينه وبينهم .
لكن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يعلنها رسول الله على الملأ ليعلمها الجميع ، وربنا يُعلِّمنا هنا درساً حتى لا نحابي أحداً ، أو نجامله لقرابته ، أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة .
والذي يُفسِد حياتنا وينشر فيها الفوضى واللا مبالاة أنْ ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين ، ونُغطِّي على تجاوزاتهم ، ونأخذهم بالهوادة والرحمة ، وهذا كله يهدم معنويات المجتمع ، ويدعو للفوضى والتهاون .
لذلك يعلمنا الإسلام أنْ نعلنها صراحة { فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ الشعراء : 216 ] وليأخذ القانون مجراه ، وليتساوى أمامه الجميع ، ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لارتدع .
لذلك يُقال عن عمر رضي الله عنه أنه حكم الدنيا كلها ، والحقيقة أنه حكم نفسه أولاً ، فحكمتْ له الدنيا ، وكذلك مَنْ أراد أنْ يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أنْ يحكم نفسه ، فلا يجرؤ أحد من أتباعه أن يخالفه ، وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة .
(1/6688)

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
فقد تقول : إنْ فعلتَ هذا قلَّ أنصاري وتفرَّق الأتباع والحاشية من حولي ، نقول لك : إياك أنْ تظنَّ أنهم يجلبون لك نفعاً ، أو يدفعون عنك ضراً ، فالأمر كله بيده تعالى وبأمره ، فخيرٌ لك أنْ تراعى الله ، وأن تتوكل عليه .
{ وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } [ الشعراء : 217 ] العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغْلب ، ويَقْهر ولا يُقهر ، ومع ذلك فهو سبحانه رحيم بك وبهم . وصفة الرحمة هنا تنفي ما يظنه البعض أن العزة هنا تقتضي الجبروت أو القهر أو الظلم ، فهو سبحانه في عِزَّته رحيم ، لأن عزة العزيز على المتكبِّر رحمة بالمتكبَّر عليه .
وكأن الحق سبحانه وتعالى يُعلِّم خليفته في أرضه خاصة أُولي الأمر منهم ، يُعلِّمه أن يكون أريباً ناصحاً ، يقول له : إياك أنْ تتوكّل على عبد مثلك إذا عجزتَ عن العمل؛ لأنه عاجز مثلك ، وما دام الأمر كذلك فتوكَّل على العزيز الرحيم ، فعِزَّته ورحمته لك أنت .
(1/6689)

الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
أي : توكل على الذي يحبك ، ويُقدِّر عملك وعبادتك حين تقوم ، والمعنى تقوم له سبحانه بالليل والناس نيام { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] ونفهم من ذلك أنه يصح أن تقوم وحدك بالليل .
وقوله : { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } [ الشعراء : 218 ] يرى حالك في هذا القيام ، وما أنت عليه من الفرح ، وسرعة الاستجابة لنداء الله في قوله : الله أكبر ، يراك حين تقوم على حالة انشراح القلب والإقبال على الله والنشاط للعبادة ، لا على حال الكسل والتراخي .
وإنْ أقبلتَ على الله أعطاك من الفُيوضات ما يُعوِّضك مكاسب الدنيا وتجارتها ، إنْ تركتها لإجابة النداء؛ لذلك كان شعار الأذان الذي ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الله أكبر ) أي : أكبر من أيِّ شيء غيره ، فإنْ كنتَ في نوم ، فالله أكبر من النوم ، وإنْ كنتَ في تجارة ، فالله أكبر من التجارة ، وإنْ كنتَ في عمل فالله أكبر من العمل . . إلخ .
وعجيب أن نرى مَنْ يُقدِّم العمل على الصلاة بحجة امتداد الوقت ، وإمكانية الصلاة بعد انتهاء العمل ، وهذه حجة واهية؛ لأن ربك حين يناديك ( الله أكبر ) يريد أن تستجيب على الفور لا على التراخي ، وإلا كيف تسمى الاستجابة للنداء إذا تأخرت عن وقتها؟ فطول الوقت خاصة بين الصبح والظهر وبين العشاء والصبح لا يعني أنْ تصلي في طول هذا الوقت؛ لأن النداء يقتضي الإسراع والاستجابة .
ولنا ملحظ في ( الله أكبر ) فأكبر أفعل تفضيل تدلُّ على المبالغة ودون أكبر نقول : كبير ، وكأنها إشارة إلى أن العمل والسعي ليس شيئاً هيناً أو تافهاً ، إنماهو كبير ، ينبغي الاهتمام به؛ لأنه عَصَب الحياة ، ولا تستقيم الأمور في عمارة الأرض إلا به .
لكن ، إنْ كان العمل كبيراً فالله أكبر ، فربُّك عز وجل لا يُزهِّدك في العمل ، ولا يُزهِّدك في الدنيا؛ لأنه خالقها على هذه الصورة وجاعل للعمل فيها دوراً ، وإنْ شئتَ فاقرأ : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] .
وقال في موضع آخر : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } [ القصص : 77 ] لأن حركة الحياة هي التي تُعينك على أداء الصلاة وعلى عبادة الله ، فبها تقتات ، وبها تتقوَّى ، وبها تستر عورتك ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . ومع هذا فدعوة الله لك أَوْلَى بالتقديم ، وأَوْلَى بالإجابة؛ لأن الذي خلقك وخلقها ناداك ( الله أكبر ) .
و { وَتَقَلُّبَكَ } [ الشعراء : 119 ] تعني : القعود والقيام والركوع والسجود ، فربُّك يراك في كل هذه الأحوال ، ويرى سرورك بمقامك بين يديه ، فإذا ما توكلتَ عليه فأنت تستحق أن يكون ربُّك عزيزاً رحيماً من أجلك .
أو : أن المعنى { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 119 ] أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى صحابته وهم يُصلُّون خلفه ، فيرى مَنْ خلفه ، كما يرى مَنْ أمامه ، وكانت هذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم .
لذلك كان يُحذِّرهم أنْ يسبقوه في الصلاة في ركوع أو سجود ، أو قيام أو قعود . ويحذرهم أنْ يفعلوا في الصلاة خلفه ما لا يصح من المصلى اعتماداً على أنه صلى الله عليه وسلم لا يراهم .
(1/6690)

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
السميع لما يقال ، العليم بما يجول في الخواطر .
(1/6691)

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
وقد سبق أن قالوا عن القرآن تنزلت به الشياطين ، فيردُّ عليهم : تعالوا أخبركم على مَنْ تتنزل الشياطين ، وأصحح لكم هذه المعلومات الخاطئة : صحيح أن الشياطين تتنزل ، لكن لا تتنزل على محمد؛ لأنه عدوها ، إنما تتنزل على أوليائها .
قال الحق سبحانه : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] .
{ تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 222 ] فهذا الذي يناسب الشياطين ويرضيهم ، والجن قسمان : فمنه الصالح وغير الصالح وهذا الذي يسمونه الشياطين .
وكلمة { أَفَّاكٍ } [ الشعراء : 222 ] مبالغة في الإفك أي : قلب الحقائق . وكان هؤلاء يخطفون الأخبار فيقولون شيئاً قد يصادف الصدق ، ثم يجعلون معه كثيراً من الكذب .
(1/6692)

يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
السمع مصدر وألته الأذن ، فالمراد يلقون الأذن للسمع ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] .
يعني : ألقى سمعه كي يستمع كمنْ يحرص على السماع من خفيض الصوت ، فيميل نحوه ليسمع منه . وقال { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 223 ] لأن بعضهم والقلة منهم قد يصدق ليُغلِّف كذبه ، ويُغطي عليه ، فأنت تأخذ من صِدْقه هذه المرة دليلاً على أنه صادق ، وهو يخلط الخبر الصادق بأخبار كثيرة كاذبة .
ثم يقول الحق سبحانه : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون }
(1/6693)

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
الشعراء : جمع شاعر ، وهو مَنْ يقول الشعر ، وهو الكلام الموزون المُقفَّى ، وقد اتهم الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر ، وردَّ عليهم القرآن الكريم في عدة مواضع ، منها قوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } [ الحاقة : 41 ] .
وعجيب من كفار مكة ، وهم العرب أهل اللسان والبلاغة والبيان ، وأهل الخبرة في الكلام الموزون المُقفَّى ، بحيث كانوا يجعلون للشعر أسواقاً في ذي المجاز وذي المجنَّة وعكاظ ، ويعلِّقون أجود أشعارهم على أستار الكعبة ، ومع ذلك لا يستطيعون التمييز بين الشعر وأسلوب القرآن الكريم .
إذن : هم يعرفون الفَرْق ، لكن يقصدون بقولهم كما حكاه القرآن : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] يقصدون بالشعر الكلام العَذْب الذي يستميل النفس ، ويُؤثِّر في الوجدان ، ولو كان نثراً . وهذه ينادى بها الآن أصحاب الشعر الحر؛ لأنهم يقولون شعراً ، لكنه غير موزون ، وغير مُقفَّىً .
ومعنى { الغاوون } [ الشعراء : 224 ] جمع غاوٍ . وهو الضال ، وهؤلاء يتبعون الشعراء . لأنهم يؤيدون مذهبهم في الحياة بما يقولون من أشعار؛ ولأنهم لا يحكم منطقهم مبدأ ولا خُلُق ، بل هواهم هو الذي يحكم المبدأ والخلق ، فإنْ أحبُّوا مدحوا ، وإنْ كرِهوا ذَمُّوا .
والدليل على ذلك : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ }
(1/6694)

أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
الضمير في { أَنَّهُمْ } [ الشعراء : 225 ] يعود على الشعراء ، والوادي : هو المنخفض بين جبلين ، وكان محل السير ومحل نمو الأشجار والبساتين واستقرار المياه .
{ يَهِيمُونَ } [ الشعراء : 25 ] نقول : فلان هَامَ على وجهه أي : سار على غير هدى ، وبدون هدف أو مقصد ، فالمعنى { فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } [ الشعراء : 225 ] أن هذه حال الشعراء ، لأنهم أهل كلام وخيال يمدحك أحدهم إنْ طمع في خيرك ، فإنْ لم تُعطِه كال لك الذم وتفنَّن في النَّيل منك ، فليس له وادٍ معين يسير فيه ، أو مبدأ يلتزم به ، كالهائم على وجهه في كل وَادٍ .
فالمتنبي وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويُضرب به المثل في الحكمة والبلاغة ، من أشهر شعره قوله :
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني ... والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم
فلما كان في إحدى رحلاته خرج عليه قُطَّاع الطرق ، فلما أراد أن يفرَّ قال له خادمه : ألست القائل :
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني ... والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم
فاستحى أنْ يفرَّ ، وثبت أمامهم حتى قتلوه ، فقال قبل أنْ يموت : ما قتلني إلا هذا العبد ، واشتهر هذا البيت في الأدب العربي بأنه البيت الذي قتل صاحبه .
ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الإخشيدي طمعاً فيه ، وكان كافور رجلاً أسود؛ لذلك كَنَّوْه بأبي المِسْك ، ولما مدحه المتنبي حالَ الرضا قال فيه :
أَبا كُلِّ طِيبٍ لاَ أَبَا المِسْك وَحْدَهُ ... وفي قصيدة أخرى يقول :
قَضَى اللهُ يَا كافُورُ أنَّكَ أَوَّلٌ ... وليْسَ بقَاضٍ أنْ يُرَى لَكَ ثَانِ
فلما لم يُعْطه كافور طلبه ، وساءتْ العلاقة بينهما ، قال يهجوه :
أُريك الرضا لو أخْفت النفسُ خافيَا ... ومَا أَنَا عَنْ نفسي وَلاَ عَنْكَ رَاضيا
أَمَيْنا وإخْلاَفَاً وغَدْراً وخِسَّةً وجُبْنا ... أشخصاً لُحْتَ لي أَمْ مَخَازِيا
وتُعجِبُني رِجْلاَكَ في النَّعْلِ إنني ... رأيتُكَ ذَا نَعْلٍ وإنْ كُنْتَ حَافِيا
ومِثْلُكَ يُؤتَى مِنْ بِلاَدٍ بَعِيدَة ... لِيُضحِكَ ربَّاتِ الحِدَادِ البَوَاكِيَا
ولَوْلاَ فُضُول الناسِ جِئْتُك مَادِحاً ... بما كنتَ في نَفْسِي به لَكَ هَاجِيَا
وقد يكون الشاعر بخيلاً ، ولكنه يمدح الكرم والكريم ، ويرفعه إلى عنان السماء :
متَّى تَأْتِهِ تَعشُو إلى ضَوْء نَارِه ... تَجِدْ خَيْر نَارٍ عِنْدهَا خَيْرُ موقِدِ
والحطيئة مع ما عُرف عنه من البخل يمدح أحدهم ، ويصفه بالكرم النادر ، لدرجة أنْ جعله يهِمُّ بذبح ولده لضيفه؛ لأنه لم يدد ما يذبحه ، وينظِم الحطيئة في الكرم هذه القصيدة أو القصة الشعرية التي تُعَدُّ من عيون الشعر العربي ، ومع ذلك لم يأخذ مما يقول عبرةً ، وظلَّ على إمساكه وبُخْله؟
يقول الحطيئة في وصف الكريم :
وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصٍب البَطْنِ مُرْمل ... بِبَيْداءَ لمَ يَعرِف بها ساكِن رَسْما
أخِي جَفْوة فيه مِنَ الأُنْس وَحْشةٌ ... يرى البُؤْسَ فِيها مِنْ شراسَتِه نُعْما
وأَفْردَ في شِعْبٍ عَجُوزاً إزَاءَهَا ... ثلاثَة أشْباح تَخَالهوا بُهْما
حُفاةً عُراةً ما اغتذَوْا خُبْز مَلَّة ... ولاَ عَرِفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقُوا طَعْما
رَأى شَبَحاً وَسْط الظَّلام فَرَاعَه ... فلمَّا رأى ضَيْفا تَشمَّر واهْتَما
فَقالَ ابنُه لما رَآهُ بحيْرةٍ ... أيَا أبَتِ أذْبحْني ويَسِّر لَهُ طُعْما
وَلاَ تعتذر بالعُدْم على الذي طَرا ... يظنُّ لَنَا مالاً فَيُوسِعُنا ذَمّا
فَبَيْنَا هُما عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ ... قَدِ انتظمتْ من خَلْفِ مِسْحلها نَظْما
عِطَاشاً تريد الماءَ فانسابَ نحوها ... عَلى أنَّه مِنْها إلى دَمِها أظْمَا
فَأمْهلَها حتَّى تروَّتْ عِطَاشُها ... وأرسلَ فِيهَا مِنْ كِنَانتِه سَهْما
فخرَّتْ نَحْوصٌ ذَات جحش سمينةً ... قَد اكتنزتْ لَحْماً وقد طبّقَتْ شَحْما
فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّهَا نحو قَومِه ... ويَا بشْرهُمْ لما رأوْا كَلْمها يَدْمَا
وَبَاَتُوا كِراماً قَدْ قَضَوْا حَقَّ ضَيْفهِمْ ... ومَا غَرمُوا غُرْماً وقَدْ غَنموا غُنْما
وَباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً ... لِضَيْفهِمُ والأم مِنْ بِشرها أُمَّا
(1/6695)

وصدق الله العظيم : { أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 225226 ] يصفون الكرم وهم بخلاء ، والشجاعة وهو جبناء . . . إلخ .
وفي مرة ، اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم اثنان من الشعراء : الزبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم ، وعمرو بن الأهتم فقال أحدهم عبارتين في مدح أحد الحاضرين بأنه سيد القبيلة . فغضب الممدوح ورأى أن هذا قليل في حقَّه ، فقال : والله يا رسول الله ، إنه ليعلم مني فوق الذي قال يعني : لم يُوفِّني حقي فقال الشاعر : أما والله وقد قال ما قال ، فإنه لضيق العطية ، أحمق الأب ، لئيم العم والخال . سبحان الله في أول المجلس كان سيد قبيلته ، والآن هو ضيق العطية ، أحمق الأب ، لئيم العم والخال!!
ثم قال : والله يا رسول الله ما كذبتُ في الأولى ، ولقد صدقتُ في الثانية يعني : أنا مصيب في القولين لكني رضيت فقلت أحسنَ ما علمت ، وغضبت فقلت أسوأ ما علمتُ . عندها قال سيدنا رسول الله " إن من البيان لسحراً " .
ثم يستثني الحق سبحانه من هؤلاء الغاوين : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ }
(1/6696)

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
كان بعض شعراء المشركين أمثال عبد الله بن الزبعري ، ومسافح الجمحي يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذمونه ، فيلتف الضالون الغاوون من حولهم ، يشجعونهم ويستزيدونهم من هجاء رسول الله ، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } الشعراء : 224 ] فأسرع إلى سيدنا رسول الله شعراءُ الإسلام : عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير ، وكعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، فقالوا : أنحن من هؤلاء يا رسول الله؟ فقرأ عليهم رسول الله هذه الآية :
{ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ الشعراء : 227 ] .
فاستثنى الحق تبارك وتعالى من الشعرءا مَنْ توفَّرت فيه هذه الخصال الأربع { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ الشعراء : 227 ] أي : ذكروا الله في أشعارهم؛ لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ الإيمان ، فيلتفتون إليها ، ثم ينتصرون لرسول الله من الذين هَجَوْه .
وكان هؤلاء الثلاثة ينتصرون للإسلام ولرسول الله ، فكلما هجاه الكفار ردُّوا عليهم ، وأبطلوا حُججهم ، ودافعوا عن رسول الله ، حتى " أنه صلى الله عليه وسلم نَصَب منبراً لحسان بن ثابت ، كان يقول له : " قل وروح القدس معك ، اهجهم وجبريل معك "
وقال لكعب بن مالك : " اهجهم ، فإن كلامك أشدُّ عليهم من رَشْق النِّبال " كما سمح لهم بإلقاء الشعر في المسجد؛ لأنهم دخلوا في هذا الاستثناء ، فهم من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيراً ، وهم الذين ينتصرون للإسلام ويُمجِّدون رسول الله ، ويدافعون عنه ، ويردُّون عنه ألسنة الكفار .
ومعنى : { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ الشعراء : 227 ] أنهم لم يكونوا سفهاء ، لم يبدأوا الكفار بالهجاء ، إنما ينتصرون لأنفسهم ، ويدفعون ما وقع على الإسلام من ظلم الكافرين؛ لذلك لما هجا أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أحدهم رداً عليهم :
أتهْجُوهُ وَلسْتَ لَهُ بكُفْءٍ ... فَشرُّكما لخيركما الفِدَاءُ
فَإنَّ أَبِي وَوَالِدهِ وعِرْضِي ... لِعْرضِ مُحمدٍ منكمُ وِقَاءُ
وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ الشعراء : 227 ] ظُلِموا مِمَّنْ؟ من الذين وقفوا من الدين ومن الرسول موقفَ العداء ، وتعرَّضوا لرسول الله وللمؤمنين به بالإيذاء والكيد ، ظُلِموا من الذين عزلوا رسول الله ، وآله في الشِّعْب حتى أكلوا أوراق الشجر ، من الذين تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ هاجر .
ومن رحمته تعالى وحكمته أنْ أباح للمظلوم أنْ ينتصر لنفسه ، وأنْ يُنفِّس عنها ما يعانيه من وطأة الظلم ، حتى لا تُكبتَ بداخله هذه المشاعر ، ولا بُدَّ لها أن تنفجر ، فقال سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] .
وقال تعالى : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] .
(1/6697)

أباح للمظلوم أن يُعبِّر عن نفسه ، وأن يرفض الظلم ، ولا عليه إنْ جهر بكلمة تُخفِّف عنه ما يشعر به من ظلم .
ثم تختم السورة بقوله تعالى : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] يعني : غداً سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون؟ والمنقلب هو المرجع والمآب ، والمصير الذي ينتظرهم .
فالحق تبارك وتعالى يتوعدهم بما يؤذيهم ، وبما يسوؤهم فلن تنتهي المسألة بانتصار المسلمين عليهم ، إنما ينتظرهم جزاء آخر في الآخرة .
كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } [ الطور : 47 ] .
لذلك أبهم الله تعالى هذا المنقلب ، وإبهامه للتعظيم والتهويل ، وقد بلغ من العِظَم أنه لا يُوصف ولا تؤدي العبارة مؤداه ، كما أبهم العذاب في قوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] .
يعني : شيء عظيم لا يُقَال ، والإبهام هنا أبلغ؛ لأن العقل يذهب في تصوّره كل مذهب ، وعلى كل كيفية .
والمنقلب أو المرجع لا يُمدح في ذاته ، ولا يُذمُّ في ذاته ، فإن انتهى إلى السوء فهو مُنقلب سيء ، وإنِ انتهى إلى خير فهو مُنقلَب حسن ، فالذي نحن بصدده من مُنقلَب الكافرين المعاندين لرسول الله منقلب سيء يُذَم .
أما مُنْقلَب سحرة فرعون مثلاً حين قال لهم : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } [ طه : 71 ] .
فماذا قالوا؟ { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 50 ] فهذا مُنقلَب حَسَن يُمدح ويُحمد .
وقد يظن المرء أن مُنقلَبه مُنقلَب خير ، وأنه سينتهي إلى ما يُفرح وهو واهم مخدوع في عمله ينتظر الخير ، والله تعالى يُعِد له منقلباً آخر ، كالذي أعطاه الله الجنتين من أعناب وخففهما بنخل ، وجعل بينهما زرعاً ، فلما غرَّته نعمة الدنيا ظنَّ أن له مثلها ، أو خيراً منها في الآخرة ، فقال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] .
والانقلاب والمرجع إلى الله عز وجل إنما يفرح به مَنْ آمن بالله وعمل صالحاً؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى جزاء من الحق سبحانه وتعالى مؤكد؛ لذلك الحق تبارك وتعالى يُعلِّمنا حين نركب الدواب التي تحملنا { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس } [ النحل : 7 ] .
علَّمنا أن نذكره سبحانه : { والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 1214 ] .
إذن : فالدوابّ وما يحلّ محلّها الآن من وسائل المواصلات من أعظم نِعَم الله علينا ، ولولا أن الله سخَّرها لنا ما كان لنا قدرة عليها ، ولا طاقة بتسخيرها؛ لذلك نقول { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] .
أي : لا نستطيع ترويضه ، فالصبي الصغير نراه يقود الجمل الضخم ، ويُنيخه ويُحمّله الأثقال وهو طائع منقاد ، لكنه يفزع إنْ رأى ثعباناً صغيراً ، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى سخَّر لنا الجمل وذَلَّله ، ولم يُسخِّر لنا الثعبان .
(1/6698)

وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 7172 ] .
ولكن ما علاقة قولنا : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] بقولنا : { وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 14 ] .
قالوا : لأننا سننقلب إلى الله في الآخرة ، وسنُسأل عن هذا النعيم ، فإنْ شكرنا ربنا على هذه النعمة فقد أدَّيْنا حقها ، ومَنْ شكر الله على نعمة في الدنيا لا يسأل عنها في الآخرة؛ لأنه أدَّى حقَّها .
وقال سبحانه : { وَسَيَعْلَمْ } [ الشعراء : 227 ] بالسين الدالة على الاستقبال ، لكنها لا تعني طول الزمن كما يظن البعض؛ لأن الله تعالى أخفى الموت ميعاداً ، وأخفاه سبباً ومكاناً ، وهذا الإبهام للموت هو عَيْن البيان ، لأنك في هذه الحالة ستنتظره وتتوقعه في كل وقت ، ولو علم الإنسانُ موعد موته لقال : أفعل ما أريد ثم أتوب قبل أن أموت .
إذن : الوقت الذي تقتضيه السين هنا لا يطول ، فقد يفاجئك الموت ، وليس بعد الموت عمل أو توبة ، واقرأ قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .
وقلنا : إن في الآية { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] تهديداً ووعيداً ، الحق تبارك وتعالى حين يُضخّم الوعيد إنما يريد الرحمة بخَلْقه ، وهو مُحِبٌّ لهم ، فيهددهم الآن ليَسلموا غداً ، ويُنبِّههم ليعودوا إليه ، فينالوا جزاءه ورحمته .
وكأنه تبارك وتعالى يريد من وراء هذا التهديد أن يُوزِّع رحمته لا جبروته ، كما تقسو على ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد . إذن : فالوعد بالخير خير ، والوعيد بالشر أيضاً خير ، فكل ما يأتيك من ربك ، فاعلم أنه خير لك ، حتى وإنْ كان تهديداً ووعيداً .
وهكذا قدمتْ لنا سورة الشعراء نموذجاً من تسلية الحق تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه ما يلاقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم ، وعرضَتْ عليه صلى الله عليه وسلم موكب الرسل ، وكيف أن الله أيَّدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم .
ثم سلاَّه ربه بأنْ رَدَّ على الكفار في افتراءاتهم ، وأبطل حججهم ، وأبان زَيْف قضاياهم ، ثم تختم هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة { أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] ليضخمها .
والشيء إذا حُدِّد إنما يأتي على لَوْن واحد ، وإنْ أُبهِم كان أبلغ؛ لأن النفس تذهب في تصوُّره كل مذْهب ، كما لو تأخّر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرّح بنا الظنون في سبب تأخره ، وفي احتمالات ما يمكن أنْ يحدث ، وتتوارد على خواطرنا الأوهام ، وكل وهم يَرِد في نفسك بألم ولذعة ، في حين أن الواقع شيء واحد .
(1/6699)

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
تكلمنا كثيراً على هذه الحروف المقطَّعة في أوائل السور ، وهنا ( طس ) وهما حرفان من حروف المعجم ، وهي تُنطق هكذا ( طاء ) و ( سين ) لأنهما أسماء حروف ، وفَرْق بين اسم الحرف ومُسمَّاه ، فكلٌّ من الأمي والمتعلم يتكلم بحروف يقول مثلاً : كتب محمد الدرس . فإنْ طلبتَ من الأمي أن يتهجى هذه الحروف لا يستطيع لأنه لا يعرف اسم الحرف ، وإنْ كان ينطق بمُسمَّاه ، أمّا المتعلم فيقول : كاف تاء باء .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف أسماء الحروف ، فهي إذن من الله؛ لذلك كانت مسألة توقيفية ، فالحروف ( الام ) نطقنا بها في أول البقرة بأسماء الحروف ( ألف ) ( لام ) ( ميم ) ، أما في أول الانشراح فقلنا { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] بمسميات الحروف نفسها ، فنقول : أَلَم .
و { تِلْكَ } [ النمل : 1 ] اسم إشارة للآيات الآتية خلال هذه السورة ، وقُلْنا إن الآيات لها مَعَانٍ متعددة ، فقد تعني الآيات الكونية : كالشمس والقمر ، { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر } [ فصلت : 37 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا } [ الروم : 21 ] وهذه الآيات الكونية هي التي تلفتنا إلى عظمة الخالق عزَّ وجلّ وقدرته .
والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل ، والتي تثبت صِدْق بلاغهم عن الله ، والآيات بمعنى آيات القرآن الحاملة للأحكام ، وهي المرادة هنا { تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 1 ] .
وسبق إنْ قال تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ] فمرة يقول { وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ] ومرة { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 1 ] ويأتي بالكتاب ويعطف عليه القرآن ، أو يأتي بالقرآن ويعطف عليه الكتاب ، مع أنهما شيء واحد ، فكيف إذن يعطف الشيء على نفسه؟
قالوا : إذا عطف الشيء على نفسه ، فاعلم أنه لزيادة وَصْف الشيء ، تقول : جاءني زيد الشاعر والخطيب والتاجر ، فلكلِّ صفة منها إضافة في ناحية من نواحي الموصوف ، فهو القرآن لأنه يُقرأ في الصدور ، وهو نفسه الكتاب لأنه مكتوب في السطور ، وهما معاً نُسمِّيهم مرة القرآن ومرة الكتاب ، أمّا الوصف فيجعل المغايرة موجودة .
ومعنى { مُّبِينٍ } [ النمل : 1 ] بيِّن واضح ومحيط بكل شيء من أقضية الحياة وحركتها من أوامر ونواهٍ ، كما قال سبحانه : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .
وسبق أنْ حكينا ما حدث مع الإمام محمد عبده رحمه الله حينما كان في فرنسا ، وسأله أحد المستشرقين : تقولون إن القرآن أحاط بكل شيء ، فكم رغيفا في إردبّ القمح؟ فدعا الإمام الخباز وسأله فقال : كذا وكذا ، فقال المستشرق : أُريدها من القرآن ، قال الإمام : القرآن قال لنا : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] .
فهو كما قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ }
(1/6700)

هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
الهدى : يأتي بمعنيين : بمعنى الدلالة على طريق الخير ، وبمعنى المعونة ، فمن ناحية الدلالة هو هُدىً للمؤمن وللكافر على حَدٍّ سواء؛ لأنه دلَّ الجميع وأرشدهم ، ثم تأتي هداية المعونة على حسب اتباعك لهداية الدلالة .
فمَنْ أطاع الله وآمن به وأخذ بدلالته ، فكان الحق سبحانه يقول له : أنت استأمنتني على حركة حياتك وأطعتني في أمري ونهيي ، فسوف أخفف عنك وأُهوِّن عليك أمر العبادة وأُعينك عليها ، وهذه هي هداية المعونة التي قال الله عنها : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
وكذلك الكافر الذي لم يأخذ بهداية الدلالة والإرشاد ، واختار لنفسه طريقاً آخر يُعينه الله عليه ، ويُيسِّر له ما سعى إليه من الكفر؛ لذلك يختم الله على قلوب الكافرين حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر .
لكن الهداية هنا : أهي دلالة ، أم هداية معونة؟
نقول : هي هداية معونة ، بدليل قوله تعالى بعدها { وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ النمل : 2 ] فما كانوا مؤمنين إلا لأنهم مهديون ، والبُشْرى لا تكون إلا للمؤمنين ، إذن : هي معونة للمؤمنين بأنْ يزيدهم هدايةً إلى الطريق السَّويّ ، وإلى جنات النعيم { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التحريم : 8 ] .
ولو أن الهداية هنا بمعنى الدلالة التي تأتي للمؤمن والكافر لكانتْ بشرى وإنذاراً ، لكن الآية { وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ النمل : 2 ] فتعيَّن أن يكون المعنى هداية المعونة وهداية البشرى .
(1/6701)

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
المؤمنون هم أصحاب عقيدة الإيمان ، وهو أن تؤمن بقضية الحق الواحد الإله المختار الفاعل الذي له صفات الكمال ، تؤمن بها حتى تصير عقيدة في نفسك ثابتة لا تتزعزع ، والإيمان اعتقاد بالقلب ، وقَوْل باللسان ، وعمل بالجوارح ، فلا يكفي النطق باللسان ، إنما لا بد من أداء تكاليف الإيمان ومطلوباته ، وقمتها إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصَوْم رمضان ، والحج .
فالصلاة دعوة من الله لخَلْقه ، دعوة من الصانع للمصنوع ، فربُّك يستدعيك إلى حضرته ، وكيف بالصَّنْعة إذا عُرِضَتْ على صانعها كل يوم خمس مرات ، ومع ذلك نرى مَنْ يُقدِّم العمل على الصلاة ، وإذا سمع النداء قال عندي أعمال ومشاغل ، إياك أنْ تظن أن الصلاة تعطيل للمصالح ، أو إضاعة للوقت؛ لأنك في حركة حياتكم مع نِعَم الله وفي الصلاة مع الله .
ونقيس هذه المسألةَ ولله المثل الأعلى لو أن أباك ناداك فلم تُجبه ، ماذا يفعل بك؟ فلا يكُنْ ربُّك أهونَ عليك من أبيك ، ربك يناديك : الله أكبر يعني : أكبر من العمل ، وأكبر من كل شيء يشغلك عن تلبية ندائه .
وفي الصلاة نأخذ شحنة إيمانية تُقوِّينا على حركة حياتنا ، كما لو ذهبتَ ببطارية السيارة مثلاً لجهاز الشحن أتقول : إنك عطلتَ البطارية؟
ولو حسبنا الوقت الذي تستغرقه الصلوات الخمس لوجدناه لا يتعدّى ساعة من الأربع والعشرين ساعة ، فلا تضن على نفسك بها لتلتقي بربك ، وتقف بين يديه ، وتعرض نفسك عليه ، فيصلح فيك ما أفسدته حركة الحياة ويعطيك المدد والعون و الشحنة الإيمانية التي تدفعك إلى حركة منسجمة مع الحياة والكون من حولك .
وإنْ كان مهندس الآلة يُصلحها بشيء مادي ، فربُّك عز وجل غَيْب ، فيصلحك بالغيب ، ومن حيث لا تدري أنت ، لذلك كانت الصلاة في قمة مطلوبات الإيمان .
فإنْ كانت الصلاة لإصلاح النفس ، فالزكاة لإصلاح المال؛ لذلك تجد دائماً أن الصلاة مقرونة بالزكاة في معظم الآيات ، وإنْ كان المال نتيجة العمل ، والعمل فرع الوقت ، فإن الصلاة تأخذ الوقت ، والزكاة تأخذ نتيجة الوقت ، الزكاة تأخذ 2 . 5% أمّا الصلاة فتأخذ الوقت نفقسه يعني بنسبة 100% .
ومع ذلك لا نقول : إن الصلاة أضاعتْ الوقت ، لأن الشحنة التي تأخذها في الصلاة تجعلك تنجز العمل الذي يستغرق عدة ساعات في نصف ساعة ، فتعطيك بركة في الوقت .
وسبق أن قلنا : إن نداء الله أكبر يعني : أن لقاء الله أكبر من أي شيء يشغلك مهما رأيته كبيراً؛ لأنه سبحانه واهب البركة ، وواهب الطاقة ، وإنْ كان العمل والسَّعْي في مناكب الأرض مطلوباً ، لكن الصلاة في وقتها أَوْلَى .
وحين نتأمل أطول الأوقات بين كل صلاتين نجد أنها من الصبح حتى الظهر ، وهو الوقت المناسب للعمل ، ومن العشاء حتى الصبح ، وهو الوقت المناسب للنوم ، وهكذا تُنظِّم لنا الصلاة حياتنا ، فمِنْ صلاة الصبح إلى صلاة الظهر سبع ساعات هي ساعات العمل .
(1/6702)

لو أن الأمة الإسلامية تمسَّكتْ بشرعها ومنهج ربها ، وبعد هذه الساعات السبع التي تقضيها في عملك ، أنت حر بعد صلاة الظهر ، أمّا التخصيص الذي طرأ على حركة الحياة فقد اقتضى أنْ يأتي صلاة الظهر بل والعصر والناس ما يزالون في أعمالهم .
أما الذين يُؤخرون الصلاة عن وقتها بحجة امتداد الوقت بين الصلاتين ، نعم الوقت ممتدٌّ ، لكن لا يجوز لك تأخير الصلاة ، ولبيان هذه المسألة نقول : هَبْ أن غنياً مستطيعٌ للحج ، ولم يحج متى يأثم .
يأثم إذا ما غَرَّه طول الأمل ، ثم عاجله الموت قبل أنْ يحجَّ ، فإنْ أمهله العمر حتى يحج ، فقد سقط عنه هذا الفرض ، لكن مَنْ يضمن له البقاء إلى أنْ يؤدي هذه الفريضة .
لذلك ورد في الحديث : " حُجُّوا قبل ألاَّ تَحجُّوا " .
كذلك الحال في وقت الصلاة ، فهو ممتد ، لكن مَنْ يضمن لك امتداده؛ لذلك تارك الصلاة يأثم في آخر لحظة من حياته ، فإنْ ظلَّ إلى أنْ يصلي فلا شيء عليه .
إذن : لا تتعلَّل بطول الوقت؛ لأن طول الوقت جعله الله لحكمه ، لا لنأخذه ذريعة لتأخير الصلاة عن وقتها ، طول الوقت بين الصلوات جُعِل للنائم كي يستيقظ ، أو للناسي كي يتذكّر .
ثم يقول سبحانه { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } [ النمل : 3 ] .
فالآية جمعتْ أمر المؤمن كله ، بداية من العقيدة والإيمان بالله ، ثم الصلاة ، فالزكاة وهما المطلبان العمليان بين إيمانين : الإيمان الاول بالله ، والآخر أنْ يؤمن بالآخرة وبالجزاء والمرجع والمصير .
وقوله { يُوقِنُونَ } [ النمل : 3 ] الإيقان : الحكم بثبات الشيء بدون توهُّم شكٍّ؛ لذلك قلنا : إن العلم أنْ تعرف قضية واقعة وتقول ، إنها صدق وتُدلِّل عليها .
وقلنا : إن اليقين درجات؛ علم اليقين ، وعين اليقين ، وحقُّ اليقين ، فمثلاً حين أقول لك : إنني رأيتُ في أحد البلاد أصبع الموز نصف متر ، وأن تثق فيَّ ولا تكذبني ، فهذا علم يقين ، فإنْ رأيته ، فهذا عَيْن اليقين ، فإن أخذته وذهبتَ تقطعه مثلاً ، وتوزعه على الحاضرين فهذا حقُّ اليقين . وهذه الدرجة لا يمكن أن يتسرَّب إليها شكٌّ .
لذلك لما " سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الحارث بن مالك الأنصاري : " كيف أصبحتَ "؟ قال : أصبحتُ بالله مؤمناً حقاً ، قال " فإنّ لكل حَقِّ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ " قال : عزفَتْ نفسي عن الدنيا ، فاستوى عندي ذهبها ومدرها ، كأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون ، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم " .
والإمام على رضي الله عنه يعطينا صفة اليقين في قوله : لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً؛ لأني صدقت بما قال الله ، وليست عيني أصدق عندي من الله .
ومن هذا اليقين ما ذكرنا في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد في هذا العام ، فلم يَرَ هذه الحادثة ، فالمعنى : ألم تعلم ، وعدل عن ( تعلم ) إلى ( ترى ) ليقول النبي صلى الله عليه وسلم أن إخبار الله لك أقوى صِدْقاً من رؤية عينيك .
(1/6703)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
هؤلاء في مقابل الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؛ لأن الحق تبارك وتعالى يعرض الشيء ومقابله لنُجري نحن مقارنة بين المتقابلات ، وفي هؤلاء يقول تعالى : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } [ النمل : 4 ] .
ولم يَنْفِ عنهم إقامة الصلاة أو إيتاء الزكاة ، لماذا؟ لأنهم أصلاً لا يؤمنون بالله ، ولا بالبعث والحساب ، ولو علموا أنهم سيرجعون إلى الله لآمنوا به ، ولَقدَّموا العمل الصالح .
ومعنى { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] أن الذين لا يؤمنون بالله ، ولا يؤمنون بالآخرة ، ولا يُؤدُّون مطلوبات الإيمان لا عُذْرَ لهم؛ لأننا حينما عرضنا الإيمان ومطلوباته عرضناه عَرْضاً جيداً مُستميلاً مُشوِّقاً وزيَّناه لكم .
فالصلاة لقاء بينك وبين ربك يعبر عن دوام الولاء ، ويعطيك شحنة إيمانية ، والزكاة تُؤمِّنك حين ضعفك وعدم قدرتك ، فنأخذ منك وأنت غني لنعطيك إنْ حَلَّ بك الفقر ، ولما نهيناك عن الكذب نهينا الناس جميعاً أن يكذبوا عليك ، ولما حذَّرناك من الرشوة قلنا للآخرين : لا تأكلوا ماله دون وَجْه حقٍّ . . إلخ .
وهكذا شرحنا التكاليف وبيَّنا الحكمة منها ، وحبّبناها إليكم .
أو : يكون المعنى : زيّنّا لهم أعمالهم التي يعملونها ، فلما عَلم الله عشْقهم للضلال وللانحراف ختم على قلوبهم ، يقول تعالى : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] .
لكن مَنِ الذي زيَّن لهم : { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ النحل : 63 ] فالتزيين يأتي مرة من الشيطان ، ومرة مجهول الفاعل ، ومرة زيَّن الله لهم .
ومن تزيين الله قوله تعالى في شأن فرعون : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [ يونس : 88 ] فلما أعطاهم الله النعمة فُتِنوا بها .
وإبليس خلقه الله ، وجعل له ذرية تتسلَّط على الناس ، وتُغْويهم ، وما ذلك إلا للاختبار ليرى مَنْ سيقف على هذه الأبواب ، إذن : الحق تبارك وتعالى لم يجعل حواجز عن المعصية ، وجعل لكم دوافع على الطاعة ، فالمسألة منك أنتَ ، فإنْ رأيتُك مِلْتَ إلى شيء وأحببته أعنْتُكَ عليه .
والذي يموت له عزيز ، أو المرأة التي يموت ولدها ، فتظل حزينة عليه تُكدِّر حياتها وحياة مَنْ حولها ويا ليت هذا يفيد أو يُعيد الميت ونقول لمن يستقبل قضاء الله بهذا السُّخْط : إن ربك حين يعلم أنك أَلِفْتَ الحزن وعشقْته وهو رب ، فلا بُدَّ أن يعطيك مطلوبك ، ويفتح عَليك كل يوم باباً من أبوابه .
إذن : ينبغي على مَنْ يتعرَّض لمثل هذا البلاء أنْ يستقبله بالرضا ، وإنْ يغلق باب الحزن ، ولا يتركه موارباً .
ومن التزيين قوله سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
ومعنى { يَعْمَهُونَ } [ النمل : 4 ] يتحيرون ويضطربون ، لا يعرفون أين يذهبون؟
(1/6704)

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
أي : العذاب السيء ، وهذا في الآخرة ، فبالإضافة إلى ما حدث لهم من تقتيل في بدر ، وهزيمة كسرتْ شوكتهم فلم ينته الأمر عند هذا الحد ، إنما هناك خسارة أخرى في الآخرة { وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون } [ النمل : 5 ] .
والأخسر مبالغة في الخسران ، فلم يَقُلْ : خاسر إنما أخسر؛ لأنه خسر النعيم؛ لأنه لم يُقدِّم صالحاً في الدنيا ، وليته ظل بلا نعيم وتُرِكَ في حاله ، إنما يأتيه العذاب الذي يسوؤه؛ لذلك قال تعالى { هُمُ الأخسرون } [ النمل : 5 ] لأنهم لم يدخلوا الجنة ، وهذه خسارة ، ثم هم في النار ، وهذه خسارة أخرى .
(1/6705)

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
يعني : هذه المسائل والقضايا إنما تأتيك من الله الحكيم الذي يضع الشيء في نصابه وفي محله ، فإنْ أثاب المحسن أو عاقب المسيء ، فكلٌّ من محلِّه ، وهو سبحانه العليم بما يضع من الجزاءات على الحسنة وعلى السيئة .
ويقصُّ علينا الحق سبحانه قصة موسى عليه السلام : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ }
(1/6706)

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
ما زِلْنا قريبي عَهْد بذكر طرف من قصة موسى عليه السلام في سورة الشعراء ، وهنا يعود السياق إليه مرة أخرى ، لماذا؟ لأن دعوة موسى عليه السلام أخذت حيِّزاً كبيراً من القرآن الكريم ، ذلك لأنهم أتبعوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كَثُّر الكلام عنهم .
وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم ، وهم لا يعلمون أنها تُحسب عليهم لا لهم ، فالنبي لا يأتي إلا عند شقْوة أصحابه ، وبنوا إسرائيل كانوا من الضلال والعناد بحيث لاَ يكفيهم رسول واحد ، بل يلزمهم ( كونسلتو ) من الأنبياء ، فهم يعتبرونها مفخرة ، وهي مَنْقصة ومذمّة .
أما تكرار قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام كثيراً في القرآن ، فلأن القرآن لا يروي ( حدوتة ) و ، لا يذكر أحداثاً للتأريخ لها ، إنما يأتي من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت لفؤاد رسول الله : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرَّض في رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاقّ ، ويحتاج لتسلية وتثبيت ، فيأتي له ربُّه بلقطة معينة ، ولكن لا يُورد القصة كاملة ، وهذا ليس عَجْزاً وحاشا لله عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة .
وقد أورد سبحانه قصة يوسف عليه السلام كاملة من الألف إلى الياء في صورة قصة محبوكة على أتمِّ ما يكون الفن القصصي ، ومع ذلك لم يأتِ لسيدنا يوسف عليه السلام ذِكْر في غير هذه القصة إلا في موضعين :
أحدهما : في سورة الأنعام : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ } [ الأنعام : 84 ] .
والآخر في سورة غافر : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } [ غافر : 34 ] .
إذن : ورود القصة في لقطات مختلفة متفرقة ليس عَجْزاً عن إيرادها مُسْتوفاة كاملة في سياق واحد ، ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة .
وهنا يقول الحق سبحانه : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً } [ النمل : 7 ] ، وفي موضع آخر يقول : { قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً } [ القصص : 29 ] وفي هذه الآية إضافة جديدة ليست في الأولى .
أما قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] أي : آنس في ذاته ، أمّا في الآيتين السابقتين فيخبر بأنه آنسَ ناراً ، إذن : كل آية في موقف ، وليس في الأمر تكرار ، كما يتوهمّ البعض .
فموسى عليه السلام يسير بأهله في هذا الطريق الوَعْر ويحلّ عليه الظلام ، ولا يكاد يرى الطريق فيقول لزوجته : { إني آنَسْتُ نَاراً } [ النمل : 7 ] يعني : سأذهب لأقتبسَ منها ، ليهتدوا بها ، أو ليستدفئوا بها .
(1/6707)

وطبيعي أنْ تعارضه زوجته : كيف تتركني في هذا المكان المُوحِش وحدي ، فيقول لها { امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً } [ القصص : 29 ] يعني : أبقىْ هنا مستريحة ، وأنا الذي سأذهب ، فلربما تعرَّضت لمخاطر فكُوني أنت بعيداً عنها ، إذن : هي مواقف جديدة استدعاها الحال ، ليست تكراراً .
كذلك نجد اختلافاً طبيعياً في قوله : { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] وقوله { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ النمل : 7 ] .
فالأولى { لعلي } [ القصص : 29 ] فيها رجاء؛ لأنه مُقبل على شيء يشكُّ فيه ، وغير متأكد منه ، وهو في هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه ، فلما تأكد قال { سَآتِيكُمْ } [ النمل : 7 ] على وجه اليقين .
وفي هذه المسألة قال مرة : { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ } [ القصص : 29 ] وهنا قال : { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ النمل : 7 ] .
ذلك لأنه لا يدري حينما يصل إلى النار ، أيجدها مشتعلة لها لسان يقتبس من شعلة ، أم يجدها قد هدأتْ ولم يَبْقَ منها إلا جذوة ، وهي القطعة المتوهجة مثل الفحم مثلاً ، فكلُّ تكرار هنا له موضع ، وله معنى ، ويضيف شيئاً جديداً إلى سياق القصة ، فهو تكامل في اللقطات تأتي متفرقة حَسْب المراد من العبرة والتثبيت .
ومعنى { لأَهْلِهِ } [ النمل : 7 ] قالوا : إنها تعني جماعة بدليل قوله لهم { امكثوا } [ القصص : 29 ] فكانت زوجته ، ومعه أيضاً بعض الرُّعْيان أو الخدم . والإنسان منا يحتاج لأشياء كثيرة تقتضي التعدّد : فهذا يطبخ الطعام ، وهذا للنظافة ، وهذا لِكَيِّ الملابس . . إلخ .
لكن هناك شيء واحد لا يستطيع أحد أنْ يقضيَه لك إلا زوجتك ، هي النسْل والمعاشرة الزوجية ، كما يمكن للزوجة وحدها أن تقوم لك بكل هذه الأعمال ، إذن : فهي تُغْني عن الأهل كلهم ، ونستطيع أن نقول : إنه لم يكُنْ معه إلا زوجته .
وهذه شائعة في لغتنا : يقول الرجل : الجماعة أو جماعتي أو أهلي ويقصد زوجته ، وفي هذا تقدير من الزوج لمكانة زوجته .
ومعنى { آنَسْتُ } [ النمل : 7 ] آنس : يعني شعر وأحسَّ بشيء يُؤنسه ويُطمئنه ، وضده التوجس : أي شعر وأحسَّ بشيء يخيفه ، ومنه قوله تعالى في شأن موسى أيضاً : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طه : 6768 ] .
(1/6708)

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
أي : جاء النار ف { نُودِيَ } [ النمل : 8 ] النداء : طلب إقبال ، كما تقول : يا فلان ، فيأتيك فتقول له ما تريد . فالنداء مثلاً في قوله تعالى : { ياموسى } [ طه : 11 ] نداء { إنني أَنَا الله } [ طه : 14 ] خطاب وإخبار .
لكن ما معنى { نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] ولم يقُلْ : يا موسى فليس هنا نداء ، قالوا : مجرد الخطاب هنا يُراد به النداء؛ لأنه ما دام يخاطبه فكأنه يناديه ، ومثال ذلك قوله سبحانه : { ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] .
فذكر الخطاب مباشرة دون نداء؛ لأن النداء هنا مُقدَّر معلوم من سياق الكلام ، ومنه أيضاً : { ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأعراف : 48 ] .
ومنه أيضاً : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي } [ مريم : 24 ] فجعل الخطاب نفسه هو النداء .
وقوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] كلمة بُورِك لا تناسب النار؛ لأن النار تحرق ، وما دام قال { بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] فلا بُدَّ أن مَنْ في النار خَلْق لا يُحرق ، ولا تؤثر فيه النار ، فمَنْ هم الذين لا تؤثر فيهم النار ، هم الملائكة .
وقد رأى موسى عليه السلام مشهداً عجيباً ، رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة ، فالنار تزداد ، والفرع يزداد خُضْرة ، فلان النار تحرق الخضرة ولا رطوبة الخضرة ومائيتها تطفىء النار ، فمَنْ يقدر على هذه المسألة؟ لذلك قال بعدها : { وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين } [ النمل : 8 ] .
ففي مثل هذا الموقف إياك أنْ تقول : كيف ، بل نزِّه الله عن تصرفاتك أنت ، فهذا عجيب لا يُتصوَّر بالنسبة لك ، أمّا عند الله فأمر يسير .
وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصة إبراهيم عليه السلام حين نجَّاه ربه من النار ، ولم يكُنْ المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم فقط ، فلو أن الله أراد نجاته فحسب لَمَا أمكنهم منه ، أو لأطفأ النار التي أوقدوها بسحابة ممطرة ، أسباب كثيرة كانت مُمكِنة لنجاة سيدنا إبراهيم .
لكن الله تعالى أرادهم أنْ يُمسِكوا به ، وأنْ يُلْقوه في النار ، وهي على حال اشتعالها وتوهّجها ، ثم يُلْقونه في النار بأنفسهم ، وهم يروْنَ هذا كله عَيَاناً ، ثم لا تؤذيه النار ، كأنه يقول لهم : أنا أريد أن أنجيه من النار ، رغم قوة أسبابكم في إحراقه ، فأنا خالق النار ومعطيها خاصية الإحراق ، وهي مُؤتمرةٌ بأمري أقول لها : كُونِي بَرْداً وسلاماً تكون ، فالمسألة ليست ناموساً وقاعدة تحكم الكون ، إنماَ هي قيوميتي على خَلْقي .
إذن : ما رآه موسى عليه السلام من النار التي تشتعل في خضرة الشجرة أمر عجيب عندكم ، وليس عجيباً عند مَنْ له طلاقة القدرة التي تخرق النواميس .
وبناء الفعل { بُورِكَ } [ النمل : 8 ] للمجهول تعني : أن الله تعالى هو الذي يبارك ، فهذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله { مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] يجوز أن يكون الملائكة ، أو : بُورِكت الشجرة ذاتها لأنها لا تُحرق ، أو النار لأنها لا تنطفىء فهي مُباركة .
وفي موضع آخر يُوسِّع دائرة البركة ، فيقول سبحانه : { فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة } [ القصص : 30 ] .
ثم يخاطب الحق سبحانه موسى : { ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله }
(1/6709)

يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
جاء هنا النداء على حقيقته بأداة ومنادى { إِنَّهُ أَنَا الله } [ النمل : 9 ] هذا هو الأصل ، وما دُمْتُ أن الله فلا تتعجَّب مما ترى ، وساعةَ تسمع مَنْ يكلِّمك دون أن ترى متكلماً من جنسك ، فلا تتعجب ولا تندهش .
(1/6710)

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
ونلحظ أن هنا تفاصيلَ وأحداث لم تذكرها الآية هنا ، وذُكِرَت في موضع آخر في قوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 1718 ] .
والأدب يقتضي أن يأتي الجواب على قَدْر السؤال ، لكن موسى عليه السلام أراد أنْ يطيل أمد الأُنْس بالله والبقاء في حضرته تعالى ، ولما أحسَّ موسى أنه أطال في هذا المقام أجمل ، فقال : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] فللعصا مهام أخرى كثيرة في حياته .
وهنا يقول سبحانه : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } [ النمل : 10 ] يعني : إنْ كانت العصا بالنسبة لك بهذه البساطة ، وهذه مهمتها عندك فلها عندي مهمة أخرى ، فانظر إلى مهمتها عندي ، وإلى ما لا تعرفه عنها .
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ } [ النمل : 10 ] فلمّا ألقى موسى عصاه وجدها { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ] يعني : حية تسعى وتتحرك ، والعجيب أنها لم تتحول إلى شيء من جنسها ، فالعصا عود من خشب ، كان فرعاً في شجرة ، فجنسه النبات ولما قُطعت وجفَّتْ صارت جماداً ، فلو عادت إلى النباتية يعني : إلى الجنس القريب منها واخضرتْ لكانت عجيبة .
أمّا الحق تبارك وتعالى فقد نقلها إلى جنس آخر إلى الحيوانية ، وهذه قفزة كبيرة تدعو إلى الدهشة بل والخوف ، خاصة وهي { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ] أي : تتحرك حركة سريعة هنا وهناك .
وطبيعي في نفسية موسى حين يرى العصا التي في يده على هذه الصورة أنْ يخاف ويضطرب { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طه : 6768 ] .
ومعنى : { الأعلى } [ طه : 68 ] إشارة إلى أنه تعالى يُعده لمهمة كبرى ، وأن لهذه العصا دوراً من الخصوم ، وسوف ينتصر عليهم ، ويكون هو الأعلى .
وحين تتتبع اللقطات المختلفة لهذه القصة تجدها مرة ( جان ) ومرة ( حية ) ومرة ( ثعبان ) ، وهي كلها حالات للشيء الواحد ، فالجان فَرْخ الثعبان ، وله مِن خفة الحركة ما ليس للثعبان ، والحية هي الثعبان الضخم .
وقوله تعالى { ولى مُدْبِراً } [ النمل : 10 ] يعني : انصرف عنها وأعطاها ظهره { وَلَمْ يُعَقِّبْ } [ النمل : 10 ] نقول : فلان يُعقِّب يعني : يدور على عَقِبه ويرجع ، والمعنى أنه انصرف عنها ولم يرجع إليها؛ لذلك ناداه ربه سبحانه وتعالى : { ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } [ النمل : 10 ] .
ونلحظ هنا نداءين اثنين يذكر فيهما ، المنادى موسى عليه السلام وكأنهما تعويض للنداء السابق الذي نُودِي فيه بالخبر { أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] .
وعلَّة عدم الخوف { لاَ تَخَفْ } [ النمل : 10 ] ليعلمه أنه سيُضطر إلى معركة ، فليكُنْ ثابتَ الجأْش لا يخاف لأنّه لا يحارب شخصاً بمفرده ، إنما جمعاً من السَّحرة جُمِعوا من كل أنحاء البلاد ، وسبق أنْ قال له :
(1/6711)

{ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طه : 68 ] حتى لا تُرهبه هذه الكثرة .
وهنا قال { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } [ النمل : 10 ] والمعنى : لا تخفْ ، لأني أنا الذي أرسلتُك ، وأنا الذي أتولّى حمايتك وتأييدك ، كما قال الحق سبحانه في موضع آخر :
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171173 ] .
فأنت معذور في الخوف ، إنْ كنتَ بعيداً عني ، فكيف وأنت في جواري وأنا معك ، وها أنذا أخاطبك؟
وكان إلقاء العصا من موسى هذه المرة مجرد تجربة ( بروفة ) ليألف هذه المسألة ويأنس إليها ، وتحدث له دُرْبة ورياضة ، فإذا ما أجرى هذه العملية أمام فرعون والسحرة أجراها بثقة وثبات ويقين من إمكانية انقلاب العصا إلى حية .
وبعد ذلك يأتي بآية تثبيت منطقة التكليف في البشر حتى الرسل ، والرسل أيضاً مُكلَّفون ، وكل مُكلَّف يصح أن يطيع أو أن يعصي ، لكن الرسلَ معصومون من المعصية ، أما موسى عليه السلام فله حادثة مخصوصة حين وكَز الرجل فسقط ميتاً ، فقال : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 14 ] .
وفي موضع آخر يُحدِّد هذا الذنب : { قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ القصص : 33 ] .
ونضع هذه القصة أمامنا لنفهم : { إِلاَّ مَن ظَلَمَ }
(1/6712)

إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
إذن : فالاستثناء هنا من قوله تعالى : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } [ النمل : 10 ] استثنى من ذلك { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء } [ النمل : 11 ] .
وكأنه عز وجل يُعرِّض بهذه الحادثة الخاصة بموسى عليه السلام : { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } [ النمل : 11 ] أي : حين قتَل القبطي ، لكن موسى عليه السلام اعترف بذنبه واستغفر ربه ، فقال : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } [ القصص : 16 ] .
ولا كلامَ لاحد بعد مغفرة الله عز وجل للمذنب؛ لأنه بعد أنْ ظلم { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء } [ النمل : 11 ] يعني : عمل عملاً حسناً بعد الذنب الذي ارتكبه { فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النمل : 11 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ }
(1/6713)

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
هذه آية أخرى ومعجزة جديدة ، قال عنها في موضع آخر : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ القصص : 32 ] .
فما الفرق بين : أَدْخِل يدك ، واسْلُك يدك؟ قالوا : لأنه ساعة يُدخِل يده في جيبه يعني : في فتحة القميص ، إنْ كانت فتحة القميص مفتوحة أدخل يده بسهولة فيُسمّى ( إدخال ) .
فإن كانت مغلقة ( فيها أزرار مثلاً ) احتاج أنْ يسلك يده يعني : يُدخلها برفق ويُوسِّع لها مكاناً ، نقول : سلك الشيء يعني : أدخله بلُطْف ورِفْق ، ومنه السلك الرفيع حين تُدخِله في شيء .
وساعةَ نسمع كلمة الجيب نجد أن لها معنىً عرفياً بين الناس ، ومعنى لُغوياً : فمعناها في اللغة فتحة القميص العليا ، والتي تكون للرقبة ، وهي في المعنى العُرْفي فتحة بداخل الثوب يضع فيها الإنسان نقوده ، يقولون ( جيب ) والعوام لهم عُذْر في ذلك؛ لأنهم اضطروا إلى حِفْظ نقودهم داخل الثياب ، حتى لا تكون ظاهرة ، وربما سرقها منهم النشالون والأشقياء .
ولا يزال الفلاحون في الريف يجعلون الجيب في ( السديري ) الداخلي؛ لذلك سمعنا الحاوي مثلاً يقول ليُحنِّن الناس عليه بارك الله فيمَنْ يضع يده في جيبه يعني : بارك الله في الذي يعطيني جنيهاً .
وقوله تعالى { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ النمل : 12 ] أي : وأخرجها تخرج بيضاء ناصعة مُنوِّرة ، ومعلوم أن موسى عليه السلام كان آدمَ اللون يعني : أسمر ، فحين يروْنَ لونه تغيّر إلى البياض ، فربما قالوا : إن ذلك مرضٌ كالبرص مثلاً .
لذلك أزال الله هذا الظنَّ بقوله : { مِنْ غَيْرِ سواء } [ النمل : 12 ] من غير مرض { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } [ النمل : 12 ] ليعلم موسى عليه السلام أن هذه الآية واحدة من تسع آيات أخرى يُثبِّته الله بها أمام عدوه فرعون وقومه .
وهذه التسع هي : العصا ولها مهمتان : أن تتحول إلى حية أمام السحرة ، وأنْ يضرب بها البحر أمام جيشه ، حينما يهاجمه فرعون وجنوده .
ثم اليد ، واثنتان هما الجدب ، ونقص الثمرات في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } [ الأعراف : 130 ] .
ثم : الطوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدَّم . هذه تسع آيات . تُثبِّت موسى أمام فرعون وقومه . فهل أُرسل موسى عليه السلام إلى فرعون خاصة؟ لا ، إنما أُرسِل إلى بني إسرائيل ، لكنه أراد أنْ يُقنع فرعون بأنه مُرْسَل من عند الله حتى لا يحول بينه وبينهم ، وجاءت مسألة دعوة فرعون إلى الإيمان بالله عَرَضاً في أحداث القصة ، فليست هي أساسَ دعوة موسى عليه السلام .
ومعنى { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ النمل : 12 ] إشارةً إلى أن الإنسان وإنْ كان كافراً خارجاً عن طاعة الله إلا أنَّ أصله من أصلاب مؤمنة ، والمراد الإيمان الأول في آدم عليه السلام ، وفي ذريته من بعده ، لكنهم فسقوا أي : خرجوا من غشاء التكليف الذي يُغلِّف حركة حياتهم ، كما نقول : فسقت الرطبة : يعني خرجت من غلافها ، كذلك فَسَق الإنسان أي : خرج عن حيِّز التكليف الصائن له .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا }
(1/6714)

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
الآيات : المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول ، والآيات تكون مُبْصَرة بصيغة اسم المفعول ، لكن كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم الفاعل ، وهذه المسألة عرفناها أخيراً ، فكانوا منذ القدم عند اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للأشياء تحدث من شعاع يخرج من العين إلى الشيء المرئي ، إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها .
فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئيّ إلى العين ، بدليل أننا لا نرى الشيء إنْ كان في الظلام ، وأنت في النور ، فإنْ كان الشيء في النور وأنت في الظلام تراه .
إذن : فكأن الآيات نفسها هي المبصِرة؛ لأنها هي التي ترسل الأشعة التي تسبب الرؤية . أو : أن الآيات من الوضوح كأنها تُلِحّ على الناس أنْ يروْا وأنْ يتأملوا ، فكأنها أبصرُ منهم للحقائق .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ }
(1/6715)

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{ وَجَحَدُواْ } [ النمل : 14 ] أي : باللسان { بِهَا } [ النمل : 14 ] بالآيات { واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] أي : إيماناً بها ، إذن : المسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال تعالى بعدها { ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] أي : استكباراً عن الحق { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } [ النمل : 14 ] وترْك عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها .
ثم يترك قصة موسى مع فرعون وما كان من أمرهما لمناسبة أخرى تحتاج إلى تثبيت آخر ، وينتقل إلى قصة أخرى في موكب الأنبياء ، فيها هي الأخرى مواطن للعِبْرة وللتثبيت : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ }
(1/6716)

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
وتسأل : لقد أعطى الله داود وسليمان عليهما السلام نِعَماً كثيرة غير العلم ، أَلاَن لداود الحديد ، وأعطى سليمان مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وسخَّر له الريح والجن ، وعلَّمه منطق الطير . . إلخ ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إلا بالعلم وهو منهج الدين؟
قالوا : لأن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن ، لا الملْك ولا المال ، ولا الدنيا كلها ، فلم يُعتد بشيء من هذا كله؛ لذلك حمد الله على أن آتاه الله العلم؛ لأنه النعمة التي يحتاج إليها كل الخَلْق ، أما المُلْك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته ، فيمكن للإنسان الاستغناء عنها .
والإمام علي كرم الله وجهه حينما نُفِى أبو ذر؛ لأنه كان يتكلم عن المال وخطره والأبنية ومسائل الدنيا ، فَنَفَوْه إلى الربذة حتى لا يثير فتنة ، لكنه قبل أن يذهب مرَّ بالإمام علي كي يتوسط له ليعفوا عنه ، لكن الإمام علياً رضي الله عنه أراد ألاَّ يتدخل في هذه المسألة حتى لا يقال : إن علياً سلَّط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم ، فقال له : يا أبا ذر إنك قد غضبتَ لله فارْجُ مَنْ غضبتَ له ، فإن القوم خافوك على دُنْياهم ومُلكهم ، وخِفْتهم أنت على دينك فاهرب بما خِفْتَهم عليه يعني : اهرب بدينك واترك ما خافوك عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عَمَّا منعوك .
هكذا أزال الإمام هذه الإشكال ، وأظهر أهمية العلم ومنهج الله بحيث لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال ، ولا يعيش بدونه ، وبه ينال حياة أخرى رفعية باقية ، في حين يستطيع الإنسان أن يعيش بدون المال وبدون الملك .
ولذلك يبعث خيلفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق : يا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم ما لك لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ أي : تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا ، فقال : ليس عندي من الدنيا ما أخافك عليه يعني : ليس عندي مال تصادره وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له . وهذا نفس المنطق الذي تكلم به الإمام علي .
وقوله تعالى : { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } [ النمل : 15 ] فالحمد هنا على نعمة العلم وحِفْظ منهج الله ، وفي الآية مظهر من مظاهر أدب النبوة ، حيث قالا { فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } [ النمل : 15 ] فكأن هناك مَنْ هم أفضل مِنّا ، وليس التفضيل حَجْراً علينا ، وهذا من تواضعهما عليهما السلام .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ }
(1/6717)

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
قوله سبحانه : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] أي : بقيتْ فيه النبوة وحمل المنهج ، لا الملك لأن الأنبياء لا تورث كما جاء في الحديث الشريف : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "
وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود ، وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران ، بدليل قوله تعالى في موضع آخر : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] .
إذن : كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم ، لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل ، بدليل أنه قال : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [ الأنبياء : 79 ] مع أن أباه موجود ، وحكم في القضية بأن يأخذ صاحبُ الزرع الغنم التي أكلت .
فلما خرجوا من عند داود سألهم سليمان عن حكم أبيه ، فأخبروه بما قال ، فقال سليمان : بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها ، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود كما كان ، وعندها يأخذ صاحب الغنم غنمه ، وصاحب الزرع زرعه .
والحق تبارك وتعالى يعطينا هذا المثل مع نبي وأبيه ، لا مع نبيين مختلفين بعيدين ، وفي هذا إشارة أن حقّ الأبوة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم؛ لأن الله تعالى قال عنهما { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] فكلٌّ منهما يحكم على مقتضى علمه الذي منحه الله .
ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعية الاستئناف والنقض وفي أحكام المحاكم ، فقاضي الاستئناف حينما يُعدِّل في حكم القاضي الابتدائي لا يُعَدُّ هذا طعْناً فيه ، إنما كل منهما حكم بناءً على علمه ، وعلى ما توفّر له من أدلة ووقائع ، وربما فطِن القاضي الثاني لما لم يفطِنْ له القاضي الأول .
إذن : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] لا تعني أنه جاء بعده ، إنما هما متعاصران ، وورثه في العلم والنبوة والحكمة ، لا في الملْك والمال؛ لأن الله تعالى يريد أن يكون الرسول بعيداً في رسالته وتبليغه عن الله عن أيِّ نفع يجيء له ، أو لذريته .
لذلك كان الفقراء من أهل النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذون من زكاة المؤمنين ، لكن أين هذا التشريع الحكيم مما يحدث الآن من الحكام والرؤساء والمسئولين ممَّنْ يوالون أقاربهم ، وينهبون البلاد من أجلهم .
{ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير } [ النمل : 16 ] فالطير له منطق ولغة؛ لأنه كما قال تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] والآن ومع تقدُّم العلم يتحدث العلماء عن لغة للنمل ، ولغة للنحل ، ولغة للسمك . . إلخ .
وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقَّة تفاهم غريزي ، لكننا لا نفهم هذا المنطق ، والحق تبارك وتعالى يُعلِّمنا : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }
(1/6718)

[ الإسراء : 44 ] . فإنْ قلتَ كمَنْ قالوا : هو تسبيح دلالة لا منطقَ ومقال ، نقول : طالما أن الله تعالى قال { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] فلا بُدَّ أنه مقال وكلام ، ولكن أنت لا تفهمه .
وعلماء اللغة يقولون : إن النطق خاصٌّ بالإنسان ، أما ما تُحدثه الحيوانات والطيور فأصوات تُحدِثها في كل وقت ، مثل مواء القطة ، ونُباح الكلب ، وخُوَار البقر ونقيق الضفادع ، لكن هذه الأصوات لها معنى ( فنونوه ) القطة حين تجوع غير ( نونوتها ) حين تخاف .
إذن : فهي تُعبِّر ، لكننا لا نعرف هذه التعبيرات ، كيف ونحن البشر لا يعرف بعضنا لغات بعض؛ لأننا لم نتعلمها ، وللغة ضرورة اجتماعية نتواضع عليها أي : نتفق أن هذا اللفظ يعني كذا ، فإذا نطقتَ به أفهمك ، وإن نطقتُ به تفهمني .
واللغة بنت الاستماع ، فاللفظ الذي تسمعه تستطيع نُطْقه ، والذي لم تسمعه لا تستطيع نُطْقه ، حتى لو كان لفظاً عربياً من لغتك ، ولا تعرف أيضاً معناه ، فلو قلت لك : ( إنما الحيزبون و الدردبيس والطخا والنخالح والعصلبيص ) فلا شكَّ أن لا تعرف لهذا معنى؛ لأننا لم نتواضع على معناه .
والطفل الذي نشأ في بيئة عربية يتكلم العربية؛ لأنه سمعها و لايتكلم الإنجليزية مثلاً : لأنه لم يسمعها ، ولو وضعتَ نفس الطفل في بيئة إنجليزية لتكلم الإنجليزية؛ لأن اللغة لا ترتبط بجنس ولا دم ، اللغة سماع .
ومعنى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] أي : من النِّعَم على الإطلاق ، وبعد قليل سنسمع نفس هذه العبارة يقولها الهدهد عن ملكة سبأ { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] إذن : فهي مثله فيما يناسب أمثالها من الملوك لا في النبوة وحَمْل المنهج { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } [ النمل : 16 ] الفضل المحيط بكل الفضائل .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ }
(1/6719)

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
حُشِروا : جُمِعوا من كل مكان ، ومنه قوله تعالى : { وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ } [ الشعراء : 36 ] والحشْر : جَمْع الناس للحساب يوم القيامة .
وسُمِّي الجمع حَشْراً؛ لأن تجمع الناس من أماكن متفرقة في مكان واحد ، حتى يضيق بهم ويزدحم ، وهذا معنى الحشْر المتعارف عليه عندنا ، نقول : نحشرهم على بعض .
ومعنى { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ النمل : 17 ] يعني : يُمنعون ، ومنه قوله " إن الله ليزع بالسُّلْطان ما يزع بالقرآن " يعني : أن السلطان والقوة والبطش تمنع ما لا يستطيع القرآن منعه؛ ذلك لأنهم يستبعدون القيامة والعذاب ، أمّا السلطان فرادع حاضر الآن .
لكن ، مِمَّ يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان؟ قالوا : يُمنعون أن يَسبق بعضهم بعضاً إلى سليمان ، إنما نمنعهم حتى يأتي المتأخر منهم ، ويدخلون جميعاً عليه مرة واحدة ، وفي ذلك إحداثُ توازنٍ بين الرعية كلها .
وقد حدَّثونا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من صفاته إذا جلس في مجلس تزوعَتْ نظراته وعينه على كل الجالسين حتى يُسوِّي بينهم ، ولا ينظر لأحد أكثر من الآخر ، ولا يُميز أحداً منهم على أحد ، حتى لا يظن أحدهم أن النبي فضَّله على غيره .
وكان صلى الله عليه وسلم لا يُقرِّب إلا أهل الفضل والتقوى الذي يُعرف منهم أنهم لا يستغلون هذه المكانة لنيل سلطة بين الناس؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يُوطِّن وينهي عن ذلك على خلاف ما نراه الآن من بعض المصلِّين الذين يضعون سجادة مثلاً في الصف الأول يشغلون بها المكان ، ثم يذهب ويقضي حاجاته ، ويعود وقد امتلأ المسجد فيتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكان في المقدمة ، وهي ليس مكانه عند الله .
فالله تعالى قد وزَّع الأماكن على حَسْب الورود ، فإتيانك إلى بيت الله أولاً يعطيك ثواب الصف الأول ، وإنْ صليت في الصفِّ الأخير ، وعدم توطين الأماكن ينشر الأُلْفة بين الناس ، ويزيل الفوارق ويساعد على التعارف ، فكل صلاة أنت بجانب شخص جديد تتعرف عليه وتعرف أحواله .
وهذا معنى { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ النمل : 17 ] يمنع السابق أنْ يسبق حتى يأتي اللاحق ، ليكونوا سواسية في الدخول على نبي الله سليمان عليه السلام .
لكن في ضوء هذا المعنى لمادة ( وزع ) كيف نفهم قوله تعالى : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [ النمل : 19 ] .
أوزعني هنا يعني : أقْدِرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك ، لأضلَّ شاكراً لك .
(1/6720)

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
الضمير في { أَتَوْا } [ النمل : 18 ] يعود على جنود سليمان من الإِنس والجن والطير ، أي جاءوا جميعاً صَفَّاً واحداً ومرُّوا { على وَادِ النمل } [ النمل : 18 ] يعني : قرية النمل ، وقوله { على وَادِ النمل } [ النمل : 18 ] يدلُّ على أنهم جاءوا من أعلى الجبل ، أو أنهم قطعوا الوادي كله ، كما نقول : فلان أتى على الطعام كله .
عندها { قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] لماذا هذا التحذير؟ { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } [ النمل : 18 ] ثم احتاطتْ النملة للأمر ، فقالت { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] فما كان سليمان وجنوده ليُحطِّموا بيوت النمل عن قَصْد منهم .
والمعنى : حالة كونهم لا يشعرون بكم ، وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان ، وأنه ليس جباراً ولا عاتياً . إذن : فالنملة رأتْ عن بُعْد ، ونطقتْ عن حق ، وحكمتْ بعدل ، لهذا كله تبسَّم سليمان ضاحكاً .
وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه كُلٌّ مهمته ، ويؤديها على أكمل وجه ، فهذه النملة لا بُدَّ أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدَّرَك ، ترقب الجو من حولها ، وكأنها جندي الدورية اليقظ .
وسبق أن قُلْنا : لو أنك جلستَ في مكان ، وتركتَ فيه بعض فضلات الطعام مثلاً أو الحلوى لرأيتَ بعض النمل يدور حولها دون أنْ يقربها ، ثم انصرفوا عنها ، وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت وحملت هذه القطعة ، وكأن الجماعة الأولى أفراد الاستطلاع الذين يكتشفون أماكن الطعام ، ويُقدِّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء .
بدليل أنك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعفت هو أيضاً . ولو قتلتَ النمل الأول الذي جاء للاستطلاع تلاحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان ، لماذا؟ لأن النملة التي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها ، وحذَّرتهم من هذا المكان .
وفي مملكة النمل عجائب وآيات ، سبحان خالقها ، وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة بالغريزة .
ومن عجائب النمل أنك ترى في عُشِّ النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى لا تنبت ، وتهدم عليهم عُشَّهم ، لكن حبَّة الكُسْبرة مثلاً تنبت حتى لو انفلقتْ نصفين ، حيث ينبت كل نصف على حِدَة ، لذلك لا حظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربعة أقسام .
كما لاحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش النمل ، وبفحصها تبيَّن أنها زريعة النبات التي تحمل خلايا الإنبات أخرجوها كي لا تنبت .
وصدق الله العظيم : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] .
وقد سمَّى الله تعالى ما قالت النملة قولاً { قَالَتْ نَمْلَةٌ } [ النملة : 18 ] ولا بُدَّ أن هذا التحذير { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النملة : 18 ] جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده ، وهم على مشارف الوادي .
(1/6721)

وكلمة { مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] تدل على أن لهم بُيوتاً ومساكنَ ، ومجالَ معيشة ، وكسْبَ أرزاق ، كما نقول ( بيلقّطوا رزقهم ) من هنا ومن هناك؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام والفضلات ، ويدخل إليها من أضيق الأماكن ، لكن نرى مثلاً محلات الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل ، ومع ذلك لا نجد في هذه المحلات نملة واحدة ، لماذا؟ لما تتبَّعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن النمل لا يدخل المكان إذا كان به سِمْسم ، وهذه من عجائب النمل أيضاً .
وقوله تعالى : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] الحَطْم هو التكسير ، ومنه قوله سبحانه عن النار : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة } [ الهمزة : 5 ] لأنها تحطم ما يُلْقى فيها .
(1/6722)

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
تبسَّم سليمان عليه السلام بالبسمة التي تتصل بالضحك لماذا؟ لأنه سمعها قبل أنْ يصل إليها ، ولأنها رأتْ قبل أن يأتي المرئي ، وقد تكلم البعض في هذه المسألة فقالوا : إن الريح نقلتْ إليه مقالة النملة ، وهو ما يزال بعيداً عنها ، وهذا الكلام يُقبل لو أن المسألة ( ميكانيكا ) إنما هي عمل رب وقدرة خالق مُنعِم ينعم بما يشاء .
ونطق قائلاً { رَبِّ أوزعني } [ النمل : 19 ] أي : امنعني أنْ أغفل ، أو أنْ أنسى هذه النِّعم ، فأظل شاكراً حامداً لك على الدوام؛ لأن هذه النعَم فاقتْ ما أنعمت به على عامة الخَلْق ، وفوق ما أنعمتُ به على إخواني من الأنبياء السابقين ، و على كل ملوك الدنيا؛ لأنه عليه السلام جمع بين الملْك والنُّبوة ، وإنْ كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الملْك فرفضه ، وآثر أن يكون عبداً رسولاً .
لذلك وجب على كل صاحب نعمة أنْ يستقبلها بحمد الله وشكْره ، وسبق أنْ قُلْنا في قوله تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } [ التكاثر : 8 ] أن حق النعمة أن تحمد المنعم عليها ، فلا تُسأل عنها يوم القيامة .
وما أشبه الحمد على النعمة بما يُسمُّونه عندنا في الريف ( الرقوبة ) ، وهي بيضة تضعها ربَّة المنزل في مكان أمين يصلح عُشَّا يبيض فيه الدجاج ، فإذا رأتْ الدجاجة هذه البيضة جاءتْ فباضتْ عليها ، وهكذا شكر الله وحمده على النعم هو النواة التي يتجمع عليها المزيد من نِعَم الله .
وقد شُرح هذا المعنى في قوله سبحانه : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] ألاَ ترى أن مَنْ علم علماً فعلم به أورثه الله علم ما لم يعلم؟ لماذا؟ لأنه ما دام عمل بعلمه ، فهو مُؤْتمن على العلم؛ لذلك يزيده الله منه ويفتح له مغاليقه ، على خلاف مَنْ عَلِم علماً ولم يعمل به ، فإنَّ الله يسلبه نور العلم ، فيغلق عليه ، وتصدأ ذاكرته ، وينسى ما تعلَّمه .
والحق تبارك وتعالى يقول : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [ لقمان : 12 ] أي : تعود عليه ثمرة شُكْره؛ لأنه إنْ شكر الله بالحمد شكره الله بالزيادة؛ لذلك من أسمائه تعالى ( الشكور ) .
وقوله : { عَلَيَّ } [ النمل : 19 ] هذه خصوصية { وعلى وَالِدَيَّ } [ النمل : 19 ] لأنه ورث عنهما الملْك والنبوة { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } [ النمل : 19 ] وهذا ثمن النعمة أن أؤدي خدمات الصلاح في المجتمع لأكون مُؤْتمناً على النعمة أهْلاً للمزيد منها .
والحق تبارك وتعالى يريد منَّا أنْ نُوسِّع دائرة الصلاح ودائرة المعروف في المجتمع ، أَلاَ ترى إلى قوله سبحانه : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] .
فسمَّى الخير الذي تقدمه قَرْضاً ، مع أنه سبحانه واهب كل النِّعم ، وذلك لِيُحنِّن قلوب العباد بعضهم على بعض؛ لأنه تعالى خالقهم ، وهو سبحانه المتكفِّل برزقهم .
(1/6723)

ثم يقول : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] وذكر الرحمة والفضل؛ لأنهما وسيلة النجاة ، وبهما ندخل الجنة ، وبدونهما لن ينجو أحد ، واقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ولا أنا إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته " .
ويقول سبحانه في هذا المعنى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ } [ يونس : 58 ] فالمؤمن الحق لا يفرح بعمله ، إنما يفرح : إنْ نال فَضْلَ الله ورحمته ، كأنه يقول لربه : لن أتكل يا رب على عملي ، بل فضلك ورحمتك هما المتكل ، لأنني لو قارنتُ العبادة التي كلفتني بها بما أسدْيتَ إليَّ من نِعَم وآلاء لَقصُرَتْ عبادتي عن أداء حقِّك عليَّ ، فإنْ أكرمتني بالجنة فبفضلك .
والبعض يقولون : كيف يعاملنا ربنا بالفضل والزيادة ، ويُحرِّم علينا التعامل بالربا؟ أليست الحسنة عنده بعشرة أمثالها أو يزيد؟ نقول : نعم ، لكن الزيادة هنا منه سبحانه وتعالى وليستْ من مُسَاو ، إنها زيادة ربٍّ لعبيد .
وقوله { فِي عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] دليل على تواضع سيدنا سليمان عليه السلام فمع مكانته ومنزلته يطلب أنْ يُدخِله الله في الصالحين ، وأن يجعله في زمرتهم ، فلم يجعل لنفسه مَيْزةً ولا صدارة ولا أدَّعى خيرية على غيره من عباد الله ، مع ما أعطاه الله من الملْك الذي لا ينبغي لأحد من بعده .
وأعطاه النبوة وحمَّله المنهج ، فلم يُورثه شيء من هذا غروراً ولا تعالياً ، وها هو يطلب من ربه أن يكون ضمن عباده الصالحين ، كما نقول ( زقني مع الجماعة دول ) ، حين تكون السيارة مثلاً كاملة العدد ، وليس لي مقعد أجلس عليه .
مَنْ يقول هذا الكلام؟ إنه سليمان بن داود عليهما السلام الذي آتاه الله مُلْكاً ، لا ينبغي لأحد من بعده ، ومن ذلك كان يُؤثِر عبيده وجنوده على نفسه ، وكان يأكل ( الردة ) من الدقيق ، ويترك النقي منه لرعيته .
إذن : لم ينتفع من هذا الملْك بشيء ، ولم يصنع لنفسه شيئاً من مظاهر هذا الملك ، إنما صنعه له ربه لأنه كان في عَوْن عباد الله ، فكان الله في عَوْنه ، وأنت حين تُعين أخاك تُعينه بقدرتك وإمكاناتك المحدودة ، أما معونة الله تعالى فتأتي على قَدْر قوته تعالى ، وقدرته وإمكاناته التي لا حدودَ لها ، إذن : فأنت الرابح في هذه الصفقة .
(1/6724)

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
مادة : فقد الفاء والقاف والدال ، وكل ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء ، ومنه قوله تعالى في قصة إخوة يوسف : { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ } [ يوسف : 71 ] ، فإنْ جاءت بصيغة ( تفقَّد ) بالتضعيف دلَّتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانّه .
فمعنى { وَتَفَقَّدَ الطير } [ النمل : 20 ] أن الرئيس او المهيمن على شيء لا بُدَّ له من متابعته ، وسليمان عليه السلام ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من مملكته ، كأنه القائد يستعرض جنوده ، وفي هذا إشارة إلى أنه عليه السلام مع أن هذا ملكه ومُسخَّر له ومُنقَاد لأمره ، إلا أنه لم يتركه هَمَلاً دون متابعة .
لكن ، لماذا تفقَّد الطير بالذات؟ قالوا : لأنه أراد أنْ يقوم برحلة في الصحراء ، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة؛ لأنه يعلم مجاهلها ، ويرى حتى الماء في باطن الأرض ، يقولون : كما يرى أحدكم الزيت في وعائه .
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن الله تعالى جعل له منقاراً طويلاً؛ لأنه لا يأكل مما على سطح الأرض ، إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الأرض .
ألاَ تراه حين كلَّم سليمان في دقائق العقيدة والإيمان بالله يقول عن أهل سبأ : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض } [ النمل : 25 ] فاختار هذه المسألة بالذات؛ لأنه الخبير بها ورزقه منها .
ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين قال { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } [ النمل : 20 ] فساعةَ يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته ، فإنه لا يقصد الاستفهام ، إنما هو يستبعد أنْ يتخلَّف الهدهد عن مجلسه .
لذلك قال { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } [ النمل : 20 ] يعني : ربما هو موجود ، لكنِّي لا أراه لعلّة عندي أنا ، فلما دَقّق النظر وتأكد من خُلوِّ مكانه بين الطيور ، قال { أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } [ النمل : 20 ] إذن : لا بد من معاقبته :
(1/6725)

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لأن أيِّ مخالفة لا تُقابل بالجزاء المناسب لا بُدَّ أن تثمر مخالفات أخرى متعددة أعظم منها ، فحين نرى موظفاً مُقصِّرًا في عمله لا يحاسبه أحد ، فسوف نكون مثله ، وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللامبالاة ، وتحدث الطَّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَنْ لا يستحق .
لذلك توعَّد سليمان الهدهد : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] .
وقد تكلَّم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد ، فقالوا : بنتف ريشه الجميل الذي يزهوا به بين الطيور ، حتى يصير لحماً ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه ، أو يجعْله مع غير بني جنسه ، فلا يجد لها إلفاً ولا مشابهاً له في حركته ونظامه ، أو : أنْ يُكلِّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف ، أو : أجمعه مع أضداده ، وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ ، ونتف بعضها ريش بعض؛ لأنهم أضداد؛ لذلك قالوا : أضيق من السجن عِشْرة الأضداد .
والشاعر يقول :
وَمِنْ نكَدِ الدُّنْيا عليَ المرْءِ أنْ يرى ... عَدُواً لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَته بُدُّ
ثم رقَّى الأمر من العذاب الشديد إلى الذبح ، وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج الله والذين يريدون أنْ يُعدِّلوا على الله أحكامه ، أثاروا إشكالاً حول قوله تعالى في حَدِّ الزنا : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] أما الرَّجْم فلم يَرِدْ فيه شيء ، فمن أين أتيتم به؟
نقول أتينا به أيضاً من كتاب الله ، حيث قال سبحانه في جَلد الأمَة إنْ زنتْ وهي غير محْصنة : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] فقالوا : وكيف نُنصِّف حدَّ الرجم؟ وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لأحكام الله .
فالمعنى { فَعَلَيْهِنَّ } [ النساء : 25 ] أي : على الإماء الجواري { نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات } [ النساء : 25 ] الحرائر ، ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجَلْد ، فقال : { مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] فتجلد الأَمَة خمسين جلدة ، وهذا التخصيص يدلُّ على أن هناك عقوبة أخرى لا تُنصف هي الرجْم .
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 21 ] أ ي : حجة واضحة تبرر غيابه ، فنفهم من الآية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه ، ودون أن يأخذ الإذن من رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة لا تستدعي التأخير .
وعلى الرئيس عندها أن يُقدِّر لمرؤوسيه اجتهاده ، ويلتمس له عذراً ، فلعله عنده حجة أحمده عليها بل وأكافئه؛ لأن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة ، كما نقول في العامية ( الغايب حجته معاه ) .
إذن : المرؤوس إنْ رأى خيراً يخدم الفكر العام ، ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون إذن ، وفي الحرب العالمية الأولى تصرّف أحد القادة الألمان تصرُّفاً يخالف القواعد الحربية ، لكنه كان سبباً في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد والقانون .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ }
(1/6726)

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
معنى { فَمَكَثَ } [ النمل : 22 ] أقام واستقر { غَيْرَ بَعِيدٍ } [ النمل : 22 ] مدة يسيرة ، فلم يتأخر كثيراً؛ لأنه يعلم أنه تخلّف عن مجلس سليمان ، وذهب بدون إذنه؛ لذلك تعجَّل العودة ، وما إنْ وصل إليه إلا وبادره { فَقَالَ } [ النمل : 22 ] بالفاء الدالة على التعقيب؛ لأنه رأى سليمان غاضباً مُتحفِّزاً لمعاقبته .
لذلك بادره قبل أنْ ينطق ، وقبل أنْ ينهره { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [ النمل : 22 ] أي : عرفتُ ما لم تعرف هذا الكلام مُوجَّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها ، وسخَّر الله له كل شيء؛ لذلك ذُهل سليمان من مقالة الهدهد وتشوَّق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو .
ثم يستمر الهدهد : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] .
أولاً : نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ ، فبينهما جناس ناقص ، وهو من المحسّنات البديعية في لغتنا ، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد ، والجناس أن تتفق الكلمتان في الحروف ، وتختلفا في المعنى ، كما في قول الشاعر :
رَحَلْتُ عَنِ الدِّيَارِ لكُم أَسِيرُ ... وَقَلْبي في محبتكُمْ أَسير
وقَوْل الآخر :
لَمْ يَقْضِ مِنْ حقِّكم عَليَّ ... بَعْضَ الذي يَجِبُ
قَلْبٌ متَى مَا جَرَت ... ذِكْرَاكُمُ يَجِبُ
ومن الجناس التام في القرآن الكريم : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] .
فالتعبير القرآني { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] تعبير جميل لفظاً ، دقيق مَعنىً ، أَلاَ تراه لو قال ( وجئتك من سبأ بخبر ) لا ختلَّ اللفظ والمعنى معاً؛ لأن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر ، أمّا النبا فلا تُقال إلا للخبر العجيب الهام الملفت للنظر ، كما في قوله تعالى : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 12 ] .
والجناس لا يكون جميلاً مؤثراً إلا إذا جاء طبيعياً غير مُتكلّف ، ومثال ذلك هذا الجناس الناقص في قوله تعالى : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] فقد ورد اللفظ المناسب مُعبِّراً عن المعنى المراد دون تكلّف ، فالهُمَزة هو الذي يعيب بالقول . واللمزة : الذي يعيب بالفعل ، فالقرآن لا يتصيَّد لفظاً ليُحدِث جناساً ، إنما يأتي الجناس فيه طبيعياً يقتضيه المعنى .
ومن ذلك في الحديث الشريف : " الخيْل معقود بنواصيها الخير " فبيْن الخيل والخير جناس ناقص ، مُحسِّناً للفظ ، مؤدّياً للمعنى .
وقد يأتي المحسِّن البديعي مُضطرباً مُتكلِّفاً ، يتصيده صاحبه ، كقول أحدهم ينحت الكلام نحتاً فيأتي بسجع ركيك : في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القِرَب ، فوقع رجل كان يحمل العنب .
ومعنى { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [ النمل : 22 ] الإحاطة : إدراك المعلوم من كل جوانبه ، ومنه البحر المحيط لاتساعه ، ويقول سبحانه : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } [ النساء : 126 ] ومنه : الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدِّده ، ومنه : يحتاط للأمر .
ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأنصاف الأقطار .
(1/6727)

لكن أَيُعَدُّ قول الهدهد لسليمان { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [ النمل : 22 ] نقصاً في سليمان عليه السلام؟ لا ، إنما يُعَدُّ تكريماً له؛ لأن ربه عز وجل سخَّر له مَنْ يخدمه ، وفَرْق بين أن تفعل أنت الشيء وبين أن يُفعل لك ، فحين يفعل لك ، فهذه زيادة سيادة ، وعُلًُو مكانة .
كما أن الله تعالى يُعلِّمنا ألاَّ نكتم مواهب التابعين ، وأن نعطي لهم الفرصة ، ونُفسِح لهم المجال ليُخرجوا مواهبهم ، وأن يقول كل منهم ما عنده حتى لو لم نكُنْ نعرفها؛ لأنها خدمة لي .
أليس من الكرامة أن يُحضر سليمان عرش بلقيس وهو في مكانه { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] .
ونلحظ أن الهدهد لم يُعرِّف سبأ ما هي ، وهذا دليل على أن سليمان عليه السلام يعرف سبأ ، وما فيها من ملك ، إنما لا يعرف أنه بهذه الفخامة وهذه العظمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ }
(1/6728)

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وقوله { تَمْلِكُهُمْ } [ النمل : 23 ] يعني : تحكمهم امرأة ، ورأينا نساءً كثيرات نابهات حكمْن الدول في وجود الرجال .
ثم يذكر من صفاتها { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْ } [ النمل : 23 ] وكأنها إشارة إلى ما سبق أنْ قاله سليمان عليه السلام { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] فهي كذلك أُوتيتْ من كل شيء بالنسبة لأقرانها ، وإلا فسليمان أُوتي من الملْك ومن النبوة ما لم تُؤْتهُ ملكة سبأ .
{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] العرش مكان جلوس الملك ، وكان العرش عادةً يتوافق مع عظمة الملك ، فمثلاً ( شيخ الغفر ) أو العمدة أو المحافظ . . إلخ لكل منهم كرسيٌّ يجلس عليه يناسب مكانته ، إذن : العرش هو جِلْسة المتمكّن الذي يتولّى تَدبير الأمور .
ووصْف العرش بأنه عظيم مع أن هذا الوصف لعرش الله تعالى ، فكيف؟ قالوا : عظيم بالنسبة لأمثالها من الملوك ، أمّا عرْش الله فعظيم بالنسبة لكل الخَلْق عظمةً مُطْلقة .
هكذا حدَّث الهدهُد سليمانَ فيما يخصُّ ملكة سبأ من حيث الملك الذي تشبه فيه سليمان كملك ، ثم يُحدِّثه بعد ذلك عن مسألة تتعلق بالنبوة والإيمان بالله ، وهذه المسألة التي غار عليها سليمان ، وثار من أجلها : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ }
(1/6729)

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
ذلك لأنه لما طاف حول قصر بلقيس وجد فيه كُوَّة تدخل منها الشمس ، كما نرى في معابد الفراعنة ، ففي أحد هذه المعابد طاقات بعدد أيام السنة ، بحيث تدخل الشمس في كل يوم من واحدة بعينها لا تدخل من الأخرى . وكذلك كان عند بلقيس مثل هذه الكُوَّة تدخل منها الشمس فتتنبه لها وتستقبلها .
لذلك لما ذهب إليها بكتاب سليمان وقف على هذه الكُوَّة وسدَّها بجناحه ، فلم تدخل الشمس في موعدها كما اعتادت الملكة ، فقامت حتى وصلتْ إلى هذه الكُوَّة فرمى عندها الكتاب .
فالهدهد إذن مؤمن عارف بقضية العقيدة والإيمان بالله يَغَار عليها ويستنكر مخالفتها { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } [ النمل : 24 ] فهو يعرف أن الله هو المعبود بحقٍّ ، بل ويعلم أيضاً قضية الشيطان ، وأنه سبب الانصراف عن عبادة الله .
{ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] فالقضية عنده كاملة بكل تفاصيلها ، ولا تتعجب من مقالة الهدهد واقرأ : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
إنها موعظة بليغة من واعظ مُتمكِّن يفهم عن الله ، ويعلم منهجه ويدعو إليه ، بل ويعزّ عليه ويحزّ في نفسه أن ينصرف العباد عن الله المنْعِم : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ }
(1/6730)

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{ أَلاَّ } [ النمل : 25 ] مكوَّنة من أنْ ، لا ، وعند إدغامهما تُقلَبُ النون لاَماً فتصير : ألاَّ ، فالمعنى : وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم ، لماذا؟ لألاَّ يسجدوا ، فهنا حرف جر محذوف كما تقول : عجبتُ من أن يَقْدم علينا فلان ، أو عجبت أن يقدم علينا فلان .
وفي قراءة أخرى : ( أَلاَ ) للحثِّ والحضِّ .
وقلنا : إنه اختار هذه الصفة بالذات { الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض } [ النمل : 25 ] لأنه خبير في هذه المسألة ، حيث يرى الماء في باطن الأرض ، كما يرى أحدكم الزيت في إنائه .
والمراد بالخبْء في السموات : المطر ، والخبْء في الأرض . النبات ، ومنهما تأتي مُقوِّمات الحياة ، فمن ماء المطر وخصوبة الأرض يأتي النبات ، وعلى النبات يتغذَّى الحيوان ، ويتغذّى الإنسان .
بل إن الحق سبحانه { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] ، كما قال في آية أخرى : { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء } [ إبراهيم : 38 ] ، وفي آية أخرى يقول سبحانه : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران : 29 ] .
(1/6731)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
لما تكلّم عن عرش بلقيس قال { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] يعني : بالنسبة لأمثالها من الملوك ولأهل زمانها . فإذا عُرِّف { العرش العظيم } [ النمل : 26 ] فإنه لا ينصرف إلا إلى عرشه تعالى ، فله العظمة المطلقة عند كل الخَلْق .
(1/6732)

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{ قَالَ سَنَنظُرُ } [ النمل : 27 ] والنظر محلُّه العين ، لكن هل يُعرف الصدق والكذب بالعين؟ لا ، فالكلمة انتقلت من النظر بالعين إلى العلم بالحجة ، فهي بمعنى نعلم ، ونقول : هذا الأمر فيه نظر يعني : يحتاج إلى دراسة وتمحيص .
وفي الآية مظهر من مظاهر أدب سليمان عليه السلام وتلطُّفه مع رعيته ، فهو السيد المطاع ، ومع ذلك يقول للهدهد : { أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } [ النمل : 27 ] والصِّدْق يقابله الكذب ، لكن سليمان عليه السلام يأبى عليه أدب النبوة أن يتهم أحد جنوده بالكذب فقال : { أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } [ النمل : 27 ] .
يعني : حتى لو وقع منك الكذب فلست فذَّاً فيه ، فكثير من الخَلْق يكذبون ، أو : من الكاذبين مَيْلاً لهم وقُرْباً منهم ، مما يدلُّ على أنه بإلهاماته كنبي يعرف أنه صادق ، إنما ما دام الأمر محلَّ نظر فلا بُدَّ أن نتأكد ، ولن أجامل جندياً من جنودي .
(1/6733)

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
هذا هو النظر الذي ارتآه سليمان ليتأكد من صِدْق الهدهد : أنْ يرسله بكتاب منه إلى هؤلاء القوم ، وهنا مظهر من مظاهر الإيجاز البليغ في القرآن الكريم ، فبعد أن قال سليمان { سَنَنظُرُ } [ النمل : 27 ] قال { اذهب بِّكِتَابِي هذا } [ النمل : 28 ] .
فهل كان الكتاب مُعَدَّاً وجاهزاً؟ لا ، إنما التقدير : قال سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين ، فكتب إليها كتاباً فيه كذا وكذا ثم قال للهدهد : { اذهب بِّكِتَابِي هذا } [ النمل : 28 ] وقد حُذِف هذا للعلم به من سياق القصة .
وقوله : { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } [ النمل : 28 ] يعني : ابتعِدْ قليلاً ، وحاول أنْ تعرف { مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ] يعني : يراجع بعضهم بعضاً ، ويتناقشون فيما في الكتاب ، ومن ذلك قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } [ طه : 89 ] .
والسياق يقتضي أن نقول : فذهب الهدهد بالكتاب ، وألقاه عند بلقيس فقرأتْه واستشارتْ فيه أتباعها وخاصتها ، ثم قالت : { قَالَتْ ياأيها الملأ }
(1/6734)

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
نلحظ هنا سرعة جواب الأمر { اذهب } [ النمل : 28 ] فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ : { قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] وهذا يدل على أن أوامر سليمان كانت محوطة بالتنفيذ العاجل؛ لذلك حذف السياق كل التفاصيل بين الأمر { اذهب } [ النمل : 28 ] والجواب { قَالَتْ } [ النمل : 29 ] هكذا على وجه السرعة .
ومعنى { الملأ } [ النمل : 29 ] هم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون والخاصة { إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] فوصفتْ الكتاب بأنه كريم إما لأنها سمعتْ عن سليمان عليه السلام وعظمة مُلْكه ، أو : لأن الكتاب سُطِّر على ورق رَاقٍ وبخط جميل ، وبعد ذلك هو ممهور بخاتمه الرسمي ، مما يدل على أنه كتاب هام ينبغي دراسته وأَخذْ الرأي فيه .
(1/6735)

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
إذن : فهي تعرف سليمان ، وتعرف نُبوّته وصفاته ، وأنه يكاتبهم باسْم الله ويَصْدُر في دعوتهم عن أوامر الله ، وكان مجمل الكتاب بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي }
(1/6736)

أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
إنها برقية موجزة في أبلغ ما يكون الإيجاز { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ } [ النمل : 31 ] العلو هنا بمعنى الغطرسة والزَّهو الذي يعتاده الملوك خاصة ، وهي مِثْله ، ملكة لها عَرْش عظيم ، وأُوتيتْ من كل شيء وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال ، هذا أمر يحتاج منها إلى نظر وإلى أَنَاةٍ .
لذلك بعد أن اخبرتْ مستشاريها بأمر الكتاب ، وما ورد فيه طلبتْ منهم الرأي والمشورة : { قَالَتْ ياأيها الملأ }
(1/6737)

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
سبق أن تكلمنا في معنى الفتوى ، وأنها من الفُتوة أي : القوة ، وهي مثل : غَنِيَ فلان أي : صار غنياً بذاته ، وأغناه غيره أمدَّه بالغنى ، كذلك أفتاه يعني : أعطاه قوة في الحكم والحجة .
وقالت : { في أَمْرِي } [ النمل : 32 ] مع أن الأمر خاصٌّ بالدولة كلها ، لا بها وحدها؛ لأنها رمز للدولة وللملْك ، وإنْ تعرض لها سليمان فسوف يُخدش مُلْكها أولاً ، ويُنال من هيبتها قبل رعيتها .
{ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ } [ النمل : 32 ] يعني : لا أَبُتُّ في أمر إلا في حضوركم ، وبعد استشارتكم . وهذا يدل على أنها كانت تأخذ بمبدأ الشورى رغم ما كان لها من الملْك والسيطرة والهيمنة .
فردّ عليها الملأ من قومها : { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ }
(1/6738)

قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
يعني : نحن أصحاب قوة في أجسامنا ، وأصحاب شجاعة وبأس أي جيوش فيها عَدَد وعُدة { والأمر إِلَيْكِ } [ النمل : 33 ] أي : إنْ رأيتِ الحرب ، فنحن علىأُهْبة الاستعداد ، فهم يعرضون عليها رأيهم دون أنْ يُلزموها به ، فهو رَأْي سياسي لا رأي حربي ، فهي صاحبة قرار الحرب إنْ أرادتْ { فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ } [ النمل : 33 ] يعني : نحن على استعداد للسِّلْم وللحرب ، وننتظر أمرك .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَتْ إِنَّ الملوك }
(1/6739)

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وتعرض بلقيس رأيها { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } [ النمل : 34 ] ، ذلك لأنهم يريدون مُلْكاً ، فينهبون كل ما يمرُّون به بل ويُخربون ويفسدون لماذا؟ لأنهم ساعةَ يصل الملِك المغير لا يضمن النصر؛ لذلك يُخرِّب كل شيء ، حتى إذا ما عرف أنه انتصر ، وأن الأمور قد استقرتْ له يحافظ على الأشياء ولا يُخربها .
{ وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } [ النمل : 34 ] لأن الملْك يقوم على أنقاض مُلْك قديم ، فيكون أصحاب العزة والسيادة هم أول مَنْ يُبدأ بهم؛ لأن الأمر أُخِذ من أيديهم ، وسوف يسعَوْن لاستعادته ، ولا بُدَّ أنْ يكون عندهم غَيْظ ولَدَد في الخصومة .
أما قوله تعالى : { وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] فللعلماء فيه كلام : قالوا إنه من كلام بلقيس ، وكأنه تذييل لكلامها السابق ، لكن ماذا يضيف { وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] بعد أن قالت { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } [ النمل : 34 ] .
فالرأي الصواب أن هذه العبارة من الحق سبحانه وتعالى ليُصدِّق على كلامها ، وأنها أصابت في رأيها ، فكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية ، مما يدل على أن الحق سبحانه رب الخلْق أجمعين ، إذا سمع من عبد من عبيده كلمة حق يؤيده فيها ، لا يتعصب ضده ، ولا يهضمه حقه .
(1/6740)

وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
بعد أنْ ترك لها المستشارون الأمر والتدبير أخذتْ تُعمِل عقلها ، وتستخدم فطنتها وخبرتها بحياة الملوك ، فقالت : إنْ كان سليمان مَلِكاً فسوف يطمع في خيرنا ، وإنْ كان نبياً فلن يهتم بشيء منه ، فقررتْ أنْ تُرسل له هدية تناسب مكانته كملك ومكانتها هي أيضاً ، لتثبت له أنها على جانب كبير من الثراء والغنى .
ولا بد أنها كانت ثمينة لتستميل الملك ، أو كما نقول ( تلوحه أو تلويه ) .
{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } [ النمل : 35 ] فإنْ كان ملكاً قَبِلها ، وعرفنا أن علاجه في بعض الخراج والأموال تُسَاق إليه كل عام ، وإنْ كان نبياً فلن يقبل منها شيئاً ، وهذا رَأْي جميل من بلقيس يدل على فِطْنتها وذكائها وحصافتها ، حيث جنَّبتْ قومها ويلات الحرب والمواجهة .
(1/6741)

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
أي : فلما جاء رسول بلقيس إلى سليمان بالهدية { قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } [ النمل : 36 ] فأيُّ هدية هذه ، وأنا أملك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي؟ { بَلْ } [ النمل : 36 ] يعني : اضرب عن الكلام السابق { أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] .
أضاف الهدية إليهم ، لا إليه هو ، والإضافة تأتي إما بمعنى اللام مثل : قلم زيد يعني لزيد ، أو : بمعنى من مثل : إردب قمح يعني : من قمح ، أو : بمعنى في مثل : مكر الليلَ يعني : في الليل .
فقوله { بِهَدِيَّتِكُمْ } [ النمل : 36 ] إما أن يكون المراد : هدية لكم . أي : فأنتم تفرحون إنْ جاءتكم هدية من أحد ، أو لأنني سأردُّها إليكم فتفرحوا بردِّها كمَنْ يقول ( بركة يا جامع ) أو : هدية منكم . أي : أنكم تفرحون إنْ أهديتم لي هدية فقبلتُها منكم .
فهذه معَانٍ ثلاثة لقوله : { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] .
(1/6742)

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
نذكر أن الملكة قالت { فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } [ النمل : 35 ] فكأنه يستشعر نصَّ ما قالت ، وينطق عن إشراقات النبوة فيه ، فيقول : { ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } [ النمل : 37 ] .
وهكذا دخلتْ المسألة في طَوْر المواجهة؛ لأن كلامنا كلامُ النبوة التي لا تقبل المساومة ، لا كلام الملك الذي يسعى لحطام الدنيا .
{ وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ النمل : 37 ] وكأنه يكشف لهم عن قَوْل ملكتهم : { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } [ النمل : 34 ] وهذه أيضاً من إشراقات النبوة .
ومعنى { لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } [ النمل : 37 ] تقول : لا قِبَل لي بكذا . يعني : لا أستطيع مقابلته ، وأنا أضعف من أنْ أقابله ، أَوْ لا طاقة لي به { وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً } [ النمل : 37 ] لأنه سيسلب مُلْكهم ، فبعد أنْ كانوا ملوكاً صاروا عبيداً ، ثم يزيد في حِدّته عليهم { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ النمل : 37 ] لأنهم قد يقبلون حالة العبودية وعيشة الرعية ، فزاد { وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ النمل : 37 ] لأن الصَّغَار لا يكون إلا بالقَتْل والأَسْر .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ ياأيها الملأ }
(1/6743)

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
الملأ : أشراف القوم وسادتهم وأصحاب الرأي فيهم { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 38 ] هنا أيضاً مظهر من إشراقات النبوة عند سليمان ، فهو يعلم ما سيحدث عندهم حينما تعود إليهم هديتهم ، وأنهم سيسارعون إلى الإسلام ، فردُّ الهدية يعني أننا أصحاب كلمة ورسالة ومبدأ ندافع عنه لا أصحاب مصلحة .
ولما علم أنهم سيأتون مسلمين طلب من جنوده أنْ يأتوه بعرشها ، وحدَّد زمن الإتيان بهذا العرش { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 38 ] .
إذن : لا بُدَّ من الذهاب إلى مملكة سبأ وفكِّ العرش ، وحَمْله إلى مملكة سليمان ، ثم إعادة تركيبه عنده ، وهذه مهمة بالطبع فوق قدرة البشر؛ لذلك لم يتكلم منهم أحد ، حتى الجن العادي لم يعرض على سليمان استعداده للقيام بهذه المهمة : { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن }
(1/6744)

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
والجن في القدرة والمهارة مثل الإنس ، منهم القوى الماهر ، ومنهم العَييّ الذي لا يجيد شيئاً . نقول ( لبخة ) وكلمة عفريت من تعفير التراب ، وكانوا حينما يتسابقون في العَدُو بالخيل أو غيرها ، فمَنْ يسبق منهم يُثير الغبار في وجه الآخر فيُعطلّه عن السَّبْق . فقالوا : عفريت يعني عفَّر من وراءه . أو : المعنى أنه يُعفِّر وجه مَنْ عارضه بالتراب فسُمِّي عفريتاً .
إذن : فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجنّ ، وصاحب القوة الخارقة فيهم ، وهو الذي تعرَّض لهذه المهمة ، وقال { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } [ النمل : 39 ] .
وهذا كلام مُجْمل؛ لأن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو للمدارسة سوف يستغرق وقتاً : ساعة أو ساعتين مثلاً ، وقد تعهَّد العفريت أنْ يأتي بالعرش في هذا الوقت يعني : لن يُؤخِّره إلى جلسة أخرى .
وقوله : { وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } [ النمل : 39 ] يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش وضخامته ، وأنه شيء نفيس يستحق الاعتناء به ، خاصة في عملية نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره وضخامته " فأنا عليه قوي " قادر على حَمْله ، ومن ناحية نفاسته وفخامته ، فأنا عليه أمين لن أُبدِّد منه شيئاً .
ثم تكلَّم آخر لم يُحدِّده القرآن إلا بالوصف : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ }
(1/6745)

قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
الطرف : الجِفْن الأعلى للعين .
تكلم العلماء في هذه الآية : أولاً : قالوا { الكتاب } [ النمل : 40 ] يُراد به اللوح المحفوظ ، يُعلم الله تعالى بعض خَلْقه أسراراً من اللوح المحفوظ ، أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا : هو آصف بن برخيا ، وكان رجلاً صالحاً أطلعه الله على أسرار الكون .
وقال آخرون : بل هو سليمان عليه السلام ، لما قال له العفريت { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } [ النمل : 39 ] قال هو : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] لأنه لو كان شخصاً آخر لكان له تفوُّق على سليمان في معرفة الكتاب .
لكن رَدُّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم ، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له ، كما أن المزايا لا تقتضي الأفضلية ، وليس شَرْطاً في المِلك أنْ يعرف كل شيء ، وإلا لَقُلْنا للمِلك : تَعَال أصلح لنا دورة المياه .
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام .
وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه ، وبين مَنْ يأتي به في طَرْفة عين ، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة .
والزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً : فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن ، فمثلاً حين تُكلِّف الطفل الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما ، فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في مكانه ، أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله ، وهذه المسألة نلاحظها في وسائل المواصلات ، ففرْق بين السفر بالسيارة ، والسفر بالطائرة ، والسفر بالصاروخ مثلاً .
وهذه تكلّمنا عنها في قصة " الإسراء والمعراج " فقد أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السرعة؛ لأن الله تعالى أَسْرى به ، ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق تصوُّر البشر .
وما دام الزمن يتناسب مع القوة ، فلا تنسب الحدث إلى رسول الله ، إنما إلى الله ، إلى قوة القوى التي لا تحتاج إلى زمن أصلاً ، فإنْ قلتَ : فلماذا استغرقتْ الرحلة ليلةَ وأخذت وقتاً؟ نقول : لأنه صلى الله عليه وسلم مرَّ بأشياء ، ورأى أشياء ، وقال ، وسأل ، وسمع ، فهو الذي شغل هذا الوقت ، أمّا الإسراء نفسه فلا زمنَ له .
لذلك قبل أن يخبرنا الحق تبارك وتعالى بهذه الحادثة العجيبة قال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] أي : نزِّهه عن مشابهة غيره ، كذلك مسألة نَقْل العرش في طرْفة عين لا بُدَّ أن مَنْ فعلها فعلها بعون من الله وبعلم أطلعه الله عليه ، فنقله بكُنْ التي لا تحتاج وقتاً ولا قوة ، وما دام الأمر بإرادة الله وقوته وإلهامه فلا نقول إلا : آمين .
(1/6746)

وفي قوله للجن : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] تحدٍّ لعفريت الجن ، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان ، فإنْ أراد الله منحني من القوة ما أتفوّق عليك به ، بل وأُسخِّرك بها لخدمتي .
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [ سبأ : 13 ] .
وليعلموا أنهم جهلاء ، ظلُّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم ، وهم مرعوبون خائفون منه .
والتحدي قد يكون بالعُلُوِّ ، وقد يكون بالدُّنُو ، كالذي قال لصاحبه : أنا دارس باريس دراسة دقيقة ، وأستطيع أنْ أركب معك السيارة وأقول لك : أين نحن منها ، وأمام أيّ محل ، وأنا مُغْمض العينين ، فقال الآخر : وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أُغمِض عَيْنيّ .
وقوله : { فَلَمَّا رَآهُ } [ النمل : 40 ] أي : العرش { مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي } [ النمل : 40 ] إما لأنه أقدره على الإتيان به بنفسه ، أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب ، فأتاه به ، فهذه أو ذلك فضل من الله .
{ ليبلوني } [ النمل : 40 ] يختبرني { أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [ النمل : 40 ] يعني : أشكر الله فأُوفَّق في هذا الاختبار؟ أم أكفر بنعمة الله فأخفق فيه؟ لأن الاختبار إنما يكون بنتيجته .
والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألاَّ يلهيه جمال النعمة عن جلال واهبها ومُسْديها ، فيقول مثلاً : إنما أوتيته على علم عندي .
وقوله : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [ النمل : 40 ] أي : أن الله تعالى لا يزيده شُكْرنا شيئاً ، فله سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد ، فمَنْ يشكر فإنما يعود عليه ، وهو ثمرة شُكْره .
{ وَمَن كَفَرَ } [ النمل : 40 ] يعني : جحد النعمة ولم يشكر المنعم { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } [ النمل : 40 ] أي : عن شكره { كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] أي يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة؛ لأن نعمه تعالى كثيرة لا تُعَدُّ ، وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه .
لذلك لما نتأمل قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وقد تكررت هذه العبارة بنصِّها في آيتين من كتاب الله ، مما جعل البعض يرى فيها تكراراً لا فائدة منه ، لكن لو نظرنا إلى عَجُز كل منهما لوجدناه مختلفاً .
فالأولى تُختتم بقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] و الأخرى : { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] .
إذن : فهما متكاملتان ، لكلٍّ منهما معناها الخاص ، فالأولى تبين ظلم الإنسان حين يكفر بنعمة الله عليه ويجحدها ، وتضيف الأخرى أن الله تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به .
كما نلحظ في الآية : { وَإِن تَعُدُّواْ } [ إبراهيم : 34 ] استخدم ( إنْ ) الدالة على الشك؛ لأن أحداً لا يجرؤ على عَدِّ نِعَم الله في الكون ، فهي فوق الحصر؛ لذلك لم يُقْدِم على هذه المسألة أحد ، مع أنهم بوسائلهم الحديثة أحصُوا كل شيء إلا نعم الله لم يتصَدَّ لأحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن تخصصت في الإحصاء .
وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها ، كما لم نجد مثلاً مَنْ تصدّى لإحصاء عدد الرمل في الصحراء . كما نقف عند قوله سبحانه : { نِعْمَتَ الله } [ إبراهيم : 34 ] ولم يقُلْ : نِعَم الله ، فالعجز عن الإحصاء أمام نعمة واحدة؛ لأن تحتها نِعَم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر .
ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يُجري لها اختبارَ عقلٍ ، واختبارَ إيمان : { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا }
(1/6747)

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
قوله : { نَكِّرُواْ } [ النمل : 41 ] ضده عرِّفوا؛ لأنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها في سبأ ، ولو رأتْه على حالته الأولى لقالتْ هو هو ، ولم يظهر له ذكاؤها؛ لذلك قال { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } [ النمل : 41 ] يعني : غيّروا بعض معالمه ، ومنه شخص متنكر حين يُغيِّر ملامحه وزيّه حتى لا يعرف مَنْ حوله .
{ نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 41 ] تهتدي إيماناً إلى الإسلام ، أو تهتدي عقلياً إلى الجواب في مسألة العرش .
(1/6748)

فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
جاء السؤال بهذه الصيغة { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } [ النمل : 42 ] ليُعمِّي عليها أمر العرش ، وليختبر دقة ملاحظتها ، فلو قال لها : أهذا عرشك؟ لكان إيحاءً لها بالجواب إنما { أَهَكَذَا عَرْشُكِ } [ النمل : 42 ] كأنه يقول : ليس هذا عرشك ، فلما نظرتْ إليه اجمالاً عرفتْ أنه عرشها ، فلما رأتْ ما فيه من تغيير وتنكير ظنتْ أنه غيره؛ لذلك اختارتْ جواباً دبلوماسياً يحتمل هذه وهذه ، فقالت { كَأَنَّهُ هُوَ } [ النمل : 42 ] وعندها فهم سليمان أنها على قَدْر كبير من الذكاء والفِطْنة وحصافة الرأي .
وكذلك كلام السَّاسَة والدبلوماسيين تجده كلاماً يصلح لكل الاحتمالات ولأيِّ واقع بعده ، فإذا جاء الأمر على خلاف ما قال لك يسبقك بالقول : ألم أَقُلْ لك كذا وكذا .
ومن ذلك ما قاله معاوية بن أبي سفيان للأحنف بن قيس : يا أحنف لماذا لا تسبّ علياً على المنبر كما يسبّه الناس؟ فقال الأحنف : اعفني يا أمير المؤمنين ، فقال معاوية : عزمتُ عليك إلاَّ فعلْتَ ، فقال : أما وقد عزمت عليَّ فسأصعد المنبر ، ولكني سأقول للناس : إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أنْ ألعنَ علياً ، فقولوا معي : لعنه الله . عندها قال معاوية : لا يا أحنفُ ، لا تقل شيئاً .
لماذا؟ لأن اللعن في هذه الحالة سيعود على مَنْ؟ على معاوية أو عَلَى عَلِيّ؟
وتُحكَي قصة الخيّاط الأعور الذي خاط لأحد الشعراء جُبَّة فجاءت وأَحَد الكُمَّيْن أطول من الآخر ، فلم يستطع لبسها ، فلما سألوه عن عدم لُبْس الجبة الجديدة أخبرهم بما حدث من الخياط فقالوا : أُهْجه ، فقال :
قُلْت شِعْراً لَيْس يُدْرَى ... أَمديحٌ أَمْ هِجَاءُ
خَاطَ لِي عَمْروا قُباء ... لَيْتَ عينيه سَوَاءُ
فالكلام يحتمل المعنيين : الدعاء له ، والدعاء عليه . هذا هو الرد الدبلوماسي الذي يهرب به صاحبه من المواجهة .
وكذلك قالتْ بلقيس جواباً دبلوماسياً { كَأَنَّهُ هُوَ } [ النمل : 42 ] أما { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } [ النمل : 42 ] فيحتمل أنْ يكون امتداداً لقوْل بلقيس ، يعني : أوتينا العلم من قبل هذه الحادثة ، وعرفنا أنك نبيّ لما رددتَ إلينا الهدية ، وقلت ما قلت ، فلم نكُنْ في حاجة إلى مثل هذه الحادثة لنعلم نُبوّتك .
ويُحتمل أنها من كلام سليمان عليه السلام .
(1/6749)

وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
المعنى : صدَّها ما فعل سليمان من أحداث ، وما أظهر لها من آيات ، صدَّها عن الكفر الذي أَلِفَتْه { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } [ النمل : 43 ] فصدَّها سليمان بما فعل عما كانت تعبد من دون الله .
(1/6750)

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
الصَّرْح : إما أن يكون القصر المشيد الفخم ، وإما أن يكون البهو الكبير الذي يجلس فيه الملوك مثل : إيوان كسرى مثلاً ، فلما دخلتْ { حَسِبَتْهُ لُجَّةً } [ النمل : 44 ] ظنَّته ماءً ، والإنسان إذا رأى أمامه ماءً أو بَلَلاً يرفع ثيابه بعملية آلية قَسْرية حتى لا يصيبه البَلَل؛ لذلك كشفتْ بلقيس عن ساقيها يعني : رفعتْ ذَيْل ثوبها .
وهنا نَبهها سليمان { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } [ النمل : 44 ] يعني : ادخلي لا تخافي بللاً ، فهذا ليس لُجةَ ماء ، إنما صَرْح ممرد من قوارير يعني : مبنيٌّ من الزجاج والبللور أو الكريستال ، بحيث يتموج الماء من تحته بما فيه من أسماك .
{ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ النمل : 44 ] بالكفر أولاً ، وبظنِّ السوء في سليمان ، وأنه يريد أنْ يُغرقني في لجة الماء { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } [ النمل : 44 ] ويبدو أنها لم تنطق بكلمة الإسلام صريحة إلا هذه المرة ، وأن القول السابق { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } [ النمل : 42 ] كان من كلام سليمان عليه السلام .
وقولها { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] مثل قول سَحَرة فرعون لما رأوا المعجزة : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] لأن الإيمان إنما يكون بالله والرسول دال على الله ، لذلك قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 44 ] ولم تقُلْ : أسلمتُ لسليمان ، نعم لقد دانتْ له ، واقتنعتْ بنبوته ، لكن كبرياء الملك فيها جعلها لا تخضع له ، وتعلن إسلامها لله مع سليمان؛ لأنه السبب في ذلك ، وكأنها تقول له : لا تظن أنِّي أسلمتُ لك ، إنما أسلمتُ معك ، إذن : أنا وأنت سواء ، لا يتعالى أحد منا على الآخر ، فكلانا عبد لله .
وقد دخل هذه القصة بعض الإسرائيليات ، منها أن سليمان عليه السلام جعل الصرح على هذه الصورة لتكشف بلقيس عن ساقيها؛ لأنه بلغه أنها مُشْعِرة الساقين ، وإلى غير هذا من الافتراءات التي لا تليق بمقام النبوة .
ثم يأتي بنا الحق سبحانه إلى نبي آخر في موكب الأنبياء : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ }
(1/6751)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
مرَّتْ بنا قصة نبي الله صالح عليه السلام مع قومه ثمود في سورة الشعراء ، وأُعيد ذكرها هنا؛ لأن القرآن يقصُّ على رسول الله من موكب الأنبياء ما يُثبِّت به فؤاده ، كلّما تعرض لأحداث تُزلزل الفؤاد ، يعطيه الله النَّجْم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمرُّ بها ، وهذا ليس تكراراً للأحداث ، إنما توزيع للقطات ، بحيث إذا تجمعتْ تكاملتْ في بناء القصة .
وقوله سبحانه { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } [ النمل : 45 ] لا بُدَّ أنه أرسل بشيء ما هو؟ { أَنِ اعبدوا الله } [ النمل : 45 ] لذلك سُمِّيت ( أنْ ) التفسيرية ، كما في قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ] ماذا؟ { أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] .
وقد يأتي التفسير بجملة ، كما في : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان } [ طه : 120 ] بأي شيء؟ { قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] .
فشرح الوسوسة وهي شيء عام بقوله : { قَالَ ياآدم } [ طه : 120 ] فرسالتنا إلى ثمود ملخصها ومؤداها { أَنِ اعبدوا الله } [ النمل : 45 ] .
والعبادة كما ذكرنا أن نطيع الله بفعل ما أمر ، وبترْك ما نهى عنه وزَجر ، أما ما لم يرِدْ فيه أمر ولا نَهْي فهو من المباحات إنْ شئتَ فعلتها ، وإنْ شئت تركتها ، وإذا ما استعرضنا حركة الأحياء والخلفاء في الأرض وجدنا 5% من حركتهم تدخّل فيها الشارع بافعل ولا تفعل ، أما الباقي فهو مُباح .
إذن : فالتكليف منُوط بأشياء يجب أنْ تفعلها؛ لأن فيها صلاحَ مجتمعك ، أو أشياء يجب أن تتركها؛ لأن فيها فساد مجتمعك .
فماذا كانت النتيجة؟
{ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } [ النمل : 45 ] .
والاختصام أنْ يقف فريق منهم ضد الآخر ، والمراد أن فريقاً منهم عبدوا الله وأطاعوا ، والفريق الآخر عارض وكفر بالله .
وقد وقف عند هذه الآية بعض الذين يحبون أنْ يتهجَّموا على الإسلام وعلى أسلوب القرآن ، وهم يفتقدون الملَكة العربية التي تساعدهم على فَهْم كلام الله ، وإنْ تعلَّموها فنفوسهم غير صافية لاستقبال كلام الله ، وفيهم خُبْث وسُوء نية .
واعتراضهم أن { فَرِيقَانِ } [ النمل : 45 ] مثنى و { يَخْتَصِمُونَ } [ النمل : 45 ] دالة على الجمع ، فلماذا لم يَقُل : يختصمان؟ وهذه لغة القرآن في مواضع عدة .
ومنها قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] .
والقياس يقتضي أن يقول : اقتتلتا . لكن حين نتدبَّر المعنى نجد أن الطائفة جماعة مقابل جماعة أخرى ، فإنْ حدث قتالٌ حمل كُلٌّ منهم السلاح ، لا أن تتقدم الطائفة بسيف واحد ، فهم في حال القتال جماعة .
لذلك قال ( اقتتلوا ) بصيغة الجمع ، أما في البداية وعند تقرير القتال فلكُلِّ طائفة منهما رأْي واحد يعبر عنه قائدها ، إذن : فهما في هذه الحالة مثنى .
(1/6752)

كما أن الطائفة وإنْ كانت مفردة لفظاً إلا أنها لا تُطلَق إلا على جماعة ، فيقف كل واحد من الجماعة بسيفه في مواجهة آخر من الطائفة الأخرى .
وهنا أيضاً { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ } [ النمل : 45 ] أي : مؤمنون وكافرون { يَخْتَصِمُونَ } [ النمل : 45 ] لأن كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الأخرى .
وفي موضع آخر ، شرح لنا الحق تبارك وتعالى هذه المسألة ، فقال سبحانه : { فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } [ الحج : 1922 ] .
أما الفريق الآخر : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد } [ الحج : 2324 ] .
فبيَّن لنا الحق سبحانه كل فريق منهما ، وبيَّن مصيره وجزاءه .
ونلحظ هنا { فَإِذَا } [ النمل : 45 ] يسمُّونها الفجائية ، ويُمثِّلون لها بقولهم : خرجتُ فإذا أَسَدٌ بالباب ، والمعنى : أنك فُوجِئْت بشيء لم تكُنْ تتوقعه ، كذلك حدث من الكافرين من قوم ثمود حين قال لهم نبيهم { أَنِ اعبدوا الله } [ النمل : 45 ] لكن يفاجئوننا بأنهم فريقان : مؤمنون وكافرون .
ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أنْ يستقبلوا هذا الأمر بالطاعة والتسليم ، ولا يختلفوا فيه هذا الاختلاف : فريق في الجنة وفريق في السعير { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 1314 ] .
وقالوا : إن الله تعالى لا يرسل الرسل إلا على فساد في المجتمع ، الخالق عز وجل خلق في الإنسان النفس اللوامة التي تردُّه إلى رُشْده وتنهاه ، والنفس المطمئنة التي اطمأنتْ بالإيمان ، وأَمنت الله على الحكم في افعل ولا تفعل ، والنفس الأمَّارة بالسوء ، وهَي التي لا تعرف معروفاً ، ولا تنكر مُنْكَراً ، ولا تدعو صاحبها إلا إلى السوء .
والله عزَّ وجلَّ رب ، ومن عادة الرب أنْ يتعهّد المربَّي ليؤدي غايته على الوجه الأكمل ، أرأيتم أباً يُربِّي أبناءه إلا لغاية؟ وما دام هو سبحانه ربي فلا يأمرني إلا لصالحي ، وصالح مجتمعي ، فلا شيء من طاعتنا يعود عليه بالنفع ولا شيء من معاصينا يعود عليه بالضرر؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله بصفات الكمال المطلق . إذن : كانت الفطرة السليمة تقتضي استقبال أوامر الله بالقبول والتسليم .
وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الإيمان . والكافرين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الكفر . لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر ، بل وعند لقاء الله تعالى في الجنة؛ لأنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الآخرة في غاية الجزاء ، كما يقول تعالى :
(1/6753)

{ الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] .
أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة ، ويلعن بعضهم بعضاً ، ويتبرَّأ بعضهم من بعض ، والقرآن حين يُصوِّر تخاصم أهل النار يقول بعد أنْ ذكر نعيم أهل الجنة :
{ هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد * هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } [ ص : 5564 ] .
إذن : فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر ، أما في الآخرة فبين الكافرين بعضهم البعض ، بين الذين أَضَلُّوا والذي أُضِلُّوا ، بين الذين اتَّبعُوا ، والذي اتُّبِعوا .
(1/6754)

قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
لما ذُكِرت قصة ثمود في الشعراء ، لم تذكر شيئاً عن استعجال السيئة ، فما هي السيئة التي استعجلوها وربهم عز وجل يلومهم عليها؟ هي قولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 70 ] .
وعجيب أمْر هؤلاء القوم ، ماذا يفعلون لو نزل بهم؟ قالوا معاً : حينما تأتينا السيئة نستغفر ونتوب يظنون أن الاستغفار والتوبة تُقبل منهم في هذا الوقت .
والحق تبارك وتعالى يقول : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 1718 ] .
فلماذا تستعجلون السيئة والعذاب ، وكان عليكم أن تستعجلوا الحسنة ، واستعجالكم السيئة يحول بينكم وبين الحسنة؛ لأنها لن تُقبل منكم { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ النمل : 46 ] .
(1/6755)

قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
اطيَّر : استعمل الطير ، وهذه عملية كانوا يلجئون إليها عند قضاء مصالحهم أو عند سفرهم مثلاً ، فكان الواحد منهم يُمسك بالطائر ثم يرسله ، فإنْ طار ناحية اليمين تفاءل وأقبل على العمل ، وإنْ طار ناحية الشمال تشاءم ، وامتنع عما هو قادم عليه ، يُسمُّونها السانحات والبارحات . فالمعنى : تشاءمنا منك ، وممَّنْ اتبعك .
{ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } [ النمل : 47 ] يعني : قضاء مقضيٌّ عليكم ، وليس للطير دَخْل في أقداركم ، وما يجري عليكم من أحكام ، فيكف تأخذون من حركته مُنطلقاً لحركتكم؟ إنما طائركم وما يُقدَّر لكم من عند الله قضاء يقضيه .
وفي آية يس : { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] يعني تشاؤمكم هو كفركم الذي تمسكتم به .
لكن ، لماذا جاء التشاؤم هنا ، ونبيهم يدعوهم إلى الله؟ قالوا : لأنه بمجرد أنْ جاءهم عارضوه ، فأصابهم قحْط شديد ، وضنَّتْ عليهم السماء بالمطر فقالوا : هو الذي جَرَّ علينا القَحْط والخراب .
وقوله : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] الفتنة : إما بمعنى الاختبار والابتلاء ، وإما بمعنى فتنة الذهب في النار .
(1/6756)

وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
وهذه المسألة أيضاً لقطة جديدة من القصة لم تُذكَر في الشعراء ، وهكذا كل القَصَص القرآني لو تدبَّره الإنسان لوجده لقطاتٍ متفرقة ، كلٌّ منها يضيف جديداً ، ويعالج أمراً يناسب النجْم القرآني الذي نزل فيه لتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والرَّهْط : اسم جمع ، لا واحدَ له من لفظه ، ويدل على العدد من الثلاثة إلى العشرة ، فمعنى { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل : 48 ] كأنهم كانوا قبائل أو أسراً أو فصائل ، قبيلة فلان وقبيلة فلان . . إلخ .
{ يُفْسِدُونَ فِي الأرض } [ النمل : 48 ] فلماذا قال بعدها : { وَلاَ يُصْلِحُونَ } [ النمل : 48 ] ؟ قالوا : لأن الإنسان قد يُفسد في شيء ، ويُصلح في آخر ، كالذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وهؤلاء عسى الله أنْ يتوبَ عليهم .
أما هؤلاء القوم ، فكانوا أهل فساد مَحْض لا يعرفون الصلاح ، فإنْ رأوْه عمدوا إليه فأفسدوه ، فكأنهم مُصِرُّون على الإفساد ، وللإفساد قوم ينتفعون به ، لذلك يدافعون عنه ويعارضون في سبيله أهل الإصلاح والخير؛ لأنهم يُعطِّلون عليهم هذه المنفعة .
وقلنا : إن صاحب الدين والخلق والمبادىء في أيِّ مصلحة تراه مكروهاً من هذه الفئة التي تنتفع من الفساد ، يهاجمونه ويتتبعونه بالهَمْز واللمز ، يقولون : حنبلي ، وربما يهزأون به . . إلخ؛ لذلك لم يقف في وجه الرسل إلا هذه الطائفة المنتفعة بالفساد .
(1/6757)

قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{ قَالُواْ } [ النمل : 49 ] أي : الرهط { تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 49 ] انظر إلى هذه البجاحة وقلة العقل وتفاهة التفكير : إنهم يتعاهدون ويُقسمون بالله أنْ يقتلوا رسول الله ، وهذا دليل غبائهم ، وكأن الحق تبارك وتعالى يجعل لهم منافذ يظهر منها حُمْقهم وقِلّة عقولهم .
ومعنى { لَنُبَيِّتَنَّهُ } [ النمل : 49 ] نُبيِّته : نجعله ينام بالليل ، والبيتوتة أن ينقطع الإنسان عن الحركة حالَ نومه ، ثم يعاود الحركة بالاستيقاظ في الصباح ، لكن هؤلاء يريدون أنْ يُبيِّتوه بيتوتة لا قيامَ منها . والمعنى : نقلته .
فإذا ما جاء أولياء الدم يطالبوننا بدمه { لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } [ النمل : 49 ] أي : وليّ الدم من عُصْبته ورحمه { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ النمل : 49 ] أي : ما شهدنا مقتل أهله ، فمن باب أَوْلَى ما شهدنا مقْتله ، ولا نعرف عنه شيئاً .
هذا ما دبره القوم لنبي الله صالح عليه السلام يظنون أن الله يُسْلِم رسوله ، أو يُمكِّنهم من قتله ، فحاكوا هذه المؤامرة ولم يفتهم تجهيز الدفاع عن أنفسهم حين المساءلة ، هذا مكرهم وتدبيرهم .
(1/6758)

وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
معنى { وَمَكَرُواْ مَكْراً } [ النمل : 50 ] أي : ما دبّروه لقتل نبي الله ورسوله إليهم { وَمَكَرْنَا مَكْراً } [ النمل : 50 ] وفَرْق بين مكر الله عز وجل { والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] وبين مكْر الكافرين { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] .
إذن : حين تمكر بخير ، فلا يُعَدُّ مكْراً ، إنما إبطال لمكْر العدو ، فلا يجوز لك أنْ تتركه يُدبِّر لك ويمكُر بك ، وأنت لا تتحرك؛ لذلك قال تعالى { والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] لأنهم يمكرون بشرٍّ ، ونحن نمكر لدفع هذا الشر لِنُصْرة رسولنا ، ونجاته من تدبيركم .
والمكْر : مأخوذ من قولهم : شجرة ممكورة ، وهذا في الشجر رفيع السَّاق المتسلق حين تلتفُّ سيقانه وأغصانه ، بعضها على بعض ، فلا تستطيع أن تُميِّزها من بعضها ، فكُلٌّ منها ممكور في الآخر مستتر فيه ، وكذلك المكر أن تصنع شيئاً تداريه عن الخصم .
وقوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 50 ] أي : أنه مكْر محبوك ومحكم ، بحيث لا يدري به الممكور به ، وإلا لا يكون مَكْراً .
وحين نتأمل : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] و { والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] نعلم أن المكر لا يُمدح ولا يُذَمُّ لذاته ، إنما بالغاية من ورائه ، كما في قوله تعالى عن الظن : { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن } [ الحجرات : 12 ] فالظن منه الخيِّر ومنه السيىء .
ونسمع الآن تعبيراً جديداً يعبر عما يدور في المجتمع من انتشار المكر وسوء الظن ، يقولون : الصراحة مكر القرن العشرين ، فالذي يمكر بالناس يظن أنهم جميعاً ماكرون فلا يصدق كلامهم ، ويحتاط له حتى إنْ كان صدقاً ، فأصبح المكر وسوء الظن هو القاعدة ، فإنْ صارحتَ الماكر لا يُصدقك ويقول في نفسه : إنه يُعمى عليَّ أو يُضلِّلني .
(1/6759)

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
أي : تأمل ما حاق بهم لما مكروا بنبي الله ، واتفقوا على التبييت له وقَتْله ، يُرْوى أنهم لما دخلوا عليه أُلْقي على كل واحد منهم حجر لا يدري من أين أتاه ، فهلكوا جميعاً ، فقد سخَّر الله له ملائكة تولَّتْ حمايته والدفاع عنه .
أو : أن الله تعالى صنع له حيلة خرج بها وذهب إلى حضرموت ، وهناك مات عليه السلام ، فَسُمِّيت حضرموت . وآخرون قالوا : بل ذهبوا ينتظرونه في سفح جبل ، واستتروا خلف صخرة ليُوقِعوا به فسقطت عليهم الصخرة فماتوا جميعاً .
المهم ، أن الله دمرهم بأيِّ وسيلة من هذه { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] لقد أرادوا أنْ يقتلوه وأهلَه ، فأهلكهم الله .
(1/6760)

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] دليل على أن الله أهلكهم فلم يُبْقِ منهم أحداً ، وتُركَتْ بيوتهم خاوية بسبب ظلمهم { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً } [ النمل : 52 ] عبرة وعظة { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 52 ] .
وفي مقابل إهلاك الكافرين : { وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ }
(1/6761)

وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
فمن آمن واتقى من قوم صالح نجّاه الله عز وجل من العذاب الذي نزل بقومهم قوم ثمود .
انتهى الكلام هنا عن قصة ثمود ، وحين نقارن الأحداث هنا بما ورد في سورة الشعراء نجد أحداثاً جديدة لم تُذكَر هناك ، كما لم يذكر هنا شيئاً عن قصة الناقة التي وردتْ هناك ، مما يدلُّ على تكامل لقطات القصة في السور المختلفة .
ثم يقصُّ علينا طرفاً من قصة نبي آخر ، وهو لوط عليه السلام : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ }
(1/6762)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
( لُوطاً ) جاءت منصوبة على أنها مفعول به ، والتقدير : أرسلنا لوطاً ، كما قال سبحانه : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله } [ النمل : 45 ] .
وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [ النمل : 54 ] فذكر الداء الذي استشرى فيهم . وفي سورة الشعراء قال سبحانه { أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } [ الأعراف : 80 ] وهنا قال : { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [ النمل : 54 ] أي : تتعالمون بها وتتجاهرون بها ، فدلَّ على أنهم أجعوا عليها وارتضوْهَا ، وأنه لم يَعُدْ عندهم حياء من ممارستها .
أو : يكون المعنى : وأنتم تبصرون ما حَلَّ بأصحاب الفساد قبلكم من أقضية الله عليهم .
(1/6763)

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
هذا بيان وتفصيل للداء وللفاحشة التي انتشرت بينهم ، ومعنى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] الآية في ظاهرها أنها تتعارض مع { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [ النمل : 54 ] لكن المعنى { تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] الجهل هنا ليس هو ضد العلم ، إنما الجهل بمعنى السَّفه .
والبعض يظن أن الجهل أَلاَّ تعلم ، لا إنما الأمية هي الاَّ تعلم ، أمَّا الجهل فأنْ تعلم قضية مخالفة للواقع؛ لذلك الأميُّ أسهل في الإقناع؛ لأنه خالي الذِّهْن ، أمّا الجاهل فلديه قضية خاطئة ، فيستدعي الأمر أن تنزع منه قضية الباطل ، ثم تُدخِل قضية الحق ، فالجهل إذن أشقُّ على الدعاة من الأمية .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ }
(1/6764)

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
عجيبٌ أمر هؤلاء ، فعِلَّة الإخراج عندهم وحيثيته { إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] سبحان الله ، ومتى كان الطُّهْر ذنباً وجريمة تستوجب أنْ يخرج صاحبها من بلدة؟ إنها نغمة نسمعها دائماً من أهل الباطل في كل زمان ومكان حينما يهاجمون أهل الحق ، ويَسْعَوْن لإبعادهم من الساحة لتخلو لباطلهم .
ومن عَدْل الله تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخُبْث طباعهم ، فكلمة { يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] التي نطقوا بها تعني : أنهم أنفسهم أنجاسٌ تزعجهم الطهارة ، وما أحلَّ الله من الطيبات ، وكأن الله تعالى يجعل في كلامهم منافذ لإدانتهم ، وليحكموا بها على أنفسهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته }
(1/6765)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
أي : من المُهْلَكين مع قومها ، فقد كانت تدل قومها على ضيفان لوط؛ ليأتوا إليهم ليفعلوا معهم الفاحشة ، لذلك أصابها من العذاب مثلما أصاب قومها .
(1/6766)

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
أي : قَبُح هذا المطر ، وإنْ أبهم المطر هنا فقد وضَّحه الحق تبارك وتعالى في آيات أخرى فقال : من طين ، ومن سِجِّيل ، وهو الطين إذا حُرِق ، فصار فخَّاراً ، وهذه الحجارة منظمة مُسوَّمة صنعها الله لهم بحساب دقيق ، فلكُلِّ واحد منهم حَجَره المسمَّى باسمه ، والذي لا يُخطِئه إلى غيره .
(1/6767)

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
نعرف أن الله تعالى يُحمد على النعمة ، لكن هناك { الحمد لِلَّهِ } [ النمل : 59 ] جاءت بعد نقمة وعذاب وأَخْذ للمكذِّبين . قالوا : الخطاب هنا مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه إشارة إلى أن جُنْد الله هم الغالبون ، وأن العاقبة لهم ليطمئن رسول الله ، كما أن تطهير الكون من المفسدين فيه ، وحين تستريح منهم البلاد والعباد ، هذه نعمة تستوجب { الحمد لِلَّهِ } [ النمل : 59 ] .
وفي أهلاك الكافرين والمكذِّبين عبرة ودرسٌ لغيرهم ، حتى لا يتورطوا في أسباب الهلاك ، وهذه نعمة أخرى تستحق الحمد .
لذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نحمده إنْ رأينا خيراً نزل بالأخيار ، أو شراً حَلَّ بالأشرار . فالمعنى { قُلِ الحمد لِلَّهِ } [ النمل : 59 ] أن الرسل انتصروا وغلبوا ، وأن المفسدين انهزموا واندحروا .
ألاَ ترى قَوْلَ أهل الجنة : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ * وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 7374 ] .
كذلك حين نرى الشرير الذي شاع شرُّه وكثُرَ فساده حين ينزل به ما يستحق من عقاب الله نقول جميعاً ساعةَ نسمع خبره : الحمد لله ، هكذا بعملية لا شعورية عند الجميع أنْ تلهج ألسنتُهم بالحمد عند نزول النعمة على أصحابها ، والنقمة على مَنْ يستحقها .
ويقول تعالى عن أهل الشر والفساد : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الأنعام : 4245 ] .
فبعد أنْ قطع الله دابر الظالمين قال : الحمد لله رب العالمين ، ونلحظ هنا الفرق بين فتح لك ، وفتح عليك؛ فتح لك يعني : فتح في صالحك ، ومنه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] .
أما فتح عليهم يعني : بالسوء نكايةَ فيهم ، فمعنى { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 44 ] .
أعطاهم الخير ليهلكهم به ، وهم في حال نعمة ومكانة ، حتى إذا أخذهم الله كان أَخْذه أليماً شديداً .
وفي قصة نوح عليه السلام : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } [ المؤمنين : 28 ] .
فحَمْد الله هنا على أمرين : الحمد لله لأنه أغرق الكافرين الظالمين وخلًّصنا منهم ، والحمد لله لأنه نجَّى المؤمنين .
ثم يقول سبحانه : { وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] وهم المؤمنون الذين نصرهم الله ، وجعل العاقبة لهم ، والسلام عليهم بعدها لاقوه من عَنَتِ الكفار وعنادهم ، فالحمد لله الذي أهلك المفسدين ، وأتى بالسلام على المهتدين .
(1/6768)

ثم يطرح الحق سبحانه قضية ، ويأتي بها في صورة سؤال واستفهام؛ لتكون أبلغ في النفس من مجرد الإخبار بها : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] .
ولو أن الآية قالت : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى لأن الله خير وما يشركون به شرٌّ لكان الكلامُ خبراً ، والخبر في ذاته وبصرف النظر عن قائله يحتمل الصدق أو الكذب .
أمَّا حين تُعرض هذه القضية في صورة الاستفهام ، فقد جعلتَ مخاطبك هو الذي ينطق بها ، كما لو أنكر أحد الأصدقاء جميلَك وأياديك عليه ، فبدل أن تخبر أنت : فعلتُ لك كذا وكذا تدَعْه هو الذي يُخبر فتقول : ألم أفعل لك كذا وكذا؟ ولا يقول هذا إلا واثقٌ ومعتقدٌ أن الإجابة ستكون في صالحه .
فالمعنى : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 59 ] قولوا لنا أنتم ونحن نرتضي حكمكم بعدما رأيتُم وسمعتم من هذه القصة : آالله خير أم الذين أشركوا به خير؟ ولا بد أن تأتي الإجابة : الله خير؛ لذلك لما نزلت هذه الآية انفعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرع بالجواب : " بل الله خير وأبقى وأجلُّ وأكرم " .
مما يدل على أن الانفعال بالقرآن واجب ونقصد الانفعال بمعانيه ، لا الانفعال بالصوت والنغمات كالذي نسمعه من هؤلاء ( الذكِّيرة ) الذي يُشجِّعون المقرئين بالصياح والضجيج الذي لا يتناسب وجلال الآيات ، وهم مع ذلك لا يفهمون المعاني ولا يتأثرون بها ، لدرجة أن منهم مَنْ يسمع آيات العذاب فيقول بأعلى صوته : اللهم زِدْنا .
وقد كان الكتبة من الصحابة ينفعلون بالآيات معنىً ، حتى إن أحدهم ليكمل الآية ويختمها بما يناسبها قبل أن تُملَي عليه ، لماذا؟ لأنهم فهموا عن الله وتأثروا بالمعنى ، مما يدل على أن القرآن جاء موافقاً للفطرة السليمة ، ومن هذا التوافق قول أحد الصحابة { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنين : 14 ] فنزل بها القرآن كما قالها .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سورة الرحمن " لقد قرأتُ سورة الرحمن على إخوانكم الجن ، فكانوا أحسن استجابة منكم ، فكانوا كلما قلت { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] .
قالوا : لا بشيء من نعمائك ربنا نكذب فلكَ الحمد " .
إذن : حين نسمع كلام الله علينا أن ننفعل به ، وأنْ نتجاوبَ معه تجاوباً واعياً ، فعند آية التسبيح نُسبِّح ، وعند آية الحمد نحمد الله ، وعند آية الدعاء نقول : آمين ، هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن والتجاوب معه ، لا أنْ نسمعه أو نهذه كهذ الشِّعْر .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض }
(1/6769)

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{ أَمَّنْ } [ النمل : 60 ] هذا استفهام آخر ، وكأن الحق تبارك وتعالى بعد أن كتب الهزيمة على الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أنْ يُربِّب في النفس الإيمان بالله ، وأن تأخذ من نصر الله تعالى للمؤمنين خميرة إيمانية ، ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على استعداد للتصدي لأعداء الدعوة والمناهضين لها .
يقول سبحانه :
{ أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإله مَّعَ الله } [ النمل : 60 ] .
إذن : المسألة لا تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنين على الكافرين ، فهناك في خلق الله ما هو أعظم من ذلك ، فلو سألتَهم : مَنْ خلق السموات والأرض يقولون : الله ولئن سألتهم : مَنْ خلقهم يقولون : الله ، فهذه مسائل لا يستطيعون إنكارها ، فكأن الحق تبارك وتعالى يقول لهم : آلله خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء . . أم ما تشركون؟
وما دام أن الله تعالى ادَّعى مسألة الخَلْق لنفسه سبحانه ، ولم يَقُمْ لهذه الدعوى منازع ، فقد ثبتتْ له سبحانه إلى أنْ يدَّعيها غيره { أإله مَّعَ الله } [ النمل : 60 ] فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق فأين هو : إما أنه لم يَدْر بهذه الدعوى ، أو دَرَى بها وجَبُن عن المواجهة ، وفي كلتا الحالتين لا يصلح إلهاً ، وإلا فليأت هو الآخر بخَلْق ومعجزات أعظم مما رأينا .
فإذا قال الله تعالى أنا الله ، ولا إله غيري ، والخَلْق كله بسمائه وأرضه صنعتي ، ولم يوجد معارض ، فقد ثبتت له القضية؛ لذلك يقول سبحانه : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] .
فقضية الوحداينة شهد الله أولاً بها لنفسه ، ثم شهد بها الملائكة أولو العلم من الخَلْق .
ويقول سبحانه في تأكيد هذا المعنى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] .
أي : لاجتمع هؤلاء الآلهة ، وثاروا على الإله الذي أخذ منهم مُلْكهم ، وادعاه لنفسه ، أو لذهبوا إليه ليتقرَّبوا منه ويتودّدوا إليه .
وقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً } [ النمل : 60 ] السماء : كلُّ ما علاك فأظلَّك ، والماء معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علانا ، أو أن الإنزال يعني إرادة الكون ، وإرادة الكون في كل كائن تكون من السماء ، ألاَ ترى قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] .
وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] ومعلوم أن الحديد يأتي من الأرض ، لكن إرادة كونه تأتي من السماء .
ثم يقول سبحانه : { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } [ النمل : 60 ] للماء فوائد كثيرة في حياتنا ، بل هو قِوَام الحياة؛ لذلك اقتصرتْ الآية على ذكْر الحدائق؛ لأنها قوام حياة الإنسان في الأكل والشرب .
(1/6770)

فإنْ قُلْتَ : نحن نعتبر الآن الحدائق الجميلة من باب الكماليات ، وليس بها مُقوِّمات حياتنا . نقول : نعم هي كذلك الآن ، لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور : حديقة ، أو حائط .
وقال { ذَاتَ بَهْجَةٍ } [ النمل : 60 ] مع أنك لو نظرتَ إلى القمح مثلاً وهو عَصَب القوت لوجدته أقل جمالاً من الورد والياسمين والفُل مثلاً ، وكأن ربك عز وجل يقول لك : لقد تكفلتُ لك بالكماليات وبالجماليات ، فمن باب أَوْلَى أوفر لك الضروريات .
والحق تبارك وتعالى يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم ، واقرأ مثلاً قوله تعالى : { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } [ الأنعام : 99 ] يعني : قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع ، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع الله .
أَلاَ ترى أن الله تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها ، ولم يُبح لك الأكل إلاّ مما تملك؟ لذلك قال : { انظروا إلى ثَمَرِهِ } [ الأنعام : 99 ] فإنْ لم تكونوا تملكونه ، فكفاكم التمتُّع بالنظر إليه .
ومن هذا الارتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أنْ حدَّثنا عن الضروريات في الأنعام : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ النحل : 6 ] .
وقال : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] .
فأعطانا ربنا عز وجل ضروريات الحياة ، وأعطانا كمالياتها وجمالياتها . وتأمل دقة الأسلوب في { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض } [ النمل : 60 ] فالضمير في { خَلَقَ } ضمير الغائب ( هو ) يعود على الله عز وجل ، وكذلك في ( وَأَنزَلَ ) أما في ( فَأَنْبَتْنَا ) فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ( نحن ) الدال على التعظيم ، فلماذا؟
قالوا : لأن نِعَم الله فيها أشياء لا دخْل للإنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر ، ومثل هذه المسائل لا شبهةَ لا شتراك الإنسان فيها ، وهناك أشياء للإنسان دَخْلٌ فيها كالزرع والإنبات ، فهو الذي يحرث ويزرع ويسقي . . الخ مما يُوحِي بأن الإنسان هو الذي يُنبت النبات ، فأراد سبحانه أنْ يُزيل هذا التوهم ، فنسب الإنبات صراحة إليه عز وجل ليزيل هذه الشبهة .
وربك سبحانه وتعالى يحترم فعْلَك ، ويذكر لك سَعْيك ، فيقول : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 6364 ] نعم لك عمل وسعي في هذه المسألة ، لكنك استخدمتَ الأرض المخلوقة لله ، وآلة الحديد المخلوقة لله ، والبذور المخلوقة لله ، والماء المخلوق لله ، أما مسألة الإنبات نفسها فلا دَخْلَ لك بها ، فلا تَقُلْ زرعت؛ لأننها نحن الزارعون حقيقة ، لكن قُلْ : حرثتُ وسقيتُ .
لذلك تجد الرد في آخر الآية نافياً لأيِّ شبهة في أن لك دَخْلاً في مسألة الزرع : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] وأكّد الفعل بلام التوكيد لينفي هذه الشبهة .
على خلاف الكلام عن الماء ، حيث لا شبهة لك فيه ، فيأتي نفس الفعل ، لكن بدون لام التوكيد :
(1/6771)

{ أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [ الواقعة : 6870 ] .
ومعنى : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] العدل معلوم أنه صفة مدح فساعةَ تسمع { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] قد تظن أنها صفة طيبة فيهم ، لكن لا بُدَّ في مثل هذا اللفظ من تدقيق؛ لأنه يحمل معاني كثيرة . نقول : عدلَ في كذا يعني : أنصف ، وعدل إلى كذا يعني : مال إليه ، وعدل عن كذا : يعني : تركه وانصرف عنه ، وعدل بكذا ، يعني : سوَّى .
فالمعنى هنا { يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] عنه ، ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب ، إنما يعدلون عنه إلى غيره ، ويسوّون به غيره ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
أي : يسوُّونه سبحانه بغيره .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمَّن جَعَلَ الأرض }
(1/6772)

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
لما تكلم الحق سبحانه في الآية السابقة عن السموات والأرض أتى بأشياء مشتركة بينهما ، فالسماء ينزل منها الماء ، والأرض تستقبل الماء ، وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة .
أما في هذه الآية ، فالكلام عن الأرض ، لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الأرض ، { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً } [ النمل : 61 ] معنى : قراراً أي استقراراً ، حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة تصلح لأنْ يستقرَّ عليها الإنسان .
{ وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [ النمل : 61 ] الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة ، أما ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط ، ومن الماء المطر ما ينساب في مَجَارٍ تُسمَّى الأنهار .
وتستطيع أنْ تُفرِّق بين النهر والقناة الصناعية ، فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال ، ومن أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الأرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقَّ مجراه فيه فتراه ملتوياً متعرجاً ، يدور حول الجبال أو الصخور ليشقَّ مجراه .
أما القناة الصناعية ، فتراها على هيئة الاستقامة ، إلا إذا اعترض طريق حفرها مثلاً أحد أصحاب النفوذ ، فيحملهم على تعيير المسار والانحراف به ليتفادى المرور بأرضه .
وتستطيع أنْ تلاحظ هذه الظاهرة إذا تبولْتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول ، فتراه يسير متعرجاً حسب طبيعة الأرض التي يمرُّ بها .
{ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } [ النمل : 61 ] الرواسي : هي الجبال الثابتة الراسية ، وفي موضع آخر بيَّن سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] .
فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الأرض حتى لا تضطرب ، ولو أنها خُلِقَتْ على هيئة الثبات والاستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال ، إذن : هي مخلوقة على هيئة الحركة ، ولا بُدَّ لها من مُثقِّلات .
ولا تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الأرض ، إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى : { والجبال أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 3233 ] .
فكيف تكون الجبال متاعاً للإنسان وللحيوان؟
نعم ، هي متاع؛ لأنها مخزن مياه ، حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال ، إما في الأنهار ، وإما في الشلالات ، وخلف السدود بين الوديان ، أو في العيون والآبار مما امتصته الأرض .
وكما أن الجبال هي مخازن للمياه ، هي أيضاً مخازن للخصوبة التي تمدُّ الأرض الزراعية عاماً بعد عام بقدر ، بحيث تستمر خصوبة الأرض ، وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتِّت الطبقة العليا من الصخور ، فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر ، وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من خصوبتها .
ولولا صلابة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات ، ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد ذلك ، فهذه الظاهرة من علامات رحمة الله بخَلْقه؛ لأنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة .
(1/6773)

وسبق أنْ قُلْنا : إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مُثلث قاعدته إلى أسفل ، وقمته إلى أعلى ، أما الوديان فعلى عكس الجبال ، فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل ، وهكذا نرى أن كل زيادة من طَمْى الجبل والغِرْين الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي ، فتزداد الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان .
لذلك يقول تعالى عن الجبال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [ فصلت : 910 ] .
فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب ، ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه ، كيف تكوَّن من الطمي الذي حملتْه المياه من أعالي الجبال في إفريقيا ، ليُكَوِّن هذه المنطقة الخِصْبة في مصر .
ثم يقول سبحانه : { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً } [ النمل : 61 ] .
البحرين : أي العَذْب والمالح لأن الماء : منه العَذْب ، ومنه المالح ، ومن قدرته تعالى وحكمته أنْ يحجز بينهما ، وإنْ كان الماء المالح هو مصدر الماء العَذْب ، لذلك جعل الله تعالى مساحة السطح للماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، وكلما اتسع سطح الماء اتسع البَخْر الذي يكوِّن السحاب ، بحيث يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الأرض .
وما أجملَ قول الشاعر المادح :
أهدى لمجلسه الكريم وإنَّما ... أهدى لَهُ مَا حُزْتَ مَن نَعْمائِهِ
كَالبَحْرِ يُمطِرهُ السَّحابُ ومَا لَه ... فَضْلٌ عليْه لأنَّه مِنْ مَائِهِ
ولكي تعلم فضل الله علينا في إنزال المطر وتوفير الماء العَذْب ، انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتميترات من الماء ، في حين أنك لا تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلاد والعباد في كل أنحاء الدنيا .
وقد مثَّلنْا لمسألة اتساع رقعة البَحْر بكوب الماء إذا أرقْتَه على الأرض ، فإنه يجفُّ في عدة دقائق ، أمّا لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام ، فإنه لا ينقص منه إلا القليل .
ومن الماء العَذْب ما سلكه الله تعالى ينابيع في الأرض ليخرجه الإنسان إذا أعوزه الماء على السطح ، أو سلكه ينابيع في الأرض بمعنى أن يسير العَذْب بجوار المالح ، لا يختلط أحدهما بالآخر مع ما عُرِف عن الماء من خاصية الاستطراق .
وهذه من عجائب قدرة الله الخالق ، فمِنْ قَعْر البحر المالح تخرج عيون الماء العَذْب؛ لأن لكل منهما طريقاً ومسلكاً وشعيرات يسير فيها بحيث لا يبغي أحدهما على الآخر ، كما قال تعالى :
{ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 1920 ] .
وكما أن الماء العَذْب يتسرب إلى باطن الأرض ليكوِّن الآبار والعيون ، فكذلك الماء المالح يتسرب في باطن الأرض ليكوِّن من تفاعلاته الأحجار الكريمة ، كالمرمر ، والمعادن كالحديد والمنجنيز والجرانيت . . الخ .
وبعد أن ذكر لنا هذه الآيات الخاصة بالأرض جاء بهذا الاستفهام
(1/6774)

{ أإله مَّعَ الله } [ النمل : 60 ] يعني خلق هذه الأشياء { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61 ] والذين لا يعلمون أعلمناهم ، وقطعنا حُجَّتهم بعدم العلم .
ولو نظرنا إلى الأرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مُستقرٌّ وسَكَنٌ ، فالأرض كثيفة ، وفيها غبرة ليست صافية البياض؛ ذلك لأن الله تعالى يريد لها أنْ تستقبل حرارة الشمس وضوءها ليستفيد منها النبات ، ولو أن الأرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات؛ لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف ، وأخرى في الشتاء .
ولما أجرَوْا بعض التجارب على النبات ، فوضعوه في مكان مظلم ، ثم جعلوا ثُقْباً في ناحية بحيث يدخل الضوء وجدوا أن النَّبْتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من النور والدفء ، فسبحان الذي خلق فسوّى ، والذي قدَّر فهدى .
ومن آيات الله في خَلْق الأرض أنْ جعلها على هيئة الحركة والدوران ، لتأخذ كل مناطقها حظها من الحرارة ومن البرودة ، ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء ، وخريف وربيع ، إنها أدوار تتطلبها مُقوِّمات الحياة .
لذلك تجد علماء النبات يُقسِّمون المناطق الزراعية على الأرض يقولون : هذا حزام القمح مثلاً ، وهذا حزام الموز ، وهذا حزام البطاطس ، فتجد كل حزام منها يصلح لنوع خاص من المزروعات يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوّها .
لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب لا تصيبه الآفات ، أمّا حين يُنقل إلى مكان غير مكانه ، وبيئة غير بيئته لا بُدَّ أنْ يُصاب .
وفي الأرض خاصية أخرى تتعلق بالإنسان تعلقاً مباشراً ، فمن خصائص الأرض وهي من الطين الذي خُلِق منه الإنسان ، فهي في الحقيقة أمه الأولى فإذا مات لا يسعه إلا أحضان أمه حين يتخلى عنه أقرب الناس إليه ، وألصق الناس به ، عندها تستقبله الأم وتحتويه وتستر عليه كُلَّ ما يسوؤه .
ومن خصائص الأرض أنها تمتص فضلات الإنسان والحيوان ومخلَّفاته وتُحوِّلها بقدرة الله إلى مُخصِّب تزدهر به المزروعات ، ويزيد به المحصول ، وفي الريف يحملون رَوَثَ الحيوانات ذا الرائحة الكريهة إلى الحقول ، فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوَّق الإنسان لرائحتها .
إنها عجائب في الخَلْق ، لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، أتذكرون المثل الذي يقول : ( فلان يعمل من الفسيخ شربات ) هكذا قدرة الله التي تخلق الأضداد .
أَلاَ تروْن أن أفضل الفاكهة نأكلها الآن من الجبل الأصفر بمصر وهي تُرْوى بماء المجاري .
وبعد أنْ حدَّثنا الحق تبارك وتعالى عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في السماء والأرض والجبال والمطر . . الخ يُحدِّثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون آخر ، وفي وقت دون آخر ، فيقول سبحانه : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر }
(1/6775)

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
( يجيب ) الإجابة هي تحقيق المطلوب لداعية ، والمضطر : هو الذي استنفد الأسباب ، وأخذ بها فلم تُجْدِ معه ، فليس أمامه إلا أنْ يترك الأسباب إلى المسبِّب سبحانه فيلجأ إليه؛ ذلك لأن الخالق عز وجل قبل أنْ يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات حياته وضرورياتها وسخَّرها لخدمته .
لذلك جاء في الحديث القدسي : " يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك ، وخلقتك من أجلي فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له " .
ثم خلق الله لك الطاقة التي تستطيع أن تُسخِّر بها هذه الأشياء وضمن لك القوت الضروري من ماء ونبات ، فإنْ أردتَ أنْ تُرفِّه حياتك فتحرك في الحياة بالأسباب المخلوقة لله ، وبالطاقة الفاعلة فيك ، وفكِّر كيف ترتقي وتُثرِي حركة الحياة من حولك .
فالماء الذي ينساب في داخل البيت حين تفتح الصنبور ، والضوء الذي ينبعث بمجرد أن تضغط على زر الكهرباء ، والسيارة التي تنقلك في بضع دقائق . . كلها ارتقاءات في حركة حياة الناس لما أعملوا عقولهم فيما أعطاهم الله من مادة وعقل وفكر وأسباب ، وهذه كلها يد الله الممدودة لعباده ، والتي لا ينبغي لنا ردّها .
فإذا ما حاولتَ ولم تفلح ، ولم تثمر معك الأسباب ، فعليك أنْ تلجأ مباشرة إلى المسبِّب سبحانه ، لأنه خالقك والمتكفِّل بك .
واقرأ قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] ويا ليته ساعةَ دعا ربه ولجأ إليه فاستجاب له يجعل له عند ربه رَجْعة ، ويتوقع أنْ يصيبه الضُّر مرة أخرى؛ لكن إنْ كشف الله عنه سرعان ما يعود كما كان .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ يونس : 12 ] .
{ أَمَّن يُجِيبُ المضطر } [ النمل : 62 ] فالمضطر إذن لا بدَّ أنْ يُجيبه الله ، فمَنْ قال : دعوتُ فلم يُستجب لي . فاعلم أنه غير مضطر ، فليست كل ضائقة تمرُّ بالعبد تُعَدُّ من قبيل الاضطرار ، كالذي يدعو الله أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه ، أو براتب ودَخْل أوفر مما يأخذه . . الخ ، كلها مسائل لا اضطرارَ فيها ، وربما علم الله أنها الأفضل لك ، ولو زادك عن هذا القدر طغيتَ وتكبرتَ .
كما قال الحق سبحانه وتعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 67 ] .
فلقد طلبتَ الخير من وجهة نظرك ، وربُّك يعلم أنه لا خيرَ فيه { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] .
فربُّك يُصحِّح لك هذا الخطأ في فهمك للمسائل فيقول لك : سأحقق لك الخير ، لكن بطريقة أخرى أنسب من هذه ، فلو أجبتُك إلى ما تريد لحدث مَا لا تُحمد عقباه ، وكأن الله عز وجل وهو ربُّنا والمتولِّي أمرنا يجعل على دعائنا ( كنترول ) ولو كان الله سبحانه موظفاً يلبي لكل مِنّا طلبه ما استحق أن يكون إلهاً حاشا لله .
(1/6776)

فالإنسان من طبيعته العجلة والتسرع ، فلا بُدَّ للرب أن يتدخل في أقدار عبده بما يصلحه ، وأنْ يختار له ما يناسبه؛ لأنه سبحانه الأعلم بعواقب الأشياء وبوقتها المناسب ، ولكل شيء عنده تعالى موعد وميلاد .
واقرأ قول الله تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] .
أَلاَ ترى بعض الأمهات تحب الواحدة ولدها وتشفق عليه ، فإنْ عصاها في شيء أو ضايقها تقول رافعةً يديها إلى السماء ( إلهي أشرب نارك ) أو ( إلهي أعمى ولا أشوفك ) فكيف لو أجاب الله هذه الحمقاء؟
إذن : من رحمته تعالى بنا أنْ يختار لنا ما يُصلِحنا من الدعاء ، ويُعافينا من الحمق والعجلة .
وقوله تعالى : { وَيَكْشِفُ السواء } [ النمل : 62 ] فكما أنه لا يجيب المضطر إلا الله لا يكشف السوء إلا الله ، ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء لتوجَّه الناسُ إليه بالدعاء ، لكن حينما يُصاب المرء لا يقول إلا يا رب ، ولا يجد غير الله يلجأ إليه لأنه لن يغشَّ نفسه في حال الضائقة أو المصيبة التي ألمت به .
وقد مثَّلنا لذلك ولله المثل الأعلى بحلاق الصحة في الماضي ، وكان يقوم بعمل الطبيب الآن ، فلما أنشئت كلية الطب وتخرَّج فيها أحد أبناء القرية اتجهتْ الأنظار إليه ، فكان الحلاق يذمُّ في الطب والأطباء ، وأنهم لا خبرةَ لديهم لتبقى له مكانته بين أهل القرية ، لكن لما مرض ابن الحلاق ماذا فعل؟ إنْ غشَّ الناس فلن يغشَّ نفسه : أخذ الولد في ظلام الليل ولفّه في البطانية ، وذهب به إلى ( الدكتور ) الجديد .
لذلك يقول كل مضطر وكل مَنْ أصابه سوء : يا رب يا رب حتى غير المؤمن لا بُدَّ أن يقولها ، ولا بُدَّ أنْ يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الإله الحق ، فالوقت جِدّ لا مساومة فيه .
ويقول تعالى بعدها : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } [ النمل : 62 ] أي : يخلفُ بعضكم بعضاً فيها ، كما قال : { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ النور : 55 ] .
فهل يملك هذه المسائل إلا الله : { أإله مَّعَ الله } [ النمل : 62 ] والاستفهام هنا ينكر وجودَ إله غير الله يفعل هذا { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ النمل : 62 ] يعني : لو تفكرتُم وتذكرتُم لعرفتم أنه لا إله إلا الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر }
(1/6777)

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
هذه أيضاً من الأمور الخاصة التي تخصُّ بعض الناس دون بعض ، وكانت قبل تقدُّم العلم ، حيث كانت النجوم هي العلامات التي يهتدي بها الملاحون في البحر والمسافرون في البر { وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] .
وقد برع في علوم الفلك والنجوم وفي علوم البحار علماء من العرب وضَعُوا أُسساً لهذه العلوم ، لا عن علم عندهم ، إنما عن مشاهدة لظواهر الكون ، وتوفيق وهداية من الله عز وجل .
وحين نتأمل ارتقاءات الإنسان في الحياة نجد أنها نتيجة مشاهدة حدثتْ صدفة ، أو حتى بطريق الخطأ ، وإلا فكيف اهتدى الإنسان إلى تخمير العجين ليخرج الخبز على هذه الصورة وبهذا الطعم؟ لذلك يُسمُّون العجين : فطير وهو المبلط الذي لم يتخمر ، وخمير وهو الذي تخمَّر وارتفع قليلاً وتخلّله الهواء .
وقد نقلوا هذه المعنى للرأي ، يقولون : فلان رأيه فطير يعني : سطحي متعجل ، وفكرة مختمرة يعني : مدروسة بتأنٍّ ، ومنه الفِطْرة يعني الشيء حين يكون على طبيعته .
وربما اكتشفتْ إحدى النساء مسألة الخمير هذه نتيجة خطأ أو مصادفة حين عجنتْ العجين ، وتأخرت في خَبْزه حتى خمر ، فلما خبزته جاء على هذه الصورة المحببة إلينا ، كذلك الأمر في اكتشاف البنسلين مثلاً ، والغواصات والبخار والعجلة . . الخ .
وتأمل مثلاً : لماذا نطبخ الملوخية ولا نطبخ النعناع ، إنها إذن هداية الله الذي خلق فسوَّى ، والذي قدَّر فهدى .
الحديد تعلمنا طَرْقه بعد إدخاله النار ليلين؛ لأن الله تعالى علمها لنبيه داود عليه السلام حين قال { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } [ سبأ : 10 ] .
إذن : كثير من اكتشافات الكون وارتقاءاته تأتي بهداية الله ، وكلما مرَّ الزمن تكشفتْ لنا أسرار الكون ، كلّ في ميعاده وميلاده الذي أراده الله ، إما أنْ يستنطبه الناس بمقدمات إذا جاء ميلاده ، وإلا فيأتي ولو مصادفة .
واقرأ إن شئت قوله تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] فحين يشاء الله يكشف لك الأشياء ، ويُيسر لك أسبابها ، فإذا لم تنتبه لها أراكها مصادفة ، ومن وسائل إعلام الله لخَلْقه مثلاً أهل البوادي ، ترى الواحد منهم متكئاً ينظر إلى السماء ويقول لك : السماء ستمطر بعد كم من الساعات ، وليس في السماء سحاب ولا غَيْمٌ يدل على المطر ، لكنه عرفها بالاستقراء والتجربة .
ومن هذه الهداية الإلهية أن ترى البهائم العجماوات وهي تأكل بالغريزة ، تأكل الحشيش الجاف ، ولا تأكل مثلاً النعناع الأخضر ، أو الريحان من أن رائحته جميلة ، لماذا؟
لأنه جُعِل للرائحة الطيبة ، لكن طعمه غير طيب ، وإذا أكل الحيوان وشبع لا يمكن أن يأكل بعدها أبداً على خلاف الإنسان الذي يأكل حتى التخمة ، ثم الحلو والبارد والساخن ، ويقولون ( أَرِهَا الألوان تريك الأركان ) . أي : أَرِ معدتك ألوان الطعام وأصنافه ، تريك الأركان الخالية فيها .
لذلك تجد رائحة رَوَث الحيوان أقلّ كراهية من رائحة فضلات الإنسان؛ لأنها تأكل بالغريزة التي خلقها الله فيها ، ونحن نأكل بالشهوة ، وبلا نظام نلتزم به .
وقوله تعالى : { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً } [ النمل : 63 ] اي : مُبشِّرات بالمطر { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ النمل : 63 ] والمطر مظهر من مظاهر رحمة الله { أإله مَّعَ الله } [ النمل : 63 ] أي : لا إله إلا الله يهديكم في ظلمات البر والبحر ، ولا إله إلا الله يرسل الرياح تبشركم بالمطر { تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 63 ] تنزَّه أن يكون له في كَوْنه شريك .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمَّن يَبْدَأُ الخلق }
(1/6778)

أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
مسألة الخَلْق هذه لا يستطيعون إنكارها ، وقد سألهم الله { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] .
وفي موضع آخر : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] .
لأنهم لا يملَكون إنكارها ، وإنْ أنكروها فالردّ جاهز : على مَنْ خلق أولاً أن يُرينا شيئاً جديداً من خَلْقه .
ومعنى { يَبْدَأُ الخلق } [ النمل : 64 ] يعني : الخلْق الأول من العدم { ثُمَّ يُعيدُهُ } [ النمل : 64 ] لأن الذي خلقنا من عدم كتب علينا الموت ، وأخبرنا بالغيب أننا سنُبعث يوم القيامة ، وسيعاد هذا الخَلْق مرة أخرى ، فالذين لم يملكوا إنكار الخلق أنكروا البعث ، فقالوا كما حكى القرآن :
{ ق والقرآن المجيد * بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ ق : 13 ] .
فاستبعدوا البعث بعد الموت ، وتحلّل الأجساد في التراب . وهذه القضية خَاضَ فيها الفلاسفة بكلام طويل ، وللردِّ عليهم نقول : أنتم في القوانين الوضعية تجعلون الثواب لمن أحسن ، والعقوبة لمن قصَّر ، وتُجرِّمون بعض الأعمال بعينها ، وتضعون لها العقوبة المناسبة ، وفي القانون : لا عقوبةَ إلا بتجريم ، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ ، ولا نصَّ إلا بإعلام .
ولم نَرَ في القانون الوضعي جريمة تُرِكت بلا عقوبة ، فإذا كان البشر يضعون لمجتمعاتهم هذه القوانين التي تنظم حياتهم ، أليس رب البشر أوْلَى بقانون الثواب والعقاب؟ وإذا كنتَ لا ترضي لنفسك أنْ يفلتَ المجرم من العقاب ، فكيف ترضى ذلك لله؟
ثم ألا تعلم أن كثيراً من المجرمين يرتكبون جرائمهم في غفلة من القانون ، أو يُعمُّون على العدالة ويهربون من العقاب ، ويُفلِتون من القوانين الوضعية في الدنيا ، ولو تركنا هؤلاء بلا عقاب أيضاً في الآخرة فهم إذن الفائزون ، وسوف نشجع بذلك كل منحرف خارج عن القانون .
أما إنْ علم أن له رباً قيوماً عليه ، وإنْ عمَّى على قضاء الأرض فلن يُعمِّي على قضاء السماء ، وإنْ أفلتَ من عقاب الدنيا فلن يُفلِتَ أبداً من عقاب الآخرة إنْ علم ذلك استقام .
لكن ، ما وجه استبعادهم للبعث { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ ق : 3 ] .
يقولون : هَبْ إن إنساناً مات ودُفِن وتحلّل جسده إلى عناصر امتصتها الأرض ، ثم غُرِسَت شجرة في هذا المكان وتغذْت على هذه العناصر ، وأكل من ثمارها عدة أشخاص ، وانتقلت جزئيات الميت إلى الثمار ثم إلى من أكل منها ، فحين يُبعث الخَلْق يوم القيامة فلأيِّهما تكون هذه الجزئيات : للأول أم للثاني؟ إذا بعثتها للأول كانت نقصاً في الثاني ، وإنْ بعثتها للثاني كانت نقصاً في الأول .
وهذا الكلام منهم على سبيل أن الشخص مادة فقط ، لكن التشخيصات مادة ومعنى . وهَبْ أن شخصاً بديناً يزن مثلاً مائة كيلو أصابه مرض أهزله حتى قَلَّ وزنه إلى خمسين كيلو مثلاً ، ثم عُولج وتحسنت صحته حتى عاد كحالته الأولى .
(1/6779)

فهل الجزئيات التي نقصت من وزنه هي نفسها التي دخلتْ فيه بالصحة والتغذية؟ بالطبع لا ، أتغيرتْ شخصيته بهذا النقص ، أو بهذه الزيادة؟ لا ، بل هو هو .
إذن : للشخص جزئيات مختلفة التكوين ، وله معنى وروح ، ساعةَ تتجمع هذه الأشياء يأتي الشخص المراد .
لذلك يقول تعالى رداً على هؤلاء المتفلسفين : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] .
فلماذا تستبعدون الإعادة بعد الموت وقد أقررتُم بالخَلْق الأول واعترفتم بأن الله هو الخالق ، وأليست الإعادة من موجود أهونَ من الخَلْق بدايةً من العدم؟ ثم إن الإعادة تحتاج إلى قدرة على الإبراز وإلى علم .
أما العلم ، فالحق تبارك وتعالى يقول : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] يعني : يعلم وزنك ، ويعلم جزئياتك ، لا يغيب منها ذرة واحدة .
أما القدرة ، فقد آمنتُم بها حين أقررتُم بقدرته تعالى على الخَلْق من عدم ، والإعادة أهون من الإنشاء الأول { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وإنْ كان الخالق عز وجل لا يُقَال في حقه هيِّن وأهْون ، لكنها بعُرْفكم أنتم ، وبما يُقرِّب المسألة إلى أذهانكم .
وفي القدرة أيضاً يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض } [ النمل : 64 ] .
الرزق : كلُّ ما يُنتفع به ، وهو إما من السماء وإما من الأرض ، وإما من التقائهما حين ينزل الماء من السماء ، ويختلط بتربة الأرض فيخرج النبات .
{ أإله مَّعَ الله } [ النمل : 64 ] يكرر نفس الاستفهام السابق لتأكيد أنه لا إله إلا الله يأتيكم بهذه النعم .
{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 64 ] أي : هاتوا الدليل على وجود إله آخر يقول : أنا الذي بدأتُ الخَلْق ، وأنا الذي أرزق من السماء والأرض ، فإذا لم يأْتِ مَنْ يقول هذا فقد ثبتتْ الدعوة لصاحبها حيث لم يَقُم معارضَ ودَعْك من مسألة الإعادة هذه ، يكفي أن يدعي الخَلْق؛ لأن القادر على الخَلْق قادر على الإعادة ، فلا يستحيل على الذي خلق من أنْ يُعيد من موجود .
لكن ، ما مناسبة الكلام عن الرزق من السماء والأرض بعد مسألة الإعادة؟ لا بُدَّ أن تكون هناك علاقة بينهما ، فللرزق الذي يأتي عن طريق التقاء ماء السماء بتربة الأرض وهو النبات دورة مثل دورة الإنسان وإعادة كإعادته ، حيث يتغذى الإنسان على نبات الأرض ، ويأخذ منه حاجته من الطاقة والغذاء ، وما تبقى منه يخرج على صورة فضلات تتحلل في الأرض ، حتى ما تبقَّى منها في جسم الإنسان يتحلل بعد موته إلى عناصر الأرض .
فالوردة مثلاً بعد نضارتها وطراوتها وجمالها حيث تُقطف تجفّ ويتبخر ماؤها ، وكذلك اللون والرائحة في الأثير الجوي ، وما تبقى منها من مادة جافة تتحلل في التربة ، فإذا ما زرعنا وردة أخرى ، فإنها تتغذى على ما في التربة من عناصر ، ما في الأثير الجوي من لون ورائحة .
إذن : فعناصر التكوين في الكون لم تَزِدْ ولم تنقص منذ خلق الله الخَلْق ، ولدورة النبات في الطبيعة بدء ونهاية وإعادة أشبه ما تكون بخَلْق الإنسان ، ثم موته ، ثم إعادته يوم القيامة .
وكأن الحق تبارك وتعالى يعطينا الدليل على الإعادة بما نراه من دورة النبات ، دليلاً بما نراه على الغيب الذي لا نراه .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات }
(1/6780)

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
كما قال الحق سبحانه وتعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] .
والغيب : كلّ ما غاب عن إدراكك وحِسِّْك ، لكن مرة يكون الغيب غيباً إضافياً يغيب عنك ، ولا يغيب عن غيرك ، فأنا لا أعرف مثلاً ما في جيوبكم لكن أنتم تعرفون ، والذي سُرِق منه شيء وأخفاه السارق ، فالمسروق منه لا يعلم أين هو ، لكن السارق يعلم .
وإما يكون الغيب غيْباً مطلقاً ، وهو ما غاب عنّا جميعاً وهو قسمان : قسم يغيب عنا جميعاً ، لكن قد نكتشفه ككل الاكتشافات التي اهتدى إليها البشر . وهذه يكون لها مقدمات تُوصِّل إليها ، وهذا غيب نصف إضافي؛ لأنه غيب اليوم لكن نراه مشهداً بعد ذلك ، فلا يكون غيباً .
ومثال ذلك : تمرين الهندسة الذي نعطيه للأولاد بمقدِّمات ومعطيات ، يُعمِلون فيها عقولهم حتى يتوصلوا إلى الحل المطلوب ، وهذا النوع يقول الله عنه : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] .
فإذا شاء الله وجاء ميلاد هذا الغيب أطلعهم الله تعالى على المقدمات التي توصِّل إليه ، إما بالبحث ، وإما حتى مصادفة ، وهذا يؤكده قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ] .
ومن الغيب المطلق غَيْب حقيقي ، لا يطلع عليه ولا يعلمه إلا الله فقد استقبل سبحانه وتفرَّد بمعرفته ، وهذا الغيب يقول تعالى عنه : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 2627 ] .
ومن هذا الغيب المطلق قضية القيامة { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] فالقيامة لا يعلم وقتها إلا الله سبحانه ، إلا أنه جعل لها مُقدِّمات وعلامات تدلُّ عليها وتُنبىء بقُرْبها .
قال عنها : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] البعض يظن أن { أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] يعني : أداريها وأسترها ، لكن المعنى ليس كذلك { أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] يعني : أزيل خفاءها ، ففرْق بين خَفي الشيء وأخفاه : خَفَى الشيء عني : ستره وداراه ، أما أخفاه فيعني : أظهره ، وهذه تُسمَّى همزة الإزالة ، مثل : أعجم الشيء يعني : أزال عُجْمته . ومنه المعجم الذي يُوضِّح معاني المفردات .
وكما تكون الإزالة بالهمزة تكون بالتضعيف . نقول : مرض فلان يعني : أصابه المرض ، ومرَّض فلاناً يعني : عالجه وأزال مرضه ، ومنه : قشَّر البرتقالة : يعني أزال قشرها .
فالمعنى { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] أي : أكاد أُظهِرها ، ألاَ ترى أن للساعة علامات كبرى وعلامات صغرى ، نرى بعضها الآن ، وتتكشف لنا من الأيام علامة بعد أخرى .
لكن يظل للقيامة وقتها الذي لا يعلمه إلا الله؛ لذلك يقول عنها : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] .
والنبي صلى الله عليه وسلم يفتخر بأنه لا يعلم موعدها ، فيقول حين سُئِل عنها : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " .
(1/6781)

فشَرفٌ لرسول الله ألاَّ يعلم شيئاًَ استأثر الله بعلمه ، والقيامة غَيْبٌ مطلق لم يُعْطِ الله مفاتحه لأحد حتى الرسل .
وقد يُكرِم الله تعالى بعض خَلْقه ، ويُطلِعه على شيء من الغيب ، ومن ذلك الغيبيات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون لها مُقدِّمات توصِّل إليها ، فلا بُدَّ أنها أتته في وحي القرآن ، كما في قوله تعالى : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين } [ الروم : 14 ] .
وكان الروم أقرب إلى الله؛ لأنهم أهل كتاب ، وكان الفرس كفاراً يعبدون النار ، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته يتمنْون انتصار الروم على الفرس ، فنزل الوحي على رسول الله يخبره { غُلِبَتِ الروم } [ الروم : 2 ] لكنهم في النهاية { سَيَغْلِبُونَ } [ الروم : 3 ] ولولا أن الله تعالى حدد غلبهم { فِي بِضْعِ سِنِينَ } [ الروم : 4 ] لكان انتصارهم دائماً ، لكن مَنْ يستطيع تحديد مصير معركة بين قوتين عُظميين بعد بضع سنين إلا الله؟
ولأن انتصار الروم يُفرِح المؤمنين بالله ، قال سبحانه : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } [ الروم : 45 ] .
وتشاء قدرة الله أنْ يأتيَ انتصار الروم على الفرس في نفس اليوم الذي انتصر فيه المؤمنون على الكافرين في بدر .
ومن الغيب الذي يفيض الله به على عبد من عباده ما حدث من الصِّديق أبي بكر رضي الله عنه وقد أعطى ابنته عائشة رضي الله عنها مالاً ، فلما حضرتْه الوفاة قال لها : هاتي ما عندك من المال ، إنما هما أخواك وأختاك : أخواك هما محمد وعبد الرحمن ، وأختاك : لا نعلم أن لعائشة أختاً غير أسماء ، فمن هي الأخرى؟
كان الصِّديق قد تزوج من ابنة خالته وكانت حاملاً ، لكن الحق تبارك وتعالى تجلى عليه وألهمه أنها ستُنجب بنتاً تنضم إلى عائشة وأسماء .
وقوله تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ النمل : 65 ] أي : كما أننا لا نشعر بالموت ولا نعرف ميعاده ، كذلك لا نشعر بالبعث ، ولا متى سنُبعث .
ثم يقول الحق سبحانه : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ }
(1/6782)

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
معنى { ادارك } [ النمل : 66 ] أي : تدارك ، يعني : توالى وتتابع الحديث عنها عند كل الرسل ، ومنه قوله تعالى : { حتى إِذَا اداركوا فِيهَا } [ الأعراف : 38 ] يعني : جُمِع بعضهم على بعض .
إذن : تتابع الإعلام بالآخرة عند كل رسل الله ، فما منهم إلا وقد دعا إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر ، وأتى بالدليل عليه .
ومع متابعة التذكير بالآخرة قال الله عنهم { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } [ النمل : 66 ] أي : من الآخرة ، فلماذا؟ يقول تعالى : { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } [ النمل : 66 ] أي : عميتْ أبصارهم وبصائرهم عنها ، فلم يهتدوا ، ولو تفتحتْ عيونهم وقلوبهم لآمنوا بها .
يقول تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] .
إذن : هناك شيء موجود بالفعل ، لكني أغفلته ، أو تغافلت عنه بإرادتي ، فآيات البعث والقيامة موجودة ومُتداركة ، لكن الناس عَمُوا عنها فلم يَرَوْها .
ومعنى : { عَمُونَ } [ النمل : 66 ] جمع عَمٍ ، وهو الذي عميتْ بصيرته عن دلائل القيامة الواضحة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ الذين كفروا }
(1/6783)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
يريدون أنْ يستدلوا بعدم بعث الآباء على عدم بَعْثهم ، لكن مَنْ قال لهم : إن الآخرة ستأتي مع الدنيا ، ما سُميِّت الآخرة إلا لأنها تأتي آخراً بعد انقضاء الدنيا .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا }
(1/6784)

لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
أي : من لدن آدم عليه السلام والناس يموتون والأنبياء تذكر بهذا اليوم الآخر ، لكنه لم يحدث { إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النمل : 68 ] أي : كذِب وافتراء ونسج خيال كما في أساطير السابقين ، لكن ما الدافع لهم لأنْ يتهموا الرسل في بلاغهم عن الله هذا الاتهام؟
قالوا : لأن نفس المرء عزيزة عليه ، وكل مُسْرف على نفسه في المعاصي يريد أنْ يؤمِّن نفسه ، وأنْ يريحها ، وليس له راحة إلا إنْ يقول هذا الكلام كذب ، أو يتمنى أن يكون كذباً ، ولو اعترف بالقيامة وبالبعث والحساب فمصيبته عظيمة ، فليس في جُعْبته إلا كفر بالله وعصيان لأوامره ، فكيف إذن يعترف بالعبث؟ فطبيعي أن يؤنس نفسه بتكذيب ما أخبره به الرسول .
لذلك نجد من هؤلاء مَنْ يقول في القدر : إذا كان الله قد كتب عليَّ المعصية ، فلماذا يُعذِّبني بها؟ والمنطق يقتضي أن يكلموا الصورة فيقولون : وإذا كتب عليَّ الطاعة ، فلماذا يثيبني عليها؟ فلماذا ذكرتُم الشر وأغفلتم الخير؟
إذن : هؤلاء يريدون المنفذ الذي ينجون منه ويهربون به من عاقبة أعمالهم .
(1/6785)

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
يدعوهم الله تعالى إلى السير في مناكب الأرض للنظر وللتأمل لا فيمن بُعِث لأن البعث لم يأتِ بَعْد ، ولكن للنظر في عاقبة المجرمين الذي كَّبوا رسلهم فيما أتَوا به ، وكيف أن هزمهم ودحرهم وكتب النصر للرسل .
والبعث مما جاء به الرسل ، فمَنْ كذَّب الرسل كذَّب بالبعث مع أنه واقع لا شكَّ فيه ، لكن الحق تبارك وتعالى يُخِفيه لوقته ، كما قال سبحانه : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] .
ثم يُسلِّي الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخفِّف عنه ألم ما يلاقي في سبيل الدعوة ، فيقول تعالى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ }
(1/6786)

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
وقد خاطب الحق سبحانه رسوله بقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
والعنى : مُهلِك نفسَك من الحزن ، والبخع كما قلنا : المبالغة في الذبح بحيث توصله إلى البخاع . والحق تبارك وتعالى يوضح أن مهمة الرسول البلاغ عن الله فقط ، ولا عليه آمن مَنْ آمن ، أو كفر مَنْ كفر ، إنما حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وحِرْصه على نجاتها جعلاه يحزن ويألم إنْ شرد منه واحدٍ من أمته ، ألم يقُلْ عنه ربه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
ثم يقول الحق سبحانه عنهم : { وَيَقُولُونَ متى هذا }
(1/6787)

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
يقول المكذبون بالبعث { متى هذا الوعد } [ النمل : 71 ] أي : بالبعث { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 71 ] في أن هناك بَعْثاً .
وسمَّوْا إخبار الله لهم بالبعث وَعْداً ، مع أنه في حقهم وعيد ، وفَرْق بين وَعَد وأوعد : وَعَد للخير وأوعد للشر ، لكن الله تعالى يطمس على ألسنتهم ، وهم أهل الفصاحة فيقولون { متى هذا الوعد } [ النمل : 71 ] وهو بالنسبة لهم وعيد ، لأن إيعاد المخالف لك بشرٍّ وَعْد لك بخير .
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول : لقد وعدنا بأمرين : وعدنا رسلنا بالتأييد والنصرة ، ووعدنا العالم كله بالبعث ، فإذا كنا صادقين في الأولى وهي مُشَاهدة لكم ومُحسَّة فخذوها مقدمة ودليلاً على صِدْقنا في الأخرى ، وقد عاينتُم أن جميع الرسل انتصروا على مُكذِّبيهم ، إما بعذاب الاستئصال ، وإما بعذاب الهزيمة والانكسار .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ }
(1/6788)

قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
كلمة { عسى } [ النمل : 72 ] تفيد الرجاء ، لكنها من الله تفيد التحقيق ، فلو قُلْت مثلاً : عسى أن يعطيك فلان ، ، لَكَان الرجاء ضعيفاً ، وأقوى منه لو قُلْت : عسى أن أعطيك لأني لا أملك فلاناً ، لكن أملك نفسي ، وأقوى من ذلك أن أقول : عسى أن يُعطيك الله لأن أسبابي أنا قد لا تمكِّني من الوفاء ، أما إنْ قال الله تعالى عسى ، فهي قمة التأكيد والتحقيق في الرجاء ، وهي أعلى مراتبه وأبلغها .
ومعنى { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أي : تبعكم وجاء بعدكم من أردفه إذا أركبه خلفه على الدابة ، فهو خلفه مباشرة ، وفعلاً أصابهم ما يستعجلون ، فلم يمرّ طويلاً حتى حاقت بهم الهزيمة في بدر ، فصدَقْنا في الأولى حين قلنا : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] وقد عاينتُم ذلك ، فخذوه دليلاً على الغَيْب الذي أخبرناكم به .
ثم يقول رب العزة سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ }
(1/6789)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
فمن فضله تعالى عليكم أنْ يُؤخِّر القيامة لعل الناس يرعوون ، وإلا لفاجأتهم من أول تكذيب ، وهذا يبين أن الله تعالى يُمهل الخَلْق ليزداد فيهم أهل الهدى والإيمان ، أَلاَ ترى أن المؤمنين برسول الله لم يأتُوا جميعاً مرة واحدة في وقت واحد ، إنما على فترات زمنية واسعة .
لذلك قلنا : إن المسلمين الأوائل كانوا في معاركهم مع الكفر يألمون إنْ فاتهم قَتْل واحد من رؤوس الكفر وقادته مثل عكرمة وعمرو وخالد وغيرهم ، ولو أطلعهم الله على الغيب لَعلِموا أن الله تعالى نجَّاهم من أيديهم ليدخرهم فيما بَعْد لنُصْرة الإسلام ، وليكونوا قادة من قادته ، وسيوفاً من سيوفه المشْهَرة في وجوه الكافرين .
وقوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [ النمل : 73 ] دليل على أن البعض منهم يشكر .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ }
(1/6790)

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
ولك أنْ تقول في هذه الآية : إذا كان الله تعالى يعلم ما تُكنُّ صدورهم وما تخفيه ، فمن باب أَوْلَى يعلم ما يُعلنون ، فلماذا قال بعدها : { وَمَا يُعْلِنُونَ } [ النمل : 74 ] ؟
نقول : لأن ما في الصدور غَيْب والله غَيْب ، وقد يقول قائل : ما دام أن الله غيْب فلا يعلم إلا الغيب . فنردّ عليه بأن الله تعالى يعلم الغيب ويعلم العلن .
(1/6791)

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
معنى { غَآئِبَةٍ } [ النمل : 75 ] يعني : الشيء الغائب ، ولحقتْ به التاء الدالة على المبالغة ، كما نقول في المبالغة : راوٍ ورواية ، ونسَّاب ونسَّابه ، وعالم وعلامة ، كذلك غائب وغائبة ، مبالغة في خفائها .
و ( مِنْ ) هنا يرى البعض أنها زائدة ، لكن كلمة زائدة لا تليق بأسلوب القرآن الكريم وفصاحته ، ونُنزِّه كلام الله عن الحشو واللغو الذي لا معنى له ، والبعض تأدب مع القرآن فقال ( من ) هنا صلة ، لكن صلة لأي شيء؟
إذن : لا بد أن لها معنى لكي نوضحه نقول : إذا أردتَ أنْ تنفي وجود مال معك تقول : ما عندي مال ، وهذا يعني أنه لا مالَ معك يُعتَدّ به ، ولا يمنع أن يكون معك مثلاً عدة قروش لا يقال لها مال ، فإن أردتَ نفي المال على سبيل تأصيل العموم في النفس تقول : ما عندي من مال ، يعني بداية ممَّا يُقال له مال مهما صَغُر ، فمِنْ هنا إذن ليست زائدةً ولا صلةً ، إنما هي للغاية وتأصيل العموم في النفي .
فالمعنى { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السمآء والأرض إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 75 ] أن الله تعالى يحيط علمه أزلاً بكل شيء ، مهما كان صغيراً لا يُعتدُّ به ، واقرأ قوله تعالى :
{ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
كما أن قدرته تعالى لا تقف عند حد العلم إنما ويسجله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 75 ] أي في أُمِّ الكتاب الذي سجَّل الله فيه كل أحداث الكون ، فإذا ما جاءتْ الأحداث نراها مُوافِقة لما سجّله الله عنها أَزَلاً ، فمثلاً لما ذكر الحق تبارك وتعالى وسائل النقلِ والمواصلات في زمن نزول القرآن قال : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
فلولا تذييل الآية بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] لكان فيها مأخذ على القرآن ، وإلاَّ فأين السيارة والطائرة والصاروخ في وسائل المواصلات؟
إذن : نستطيع الآن أنْ نُدخِل كل الوسائل الحديثة تحت { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
وسبق أن قلنا : إن من عظمة الحق سبحانه وتعالى ألاَّ يُعلم بشيء لا اختيار للعبد فيه ، إنما بما له فيه اختيار ويفضحه باختياره ، كما حدث في مسألة تحويل القبلة : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] .
فيعلنها الله تعالى صراحة ، ويُسمِّيهم سفهاء؛ لأنهم يعادون الله ويعادون رسول الله ، وبعد هذه الخصومة وهذا التجريح قالوا فعلاً ما حكاه القرآن عنهم .
ولم نَرَ منهم عاقلاً يتأمل هذه الآية ، ويقول : ما دام أن القرآن حكى عنا هذا فلن نقوله ، وفي هذه الحالة يجوز لهم أنْ يتهموا القرآن وينالوا من صِدْقه ومن مكانة رسول الله ، لكن لم يحدث وقالوا فعلاً بعد نزول الآية :
(1/6792)

{ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] يعني : تركوا التوجه إلى بيت المقدس وتوجهوا إلى مكة ، قالوه مع ما لهم من عقل واختيار .
وهذه المسألة حدثتْ أيضاً في شأن أبي لهب لما قال الله عنه : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 13 ] .
لأنه قالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمعهم ليبلغهم دعوة الله ، فقال له : تباً لك ألهذا جمعتنا . وأبو لهب عم رسول الله ، كحمزة والعباس ولم يكن رسول الله يدري مستقبل عمه ، فلعله يؤمن كما آمن حمزة وصار أسد رسول الله ، وكما آمن العباس بن عبد المطلب .
فلما نزلت { تَبَّتْ يَدَآ } [ المسد : 1 ] كان بإمكانه أنْ يُكذِّبها وأن يؤمن فينطق بالشهادتين ولو نفاقاً ، فله على ذلك قدرة ، وله فيه اختيار ، لكنه لم يفعل .
إذن : من عظمة كلام الله ومن وجوه الإعجاز فيه أنْ يحكم حكماً على مختار كافر به ، وهو قرآن يُتْلَى علانيةً على رؤوس الأشهاد ، ومع ذلك لا يستطيع التصدِّي له ، ويبقى القرآن حُجَّة الله على كل كافر ومعاند .
ولما نتأمل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] نرى أن الحق سبحانه أنزل القرآن وتولَّى حفظه بنفسه سبحانه وتعالى ولم يُوكله إلى أحد ، مع أن في القرآن أشياء وأحداثاً لم توجد بعد ، فكأن الله تعالى يحفظها على نفسه ويُسجِّلها ويعلنها ، لماذا؟ لأنها ستحدث لا محالة .
فالحق سبحانه لا يخشى واقع الأشياء ألاَّ تطاوعه؛ لأنه مالكها ، ألاَ ترى أن الإنسان يحفظ ( الكمبيالة ) التي له ، ولا يهتم بالتي عليه؟ أما ربُّنا عز وجل فيحفظ لنا الأشياء وهي عليه سبحانه وتعالى .
واقرأ إن شئت : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] فالله يُسجِّلها على نفسه ويحفظها؛ لأنه القادر على الإنفاذ ، وفعلاً هُزِم الجمع وولَّوْا الأدبار وصدق الله .
(1/6793)

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
فَرْق بين أن تخاطب خاليَ الذهن ، وأنْ تخاطب مَنْ لديه فكرة مُسْبقة ، فخالي الذهن يقبل منك ، أما صاحب الفكرة المسْبقة فيعارضك ، كذلك جاء من الكفار ومن أهل الكتاب من يعارض كتاب الله وينكر ما جاء به ، ومع أنهم أعداء الإسلام وكارهون له لكْن إنْ سألتَهم عما أخبر به القرآن يقولون : نعم نعرف هذا من كتبنا { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ] .
لذلك سيدنا عبد الله بن سلام عندما نظر إلى رسول الله علم أنه الرسول الحق ، فمالتْ نفسه إلى الإسلام وقال : والله إنِّي لأعرف محمداً كمعرفتي بابني ، ومعرفتي بمحمد أشد ، وصدق الله حين قال عنهم : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
علم عبد الله أن الإسلام هو الطريق الذي يُوصِّله إلى الله والذي ينبغي لكل عاقل أنْ يتبعه ، فلما أراد أنْ يُسلم أحب أنْ يكسب الجولة بإعلان إسلامه وفضيحة المنافقين والكفار وأهل الكتاب ، فقال : يا رسول الله لقد اشتشرفَتْ نفسي للإسلام ، وأخاف إنْ أسملتُ أن يذمَّني اليهود ويفعلوا بي كذا وكذا ، فاسألهم عنِّي قبل أنْ أُسلِم ، فسألهم رسول الله فقالوا : هو حَبْرنا وابن حَبْرنا . .
وكالوا له الثناء والمديح ، عندها قال عبد الله : أَما وقد قلتم ما قلتم ، فأشهد ألا إلا إله الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا : بل هو شرُّنا وابن شرِّنا . وكالوا له عبارات السب والشتم .
ثم يصف الحق سبحانه القرآن فيقول : { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ }
(1/6794)

وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
معنى { لَهُدًى } [ النمل : 77 ] أي : هداية دلالة وإرشاد ، وهذه للمؤمن وللكافر { وَرَحْمَةٌ } [ النمل : 77 ] للمؤمنين فقط ، كما قال سبحانه : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] وفَرْق بين الشفاء والرحمة؛ لأن العطف هنا يقتضي المغايرة . الشفاء : من الداء الذي جاء القرآن ليعالجه ، والرحمة ألاَّ يعاودك هذا الداء مرة أخرى .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم }
(1/6795)

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
قوله تعالى { العزيز } [ النمل : 78 ] أي : الذي يقهر ولا يُقهر ، ويغلب ولا يُغْلب ، ويجير ولا يُجَار عليه ، وهو مع ذلك في عزته { العليم } [ النمل : 78 ] فقد يكون عزيزاً لا يُغلب ، لكن لا علم عنده ، فالحق سبحانه عزيز عليم يضع العزة في مكانها ، ويضع الذلة في مكانها .
كما قال سبحانه : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير } [ آل عمران : 26 ] .
وقد وقف العلماء عند قوله تعالى عن نفسه : { بِيَدِكَ الخير } [ آل عمران : 26 ] فاجتهد بعضهم فقال : التقدير : بيدك الخير والشر ، وهذا التقدير يدل على عدم فهْم لمعنى الآية فما عند الله خير في كل الأحوال؛ لأن إيتاء الملْك لمن ينصف في الرعية خير ، ونزع الملْك ممَّنْ يطغى به ويظلم خير أيضا؛ لأن الله سلب منه أداة الطغيان حتى لا يتمادى ، ففي كلٍّ خير .
وما دام من صفاته تعالى أنه عزيز عليم حكيم رحيم ذو فضل ، فاطمئن أيها المؤمن بالله ، وتوكل على الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله }
(1/6796)

فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
والتوكل : أن تستضعف نفسك في شيء تحاول أن تقضيه بقوة فلا تجدها عندك ، والتوكل الحق لا يكون إلا على الله الحي الذي لا يموت ، أما إن توكلْتَ على بشر مثلك فقد يُفاجِئه الموت قبل أنْ يقضي لك حاجتك .
وقال { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } [ النمل : 79 ] أي : أنك تتوكل على الله وأنت على الحق وعلى الطاعة له عز وجل ، لا على معصيته ، وما دُمْتَ تتوكل على الله وأنت على حال الطاعة فلا بُدَّ أن يكون نصيركَ ومعينَك .
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ويُعزيه كي لا يألم على مَنْ شردوا منه فلم يؤمنوا : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى }
(1/6797)

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
والمعنى : لا تحزن يا محمد ، ولا تُهلك نفسك على هؤلاء الذين لم يؤمنوا من قومك ، فما عليك إلا البلاغ . والبلاغ كلام له أداة استقبال في السامع هي الأذن ، فإذا تعطلَتْ هذه الأداة لن يسعموا ، وهؤلاء القوم تعطلَتْ عندهم أداة السمع ، فهم كالموتى والذين أصابهم الصمم ، فآيات الله الكونية كثيرة من حولهم ، لكن لا يروْن ولا يسمعون .
وليت الأمر يقف بهم عند حَدِّ الصمم ، إنما يُولُّون مدبرين من سماع الدعوة ، وهذه مبالغة منهم من الانصراف عن دعوة الحق؛ لأنهم إنْ جلسوا فلن يسمعوا ، فما بالك إذا ولَّوْا مدبرين يجروُن بعيداً ، وكأن الواحد منهم يخاف أن يزول عنه الصمم وتلتقط أذنه نداء الله ، فيستميله النداء ، وعندها تكون مصيبته كبيرة على حَدِّ زعمهم .
وهذا دليل على أنهم يعلمون أنه حق ، وأنهم لو صَغَوْا إليه لا تبعوه ، ألم يقولوا : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] .
ذلك لأن القرآن جلالاً وجمالاً ياسِرُ الألباب؛ لذلك نَهَوْا عن سماعه ، ودَعَوْا إلى التشويش عليه ، حتى لا ينفذ إلى القلوب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي }
(1/6798)

وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
فرْق بين سماع قالة أو قضية الصدق ، وانت خالي الذِّهْن ، وبين أن تسمعها وأنت مشغل بنقيضها ، فلكي يُثمِر السماع ينبغي أنْ تستقبل الدعوة بذهن خَالٍ ثم تبحث بعقلك الدعوة وما يناقضها ، فما انجذبتَ إليه واطمأنتْ إليه نفسك فأدخله .
وهذه يُسمُّونها حتى في الماديات نظرية الحيز أي : أن الحيز الواحد لا يتسع لشيئين في الوقت نفسه . وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالقارورة حين تملؤها بالماء لا بُدَّ أنْ يخرج منها الهواء أولاً على شكل فقاعات؛ لأن الماء أكثفُ من الهواء .
ومعنى : { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } [ النمل : 81 ] ولقائل أن يقول : ما دام تُسمِع مَنْ يؤمن بآياتنا ، فما فائدة السماع وهو مؤمن؟ نقول : الآيات ثلاثة؛ مترتبة بعضها على بعض ، فأولها : الآيات الكونية العقدية التي تشاهدها في الكون وتستدلّ بها على وجود إله خالق قادر فتسأل : مَنْ هذه الإله الخالق فيأتي دور الرسول الذي يُبيِّن لك ويحلّ لك هذا اللغز ، ولا بُدَّ له من آيات تدل على صِدْقه في البلاغ عن الله هي المعجزة ، فإنْ غفلنا عن الآيات الكونية ذكرنا بها الرسول ، فقال : ومن آياته كذا وكذا .
فإذا آمنتَ بالآيات الكونية وبآيات المعجزات ، فعليك أنْ تؤمن بآيات الأحكام التي جاءتْ بها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا وَقَعَ القول }
(1/6799)

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
كلمة { وَقَعَ القول عَلَيْهِم } [ النمل : 82 ] أي : سقط : كأنه وبطبيعته يسقط لا يحتاج لمَنْ يُجبره على السقوط . والسقوط { عَلَيْهِم } [ النمل : 82 ] كما في قوله تعالى { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] .
والوقوع هنا يدل على أنهم سيتعرّضون لشدائد ومتاعب ، وبتتبع هذه المادة ( وقع ) في القرآن نجد أنها جاءت كلها في الشدائد إلا في موضع واحد هو قوله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } [ النساء : 100 ] .
وما داموا لم يسمعوا للآيات ، ولم يقبلوها ، ولم يلتفتوا إلى منهج الله وصمُّوا عنه آذانهم ، فلم يسمعوا كلام أمثالهم من البشر فسوف نُخرج لهم دابة تكلمهم .
{ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ } [ النمل : 82 ] وانظر إلى هذه الإهانة وهذا التوبيخ : أنتم لم تسمعوا كلام أمثالكم من البشر ، ولم تفهموا مَنْ يخاطبكم بلغتكم ، فاسمعوا الآن من الأدنى ، وافهموا عنها ، وفسِّروا قولها .
لكن ماذا ستقول الدابة لهم؟ وما نوع كلامها؟ : { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } [ النمل : 82 ] أي : بآياتنا السابقة لا يؤمنون ، وها أنا ذا أُكلِّمهم ، وعلى الماهر فيهم أن يقول لي : كيف أكلمه .
وقد اختلف الناس في هذه الدابة ، وفي شكلها وأوصافها ، وكيف يأتي القول من غير مألوف القول وهو الدابة؟ لكن ما دام أن الله تعالى أخبر بها فهي حقٌّ ، لا ينبغي معارضته ، وعلينا أن نأخذ وقوع ما حدَّث به القرآن قبل أن يكون دليلاً على صِدْقه فيما يحدِّث به فيما يكون .
(1/6800)

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
الفوج : هم الجماعة والزمرة من الناس . وأول مَنْ يُجمع في هذا الموقف هم العتاة والجبابرة الذين تولَّوْا تكذيب آيات الله ، يحشرهم الله أولاً أمام العامة يتقدمونهم ويسبقونهم إلى النار ، كما قال سبحانه عن فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] .
فكما تقدَّمهم من الضلال في الدنيا يتقدمهم إلى النار في الآخرة ، وحين يرى الضالون إمامهم في الضلال يقدمهم ينقطع أملهم في النجاة ، فربما تعلَّقوا به في هذا الموقف ينتظرونه أنْ يُخلٍّصهم ، لكن كيف وهو يسبقهم إلى هذا المصير .
ومعنى { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ النمل : 83 ] قلنا في معنى { يُوزَعُونَ } [ النمل : 83 ] أي : يُمنعون ، والمراد يمنعون أن يسبق أولهم آخرهم بحيث يدخلون جميعاً ، فالحق تبارك وتعالى يجمع أولهم على آخرهم ( ليشرفوا ) سوياً في النار : التابع والمتبوع كلهم سواء في الذلة والمهانة ، فربما حاول أحد العتاة أو الجبابرة أن يسبق حتى لايراه تابعوه ، فيفتضح أمره ، فيؤخره الله ليفضحه على رؤوس الأشهاد .
(1/6801)

حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
في سورة الأعراف يُورِد الحق تبارك وتعالى مذكرة تفصيلية لهذا الموقف ، ولهذا الحوار الذي يدور في عَرَصات القيامة ، فيقول تعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الجن والإنس فِي النار كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 3739 ] .
(1/6802)

وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
قوله { وَوَقَعَ } [ النمل : 85 ] أي : وجب لهم العذاب { بِمَا ظَلَمُواْ } [ النمل : 85 ] وكأنه شيء محسوس يسقط على رؤوسهم { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } [ النمل : 85 ] فقد خرستْ ألسنتهم من هَوْل ما رأوْا ، فلا يجدون كلاماً ينطقون به .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا }
(1/6803)

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
ينتقل السياق من الكلام عن الآخرة إلى آية كونية ، وهذه سِمَة من سمات أسلوب القرآن الكريم ، حيث يراوح بين الدعوة إلى الإيمان وبين بيان الآيات الكونية ، فبعد أن حدثنا عن الآخرة ذكر هذه الآية الكونية ، وكأنه يقول : لا عُذْر لمن يُكذِّب بآيات الله؛ لأن الآيات موجودة مشاهدة .
لذلك قال : { أَلَمْ يَرَوْاْ } [ النمل : 86 ] أي : ألم يعلموا ويشاهدوا { أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } [ النمل : 86 ] أي : للنوم وللراحة { والنهار مُبْصِراً } [ النمل : 86 ] أي : بما فيه من الأشعة والضوء الذي يُسبب الرؤيا .
وسبق أنْ بيَّنا دور العالم المسلم ابن الهيثم في تصحيح نظرية رؤية الأشياء ، وكانوا يعتقدون أن الشيء يُرى إذا خرج الشعاع من العين إليه ، والصحيح أن الشعاع يخرج من الشيء المرئي إلى العين ، فكأن الشعاع هو الذي يُبصر ، فهو سبب الرؤيا ، ولولاه لا نرى الأشياء .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النمل : 86 ] فربك عزّ وجلّ نظَّم لك حركة حياتك بليل تسكن فيه ، وتخلد للراحة ونهار تسعى فيه وتبتغي من فضل الله كما قال تعالى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 73 ] .
ولن تستقيم لنا حركة الحياة إلا إذا سِرْنا على هذا النظام الذي ارتضاه الله لنا ، فإنْ قلبَ الناس هذه الطبيعة فسهروا حتى الفجر ، فلا بُدَّ أنْ يلاقوا عاقبة هذه المخالفة في حركة حياتهم : تكاسلاً وتراخياً وقِلة في الإنتاج . . إلخ .
والحق تبارك وتعالى يشرح لنا هذه القضية في موضع آخر : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 7172 ] .
ففي الكلام عن الليل قال : { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] وعن النهار قال : { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] لماذا؟ قالوا : لأن حاسة الإدراك في الليل هي السمع ، وفي النهار البصر . وفي هذا إشارة إلى طبيعة كل منهما حتى لا نُغيِّرها نحن ، فنسهر الليل ، وننام النهار .
وفي قوله تعالى { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] ما يسميه العلماء باللف والنشر ، اي : لفّ المحكوم عليه وهو الليل والنهار معاً ، ثم نشر حكم كل منهم على وجه الترتيب : لتسكنوا فيه وهي تقابل الليل ، ولتبتغوا من فضله ، وهي تقابل النهار .
إذن : بعد أنْ استدل الحق تبارك وتعالى بالموجود فعلاً من آيتي الليل والنهار أراد أنْ يستدل بعدمهما في { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً } [ القصص : 71 ] و { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً } [ القصص : 72 ] .
ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحديث عن القيامة : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور }
(1/6804)

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
وكأن الله تعالى يقول لي : التفتْ إلى العبرة في الآيات الكونية ، حيث ستنفعك في يوم آت هو يوم القيامة { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } [ النمل : 87 ] وهو البوق { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ النمل : 87 ] والفزع : الخوف الشديد الذي يأخذ كلَّ مَنْ في السموات ، وكل مَنْ في الأرض { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ النمل : 87 ] قالوا : هم الملائكة : إسرافيل الذي ينفخ في الصور ، وجبريل ، وميكائيل ، وعزرائيل .
لذلك لما تكلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة الصعق هذه قال : " فأفيق من الصعقة فأجد أخي موسى ماسكاً بالعرش " ذلك لأن موسى عليه السلام صعق في الدنيا مرة حين تجلَّى ربه للجبل ، كما حكى القرآن : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] .
وما كان الله تعالى ليجمع على نبيه موسى عليه السلام صعقتين ، لذلك لم يُصعَق صعقة الآخرة .
وقوله سبحانه : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] أي : صاغرين أذلاء ، لا يتأبى على الله منهم أحد ، حيث لا قدرةَ له على ذلك؛ لأن القيامة أنهتْ الاختيار الذي كان لهم في الدنيا ، وبه ملّكهم الله شيئاً من المِلْك : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
فأعطى الله تعالى طرفاً من الملْك ، ووهبه لبعض عباده في دنيا الأسباب والاختيار ، أمَّا في الآخرة فالملْك لله تعالى وحده ، لا ينازعه فيه أحد : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
في القيامة يُنزع منك كلّ شيء تملكه وكلّ قدرة لك على ما تملك حتى جوارحك لا قدرةَ لك عليها ، ولا إرادةَ لتنفعل لك ، هي تبع إرادتك في الدنيا ، وبها ترى وتسمع وتمشي وتبطش ، أمَّا في الآخرة فقد سُلِبت منك هذه الإرادة ، بدليل أنها ستشهد عليك ، وتُحاجّك يوم القيامة .
ثم ينتقل السياق بنا مرة أخرى إلى آية كونية : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا }
(1/6805)

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
قوله تعالى { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } [ النمل : 88 ] اي : تظنها ثابتة ، وتحكم عليها بعدم الحركة؛ لذلك نسميها الرواسي والأوتاد { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] أي : ليس الأمر كما تظن؛ لأنها تتحرك وتمر كما يمرّ السحاب ، لكنك لا تشعر بهذه الحركة ولا تلاحظها لأنك تتحرك معها بنفس حركتها .
وهَبْ أننا في هذا المجلس ، أنتم أمامي وأنا أمامكم ، وكان هذا المسجد على رحاية أو عجلة تدور بنا ، أيتغير وضعنا وموقعنا بالنسبة لبعضنا؟
إذن : لا تستطيع أن تلاحظ هذه الحركة إلا إذا كنتَ أنت خارج الشيء المتحرك ، ألاَ ترى أنك تركب القطار مثلاً ترى أن أعمدة التليفون هي التي تجري وأنت ثابت .
ولأن هذه الظاهرة عجيبة سيقف عندها الخَلْق يزيل الله عنهم هذا العجب ، فيقول { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] يعني : لا تتعجب ، فالمسألة من صُنع الله وهندسته وبديع خَلْقه ، واختار هنا من صفاته تعالى : { الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] يعني : كل خَلْق عنده بحساب دقيق مُتقَن .
البعض فهم الآية على أن مرَّ السحاب سيكون في الآخرة ، واستدل بقوله تعالى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] .
وقد جانبه الصواب لأن معنى { كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] أنها ستتفتت وتتناثر ، لا أنها تمر ، وتسير هذه واحدة ، والأخرى أن الكلام هنا مبنيٌّ على الظن { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } [ النمل : 88 ] وليس في القيامة ظن؛ لأنها إذا قامتْ أحداثها مُتيقنةٌ .
ثم إن السحاب لا يتحرك بذاته ، وليس له موتور يُحركِّه ، إنما يُحرِّكه الهواء ، كذلك الجبال حركتها ليست ذاتيةٌ فيها ، فلم نَرَ جبلاَ تحرَّك من مكانه ، فحركة الجبال تابعة لحركة الأرض؛ لأنها أوتاد عليها ، فحركة الوتد تابعة للموتود فيه .
لذلك لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الجبال قال : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] .
ولو خُلِقتْ الأرض على هيئة السُّكون ما احتاجتْ لما يُثبِّتها ، فلا بُدَّ أنها مخلوقة على هيئة الحركة .
في الماضي وقبل تطور العلم كانوا يعتقدون في المنجِّمين وعلماء الفلك الكفرة أنهم يعلمون الغيب ، أما الآن وقد توصَّل العلماء إلى قوانين حركة الأرض وحركة الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية واستطاعوا حساب ذلك كله بدقة مكّنتهم من معرفة ظاهرة الخسوف والكسوف مثلاً ونوع كل منهما ووقته وفعلاً تحدث الظاهرة في نفس الوقت الذي حددوه لا تتخلف .
واستطاعوا بحساب هذه الحركة أنْ يصعدوا إلى سطح القمر ، وأن يُطلِقوا مركبات الفضاء ويُسيِّروها بدقة حتى إنَّ إحداها تلتحم بالأخرى في الفضاء الخارجي .
كل هذه الظواهر لو لم تكن مبنية على حقائق مُتيقَّنة لأدتْ إلى نتائج خاطئة وتخلفتْ .
ومن الأدلة التي تثبت صحة ما نميل إليه في معنى حركة الجبال ، أن قوله تعالى { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] امتنان من الله تعالى بصنعته ، والله لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة ، إنما الامتنان علينا الآن ونحن في الدنيا .
(1/6806)

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
لهذه الآية صلة لطيفة بما قبلها : فكما أن الآيات الكونية التي أخبر بها الحق تبارك وتعالى حقيقة واقعة ، وتأكدتَ أنت من صِدْقها حيث شاهدتها بنفسك وأدركتها بحواسك ، فكما أخبرناك بهذه الآيات نُخبرك الآن بحقيقة أخرى ينبغي أن تصدقها ، وأن تأخذ من صدْق ما شاهدتَ دليلاً على صِدْق ما غاب عنك ، فربُّك يُخبِرك بأنه { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ] .
الحسنة : فعل الانفعال فيه يكون لمطلوب الله في العبادة ، فإن فعلتَ الفعل على مراد الله تعالى كانت لك حسنة ، والحسنة عند الله بعشر أمثالها ، وتضاعف إلى سبعمائة ضِعْف على مقدار طاقة الفاعل من الإخلاص والتجرُّد لله في فعله .
والمعنى : { مَن جَآءَ بالحسنة } [ النمل : 89 ] أي : في الدنيا { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ] أي : ناشىء عنها في الآخرة .
ونسمع من البعض مَنْ يقول : إذا كان قولنا : لا إله إلا الله حسنة فالثواب عليها خَيْر منها . وهذا القول ناتج عن فَهْم غير دقيق لمعنى الآية؛ لأن الله تعالى الذي أُقر به في الشهادة هو الذي يهبني هذا الثواب ، فمَنْ جاء بالحسنة له خير ناشىء من هذه الحسنة ومُسبّب عنها . كما لو قلت : مأمور المركز خير من وزير الداخلية : أي خَيْر جاءنا من ناحيته ، ووصل إلينا من طرفه ، أليس هو صاحب قرار تعيينه؟
ومن ذلك ما يقوله أصحاب الطريق والمجاذيب يقولون : محمد خير من ربه ، وفي مثل هذه الأقوال لعب بأفكار الناس وإثارة لمشاعرهم ، وربما تعرض للإيذاء ، فكيف يقول هذه الكلمة ومحمد مُرْسَل من عند الله؟ وحين تُمعِن النظر في العبارة تجدها صحيحة ، فمراد الرجل أن محمداً خير جاءنا من عند الله .
أو : يكون المعنى { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ] أن الجزاء على الحسنة خير من الحسنة؛ لأنك تفعل الحسنة فِعْلاً موقوتاً ، أمّا خيرها والثواب عليها ، فسيظل لك خالداً بلا نهاية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن جَآءَ بالسيئة }
(1/6807)

وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
معنى : { فَكُبَّتْ } [ النمل : 90 ] ألقيت بعنف ، وخصّ الوجوه مع أن الأعضاء كلها ستكبُّ؛ لأنه أشرفها وأكرمها عند صاحبها ، والوجه موضع العزة والشموخ ، فالحق تبارك وتعالى يريد لهم الذلَّة والمهانة ، وفي موضع آخر يُبيِّن أن كل الأعضاء ستكبُّ في النار ، فيقول تعالى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } [ الشعراء : 94 ] .
وليس هذا المصير ظلماً لهم ، ولا افتراءً عليهم { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] وكما يقول سبحانه : { لاَ ظُلْمَ اليوم } [ غافر : 17 ] فلم نجامل صاحب الحسنة ، ولم نظلم صاحب السيئة .
(1/6808)

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
فما دام أن الله تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية ، وذكَّرنا بالآخرة ، وما فيها من الثواب والعقاب ، فما عليك إلا أنْ تلتزم ( عرفت فالزم ) واعلم أن مَنْ أبلغك منهج الله سيسبقك إلى الالتزام به ، فالشرع كما أمرك أمرني .
{ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة } [ النمل : 91 ] فإنْ طلبتُ منكم شيئاً من التكاليف فقد طالبتُ نفسي به أولاً؛ لأنني واثق بصدق تبليغي عن الله؛ لذلك ألزمتُ نفسي به .
والعبادة كما قلنا : طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيما نهى؛ لأن ربك خلقك من عَدَم ، وأمدك من عُدْم ، ونظّم لك حركة حياتك ، فإنْ كلَّفك فاعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك؛ لأنه رب مُتولٍّ لتربيتك ، فإنْ تركك بلا منهج ، وبلا افعل ولا تفعل ، كانت التربية ناقصة .
إذن : من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نُوجِّه نحن أولادنا الصغار ونُربِّيهم ، ومن تمام الربوبية أن توجد هذه الأوامر وهذه النواهي لمصلحة المربِّي ، وما دام أن ربك قد وضعها لك فلا بُدَّ أن تطيعه .
لذلك نلحظ في هذه الآية { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة } [ النمل : 91 ] ولم يقُلْ : أُمِرت أن أطيع الله؛ لأن الألوهية تكليف ، أمّا الربوبية فعطاء وتربية ، فالآية تُبيِّن حيثية سماعك للحكم من الله ، وهي أنه تعالى يُربِّيك بهذه الأوامر وبهذه النواهي ، وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية .
لذلك ، الصِّديق أبو بكر حينما حدثوه عن الإسراء والمعراج لم يُمرِّر المسألة على عقله ، ولم يفكر في مدى صِدْقها ، إنما قال عن رسول الله : " إن كان قال فقد صدق " فالميزان عنده أن يقول رسول الله ، ثم يُعلِّل لذلك فيقول : إني لأُصدِّقه في الخبر يأتي من السماء ، فكيف لا أُصدِّقه في هذه .
وقال تعالى : { رَبَّ هَذِهِ البلدة } [ النمل : 91 ] أي : مكة وخصّها بالذكْر؛ لأن فيها بيته { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [ آل عمران : 96 ] ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة { الذي حَرَّمَهَا } [ النمل : 91 ] فهي مُحرَّمة يحرم فيها القتال ، وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب وفساد الخلاف الذي يُفضي بكل فريق لأنْ تأخذه العزة ، فلا يجد حلاً إلا في السيف .
وكأن الحق تبارك وتعالى يعطي لخَلْقه فرصة للمداراة وعُذْراً يستترون خلفه ، فلا ينساقون خلف غرورهم ، فحين تمنعهم من الحروب حُرْمة المكان في الحرم ، وحُرْمة الزمان في الأشهر الحرم لأن كل فعل لا بُدَّ له من زمان ومكان حين يمنعهم الشرع عن القتال فإن لأحدهم أن يقول : لم أمتنع عن ضعف . ولولا أن الله منعني لفعلْتُ وفعلْتُ ، ويستتر خلف ما شرَّع الله من منع القتال ، إلى أنْ يذوق حلاوة السلام فتلين نفسه ، وتتوق للمراجعة .
(1/6809)

ولحرمة مكة كان الرجل يلاقي فيها قاتل أبيه ، فلا يتعرَّض له احتراماً لحرمة البيت ، وقد اتسعتْ هذه الحرمة لتشمل أجناساً أخرى ، فلا يُعضد شجرها ، ولا يُصاد صَيْدها .
ثم يقول تعالى : { وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ } [ النمل : 91 ] لأن الله تعالى حين يصطفي من الملائكة رسلاً ، ومن الناس رسلاً ، ويصطفي من الأرض أمكنة ، ومن الزمان ، يريد أن يشيع الاصطفاء في كل شيء .
فالحق تبارك وتعالى لا يُحَابي أحداً ، فحين يرسل رسولاً يُبلِّغ رسالته للناس كافة ، فيعود نفعه على الجميع ، وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع؛ لذلك عطف على { الذي حَرَّمَهَا } [ النمل : 91 ] فقال { كُلُّ شَيءٍ } [ النمل : 91 ] فالتحريم جُعل من أجل هؤلاء .
ثم يقول سبحانه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ النمل : 91 ] أي : المنفذين لمنهج الله يعني : لا أعتقد عقائد أخبر بها ولا أُنفِّذها ، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن فائدة الإيمان أنْ تعملَ به ، كما قال تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 13 ] .
فالله تعالى يريد أن يُعدِّي الإيمان والأحكام إلى أن تكون سلوكاً عملياً في حركة الحياة .
(1/6810)

وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
أنت حين تقرأ القرآن في الحقيقة لا تقرأ إنما تسمع ربنا يتكلم ، ومعنى { وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن } [ النمل : 92 ] يعني : استدم أُنْسك بالكتاب الذي كُلِّفت به ، ليدل على أنك من عِشْقك للتكليف ، عشقتَ المكلّف ، فأحببتَ سماعه ، وتلاوة القرآن في ذاتها لذة ومتعة؟ .
فأنا سآخذ من تلاوته لذةَ ، وأستديم البلاغ بالقرآن للناس ، وبعد ذلك أنا نموذج أمام أمتي ، كما قال سبحانه : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
يعني : شيء يُقتدى به ، وما دام أن الرسول قدوة ، فكل مقام للرسول غير الرسالة مَنْ سار على قدم الرسول يأخذ منه ، وكذلك مكان كل إنسان في التقوى ، على قَدْر اعتباره واقتدائه بالأُسْوة ، أما الرسالة فدَعْك منها؛ لأنك لن تأخذها .
ومعنى { اهتدى } [ النمل : 92 ] أي : وصلتْه الدلالة واقتنع بها { فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } [ النمل : 92 ] لأن الله سيعطيه المعونة ، ويزيده هدايةً وتوفيقاً { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
إذن : فالهداية والتقوى لا تنفع المشرِّع ، إنما تنفع العبد الذي اهتدى .
ثم يذكر المقابل { وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين } [ النمل : 92 ] أنا لا يعنيني إلا أنني من المنذرين ، وأنت إنما تضلّ على نفسك ، وتتحمل عاقبة ضلالك .
وبعد أنْ أتممتَ ما خاطبك ربك به بأنْ تعبدَ ربَّ هذه البلدة وكنتَ من المسلمين ، وبعد أنْ تلوتَ القرآن ، واستدمت الأُنس واللذَّة بسماع الله يتكلم ، ثم بلَّغته للناس ، فإذا فعلتَ كل هذا أحمد الله الذي وفَّقك إليه : { وَقُلِ الحمد للَّهِ }
(1/6811)

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
أي : الحمد لله على نعمه وعلى ما هدانا ، والحمد لله الذي لا يُعذِّب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه ، والإنذار إليه .
والله سيريكم آياته في أنفسكم وفي غيركم ، فتعرفون دلائل قدرته سبحانه ووحدانيته في أنفسكم ، وفي السماوات والأرض .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ النمل : 93 ] .
بل هو شهيد على كل شيء .
(1/6812)

طسم (1)
الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن مرة يأتي حرف واحد مثل ( ق ، ن ) أو حرفان مثل ( طس ، حم ) أو ثلاثة أحرف مثل ( الم ، طسم ) أو أربعة مثل ( المر ) أو خمسة مثل ( حمعسق ، كهيعص ) وكل منها له مفتاح وأسرار لم يفتح علينا بعد لمعرفته وما قلنا في معنى هذه الحروف مجرد محاولات على الطريق .
(1/6813)

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
يعني : ما يأتي في هذه السورة آيات الكتاب المبين .
(1/6814)

نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
أي : نقص عليك { مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ } [ القصص : 3 ] والنبأ : الخبر الهام الذي يجب الالتفات إليه ، وهل هناك أهم من إرسال موسى عليه السلام إلى مَن ادعى الألوهية؟ لذلك أفرد لهما هذه السورة ، فلم يَرِدْ فيها ذِكْر آخر إلا لقارون؛ لأنها تعالج مسألة القمة ، مسألة التوحيد ، وتردّ علىَ مَنِ ادّعى الألوهية ، ونازع الله تعالى في صفاته .
قوله { بالحق } [ القصص : 3 ] لأن تلاوته وقصصه حق ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] .
والقصص مأخوذ من قصِّ الأثر وتتبّعه ، وقد اشتُهِر به بعض العرب قديماً ، ومهروا فيه حتى إنهم ليعرفون أثر الرجل من أثر المرأة . . ألخ ، وقد اشتُهِرت عندهم قصة الرجل الذي فقد جمله ، وقابل أحد القصاصين ، وسأله عنه فقال : جملك أبتر الذَّنَب؟ قال : نعم ، قال : أعور؟ قال : نعم ، قال : أعرج؟ عندها لم يشكّ صاحب الجمل أن هذا الرجل هو الذي أخذ جمله ، فأمسك به وقاضاه .
وفي مجلس القضاء ، قال الرجل : والله ما أخذتُ جملك ، كلني رأيتُ الجمل يبعثر بَعْره خلفه ، أما هذا فيضع بَعْره مرة واحدة ، فعرفتُ أنه مقطوع الذنب ، ورأيت أحد أخفافه لا يؤثر في الرمل فعرفتُ أنه أعرج ، ورأيته يأكل من ناحية ويترك الأخرى فعرفتُ أنه أعور .
والحق تبارك وتعالى حين يقصُّ علينا يقصُّ الواقع ، فقَصص القرآن لا يعرف الخيال كقصص البشر؛ لذلك يسميه القصص الحق ، وأحسن القصص ، لأنه يروي الواقع طِبْق الأصل .
(1/6815)

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
معنى { عَلاَ } [ القصص : 4 ] من العلو أي : استعلى ، والمستعلَى عليه هم رعيته ، بل علا على وزرائه والخاصة من رعيته ، وعلا حتى على الله عز وجل فادَّعى الألوهية ، وهذا منتهى الاستعلاء ، ومنتهى الطغيان والتكبُّر ، وما دامت عنده هذه الصفات وهو بشر وله هوىً فلا بُدَّ أنْ يستخدمها في إذلال رعيته .
{ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } [ القصص : 4 ] جمع شيعة ، وهي الطائفة التي لها استقلالها الخاص ، والمفروض في المُمَلَّك أنْ يُسوِّي بين رعيته ، فلا تأخذ طبقة أو جماعة حظوه عن الأخرى ، أما فرعون فقد جعل الناس طوائف ، ثم يسلِّط بعضها على بعض ، ويُسخِّر بعضها لبعض .
ولا شكَّ أن جَعْل الأمة الواحدة عدة طوائف له مَلْحظ عند الفاعل ، فمن مصلحته أن يزرع الخلاف بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض ، فلا تستقر بينهم الأمور ، ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهزّ عرشه من تحته ، فيظل هو مطلوباً من الجميع .
والقبط كانوا هم سكان مصر والجنس الأساسي بها ، ثم لما جاءها يوسف عليه السلام واستقرَّ به الأمر حتى صار على خزائنها ، ثم جاء إخوته لأخْذ أقواتهم من مصر ، ثم استقروا بها وتناسلوا إلا أنهم احتفظوا بهويتهم فلم يذوبوا في المجتمع القبطي .
وبالمناسبة يخطىء الكثيرون فيظنون أن القبطيَّ يعني النصراني وهذا خطأ ، فالقطبي يعني المصري كجنس أساسي في مصر ، لكن لما استعمرت الدولةُ الرومانية مصرَ كان مع قدوم المسيحية فأطلقوا على القبطي ( مسيحي ) .
لكن ، ما السبب في أن فرعون جعل الناس طوائف ، تستعبد كلٌّ منها الأخرى؟ قالوا : لأن بني إسرائيل كانوا في خدمة المستعمر الذي أزاح حكم الفراعنة ، وهم ملوك الرعاة ، فلما طُرِد ملوك الرعاة من مصر كان طبيعياً فيمَنْ يحكم مصر أن يضطهد بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا موالين لأعدائه ، ويسيرون في ركابهم ، ومن هنا جاء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل .
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن ملوك مصر في القديم وفي الحديث يُسمِّيهم فراعنة ، كما في قوله تعالى : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 10 ] .
وهنا في قصة موسى عليه السلام قال أيضاً : فرعون : أما في قصة يوسف عليه السلام فلم يأْتِ ذكْر للفراعنة ، إنما قال { الملك } [ يوسف : 43 ] وهذه من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم؛ لأن الحكم في مصر أيام يوسف كان لملوك الرعاة ، ولم يكُنْ للفراعنة ، حيث كانوا يحكمون مصر قبله وبعده لما استردوا مُلْكهم من ملوك الرُّعاة؛ لذلك في عهد يوسف بالذات قال { الملك } [ يوسف : 50 ] فلم يكُنْ للفرعون وجود في عصر يوسف .
فمعنى { سْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } [ القصص : 4 ] يعني : تستبد طائفة الأقباط ، وهم سكان مصر الأصليون بطائفة بني إسرائيل لينتقموا منهم جزاءَ موالاتهم لأعدائهم .
وأول دليل على بطلان ألوهية فرعون أن يجعل أمته شِيَعاً ، لأن المألوهين ينبغي أن يكونوا جميعاً عند الإله سواء؛ لذلك يقول تعالى في الحديث عن موكب النبوات :
(1/6816)

{ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] .
ذلك لأن دين الله واحد ، وأوامره واحدة للجميع ، فلو كنتم مُتمسِّكين بالدين الحق لجعلتُم الناس جميعاً شيعة واحدة ، لا يكون لبعضهم سلطة زمنية على الآخرين ، فإذا رأيت في الأمة هذه التفرقة وهذا التحزُّب فاعلم أنهم جميعاً مدينون؛ لأن الإسلام كما قُلْنا في صفائه كالماء الذي لا طعمَ له ، ولا لون ، ولا رائحة .
وهذا الماء يحبه الجميع ولا بُدَّ لهم منه لاستبقاء حياتهم ، أما أن نُلوِّن هذا الماء بما نحب ، فأنت تحب البرتقال ، وأنا أحب المانجو . وهذا يحب الليمون . . إلخ إذن : تدخلتْ الأهواء ، وتفرَّق الدين الذي أراده الله مجتمعاً .
لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ستفترق أمتي بِضْع وستون ، أو بضع وسبعون فرقة ، كلُّهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي " .
فشيعة الإسلام إذن واحدة ، أما أن نرى على الساحة عشرات الفِرَق والشِّيَع والجماعات ، فأيّها يتبع المسلم؟ إذن : ما داموا قد فرَّقوا دينهم ، وكانوا شِيعاً فلسْتَ منهم في شيء .
ثم يُفسِّر الحق سبحانه هذا الاستضعاف { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } [ القصص : 4 ] فيقول { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } [ القصص : 4 ] وقلنا : إن الإفساد أن تأتي على الصالح بذاته فتفسده ، فمن الفساد إذن قتْل الذُّكْران واستحياء النساء؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا باستبقاء النوع ، فقتل الذّكْران يمنع استبقاء النوع ، واختار قَتْل الذكْران : لأنهم مصدر الشر بالنسبة له ، أمّا النساء فلا شوكة لهُنَّ ، ولا خوفَ منهن؛ لذلك اتسبقاهُنَّ للخدمة وللاستذلال .
وحين نتتبع هذه الآية نجد أنها جاءت في مواضع ثلاثة من كتاب الله ، لكل منها أسلوب خاص ، ففي الآية الأولى يقول تعالى : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [ البقرة : 49 ] .
وفي موضع آخر : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ } [ الأعراف : 141 ] وهاتان الآيتان على لسان الحق تبارك وتعالى .
أما الأخرى فحكاية من الله على لسان موسى عليه السلام حين يُعدِّد نِعَم الله تعالى على بني إسرائيل ، فيقول :
{ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } [ إبراهيم : 6 ] .
فالواو في { وَيُذَبِّحُونَ } [ إبراهيم : 6 ] لم ترد في الكلام على لسان الله تعالى ، إنما وردتْ في كلام موسى؛ لأنه في موقف تَعداد نِعَم الله على قومه وقصده؛ لأن يُضخِّم نعم الله عليهم ويُذكِّرهم بكل النعم ، فعطف على { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } [ إبراهيم : 6 ] قوله { وَيُذَبِّحُونَ } [ إبراهيم : 6 ] .
لكن حين يتكَلَّم الله تعالى فلا يمتنُّ إلا بالشيء الأصيل ، وهو قتْل الأولاد واستحياء النساء؛ لأن الحق تبارك وتعالى لا يمتنّ بالصغيرة ، إنما يمتنُّ بالشيء العظيم ، فتذبيح الأبناء واستحياء النساء هو نفسه سوء العذاب .
وقوله مرة { يُذَبِّحُونَ } [ البقرة : 49 ] ومرة { يُقَتِّلُونَ } [ الأعراف : 141 ] لأن قتل الذّكْران أخذ أكثر من صورة ، فمرَّة يُذبِّحونهم ومرة يخنقونهم .
ومعنى : { يَسُومُونَكُمْ } [ الأعراف : 141 ] من السَّوْم ، وهو أنْ تطلب الماشية المرعى ، فنتركها تطلبه في الخلاء ، وتلتقط رزقها بنفسها لا نقدمه نحن لها ، وتسمى هذه سائمة ، أما التي نربطها ونُقدِّم لها غذاءها فلا تُسمَّى سائمة .
فالمعنى { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } [ الاعراف : 141 ] يعني : يطلبون لكم سوء العذاب ، وما داموا كذلك فلا بُدَّ أنْ يتفنَّنوا لكم فيه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ }
(1/6817)

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
فلن يدوم لفرعون هذا الظلم؛ لأن الله تعالى كتب ألاّ يفلح ظَلُوم ، وألاَّ يموت ظلوم ، حتى ينتقم للمظلوم منه ، ويُريه فيه عاقبة ظلمه ، حتى إن المظلوم ربما رحم الظالم ، وحَسْبك من حادث بامرىء ترى حاسديه بالأمس ، راحمين له اليوم .
وهنا تُطالعنا غضبة الحق تبارك وتعالى للمؤمنين { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } [ القصص : 5 ] والمنة : عطاء مُعوّض ، وبدون مجهود من معطي المنة ، كأنها هِبَة من الحق سبحانه ، وغضبة لأوليائه وأهل طاعته؛ لأن الحق تبارك وتعالى كما قال الإمام علي : إن الله لا يُسلِم الحق ، ولكن يتركه ليبلو غَيْرة الناس عليه ، فإذا لم يغاروا عليه غَارَ هو عليه .
والحق تبارك وتعالى حينما يغَارُ على الذين استُضعِفوا لا يرفع عنهم الظلم فحسب ، وإنما أيضاً { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } [ القصص : 5 ] أئمة في الدين وفي القيم ، وأئمة في سياسة الأمور والملك { وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } [ القصص : 5 ] أي : يرثون مَنْ ظلمهم ، ويكونون سادةً عليهم وأئمةً لهم ، فانظر على كم مرحلة تأتي غيرة الله لأهل الحق .
ولولا أن فرعون الذي قوي على المستضعفين وأذلَّهم تأبَّى على الله ورفض الانقياد لشملته رحمة الله ، ولعاشَ هو ورعيته سواء؟
لذلك أهل الثورات الذين جاءوا للقضاء على أصحاب الفساد وإنصاف شعوبهم ممَّنْ ظلمهم ، كان عليهم بعد أنْ يقضوا على الفساد ، وبعد أن يمنعوا المفسد أن يُفسِد ، ويحققوا العدالة في المجتمع ، كان عليهم أنْ يضموا الجميع إلى أحضانهم ورعايتهم ، ويعيش الجميع بعد تعديل الأوضاع سواسية في مجتمعهم ، وبذلك نأمن الثورة المضادة .
ثم يقول تعالى استكمالاً لمِنَّته : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض }
(1/6818)

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
قوله تعالى { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض } [ القصص : 6 ] نعرف أن الأرض مكان يحدث فيه الحدَث ، لأن كل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان ، فالمعنى : نجعل الأرض مكاناً لممكَّن فيها ، والتمكين يعني : يتصرف فيها تسلطاً ، ويأخذ خيرها .
وقد شرح الحق سبحانه لنا التمكين في عدة مواضع من القرآن ، ففي قصة يوسف عليه السلام : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : 54 ] مكين يعني : لك عندنا مكانة ومركز ثابت لا ينالُك أحد بشيء ، ومنها قوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } [ يوسف : 21 ] يعني : أعطيناه سلطة يأخذ بها خير المكان ، ثم يُصرِّف هذا الخير للآخرين .
وقوله تعالى : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [ القصص : 6 ] وهامان هو وزير فرعون ، ولا بد أنه كان لكل منهما جنود خاصة غير جنود الدولة عامة ، كما نقول الآن : الحرس الجمهوري ، و الحرس الملكي ، والجيش .
أو : أن هامان يصنع من باطن فرعون ، فالملِك لا يزاول أموره إلا بواسطة وزرائه ، وفي هذه الحالة يأخذ الجنود الأوامر من هامان . أو : أن هامان كان له سلطة ومركز قوة لا تقل أهمية عن سلطة فرعون ، وربما رفع رأسه وتطاول على فرعون في قوت من الأوقات .
وقد رأينا هذا عندنا في مصر لذلك يقولون في المثل الريفي المعروف : تقول لمن يحاول خداعك ( على هامان ) ؟ يعني : أنا لا تنطلي عليَّ هذه الحيل .
والضمير في { مِنْهُمْ } [ القصص : 6 ] يعود على المستضعفين { مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [ القصص : 6 ] أي : سنريهم الشيء الذي يخافون منه ، والمراد النبوءة التي جاءتهم ، إما عن طريق الكهنة ، أوعن طريق الرُّؤْيا ، حيث رأى فرعون ناراً تأتي من بيت المقدس ، وتتسلط على القِبْط في مصر ، لكنها لا تؤذي بني إسرائيل ، فلما عبَّروا له هذه الرؤيا قال : لا بد أنه سيأتي من هذه البلد من يسلب مني مُلْكي .
ويُرْوى أنه الكهنة أخبروه أنه سيُولد في هذه السنة مولود يكون ذهاب مُلْكك على يديه .
فسوف يرى فرعون وقومه هذه المسألة بأعينهم ويباشرونها بأنفسهم ، وسيقع هذا الذي يخافون منه؛ لذلك أمر فرعون بقتْل الذكْران من بني إسرائيل ليحتاط لأمره ، ويُبقِي على مُلْكه ، لكن هذا الاحتياط لم يُغنِ عنه شيئاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى }
(1/6819)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
عجيب أمر فرعون ، فبعد أن أمر بقتل الأولاد من بني إسرائيل يأتيه في البحر تابوت به طفل رضيع ، فلا يخطر على باله أن أهله ألقوه في البحر لينجو من فرعون ، فكيف فاتتْه هذه المسألة وهو إله؟ لم يعرفها بألوهيته ، ولا عرفها حتى بذكائه وفِطْنته .
وإذا كان الكهنة أخبروه بأن ذهاب مُلْكه على يد وليد من هؤلاء الأولاد ، وإذا كانت هذه النبوءة صحيحة فلا بُدَّ أن الولد سينجو من القتل ويكبر ، ويقضي على مُلْك فرعون ، وما دام الأمر كذلك فسوف يقتل فرعون الأولاد غير الذي سيكون ذهاب مُلْكه على يديه .
وتشاء إرادة الله أنْ يتربَّى موسى في قصر فرعون ، وأنْ تأتي إليه أمه السيدة الفقيرة لتعيش معه عيشة الترف والثراء ، ويصير موسى بقدرة الله قُرَّة عَيْن للملكة ، فانظر إلى هذا التغفيل ، تغفيل عقل وطمس على بصيرة فرعون الذي ادَّعى الألوهية .
وبذلك نفهم قول الله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] فقلبه يُغطِّي على بصيرته ويُعمِّيها .
قوله تعالى لأم موسى : { أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] فمَنْ مِنَ النساء تقبل إنْ خافت على ولدها أنْ تُلقيه في اليم؟ مَنْ ترضى أَنْ تُنجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟ وقد جعل الحق سبحانه عاطفة الأمومة تتلاشى أمام وارد الرحمن الذي أتاها ، والذي لا يؤثر فيه وارد الشيطان .
ثم يهيىء الحق سبحانه كذلك امرأة فرعون ليتم هذا التدبير الإلهي لموسى فتقول { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] .
فيرد عليها فرعون : بل لك أنت وحدك ، وكأنه يستشعر ما سيحدث ، ولكن إرادة الله لا بُدَّ نافذة ولا بُدَّ أن يأخذ القدر مجراه لا يمنعه شيء؛ لأن الله تعالى إذا أراد شيئاً فلا رادّ لإرادته .
فمع ما علمه فرعون من أمر الرؤيا أو النبوءة رُبّي الوليد في بيته ، ولا يخلو الأمر أيضاً من سيطرة المرأة على الرجل في مثل هذا الموقف .
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما قُرِئت هذه الآية قال : " والذي يُحلف به ، لو قال فرعون كما قالت امرأته قرة عين لي ولك لهداه الله كما هداها " إنما ردَّ الخير الذي ساقه الله إليه؛ لذلك أسلمتْ زوجته وماتت على الإيمان .
وهي التي قالت : { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] أما هو فمات على كفره شَرَّ ميتة .
وسبق أنْ تكلّمنا في وحي الله لأم موسى { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] وقلنا : إن الوحي في عموم اللغة : إعلام بطريق خفي دون أن تبحث عن الموحِي ، أو الموحَى إليه ، أو الموحَى به .
(1/6820)

أما الوَحْي الشرعي فإعلام من الله تعالى لرسوله بمنهج لخَلْقه .
فالله تعالى يوحي للملائكة : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] .
ويُوحى إلى الرسل : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ النساء : 163 ] .
ويُوحي للمؤمنين الصادقين في خدمة رسول : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } [ المائدة : 111 ] .
يوحي إلى النحل ، بل وإلى الجماد : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 15 ] .
وقد يكون الإعلام والوحي من الشيطان : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] .
ويكون من الضالين : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] .
فالوَحْي إلى أم موسى كان وَحْياً من المرتبة الرابعة بطريق النَّفْث في الروع ، أو الإلهام ، أو برؤيا ، أو بملَك يُكلِّمها ، هذا كله يصح .
وهذا الوحي من الله ، وموضوعه { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] وهذا أمر { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } [ القصص : 7 ] نهى { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] وهذه بشارة في خبرين . فهذه الآية إذن جمعتْ لأم موسى أمرين ، ونهيين ، وبشارتين في إيجاز بليغ مُعْجز .
ومعنى { أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] يعني : مدة أمانك عليه { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } [ القصص : 7 ] ولم يقل من أيِّ شيء ليدلّ على أيِّ مخوف تخشاه على وليدها { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] ويراعي الحق سبحانه مشاعر الأم وقَلقها على ولدها ، خاصة إذا ألقتْه في البحر فيطمئنها { وَلاَ تَخَافِي } [ القصص : 7 ] لأن الله سيُيسِّر له تربية خيراً من تربيتك في ظل بيت الغِنَى والملْك .
{ وَلاَ تحزني } [ القصص : 7 ] أي : لفراقه؛ لأن هذا الفراق سيُعوِّضك ، ويُعوِّض الدنيا كلها خيراً ، حين يقضي على هذا الطاغية ، ويأتي بمنهج الله الذي يحكم خَلْق الله في الأرض .
ثم اعلمي بعد هذا أن الله رادُّه إليك ، بل وجاعله من المرسلين ، إذن : أنا الذي أحفظه ، وليس من أجلك فحسب ، إنما أيضاً لأن له مهمة عندي .
يقولون : ظلت أم موسى تُرضِعه في بيتها طالما كانت آمنة عليه من أعين فرعون ، إلى أنْ جاءها أحَد العسس يفتش البيت فخافت على الولد فلفته في خرقة ودسته في فجوة بجوارها ، كانت هذه الفجوة هي الفُرْن ، ألقتْه فيه وهو مسجور دون أن تشعر يعني من شدة خوفها عليه حتى إذا ما انصرف العَسَس ذهبت إليه ، فإذا به سالماً لم يُصِبْه سوء . وكأن الله تعالى يريد لها أنْ تطمئن على حِفْظ الله له ، وأن وعده الحق .
وقد وردت مسألة وحي الله لأم موسى في كتاب الله مرتين مما دعا السطحيين من المستشرقين إلى اتهام القرآن بالتكرار الذي لا فائدةَ منه ، وذكروا قوله تعالى :
(1/6821)

{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 3839 ] .
لكن فَرْق بين الوحي الأول والوحي الآخر : الوحي الأول خاص بالرضاعة في مدة الأمان ، أما الآخر فبعد أنْ خافت عليه أوحى إليها لتقذفه في اليم .
وتأمل { أَنِ اقذفيه } [ طه : 39 ] والقذف إلقاء بقوة ، لا أنْ تضعه بحنان ورفق؛ لأن عناية الله ستحفظه على أي حال { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } [ طه : 39 ] وهذا أمر من الله تعالى لليمِّ أن يخرج الوليد سالماً إلى الساحل؛ لذلك لم يأت في هذا الوحي ذِكْر لعملية الرضاعة .
فكأن الوحي الأول جاء تمهيداً لما سيحدث؛ لتستعد الأم نفسياً لهذا العمل ، ثم جاء الوحي الثاني للممارسة والتنفيذ ، كما تُحدِّث جارك ، وتُحذِّره من اللصوص وتنصحه أنْ يحتاط لهذا الأمر ، فإذا ما دخل الليل حدث فعلاً ما حذّرتَه منه فَرُحْت تنادي عليه ليسرع إليهم ويضربهم .
لذلك يختلف أسلوب الكلام في الوحي الأول ، فيأتي رتيباً مطمئناً : { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] هكذا في نبرة هادئة لأن المقام مقام نصح وتمهيد ، لا مقام أحداث وتنفيذ .
أما الوحي الثاني فيأتي في سرعة ، وبنبرة حادة : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } [ طه : 39 ] فالعَجلة في اللفظ تدلُّ على أن المقام مقام مباشرة للحدث فعلاً .
وفي الأولى قال { فَأَلْقِيهِ } [ القصص : 7 ] ، أما في الثانية فقال { فاقذفيه } [ طه : 39 ] والأم لا تقذف وليدها ، بل تضعه بحنان وشفقة ، لكن الوقت هنا ضيِّق لا يتسع لممارسة الحنان والشفقة .
والأمر لليمِّ بأن يلقي التابوت بالساحل له حكمة؛ لأن العمق موضع الحيوانات البحرية المتوحشة التي يُخاف منها ، أمَّا بالقُرْب من الساحل فلا يوجد إلا صغار الأسماك التي لا خطورة منها ، وكذلك ليكون على مَرْأى العين ، فيطمئن عليه أهله ، ويراه مَنْ ينقذه ليصل إلى البيت الذي قُدِّر له أنْ يتربّى فيه .
وفعلاً ، وصل التابوت إلى الساحل ، وكان فرعون وزوجته آسية وابنته على الشاطىء ، فلما أُخرِج لهم التابوت وجدوا فيه الطفل الرضيع ، وكان موسى عليه السلام أسمر اللون ، مُجعَّد الشعر ، كبير الأنف ، يعني لم يكُنْ عليه السلام جميلاً تنجذب إليه الإنظار ويفرح به مَنْ يراه .
لذلك يمتنُّ الله عليه بقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] أي : ليس بذاتك أن يحبك مَنْ يراك إنما بمحبة الله ، لذلك ساعة رأته آسية أحبَّته وانشرح صدرها برؤيته ، فتمسكَّت به رغم معارضة فرعون لذلك .
كما أن ابنة فرعون ، وكانت فتاة مبروصة أصابها البرص ، ورأت في الرؤيا أن شفاءها سيكون بشيء يخرج من البحر ، فتأخذ من ريقه ، وتدهن موضع البرص فيشفى ، فلما رأتْ موسى تذكرتْ رؤياها ، فأخذت من ريقه ودهنتْ جلدها ، فشُفِيت في الحال فتشبثتْ به هي أيضاً .
(1/6822)

فاجتمع لموسى محبة الزوجة ، ومحبة البنت ، وهما بالذات أصحاب الكلمة المسموعة لدى فرعون ، بحيث لا يرد لهما طلباً .
وفي انصياع فرعون لرغبة زوجته وابنته وضعفه أمامهما رغم ما يعلم من أمر الطفل دليلٌ على أن الزوجة والأولاد هما نقطة الضعف عند الرجل ، ووسيلة السيطرة على شهامته وحزمه ، والضغط على مراداته .
لذلك يطمئننا الحق تبارك وتعالى على نفسه ، فيقول سبحانه وتعالى { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [ الجن : 3 ] .
ذلك لأن الصاحبة غالباً ما تستميل زوجها بوسيلة أو بأخرى ، أما الولد فيدعو الأب إلى الجبْن والخضوع ، والحق تبارك وتعالى لا يوجد لديه مراكز قوى ، تضغط عليه في أي شيء ، فهو سبحانه مُنزَّه عن كل نقص .
وحكوا في دعابات أبي نواس أن أحدهم وسَّطه ليشفع له عند الخليفة هارون الرشيد ، فشفع له أبو نواس ، لكن الخليفة لم يُجِبْه إلى طلبه ، وانتظر الرجل دون جدوى ، ففكر في وساطة أخرى ، واستشفع بآخر عند زبيدة زوجة الرشيد ، فلما كلَّمته أسرع إلى إجابة الرجل ، وهنا غضب أبو نواس وعاتب صاحبه الرشيد ، لكنه لم يهتم به ، فقال له اسمع إذن :
ليسَ الشَّفِيعُ الذِي يأتِيكَ مُؤتزراً ... مثْلَ الشَّفِيع الذِي يأتِيكَ عُرْيانا
ولهذه العناية الإلهية بموسى عليه السلام نلحظ أنه لما قال له ربه { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } [ طه : 24 ] خاف موسى من هذه المهمة ، وكان اسم فرعون في هذا الوقت يُلقي الرعب في النفوس ، حتى أن موسى وهارون قالا { رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] .
لذلك طلب موسى من ربه ما يُعينه على القيام بمهمته : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي * واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } [ طه : 2537 ] .
أي : أوتيت كل مسئولك ومطلوبك .
ثم يقول الحق سبحانه : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ }
(1/6823)

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
اللَّقطُ واللُّقطة : أن تجد شيئاً بدون طلب له ، ومنه اللقيط ، وهو الطفل الرضيع تجده في الطريق دون قَصْد منك ، أو بحث . وكذلك كان الأمر مع التابوت ، فقد جاء آل فرعون وهم جلوس لم يَسْمعَوْا إليه ، ولم يطلبوه ، فما أنْ رأوه أخذوه ، لكن ما علة التقاطه؟
الزوجة قالت { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] وقالت في حيثية أخرى : { عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [ القصص : 9 ] فلم يكن لهم بنون ، فأرادوا أخاً للبنت ، وأرادته البنت صيدلية علاج ، لكن هل ظلتْ هذه العلة قائمة ووجدت فعلاً؟
لا ، إنما التقطوه لتقدير آخر { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] لا ليكون قرة عين ، فاللام هنا في { لِيَكُونَ } [ القصص : 8 ] لام العاقبة يعني : كان يفكر لشيء ، فجاءت العاقبة بشيء آخر .
وفي هذا إشارة وبيان لغباء فرعون والطمس على بصيرته وهو الإله!! فبعد أنْ حذَّره الكهنة ، وبعد الرُّؤْيا الي رآها وعِلْمه بخطورة هذا المولود على مُلْكه وعلى حياته يرضى أنْ يُربِّيه في بيته ، وهذا دليل صِدْق قوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] .
ومعنى { وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] يعني حُزْن مثل : عَدَم وعُدْم ، وسَقَم وسُقْم ، وبَخَل وبُخْل ، فالمعنى يأتي بالصيغتين .
وقول الحق سبحانه : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } [ القصص : 8 ] .
هم خاطئون؛ لأن تصرفاتهم لا تتناسب مع ما عرفوه من أمر الوليد ، فلم يُقدِّروا المسائل ، ولم يستنبطوا العواقب ، وكان عليهم أن يشكُّوا في أمر طفل جاء على هذه الحالة ، فلا بُدَّ أن أهله قصدوا نجاته من يد فرعون .
(1/6824)

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
معنى { قُرَّةُ عَيْنٍ } [ القصص : 9 ] مادة قرَّ تقول : قرَّ بالمكان يعني : أقام وثبت به ، ومنه قرور يعني : ثبات ، وتأتي قرَّ بمعنى البرد الشديد ، ومنه قول الشاعر :
أَوْقِدْ فإنَّ الليْلَ لَيْلٌ قُرٌّ ... والرِّيحُ يَا غُلاَمُ رِيحٌ صرّ
إنْ جلبْتَ ضَيْفاً فأنتَ حُرّ ... إذن : قرة العين إما بمعنى ثباتها وعدم حركتها ، وثبات العين واستقرارها إما يكون ثباتاً حسياً ، أو معنوياً ، والثبات المعنوي : أنْ تستقر العين على منظر أو شيء بحيث تكتفي وتقنع به ، ويغنيها عن التطلُّع لغيره .
ومنه قولهم : فلان ليس له تطلعات أخرى ، يعني اكتفى بما عنده ، ومنه ما قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [ طه : 131 ] .
لذلك يُسمُّون الشيء الجميل الذي يجذب النظر ، فلا ينظر إلى غيره ( قيد النظر ) يقول الشاعر :
سَمَّرْتُ عَيْني في القَمَرِ ... فَنَالَ مِنِّي مَنْ نَظَر
يَا ليْتَ لائمي عذر ... فحُسْنه قَيْد النَّظرْ
أما الثبات الحسي فيعني : ثبات العين في ذاتها بحيث لا ترى ، ومنه قول المرأة للخليفة : أقرَّ الله عينك ، وأتم عليك نعمتك . تُوهِم أنها تدعو له ، وهي في الحقيقة تدعو عليه تقصد : أقرَّ الله عينك .
يعني : سكَّنها وجمدها بالعمى ، وأتمَّ عليك نعمتك . وتمام الشيء بداية نقصه على حَدِّ قول الشاعر :
إذَا تَمَّ شَيء بَدَا نَقْصُه ... ترقَّبْ زَوَالاً إذاَ قِيلَ تَمّ
أما القرُّ بمعنى البرد ، فمن المعلوم عن الحرارة أن من طبيعتها الاستطراق والانتشار في المكان ، لكن حكمة الله خرقتْ هذه القاعدة في حرارة جسم الإنسان ، حيث جعل لكل عضو فيه حرارته الخاصة ، فالجلد الخارجي تقف حرارته الطبيعية عند 37ْ ، في حين أن الكبد مثلاً لا يؤدي مهمته إلا عند 40ْ .
أما العين فإذا زادتْ حرارتها عن 9ْ تنصهر ، ويفقد الإنسان البصر ، والعجيب أنهما عضوان في جسم واحد ، فهي آية من آيات الله في الخلق ، لذلك حين ندعو لشخص نقول له : أقرَّ الله عينك يعني : جعلها باردة سالمة ، ألاَ ترى أن الإنسان إذا غَضِب تسخنُ عينه ويحمّر وجهه؟
فالمعنى هنا { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] يعني يكون نعمة ومتعة لنا ، نفرح به ونقنع ، فلا ننظر إلى غيره .
وفي موضع آخر يشرح لنا الحق سبحانه قُرَّة العين : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ الأحزاب : 1819 ] .
فهؤلاء تدور أعينهم هنا وهناك كما نقول نحن : ( فلان عينه لا يجة ) يعني : لا تهدأ ، إما من خوف ، أو من قلق ، أو من اضطراب ، وهذا كله ينافي قُرَّة العين .
وقولها بعد ذلك { لاَ تَقْتُلُوهُ } [ القصص : 9 ] تعني : أنهم فعلاً هَمُّوا بقتله ، ففي بالهم إذن أن هلاك فرعون على يدي هذا الطفل ، وهم على يقين من ذلك .
{ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ القصص : 9 ] يعني : لا يشعرون بنفعه لهم أو عدم نفعه ، وهل سيكون لهم ولداً أم عدواً؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى }
(1/6825)

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
الفؤاد : هو القلب ، لكن لا يُسمى القلب فؤاداً إلا إذا كانت فيه قضايا تحكم حركتك ، فالمعنى : أصبح فؤاد أم موسى { فَارِغاً } [ القصص : 10 ] أي : لا شيء فيه مما يضبط السلوك ، فحين ذهبتْ لترمي بالطفل وتذكرت فراقه وما سيتعرض له من أخطار كادت مشاعر الأمومة عندها أن تكشف سِرَّها ، وكادت أنْ تسرقها هذه العاطفة .
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } [ القصص : 10 ] يعني : تكشف أمره { لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] .
وسبق أنْ قُلْنا : إن الإنسان يدرك الأشياء بآلات الإدراك عنده ، ثم يتحول هذا الإدراك إلى وجدان وعاطفة ، ثم إلى نزوع وعمل ، ومثَّلْنا لذلك بالوردة التي تراها بعينيك ، ثم تعجب بها ، ثم تنزع إلى قطفها ، وعند النزوع تواجهك قضايا في الفؤاد تقول لك : لا يحق لك ذلك ، فربما رفض صاحب البستان أو قاضاك ، فالوردة ليست مِلْكاً لك .
وكذلك أم موسى ، كان فؤادها فارغاً من القضية التي تُطمئنها على وليدها ، بحيث لا تُفشي عواطفها هذا السر .
ومعنى { رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] أي : ثبَّتْناها ليكون الأمر عندها عقيدة راسخة لا تطفو على سطح العاطفة ، ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الكهف : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } [ الكهف : 14 ] .
إذن : الربْط على القلب معناه الاحتفاظ بالقضايا التي تتدخل في النزوع ، فإنْ كان لا يصح أن تفعل فلا تفعل ، وإنْ كان يصح أنْ تفعل فافعل ، فهذه القضايا الراسخة هي التي تضبط التصرفات ، وكان فؤاد أم موسى فارغاً منها .
لذلك نقول لمن يتكلم بالكلام الفارغ الذي لا معنى له : دَعْكَ من هذا الكلام الفارغ أي : الذي لا معنى له ولا فائدةَ منه ، ومن ذلك قولهم : فلان عقله فارغ يعني : من القضايا النافعة . وإلا فليس هناك شيء فارغ تماماً ، لا بُدَّ أن يكون فيه شيء ، حتى لو كان الهواء .
ومنه قوله تعالى : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [ إبراهيم : 43 ] ويقولون في العامية : ( فلان معندوش ولا الهوا ) ذلك لأن الهواء آخر ما يمكن أن يفرغ منه الشيء .
ومعنى : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } [ القصص : 10 ] يعني : قاربت من فراغ فؤادها أن تقول إنه ولدي { لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ القصص : 10 ] لإن الإيمان هو الذي يجلب لك النفع ، ويمنعك من الضار ، وإنْ كان فيه شهوة عاجلة لك ، فمنعها إيمانُها من شهوة الأمومة في هذا الموقف ، ومن ممارسة العطف والحنان الطبيعيين في الأم؛ لأن هذه شهوة عاجلة يتبعها ضرر كبير ، فإنْ أحسُّوا أنه ولدها قتلوه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ }
(1/6826)

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
قُصِّيه : يعني : تتبعي أثره ، وراقبي سيره إلى إين ذهب؟ وماذا فُعِل به؟ وحين سمعت الأخت هذا الأمر سارعتْ إلى التنفيذ؛ لذلك استخدم الفاء الدالة على التعقيب وسرعة الاستجابة { فَبَصُرَتْ بِهِ } [ القصص : 11 ] ولم يقُلْ : فقصَّته؛ لأن البصر وإنْ كان بمعنى الرؤية إلا أنه يدل على العناية والاهتمام بالمرئي .
ومعنى : { عَن جُنُبٍ } [ القصص : 11 ] من ناحية بحيث لا يراها أحد ، ولا يشعر بتتبعها له ، واهتمامها به . ومن ذلك ما حكاه القرآن من قول السامري : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } [ طه : 96 ] أي : رأى من حيث لا يطَّلِع أحد عليه .
ونلحظ هنا أن أخت موسى أخذتْ الأمر من أمها { قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] فقط ولم تلفت نظرها إلى هذا الاحتياط { عَن جُنُبٍ } [ القصص : 11 ] مما يدلُّ على ذكاء الفتاة وقيامها بمهمتها على أكمل وجه ، وإن لم تُكلَّف بذلك ، وهذا من حكمة المرسَل الحريص على أداء رسالته على وجهها الصحيح .
ما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى :
إذَا كُنْتَ في حَاجةٍ مُرْسِلاً ... فأَرسِلْ حَكيماً ولاَ تُوصِهْ
وقوله تعالى : { عَن جُنُبٍ } [ القصص : 11 ] يظن البعض أن جنب يعني قريب مني ، وهذا غير صحيح؛ لأن معنى الجنب ألاَّ تكون في مواجهتي ، لذلك يقول تعالى : { والجار ذِي القربى والجار الجنب } [ النساء : 36 ] إذن : الجار الجنب مقابل الجار القريب ، فمعناه الجار البعيد .
فكأن الفتاة حين ذهبت لتتبع سَيْر التابوت أخذتْ مكاناً بعيداً منه ، حتى لا يفطن أحد إلى متابعتها له .
ومن ذلك قولنا : ( فلان تجنّبني ، أو فلان واخد جنب مني ) أي : يبتعد عني ، إذن : البعض يفهم هذه الكلمة على عكس مدلولها .
ألاَ ترى لقول إبراهيم عليه السلام : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وقوله تعالى : { واجتنبوا قَوْلَ الزور } [ الحج : 3 ] فالاجتناب يعني : الابتعاد .
وفي تحريم الخمر قال تعالى : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] فطلع علينا مَنْ يقول : هذا ليس نصاً في التحريم ، لأنه لم يقُلْ حرَّمْت عليكم ، فهي مجرد موعظة ونصيحة .
ونقول : لو فهمت معنى { فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] لعلمتَ أنها أقوى في التحريم من حرمت عليكم؛ لأن معنى حرَّمتْ عليكم الخمر يعني : لا تشربوها ، أما { فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] يعني : ابتعدوا عنها كليةً شُرْباً أو بَيْعاً ، أو شراء ، أو نقلاً ، أو حتى الجلوس في مجالسها .
ثم تتحدث الآيات بعد ذلك عن تمهيدات الأقدار للأقدار ، فتقول : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع }
(1/6827)

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
التحريم هنا لا يعني التحريم بالنسبة للمكلَّف : هذا حلال وهذا حرام ، إنما { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } [ القصص : 12 ] يعني : منعناه أنْ يرضع من المرضعات اللائي يأتونَ بهن لتتقلب عليه المراضع واحدة بعد الأخرى ، إلى أن تأتيه أمه .
و { المراضع } [ القصص : 12 ] جمع مُرضِع ، ونقول أيضاً : مرضعة ، ولكل من اللفظين مدلول ، على خلاف ما يظنه البعض أنهما بمعنى واحد .
واقرأ أول سورة الحج : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] .
المرضِع : التي من شأنها أنْ تُرضع ، وصالحة لهذه العملية ، لكن المرضعة التي تُرضع الآن فعلاً ، وعلة حِجْرها طفل يلتقم ثديها ، وفي موقف القيامة ستذهل هذه عن طفلها من هَوْل ما ترى ، إذن : فالتي تذهل هي المرضعة لا المرضع .
والضمير في { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ } [ القصص : 12 ] يعود على أخت موسى؛ لأنها ما زالت في مهمة تتبُّع الولد ، وقد سمعها هامان تقول { هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [ القصص : 12 ] فقال لها : لا بدَّ أنك من أهل هذا الولد؟ وتعرفين قصَّته ، فقالت : بل ناصحون للملك مخلصون له . وفعلاً وافقوها على ما نصحتْ به؛ لأنهم معذورون ، فالولد يأبى الرضاعة من الأخريات .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ }
(1/6828)

فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وسبق أنْ وعدها الله : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] وها هو أوانُ تحقيق الوعد الأول ، وهو بُشْرى بتحقُّق الوعد الثاني { وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] لكن هذا في مستقبل الأيام ، وسوف يتحقق أيضاً .
وقوله سبحانه : { فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ } [ القصص : 13 ] يدل على أن الاسباب في يد المسبب سبحانه ، فنحن الذين رددناه ، لا أخته ولا فرعون؛ لأننا نُسيِّر الامور على وَفْق مرادنا ، ونُمهّد لها الطريق حتى أننا نحول بين المرء وقلبه ، ولينفذ قضاؤنا فيه .
وقوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القصص : 13 ] يعني : لا يعلمون أن وَعْد الله حق .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ }
(1/6829)

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
الأشُدّ : يعني القوة واكتمال النمو ، وقد حدّدوا لذلك سِنَّ الثامنة عشرة إلى العشرين { واستوى } [ القصص : 14 ] الاستواء هو بلوغُ العقلِ مرحلةَ النضج الفكري ، فلما اكتملت لموسى عليه السلام قوة الجسم ونُضْج العقل { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } [ القصص : 14 ] .
ثم يقصُّ الحق سبحانه ، فيقول : { وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ }
(1/6830)

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
أراد موسى عليه السلام أن يدخل القرية على حين غفلة من أهلها ، لأن بني إسرائيل كانوا مُضطهدين ، وكان القبط في بعض المدن ذاتَ الكثافة العددية منهم يُحرِّمون على بني إسرائيل دخول قراهم؛ لذلك اختار موسى وقت غفلة الناس ، لكنه لم يدخل في الليل لأنه لا يهتدي إلى الطريق ، فقيل : دخلها وقت القيلولة والناس في بيوتهم .
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ } [ القصص : 15 ] يعني : من بني إسرائيل { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } [ القصص : 15 ] يعني : الأقباط { فاستغاثه } [ القصص : 15 ] أي : طلب منه العَوْن والنجدة { فَوَكَزَهُ موسى } [ القصص : 15 ] يعني : ضربه بجُمْع يديه ، فجاءت نهاية القبطي وأجله مع هذه الضربة ، لا أنه مات بها ، وكثيراً ما تحدثُ هذه المسألة في شجار مثلاً بين شخصين ، فيضرب أحدهما الآخر فيقع ميتاً ، وبتشريح جثته يتبين أنه مات بسبب آخر .
ومثال ذلك : حين تكلِّف شخصاً بقضاء حاجة لك ، أو تُوسِّطه في أمر ما ، فيدخل عند المسئولين ويسعى إلى أن يقضي لك حاجتك فتقول : " فلان قضالي كذا وكذا " وهو في الحقيقة ما قضى في الأرض إلا بعد أن قضى الله في السماء .
لكن الله تعالى أراد أنْ يُكرم الواسطة ، فجعل قضاءها موافقاً لقضائه سبحانه ، فنقول في هذه الحالة : قضي الله المصلحة معه لا به .
كان القبط كما قُلْنا يكرهون بني إسرائيل ويُعذِّبونهم ، فلما قتلَ موسى القبطي زاد غضبهم وكراهيتهم لبني إسرائيل؛ لذلك أحسَّ موسى أن هذا العمل من الشيطان ، ليزيد هذه العداوة { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 15 ] .
(1/6831)

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
يُعلمنا موسى عليه السلام أن الإنسان ساعة يقترف الذنب ، ويعتقد أنه أذنب لا يكابر ، إنما ينبغي عليه أنْ يعترف بذنبه وظلمه لنفسه ، ثم يبادر بالتوبة والاستغفار { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي } [ القصص : 16 ] يعني : يا ربّ حكْمك هو الحقّ ، وأنا الظالم المعترف بظلمه .
ومن هنا كان الفَرْق بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس : آدم عصى واعترف بذنبه وأقرَّ به ، فقال { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] فقبل الله منه وغفر له . أما إبليس فعلَّل عدم سجوده : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] وقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] فردَّ الحكم على الله .
لذلك نقول لمن يُفتي بغير ما شرع الله فيُحلِّل الحرام لسبب ما ، نقول له : احذر أنْ ترَّد على الله حكمه؛ لأنك إنْ فعلتَ فأنت كإبليس حين ردَّ على الله حُكمه ، لكن أفْتِ بالحكم الصحيح ، ثم تعلَّل بأن الظروف لا تساعد على تطبيقه ، فعلى الأقل تحتفظ بإيمانك ، والمعصية تمحوها التوبة والاستغفار ، أما الكفر فلا حيلةَ معه .
فلما استغفر موسى ربه غفر له { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ القصص : 16 ] يُعرف الذنب ، ثم يغفره رحمة بنا؛ لأن الإنسان حين تصيبه غفلة فيقع في المعصية إذا لم يجد باباً للتوبة وللرجوع يئس وفقد الأمل ، وتمادى في معصيته ونسميه ( فاقد ) عنده سُعار للجريمة ، ولا مانع لديه من ارتكاب كل الذنوب .
إذن : فمشروعية التوبة الاستغفار تعطي المؤمن أملاً في أنه لن يُطرَدَ من رحمة الله ، لأن رحمة الله واسعة تسَع كل ذنوبه مهما كثُرتْ .
لذلك يقول تعالى في مشروعية التوبة { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] والمعنى : شرع لهم التوبة ، وحثَّهم عليها ليتوبوا بالفعل فيقبل منهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ }
(1/6832)

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قوله : { بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [ القصص : 17 ] يعني : بالمغفرة وعذرتني وتُبْت عليَّ { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } [ القصص : 17 ] أي : عهد الله عليَّ ألاَّ أكون مُعيناً للمجرمين .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَصْبَحَ فِي المدينة }
(1/6833)

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
أي : بعد أن قتل موسى القبطيَّ صار خائفاً منهم { يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] .
ينظر في وجوه الناس ، يرقب انفعالاتهم نحوه ، فربما جاءوا ليأخذوه ، كما يقولون : يكاد المريب أنْ يقول : خذوني ، فلو جلس قوم في مكان ، ثم فاجأهم رجال الشرطة تراهم مطمئنين لا يخافون من شيء ، أما المجرم فيفر هارباً .
ومن ذلك ما يقوله أهل الريف : ( اللي على راسه بطحة يحسس عليها ) .
وهو على هذه الحال من الخوف والترقُّب إذ بالإسرائيلي الذي استغاث به بالأمس { يَسْتَصْرِخُهُ } [ القصص : 18 ] استصرخ يعني : صرخ ، ونادى على مَنْ يُخلّصه ، وهو انفعال للاستنجاد للخلاص من مأزق ، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] .
وسبق أن تكلَّمنا في همزة الإزالة نقول : صرخ فلان يعني استنجد بأحد فأصرخه يعني : أزال سبب صراخه ، فمعنى الآية : أنا لا أزيل صراخكم ، ولا أنتم تزيلون صراخي .
عندها قال موسى عليه السلام لصاحبه الذي أوقعه في هذه الورطة بالأمس { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 18 ] تريد أنْ تُغويَني بأنْ أفعل كما فعلت بالأمس ، وما كان موسى عليه السلام ليقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه ، فلا يُلْدَغ المؤمن من جُحْر مرتين .
(1/6834)

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } [ القصص : 19 ] يعني : أن موسى حَنَّ مرة أخرى للذي من شيعته وهو الإسرائيلي وناصره ، ولكن الرجل القبطي هذه المرة واجهه { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس } [ القصص : 19 ] فهو يعرف ما حدث من موسى ، وما داموا قد عرفوا أنه القاتل ، فلا بُدَّ لهم أنْ يطلبوه ، وأن ينتقموا منه .
وقوله تعالى : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين } [ القصص : 19 ] إنْ هنا نافية يعني : ما تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض ، فقد قتلتَ نفساً بالأمس ، وتريد أنْ تقتلني اليوم .
إذن : عرفوا أن موسى هو القاتل ، وهناك ولا بُدَّ مَنْ يسعى للإمساك به ، وفي هذا الموقف لحقه الرجل المؤمن : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة }
(1/6835)

وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
هو الرجل المؤمن من آل فرعون ، جاء لينصح موسى بالخروج والهرب قبل أنْ يُمسِكوا به فيقتلوه .
(1/6836)

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
لأنهم يضطهدوننا ويعذبوننا من غير ما جريرة ، فما بالك بعد أنْ وجدوا فرصة وذريعة ليزدادوا ظلماً لنا؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ }
(1/6837)

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
معنى { تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 22 ] يعني : ناحيتها ، وأراد أنْ يهرب من مصر كلها ، ولم يكُنْ يقصد مدين بالذات ، إنما سار في طريق صادف أنْ يؤدي إلى مدين بلد شعيب عليه السلام .
ولو كانت مَدْينُ مقصودة له لما قال بعد توجهه : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } [ القصص : 22 ] فموسى حينما خرج من مصر خائفاً يريد الهرب لم يفكر في وجهة معينة ، فالذي يُهمه أنْ يخرج من هذه البلدة ، وينجو بنفسه .
(1/6838)

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
عرض القرآن الكريم هذه القصة في إيجاز بليغ ، ومع إيجازها فقد أوضحتْ مهمة المرأة في مجتمعها ، ودور الرجل بالنسبة للمرأة ، والضرورة التي تُلجىء المرأة للخروج للعمل .
معنى { وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] يعني : جاء عند الماء ، ولا يقتضي الورود أن يكون شَرِب منه . والورود بهذا المعنى حلَّ لنا الإشكال في قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] فليس المعنى دخول النار ، ومباشرة حَرِّها ، إنما ذاهبون إليها ، ونراها جميعنا إذن : وردْنا العَيْن . يعني : جئنا عندها ورأيناها ، لكن الشرب منها ، شيء آخر .
{ وَجَدَ عَلَيْهِ } [ القصص : 23 ] أي : على الماء { أُمَّةً } [ القصص : 23 ] جماعة { يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] أي : مواشيهم { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } [ القصص : 23 ] يعني : بعيداً عن الماء { امرأتين تَذُودَانِ } [ القصص : 23 ] أي : تكفّان الغنم وتمنعانها من الشُّرْب لكثرة الزحام على الماء { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } [ القصص : 23 ] أي : ما شأنكما؟
وفي الاستفهام هنا معنى التعجُّب يعني : لماذا تمنعان الغنم أنْ تشربَ ، وما أتيتُما إلا للسُّقْيا؟
{ قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] .
وقولهما { حتى يُصْدِرَ الرعآء } [ القصص : 23 ] يعني : ينصرفوا عن الماء ، فصدر مقابل ورد ، فالآتي للماء : وارد ، والمنصرف عنه : صادر : نقول : صدر يَصْدُر أي : بذاته ، وأصدر يُصْدر أي : غيره .
فالمعنى : لا نَسْقي حتى يسقي الناس وينصرفوا . و { الرعآء } [ القصص : 23 ] جمع رَاعٍ . ثم يذكران العلَّة في خروجهما لِسقْي الغنم ومباشرة عمل الرجال { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى }
(1/6839)

فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
معنا إذن في هذه القصة أحكام ثلاثة { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء } [ القصص : 23 ] أعطَتْ حكماً و { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] أعطتْ حُكْماً و { فسقى لَهُمَا } [ القصص : 24 ] أعطت حكماً ثالثاً .
وهذه الأحكام الثلاثة تُنظم للمجتمع المسلم مسألة عمل المرأة ، وما يجب علينا حينما تُضطر المرأة للعمل ، فمن الحكم الأول نعلم أن سَقْي الأنعام من عمل الرجال ، ومن الحكم الثاني نعلم أن المرأة لا تخرج للعمل إلا للضرورة ، ولا تؤدي مهمة الرجال إلا إذا عجز الرجل عن أداء هذه المهمة { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] .
أما الحكم الثالث فيعلم المجتمع المسلم أو حتى الإنساني إذا رأى المراة قد خرجت للعمل فلا بد أنه ليس لها رجل يقوم بهذه المهمة ، فعليه أن يساعدها وأنْ يُيسِّر لها مهمتها .
وأذكر أنني حينما سافرت إلى السعودية سنة 1950 ركبتُ مع أحد الزملاء سيارته ، وفي الطريق رأيته نزل من سيارته ، وذهب إلى أحد المنازل ، وكان أمامه طاولة من الخشب مُغطَّاة بقطعة من القماش ، فأخذها ووضعها في السيارة ، ثم سِرْنا فسألتُه عما يفعل ، فقال : من عاداتنا إذا رأيتُ مثل هذه الطاولة على باب البيت ، فهي تعني أن صاحب البيت غير موجود ، وأن ربة البيت قد أعدَّتْ العجين ، وتريد مَنْ يخبزه فإذا مَرَّ أحدنا أخذه فخبزه ، ثم أعاد الطاولة إلى مكانها .
وفي قوله تعالى : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء } [ القصص : 23 ] إشارة إلى أن المرأة إذا اضطرتْ للخروج للعمل ، وتوفرْت لها هذه الضرورة عليها أنْ تأخذَ الضرورة بقدرها ، فلا تختلط بالرجال ، وأنْ تعزل نفسها عن مزاحمتهم والاحتكاك بهم ، وليس معنى أن الضرورة أخرجتْ المرأة لتقوم بعمل الرجال أنها أصبحتْ مثلهم ، فتبيح لنفسها الاختلاط بهم .
وقوله تعالى : { ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] فكان موسى عليه السلام طوال رحلته إلى مَدْين مسافراً بلا زاد حتى أجهده الجوع ، وأصابه الهزال حتى صار جِلْداً على عظم ، وأكل من بقل الأرض ، وبعد أن سقى للمرأتين تولَّى إلى ظلِّ شجرة ليستريح ، وعندها لَهَج بهذا الدعاء { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد من الضعيف أنْ يتجه إلى المعونة ، وحين يتجه إليها فلن يفعل هو ، إنما سيفعل الله له؛ لذلك نلحظ أن موسى في ندائه قال { رَبِّ } [ القصص : 24 ] واختار صفة الربوبية ، ولم يقُلْ يا الله؛ لأن الألوهية تقتضي معبوداً ، له أوامر ونواهٍ ، أمّا الرب فهو المتولِّي للتربية والرعاية ، فقال : يا رب أنا عبدك ، وقد جئتَ بي إلى هذا الكون ، وأنا جائع أريد أن آكل .
ومعنى { أَنزَلْتَ } [ القصص : 24 ] أن الخير منك في الحقيقة ، وإنْ جاءني على يد عبد مثلي؛ ذلك لأنك حين تُسلسل أيَّ خير في الدنيا لا بُدَّ أن ينتهي إلى الله المنعِم الأول ، وضربنا لذلك مثلاً برغيف العيش الذي تأكله ، بدايته نبتة لولا عناية الله ما نبتتْ .
(1/6840)

لذلك يقولون في ( الحمد لله ) صيغة العموم في العموم ، حتى إنْ حمدتَ إنساناً على جميل أسداه إليك ، فأنت في الحقيقة تحمد الله حيث ينتهي إليه كُلُّ جميل .
إذن : فحمْد الناس من باطن حمد الله ، والحمد بكل صوره وبكل توجهاته ، حتى ولو كانت الأسباب عائدة على الله تعالى ، حتى يقول بعضهم : لا تحمد الله حتى تحمد الناس .
ذلك لأن أَزِمّة الأمور بيده تعالى ، وإنْ جعل الأسباب في أيدينا ، وهو سبحانه القادر وحده على تعطيل الأسباب ، وأذكر أن بعض الدول ( باكستان ) أعلنت عن وفرة عندهم في محصول القمح ، وأنها ستكفيهم وتفيض عنهم للتصدير ، وقبل أنْ ينضج المحصول أصابته جائحة فأهلكته ، فاختلفت كل حساباتهم ، حتى استوردوا القمح في هذا العام .
هذا معنى { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] فالخير منك يا رب ، وإنْ سُقْته إليَّ على يد عبد من عبيدك ، وفقري لا يكون إلا إليك ، وسؤالي لا يكون إلا لك .
ولم يكَدْ موسى عليه السلام ينتهي من مناجاته لربه حتى جاءه الفرج : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي }
(1/6841)

فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
قوله : { إِحْدَاهُمَا } [ القصص : 25 ] أي : أحدى المرأتين { تَمْشِي عَلَى استحيآء } [ القصص : 25 ] يعني : مُستحية في مجيئها ، مُستحية في مِشْيتها { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } [ القصص : 25 ] .
لما جاءتْه هذه الدعوة لم يتردد في قبولها ، وانتهز هذه الفرصة ، فهو يعلم أنها استجابة سريعة من ربه حين دعاه { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] وهي سبب من الأسباب يَمدُّه الله له ، وما كان له أنْ يردَّ أسباب الله ، فلم يتأبَّ ، ولم يرفض دعوة الأب .
ولم يذكر لنا السياق هنا كيف سار موسى والفتاة أبيها ، لكن يُرْوَى أنهما سارا في وقت تهبُّ فيه الرياح من خلفها ، وكانت الفتاة في الأمام لتدلّه على الطريق ، فلما ضمَّ الهواء ملابسها ، فوصفت عجيزتها ، قال لها : يا هذه ، سيري خلفي ودُلِّيني على الطريق .
وهذا أدب آخر من آدام النبوة .
{ فَلَمَّا جَآءَهُ } [ القصص : 25 ] أي : سيدنا شعيب عليه السلام { وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } [ القصص : 25 ] أي : ما كان بينه وبين القبطي { قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } [ القصص : 25 ] يعني : طمأنه وهدَّأ من رَوْعه .
(1/6842)

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
وهذا حكم رابع نستفيده من هذه الآيات ، نأخذه من قول الفتاة { ياأبت استأجره } [ القصص : 26 ] .
وفي قولها دليل على أنها لم تعشق الخروج للعمل ، إنما تطلب مَنْ يقوم به بدلاً عنها؛ لِتقَّر في بيتها .
ثم تذكر البنت حيثيات هذا العرض الذي عرضته على أبيها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } [ القصص : 26 ] وهذان شرطان لا بُدَّ منهما في الأجير : قوة على العمل ، وأمانة في الاداء . وقد تسأل : ومن أين عرفتْ البنت أنه قوي أمين؟
قالوا : لأنه لما ذهب ليسقي لهما لم يزاحم الناس ، وإنما مال إلى ناحية أخرى وجد بها عُشْباً عرف أنه لا ينبت إلا عند ماء ، وفي هذا المكان أزاح حجراً كبيراً لا يقدر على إزاحته إلا عدة رجال ، ثم سقى لهما من تحت هذا الحجر ، وعرفتْ أنه أمين حينما رفض أن تسير أمامه ، حتى لا تظهر له مفاتن جسمها .
ويأتي دور الأب ، وما ينبغي له من الحزم في مثل هذه المواقف ، فالرجل سيكون أجيراً عنده ، وفي بيته بنتان ، سيتردد عليهما ذهاباً وإياباً ، ليلَ نهار ، والحكمة تقتضي إيجاد علاقة شرعية لوجوده في بيته؛ لذلك رأى أن يُزوِّجه إحداهما ليخلقَ وَضْعاً ، يستريح فيه الجميع : { قَالَ إني أُرِيدُ }
(1/6843)

قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
في الأمثال نقول : ( اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك ) ذلك لأن كبرياء الأب يمنعه أنْ يعرض ابنته على شاب فيه كلُّ صفات الزوج الصالح وإنْ كان القلة يفعلون ذلك وهذه الحكمة من الأب في أمر زواج ابنته تحلُّ لنا إشكالات كثيرة ، فكثيراً ما نجد الشاب سويَّ الدين ، سويَّ الأخلاق ، لكن مركزه الاجتماعي كما نقول دون مستوى البنت وأهلها ، فيتهيب أنْ يتقدّم لها فيُرفض .
وفي هذه الحالة على الأب أنْ يُجَرِّىء الشاب على التقدم ، وأن يُلمح له بالقبول إن تقدَّم لابنته ، كأن يقول له : لماذا لم تتزوج يا ولد حتى الآن ، وألف بنت تتمناك؟ أو غير ذلك من عبارات التشجيع .
أما أن نرتقي إلى مستوى التصريح كسيدنا شعيب { إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ } [ القصص : 27 ] فهذا شيء آخر ، وأدب عَالٍ من العارض ، ومن المعروض عليه ، وفي مجتمعاتنا كثير من الشباب والفتيات ينتظرون هذه الجرأة وهذا التشجيع من أولياء أمور النبات .
ألاَ ترى أن الله تعالى أباح لنا أن نُعرِّض بالزواج لمن تُوفِّى عنها زوجها ، قال تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } [ البقرة : 235 ] ولا تخفي علينا عبارات التلميح التي تلفت نظر المرأة للزواج .
وقوله : { على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } [ القصص : 27 ] أي : تكون أجيراً عندي ثماني سنوات ، وهذا مَهْر الفتاة ، أراد به أن يُغلِي من قيمة ابنته ، حتى لا يقول زوجها : إنها رخيصة ، أو أن أباها رماها عليه .
{ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ القصص : 27 ] يعني : حينما تعايشني ستجدني طيبَ المعاملة ، وستعلم أنك مُوفّق في هذا النسب ، بل وستزيد هذه المدة محبة في البقاء معنا .
فأجاب موسى عليه السلام : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ }
(1/6844)

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
أي : أنا بالخيار ، أقضي ثمانية ، أم عشرة { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] .
وقد أ خذ العلماء حُكْماً جديداً من هذه الآية ، وهو أن المطلوب عند عقد الزواج تسمية المهر ، ولا يشترط قبضه عند العقد ، فلَك أنْ تُؤجله كله وتجعله مُؤخّراً ، او تُؤجل بعضه ، وتدفع بعضه .
والمهر ثمن بُضْع المرأة ، بحيث إذا ماتت ذهب إلى تركتها ، وإذا مات الزوج يُؤخَذ من تركته ، بدليل أن شعيباً عليه السلام استأجر موسى ثماني أو عشر سنين ، وجعلها مهراً لابنته .
ونلحظ أن السياق هنا لم يذكر شيئاً عن الطعام ، مع أن موسى عليه السلام كان جائعاً ودعا ربه : { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
لكن يروي أهل السير أن شعيباً عليه السلام قدّم لموسى طعاماً ، وطلب منه أن يأكل ، فقال : أستغفر الله ، يعني : أنْ آكل من طعام . كأنه مقابل ما سقى للبنتين الغنم؛ لذلك قال : إنَّا أهل بيت لا نبيع عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً ، فقال شعيب : كُلْ ، فإنَّا أهل بيت نطعم الطعام ونقري الضيف ، قال : الآن نأكل .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل }
(1/6845)

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] أي : الذي اتفق عليه مع شعيب عليه السلام { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } [ القصص : 29 ] قلنا : إن الأهل تُطلق على الزوجة ، وفي لغتنا العامية نقول : معي أهلي أو الجماعة ونقصد الزوجة؛ لذلك لأن الزوجة تقضي لزوجها من المصالح ما لا يقدر عليه إلا جماعة ، بل وتزيد على الجماعة بشيء خاص لا يؤديه عنها غيرها ، وهو مسألة المعاشرة؛ لذلك حَلَّتْ محلَّ جماعة .
ومعنى { آنَسَ } [ القصص : 29 ] يعني : أبصر ورأى أو أحسَّ بشيء من الأُنْس ، { الطور } [ القصص : 29 ] اسم الجبل { قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } [ القصص : 29 ] انتظروا { إني آنَسْتُ نَاراً } [ القصص : 29 ] يخبرها بوجود النار ، وهذا يعني أنها لم تَرَها كما رآها هو .
وهذا دليل على أنها ليست ناراً مادية يُوقِدها بشر ، وإلا لاستوى أهله معه في رؤيتها ، فهذا إذن أمر خاص به { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] يعني : رجاءَ أنْ أجد مَنْ يخبرنا عن الطريق ، ويهدينا إلى أين نتوجه { أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ القصص : 29 ] .
الجذوة : قطعة من نار متوهجة ليس لها لَهَب ، ومعنى تصطلون أي : تستدفئون بها ، وفي موضع آخر قال : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ . . . } [ النمل : 7 ] يعني : شعلة لها لسان ولهب ، فمأربهم - إذن - على هذه الحال أمران : مَنْ يخبرهم بالطريق حيث تاهَتْ بهم الخُطَى في مكان لا يعرفونه ، ثم جذوة نار يستدفئون بها من البرد .
وفي موضع آخر لهذه القصة لم يذكر قوله تعالى : { قَالَ لأَهْلِهِ } [ القصص : 29 ] وهذا من المآخذ التي يأخذها السطحيون على أسلوب القرآن ، لكن بتأمل الموقف نرى أنه أخذ صورة المحاورة بين موسى وأهله .
فزوجة وزوجها ضَمَّهما الظلام في مكان موحش ، لا يعرفون به شيئاً ، ولا يهتدون إلى طريق ، والجو شديد البرودة ، فمن الطبيعي حين يقول لها : إني رأيت ناراً سأذهب لأقتبس منها أن تقول له : كيف تتركني وحدي في هذا المكان؟ فربما تضلّ أنت أو أضلّ أنا ، فيقول لها { امكثوا . . . } [ القصص : 29 ] إذن : لا بُدَّ أن هذه العبارة تكررتْ على صيغتين كما حكاها القرآن الكريم .
كذلك في : { سَآتِيكُمْ . . . } [ النمل : 7 ] وفي مرة أخرى { لعلي آتِيكُمْ . . . } [ القصص : 29 ] قالوا : لأنه لما رأى النار قال : { سَآتِيكُمْ . . . . } [ النمل : 7 ] على وجه اليقين ، لكن لما راجع نفسه ، فربما طفئت قبل أن يصل إليها استدراك ، فقال { لعلي آتِيكُمْ . . } [ القصص : 29 ] على سبيل رجاء غير المتيقن . { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي . . . } .
(1/6846)

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يعطينا خريطة تفصيلية للمكان ، فهناك مَنْ قال : من جانب الطور ، والجانب الأيمن من الطور . وهنا : { مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة . . . } [ القصص : 30 ] .
ومضمون النداء : { ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين } [ القصص : 30 ] سمع موسى هذا النداء يأتيه من كل نواحيه ، وينساب في كل اتجاه؛ لأن الله تعالى لا تحيزه جهة؛ لذلك لا تقُلْ : من أين يأتي الصوت؟ وليس له إِلْفٌ بأن يخاطبه الرب - تبارك وتعالى .
ومع النداء يرى النار تشتعل في فرع من الشجرة ، النار تزداد اشتعالاً ، والشجرة تزداد خضرة ، فلا النار تحرق الشجرة بحرارتها ، ولا الشجرة تُطفيء النار برطوبتها . فهي - إذن - مسألة عجيبة يحَارُ فيها الفكر ، فهل يستقبل كُلَّ هذه العجائب بسهولة أم لا بُدَّ له من مراجعة؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ . . . } .
(1/6847)

وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
وفي موضع آخر يسأله ربه ليُؤنسه : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ] وقلْنا : إن موسى - عليه السلام - أطال في هذا الموقف ليطيل مُدَّة الأُنْس بربه ، فلما أحسَّ أنه أسرف وأطال قال : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] فأطنب أولاً ليزداد أُنْسه بربه ، ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه .
أما هنا فيأتي الأمر مباشرة ليُوظِّف العصا : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ . . } [ القصص : 31 ] .
وقوله : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ . . . } [ القصص : 31 ] لأنه رأى عجيبة أخرى أعجب مما سبق فلو سلَّمنا باشتعال النار في خُضْرة الشجرة ، فكيف نُسلِّم بانقلاب العصا جاناً يسعى ويتحرك؟
وكان من الممكن أنْ تنقلبَ العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا ، وتكون أيضاً معجزة ، أما أنْ تتحول إلى جنس آخر ، وتتعدَّى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة ، فهذا شيء عجيب غير مألوف .
وهنا كلام محذوف؛ لأن القرآن الكريم مبنيٌّ على الإيجاز ، فالتقدير : فألقى موسى عصاه { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً . . . } [ القصص : 31 ] ذلك ليترك للعقل فرصة الاستنباط ، ويُحرِّك الذِّهْن لمتابعة الأحداث .
والجانُّ ، قُلْنا هو فرخ الحية ، وقد صُوِّرَتْ العصا في هذه القصة بأنها : جانٌّ ، وثعبان ، وحية . وهي صورة ثلاثة للشيء الواحد ، فهي في خفَّتِها جانٌّ ، وفي طولها ثعبان ، وفي غِلَظها حية .
ومعنى { ولى مُدْبِراً . . } [ القصص : 31 ] يعني : انصرف خائفاً ، { وَلَمْ يُعَقِّبْ . . } [ القصص : 31 ] لم يلتفت إلى الوراء ، فناداه ربه : { ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ . . . } [ القصص : 31 ] يعني : ارجع ولا تخَفْ من شيء ، ثم يعطيه القضية التي يجب أن تصاحبه في كل تحركاته في دعوته { إِنَّكَ مِنَ الآمنين } [ القصص : 31 ] فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك في هذا الموقف إنما { إِنَّكَ مِنَ الآمنين } [ القصص : 31 ] .
يعني : هي قضية مستمرة ملازمة لك؛ لأنك في مَعيّة الله ، ومَنْ كان في معية الله لا يخاف ، وإلا لو خِفْتَ الآن ، فماذا ستفعل أمام فرعون .
وهكذا يعطي الحق - سبحانه وتعالى - لموسى - عليه السلام - دُرْبة معه سبحانه ، ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته والملأ جميعاً دُرْبة مع سبحانه ، ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته والملأ جميعاً دون خوف ولا وَجَل ، وليكون على ثقة من نصر الله وتأييده في جولته الأخيرة أمام فرعون .
وقد انتفع موسى - عليه السلام - بكل هذه المواقف ، وتعلَّم من هذه العجائب التي رآها فزادتْه ثقةً وثباتاً؛ لذلك لما كاد فرعون أنْ يلحقَ بجنوده موسى وقومه ، وقالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] استعاد موسى عليه السلام قضية { إِنَّكَ مِنَ الآمنين } [ القصص : 31 ] فقال بملء فيه : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
فحيثية الثقة عند موسى - عليه السلام - هي معيّة الله له ، قالها موسى ، ويمكن أنْ تكذب في وقتها حالاً ، فهاجم البحر من أمامهم ، وفرعون من خلفهم ، لكنها ثقة مَنْ أمَّنه الله ، وجعله في معيَّته وحِفْظه .
(1/6848)

وهذا الأمن قد كفله الله تعالى لجميع أنبيائه ورسله ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] .
وقال : { ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } [ النمل : 10 ] .
وقد قُصَّ هذا كله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فانتفع به ووثق في نصر الله ، فلما قال له الصِّديق وهما في الغار : يا رسول الله ، لو نظر أحدهم تحت قدميْه لرآنَا ، قال صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، ما ظنُّك باثنين ، الله ثالثهما " .
وحكى القرآن قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا . . . } [ التوبة : 40 ] وما دُمْنا في معيَّة مَنْ لا تدركه الأبصار ، فلن تدركنا الأبصار .
ثم ينقل الحق - تبارك - وتعالى - موسى عليه السلام إلى آية أخرى تضاف إلى معجزاته : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ . . . } .
(1/6849)

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
معنى { اسلك يَدَكَ . . . } [ القصص : 32 ] يعني : أدخلها { فِي جَيْبِكَ . . } [ القصص : 32 ] الجيب : فتحة الثوب من أعلى ، وسَمَّوْها جَيْباً؛ لأنهم كانوا يجعلون الجيوب مكان حِفْظ الأموال في داخل الثياب حتى لا تُسرق ، فكان الواحد يُدخِل يده في قبَّة الثوب لتصل إلى جيبه .
ونلحظ هنا دقة الأداء القرآني { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ . . . } [ القصص : 32 ] ولم يقُلْ بصيغة الأمر : وأخرجها كما قال { اسلك يَدَكَ . . . } [ القصص : 32 ] وكأن العملية عملية آلية منضبطة بدقة ، فبمجرد أن يُدخِلها تخرج هي بيضاء ، فكأن إرادته على جوارحه كانت في الإدخال ، أما في الإخراج فهي لقدرة الله .
وكلمة { بَيْضَآءَ . . . } [ القصص : 32 ] أي : مُنوّرة دون مرض ، والبياض لا بُدَّ أن يكون عجيباً في موسى - عليه السلام - لأنه كان أسمر اللون؛ لذلك قال { مِنْ غَيْرِ سواء . . . } [ القصص : 32 ] حتى لا يظنوا به بَرصاً مثلاً ، فهو بياض طبيعي مُعْجِز .
وقوله تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب . . . } [ القصص : 32 ] الجناحان في الطائر كاليدين في الإنسان ، وإذا أراد الإنسان أن يعوم مثلاً يفعل كما يفعل الطائر حين يطير ، فالمعنى : اضمُمْ إليك يديك يذهب عنك الخوف .
وهذه العملية يُصدِّقها الواقع ، فنرى المرأة حين ترى ولدها مثلاً يسئ التصرف تضرب صَدْرها وتولول ، وسيدنا ابن عباس يقول : كل من خاف يجب عليه أن يضرب صدره بيديه ليذهب عنه ما يلاقي ، ولك أن تُجرِّبها لتعلم صِدْق هذا الكلام .
ومعنى { فَذَانِكَ . . . } [ القصص : 32 ] ذا : اسم إشارة للمفرد ونقول : ذان اسم إشارةت للمثنى ، والكاف للخطاب ، والمراد : الإشارة لمعجزتي العصا واليد { بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ . . . } [ القصص : 32 ] أي ربك الحق { إلى فِرْعَوْنَ . . . } [ القصص : 32 ] الرب الباطل ، ولا يمكن أنْ يجتمع الحق والباطل ، لا بد للباطل أنْ يزهق؛ لأنه ضعيف لا يصمد أمام قوة الحق { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] .
والبرهان : هو الحجة والدليل على صِدْق المبرهَن عليه { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ . . . } [ القصص : 32 ] لأن فرعون ادَّعى الألوهية ، وملؤه استخفهم فأطاعوه { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ القصص : 32 ] أي : جميعاً فرعون والملأ { فَاسِقِينَ } [ القصص : 32 ] أي : خارجين عن الطاعة من قولنا فسقتِ الرُّطَبة يعني : خرجتْ من قشرتها .
والمراد هنا الحجاب الديني الذي يُغلِّف الإنسان ، ويحميه ويعصمه أنْ يتأثر بعوامل المعصية ، فإذا انسلخ من هذا الثوب ، ونزع هذا الحجاب ، وتمرَّد على المنهج تكشفتْ عورته ، وبانتْ سَوْءَته .
(1/6850)

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
فما زال موسى - عليه السلام - خائفاً من مسألة قتْل القبطيِّ؛ لذلك يطلب من ربه أنْ يؤيده ، ويعينه بأخيه .
(1/6851)

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
معنى الرِّدْء : المعين ، وعرفنا من قصة موسى - عليه السلام - وهو صغير في بيت فرعون أنه أصابته لَثْغة في لسانه ، فكان ثقيل النطق لا ينطلق لسانه؛ لذلك أراد أنْ يستعين بفصاحة أخيه هارون ليؤيده ، ويُظهر حجته ، ويُزيل عنه الشبهات .
وكان بإمكان موسى أن يطلب من ربه أن يستعين بأخيه هارون ، فيكون هارون من باطن موسى ، لكنه أحب لأخيه أن يشاركه في رسالته ، وأن ينال هذا الفضل وهذه الرِّفْعة ، فقال : { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي . . . } [ القصص : 34 ] يعني : معيناً لي حتى لا يُكذِّبني الناس ، فيكون رسولاً مِثْلِي بتكليف من الله .
لذلك نرى الآيات تتحدث عن هارون على أنه رسول شريك لموسى في رسالته ، يقول تعالى في شأنهما : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 43-44 ] .
فإذا نظرنا إلى وحدة الرسالة فَهُما رسول واحد ، وهذا واضح في قوله تعالى :
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] .
وجاء في قول فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] بصيغة المفرد . كما لو بعث رئيس الجمهورية رسالة مع اثنين أو ثلاثة إلى نظيره في دولة أخرى ، نُسمِّي هؤلاء جميعاً ( رسول ) ؛ لأن رسالتهم واحدة ، فإذا نظرتَ إلى وحدة الرسالة من المرسل إلى المرسَل إليه فهما واحد ، وإذا نظرتَ إلى كلٍّ على حِدَة فهما رسولان .
وقد ورد أيضاً : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ . . . } [ طه : 47 ] فخاطبهم مرة بالمفرد ، ومرة بالمثنى .
لذلك لما دعا موسى - عليه السلام - على قوم فرعون لما غرَّتهم الأموال ، وفتنتهم زينة الحياة الدنيا قال { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
المتكلِّم هنا موسى وحده ، ومع ذلك قال تعالى : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا . . . } [ يونس : 89 ] فنظر إلى أنهما رسول واحد ، فموسى يدعو وهارون يُؤمِّن على دعائه ، والمؤمِّن أحد الدَّاعِيَيْن .
(1/6852)

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
أجابه ربه : { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ . . . } [ القصص : 35 ] لأن موسى قال في موضع آخر : { اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي } [ طه : 31-32 ] وقوله تعالى { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ . . . } [ القصص : 35 ] تعبير بليغ يناسب المطلوب من موسى؛ لأن الإنسان يزاول أغلب أعماله أو كلها تقريباً بيديه ، والعضلة الفاعلة في الحمل والحركة هي العَضْد .
لذلك حين نمدح شخصاً بالقوة نقول : فلان هذا ( عضل ) ، وحين يصاب الإنسان والعياذ بالله بمرض ضمور العضلات تجده هزيلاً لا يقدر على فعْل شيء ، فالمعنى : سنُقوِّيك بقوة مادية .
{ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً . . . } [ القصص : 35 ] هذه هي القوة المعنوية ، وهي قوة الحجة والمنطق والدليل ، فجمع لهما : القوة المادية ، والقوة المعنوية .
لذلك قال بعدها { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا . . . } [ القصص : 35 ] أي : نُنجيكم منهم ، لكن معركة الحق والباطل لا تنتهي بنجاة أهل الحق ، إنما لا بُدَّ من نُصرْتهم على أهل الباطل ، وفَرْق بين رجل يهاجمه عدوه فيغلق دونه الباب ، وتنتهي المسألة عند هذا الحد ، وبين مَنْ يجرؤ على عدوه ويغالبه حتى ينتصر عليه ، فيكون قد منع الضرر عن نفسه ، وألحق الضرر بعدوه .
وهذا هو المراد بقوله تعالى : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] وهكذا أزال الله عنهم سلبية الضرر ، ومنحهم إيجابية الغلبة .
ونلحظ توسط كلمة { بِآيَاتِنَآ . . . } [ القصص : 35 ] بين العبارتين : { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا . . . } [ القصص : 35 ] و { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] فهي إذن سبب فيهما : فبآياتنا ومعجزاتنا الباهرات ننجيكم ، وبآياتنا ومعجزاتنا ننصركم ، فهي كلمة واحدة تخدم المعنيين ، وهذا من وجوه بلاغة القرآن الكريم .
ومن عجائب ألفاظ القرآن كلمة ( النجم ) في قوله تعالى : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 5-6 ] فجاءت النجم بين الشمس والقمر ، وهما آيتان سماويتان ، والشجر وهو من نبات الأرض؛ لذلك صلحت النجم بمعنى نجم السماء ، أو النجم بمعنى النبات الصغير الذي لا ساقَ له ، مثل العُشْب الذي ترعاه الماشية في الصحراء .
لذلك قال الشاعر :
أُرَاعِي النَّجْم في سَيْرى إليكُمْ ... وَيرْعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوَادِيَ
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا . . . } .
(1/6853)

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
قوله تعالى : { بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ . . . } [ القصص : 36 ] أي : بمعجزاتنا واضحات باهرات ، فلما بُهِتوا أمام آيات الله ، وحاروا كيف يخرجون من هذا المأزق ، فقد جاءهم موسى ليهدم عرش الألوهية الباطلة عند فرعون ، ولم يملكوا إلا أنْ قالوا { مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } [ القصص : 36 ] .
لذلك يُعلِّم الحق - تبارك وتعالى - موسى عليه السلام مُحَاجَّة هؤلاء ، فكأنه قال له : أنت مُقبل على أُنَاس متمسكين بالباطل ، حريصين عليه ، منتفعين من ورائه ، ولا بُدَّ أنْ يغضبوا إنْ قضيتَ على باطلهم ، وصرفتهم عنه إلى الحق ، فقد أَلِفُوا الباطل ، فإنْ أخرجتَهم مما أَلِفوا إلى ما لا يألفون فلا بُدَّ لك من اللين وألاَّ تُهيِّجهم حين تجمع عليهم قسوة تَرْك ما ألِفوه مع قسوة الدعوة إلى ما لم يألفوه .
ويكفي أنك ستسلبهم سلطان الألوهية الذي عاشوا في ظله ، فإنْ زِدْتَ في القسوة عليهم ولّدْتَ عندهم لدداً وعناداً في الخصومة .
لذلك قال تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً . . . } [ طه : 44 ] يعني : اعذروه فيما يلاقي حين تُسلَب منه ألوهيته ، ويصير واحداً من الرعية .
وإنْ قابلوك هم بالقسوة حين قالوا : { مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } [ القصص : 36 ] فقابلهم أنت باللين .
(1/6854)

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
وتأمل هنا اللين وأدب الجدل عند موسى - عليه السلام - فلم يرد عليهم بالقسوة التي سمعها منهم ولم يتهمهم كما اتهموه ، إنما ردّ بهذا الأسلوب اللَّبِق ، وبهذا الإيحاء : { ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار . . . } [ القصص : 37 ] ولم يقُلْ : إني جئت بالهدى .
ثم قال : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } [ القصص : 37 ] سواء كنا نحن أم أنتم ، ولم يقُلْ : أنتم الظالمون ، لقد أطلق القضية ، وترك للعقول أنْ تميز .
ومعنى { عَاقِبَةُ الدار . . } [ القصص : 37 ] الدار يعني : الدنيا وعاقبتها تعني : الآخرة .
وهذا الأدب النبوي في الجدل والحوار رأيناه في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة والمعاندين له ، وقد خاطبه ربه : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . . } [ العنكبوت : 46 ] .
والعلَّة أنك ستُخرجهم من الباطل الذي أحبوه وأَلفوه إلى الحق الذي يكرهون ، فلا تجمع عليهم شدتين ، لذلك في أشد ما كان إيذاء الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " .
ورحم الله شوقي الذي صاغ هذه المسألة في عبارة موجزة فقال : ( النُّصْح ثقيل فلا ترسله جبلاً ، ولا تجعله جدلاً ) فنُصْحك معناه أنك تقول لمن أمامك : أنت على خطأ وأنا على صواب . فلكي يسمع لك لا بُدَّ أنْ تستميله أولاً إليك ليقبل منك ، ولا تجرح مشاعره فيزداد عناداً ومكابرة ، وما أشبه صاحب الخطأ بالمريض الذي يحتاج لمن يأخذ بيده ، ويأسو مرضه .
وقد مثَّلوا لذلك بشخص يغرق ، وصاحبه على الشاطيء يلومه على نزوله البحر ، وهو لا يجيد السباحة ، فقال له : ( آسِ ثم انصح ) انقذني أولاً وأدركني ، ثم قُلْ ما شئتَ .
وقال آخر : الحقائق مُرَّة ، فاستعيروا لها خِفَّة البيان .
أما إنْ يئس الناصح من استجابة المنصوح كما في قصة نبي الله نوح عليه السلام ، والذي ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فالأمر يختلف . فالنبي صبر على قومه علَّهم يثوبون إلى رشدهم ، أو لعلهم ينجبون الذرية الصالحة التي تقبل ما رفضه الآباء .
فما أطولَ صبر نوح على قومه ، وما أعظمَ أدبه في الحوار معهم وهو يقول لهم وقد اتهموه بالكذب والافتراء : { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [ هود : 35 ] .
فنسب الإجرام إلى نفسه ليُسوِّي نفسه بهم لعلَّه يستميل قلوبهم ، لكن ، لما كان في علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا ، ولا فائدة منهم ، ولا من أجيالهم المتعاقبة ، وبعد أنْ قضى نوح في دعوتهم هذا العمر المديد أمره الله أن يدعو عليهم ، حيث لا أملَ في هدايتهم ، فقال :
{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 26-27 ] .
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول في محاورته مع كفار مكة : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] .
سبحان الله ما هذا التواضع ، وهذا الأدب الجم في استمالة القوم ، ينسب الإجرام إلى نفسه وهو رسول الله ، وحينما يتكلم عنهم يقول { تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] فيُسمِّي إجرامهم وإيذاءهم وكفرهم عملاً ، ولو قال كما قال أخوه لكان تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ . . . } .
(1/6855)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
خشي فرعون من كلام موسى على قومه ، وتصوَّر أنه سيحدث لهم كما نقول ( غسيل مخ ) فأراد أن يُذكِّرهم بألوهيته ، وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي . . . } [ القصص : 38 ] يعني : إياكم أنْ تصدّقوا كلام موسى ، فأنا إلهكم ، وليس لكم إله غيري .
ثم يؤكد هذه الألوهية فيقول لهامان وزيره : { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى . . . } [ القصص : 38 ] وفي موضع آخر قال : { ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى . . . } [ غافر : 36 - 37 ] .
وكأنه يريد أن يُرضي قومه ، فها هو يريد أنْ يبحث عن الإله الذي يدَّعيه موسى ، وكأنه إنْ بنى صرحا واعتلاه سيرى رب موسى ، لكن هل بنى له هامان هذا الصرح؟ لم يَبْن له شيئاً ، مما يدل على أن المسألة هَزْل في هَزْل ، وضحك على القوم الذين استخفّهم ولعِب بعقولهم .
وإلا ، فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التي نراها ونبني بها الآن وعندهم الحجارة والجرانيت التي بنَوْا بها الأهرامات وصنعوا منها التماثيل؟ وعملية حَرْق الطين تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد ، إذن : المسألة كسب الوقت من الخَصْم ، وتخدير الملأ من قومه .
وقوله : { لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى . . . } [ القصص : 38 ] وقبل أنْ يصل إلى حكم فيرى إله موسى أو لا يراه ، يبادر بالحكم على موسى { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } [ القصص : 38 ] ؛ ليصرف ملأه عن كلام موسى .
(1/6856)

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
أي : تكبروا دون حق ، وبغير مبررات للكِبْر ، فليس لديهم هذه المبررات؛ لأن الإنسان يتكبَّر حين تكون عظمَته ذاتية فيه ، أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير فلا تتكبر بها ، مَنْ يتكبر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه ، كما يقولون ( اللي يخرز يخرز على وركه ) .
وكذلك في دواعي الكِبْر الأخرى : الغِنَى ، القوة ، الجاه ، والسلطان . . . إلخ .
لذلك يكره الله تعالى المتكبرين ، ويقول في الحديث القدسي : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته جهنم " .
والكبرياء والعظمة صفة جلال وجمال لله تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء الله سواء ، فلا يتكبَّر أحد على أحد ( ونرعى جميعاً مساوي ) في ظل كبرياء الله الذي يحمي تواضعنا ، فلو تكبَّر أحدنا على الآخر لتكبَّر بشيء موهوب له ، ليس ذاتياً فيه؛ لذلك ينتصر الله لمن تكبَّرت عليه ، ويجعله أعلى منك ، وعندنا في الأرياف يقولون : ( اللي يرمي أخاه بعيب لن يموت حتى يراه في نفسه ) .
والمتكبّر في الحقيقة ناقصُ الإيمان؛ لأنه لا يتكبَّر إلا حين يرى الناس جميعاً دونه ، ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أنْ يتكبَّر أمامه ، وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده في الأرض بغير حق .
أما إنْ كان الاستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش في ظلاله فهو استكبار بحق؛ لذلك نقول حين يصف الحق - تبارك وتعالى - نفسه بأنه العظيم المتكبّر نقول : هذا حق . لأنه حماية لنا جميعا من أنْ يتكبَّر بعضنا على بعض .
وقوله تعالى : { وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } [ القصص : 39 ] فاستكبارهم في الأرض جاء نتيجة ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى الله ، وأنه تعالى خلقهم ورزقهم ، ثم تفلَّتوا منه ، ولن يعودوا إليه ، لكن هيهات ، لا بُدَّ - كما نقول - لهم رَجْعة .
(1/6857)

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين }
كأن الحق سبحانه لم يُمهلهم إلى أن يعودوا إليه يوم القيامة ، إنما عاجلهم بالعذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ . . } [ القصص : 40 ] أي : جميعاً في قبضة واحدة ، التابع والمتبوع { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } [ القصص : 40 ] ألقينا بهم في البحر ، وهذا الأخذ الذي يشمل الجميع في قبضة واحدة يدلُّ على قدرة الآخذ ، وهذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله القوي العزيز .
كما قال سبحانه : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
ولم يُوصَف أخْذ الإنسان بالقوة إلا في قوله تعالى يحثُّنا على أنْ نأخذ مناهج الخير بقوة : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ . . . } [ البقرة : 93 ] .
ثم يقول سبحانه : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين } [ القصص : 40 ] أي : نهايتهم وقد جاءت عجيبة من عجائب الزمن وآية من آيات الله ، فالبحر والماء جُنْد من جنود الله ، تنصر الحق وتهزم الباطل ، وقد ذكرنا كيف أنجى الله موسى - عليه السلام - وأهلك فرعون بالشيء الواحد حين أمر الله موسى أنْ يضرب بعصاه البحر ، فصار كل فِرْق كالطود العظيم .
فلما أنْ جازه موسى وقومه إلى الناحية الأخرى أراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى؛ ليعود الماء إلى سيولته واستطراقه فيصُحِّح الله له ويأمره أنْ يدَعَهُ على حاله ، فالحق - تبارك - وتعالى - يتابع نبيه موسى خُطْوة بخطوة كما قال له : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] .
وحاشا لله أن يُكلِّفه بأمر ثم يتركه ، ولما رأى فرعون الطريق اليابس أمامه عبر بجنوده ، فأطبقه الله عليهم ، فصاروا آية وعبرة ، كما قال سبحانه : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً . . . } [ يونس : 92 ] .
وتأمَّلْ قدرة الله التي أنجَتْ موسى من الغرق ، وقد ألقتْه أمه بيديها في الماء ، وأغرقتْ فرعون .
(1/6858)

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
أئمة : جمع إمام ، وهو مَنْ يُؤتَم به ، والمأموم أسيرُ إمامه ، فلو كنا في الصلاة لا نركع حتى يركع ، ولا نرفع حتى يرفع ، فمتابعتنا له واجبة ، فإنْ أخطأ وجب على المأموم أنْ يُنبِّهه وأن يُذكِّره يقول له : سبحان الله ، تنبه لخطأ عندك ، إذن : نحن مأمومون له في الحق فقط ، فإنْ أخطأ عدَّلْنا له .
والإمام أُسْوة وقدوة للمأمومين في الخير ومنهج الحق ، كما قال تعالى في حَقِّ نبيه إبراهيم عليه السلام : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً . . . } [ البقرة : 124 ] .
وعندها أراد إبراهيم عليه السلام أنْ تظلَّ الإمامة في ذريته من بعده ، فقال { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي . . . } [ البقرة : 124 ] فصحَّح الله له وأعلمه أن الإمامة لا تكون إلا في أهل الخير { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
لذلك لما دعا نوح - عليه السلام - ربه : { رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي . . . } [ هود : 45 ] صحح الله له { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ . . . } [ هود : 46 ] .
إذن : أهلية النبوة وأهلية الإمامة عمل وسلوك لا قرابة ولا نَسَب .
وقد تكون الإمامة في الشر ، كهذه التي نتحدث عنها : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار . . . } [ القصص : 41 ] فهم أُسْوة سيئة وقدوة للشر ، وقد جاء في الحديث الشريف : " من سَنَّ سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومَنْ سنَّ سُنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة " .
ويقول تعالى في أصحاب القدوة السيئة : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . . } [ النحل : 25 ] .
فكان فرعون وملؤه أسوة في الشر ، وأسوة في الضلال والإرهاب والجبروت ، وكذلك سيكونون في الآخرة أئمة وقادة ، لكن إلى النار { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } [ القصص : 41 ] .
(1/6859)

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
قوله تعالى : { وَأَتْبَعْنَاهُم . . . } [ القصص : 42 ] يعني : جعلنا من خلفهم : { فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً . . . } [ القصص : 42 ] فكل مَنْ ذكرهم في الدنيا يقول : لعنهم الله ، فعليهم لعنة دائمة باقية ما بقيتْ الدنيا ، وهذا اللعْن والطرد من رحمة الله ليس جزاء أعمالهم ، إنما هو مقدمة لعذاب بَاقٍ وخالد في الآخرة ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ . . . } [ الطور : 47 ] .
{ وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين } [ القصص : 42 ] مادة : قبح ، تقول للشرير : قبَّحك الله ، أي : طردك وأبعدك عن الخير . ولها استعمال آخر : تقول : قَبَحْتُ الدُّمل أي : فتحته ونكأته قبل نُضْجه فيخرج منه الدم مع الصديد ويشوه مكانه .
وسبق أنْ قُلْنا : إن الدُّمَّل إذا تركته للصيدلية الربانية في جسمك حتى يندمل بمناعة الجسم ومقاومته تجده لا يترك أثراً ، أما إنْ تدخلت فيه بالأدوية والجراحة ، فلا بُدَّ أنْ يترك أثراً ، ويُشوِّه المكان .
ويكون المعنى إذن : { هُمْ مِّنَ المقبوحين } [ القصص : 42 ] أي : الذين تشوَّهَتْ وجوههم بعد نعومة الجلد ونضارته ، وقد عبَّر القرآن عن هذا التشويه بصور مختلفة .
يقول تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 40-41 ] .
ويقول سبحانه { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ . . . } [ آل عمران : 106 ] .
ويقول : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] .
ومعلوم أن زُرْقة الجسم لا تأتي إلا نتيجة ضربات شديدة وكدَمات تُحدِث تفاعلات ضارة تحت الجلد ، فتُسبِّب زُرْقته ، وكذلك زُرْقة العين ، ومن أمراض العيون المياه الزرقاء ، وهي أخطر من البيضاء .
لذلك يقول الشاعر :
وَللْبخيلِ عَلَى أَمْواله عِلَلٌ ... زُرْق العُيونِ عَليْها أَوْجُه سُودُ
لأنه حريص على أمواله ولا يريد إنفاقها .
ويُستخدم اللون الأزرق للتبشيع والتخويف ، وقد كانوا في العصور الوسطى يَطْلُون وجوه الجنود باللون الأزرق لإخافة الأعداء وإرهابهم ، وتعارف الناس أنه لَوْن الشيطان؛ لذلك نقول في لغتنا العامية ( العفاريت الزرق ) ونقول في الذم : ( فلان نابه أزرق ) .
ويقول الشاعر :
أَيَقْتلُنِي والمْشرَفيُّ مُضاجِعي ... ومَسْنُونَة زُرْقٌ كأنْيابِ أغْوالِ
أما السواد فيقُصد به الوجه المشوّه المنفِّر ، وإلا فالسواد لا يُذَم في ذاته كلون ، وكثيرا ما نرى صاحب البشرة السوداء يُشع جاذبية وبشاشة ، بحيث لا تزهد في النظر إليه ، ومعلوم أن الحُسْن لا لونَ له .
والله تعالى يَهبُ الحُسْن والبشاشة ويُشِعّهما في جميع الصور . وقد ترى للون الأسود في بعض الوجوه أَسْراً وإشراقاً ، وترى صاحب اللون الأبيض كالحاً ، لا حيوية فيه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب . . . } .
(1/6860)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى . . . } [ القصص : 43 ] قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، يعني : أن موسى - عليه السلام - جاء بَرْزخاً وواسطة بين رسل كذَّبتهم أممهم ، فأخذهم الله بالعذاب ، ولم يقاتل الرسل قبل موسى ، إنما كان الرسول منهم يُبلِّغ الرسالة ويُظهر الحجة ، وكانوا هم يقترحون الآيات ، فإنْ أجابهم الله وكذَّبوا أوقع الله بهم العذاب .
كما قال سبحانه :
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] .
وهذا كله عذاب استئصال ، لا يُبقي من المكذبين أحداً .
ثم جاء موسى - عليه السلام - برزخاً بين عذاب الاستئصال من الله تعالى للمكذِّبين دون تدخُّل من الرسل في مسألة العذاب ، وبين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث أمره الله بقتال الكفار والمكذّبين دون أن ينزل بهم عذاب الاستئصال ، ذلك لأن رسالته عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة ، وهو صلى الله عليه وسلم مأمون على حياة الخَلْق أجمعين .
لذلك يقول تعالى في مسألة القتال في عهد موسى عليه السلام : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى . . . } [ البقرة : 246 ] إنما في عهده وعصره { إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 246 ] .
وقد ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما عذَّب الله قوماً ولا قرناً ، ولا أمة ، ولا أهلَ قرية منذ أنزل الله التوراة على موسى " .
كأن عذاب الاستئصال انتهى بنزول التوراة ، ولم يستثْن من ذلك إلا قرية واحدة هي ( أيلة ) التي بين مدين والأردن .
والحق - تبارك وتعالى - يعطينا أول تجربة لمهمة ، وتدخّل الرسل في قصة موسى عليه السلام .
وروُى عن أبي أمامة أنه قال : وإني لتحت رَحْل رسول الله - يعني : ممسكاً برحْل ناقة الرسول - يوم الفتح ، فسمعته يقول كلاماً حسناً جميلاً ، وقال فيما قال : " أيُّما رجل من أهل الكتاب يؤمن بي فَلَهُ أجران - أي : أجر إيمانه بموسى ، أو بعيسى ، وأجر إيمانه بي - له ما لنا وعليه ما علينا " .
وهذا يعني أن القتال لم يكُنْ قد كُتِب عليهم .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب . . . } [ القصص : 43 ] أي التوراة : { مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى . . } [ القصص : 43 ] أي : بدون تدخُّل الأنبياء { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ .
(1/6861)

. . } [ القصص : 43 ] أي : آتيناه الكتاب ليكون نوراً يهديهم ، وبصيرة ترشدهم ، وتُنير قلوبهم { وَهُدًى وَرَحْمَةً . . . } [ القصص : 43 ] هدى إلى طريق الخير ورحمة تعصم المجتمع من فساد المناهج الباطلة ، وتعصمهم أن يكونوا من أهل النار { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 43 ] .
والتذكر يعني : أنه كان لديك قضية ، ثم نسيتها فاحتجْتَ لمن يُذكرك بها ، فهي ليست جديدة عليك ، هذه القضية هي الفطرة :
{ فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا . . . } [ الروم : 30 ] .
لكن هذه الفطرة السليمة تنتابها شهوات النفس ورغباتها ، وتطرأ عليها الغفلة والنسيان؛ لذلك يذكِّر الحق سبحانه الناس بما غفلوا عنه من منهج الحق ، إذن : في الفطرة السليمة المركوزة في كل نفس مُقوِّمات الإيمان والهداية ، لولا غفلة الإنسان .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي . . . } .
(1/6862)

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
قوله : { بِجَانِبِ الغربي . . . } [ القصص : 44 ] أي : الجانب الغربي من البقعة المباركة من الشجرة ، وهو المكان الذي كلَّم الله فيه موسى وأرسله { إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر . . . } [ القصص : 44 ] يعني : أمرناه به أمراً مقطوعاً به ، وهو الرسالة .
{ وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } [ القصص : 44 ] .
ولك أنْ تسأل : إذا لم يكُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهداً لهذه الأحداث ، فمَنْ أخبره بها؟ نقول : أخبره الله تعالى ، فإنْ قُلْت فربما أخبره بها شخص آخر ، أو قرأها في كتب السابقين .
نقول : لقد شهد له قومه بأنه أُميٌّ ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يُعْلَم عنه أنه جلس في يوم من الأيام إلى مُعلِّم ، كذلك كانوا يعرفون سيرته في حياته وسفرياته ورحلاته ، ولم يكُنْ فيها شيء من هذه الأحداث .
لذلك لما اتهموا رسول الله أنه جلس إلى معلم ، وقالوا : كما حكى القرآن : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ . . . } [ النحل : 103 ] ردَّ القرآن عليهم في بساطة : { لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] .
وكانوا يقصدون بذلك حدادين روميين تردد عليهما رسول الله . وكذلك كانت الأمة التي بُعِث فيها رسول الله أمة أمية ، فمَّمن تعلَّم إذن؟
وإذا كانت الأمية صفة مذمومة ننفر منها ، حتى أن أحد سطحيي الفهم يقول : لا تقولوا لرسول الله أميٌّ ونقول : إن كانت الأمية مَذمَّة ، فهي ميزة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأمي يعني المنسوب إلى الأم وما يزال على طبيعته لا يعرف شيئاً .
واقرأ قوله تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً . . . } [ النحل : 78 ] ونقول في المثل ( فلان زي ما ولدتْه أمه ) يعني : لا يعرف شيئاً ، وهذه مذمة في عامة البشر؛ لأنه لم يتعلم ممَّنْ حوله ، ولم يستفِدْ من خبرات الحياة .
أما الأمية عند رسول الله فشرف؛ لأن قصارى المتعلِّم في أيِّ أمة من الأمم أنْ يأخذ بطرفٍ من العلم من أمثاله من البشر ، فيكون مديناً له بهذا العلم ، أمَّا رسول الله فقد تعلم من العليم الأعلى ، فلم يتأثر في علمه بأحد ، وليس لأحد فضل عليه ولا منة .
لذلك تعجب الدنيا كلها من أمة العرب ، هذه الأمة الأمية المتبدية التي لا يجمعها قانون ، إنما لكل قبيلة فيها قانونها الخاص ، يعجبون : كيف سادتْ هذه الأمةُ العالمَ ، وغزتْ حضارتهم الدنيا في نصف قرن من الزمان .
ولو أن العرب أمة حضارة لقالوا عن الإسلام قفزة حضارية ، كما قالوا بعد انتصارنا في أكتوبر ، وبعد أن رأى رجالنا أشياء غير عادية تقاتل معهم ، حتى أنهم لم يشكُّوا في أنها تأييد من الله تعالى لجيش بدأ المعركة بصيحة الله أكبر ، لكن ثالث أيام المعركة طلع علينا في جرائدنا من يقول : إنه نصر حضاري ، وفي نفس اليوم فُتحت الثغرة في ( الدفرسوار ) .
(1/6863)

وعجيب أمر هؤلاء من أبناء جلدتنا؛ لماذا تردُّون فضل الله وتنكرون تأييده لكم؟ وماذا يضايقكم في نصر جاء بمدد من عند الله؟ ألم تقرأوا : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ . . . } [ المدثر : 31 ] وبعد أن فُتحت الثغرة ماذا قدمتم لسدِّها ، تعالوا بفكركم الحضاري وأخرجونامن هذا المأزق .
وإذا ثَقُلَ على هؤلاء الاعتراف بجنود الله بين صفوفهم ، أليس المهندس الذي اهتدى إلى فكرة استخدام ضغط الماء في فتح الطريق في ( بارليف ) لينفذ منه الجنود ، أليس من جنود الله؟
لقد أخذتْ منَّا هذه الفكرة كثيراً من الوقت والجهد دون فائدة ، إلى أن جاء هذا الرجل الذي نوَّر الله بصيرته وهداه إلى هذه العملية التي لم تَأْتِ اعتباطاً ، إنما نتيجة إيمان بالله وقُرْب منه سبحانه وتضرُّع إليه ، فجزاه الله عن مصر وعن الإسلام خيراً .
ومن العجيب ، بعد نهاية الحرب أنْ يُجروا للحرب بروفة تمثيلية ، فلم يستطيعوا اجتياز خط بارليف ، وهم في حال أمْن وسلام .
نعود إلى قضية الأمية ونقول لمن ينادي بمحو الأمية عند الناس بأن يعلمهم من علم البشر؛ ليتكم قُلْتُم نمحو الأمية عندهم لنعلمهم عن الله .
إذن : فقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } [ القصص : 44 ] يعني : ما رأى محمد هذه الأحداث ولا حضرها ، ومنه قوله تعالى عن شهر رمضان : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . . . } [ البقرة : 185 ] يعني : حضره .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ . . . } .
(1/6864)

وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
أهل مدين هم قوم شعيب عليه السلام ، وكان لهم شُغُل بالقراءة ، لذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً . . . } [ القصص : 45 ] أي : مقيماً { في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا . . . } [ القصص : 45 ] أي : تلاوة المتعلم كما يتلو التلميذ على أستاذه ليُصحِّح له { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ القصص : 45 ] أي : أن الرسالات كلها منا : مَنْ كان يقرأ ، ومن كان أمياً .
(1/6865)

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
قوله تعالى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا . . . } [ القصص : 46 ] أي : موسى عليه السلام { ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ . . . } [ القصص : 46 ] أي : أنك يا محمد ما شهدت هذه الأحداث ، إنما جاءتْك بالفضل من الله { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 46 ] يتذكَّرون ما غفلوا عنه من الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها .
وكلمة ( وما كنت ) في مواضع عدة في القرآن تدل على أن رسول الله جاء بأخبار لم يقرأها في كتاب ، ولم يسمعها من مُعلِّم؛ لأنه لا يقرأ ، ولم يُعرف عنه أنه جلس إلى مُعلِّم ، وأهل الكتاب هم الذين يعرفون صدْق هذه الأخبار؛ لأنها ذُكِرت في كتبهم ، لذلك قال القرآن عنهم : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ . . } [ الأنعام : 20 ] .
ويقول سبحانه : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 18-19 ] .
ومن علامات النبوة أن يخرق الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم حُجُب الغيب ، والشيء يغيب عنك إما لأنه ماضٍ ، ولا وسيلةَ لك إليه ، وهذا هو حجاب الزمن الماضي ، وهو لا يُعرف إلا بواسطة القراءة في كتاب أو التعلم من مُعلِّم ، وقد نفى الله تعالى هذا بالنسبة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون الحجابُ الزمن المستقبل والأحداث التي لم تأْتِ بعْد ، ولا يستطيع أن يخبرك بها إلا الذي يعلمها أزَلاً .
لذلك يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] فكان النجم من القرآن ينزل على رسول الله فلما يُسرى عنه يُمليه على أصحابه ، كل آية في مكانها وترتيبها من السورة ، ثم يقرؤها بعد ذلك كما أُنزلت ، وكما أملاها .
وسبق أنْ قُلْنا : تستطيع أن تتحدَّى أيَّ شخص بأن يتكلم مثلاً لمدة ثُلث الساعة ، ثم يعيد ما قال ، ولن يستطيع ، أما المسألة مع سيدنا رسول الله فتختلف؛ لأنها من الله تعالى { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] .
وقلنا : إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول نزول القرآن عليه كان يُردد الآية خلف جبريل عليه السلام مخافة أن ينساها ، فإنْ قال جبريل : { والضحى } [ الضحى : 1 ] قال رسول الله { والضحى } [ الضحى : 1 ] وهكذا ، فأنزل الله عليه : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } [ القيامة : 16-18 ] .
وقال سبحانه : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ . . . } [ طه : 114 ] .
أي : أرح نفسك يا محمد ، ولا تخْشَ النسيان ، وانتظر حتى تنتهي الآيات ، وسوف تعيدها كما هي ، لا تَنْسى منها حرفاً واحداً .
ومن كشف حُجُب الغيب المستقبل قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً . . . } [ النحل : 8 ] ولو انتهتْ الآية إلى هذا الحدِّ لقالوا : ذكر القرآن البدائيات ، ولم يذكر شيئاً عن السيارة والصاروخ . . إلخ .
لكن الحق - تبارك وتعالى - يكمل الآية
(1/6866)

{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] ليجعل في القرآن رصيداً لكل ما يستجد من وسائل المواصلات والانتقال إلى يوم القيامة .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] فكلُّ شيء في الوجود قائم على الزوجين ذكورةً وأنوثة حتى الجمادات التي لا نرى فيها حياة .
ومن ذلك قوله تعالى : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ . . . } [ الروم : 1-4 ]
فمَنْ يستطيع أن يحكم على نتيجة معركة بعد سبع سنين؟ وبعد ذلك يُصدِّقه الله ، وتنتصر الروم ، وكانوا أهل كتاب على الفرس ، وكانوا يعبدون النار؛ لذلك قال سبحانه : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله . . . } [ الروم : 4-5 ] .
ولما تشوَّق الصحابة لأداء العمرة ونزل على رسول الله قوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [ الفتح : 27 ] .
" فخرج بهم رسول الله حتى بلغوا الحديبية على بُعْد 22 كيلو من مكة تعرَّضَتْ لهم قريش ، ومنعتهم من العمرة ، واشترطوا عليهم العودة في العام المقبل ، وقد كتبوا وثيقة تعاهدوا فيها ، فلما أملى رسول الله على الكاتب : هذا ما تعاهد عليه محمد رسول الله ، قام عمرو بن سهيل فقال : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما حاربناك ولا رددناك ، إنما اكتب : هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله .
وعندها ثار صحابة رسول الله وغضبوا حتى راجعوا رسول الله فقال عمر : يا رسول الله ألسْنا على الحق؟ قال : بلى ، قال : أليسوا على الباطل؟ قال : بلى قال : فَلِمَ نعطى الدَّنية في ديننا ، فقال الصِّديق : الزم غَرْزَهُ يا عمر ، يعني قف عند حدَّك - إنه رسول الله .
ولما أصر علي بن أبي طالب أن يكتب محمد رسول الله نظر إليه رسول الله ، وقال : " يا علي ستُسام مثلها فتقبل " ومرَّتْ الأيام والسنون ، وقُبض رسول الله ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، فلما تولّى عليٌّ الخلافة وحدثت الفتنة بينه وبين معاوية ، وقامت بينهما حرب الجمل ثم صفِّين حتى اضطر عليّ لأنْ يكتب مع معاوية وثيقة لإنهاء القتال أملى عليّ : هذا ما تعاهد عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، فقالوا له : لو أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، فاسترجع عليٌّ قول رسول الله : " سَتُسام مثلها فتقبل " .
إذن : خرق الله لرسوله حجاب الزمن الماضي ، والزمن المستقبل ، فماذا عن الزمن الحاضر؟ وكيف يكون خرق الحجاب فيه؟ هذا في مثل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ . . . } [ المجادلة : 8 ] فأطلعه الله على ما في نفوس القوم .
وفي غزوة مؤتة ، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك سُمِّيت غزوة - لأن الغزوة لا تُقَال إلا للمعركة التي حضرها رسول الله ، أما في مؤتة فقد حضرها وشاهدها وهو في المدينة ، حيث كشف الله له حجاب الحاضر ، فصار يخبر أصحابه في المدينة بما يجري في مؤتة وكأنها رَأْيُ العين .
(1/6867)

ويومها تولى القيادة جماعة من كبار الصحابة : زيد بن حارثة ، وابن رواحة ، وجعفر بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، فكان صلى الله عليه وسلم يقول : قُتِل فلان وسقطت الراية ، فأخذها فلان وقُتِل وحملها فلان . . إلخ فلما عادوا من الغزوة أخبروا بنفس ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول الحق سبحانه : { ولولا أَن تُصِيبَهُم . . . } .
(1/6868)

وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
المعنى : لولا أن تصيبهم مصيبة بما قدَّمَتْ أيديهم لَعذَّبناهم فاحتجوا قائلين : { رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ القصص : 47 ] فلو عذَّبهم الله دون أن يرسل إليهم رسولاً لكانت حجة لهم .
وسبق أنْ قُلْنا : إنه لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنصٍّ ولا نصَّ إلا بإعلام ، لذلك تُنشر الأحكام في الوقائع الرسمية ليعرفها الجميع ، فتلزمهم الحجة ، ولا يُعْذَر أحد بالجهل بالقانون ، ولا يُعفى من العقاب .
إذن : قطع الله عليهم الحجة ، حين بعث إليهم رسول الله بمنهج الحق الذي يدلهم على الخير والثواب عليه في الجنة ، ويحذرهم من الشر والعقاب عليه في النار { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل . . . } [ النساء : 165 ] .
إذن : الحكمة من إرسال الرسول إقامة الحجة على المرسَل إليهم مجرد إقامة الحجة؛ لأن قضايا الدين قضايا حقٍّ فطري يهتدي إليها العقل السليم بفطرته؛ لذلك وقف المستشرقون طويلاً عند شخصية عمر - رضي الله عنه - .
يقولون : تذكرون عمر في كل شيء : في العدل تقولون عمر ، وفي القوة تقولون عمر ، وفي وجود رسول الله تقولون نزل القرآن موافقاً لكلام عمر ، أليس عندكم إلا عمر؟
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يدلُّنا بشخصية عمر إلى أنه سبحانه لم يُكلِّفنا بقضايا تنفر منها الفطرة ، إنما بقضايا تقبلها فطرتنا السليمة ، وتهتدي إليها بطبيعتها السوية الخالية من الهوى ، وهذا عمر لم يكُنْ نبياً ولا رسولاً ، لكن كان يصل إلى الحق بما فيه من فطرة إيمانية وعقلية سالمة من الأهواء ، حتى وصلت به الفطرة السليمة إلى أنْ ينطق القرآن بنفس ما نطق به .
وكلمة { ولولا . . . } [ القصص : 47 ] تأتي بأحد معنيين : إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية فهي حرف امتناع لوجود ، كما لو قلت : لولا زيد عندك لَزرتُكَ ، فامتنعتْ الزيارة لوجود زيد ، ومن هذه قوله تعالى : { ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ . . . } [ القصص : 47 ] والتقدير : لولا إصابتهم .
فإنْ دخلتْ ( لولا ) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثَّ والحضَّ ، كما تقول لولدك : لولا ذاكرتَ دروسك ، وكذلك لولا الثانية في الآية { فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ القصص : 47 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا . . . } .
(1/6869)

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا . . . } [ القصص : 48 ] أي : الرسول الذي طلبوه { قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى . . . } [ القصص : 48 ] سبحان الله ، إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً ، لقد طلبتم مجرد الرسول ولم تطلبوا معه معجزة معينة فقلتم : { رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً . . . } [ القصص : 47 ] والآن تطلبون آيات حِسيِّة كالتي أرسل بها موسى من قبل .
والمتأمل يجد أن الآيات قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانت آيات حِسيِّة كونية ، مثل سفينة نوح عليه السلام ، وناقة صالح عليه السلام ، وعصا موسى عليه السلام ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلام . وهذه كلها معجزات حسية تنتهي بانتهاء وقتها ، فهي مناسبة للرسل المحدودي الزمن ، والمحدودي المكان .
أما الرسول الذي أُرسِلَ للناس كافَّة في الزمان وفي المكان ، فلا تناسبه الآية الحسيِّة الوقتَية؛ لأنها ستكون معجزة لزمانها ، وتظل العصور فيما بعد بلا معجزة ، لذلك جاء الحق - تبارك وتعالى - على يد محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزة باقية خالدة محفوظة بحِفْظ الله إلى يوم القيامة .
وقلنا : إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان الرسول يأتي بمعجزة تثبت صِدْق بلاغه عن الله ، ومعه كتاب يحمل منهجه ، فالكتاب غير المعجزة ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت معجزته هي عَيْن الكتاب والمنهج الذي أُرسِل به ليظل الدليل على صِدْقه باقياً مع المنهج الذي يطالب الناس به ، وإلى أن تقوم الساعة نظل نقول : محمد رسول الله معجزته هي عَيْن الكتاب والمنهج الذي أُرسل به ليظل الدليل على صِدقْه باقياً مع المنهج الذي يطالب الناس به ، وإلى أن تقوم الساعة نظل نقول : محمد رسول الله وهذه معجزته .
أمَّا إخوانه من الرسل السابقين فنقول فلان ، وكانت معجزته كذا على سبيل الإخبار ، والخبر يحتمل الصِّدْق ويحتمل الكذب .
وقد صدَّقنا بهذه المعجزات كلها؛ لأن الله أخبرنا بها في القرآن الكريم ، فللقرآن الذي جاء معجزة ومنهجاً الفضل في إبقاء هذه المعجزات؛ لأنه أخبر بها وخلَّد ذكرها .
ثم يرد الله عليهم : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ . . . } [ القصص : 48 ] ثم يحكي ما قالوا عن معجزة موسى ، وعن معجزة محمد { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا . . . } [ القصص : 48 ] أي : أن موسى جاء بسحر ، ومحمد جاء بسحر آخر ، وقد { تَظَاهَرَا . . } [ القصص : 48 ] علينا يعني : تعاونا ، وهي مأخوذة من الظهر كأنك قُلْت : أعطني ظهرك مع ظهري لنحمل الحِمْل معاً ، والظهْر محلُّ الحمل .
والرد على هذا الاتهام يسير ، فمعجزة موسى وإنْ كانت من جنس السحر إلا أنها ليست سحْراً ، فالسحر يُخيِّل لك أن الحبال حية تسعى ، أمّا ما فعله موسى فكان قلب العصا إلى حية حقيقية تسعى وتبتلع سحرهم ، لذلك أُلقي السحرة ساجدين؛ لأنهم رأوا معجزة ليستْ من جنس ما نبغوا فيه فآمنوا من فورهم .
أما الذين قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم : إنه ساحر فالردُّ عليهم بسيط : فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً كما سحر المؤمنين به؟
ثم يؤكدون كفرهم بكل من الرسولين : موسى ومحمد : { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [ القصص : 48 ] .
(1/6870)

قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
معنى { قُلْ . . . } [ القصص : 49 ] أي : في الردّ عليهم { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ . . . } [ القصص : 49 ] أي : أهدى من التوراة التي جاء بها موسى ، وأهدى من القرآن الذي جاء به محمد ما دام أنهما لم يُعجباكم { أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49 ] يعني : لو جئتمُ به لاتبعته .
وهذا يعني منهجين : منهج حقٍّ جاء به محمد ، ومنهج باطل يُصرون هم عليه ، وهذا التحدي من سيدنا رسول الله للكفار يعني أنه لا يوجد كتاب أهدى مما جاء به ، لا عند القوم ، ولا عند مَنْ سيأتي من بعدهم ، وحين يُقر لهم رسول الله بإمكانية وجود كتاب أَهْدى من كتابه يطمعهم في طلبه ، فإذا طلبوه لم يجدوا كتاباً أهدى منه ، فيعرفوا هم الحقيقة التي لم ينطق بها رسول الله ، وهل يستطيع بشر أن يضع للناس منهجاً أهدى من منهج الله؟
إذن : يقول لهم : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49 ] وهو يعلم أنهم غير صادقين ، لأن الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتَم الرسل ، فلن يأتي رُسُل بعده ، بحيث يأتي الرسول فتستدركوا عليه فيأتي آخر بكتاب جديد ، وأنتم لن تستطيعوا أنْ تأتوا بكتاب من عند أنفسكم؛ لأن كل مُقنّن سيأتي الذي يخدم مذهبه ، ويُرضي هواه .
لذلك نقول : ينبغي في المقنِّن ويُشترط فيه :
أولاً : أن يكون على علم واسع ، بحيث لا يُسْتدرك عليه فيما بعد ، وهذه لا تتوفر في أحد من البشر ، بدليل أن القوانين التي وُضِعت في الماضي لم تَعُدْ صالحة الآن ينادي الناس كثيراً بتعديلها ، حيث طرأتْ عليهم مسائل جديدة غابتْ عن ذِهْن المشرِّع الأول ، فلما جدَّتْ هذه المسائل أتعبت البشر بالتجربة ، فَطالبوا بتعديلها .
ثانياً : يشترط في المشرِّع ألاَّ يكون له هوى فيما يُشرِّع للناس ، ونحن نرى الرأسماليين والشيوعيين ، وغيرهم كُلٌّ يشرع بما يخدم مذهبه وطريقته في الحياة؛ لذلك يجب ألاّ يُسند التشريع للناس لأحد منهم؛ لأنه لا يخلو من هوى .
ثالثاً : يُشتَرط فيه ألاَّ يكون منتفعاً بشيء مما يشرع .
وإذا اقتضت مسائل الحياة وتنظيماتها أنْ نُقنّن لها ، فلا يُقنِّن لنا من البشر إلا أصحاب العقل الناضج والفكر المستقيم ، بحيث يتوفر لهم نُضْج التقنين ، لكن إلى أنْ يوجد عندهم نضج التقنين أيّ منهج يسيرون عليه؟
فإنْ حدثتْ فجوة في التشريع عاش الناس بلا قانون ، وإلاَّ فما الذي قنَّنَ لأول مُقنِّن؟ الذي قنّن لأول مُقنِّن هو الذي خلق أول مَن خُلق .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا . . . } .
(1/6871)

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
وهذا يعني أن الله تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا ، فلم يَأْتِهم بكتاب آخر ، لكن كيف كان سيأتيهم هذا الكتاب؟ يجيب الحق - تبارك وتعالى - على هذا السؤال بقوله تعالى : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
إذن : الكلام عندهم ليس في الكتاب ، إنما فيمن أُنزِل عليه الكتاب ، وهذا معنى : { فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ . . . } [ القصص : 50 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَمَنْ أَضَلُّ . . . } [ القصص : 50 ] يعني لا أضل { مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله . . . } [ القصص : 50 ] أي : أتبع هوى نفسه ، أما إنْ وافق هواه هوى المشرِّع ، فهذا أمر محمود أوضحه رسول الله في الحديث الشريف : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " .
فنحن في هذه الحالة لا نتبع الهوى إنما نتبع الشرع؛ لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم في الطاعة والعبادة : اللهم إنِّي أخشى ألاَّ تثيبني على طاعتي؛ لأنك أمرتنا أنْ نحارب شهوات أنفسنا ، وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي .
وأضلُّ الضلال أن يتبع الإنسان هواه؛ لأن الأهواء متضاربة في الخَلْق تضارب الغايات ، لذلك المتقابلات في الأحداث موجودة في الكون .
وقد عبَّر المتنبي عن هذا التضارب ، فقال :
أَرَى كُلَّنَا يَبْغي الحياةَ لنفسهِ ... حَرِيصاً عَليها مُسْتهاماً بها صبَّا
فحبُّ الجبانِ النفس أوردَهُ التقى ... وحُبُّ الشجاع النفسَ أَوردَهُ الحَربَا
فنحن جميعاً نحب الحياة ونحرص عليها ، لكن تختلف وسائلنا ، فالجبان لحبه الحياة يهرب من الحرب ، والشجاع يُلقي بنفسه في معمعتها مع أنه مُحِبٌّ للحياة ، لكنه محب لحياة أخرى أبقى ، هي حياة الشهيد .
وآخر يقول :
كُلُّ مَنْ في الوُجودِ يطلبُ صَيْداً ... غير أنَّ الشباك مُختلِفَات
فالرجل الذي يتصدق بما معه رغم حاجته إليه ، لكنه رأى مَنْ هو أحوج منه ، وفيه قال تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } [ الحشر : 9 ] .
نقول : هذا آثر الفقير على نفسه ، لكنه من ناحية أخرى يبغي الأجر ويطمع في عَشْرة أمثال ما أنفق ، بل يطمع في الجنة ، إذن : المسألة فيها نفعية ، فالدين عند المحققين أنانية ، لكنها أنانية رفيعة راقية ، ليست أنانية حمقاء ، الدين يرتقي بصاحبه ، ويجعله إيجابياً نافعاً للآخرين ، ولا عليه بعد ذلك أن يطلب النفع لنفسه .
فالشرع حين يقول لك : لا تسرق . وحين يأمرك بغضِّ بصرك ، وغير ذلك من أوامر الشرع ، فإنما يُقيِّد حريتك وأنت واحد ، لكن يُقيِّد من أجلك حريات الآخرين جميعاً ، فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك ، فإذا نظرت إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج الإلهي فلا تَنْسَ ما أعطاك .
لذلك حين " نتأمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من الأعراب الذين آمنوا ، يشتكي إليه ضَعْفه أمام النساء ، وقلة صبره على هذه الشهوة ، حتى قال له : يا رسول الله ائذن لي في الزنا ، ومع ذلك لم ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل علم أنه أمام مريض يحتاج إلى مَنْ يعالجه ، ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة ، خاصة وقد صارح رسول الله بما يعاني فكان صادقاً مع نفسه لم يدلس عليها .
لذلك أدناه رسول الله ، وقال له : يا أخا العرب ، أتحب ذلك لأمك؟ أتحب ذلك لزوجتك؟ أتحب ذلك لأختك؟ أتحب ذلك لابنتك؟ والشاب في كل هذا يقول : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِداك .
عندها قال صلى الله عليه وسلم : " كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبون ذلك لأمهاتهم ولا لزوجاتهم ولا لأخواتهم ولا لبناتهم " .
(1/6872)

فانصرف الشاب وهو يقول : والله ما شيء أبغض إليَّ من الزنا بعدما سمعتُ من رسول الله ، وكلما هَمَّتْ بي شهوة ذكرتُ قول رسول الله في أمي ، وزوجتي ، وأختي ، وابنتي .
فالذي يُجرِّيء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب ، وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها .
وسبق أن قلنا لطلاب الجامعة : هَبُوا أن فتى عنده شَرَه جنسي ، فهو شرهٌ منطلق يريد أنْ يقضي شهوته في الحرام ، ونريد له أن يتوب فقلنا له : سنوفر لك كل ما تريد على أنْ تُلقي بنفسك في هذا ( الفرن ) بعد أن تُنهي ليلتك كما تحب ، ماذا يصنع؟
ثم يقول تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ القصص : 50 ] وفي مواضع أخرى : { لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] ، { لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ] ، وكلها دلَّتْ على أن الله لا يصنع عدم الهداية والتقوى - وإلاَّ فقد هدى الله الجميع هداية الدلالة والإرشاد فلم يأخذ بها هؤلاء فحُرِموا هداية الإيمان .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ . . . } .
(1/6873)

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
كلمة { وَصَّلْنَا . . } [ القصص : 51 ] تُشعر بأشياء ، انفصل بعضها عن بعض ، ونريد أنْ نُوصِّلها ، فقوله تعالى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 51 ] أي : وصَّلنا لهم الرسالات ، فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم الله برسالة أخرى ليظلَّ الخَلْق مُتصلِين بهدي الخالق وبمنهجه ، أو : أن الأمر خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وصَّلنا له الآيات ، فكلما نزل عليه نجم من القرآن وصَّلنا بنجم آخر حسب الأحداث .
لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول الله ، حين قالوا كما حكى عنهم القرآن { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً . . . } [ الفرقان : 32 ] فردَّ عليهم القرآن ليبين لهم حكمة نزوله مُنجَّماً : { كَذَلِكَ . . . } [ الفرقان : 32 ] أي : أنزلناه كذلك مُنجَّماً { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] .
فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول الله مرة واحدة ، وهو محتاج إلى تثبيت مستمر مع الأحداث التي سيتعرَّض لها ، فيوصل الله له الآيات ليظل على ذَكْر من سماع كلام ربه كلما اشتدتْ به الأحداث ، فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلِّيه ، ويُسرِّي عنه ما يلاقي من خصومه .
وحكمة أخرى في قوله : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] فكلما نزل قِسْط من القرآن سَهُلَ عليهم حفظه وترتيبه والعمل به ، كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا ، وسوف يسألون فيها رسول الله ، فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة .
لا بُدَّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] .
وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى ، فكيف تتأتى لنا الإجابة لو جاء القرآن كما تقولون جملة واحدة ، ثم سبحان الله هل اطقتموه مُنجمَّاً حتى تطلبوه جملة واحدة؟
ثم تختم الآية بحكمة أخرى : { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 51 ] فكلما نزل نجم من القرآن ذكَّرهم بما غفلوا عنه من منهج الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { الذين آتَيْنَاهُمُ . . . } .
(1/6874)

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
كأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : سأجعل خصومك من أهل الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لأنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم ، وما جاء في كتابك ذُكرَ في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم .
لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب الله تُعوِّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن ، يقول تعالى : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] .
فهم أيضاً شهداء على صدق رسول الله بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم .
ويقول تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى * إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 16-19 ] .
ويقول سبحانه : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ . . . } [ آل عمران : 199 ] .
وإلا ، فلماذا أسلم عبد الله بن سلام وغيره من علماء اليهود؟
إذن : أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم لا بُدَّ أنْ يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل الإسلام ، سيادةً في العلم ، وفي الحرب ، وفي الثروة .
وكان من هؤلاء عبد الله بن أُبَيٍّ ، وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكاً عليهم ، فلما هاجر سيدنارسول الله إليها أفسد عليهم ما يريدون ، ونزع منهم هذه السيادة ، والسلطة الزمنية حينما تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات الله لخدمة أهوائهم ، لا لخدمة مرادات الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ . . . } .
(1/6875)

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يُتْلَى عليهم القرآن قالوا : آمنا به ، وشَهِدوا له أنه الحق من عند الله ، وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيماناً ، فهم كانوا من قبله مسلمين ، فقد آمنوا أولاً بكتبهم ، وآمنوا كذلك بالقرآن .
(1/6876)

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد ديناً حقاً لا بُدَّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة ، لأنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول ، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد ، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين .
هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل ، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل ، فالمسألة واضحة؛ لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد ديناً { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة . . . } [ الأعراف : 157 ] .
آمنوا به؛ لأنهم وجدوا نَعْته ، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه ، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئاً من هذا ، فأخذوا من أميته دليلاً على صِدْقه .
فقوله تعالى : { أولئك . . . } [ القصص : 54 ] أي : أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله ، والذين سبق وصفهم { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ . . . } [ القصص : 54 ] أجر لإيمانهم برسلهم ، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم .
لذلك جاء في الحديث الشريف : " ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي ، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه ، ورجل عنده أَمَة - جارية - فأدَّبها فأحسن تأديبها ، فأعتقها بعد ذلك ، ثم تزوجها " .
وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم ، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة ، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول ، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني ، فصبروا على الإيذاءين ، وهذه هي حيثية { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ . . . } [ القصص : 54 ] .
وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين ، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين ، ومنهم - كما بيَّن سيدنا رسول الله : " عبد مملوك أدى حق الله ، وأدَّى حق أوليائه ، ورجل عنده أَمَةٌ . . . " .
ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام ، وأتى قبله ، وهو المسيحية ، فلهم ذلك أيضاً؛ لذلك يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . . . } [ الحديد : 25 ] وأهم هذه المنافع { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب . . . } [ الحديد : 25 ] وذكر الحديد ، لأن منه سيصنع سلاح الحرب .
إذن : أنزل الله القرآن لمهمة ، وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعر :
فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أَوْ حَدٌّ مُرْهَف ... يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍ
فَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ ... وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهل
ولي أنا شخصياً ذكريات ومواقف مع هذه الآية { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ . . . } [ القصص : 54 ] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين ، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر ، كان دائماً يُواسي المسلمين ، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن ، وكانت تعلَق بذهنه بعض الآيات ، فجاءني مرة يقول : سمعت المقريء يقرأ :
(1/6877)

{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] .
فألسنا من العالمين ، قلت له : نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعاً ، فمَنْ آمن به نالته رحمته ، ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها ، ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعانٍ وتبصُّر تجد أنه رحِم غير المؤمن ، قال : كيف؟ فقرأتُ له قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس . . . } [ النساء : 105 ] ولم يقل بين المؤمنين { بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] .
فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم ، وأنْ يردَّ عليه حقَّه ، ثم { واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 106 ] لأن الله لا يحب الخوَّان الأثيم ولو كان مسلماً .
ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الآية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طعمة بن أبيرق المسلم ، وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان ، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه ، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق ، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته ، وأذاع أمره بين الناس ، فقصَّ اليهودي ما كان من أمر طُعْمة بن أبيرق ، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة؛ لأنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته .
وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم؛ لأنه حديث عهد بإسلام ، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق ، ومالوا إلى إدانة اليهودي ، وفعلاً عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلاً يُخرجه من هذا المأزق ، مع أنهم لا يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق .
وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر ، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي ، فيقول له : هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] .
فأدانت الآية ابن أبيرق ، ودلَّتْ على أن هذه ليست الحادثة الأولى في حقِّه ، ووصفتْه بأنه خوّان أي : كثير الخيانة وبرَّأتْ اليهودي ، وصححتْ وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة المسلم بالسرقة ، وغفلوا عن الأثر السيء لو قلبوا الحقائق ، وأدانوا اليهودي .
فالآية وإنْ أدانت المسلم ، إلا أنها رفعتْ شأن الإسلام في نظر الجميع : المسلم واليهودي وكل من عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الآية ، ولو انحاز رسول الله وتعصَّب للمسلم لاهتزتْ صورة الإسلام في نظر الجميع . ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم الإسلام ، وقد أسلموا فعلاً بعد ما حدث؟
وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه ، حتى قالوا : مَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره ، وإنْ أعَنْتَه على أمره ، فشاهد الزور يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته ، وتطأ قدمُك على كرامته .
وقوله تعالى : { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة . . . } [ القصص : 54 ] هذه أيضاً من خصالهم أن يدفعوا السيئة بالحسنة ، فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ القصص : 54 ] النفقة الواجبة على نفسه وعلى آله ، والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة ، ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة .
(1/6878)

وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
هذه صفة أخرى من صفات المؤمنين { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ . . . } [ القصص : 55 ] واللغو : هو الكلام الذي لا فائدة منه ، فلا ينفعك إنْ سمعتَه ، ولا يضرك عدم سماعه ، وينبغي على العاقل أنْ يتركه ، فهو حقيق أنْ يُترك وأنْ يُلْغى .
ولذلك كان من صفات عباد الرحمن : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] أي : لا يلتفتون إليه .
وسبب نزول هذه الآية : لما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رُسُل النجاشي وكانوا جماعة من القساوسة ، فلما جلسوا أسمعهم سورة ( يس ) ، فتأثروا لها حتى بكَوْا جميعاً ، ثم آمنوا برسول الله ، ولما انصرفوا تعرَّض لهم أبو جهل ونهرهم وقال : خيَّبكم الله من رَكْب - وهم الجماعة يأتون في مهمة - أرسلكم من خلفي - يعني : النجاشي - لتعلموا له أخبار الرجل ، فسمعتموه فبكيتُم وأسلمتُم ، والله ما رأينا رَكْباً أحمق منكم ، فما كان منهم إلا أنْ أعرضوا عنه .
هذا معنى قول الحق سبحانه : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ . . . . } [ القصص : 55 ] .
وهؤلاء مرُّوا باللغو مرورَ الكرام ، وأعرضوا عنه ، فلم يلتفتوا إليه ، وزادوا على ذلك أنهم لم يسكتوا على اللغو إنما قالوا : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] لنا أعمالنا الخيِّرة التي يجب أنْ نُقبل عليها ، ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أنْ تُترك ، فكلٌّ مِنَّا له شَأْن يشغله .
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ . . } [ القصص : 55 ] والسلام إما سلام تحية كما هو شائع بيننا ، وإما سلام للمتاركة كما لو دخلتَ مع صاحبك في جدل ، فلما رأيتَ أنه سيطول وربما تعدَّيْتَ عليه فتقول له تاركاً : سلام عليكم . تعني : إنني ليس لديَّ ما أقوله لمفارقتك إلا هذه الكلمة .
ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وبين عمِّه ، فبعد أنْ ناقشه ولم يَصل معه إلى نتيجة قال له : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي . . . } [ مريم : 47 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . . . } .
(1/6879)

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
هذا خطاب لسيدنا رسول الله ، خاصٌّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلَّ على دين قومه ، ولكنه كان يحمي رسول الله حماية عصبية قربى وأهل ، لا محبة في الإسلام ، ولله تعالى حكمة في أنْ يظلَّ أبو طالب على الكفر؛ لأنه بذلك كسب قريشاً ونال احترامهم ، حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد وعدم مجاملته له ، وأعجبهم أن يظل على دين الآباء ، فاحترموا حمايته لابن أخيه ، وهذا منع عن رسول الله إيذاءهم ، وحمى الدعوة من كثير من الاعتداءات عليها .
لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أنْ يردَّ له هذا الجميل ، وردُّ رسول الله للجميل لا يكون بعرَض من الدنيا ، إنما بشيء باقٍ خالد ، فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم ، قُلْ لا إله إلا الله كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة " فقال : يا ابن أخي ، لولا أن قريشاً تُعيِّرني بهذه الواقعة ، ويقولون ما آمن إلا جزعاً من الموت لأقررت عينك بها .
لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب ، جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا محمد ، إن الكلمة التي طلبتَ من عمِّك أنْ يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها .
ونلاحظ هنا دقة الأداء من العباس ، حيث لم يقُلْ : إن هذه الكلمة لا إله إلا الله ، بل سماها ( الكلمة ) لماذا؟ لأنه لم يكن قد أسلم بعد .
وسبق أنْ تكلَّمنا في معنى الهداية { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . . . } [ القصص : 56 ] وقلنا : إنها تأتي بأحد معنيين : بمعنى الإرشاد والدلالة ، وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدلالة ، ومن ذلك قوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] أي : سمعوا الدلالة وأطاعوها ، فزادهم الله هداية أخرى ، هي هداية الإيمان والمعونة .
يقول تعالى في هذه المسألة : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] يعني : دللناهم { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] ؛ لذلك حُرموا هداية المعونة .
إذن : الهداية المنفية عن سيدنا رسول الله { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . . . } [ القصص : 56 ] هي هداية المعونة والتوفيق للإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والإرشاد ، وكان مما قال : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] .
فهداية الدلالة صدرت أولاً عن الله تعالى ، ثم بالبلاغ من رسوله صلى الله عليه وسلم ثانياً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ . . . } .
(1/6880)

وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وهذه المقولة { إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ . . . } [ القصص : 57 ] قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله ، وقال : إننا نعلم أنك جئتَ بالحق ، ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا ، ولا بُدَّ أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول .
والخطْف : هو الأخْذ بشدة وسرعة .
إذن : فهم يُقرُّون للرسول بأنه جاء بالحق ، وأنه على الهدى ، لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا ، وكان عليهم أنْ يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويُتخطَّفوا وبين أنْ يظلُّوا على كفرهم .
فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم - على فرض أن هذا صحيح - قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ به مدة بقائك فيها ، وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر ، ولا يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الآخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم ، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه .
أما إنْ ظلُّوا على كفرهم ، فمتاع قليل في الدنيا الفانية ، ولا نصيبَ لهم في الآخرة الباقية . إذن : فأيُّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول الله ، هذه واحدة .
ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تُتخطَّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد الله عليهم : قُلْ لهم يا محمد : كذبتم ، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القصص : 57 ] .
فقد أنعم الله عليكم وأنتم كافرون مشركون به ، تعبدون الأصنام في جاهلية ، ومكَّن لكم حياة آمنة في رحاب بيته الحرام ، ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذي زرع حيث يُجْبي إليه الثمرات من كل مكان ، فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به ، واهتديتم إلى الحق؟ كيف يكون منكم هذا القياس؟
ومعنى : { نُمَكِّن لَّهُمْ . . . } [ القصص : 57 ] نجعلهم مكينين فيه ، كما في قوله تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض . . . } [ يوسف : 21 ] والتمكين يدل على الثبات؛ لأن ظرف المكان ثابت على خلاف ظرف الزمان .
وقال : { حَرَماً آمِناً . . } [ القصص : 57 ] مع أن الأمن لمن في المكان ، لكن أراد سبحانه أن يُؤمِّن نفس المكان ، فيكون كل ما فيه آمناً ، حتى القاتل لا يُقتصّ منه في الحرم ، والحيوان لا يُثار فيه ولا يُصَاد ، والنبات لا يُعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن ، ألاَ تراهم يرجمون حجراً في رمي الجمرات في حين يُكرِّمون الحجر الأسود ويُقبّلونه .
(1/6881)

وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم - عليه السلام - نجد أن له خطة ، وأن الحق سبحانه يُعدُّه ليكون حرماً آمناً ، فلما جاءه إبراهيم قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم . . . } [ إبراهيم : 37 ] .
هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إلا الهواء ، لأن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء؛ لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر ، فلما علمتْ أنه اختيار الله لهم قالت : إذن لن يضيعنا .
وقد رأتْ بنفسها أن الله لم يُضيِّعهم ، فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ في طلبه بين الصفا والمروة سبعة أشواط على قَدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء في سَعْيها ، ولو أنها وجدته لكان سعيها سبباً إنما أراد الله أنْ يُصدِّقها في كلمتها ، وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب لتتأكد أن كلمتها حق ، ثم شاءتْ قدرة الله أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد ، وهو يضرب بقدمه الأرض ، ويبكي من شدة الجوع والعطش ، وانبجستْ زمزم .
ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقْفر أراده لهم سكناً دائماً ، لا مجرد استراحة من عناء السفر؛ لذلك قال : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات . . . } [ إبراهيم : 37 ] .
وكأنه - عليه السلام - يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان ، وأن يكون البيت مُصلَّى لله ، لا تنقطع فيه الصلاة ، وهذا هو الفرق بين بيت الله باختيار الله وبيت الله باخيتار عباد الله .
فالبيت الذي نبنيه لله تعالى قد يُغلق حتى في أوقات الفروض ، أما بيت الله الذي اتخذه لنفسه فلا يخلو من الطواف والصلاة في أيِّ وقت من ليل أو نهار ، ولا ينقطع منه الطواف إلا لصلاة مكتوبة ، فإذا قُضيتْ الصلاة رأيتهم يُهرعون إلى الطواف .
وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى ملأ ساحته ، ودخل الماء الكعبة وغطَّى الحجر الأسود ، فكان الناس يطوفون سباحة ، ورأينا أناساً يغطسون عند الحجر ليُقبِّلوه ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أن يظلَّ الطواف حول بيته لا ينقطع على أيِّ حال .
كذلك نفهم من قوله تعالى : { تهوي إِلَيْهِمْ . . . } [ إبراهيم : 37 ] .
من الفعل هَوَى يهوي ، يعني : سقط؛ لأن الذي يسقط لا إرادةَ له في عدم السقوط ، كذلك مَنْ يأتي بيت الله أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعاً يدفعه كأنه لا إرادة له .
كما نفهم منها معنى آخر ، فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها ، فمنّا مَنْ لا يصلي أو لا يُزكِّي . إلا الحج حيث قال الله فيه : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً . . . } [ الحج : 27 ] فمجرد أن تؤذن يأتوك .
لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويُمسك على أهله ليوفِّر تكاليف الحج ، فهو - إذن - الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها مَنْ لم تطلب منه .
(1/6882)

ونلحظ أن إبراهيم - عليه السلام - دعا بالأمن للحرم مرتين : مرة في قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً . . . } [ البقرة : 126 ] يعني : اجعل هذا المكان بلداً آمناً ، كأيِّ بلد آمن لا تُقام إلا في مكان يُؤَمِّنون فيه كل مُقوِّمات الحياة ، فأيّ بلد لا تُبنى حتى من الكافر إلا إذا كان آمناً فيها ، فالطلب الأول أنْ يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن ، كما يأمن كل بلد حين ينشأ ، وهذا أمن عام .
ثم يدعو مرة أخرى { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً . . . } [ إبراهيم : 35 ] بعد أن أصبحتْ مكة بلداً آمناً يطلب لها مزيداً من الأمن ، وهذا أمن خاص ، حيث جعلها بلداً حراماً ، يأمن فيها الإنسان والحيوان والنبات ، بل والجماد .
وقد وقف البعض عند قوله تعالى :
{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً . . . } [ آل عمران : 97 ] .
وقالوا : أين هذا الأمن ، وقد حدث في الحرم الاعتداء والقتل وترويع الآمنين ، كما حدث في أيام القرامطة لما دخلوا الحرم ، وقتلوا الناس فيه ، وأخذوا الحجر ، وفي العصر الحديث نعرف حكاية جهيمان ، وما حدث فيها من قَتْل في الحرم .
وهذه الآية : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً . . . } [ آل عمران : 97 ] جملة خبرية غرضها الأمر والحثّ ، كأنه تعالى قال : أمِّنوا من دخل الحرم . وهذه ليست قضية كونية ، إنما قضية شرعية ، وفرْق بين القضيتين : الكونية لا بُدَّ أن تحدث ، أما الشرعية فأمر ينفذه البعض ، ويخرج عليه البعض ، فمَنْ أطاع الأمر الشرعي لله وأراد أنْ يجعل أمر الله صادقاً يُؤمِّن أهل الحرم ، ومَنْ أراد أنْ يكذِّب ربه يهيج الناس ويروعهم فيه .
ومن الآيات التي كثيراً ما يُسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ . . . } [ النور : 26 ] يقولون : كثيراً ما يتزوج خبيث من طيبة ، أو طيبة من خبيث ، فالواقع لا يتفق مع الآية . نقول أيضاً هنا : هذه قضية شرعية تحمل أمراً قد يُطاع وقد يُعْصَى ، وليست قضية كونية لا بُدَّ أنْ تأتي كما أخبر الله تعالى بها ، ولا يتخلّف مدلولها .
فالمعنى في الآية : إن زوجتُم فزوِّجوا الخبيث للخبيثة ، والطيب للطيبة؛ ليتحقق التكافؤ بين الزوجين ويحدث بينهما الوفاق ، حتى إنْ عيَّر الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أنْ تردّ عليه ، لا بُدَّ من وجود التكافؤ حتى في ( القباحة ) ، وإلا فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث ، أو الخبيث مع الطيبة؟
إذن : فالآية وأمثالها قضية شرعية في صيغة الخبر ، وإنْ كانت تعني الأمر ، كما تقول عن الميت : رحمه الله بصيغة الماضي ، وأنت لا تدري رحمه الله ، أو لم يرحمه ، إذن : لا بُدَّ أن المعنى دعاء : فليرحمه الله ، قلتها أنت بصيغة الماضي ، رجاء أن تكون له الرحمة .
نعود إلى قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً . . . } [ القصص : 57 ] ونلحظ هذا التمكين وهذا الأمن من قصة الفيل ، حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة ، ويتقدّم الجيش فيل ضخم يقال له محمود ، فلما قالوا في أذنه ( أبرُكْ محمود وارجع راشداً ) يعني : انفد بجلدك ( فإنك ببلد الله الحرام ) فبرك الفيل واستجاب .
(1/6883)

ثم جاءت معركة الطير الأبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول . هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش فجعلهم كعصف مأكول . هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش سكان حرمه؛ لتظل الكعبة مسكونة بهم ، وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل الأنحاء للحج كل عام ، فسوف يظل لهم الأمن بين القبائل ، ولا يجرؤ أحد على الأعتداء عليهم ، أو التعرُّض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف ، وأيُّ أمن ، وأيُّ مهابة بعد هذا؟
ومع الحجيج يُجلب الطعام وتُجلب الأرزاق ، وصدق الله العظيم : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 1-4 ] .
وكيف بعد هذا الأمن والأمان يخاف مَنْ يؤمن بمحمد أنْ يُتخطَّف من أرضه؟ إنها مقولة لا مدلولَ لها .
(1/6884)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
كلمة { وَكَمْ . . } [ القصص : 58 ] كم هنا خبرية تفيد الكثرة ، كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على الكثرة ، كما تقول لمن ينكر جميلك ، ولا تريد أنْ تُعدد أياديك عليه : كم أحسنتُ إليك ، يعني : أنا لن أُعدِّد ، وسوف أرضى بما تقوله أنت لأنك واثق أن الإجابة سوف تكون في صالحك ، وعندها لا يملك إلا أن يقول : نعم هي كثيرة . فكم هنا تعني الكثرة ، وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه .
ومعنى : { مِن قَرْيَةٍ . . . } [ القصص : 58 ] من للعموم أي : من بداية ما يُقال له قرية { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] البطر : أن تنسى شُكْر المُنعم على نعمه ، أي : أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلَّبَ في نِعمه ، أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل .
ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة ، أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه ، كالولد الذي تأتي له أمه مثلاً بطبق العدس فيتبرَّم به ، وربما لا يأكل ، فتقول الأم كما نقول في العامية؛ أنت ( بتتبطر ) على نعمة ربنا؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفصحى .
إذن : من البطر أنْ تتجبَّر ، أو تتكبر ، أو تتعالى على نعمة الله ، فلا ترضي بها ، وتطلب أعلى منها .
ومعنى { مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] أي : أسباب معيشتها { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } [ القصص : 58 ] فما داموا قد بطروا نعمة الله فلا بُدَّ أن يسلبها من أيديهم ، وإنْ سُلبتْ نِعم الله من بلد هلكوا ، أو رحلوا عنها { إِلاَّ قَلِيلاً } [ القصص : 58 ] هم الذين يقيمون بعد هلاك ديارهم .
{ وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } [ القصص : 58 ] نرثهم لأنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم ، وإذا تُرِك مكان بلا خليفة يرثه آل ميراثه إلى الله تعالى .
وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع ، يقول تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله . . . } [ النحل : 112 ] يعني : بطرت بنعمه تعالى { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف . . . } [ النحل : 112 ] .
ومعنى الكفر بالله : سَتْر وجود الله ، والسَّتْر يقتضي مستوراً ، فكأن الأصل أن الله تعالى موجود ، لكن الكافر يستر هذا الوجود ، وهكذا يكون الكفر نفسه دليلاً على الإيمان ، فالإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه .
ومثال ذلك قولنا : إن الباطل جُنْدي من جنود الحق ، فحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته ، ويكتوون بناره ، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب ، ويطلبون فيه المخرج حين تعضُّهم الأحداث .
وكذلك نقول بنفس المنطق : الألم أول جنود الشفاء؛ لذلك نجد أن أخطر الأمراض هو المرض الذي يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيِّ ألم ، فلا يدرى به إلا وقد استفحل أمره ، وتفاقم خطره وعزَّ علاجه ، لذلك نسميه - والعياذ بالله - المرض الخبيث .
(1/6885)

ففي قوله تعالى : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله . . . } [ النحل : 112 ] .
دليل على وجود النعم ، ومع ذلك كفروا بها أي : ستروها ، إما بعدم البحث في أسبابها ، والتكاسل عن استخراجها ، أو ستروها عن المستحق لها وضنُّوا لها على العاجز الذي لا يستطيع الكسب؛ لذلك يسلبهم الله هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم .
وهناك أشياء لو ظلت موجودة لأعطتْ رتابة ، ربما فهموا منها أن هذه الأشياء إنما تأتيهم تلقائياً بطبيعة الأشياء ، وحين يسلب الله منهم نعمه ويطقع هذه الرتابة ، فإنما ليفهموا أن الرتابة في التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف ، كيف؟
نقول : الحق - تبارك وتعالى - حرَّم علينا أشياء وأحلَّ لنا أشياء ، فمثلاً حرَّم الله علينا الخمر حتى أصبحنا لا نشربها ولا حتى تخطر ببالنا ، فأصبحت عادة رتيبة عندنا ، والله تعالى يريد أنْ يُديم على الإنسان تكليف العبادة ، حتى لا يعتادها فيفعلها بالعادة ، فيكسر هذه العادة مثلاً في صوم رمضان .
ويُحرِّم عليك ما كان حلالاً لك طوال العام ، وقد اعتدْتَ عليه ، فيأتي رمضان وتكليف الصيام ليُحرِّم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالأمس ، ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوِّق العبد إليها ، وتُعوِّده الانضباط في أداء التكاليف .
ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة الله { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف . . . } [ النحل : 112 ] والجوع له مظهران : أنْ تطلبه البطن في أول الأمر ، فإنْ زاد الجوع ضعُفَتْ الجوارح ، وتألمتْ الأعضاء كلها ، وذاقتْ ألم الجوع ، والله تعالى يريد أنْ يُرينا إحاطة هذا الألم ، فشبَّهه باللباس الذي يحيط بالجسم كله ، ويلفّه من كل نواحيه .
وهذه سُنَّة الله في القُرى الظالمة ، كما قال سبحانه : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى . . . } .
(1/6886)

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
إذن : لا بُدَّ أن نُعْلِم بالمنهج ، ويأتي رسول يقول : افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، حتى إذا حَلَّ العذاب بالكافرين يكون بالعدْل ، وبعد إلزامهم الحجة ، لا أنْ نترك الناس يذنبون ، ثم نقول لهم : هذا حرام .
وسبق أنْ قُلْنا ما قاله القانون : لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنصًّ ، ولا نصَّ بإعلام . وما كان الله ليهلك قرية ظلماً ، إنما عقوبةً لهم على ما فعلوا .
والقرية لها تسلسل فنقول : ( نَجْع ) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة ، و ( كَفْر ) لعدة أسر ، ثم ( قرية ) ثم ( أم القرى ) وهي الحضر أو العاصمة ، وقد نزل القرآن في أمة مُتبدية ، تعيش على الترحال ، وتقيم في الخيام تتنقل بها بين منابت الكلأ ، فقالوا ( أم القرى ) للمكان الذي تجد به القرى ، وتتوفر فيه من مقومات الحياة ما لا يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغيرة ، كما يعيش الآن أهل الريف على قضاء حوائجهم من ( البندر ) ، كأنّ أُمّ القرى لها حنان ، يشمل صغار البلاد حولها .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة . . . } .
(1/6887)

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
معنى : { مِّن شَيْءٍ . . . } [ القصص : 60 ] من أيِّ شيء من مُقوِّمات الحياة ، ومن كمالياتها { فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا . . . } [ القصص : 60 ] فمهما بلغ هذا من السُّمو ، فإنه متاع عمره قليل ، كما قال سبحانه : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] .
لذلك طلبنا منكم ألاَّ تنشغلوا بهذا المتاع ، وألاَّ تجعلوه غايةً ، لأن بقاءك فيها مظنون ، ومتاعك فيها على قَدْر نشاطك وحركتك .
وسبق أنْ قلنا : إن آفة النعيم في الدنيا إما أن يتركك أو تتركه ، وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر الدنيا ، إنما مدة بقائك أنت فيها ، ومهما بلغتَ من الدنيا فلا بُدَّ من الموت .
لذلك يدلُّنا ربنا - عَزَّ وجَلَّ - على حياة أخرى باقية مُتيقَّنة لا يفارقك نعيمها ولا تفارقه .
{ وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ القصص : 60 ] .
{ خَيْرٌ . . . } [ القصص : 60 ] لأن النعيم فيها ليس على قَدْر نشاطك ، إنما على قَدْر الله وعطائه وكرمه ، { وأبقى . . } [ القصص : 60 ] لأنه دائم لا ينقطع ، فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة لاختار الآخرة .
لذلك ، فإن الصحابي الذي حدَّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد ، وتيقَّن أنه ليس بينه وبين الجنة إلا أنْ يُقتل في سبيل الله ، وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها ، ورأى أن مدة شغله بمضغها طويلة؛ لأنها تحول بينه وبين هذه الغاية ، ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة . لماذا؟ لأنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة .
والحق - سبحانه وتعالى - حين يُجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقول : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين . . . } [ التوبة : 52 ] إما أن ننتصر عليكم ونُذلكم ، ونأخذ خيراتكم ، وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا . . . } [ التوبة : 52 ] .
إذن : لا تتربصون بنا إلا خيراً ، ولا نتربّص بكم إلا شراً .
وفي موضع آخر قال سبحانه : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى } [ الأعلى : 16 - 17 ] لذلك ذيَّل الآية هنا بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ القصص : 60 ] لأن العقل لو قارن بين الدنيا والآخرة لا بُدَّ أنْ يختار الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ . . . . } .
(1/6888)

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
تُعد هذه الآية شرحاً وتأكيداً لما قبلها ، والوعد : بشارة بخير ، وإذا بشَّرك مُساوٍ لك بخير أتى خيره على قدر إمكاناته ، وربما حالت الأسباب دون الوفاء بوعده ، فإنْ كان الوعد من الله جاء الوفاء على قدر إمكاناته تعالى في العطاء ، ثم إنَّ وعده تعالى لا يتخلف { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله . . . } [ التوبة : 111 ] .
لذلك قال { وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ . . . } [ القصص : 61 ] أي : حتماً { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } [ القصص : 61 ] أي : للعذاب .
وهذه الكلمة { المحضرين } [ القصص : 61 ] لا تستعمل في القرآن إلا للعذاب ، وربما الذي وضع كلمة ( مُحضر ) قصد هذا المعنى؛ لأن المحضر لا يأتي أبداً بخير .
ويقول تعالى في موضع آخر : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 158 ] .
وقال تعالى : { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 57 ] ثم يقول سبحانه مُؤكِّداً هذا الإحضار يوم القيامة حتى لا يظن الكافر أن بإمكانه الهرب : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ . . . } .
(1/6889)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
والسؤال هنا للذين أشركوا ، لا لمن أُشرك بهم ، وكلمة { وَيَوْمَ . . . } [ القصص : 62 ] منصوبة على الظرفية ، لا بُدَّ أن نُقدِّر لها فعلاً يناسبها ، فالتقدير : واذكر يوم يناديهم ، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن لمن يذكره رسول الله؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة .
والآية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي لا واقعةَ بعدها ، ويوم الحاقَّة أي الثابتة التي لا تَزَحْزُحَ عنها ، ويوم الصَّاخة أي : التي تصخّ الآذان التي انصرفتْ عنها في الدنيا ، ويوم الطامة التي تطمُّ ، ويوم الدين ، أي : الذي ينفع فيه الدين .
والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لأمرين :
الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُودي وأُوذِي وهزِيء به وسُخِر منه ، واجتمعت عليه كل وسائل النكالَ من خصومة فبيَّتوا به بمكر ، وصنعوا له سحراً . . إلخ .
وحين تجد دعوة تُقابَل بهذه الشراسة ، فاعلم أنها ما قُوبلت هذه المقابلة إلا لأنها ستهدم فساداً ينتفع به قوم ترهبهم كلمة الإصلاح؛ لأنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم وطغيانهم ، فطبيعي أن يقفوا في وجهها .
لذلك نجد كثيراً من الغربيين يعرفون عظمة الإسلام من شراسة عداوة خصومه ، يقولون : لو لم يكُنْ هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه ، ولو كان أمراً هيِّناً لتركوه للزمن يمحوه ، لكنهم أيقنوا أنه الحق الذي سيُذهِب باطلهم ، ويقضي على طغيانهم .
فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه ، ويذكره لقومه ليعتبروا ، فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا إلى الله .
إذن : ليس حظ الله تعالى من هذا العمل أنْ يُرهبهم إنما ليحذرهم ، لئلا يقع منهم الكفر الذي يُوقِفهم هذا الموقف ، كما تُبشِّع لولدك عاقبة الإهمال ، وتُحذِّره من الرسوب لينفر من أسبابه ، ويبحث عن أسباب النجاح .
يقول تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ . . . } [ القصص : 62 ] وقد ناداهم في الدنيا : يا أيها الناس ، يا بني آدم فصمُّوا آذانهم ، وأعرضوا عن نداء الله ، واليوم يناديهم نداءً لا يملكون أنْ يصمُّوا آذانهم عنه؛ لأنه { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فكأن الحق يُذكِّرهم بهذا اليوم ، لعلهم يرعوون ، ولعلهم يرجعون .
الأمر الثاني : أن الآية جاءت تسلية لسيدنا رسول الله يقول له ربه : لا تيأس مما يصنعون معك ، ولا يحزنك كيدهم وعنادهم؛ لأنني سأصنع بهم كيت وكيت . وأنت تستطيع أن تدرك سِرَّ هذا الإيعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكو لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه فتقول أنت لتُرضيه : انتظر سوف أفعل به كذا وكذا ، فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة ويسعد بها ، وكذلك حين يسمع رسول الله العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها ، وتُسرِّي عن نفسه ما يلاقي .
(1/6890)

ومضمون النداء { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ] فلم يقُلْ شركائي ويسكت ، إنما وصفهم { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ] لأنه سبحانه واحد لا شريك له ، وهؤلاء شركاء في زعمهم فقط ، والزعم كما يقولون : مطية الكذب؛ لذلك لن يجدوا جواباً لهذا السؤال { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ] .
ولو كان أمامهم شركاء لقالوا : ها هم الذين أضلُّونا ، فأذِقْهم يا رب العذاب ضِعْفين ، لكنهم لم يجيبوا فهذا دليل على أنهم غَير موجودين ، لقد وقف هؤلاء المشركين حائرين ، لا يدرون جواباً كما قال تعالى : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء . . . } [ القصص : 66 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول . . . } .
(1/6891)

قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم ، ومعنى { حَقَّ عَلَيْهِمُ . . . } [ القصص : 63 ] أي : ثبت ووقع ، فهو أمر لا محالة منه ، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ } [ الصافات : 31 ] .
وقال الحق سبحانه وتعالى : { وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } [ النمل : 85 ] .
لكن ، ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقَّ عليهم؟ القول : أن كلَّ واحد له مكان عندي في الجنة على فَرْض أنكم جميعاً آمنتم ، وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعاً كفرتم .
وماذا قالوا؟ قالوا : { رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا . . . } [ القصص : 63 ] سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى ، كما قال تعالى في شأن فرعون : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } [ يونس : 91 ] .
الآن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الاختيار ، ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم ، فيدُكَ التي كنت تبطش بها ، ورِجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك . . كلها خرجت عن إرادتك وطَوْع أمرك؛ لأنها الآن طَوْعٌ لأمر الله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
ومعنى { هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ . . . } [ القصص : 63 ] أي : المشركين { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا . . . } [ القصص : 63 ] أي : لنكون سواء ، هذه عِلَّة غوايتهم ، أن يكونوا في الخُسْران سواء ، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم ، وليكونوا أمثالهم .
وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزماً مستقيماً ، لا يشاركه فساده وانحرافه ، فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده ، ولماذا يمتاز عنه الآخرون؟ واقرأ قوله تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً . . . } [ النساء : 89 ] .
ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم ، ليُزهدوهم في الخير والصلاح ، وليغروهم بما هم فيه ، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلَم من ألسنتهم ، كما يقول تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] .
وليت الأمر ينتهي عند الغَمْز واللمز ، إنما يتمادى هؤلاء ، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] يعني : فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة ، مما يدلّ على أنهم جميعاً تُسعِدهم هذه المسألة وتُرضي شيئاً في نفوسهم المريضة الحاقدة .
لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم ، وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء ، لذلك يتولَّى ربه - عز وجل - الدفاع عنه يقول له : لا تحزن فسوف نقتصُّ لك ، ونسخر منهم ، ونجعلهم أضحوكة في يوم بَاقٍ لا ينتهي فيه عذابهم : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }
(1/6892)

[ المطففين : 34-36 ] .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يسترضي عباده المؤمنين : أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم؟ نعم يا رب ، فسخرية الكفار من أهل الإيمان في دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية ، وهي سخرية دائمة لا نهاية لها .
إذن : { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا . . . } [ القصص : 63 ] يعني : حتى نكون سواء ، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر ، ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ ، لأنه لما طغى وطُرد من رحمة الله ، ومن الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملائكة . أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير ، فقد حَزَّ في نفسه أن يلاقي هذا المصير وحده ، في حين ينعَم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه .
لذلك نجد إبليس - لعنه الله - لا يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم ، إنما يطلب من الله أنْ يُنظره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية ، فهو ( المعلم ) الكبير ، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في الغواية قد لا ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] .
والبعض يفهم قوله تعالى : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 14-15 ] أن الله تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب ، لكن { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 15 ] ليست إجابةً ، إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب ، فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى؛ لأنك من المنظرين فعلاً ، لماذا؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أنْ يظلَّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة باقياً أمام ذريته ليُذكِّرهم دائماً : هذا الذي أغوى أباكم آدم .
وقولهم : { رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا . . . } [ القصص : 63 ] لنا وقفة مع { هؤلاء } [ القصص : 63 ] وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه ، تقول : هؤلاء الرجال ، وهؤلاء النساء ، وهي عبارة عن : الهاء للتنبيه ، وأولاء اسم إشارة ، وكذلك في هذا ، هذه ، هذان ، هاتان ، فالهاء فيها للتنبيه لتنبيه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه ، ويهتم بما تقول ، فلا يفوته من كلامك شيء .
هذا حين تخاطب مثلك لأنه يحتاج إلى تنبيه ، أما إذا خاطبت ربك - عز وجل - فمن سوء الأدب أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه ، كما استخدمها المشركون ، فما داموا قد قالوا { رَبَّنَا . . . } [ القصص : 63 ] فليس من الأدب أن يقولوا { هؤلاء . . . } [ القصص : 63 ] أيُنبِّهون الله عز وجل؟
لذلك نلحظ هذا الأدب في خطاب نبي الله موسى - عليه السلام - فيما حكاه عنه القرآن : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى * قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] فقال ( أولاء ) بدون هاء التنبيه تأدُّباً مع ربه عَزَّ وجَلَّ .
ونلحظ أنك لا تجد خطاباً من الكفار إلا باستخدام هؤلاء : { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا . . . } [ الأعراف : 38 ] { رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا } [ النحل : 86 ] أما المؤمن فلا يليق به أبداً أن يُنبِّه الله تعالى ، بل ولا تصدر من مؤمن لمؤمن لأنه دائماً منتبه .
(1/6893)

ثم يقولون : { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] الآن ينكُصون كما قالوا من قبل { رَبَّنَا . . . } [ القصص : 63 ] يقولون الآن { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ . . } [ القصص : 63 ] لكن هيهات تنفعهم هذه البراءة ، لقد انتهى وقتها ، ومضى زمن التكليف والاختيار ، والآن وقت الحساب وسلَبْ الإرادة والاختيار ، وما أشبههم بفرعون حين قال الله له : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين } [ يونس : 91 ] .
وقولهم : { مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] يقول الشركاء : ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها على عبادتنا ، ولا قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها ، إنما كنتم في انتظار إشارة منا ، كما قال كبيرهم إبليس : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ . . . } [ إبراهيم : 22 ] .
إذن : فهؤلاء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم؛ لأن الشركاء كانوا أصناماً أو غيرها ، وليس لهم منهج يتكلَّمون به ، ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به ، وإلا فماذا قالت الأصنام أو الشمس أو النجوم لمن عبدها؟ بِمَ أمرتهم ، وعمَّ نهتْهم؟
إذن : هو إله بلا منهج وبلا تكليف ، وهذا ما يريده المشركون؛ لأن الذي يُتعب الناس في قضية الإيمان بالألوهية ما تقتضيه من تكاليف ، وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية وما تشتهي ، ويُوقفها عند حدود لا تتعداها .
إذن : { مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] بل يعبدون ذواتهم ، ويعبدون شهواتهم ورغباتهم ، وما أسهل أن يعبد الإنسان آلهة لا تلزمه بشيء ، فيسير في حياته على هواه ، وهذه هي التي روجَتْ لعبادة هذه الآلهة .
لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم الإنسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الأولى لشهواته ، وإلا فلو أن المسألة كلها وسوسة شيطان ، فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولاً على حَدِّ قَوْل الشاعر :
إبليسُ لما عَصى مَنْ كان وسْوَسَهُ؟ ... إذن : فهي كبرياء النفس ورغباتها ، وليس للشيطان إلا أنْ يُلوِّح لها فتقع؛ لذلك جاء في الحديث الشريف : " إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة ، وغُلِّقت أبواب النار ، وسُلْسلت الشياطين " .
وما دامت الشياطين سُلسلت ، فليس لها حركة مع الإنس؛ لأن الله تعالى يعلم منّا أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان ، فكأنه سبحانه يقول : ها هي الشياطين صُفِّدت وسُلْسِلت ، فمَنْ أغواكم وزيِّن لكم حال سَلْسلتها؟ إذن : هي نفسك التي تَوسوس لك؛ لذلك نقول : كل معصية تقع في رمضان ليس للشيطان فيها نصيب ، إنما هي شهوة النفس .
وسبق أنْ بيِّنا كيف نُفرِّق بين المعصية متى تكون من الشيطان؟ ومتى تكون شهوة نفس؟ إنْ كانت المعصية تُوقفك عندها لا تتزحزح عنها إلى غيرها ، فاعلم أنها من نفسك ، أما إنْ عزَّتْ عليك معصية ففكَّرْتَ في غيرها ، فهي من الشيطان؛ لأنه والعياذ بالله يريدك عاصياً على أي وجه ، وبأيِّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها ، على خلاف شهوة النفس ، فهي تريد شيئاً بذاته لا تريد غيره .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ . . . } .
(1/6894)

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
وسبق أن ناداهم { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ] أي : في زعمكم؛ لأنه سبحانه ليس له شركاء ، وهنا يقول لهم { ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } [ القصص : 64 ] ولم يقُلْ شركائي ، مع أنهم اتخذوهم شركاء لله .
فمعنى { شُرَكَآءَكُمْ . . . } [ القصص : 64 ] أفي دعوى الألوهية؟ لا ، لأنهم تابعون لهم ، إذن : فما معنى { شُرَكَآءَكُمْ . . . } [ القصص : 64 ] ؟ قالوا : الإضافة تأتي بمعَانٍ ثلاثة : إما بمعنى ( من ) مثل : أردب قمح أي : من قمح ، أو بمعنى ( في ) مثل : مكرالليل أي : مكر في الليل ، أو : بمعنى ( لام ) الملكية مثل : قلم زيد أي : قلم لزيد .
فالمعنى هنا { شُرَكَآءَكُمْ . . . } [ القصص : 64 ] أي : من جنسكم أو فيكم يعني : لا يتميز عنكم بشيء ، والإله لا بُدَّ أن يكون من جنس أعلى ، فإنْ كان من جنسكم ، فهو مُسَاوٍ لكم ، لا يصلح أن تتخذوه إلهاً .
ومعنى { ادعوا شُرَكَآءَكُمْ . . } [ القصص : 64 ] يعني : نادوهم لينصروكم ، ويشفعوا لكم ، كما قلتم : { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] .
وقلتم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
إذن : فنادوهم ليُقربوكم من الله ، وليشفعوا لكم ، والذي يقوم بهذه المهمة لا بُدَّ أنْ يكون له منزلة عند الله يضمنها ، وهل يضمن هؤلاء الشركاء منزلة عند الله؟ كيف وهم لا يضمنونها لأنفسهم؟
{ فَدَعَوْهُمْ . . . } [ القصص : 64 ] يا شركاءنا ، يا مَنْ قُلْتم لنا كذا وكذا أدركونا { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ . . . } [ القصص : 64 ] لأنهم مشغولون بأنفسهم { وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } [ القصص : 64 ] يعني : لو كانوا يهتدون بهَدْي الله ، وهَدْي رسوله ، ويروْن العذاب الذي أنذرهم به حقيقة وواقعاً لا يتخلفون عنه لَمَا حدث لهم هذا ، ولما واجهوا هذه العاقبة .
أو : أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الآخرة تمنَّوا لو أنهم كانوا مهتدين .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ . . . } .
(1/6895)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
قال هنا أيضاً { يُنَادِيهِمْ . . . } [ القصص : 65 ] فما الغرض من كل هذه النداءات؟ إنها للتقريع وللسخرية منهم ، وممَّنْ عبدوهم واتبعوهم من دون الله ، ومضمون النداء : { مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } [ القصص : 65 ] والإجابة : موافقة المطلوب من الطالب ، فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله ، أأخذتُم بما جاءوا به من أحكام؟ أعلمتم منهم علماً يقينياً حقاً؟
وهذا الاستفهام للتعجيز؛ لأنهم إنْ حاولوا الإجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون؛ لذلك يقول بعدها { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء . . . } [ القصص : 66 ] أي : خفِيَتْ عليهم الحجج والأعذار وعموا عنها فلم يروْهَا { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ القصص : 66 ] لا يملكون إلا السكوت كما قالوا : جواب ما يكره السكوت ، وكما قال سبحانه : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] .
وهؤلاء لا يتساءلون؛ لأنهم في الجهل سواء ، وفي الضلال شركاء ، وكل منهم مشغول بنفسه { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34-37 ] .
وكما سُئِل المشركون : { مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } [ القصص : 65 ] في موضع آخر يسأل الرسل : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ . . . } [ المائدة : 109 ] أي : فيما علمتم من العلم ، وأوله : علم اليقين الأعلى ، وثانيها : علم الأحكام ، فبماذا أجابكم الناس؟
وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب لله ، وهم يعلمون تماماً بماذا أجاب أقوامهم ، وأن منهم مَنْ آمن بهم ، وتفانى في خدمة دعوتهم وضحّى واستشهد ، ومنهم مَنْ كفر وعاند ، ومع ذلك يقولون : { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } [ المائدة : 109 ] .
فكيف يقولون : { لاَ عِلْمَ لَنَآ . . } [ المائدة : 109 ] وهم يعلمون؟ قالوا : لأنهم غير واثقين أن مَنْ آمن آمن عن عقيدة أم لا ، فهم يأخذون بظواهر الناس ، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله ، كأنهم يقولون : أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق لا عن إجابة النفاق ، وإجابة الحق نحن لا نعرفها ، وأنت سبحانك علاَّم الغيوب .
إذن : جعلوا الحق - تبارك وتعالى - هو السُّلْطة التشريعية ، والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية في محكمة العدل الإلهي التي سيُعلن فيها على رؤوس الأشهاد { لِّمَنِ الملك اليوم . . . } [ غافر : 16 ] .
والسؤال عند العرب يُطلق ، إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف ، كما يسأل التلميذ أستاذه ، أو يكون السؤال للإقرار بما تعرف ، كما يسأل الأستاذ تلميذه ليقرّ على نفسه ، ومن ذلك قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] أي : سؤالَ علم؛ لأننا نعلم .
وقوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] أي : سؤال إقرار منهم ، وإنْ كان كلامي يوم القيامة حجة ، لأنه لا مردَّ له ، لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم ، وليشهدوا على أنفسهم .
والحق - تبارك وتعالى - يدلُّك على أنه تعالى يُبشِّع مظاهر يوم القيامة على الكافرين ، لا لأنه كاره لهم ، بل يريدهم أنْ يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلّهم يرعوون ويتوبون؛ لذلك يفتح لهم باب التوبة لأنه رب ورحيم .
(1/6896)

لذلك جاء في الحديث القدسي : " قالت الأرض : يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك . وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أنْ أخِرَّ على ابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك . فقال تعالى : دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم ، دعوهم فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وأنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " .
أعالجهم بالترغيب مرة ، وبالترهيب أخرى ، أشوِّقهم إلى الجنة ، وأخوِّفهم من النار ، وأفتح باب التوبة ، وفتْح باب التوبة ليس رحمة من الله للتائب فقط ، ولكن رحمة لكل مَنْ يشقى بعصيان غير التائب .
ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى ( فاقد ) يشقى به المجتمع طوال حياته ، إذن : ففتْح باب التوبة رحمة بالتائب ، ورحمة بمجتمعه ، بل وبالإنسانية كلها ، رحمة بالعاصي وبمَنِ اكتوى بنار المعصية .
(1/6897)

فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
لماذا استخدم هنا ( عسى ) الدالة على الرجاء بعد أنْ قال { مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً . . . } [ القصص : 67 ] ولم يقل : يكون من المفلحين فيقطع لهم بالفلاح؟
قالوا : لأنه ربما تاب ، لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلاح أو نقول أن ( عسى ) من الله تدل على التحقيق ، وسبق أنْ قُلْنا : إن الرجاءات على درجات : فالرجاء في المتكلم أقوى من الرجاء في الغائب ، فإنْ كان الرجاء في الله فهو أقوى الرجاءات كلها .
لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] فأيُّ رجاء أقوى من الرجاء في الله؟
إذن : ( عسى ) رجاء حين تصدر ممن لا يملك إنفاذ المرجو ، وتحقيق حين تصدر ممَّنْ يملك إنفاذ المرجو ، وهو الحق سبحانه وتعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ . . . } .
(1/6898)

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب ، لكن تأتي الآية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ . . . } [ القصص : 68 ] وكأن الحق سبحانه يقول : أنا الذي أعرف أين المصلحة ، وأعرف كيف أُريحكم من شرِّهم ، فدعوني أخلق ما أشاء ، وأختار ما أشاء ، فأنا الرب المتعهد للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه .
والمربِّي قسمان : إما مؤمن وإما كافر ، ولا بُدَّ أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر ، وأنْ يمتد هذا الشقاء إنْ بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة ، وقَبِلْتُ منه الرجوع ، وهذا أول ما يريح المؤمنين .
ومعنى : { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة . . . } [ القصص : 68 ] يعني : لا خيارَ لكم ، فدعوني لأختار لكم ، ثم نفِّذوا ما أختاره أنا .
أو : أن هذه الآية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ . . . } [ القصص : 68 ] قيلت للردِّ على قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . يقصدون الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي ، فردَّ الله عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . . . } [ الزخرف : 32 ] .
فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة ، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، فجعلنا هذا غنياً ، وهذا فقيراً ، وهذا قوياً ، وهذا ضعيفاً ، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها ، فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجِّهونها حسب اختيارهم؟!!
{ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة . . } [ القصص : 68 ] أي : الاختيار في مثل هذه المسائل .
ويجوز { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة . . . } [ القصص : 68 ] أي : المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم ، يقولون : لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا ، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟
والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده ، ولكن يرحمكم أنتم أيضاً حين يُريحكم من شرِّه .
وقوله : { سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ القصص : 68 ] أي : تعالى الله وتنزَّه عما يريدون من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر ، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر - وأهواؤهم مختلفة - لفسدتْ حياتهم جميعاً .
ألا ترى أن البشر مختلفون جميعاً في الرغبات والأهواء ، بل وفي مسائل الحياة كلها ، فترى الجماعة منهم في سنٍّ واحدة ، وفي مركز اجتماعي واحد ، فإذا توجَّهوا لشراء سلعة مثلاً اختار كل منهم نوعاً ولوناً مختلفاً عن الآخر .
(1/6899)

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
ما تُكنُّ صدورهم أي : السر { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] والسر : ما تركته في نفسك محبوساً ، وأسررْتَه عن الخَلْق لا يعرفه إلا أنت ، أو السر : ما أسررت به إلى الغير ، وساعتها لن يبقى سِراً ، وإذا ضاق صدرك بأمرك ، فصدر غيرك أضيق .
وإذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر ، فهو يعلم الجهر من باب أَوْلَى؛ لأن الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه . أما الأخفى من السر ، فلأنه سبحانه يعلم ما تُسِره في نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك ، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد .
ولك أن تسأل : إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر ، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين ( المنحلين ) الذين يجارونهم .
وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوَّى في علمه تعالى بين السر والجهر ، فقال سبحانه : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ . . . } [ الرعد : 10 ] .
وقال سبحانه : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ . . . } [ الملك : 13 ] .
والآية التي معنا : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ القصص : 69 ] وفي هذه الآيات قدّم السر على الجهر ، أما في قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى * إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } [ الأعلى : 6-7 ] .
وقال سبحانه : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] فقدَّم العلم بالجهر على العلم بالسرِّ ، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر ، وهذه الملحظية غفل عنها السطحيون ، فأخطأوا في فهم الآية .
فأنت مثلاً لو أسررتَ في نفسك شيئاً ، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك ، وربما خانك التعبير فدلَّ على ما أسررتْه ، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول . . . } [ محمد : 30 ] .
إذن : هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر ، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهراً واحداً؛ لأنه مقابل بالجمع : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] فالمعنى : ويعلم ما تجهرون وما تكتمون .
ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس ، يهتف كل منهم هتافاً ، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات ، وأنْ تُرجع كلاً منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبُّره ، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فَرْز الأصوات وتمييزها .
لذلك يقولون : لا تستطيع أنْ تُحدِّد جريمة في جمهور من الناس؛ لأن الأصوات والأفعال مختلطة ، يستتر كلٌّ منها في الآخر كما يقولون : الفرد بالجمع يُعْصَم .
ويقولون : الجماهير ببغائية ، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا ، لما انهزموا في يوم ( أكتيوما ) وأشاعوا أنهم انتصروا ، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم ، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير :
(1/6900)

اسْمع الشَّعْبَ دُيُونُ ... كَيْفَ يُوحُون إليْهِ
مَلأ الجوَّ هتافاً ... بِحيَاتيْ قَاتليْهِ
أثَّر البهتانُ فيه ... وَانْطلى الزُّور عليْه
يَا لَهُ مِنْ ببغاء ... عقلُه في أُذُنَيْه
إذن : فَعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنَّ الله بها ، كما يمتنُّ سبحانه بعلم السر .
وقال سبحانه { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ . . . } [ القصص : 69 ] ليُطمئن رسول الله؛ لأنه سبحانه ربه ، والمتولي لتربيته والعناية به ، يقول له : لا تحزن مما يقولون ، فأنا أعلم سِرَّهم وجهرهم ، فإنْ كنتَ لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه ، وسوف أخبرك به ، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ . . . } [ المجادلة : 8 ] .
فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس ، كأنه سبحانه يقول لرسوله : إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفتَ من أفعالهم فحسب ، بل بما لا تعلم مما فعلوه ، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يُحصي عليهم كل شيء .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ . . . } .
(1/6901)

وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
الله : هو المعبود بحقٍّ ، وله صفات الكمال كلها ، وهو سبحانه { لا إله إِلاَّ هُوَ . . . } [ القصص : 70 ] وما دام هو وحده سبحانه ، فلا أحد يفتن عليه ، أو يستدرك عليه بشيء ، وسبق أن قال لهم : هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علانية و ( نفاصل ) من صاحب هذه السلعة : أي يوم القيامة .
ومعنى : { الأولى . . . } [ القصص : 70 ] أي : الخَلْق الذي خلقه الله ، والكون الذي أعدَّه لاستقبال خليفته في الأرض : الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والأرض ، فقبل أنْ يأتي الإنسان أعدَّ الله الكونَ لاستقباله .
لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم لا يقول : إنه أول الخَلْق ، إنما أول بني آدم ، فقد سبقه في الخلق عوالم كثيرة؛ لذلك يقول تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] أي : لم يكن له وجود .
وإعداد الكون لاستقبال الإنسان جميل يستوجب الحمد والثناء ، فقد خلق الله لك الكون كله ، ثم جعلك تنتفع به مع عدم قدرتك عليه أو وصولك إليه ، فالشمس تخدمك ، وأنت لا تقدر عليها ولا تملكها ، وهي تعمل لك دون صيانة منك ، ودون أن تحتاج قطعة غيار ، وكذلك الكون كله يسير في خدمتك وقضاء مصالحك ، وهذا كله يستحق الحمد .
وبعد أنْ خلقك الله في كون أُعِدّ لخدمتك تركك ترتع فيه ، ذرة في ظهر أبيك ، ونطفة في بطن أمك إلى أنْ تخرج للوجود ، فيضمك حضنها ، ولا يكلفك إلا حين تبلغ مبلغ الرجال وسِنّ الرشد ، ومنحك العقل والنضج لتصبح قادراً على إنجاب مثلك ، وهذه علامة النضج النهائي في تكوينك كالثمرة لا تخرج مثلها إلا بعد نُضْجها واستوائها .
لذلك نجد في حكمة الله تعالى ألاَّ يعطي الثمرة حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها ، بحيث حين تزرعها بعد أكْلها تنبت مثلها ، ولو أُكلت قبل نُضْجها لما أنبتت بذرتها ، ولا نُقرض هذا النوع؛ لذلك ترى الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الأرض لتقول لك : أنا جاهزة .
لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمس مثلاً يسقط الثمر الناضج على الأرض ، ثم ينبت نباتاً جديداً ، يحفظ النوع ، ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت .
وكذلك الإنسان لا ينجب مثله إلا بعد نُضْجه ، وعندها يُكلِّفه الله ويسأله ويحاسبه . إذن : على الإنسان أنْ يسترجع فضل الله عليه حتى قبل أنْ يستدعيه إلى الوجود ، وأنْ يثق أن الذي يُكلِّفه الآن ويأمره وينهاه هو ربُّه وخالقه ومُربِّيه ، ولن يكلِّفه إلا بما يُصلحه ، فعليه أنْ يسمع ، وأنْ يطيع .
وقوله تعالى : { والآخرة . . . } [ القصص : 70 ] يعني : له الحمد في القيامة ، كما قال سبحانه : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] فيحمد الله في الآخرة؛ لأنه كان يمتعني في الدنيا إلى أمد ، ويمتعني في الدنيا على قَدْر إمكاناتي ، أما في الآخرة فيعطيني بلا أمد ، وعلى قَدْر إمكاناته هو سبحانه ، فحين نرى هذا النعيم لا نملك إلا أنْ نقول : الحمد لله ، وهكذا اجتمع لله تعالى الحمد في الأولى ، والحمد في الآخرة .
(1/6902)

وقوله تعالى : { وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] لأن الآخرة ما كانت إلا للحكم وللفصل في الخصومات ، حيث يعرف كلٌّ ما له وما عليه ، فلا تظن أن الذين آذوْك وظلموك سيُفِلِتون من قبضتنا .
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] أي : للحساب ، وفي قراءة ( تَرْجعون ) لأنهم سيرجعون إلينا ويأتوننا بأنفسهم ، كأنهم مضبوطون على ذلك ، كالمنبه تضبطه على الزمن ، كذلك هم إذا جاء موعدهم جاءونا من تلقاء أنفسهم ، دون أن يسوقهم أحد .
وعلى قراءة { تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] إياكم أن تظنوا أنكم بإمكانكم أن تتأبَّوْا علينا ، كما تأبِّيتُم على رسُلنا في الدنيا؛ لأن الداعي في الدنيا كان يأخذكم بالرفق واللين ، أما داعي الآخرة فيجمعكم قَسْراً ورَغْماً عنكم ، ولا تستطيعون منه فكاكا { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ . . . } .
(1/6903)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
يُعدِّد الحق - تبارك وتعالى - نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها ، فالحركة تأتي بالخير للناس ، والسكون يأتي بالراحة للمتعَب من الحركة ، والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعطي ويتعب إلا بعد راحة ، والذي يتحدَّى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار لا بُدَّ أنْ ينقطع ، وأن تُنهَك قواه فلا يستمر .
لذلك يقول تعالى : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى * وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 1-4 ] .
فكلٌّ من الليل والنهار له مهمة ، وكذلك الرجل والمرأة ، فإياكم أنْ تخلطوا هذه المهام ، وإلا فسدت الحياة وأتعبتكم الأحداث ، فقبل الكهرباء ودخول ( التليفزيون والفيديو ) المنازل كان يومنا يبدأ في نشاط مع صلاة الفجر ، لأننا كنا ننام بعد صلاة العشاء ، أما الآن فالحال كما ترى ، كنا نستقبل يومنا بحركة سليمة نشطة؛ لأننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام .
والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول { أَرَأَيْتُمْ . . . } [ القصص : 71 ] يعني : أخبروني ماذا تفعلون { إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة . . . } [ القصص : 71 ] يعني : طوال حياتكم { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ . . . } [ القصص : 71 ] والسرمد : الدائم المستمر .
وقال { بِضِيَآءٍ . . . } [ القصص : 71 ] ولم يقل بنور؛ لأن النور قد يأتي من النجوم ، وقد يأتي من القمر ، أمّا الضياء وهو نور وأشعة وحرارة ، فلا يأتي إلا من الشمس .
لذلك يقول سبحانه : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً . . . } [ يونس : 5 ] .
وقال : { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ . . . } [ القصص : 71 ] ولم يقُلْ : مَنْ يأتيكم بضياء ليلفت نظرنا إلى أن هذه المسألة لا يقدر عليها إلا إله ، ولا إله إلا الله ، وفي الضياء تبصرون الأشياء ، وتسيرون على هُدىً ، فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب ، وبالضياء أعايش الأشياء في سلامة لي ولها ، وإلاَّ لو سرْنا في الظلام لتحطمنا أو حطّمنا ما حولنا؛ لأنك حين تسير في الظلام إمّا أنْ تحطم ما هو أقل منك ، أو يحطمك ما هو أقوى منك .
وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات ، وضياء المعنويات القيم التي تحكم حركة الحياة وتعدلها ، وتحميك أنْ تُحطِّم مَنْ هو أضعف منك ، أو أنْ يُحطمك الأوقى منك؛ لذلك كان منطقياً أن يقول تعالى : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور . . . . } [ الأحزاب : 43 ] .
والمراد : من ظلمات المعاني إلى نور القيم ، لا ظلمات المادة لأنني لا أستغني عنه لراحتي ، فله مهمة عندي لا تقلّ عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل { نُّورٌ على نُورٍ . . . } [ النور : 35 ] .
نور مادي تُبصرون به الأشياء من حولكم ، فلا تتخبطون بها ، فتسلَم حركتكم ، وهذا النور المادي يشترك فيه المؤمن والكافر ، وينتفع به المطيع والعاصي ، فلم يضِنّ به على أحد من خَلْقه ، أما النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم ، فهذا يرسله الله على يدَيْ رسُله ، فإذا أخذ المؤمن النورين انتفع بهما في الدنيا ، وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة؛ لذلك قال بعدها :
(1/6904)

{ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ . . . } [ النور : 35 ] .
ولأن الآية الكريمة بدأت بقُلْ ، فمن المناسب أنْ تختم بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ . . . } [ القصص : 71 ] يعني : اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه .
ثم يمتنُّ الله تعالى بالآية المقابلة لليل ، وهي آية النهار : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة . . . } [ القصص : 72 ] يعني : دائم لا نهاية له { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] .
تلحظ أن هاتين الآيتين على نَسَق واحد ، لكن تذييلهما مختلف ، مما يدلُّ على بلاغة وإعجاز القرآن ، فلكلِّ معنىً ما يناسبه ، ففي آية الليل قال { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] وفي آية النهار قال : { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] ذلك لأن العين لا عملَ لها في الليل إنما للأذن ، فأنت تسمع دون أنْ ترى ، وبالأذن يتمُّ الاستدعاء .
أما في النهار وفي وجود الضوء ، فالعمل للعين حيث تبصر ، فهو إذن ختام حكيم للآيات يضع المعنى فيما يناسبه .
ثم يُجمل الله تعالى هاتين الآيتين في قوله سبحانه : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ . . . } .
(1/6905)

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
بعد أنْ فصَّل الله تعالى القولَ في الليل والنهار كلّ على حدة جمعهما؛ لأنهما معاً مظهر من مظاهر رحمة الله ، وفي الآية ملمح بلاغي يسمونه " اللف والنشر " ، فبعد أن جمع الله تعالى الليل والنهار أخبر عنهما بقوله : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . } [ القصص : 73 ] ثقة منه تعالى بفطْنة السامع ، وأنه سيردُّ كلاً منهما إلى ما يناسبه ، فالليل يقابل { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . . } [ القصص : 73 ] ، والنهار يقابل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . . } [ القصص : 73 ] .
فاللفُّ أي : جَمْع المحكوم عليه معاً في جانب والحكم في جانب آخر ، والنشرْ : ردّ كلِّ حكم إلى صاحبه .
وضربنا لذلك مثلاً بقول التيمورية :
قَلْبي وجَفْني واللسَانُ وخَالِقي ... رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِرٌ وغَفُور
فجمعتْ المحكوم عليه في الشطر الأول والحكم في الشطر الثاني ، وعليك أنْ تعيد كلَّ حكم إلى صاحبه .
والليل والنهار آيتان متكاملتان ، وبهما تنتظم حركة الحياة؛ لأنك إنْ لم ترتح لا تقوى على العمل؛ لأن لك طاقة ، وفي جسمك مُولِّدات للطاقة ، فساعةَ تتعب تجد أن أعضاءك تراخَتْ وأُجهدَتْ ، وهذا إنذار لك ، تُنبِّهك جوارحك لم تَعُدْ صالحاً للحركة ، ولا بُدَّ لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد .
والراحة تكون بقدر التعب ، فربما ترتاح حين تقف مثلاً في حالة السير ، فإنْ لم يُرِحْك الوقوف تجلس أو تضطجع ، فإنْ زاد التعب غلبك النوم ، وهو الرَّدْع الذاتي الذي يكبح جماح صاحبه إنْ تمرد على الطبيعة التي خلقها الله فيه .
ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة ، فيأخذ مُنشِّطات حتى لا يغلبه النوم ، ويأخذ مُهدِّئات لينام ، ولو أسلم نفسه لطبيعتها ، فنام حينما يحضره النوم ، وعمل حينما يجد في نفسه نشاطاً للعمل لأراحَ نفسه من كثير من المتاعب .
لذلك يقولون : النوم ضيف إنْ طلبك أراحك ، وإنْ طلبته أعْنتك ، وحتى الآن ، ومع تقدُّم العلوم لم يصلوا إلى سرِّ النوم ، وكيف يأخذ الإنسان في هدوء ولُطْف دون أنْ يشعر ماهيتهَ ، وأتحدى أن يعرف أحد منا كيف ينام .
لذلك جعل الله النوم آية من آياته تعالى ، مثل الليل والنهار والشمس والقمر ، فقال سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار . . . } [ الروم : 23 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ . . . } .
(1/6906)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك لا يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لأن كلَّ نداء منها له مقصوده الخاص ، فالنداء في الأولى خاص بمَنْ أشركوهم مع الله وما قالوه أمام الله تعالى : { رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا . . . } [ القصص : 63 ] .
أما الثانية ، فالنداء فيها للمشركين { مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } [ القصص : 65 ] .
أما هنا ، فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم . إذن : فكلمة ( أين ) و ( شركائي ) و ( الذين كنتم تزعمون ) قَدْر مشترك بين الآيات الثلاثة ، لكن المطلوب في كل قَدْر غير المطلوب في القَدْر الآخر ، فليس في الأمر تكرار ، إنما توكيد في الكل .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا . . . } .
(1/6907)

وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
أي : أخرجنا من كل أمة نبيّها ، وأحضرناه ليكون شاهداً عليها { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ . . } [ القصص : 75 ] أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون الله ، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات ، فقد اتخذتموهم من دون الله ، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات ، فقد ضلَّوا عنهم ، وهربوا منهم .
{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ القصص : 66 ] .
إذن : غاب شركاؤكم ، وغاب شهودكم ، لكن شهودنا موجودون { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً . . . } [ القصص : 75 ] يشهد أنه بلَّغهم منهج الله فإنْ قُلْتم : لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من الإنس ، نردّ عليكم بأننا ما تركناكم لإغوائهم ، فيكون لكم عذر ، إنما أرسلنا إليكم رسلاً لهدايتكم ، وقد بلّغكم الرسل .
وفي موضع آخر يقول تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .
فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلَّغت ، وأعذرتَ في البلاغ ، وأنك اضطهدت منهم ، وأوذيت ، وقد ضلَّ عنهم شركاؤهم ، ولم يجدوا مَنْ يشهد لهم أو يدافع عنهم؟ عندها تسقط أعذارهم وتكون المحكمة قد ( تنوَّرت ) .
ثم يقول تعالى : { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ . . . } [ القصص : 75 ] أي : قولوا : إن رسلنا لم يُبلِّغوكم منهجنا ، وهاتوا حجة تدفع عنكم ، فلما تحيَّروا وأُسقط في أيديهم حيث غاب شهداهم وحضر الشهداء عليهم { فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ . . . } [ القصص : 75 ] .
وفوجئوا كما قال تعالى عنهم : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ . . . } [ النور : 39 ] .
وقال : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً . . . } [ الكهف : 49 ] .
فوجئوا بما لم يُصدِّقوا به ولم يؤمنوا به ، لكن ما وجه هذه المفاجأة ، وقد أخبرناهم بها في الدنيا وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أنْ يأخذوا بها ، وأنْ يستعدوا لهذا الموقف ، فالعاقل حين تُحذره من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال حين يحتاط لنفسه أنْ يكون ناصحه كاذباً ، على حَدِّ قول الشاعر :
زَعَم المنجِّمُ والطبيبُ كلاهٌما ... لا تُبعَثُ الأجسَادُ قُلْتُ إليكُما
إن صَحَّ قولكُمَا فلسْتُ بخاسِرِ ... أوْ صَحَّ قَوْلي فالخسَار عليكُما
وما عليك إنْ حملتَ بندقية في هذا الطريق المخوف ، ثم لم تجد شيئاً يخيفك؟ إذن : أنتم إنْ لم تخسروا فلن تكسبوا شيئاً ، ونحن إنْ لم نكسب لن نخسر .
وقوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ . . . } [ القصص : 75 ] أي : غاب { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ القصص : 75 ] من ادّعاه الشركاء .
بعد أن أعطانا الحق - تبارك وتعالى - لقطة من لقطات يوم القيامة ، والقيامة لا تخيف إلا مَنْ يؤمن بها ، أما مَنْ لا يؤمن بالآخرة والقيامة فلا بُدَّ له من رادع آخر؛ لأن الحق سبحانه يريد أنْ يحمي صلاح الكون وحركة الحياة .
ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم ، ولَشقي الناس بهم ، والله تعالى يريد أنْ يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالآخرة ، فيجعل لهم عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة .
يقول تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ . . . } [ الطور : 47 ] يعني : قبل عذاب الآخرة .
فالذي يقع للكفار في الدنيا رَدْع لكل ظالم يحاول أنْ يعتدي ، وأنْ يقف في وجه الحق؛ لذلك يعطينا ربنا - عز وجل - صورة لهذا العذاب الدنيوي للمفسدين في الأرض ، فيقول سبحانه : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ . . . } .
(1/6908)

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الآخرة ، إنما يجعله مثَلاً وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم يؤمن بيوم القيامة لعلَّه يرتدع .
والنبي صلى الله عليه وسلم اضطهده كفار قريش ، ووقفوا في وجه دعوته ، وآذوْا صحابته ، حتى أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم ، ومع ذلك ينزل القرآن على رسول الله يقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
فيتعجب عمر رضي الله عنه : أيُّ جمع هذا؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا ، فلما وقعتْ بدر وانهزم الكفار وقُتِلوا . قال عمر : نعم صدق الله { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
لذلك يقولون : لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه ، ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام الله منه تعجّبوا وقال أحدهم : لا بُدَّ أن الله انتقم منه دون أن نشعر ، فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا ، فوراء هذه الدار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وعَدْل الله - عز وجل - يقتضي هذه المحاسبة .
والحق - تبارك وتعالى - يجعل من قارون عبرةً لكل مَنْ لا يؤمن بالآخرة ليخاف من عذاب الله ، ويحذر عقابه ، والعبرة هنا بمَنْ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم ، وأغنى أغنيائهم ، والفتوة فيهم ، فحين يأخذه الله يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه .
وحدَّثونا أن صديقاً لنا كان يعمل بجمرك الأسكندرية ، فتجمّع عليه بعض زملائه من الفتوات الذين يريدون فَرْضَ سيطرتهم على الآخرين ، فما كان منه إلا أنْ أخذ كبيرهم ، فألقاه في الأرض ، وعندها تفرَّق الآخرون وانصرفوا عنه .
ومن هذا المنطلق أخذ الله تعالى قارون ، وهو الفتوة ، ورمز الغِنى والجاه بين قومه ، فقال تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى . . . } [ القصص : 76 ] إذن : حينما نتأمل حياة موسى عليه السلام نجده قد مُنِي بصناديد الكفر ، فقد واجه فرعون الذي ادَّعى الألوهية ، وواجه هامان ، ثم موسى السامري الذي خانه في قومه في غيبته ، فدعاهم إلى عبادة العجل .
ومُني من قومه بقارون ، ومعنى : من قومه ، إما لأنه كان من رحمه من بني إسرائيل ، أو من قومه يعني : الذين يعيشون معه . والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا ، لكن المفسرين يقولون : إنه ابن عمه . فهو : قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب .
وللمؤرخين كلام في العداوة بين موسى وقارون ، قالوا : حينما سأل موسى عليه السلام ربه أنْ يشدَّ عضده بأخيه هارون ، أجابه سبحانه { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وليست هذه أول مرة بل { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } [ طه : 37 ] وأرسل الله معه أخاه هارون؛ لأنه أفصح من موسى لساناً ، وجعلهما شريكين في الرسالة ، وخاطبهما معاً { اذهبآ . . . } [ طه : 43 ] ليؤكد أنَّ الرسالة ليست من باطن موسى .
(1/6909)

وإنْ رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده ، فاعلم أن هارون مُلاحَظ فيه ، ومن ذلك لما دعا موسى على قوم فرعون ، فقال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
فالذي دعا موسى ، ومع ذلك لما أجابه ربه قال : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا . . . } [ يونس : 89 ] وهذا دليل على أن هارون لم يكن رسولاً من باطن موسى ، إنما من الحق سبحانه ، وأيضاً دليل على أن المؤمِّن على الدعاء كالداعي ، فكان موسى يدعو وهارون يقول : آمين .
ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لأخيه { اخلفني فِي قَوْمِي . . . } [ الأعراف : 142 ] وفي غيبة موسى حدثتْ مسألة العجل ، وغضب موسى من أخيه هارون ، فلما هدأتْ بينهما الأمور حدث تخصيص في رسالة كل منهما ، فأعطى هارون ( الحبورة ) والحَبْر : هو العالم الذي يُعَد مرجعاً ، كما أُعطِي ( القربان ) أي : التقرب إلى الله .
وعندها غضب قارون؛ لأنه خرج من هذه المسألة صَفْر اليدين ، وامتاز عنه أولاد عمومته بالرسالة والمنزلة ، رغم ما كان عنده من أموال كثيرة .
ثم إن موسى - عليه السلام - طلب من قارون زكاة ماله ، دينار في كل ألف دينار ، ودرهم في كل ألف درهم ، فرفض قارون وامتنع ، بل وألَّبَ الناس ضد موسى - عليه السلام .
ثم دبَّر له فضيحة؛ ليصرف الناس عنه ، حيث أغرى امرأة بغياً فأعطاها طِسْتاً بالذهب ، على أن تدَّعي على موسى وتتهمه ، فجاء موسى عليه السلام ليخطب في الناس ، ويُبيِّن لهم الأحكام فقال : مَنْ يسرق نقطع يده ، ومَنْ يزني نجلده إن كان غير محصن ، ونرجمه إنْ كان محصناً ، فقام له قارون وقال : فإن كنتَ أنت يا موسى؟ فقال : وإنْ كنتُ أنا .
وهنا قامت المرأة البغيُّ وقالت : هو راودني عن نفسي ، فقال لها : والذي فلق البحر لَتقُولِنّ الصدق فارتعدتْ المرأة ، واعترفت بما دبَّره قارون ، فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام .
وبدأ قارون في البَغْي والطغيان حتى أخذه الله ، وقال في حقه هذه الآيات : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ . . . } [ القصص : 76 ] .
والبغي : تجاوز الحدّ في الظلم ، خاصة وقد كان عنده من المال ما يُعينه على الظلم ، وما يُسخِّر به الناس لخدمة أهدافه ، وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه ، والبغي إما بالاستيلاء على حقوق الغير ، أو باحتقارهم وازدرائهم ، وإما بالبطر .
ثم يذكر حيثية هذا البغي : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة . . } [ القصص : 76 ] .
كلمة ( مفاتح ) كما في قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب . . . } [ الأنعام : 59 ] .
ولو قلنا : مفاتح جمع ، فما مفردها؟ لا تقُلْ مفتاح؛ لأن مفتاح جمعها مفاتيح ، أما مفاتح ، فمفردها ( مَفْتح ) وهي آلة الفتح كالمفتاح ، وهي على وزن ( مبرد ) فالمعنى : أن مفاتيح خزائنه لو حملتْها عصبة تنوء بها ، وهذه كناية عن كثرة أمواله ، نقول : ناء به الحِمْل ، أو ناء بالحمل ، إذا ثقُل عليه ، ونحن لا نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما لا بُدَّ من حملة للإحساس بوزنه .
(1/6910)

وقلنا : إن هذه الحاسة هي حاسة العَضَل ، فالحملْ الثقيل يُجهد العضلة ، فتشعر بالثقل ، على خلاف على حملتَ شيئاً خفيفاً لا تكاد تشعر بوزنه لخفْته ، ولو حاولتَ أنْ تجمع أوزاناً في حيز ضيق كحقيبة ( هاندباج ) فإن الثقل يفضحك؛ لأنك تنوء به .
والعُصْبة : هم القوم الذين يتعصَّبون لمبدأ من المبادئ بدون هَوىً بينهم ، ومنه قول إخوة يوسف : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ . . . } [ يوسف : 8 ] .
إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم؛ لأنهم فعلاً كانوا قوةً متعصبين بعضهم لبعض في مواجهة يوسف وأخيه ، وكانا صغيرين لا قوةَ لهما ولا شوكة ، وكانوا جميعاً من أم واحدة ، ويوسف وأخوه من أم أخرى ، فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلام مع الضعيف .
وقالوا : العصبة من الثلاثة إلى العشرة ، وقد حددهم القرآن بقوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً . . } [ يوسف : 4 ] وهم أخوته ومنهم بنيامين { والشمس والقمر . . } [ يوسف : 4 ] أي : أباه وأمه . فمن هاتين الآيتين نستطيع تحديد العصبة .
وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم الآيات بعضها إلى بعض حَلَّ الإمام علي - رضي الله عنه - مسألة تُعدُّ معضلة عند البعض ، حيث جاءه مَنْ يقول له : تزوجت امرأة وولدتْ بعد ستة أشهر ، ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر ، فلا بُدَّ أنها حملت قبل أنْ تتزوج .
فقال الإمام علي : أقل الحمل ستة أشهر ، فقال السائل : ومن أين تأخذها يا أبا الحسن؟ قال : نأخذها من قوله تعالى : { وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً . . . . } [ الأحقاف : 15 ] وفي آية أخرى قال سبحانه : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ . . . } [ البقرة : 233 ] .
يعني : أربعة وعشرين شهراً ، وبطرح الأربعة والعشرين شهراً من الثلاثين يكون الناتج ستة أشهر ، هي أقل مدة للحمل . وهكذا تتكاتف آيات القرآن ، ويكمل بعضها بعضاً ، ومن الخطأ أن نأخذ كل آية على حدة ، ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع .
ثم يقول سبحانه : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين . . . } [ القصص : 76 ] والنهي هنا عن الفرح المحظور ، فالفرح : انبساط النفس لأمر يسرُّ الإنسان ، وفَرْق بين أمر يسرُّك؛ لأنه يُمتعك ، وأمر يسرُّك لأنه ينفعك ، فالمتعة غير المنفعة .
فمثلاً ، مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لأنها تُحدِث له متعة ، مع أنها مضرة بالنسبة له ، إذن : فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع ، لأن الله تعالى لم يجعل المتعة إلا في النافع .
فحينما يقولون له { لاَ تَفْرَحْ . . } [ القصص : 76 ] أي : فرح المتعة ، وإنما الفرح بالشيء النافع ، ولو لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء ، لذلك يقول تعالى :
(1/6911)

{ قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ . . . } [ يونس : 58 ] .
ويقول تعالى : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله . . . } [ الروم : 4-5 ] فسماه الله فرحاً؛ لأنه فرح بشيء نافع؛ لأن انتصار الدعوة يعني أن مبدءك الذي آمنتَ به ، وحاربت من أجله سيسيطر وسيعود عليك وعلى العالم بالنفع .
ومن فرح المتعة المحظور ما حكاه القرآن : { فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله . . . } [ التوبة : 81 ] هذا هو فرح المتعة؛ لأنهم كارهون لرسول الله ، رافضون للخروج معه ، ويسرُّهم قعودهم ، وتركه يخرج للقتال وحده .
فقوله تعالى : { لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ] أي : فرح المتعة الذي لا ينظر إلى مَغبّة الأشياء وعواقبها ، فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة ، لكن يتبعها ضرر بالغ ، ونسمع الآن مَنْ يقول عن الرقص مثلاً؛ إنه فن جميل وفن رَاقٍ؛ لأنه يجد فيه متعة ما ، لكن شرط الفن الجميل الراقي أن يظل جميلاً ، لكن أنْ ينقلب بعد ذلك إلى قُبْح ويُورِث قبحاً ، كما يحدث في الرقص ، فلا يُعَدُّ جميلاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ . . . } .
(1/6912)

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
معنى { وابتغ . . . } [ القصص : 77 ] أي : اطلب { فِيمَآ آتَاكَ الله . . . } [ القصص : 77 ] بما أنعم عليك من الرزق { الدار الآخرة . . . } [ القصص : 77 ] لأنك إن ابتغيت برزق الله لك الحياة الدنيا ، فسوف يَفْنى معك في الدنيا ، لكن إنْ نقلتَهُ للآخرة لأبقيتَ عليه نعيماً دائماً لا يزول .
وحين تحب نعيم الدنيا وتحتضنه وتتشبث به ، فاعلم أن دنياك لن تمهلك ، فإما أنْ تفوت هذا النعيمَ بالموت ، أو يفوتك هو حين تفتقر . إذن : إن كنت عاشقاً ومُحباً للمال ولبقائه في حَوْزتك ، فانقله إلى الدار الباقية ، ليظل في حضنك دائماً نعيماً باقياً لا يفارقك ، فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الآخرة .
" وفي الحديث الشريف لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي أُهديَتْ له قالت بعد أن تصدقت بها : ذهبتْ إلا كتفها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل بقيتْ إلا كتفها " .
ويقول صلى الله عليه وسلم : " ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فافنيتَ ، أو لبستَ فأبليتَ ، أو تصدقْتَ فأبقيْتَ " .
لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله ، يقول له : مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة .
والإمام علي - رضي الله عنه - جاءه رجل يسأله : أأنا من أهل الدنيا ، أم من أهل الآخرة؟ فقال : جواب هذا السؤال ليس عندي ، بل عندك أنت ، وأنت الحكم في هذه المسألة . فإنْ دخل عليك مَنْ تعودت أنه يعطيك ، ودخل عليك مَنْ تعودت أنْ يأخذ منك ، فإنْ كنتَ تبشُّ لمن يعطي ، فأنت من أهل الدنيا ، وإنْ كنتَ تبشُّ لمَنْ يسألك ويأخذ منك ، فأنت من أهل الآخرة ، لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب ، فإنْ كنتَ محباً للدنيا فيسعدك مَنْ يعطيك ، وإنْ كنتَ محباً للآخرة فيسعدك مَنْ يأخذ منك .
وإذا كان ربنا - عز وجل - يوصينا بأن نبتغي الآخرة ، فهذا لا يعني أن نترك الدنيا : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا . . . } [ القصص : 77 ] لكن هذه الآية يأخذها البعض دليلاً على الانغماس في الدنيا ومتعها .
وحين نتأمل { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا . . . } [ القصص : 77 ] نفهم أن العاقل كان يجب عليه أنْ ينظر إلى الدنيا على أنها لا تستحق الاهتمام ، لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة حياته . فالمعنى : كان ينبغي علىَّ أنْ أنساها فذكِّرني الله بها .
ولأهل المعرفة في هذه المسألة مَلْمح دقيق : يقولون : نصيبك من الشيء ما ينالك منه ، لا عن مفارقة إنما عن ملازمة ودوام ، وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك ، وتظل معك ، وتصحبك بعد الدنيا إلى الآخرة ، فكأن نصيبك من الدنيا يصُبُّ في نصيبك من الآخرة ، فتخدم دنياك آخرتك .
(1/6913)

أو : يكون المعنى موجهاً للبخيل الممسك على نفسه ، فيُذكِّره ربه { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا . . . } [ القصص : 77 ] يعني : خُذْ منها القَدْر الذي يعينك على أمر الآخرة ، لذلك قالوا عن الدنيا : هي أهم من أن تُنْسى - لأنها الوسيلة إلى الآخرة - وأتفه من أن تكون غاية؛ لأن بعدها غاية أخرى وأبقى وأدوم .
ثم يقول سبحانه : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ . . } [ القصص : 77 ] الحق سبحانه يريد أنْ يتخلَّق خَلْقه بخُلُقه ، كما جاء في الأثر " تخلقوا بأخلاق الله " .
فكما أحسن الله إليك أحسِنْ إلى الناس ، وكما تحب أنْ يغفر الله لك ، اغفر لغيرك إساءته { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ . . . } [ النور : 22 ] .
وما دام ربك يعطيك ، فعليك أنْ تعطي دون مخالفة الفقر؛ لأن الله تعالى هو الذي استدعاك للوجود؛ لذلك تكفَّل بنفقتك وتربيتك ورعايتك . لذلك حين ترى العاجز عن الكسب - وقد جعله ربه على هذه الحال لحكمة - حين يمد يده إليك ، فاعلم أنه يمدُّها لله ، وأنك مناول عن الله تعالى .
ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً . . } [ الحديد : 11 ] .
فسمَّى الصدقة قرضاً لله ، لماذا؟ لأن هذا العبد عبدي ، مسئول مني أن أرزقه ، وقد ابتليتُه لحكمة عندي - حتى لا يظنّ أحد أن المسألة ذاتية فيه ، فيعتبر به غيره - فمَنْ إذن يقرضني لأسُدَّ حاجة أخيكم؟
وقال تعالى : { يُقْرِضُ الله . . . } [ الحديد : 11 ] مع أنه سبحانه الواهب؛ لأنه أراد أن يحترم ملكيتك ، وأن يحترم انتفاعك ، وسَعْيك . . كما لو أراد والد أنْ يُجري لأحد أبنائه عملية جراحية مثلاً وهو فقير وإخوته أغنياء ، فيقول لأولاده : اقرضوني من أموالكم لأجري الجراحة لأخيكم ، وسوف أردُّ عليكم هذا القرض .
" وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة - رضوان الله عليها - فوجدها تجلو درهماً فسألها : ماذا تصنعين به "؟ قالت : أجلوه ، قال : " لِمَ "؟ قالت : لأني نويت أن أتصدق به ، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير " .
إذن : فالمال مال الله ، وأنت مناول عن الله تعالى .
وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة؛ لأنهم يقرأون الآيات والأحاديث مجرد قراءة سطحية غير واعية ، فيتوهمون أنها متضاربة . فقالوا هنا : الله تعالى يقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ . . . } [ الحديد : 11 ] .
وقال في موضع آخر : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . . . } [ الأنعام : 160 ] وفي الحديث الشريف : " مكتوب على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر " .
فظاهر الحديث يختلف مع الآية الكريمة - هذا في نظرهم - لأنهم لا يملكون المَلَكة العربية في استقبال البيان القرآني . وبتأمل الآيات والأحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر أمثالها ، فالخلاف - ظاهراً - في قوله تعالى :
(1/6914)

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ . . . } [ الحديد : 11 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " والقرض بثمانية عشر " .
وليس بينهما اختلاف ، فساعة تصدَّق الإنسان بدرهم مثلاً أعطاه الله عشرة منها بدرهم الذي تصدَّق به ، فكأنه أعطاه تسعة ، فحين تُضَاعف التسعة ، تصبح ثمانية عشرة .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } [ القصص : 77 ] والفساد يأتي من الخروج عن منهج الله ، فإنْ غيَّرت فيه فقد أفسدتَ ، فالفساد كما يكون في المادة يكون في المنهج ، وفي المعنويات ، يقول سبحانه : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا . . . } [ الأعراف : 56 ] .
فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلاح لإسعاد خلقه ، فلا تعمد إليه أنت فتفسده ، ومن هذا الصلاح المنهج ، بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية - أَوْلَى من قِوام الحياة المادية .
إذن : فلتكُنْ مؤدباً مع الكون من حولك ، فإذا لم تستطع أنْ تزيده حُسْناً فلا أقلَّ من أنْ تدعه كما هو دون أنْ تفسده ، وضربنا لذلك مثلاً ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه ، وقد تبني حوله سوراً يحميه .
هذه مسائل خمْس توجَّه بها قوم قارون لنصحه بها ، منها الأمر ، ومنها النهي ، ولا بُدَّ أنهم وجدوا منه ما يناقضها ، لا بُدَّ أنهم وجدوه بَطِراً أَشِراً مغروراً بماله ، فقالوا له : { لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ] .
ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فَلم يتزود منها للآخرة ، فقالوا له { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا . . . } [ القصص : 77 ] ، ووجدوه يضنُّ على نفسه فلا ينفق في الخير ، فقالوا له : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ . . . } [ القصص : 77 ] يعني : عَدِّ نعمتك إلى الغير ، كما تعدَّت نعمة الله إليك . . وهكذا ما أمروه أمراً ، ولا نهوْهُ نهياً إلا وهو مخالف له ، وإلا لَمَا أمروه ولَمَا نهوْهُ .
ثم يقول قارون رداً على هذه المسائل الخمس التي توجَّه بها قومه إليه : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ . . . } .
(1/6915)

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
لكن ما وجه هذا الردّ { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي . . . } [ القصص : 78 ] على المطلوبات الخمسة التي طلبوها منه؟ كأنه يقول لهم : لا دخلَ لكم هذه الأمور؛ لأن الذي أعطاني المال علم أنني أهْلٌ له ، وأنني استحقه؛ لذلك ائتمنني عليه ، ولسْتُ في حاجة لنصيحتكم .
أو يكون المعنى { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } [ القصص : 78 ] يعني : بمجهودي ومزاولة الأعمال التي تُغِل علىَّ هذا المال ، وكان قارون مشهوراً بحُسْن الصوت في قراءة التوراة ، وكان حافظاً لها . وكان حسن الصورة ، وعلى درجة عالية بمعرفة أحكام التوراة .
فعجيب أن يكون عنده كل هذا العلم ويقول { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي . . . } [ القصص : 78 ] ولا يعلم أن الله قد أهلك من قبله قروناً كانوا أشدَّ منه قوة ، وأكثر منه مالاً وعدداً .
{ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً . . . } [ القصص : 78 ] فكيف فاتتْه هذه المسألة مع عِلْمه بالتوراة؟
ومعنى { أَوَلَمْ يَعْلَمْ . . . } [ القصص : 78 ] أي : من ضمن ما علم { مِنَ القرون . . . } [ القصص : 78 ] أناس كانوا أكثر منه مالاً ، وقد أخذهم الله وهم أمم لا أفراد ، وكلمة { جَمْعاً . . } [ القصص : 78 ] يجوز أن تكون مصدراً يعني : جمع المال ، أو : اسم للجماعة أي : له عُصْبة .
وبعد ذلك قال سبحانه : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } [ القصص : 78 ] وعلامة أنهم لا يُسألون أن الله تعالى يأخذهم دون إنذار يأخذهم على غِرَّة ، فلن يقول لقارون : أنت فعلت كذا وكذا ، وسأفعل بك كذا وكذا ، وأخسف بك وبدارك الأرض ، فأفعالك معلومة لك ، والحيثيات السابقة كفيلة بأنْ يُفاجئك العذاب .
وهكذا يتوقع أنْ يأتيه الخَسْف والعذاب في أيِّ وقت ، إذن : لن نسألهم ، ولن نُجري معهم تحقيقاً كتحقيق النيابة أو ( البوليس ) ، حيث لا فائدة من سؤالهم ، وليس لهم عندنا إلا العقاب .
وبعد هذا كله وبعد أنْ نصحه قومه ما يزال قارون متغطرساً بَطِراً لم يَرْعَو ولم يرتدع ، بل ظل فََرِِحاً باغياً مفسداً ، ويحكي عنه القرآن : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ . . . } .
(1/6916)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
قلنا : إن قارون كان بطبيعة الحال غنياً وجيهاً ، حَسَن الصوت والصورة ، كثير العدد ، كثير المال ، فكيف لو أضفت إلى هذا كله أن يخرج في زينته وفي موكب عظيم ، وفي أبهة { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ . . . } [ القصص : 79 ] .
وللعلماء كلام كثير في هذه الزينة التي خرج فيها قارون ، فقد كان فيها ألف جارية من صفاتهن كذا وكذا ، وألف فرس . . إلخ ، حتى أن الناس انبهروا به وبزينته ، بل وانقسموا بسببه قسمين : جماعة فُتِنوا به ، وأخذهم بريق النعمة والزينة والزهو وترف الحياة ، ومدُّوا أعينهم إلى ما هو فيه من متعة الدنيا .
وفي هؤلاء يقول تعالى : { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ القصص : 79 ] وقد خاطب الحق - تبارك وتعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا . . . } [ طه : 131 ] .
والمعنى : لا تنظر إلى ما في يد غيرك ، واحترم قدر الله في خَلْق الله ، واعلم أنك إنْ فرحت بالنعمة عند غيرك أتاك خيرها يطرق بابك وخدمتْك كأنها عندك ، وإنْ كرهتها وحسدته عليها تأبَّت عليك ، وحُرمْت نفعها؛ لأن النعمة أعشق لصاحبها من عشقه لها ، فكيف تأتيه وهو كاره لها عند غيره؟
لذلك من صفات المؤمن أن يحب الخير عند أخيه كما يحبه لنفسه ، وحين لا تحب النعمة عند غيرك ، فما أذنبه هو؟ فكأنك تعترض على قدر الله فيه ، وما دُمْتَ قد تأبيت واعترضت على قدر المنعم ، فلا بُدَّ أن يحرمك منها .
لذلك يقول سبحانه في موضع آخر : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ . . . } [ النساء : 32 ] .
لأن لكل منكم مهمة ودوراً في الحياة ، ولكل منكم مواهبه وميزاته التي يمتاز بها عن الآخرين ، ولا بُدَّ أن يكون فيك خصال أحسن ممن تحسده ، لكنك غافل عنها غير متنبه لها .
وسبق أن قلنا : إن الحق سبحانه قد وزَّع أسباب فَضْله على خَلْقه؛ لأننا جميعاً أمام الله سواء ، وهو سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؛ لذلك قلنا : إن مجموع مواهب كل فرد تساوي مجموع مواهب الآخر ، فقد تزيد أنت عني في خصلة ، وأزيد عنك في أخرى ، فهذا يمتاز بالذكاء ، وهذا بالصحة ، وهذا بالعلم ، وهذا بالحِلْم . . إلخ .
لأن حركة الحياة تتطلب كل هذه الإمكانيات ، فبها تتكامل الحياة ، وليس من الممكن أن تتوفر كل هذه المزايا لشخص واحد يقوم بكل الأعمال ، بل إنْ تميزْتَ في عملك ، وأتقنتَ مهمتك فلك الشكر .
ومن العجيب ألاَّ تنتفع أنت بنبوغك ، في حين ينتفع به غيرك ، ومن ذلك قولهم مثلاً ( باب النجار مخلع ) ، فلماذا لا يصنع باباً لنفسه ، وهو نجار؟ قالوا : لأنه الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجراً .
(1/6917)

إذن : حينما تجد غيرك مُتفوِّقاً في شيء فلا تحقد عليه؛ لأن تفوقه سيعود عليك ، وضربنا لذلك مثلاً بشيء بسيط؛ حين تمسك المقصَّ بيدك اليمنى لتقصَّ أظافر اليد اليسرى تجد أن اليد اليمنى - لأنها مرنة سهلة الحركة - تقصُّ أظافر اليسرى بدقة ، أما حين تقصُّ اليسرى أظافر اليمنى فإنها لا تعطيك نفس المهارة التي كانت لليمنى . إذن : فحُسْن اليمنى تعدَّى لليُسْرى ونفعها .
وهكذا إذا رأيتَ أخاك قد تفوَّق في شيء أو أحسن في صُنْعه فاحمد الله؛ لأن حُسْنه وتفوقه سيعود عليك ، وقد لا يعود عليه هو ، فلا تحسده ، ولا تحقد عليه ، بل ادْعُ له بالمزيد؛ لأنك ستنتفع به في يوم من الأيام .
لكن ماذا قال أهل الدنيا الذين بُهِروا بزينة قارون؟ قالوا : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . . } [ القصص : 79 ] يعني : كما نقول نحن ( حظه بمب ) ؛ لأن هؤلاء لا يعنيهم إلا أمر الدنيا ومُتعها وزُخْرفها ، أما أهل العلم وأهل المعرفة فلهم رأْيٌ مخالف ، ونظرة أبعد للأمور؛ لذلك رَدُّوا عليهم : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم . . . } .
(1/6918)

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
فما كان الحق - تبارك وتعالى - ليترك أهل الدنيا وأهل الباطل يُشكِّكون الناس في قَدَر الله ، ويتمردون على قسمته حتى الكفر والزندقة ، والله سبحانه لا يُخِلي الناس من أهل الحق الذين يُعدِّلون ميزان حركة الحياة :
إنَّ الذي جَعَلَ الحقِيقةَ عَلْقماً ... لم يخلْ من أَهْل الحقيقة جيلا
وما دام أن الله تعالى قال في الجماعة الأولى : { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا . . . } [ القصص : 79 ] فهم لا يروْنَ غيرها ، ولا يطمحون لأبعد منها ، وقال في الأخرى : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم . . . } [ القصص : 80 ] فهذا يعني : أن أهل الدنيا ( سطحيون ) ، لم يكن عندهم علم ينفعهم ، لذلك وقعوا في هذا المأزق الذي نجا منه أهل العلم ، حينما أجروا مقارنة بين الطمع في الدنيا والطمع في الآخرة .
كما قلنا سابقاً : إن عمر الدنيا بالنسبة لك : لا تقُلْ من آدم إلى قيام الساعة؛ فعمرك أنت فيها عمر موقوت ، لا بُدَّ أنْ يفنى . إذن : العاقل مَنْ يختار الباقية على الفانية ، لذلك أهل الدنيا قالوا { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ . . . } [ القصص : 79 ] .
أما أهل العلم والمعرفة فردُّوا عليهم : { وَيْلَكُمْ . . . } [ القصص : 80 ] أي : الويل لكم بسبب هذا التفكير السطحي ، وتمنِّي ما عند قارون الويل والهلاك لكم بما حسدتُم الناس ، وبما حقدتُم عليهم وباعتراضكم على أقدار الله في خَلْقه .
فأنتم تستحقون الهلاك بهذا؛ لذلك قال الله عنهم في موضع آخر : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا . . . } [ الروم : 6-7 ] .
يعني : لا يعرفون حقيقة الأشياء ، ولو عرفوا ما قالوا هذا الكلام ، وما تمنَّوْا هذه الأمنية .
ثم يلفت أهل العلم والمعرفة أنظار أهل الدنيا ، ويُوجِّهونهم الوجهة الصحيحة : { ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً . . . } [ القصص : 80 ] أي : ثواب الله خير من الدنيا ، ومما عند قارون ، وكيف تتمنون ما عنده ، وقد شجبتم تصرفاته ، ونهيتموه عنها ، ولم ترضوَهْا؟
ومعنى : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون } [ القصص : 80 ] أي : يُلقّي الإيمان والعمل الصالح والهداية ، ليُقبِلَ على عمل الآخرة ، ويُفضلها عن الدنيا ، أي : يُلقّى قضية العلم بالحقائق ، ولا تخدعه ظواهر الأشياء . هذه لا يجدها ولا يُوفّق إليها إلا الصابرون ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 35 ] .
والصبر : احتمال ما يؤذي في الظاهر ، لكنه يُنعَم في الباطن . وله مراحل ، فالله تعالى كلَّفنا بطاعات فيها أوامر ، وكلَّفنا أنْ نبتعد عن معاصٍ ، وفيها نواهٍ ، وأنزل علينا أقداراً قد لا تستطيبها نفوسنا ، فهذه مراحل ثلاث .
فالطاعات ثقيلة وشاقة على النفس؛ لذلك يقول تعالى عن الصلاة : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] فهناك دَواع شتَّى تصرفك عن الصلاة ، وتحاول أنْ تُقعدك عنها ، فتجد عند قيامك للصلاة كسلاً وتثاقلاً .
واقرأ قوله تعالى عن الصلاة مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم :
(1/6919)

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا . . . } [ طه : 132 ] وهذا دليل على أنها صعبة وشاقَّة على النفس ، لكن إذا تعودتْ عليها ، وألفتها النفس صارتْ أحبَّ الأشياء إليك ، وأخفّها على نفسك ، بل وقرَّة عَيْن لك .
والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله لمؤذنه بلال : " أرحنا بها يا بلال " لا أرحنا منها تلك المقالة التي يقولها لسان حالنا الآن .
ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم : " وجُعلَت قرة عيني في الصلاة " وخصَّ الصلاة بالذات من بين سائر العبادات؛ لأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، فهي ملازمة للمؤمن يعايشها على مدى يومه وليلته بخلاف الأركان الأخرى ، فمنها ما هو مرة واحدة في العام ، أو مرة واحدة في العمر كله .
هذا هو النوع الأول من الصبر ، وهو الصبر على مشقة الطاعة .
الثاني : الصبر عن شهوة المعصية ، ولا تنْسَ أنه أول صبر تصادفه في حياتك أنْ تصبر على نفسك؛ لذلك يقول الشاعر :
إذَا رُمْتَ أنْ تُسْتقِرضَ المال مُنفقاً ... عَلَى شَهَواتِ النفْسِ في زَمَن العُسْرِ
فَسَل نفسَكَ الإنفاقَ من كَنْز صَبْرها ... عليْكَ وإنْظَاراً إلى سَاعةِ اليُسْر
فإنْ فعلتْ كنتَ الغنيَّ وإنْ ... أبتْ فكل مَنُوع بعدها واسِع العُذْر
فبدل أن تقترض لقضاء شهوة نفس عاجلة ، فأوْلَى بك أن تصبر إلى أن تجد سعة وتيسيراً ، فصبرك على نفسك أهون من صبر الناس عليك ، وإنْ تسعْكَ نفسك ، فلا عُذْر لأحد بعد ذلك إنْ منعك .
الثالث : صَبر على الأقدار المؤلمة التي لا تفطن أنت إلى الحكمة منها ، فالأقدار ما دامتْ من حكيم ، ومُجريها عليك ربٌّ ، إذن لا بُدَّ أن لها حكمة فيك ، فخُذ القضية القدرية مُجريها عليك ، فهو سبحانه ربك ، وليس عدوك ، وأنت عبده وصنعته ، ألم تقرأ قول الرسول في الحديث الشريف : " الخلق كلهم عيال الله ، فأحبُّهم إليه أرأفهم بعياله " .
إذن : حين تجري عليك الأقدار المؤلمة ، فيكفيك للصبر عليها أنْ تعلم أنها حكمة الله ، ويكفيك أن مُجريها عليك ربك ، فإنْ جاءت الأقدار المؤلمة بسبب تقصيرك ، فلا تلومنَّ إلا نفسك ، كالطالب الذي يُهمل دروسه ويتكاسل ، فيفشل في الامتحان ، فالفشل نتيجة إهماله وتكاسله .
أما الذي يذاكر ويجدّ ويُبكِّر إلى الامتحان مُسْتبشراً فتصدمه سيارة مثلاً في الطريق ، تمنعه من أداء امتحانه ، فهذا هو القدر المؤلم الذي له حكمة ، وربما داخله شيء من الغرور ، وعوَّل على مذاكرته ، ونسي توفيق الله له ، فأراد الله أنْ يُلقّنه هذا الدرس ليعلمه أن الأمر في النهاية بيد الله وبمعونته ، وأنه الخاسر إنْ لم تصادفه هذه المعونة ، على حَدٍّ قول الشاعر :
إذَا لم يكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله للفتَى ... فَأَوَّلُ مَا يَجْني عليْهِ اجتهادُهُ
فعليك إذن أنْ تنظر إنْ كانت المصيبة نتيجة لما قدمت ، فلا تلومنَّ إلا نفسك ، فإنْ كنتَ قد أخذت بالأسباب ، واستوفيتَ ما طُلب منك ، ثم أصابتْك المصيبة ، فاعلم أن لله فيها حكمة ، وعليك أنْ تحترم حكمة الله وقدره في خَلْقه .
(1/6920)

وباعتبار آخر ، يمكن أن نقسم المصائب إلى قسمين : قسم لك فيه غريم ، كأن يعتدي عليك غيرك بضرب أو قتل أو نحوه ، وقسم ليس لك فيه غريم كالموت والمرض مثلاً .
وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - حكماً في كل منهما ، ففي النوع الأول حيث لا غريمَ لك ، يقول تعالى على لسان لقمان وهو يوصي ولده : { واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } [ لقمان : 17 ] .
ويقول فيما لك فيه غريم : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ . . . } [ الشورى : 43 ] فما دام قد ذكر المغفرة ودعاك إليها ، فلا بُدَّ أن أمامك غريماً ، ينبغي أنْ تصبر عليه ، وأن تغفر له ، والغريم يهيجني إلى المعصية وإلى الانتقام ، فكلما رأيته أتميَّز غيظاً ، فالصبر في هذه الحالة أشد ويحتاج إلى عزيمة قوية .
لذلك قال سبحانه : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] ولم يقل كما في الأولى : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } [ لقمان : 17 ] إنما بصيغة التأكيد باللام ( لَمِنْ ) .
ويُعلِّمنا ربنا - تبارك وتعالى - كيف نعالج غَيْظ النفوس أمام الغريم ، فيقول سبحانه : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] .
هذه مراحل ثلاث ، تتدرج بك حسب ما عندك من استعداد للخير وقدرة على التسامح ، فأولها : أن تكظم غيظك ، وهذا يعني أن الغيظ موجود ، لكنك تكتمه في نفسك ، فإن ارتقيتَ عفوتَ بأن تُخرج الغيظ والغِلَّ من نفسك ، كأن شيئاً لم يحدث ، فإن ارتقيتَ إلى المرتبة الأعلى أحسنتَ؛ لأن الله تعالى يحب المحسنين ، والإحسان أن تقدم الخير وتبادر به مَنْ أساء إليك ، فتجعله رداً على إساءته .
ولا شكَّ أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة ، فهي قاسية على النفس ، وقلما تجد مَنْ يعمل بها؛ لذلك ما جعلها الله على وجه الإلزام ، إنما ندب إليها وحثّ عليها ، فإنْ أخذتَ بأْولاَها فلا شيء عليك؛ لأن الله تعالى أباح لك أن ترد الإساءة بمثلها ، فإنْ كظمتَ غيظك فأنت على خير ، وإن اخترتَ لنفسك الرقي في طاعة ربك ، فنِعمْ الرجل أنت ، ويكفيك { والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] .
ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل الله في جانبك ، فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك ، كما قال أحد العارفين : ألا أُحسن لمن جعل الله في جانبي؟
وضربنا لذلك مثلاً بالوالد حين يجد أن أحد الأولاد اعتدى على الآخر ، فيميل ناحية المُعْتَدى عليه ويتودَّد إليه ، ويحاول إرضاءه ، حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه ، كذلك الحق - تبارك وتعالى - إن اعتدى بعض خَلْقه على بعض يحتضن المظلوم ، وينصره على مَنْ ظَلمَه .
ثم يُفاجأ قارون بالعقاب الذي يستحقه : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض . . . } .
(1/6921)

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
والخسف : أن تنشقَّ الأرض فتبتلع ما عليها ، كالذي يقول ( يا أرض انشقي وابلعيني ) ، والخسف كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله . . . } [ القصص : 81 ] ، فما نفعه مال ، ولا دافع عنه أهل { وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين } [ القصص : 81 ] أي : بذاته . فلم تكُنْ له عُصْبة تحميه ، ولا استطاع هو حماية نفسه ، فمَنْ يدفع عذاب الله إن حلَّ ، ومَنْ يمنعه ونقذه إنْ خُسِفت به الأرض؟!
وهنا ينبغي أن نتساءل : كيف الآن حال مَنْ اغتروا به ، وفُتِنوا بماله وزينته؟
يقول الحق سبحانه : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ . . . } .
(1/6922)

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
لقد كانوا بالأمس يقولون { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ . . . } [ القصص : 79 ] ، لكن اليوم وبعد أن عاينوا ما حاق به من عذاب الله وبأسه الذي لا يُردُّ عن القوم الكافرين - اليوم يثوبون إلى رُشْدهم ويقولون : { وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ . . . } [ القصص : 82 ] .
كلما ( وَىْ ) اسم فعل مثل : أُفٍّ وهيهات ، وتدل على الندم والتحسُّر على ما حدث منك ، فهي تنديد وتَخْطيءٌ للفعل ، وقد تُقال ( وَيْ ) للتعجب . فقولهم ( وي ) ندماً ما كان منهم من تمني النعمة التي تنعَّم بها قارون وتخطيئاًَ لأنفسهم ، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف التي تنعَّم بها قارون وتخطيئاً لأنفسهم ، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف به وبداره ، وهم يندمون الآن ويُخطِّئون أنفسهم؛ لأن الله تعالى في رزقه حكمة وقدراً .
{ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ . . . } [ القصص : 82 ] أي : يقبض ويُضيق ، وليس بسْط الرزق دليل كرامة ، ولا تضييقه دليلَ إهانة ، بدليل أن الله يبسط الرزق لقارون ، ثم أخذه أخْذ عزيز مقتدر .
وقد تعرضتْ سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15-16 ] .
فالأول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة ، والآخر اعتبر التضييق دليلَ إهانة ، فردَّ الحق سبحانه عليهما ليُصحح هذه النظرة فقال : { كَلاَّ . . . } [ الفجر : 17 ] يعني : أنتما خاطئان ، فلا سعةَ الرزق دليلُ كرامة ، ولا تضييقه دليلُ إهانة ، وإلا فكيف يكون إيتاء المال دليلَ كرامة ، وأنا أعطي بعض الناس المال ، فلا يُؤدُّون حقَّ الله فيه؟ { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً } [ الفجر : 17-20 ] .
إذن : فأيُّ كرامة في مال يكون وبالاً على صاحبه ، وابتلاء لا يُوفَّق فيه ، فلو سُلب هذا المال من صاحبه لكان خيراً له ، فما أشبهَ هذا المال بالسلاح في يد الذي لا يُحسِن استعماله ، فربما قتل نفسه به .
وقوله تعالى : { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } [ القصص : 82 ] تعجُّب من أنه لا يفلح الكافرون عند الله تعالى .
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه بقضية عامة ليفصل في هذه المسألة : { تِلْكَ الدار الآخرة . . . } .
(1/6923)

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
لأنه لا يصح أنْ يعلو الإنسان على بني جنسه ، ولا على بيئته إلا بشيء ذاتي فيه ، فلا يصح أنْ يعلوَ بقوته؛ لأنه قد يمرض ، فيصير إلى الضعف ، ولا بماله لأنه قد يُسلب منه .
إذن : إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك ، إنْ أردتَ فبشيء ذاتي فيك ، وليس فيك شيء ذاتي ، فلست أفضلَ من أحد حتى تعلو عليه ، كما أن الدنيا أغيار ، وربما انتقل ما عندك إليهم ، فهل يسرُّك إنْ صار غيرك غنياً أو قوياً أنْ يتعالى عليك؟
ثم أنت لا تستطيع العلو إلا بالاعتماد على قوة أعلى منك تسندك ، وجرِّب بنفسك وحاول أن تقفز إلى أعلى كلاعب السيرك ، ثم أمسك نفسك في هذا العلو ، وطبعاً لن تستطيع ، لماذا؟ لأنه لا ذاتية لك في العُلو .
وما دام الأمر كذلك ، فإياك أنْ تعلو؛ لأنك بعلوِّك تُحْفِظُ الآخرين؛ فإنْ حصل لك العكس شمتوا فيك ، وأيضاً لأن الإنسان لا يعلو في بيئة ولا في مكان إلا إذا رأى كل مَنْ حوله دونه ، وحين ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فَضلْ الله في خَلْقه .
ولو تأملت لوجدتَ في كل منهم خصلة ليست عندك ، ولو قدَّرت أن الناس جميعاً عيالُ الله وخَلْقه ، وليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة ونحن جميعاً عنده تعالى سواء ، وقد وزّع المواهب بيننا جميعاً بالتساوي ، وبالتالي لا يمتاز أحد على أحد ، فلم التعالي إذن؟ ولِمَ الكبر؟
وأيضاً الذي يتعالى لا يتعالى إلا في غفلة منه عن ملاحظة كبرياء ربه ، وإلا فالذي يستحضر عظمة ربه وكبرياءه لا بُدَّ له أنْ يتواضع ، وأنْ يتضاءل أمام كبريائه تعالى ، وأنْ يستحي أن يتكبر على خَلْقه .
والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا كيف نحترم الآخرين؟ وكيف نتواضع لهم؟ فلما دخل عليه الصحابي الجليل عدي بن حاتم قام عن كرامة مجلسه له ، يعني : إن كانْ جالساً على ( وسادة مثلاً ) يقوم عنها ، ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها .
وهكذا يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على المساواة في المجلس؛ لذلك قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أنك لا تريد عُلُواً في الأرض ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأسلم .
وعجيب ما نراه مثلاً في مساجدنا ، وهي بيوت الله وأَوْلَى الأماكن بهذه المساواة ، فتراهم إذا دخل أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مُصلّى ليصلي عليها ، مع أن المسجد مفروش ، وعلى أعلى مستوى من النظافة ، فلماذا هذا التمييز؟
ومع ذلك نجد منهم مَنْ يزيح هذه المصلَّى جانباً ، ويصلي كما يصلي بقية الناس ، وأظن أن الذي يقبل أنْ تُوضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علواً في الأرض .
والحق سبحانه يريد للإنسان أن يعيش سوىَّ الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة ، لا يداخلها ضغن ، وإذا خلَتْ القلوب من الضِّغن وَسِع الناسَ جميعاً رغيفُ عيشٍ واحد .
ثم يقول سبحانه : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] أي : العاقبة الخيِّرة ، والعاقبة الحسنة في النعيم المقيم الدائم للمتقين .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ . . . } .
(1/6924)

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قلنا : إن كلمة ( خيرٍ ) تُطلق ويُراد بها ما يقابل الشر ، كما في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] .
وتُطلق ويُراد بها الأحسن في الخير ، تقول : هذا خير من هذا ، فكلاهما فيه خير ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كُلٍّ خير " فهي بمعنى التفضيل ، أي : أخير منها ، ومن ذلك قول الشاعر :
زَيْدٌ خِيارُ النَّاسِ ... وابْنُ الأَخْيرِ
فجاء بصيغة التفضيل على الأصل ، وتقول : هذا حَسَن ، وذلك أحسن .
فالمعنى هنا : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا . . . } [ القصص : 84 ] أي : خير يجيئه من طريقها ، أو إذا عمل خيراً أعطاه الله أخير منه وأحسَن ، والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها .
والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة ، فيقول سبحانه : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
فقوله تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة . . . } [ القصص : 84 ] قضية عقدية ، تثبت وتُقرِّر الثواب للمطيع ، والعقاب للعاصي ، ومعنى { مَن جَآءَ بالحسنة . . . } [ القصص : 84 ] أي : أتى بها حدثاً لم يكُنْ موجوداً ، فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتَها بما خلق الله فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل الخير .
أو المعنى : جاء بالحسنة إلى الله أخيراً لينال ثوابها ، ولا مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها ليُقبل بها على الله ، فيجازيه بها في الآخرة .
لكن ، هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الآخرة ، أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة الآخرة؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضاً في الدنيا ، لكن مجموعها يكون لك في الآخرة .
وهذه الآية جاءت بعد الحديث عن قارون ، وبعد أن نصحه قومه ، وجاء في نصحهم : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ . . . } [ القصص : 77 ] إذن : فطلبهم أن يُحسن كما أحسن الله إليه جاء في مجال ذكر الحسنة ، والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه الإنسان؟ لا ، لأن الإنسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب عليه المضرة ، وقد يكره الشيء ولا يستطيبه ، ويأتي له بالنفع .
فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة ، فلا يحددها إلا الله تعالى ، الذي خلق الناس ، ويعلم ما يُصلحهم ، وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الأشياء ، ويعلم ما يترتب عليها من آثار ، أما الإنسان فقد خلقه الله صالحاً للخير ، وصالحاً للشر ، يعمل الحسن ، ويعمل القبيح ، وربما اختلطت عليه المسائل .
لذلك يقولون في تعريف الحسنة : هي ما حسَّنه الشرع ، لا ما حسَّنْتها أنت ، فنحن مثلاً نستسيغ بعض الأطعمة ، ونجد فيها متعة ولذة ، مع أنها مُضرة ، في حين نأنف مثلاً من أكل الطعام المسلوق ، مع أنه أفيد وأنفع؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام :
(1/6925)

{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً . . . } [ النساء : 4 ] لأن الطعام قد يكون هنيئاً تجد له متعة ، لكنه غير مريء ويُسبِّب لك المتاعب بعد ذلك .
الحق سبحانه يقول هنا : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا . . . } [ القصص : 84 ] فالحسنة خير ، لكن ، الثواب عليها خيرٌ منها أي : أخير؛ لأنه عطاء دائم باقٍ لا ينقطع ، أو خير يأتيك بسببها . كما يقول أصحاب الألغاز واللعب بالكلمات : محمد خير من ربه ، والمعنى : خير يصلنا من الله ، ولا داعي لمثل هذه الألغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول .
ثم يقول سبحانه : { وَمَن جَآءَ بالسيئة . . . } [ القصص : 84 ] لم يقُل الحق سبحانه : فله أشر منها ، قياساً على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة ، وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة الله بخَلْقه ، هذه الرحمة التي تتعدَّى حتى إلى العُصَاة من خَلْقه .
لذلك قال { فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ القصص : 84 ] أي : على قَدْرها دون زيادة .
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى في سورة ( عم ) : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً } [ النبأ : 31-36 ] .
فحسباناً هنا لا تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل ، إنما تعني كافيهم في كل ناحية من نواحي الخير ، ومنه قولنا : حسبي الله يعني : كافيني .
وفي المقابل يقول سبحانه في السيئة : { جَزَآءً وِفَاقاً } [ النبأ : 26 ] أي : على قدرها موافقاً لها .
إذن : فربنا - عز وجل - يعاملنا بالفضل لا بالعدل؛ ليغري الناس بفعل الحسنة ، وأنت حين تفعل الحسنة فأنت واحد تُقدِّم حسنتك إلى كل الناس ، وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير كلها ، فينالك من كل واحد منهم حسنة ، وكأنه ( أوكازيون ) حسنات يعود عليك أنت .
ثم يقول الحق سبحانه لنبيه : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ . . . } .
(1/6926)

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
معنى فرض : ألزم وأوجب وحتَّم . وأصل الفَرْض الحزّ والقطع ، كما تقطع شيئاً بالسكين مثلاً تُسمّى فرضاً؛ لأنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها ، كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة مُشْتهاها ، ويقطع عليها مشيئتها ، ويردّها إلى مشيئة الله؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . . } [ النور : 1 ] .
يعني : حتَّمناها وألزمنا بها ، والإلزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها ، بصرْف النظر عما تشتهيه هي ، فقد يأمرها بما تكره ، وينهاها عما تحب . إذن : يقطع سيال النفس؛ لأنها عادة ما تكون أمَّارة بالسوء ، تنظر إلى العاجل ، ولا تهتم بالآجل ولا تعمل له حساباً .
فالقرآن منهج الله بافعل ولا تفعل ، هو الذي يكبح جماح النفس ، ويُحدِّد لها مجال مشيئتها؛ لأن الخالق - عز وجل - خلق النفس ، وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير ، ولعمل الشر .
وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا : إن الخَلْق جميعاً عبيد الله ، المؤمن منهم والكافر ، وإنْ تأبَّى الكافر على الله في الإيمان ، فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى ، كالمرض والموت وغيره ، ثم أعطانا الله تعالى مجالاً للاختيار ، ليثيب من يُثيب بحق ، يُعذِّب بحق .
والعاقل حينما يرى أنه مقهور لله في قدريات لا يستطيع منها فكاكاً ، وليس له فيها تصرف ، فيتنازل عن مراده ، وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه ، ويرضى أنْ يكون مُسيَّراً في كل شيء ، وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد .
فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من الله إلى مراد الله في الحكم ، وبهذا المنطق يكون الجميع في الآخرة عباداً؛ لأنه لا اختيار لهم ، ويستوي في ذلك المؤمن والكافر ، يوم يقول سبحانه : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وسُمِّي إنزال القرآن فَرْضاً لما في القرآن من تكاليف ، وهي عادةً ما تكون شاقة على النفس ، أَلاَ ترى قوله تعالى عن الصلاة ، وهي أم العبادات : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
فلا يعرف منزلتها ومكانتها إلا خاشع؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال : " أرحنا بها يا بلال " ويقول : " وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة " ؛ لأنه أحبها وعشقها ، حتى صارت قُرَّة عينه ، ومُنْتهى راحته .
إذن : أول ما يفرض التكليف لا بُدَّ أن يكون شاقاً؛ لذلك يحتاج إلى صلاة إيمان وجَلَد يقين ، بحيث تثق في أن العمل الشاق عليك الآن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الآخرة .
ويقول تعالى عن القتال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ . . . . } [ البقرة : 216 ] فلا شكَّ أنه مكروه للنفس ، لكن إن استحضرت الجزاء ، وعرفتَ أنه : إما النصر ، وإما الشهادة ، فإنه يحلو لك حتى تعشقه ، وتبادر أنت إليه ، كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الأجر وكان في فمه تمرة يمضغها فقال : " أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل فأُقتل "؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة القتال .
(1/6927)

لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة . ومن هنا يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهوةَ نفْس عندهم : أخشى ألاَّ يُثيبني الله على الطاعة ، لماذا؟ يقول : لأنني أصحبتُ أشتهيها ، أي : كما يشتهي أهل المعصية المعصية .
وحين يصل الإيمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة ، فقد أصبح ربانياً يثق فيما عند الله من الجزاء .
" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمَتْ قدماه ، فلما سألتْه السيدة عائشة : ألم يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً "؟ "
ومعنى : { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ . . . } [ القصص : 85 ] يعني : يجازيك أفضل الجزاء ، ونزلتْ هذه الآية لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ الله وآذوْه ، حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن نصير ، لكنهم لم يكونوا أقلَّ قسوة من أهل مكة ، فعزَّ على رسول الله النصير فيها ، وعاد منكسراً حزيناً لم يجد مَنْ يدخل في جواره ، إلى أن أجاره مطعم بن عدي .
وتأمل حين يكون رسول الله بجلالة قدره لا يجد مَنْ يناصره ، أو يُدخله في جواره ، أما الصحابة فلم تكُنْ لهم شوكة بعد ، ولا قوة لحماية رسول الله ، وفي هذه الفترة لاقوا المشاق في سبيل الدعوة ، فحاصرهم الكفار في شِعْب أبي طالب ، وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس ، ومنعوا عنهم الطعام والشراب ، والبيع والشراء ، حتى الزواج ، وحتى اضطروا إلى أكل المخلَّفات وأوراق الشجر .
لذلك أمرهم الله بالهجرة ، والهجرة تكون إلى دار أمن ، أو إلى دار الإيمان ، إلى دار أمن كالهجرة إلى الحبشة حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبيِّناً حيثية الهجرة إليها : " إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد " يعني : النجاشي ملك الحبشة ، وفعلاً صدق فيه قول رسول الله ، فلما أرسلتْ قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة ، رفض أن يسلمهم ، وأن يُمكِّن قريشاً منهم ، مع أن هدايا قريش كانت عظيمة ، والإغراء كان كبيراً .
وهذا يدل على عظمة رسول الله ، وعلى فكره الواسع ، وعلى دراسة الخريطة من حوله ، ومعرفة مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه ، فاختياره ملك الحبشة لا يأتي إلا إما بإلهام من الله ، أو بذكاء كبير ، وهو رجل أمي في أمة أمية ، ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على صدق مقولة رسول الله .
ونتيجة " لا يظلم عنده أحد " فقد شرَّفه الله بالإسلام فأسلم ووكَّله رسول الله في أن يُزوِّجه من السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت رضي الله عنها من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة مع زوجها الذي تنصَّر هناك ، وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها .
(1/6928)

وفي هذا دليل أولاً : على مدى ما كان يلاقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين ، ثانياً : دليل على الطاعة الواعية للزوج ، فقد آثرت الخروج مع زوجها لا عِشْقاً له ، ولا هياماً به ، إنما فراراً معه بدينها؛ لذلك لما تنصَّر لم تتردد في تركه؛ لذلك طلبها رسول الله لنفسه ، ثم لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله وترحَّم عليه . هذه هي هجرة الإيمان إلى دار الأمن .
ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار الإيمان ، إلى المدينة ، بعد بيعة العقبة الأولى والثانية ، وبعد أن وجد رسول الله أنصاراً يتحملون معه أعباء الدعوة ، وقد ضرب الأنصار في المدينة أروع مَثَل في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية .
ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته ، فلا يضِنّ على غيره بما يملك ، فتعطيني سيارتك أركبها ، أو بيتك أسكن فيه ، أو ثوبك ألبسه ، وأتقمَّش به ، أما الزوجة فتظل مصونة لا يجرؤ أحد على النظر إليها .
لكن كان للأنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حين أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء حتى في زوجاتهم ، فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلادهم ، وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة وحاجة النساء .
فكان الواحد منهم يقول لأخيه : انظر إلى زوجاتي ، فأيتهنّ أعجبتك أُطلِّقها ، وتتزوجها أنت ، هذه تضحية لا نجد لها مثيلاً في تاريخ الناس حتى عند الكفرة .
ثم أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ، فخرج خُفْية في حين خرج عمر مثلاً جهراً وعلانية ، حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه : مَنْ أراد أنْ تثكله أمه ، أو ييُتم ولده ، أو تُرمَّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي .
أما رسول الله فقد خرج خُفْية ، وهذه المسألة يقف عندها البعض أو تَخْفي عليه الحكمة منها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً أُسْوة للضعيف ، أما القوي فلا يحتاج إلى حماية أحد ، ولا عليه إنْ خرج علانية؛ لذلك لا يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول الله .
ثم إنك حين تتأمل : نعم خرج رسول الله خُفْية لكنها خُفْية التحدي ، فقد خرج من بين فتيانهم المتربصين به ، وعفَّر وجوههم بالتراب ، وهو يقول : " شاهت الوجوه " .
ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أنْ يأخذ بأسباب النجاة ، فخالف الطريق؛ لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع الأنصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها ، وأرسلوا العيون للبحث عنه ، وجعلوا جُعْلاً لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم .
والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف ، كأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نهمل الأسباب ، وألاَّ نتصادم مع الواقع ما دُمْنا قادرين على ذلك .
(1/6929)

فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي بلده ، وأحب البلاد إلى قلبه قال : " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ ، فأسكنِّي أحب البلاد إليك " .
لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول الله ، فالمدينة محبوبة لله؛ لذلك بعد أن خرج رسول الله من مكة وقارب المدينة حَنَّ قلبه إلى مكة ، فطمأنه ربه بهذه الآية : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ . . . } [ القصص : 85 ] .
فالذي فرض عليك مشقة التكاليف ، وحمَّلك مشاق الدعوة والإقناع بها ، وتنفيذ أحكامها ، هو الذي سيردُّك إلى بلدك ردَّ نصر ، وردّ فتح ، وما أشبهَ ردِّ رسول الله إلى بلده بردِّ موسى عليه السلام إلى أمه في قوله تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ . . . } [ القصص : 7 ] ليس رَدَّاً عادياً ، إنما { وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] .
إذن : سيُردُّ إليك ولدك ، لكن سيُرد رسولاً منتصراً . وكما صدق الله في ردِّ موسى يصدق في ردِّ محمد .
ومعنى { مَعَادٍ . . . } [ القصص : 85 ] ليس هو الموعد كما يظن البعض ، إنما يراد به المكان الذي تعود إليه بعد أن تفارقه ، فالمعنى : سنردُّك إلى المكان الذي تحِنُّ إليه ، ويتعلق به قلبك .
أو نردك إلى ( معاد ) أي : إلينا ، كما قال تعالى : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] ولا مانع من إرادة المعنيين معاً .
ثم يقول سبحانه : { قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ القصص : 85 ] الحق تبارك وتعالى يعلِّم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الجدل العفيف ، لا الجدل العنيف ، يُعلِّمه كيف يردُّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به ( صبأ فلان ) يعني : خرج عن دين آبائه وهم يعتقدون أنه الحق ، فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل .
إذن : فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل ، كما قال سبحانه : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . . } [ النحل : 125 ] ؛ لأن الجدل العنيف يزيد خصمك عناداً ولجاجة ، أما الجدل العنيف فيستميل القلوب ويعطفها نحوك؛ لذلك يرد رسول الله بقوله : { قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ القصص : 85 ] أي : جاء بالهدى من عند الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ القصص : 85 ] .
ثم يعطي الحق - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم دليلاً من واقع حياته؛ ليطمئن على أنه مُؤيَّد من ربه ، وأنه سبحانه سيفي له بما وعد ، ولن يتخلى عنه ، وكيف يختاره للرسالة ، ثم يتخلى عنه؟
(1/6930)

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
يعني : إذا كنت تتعجب ، أو تستبعد أنْ نردَّك إلى بلدك؛ لأن الكفار يقفون لك بالمرصاد ، حتى أصبحت لا تُصدِّق أنْ تعود إليها ، فانظر إلى أصل الرسالة معك : هل كنت تفكر أو يتسامى طموحك إلى أنْ تكون رسولاً؟ إنه أمر لم يكُنْ في بالك ، ومع ذلك أعطاك الله إياه واختارك له ، فالذي أعطاك الرسالة ولم تكُنْ في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه؟
إذن : تقوم هذه الآية مقامَ الدليل والبرهان على صِدْق { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ . . . } [ القصص : 85 ] وفي موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى ، فيقول سبحانه : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآء . . . } [ الشورى : 52 ] فالذي أعطاك الرسالة لا يعجز أن يحقق لك ما تريد .
وقوله تعالى : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ . . . } [ القصص : 86 ] هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعاً .
والمعنى : ما كنت ترجو أن يُلْقى إليك الكتاب إنما ألقيناه ، وما ألقيناه إليك إلا رحمة لك من ربك .
وما دام هؤلاء الكفار عاندوك وأخرجوك ، فإياك أنْ تلين لهم { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } [ القصص : 86 ] أي : معيناً لهم مسانداً ، وكانوا قد اقترحوا على رسول الله أن يعبد آلهتهم سنة ، ويعبدون إلهه سنة ، فحذره الله أنْ يُعينهم على ضلالهم ، أو يجاريه في باطلهم ، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يناصر ظالماً أو مجرماً ، حتى إن كان من أتباعه .
وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] قصة اليهودي زيد بن السمين لما جاءه المسلم طُعْمة بن أبيريق ، وأودع عنده دِرْعاً له ، وكان هذا الدرع مسروقاً من آخر اسمه قتادة بن النعمانَ ، فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت اليهودي ، وكان السارق قد وضعه في كيس للدقيق ، فدلَّ أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة ، ولما عرفوا حقيقة الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم ، خاصة وهم حديثو عهد بالإسلام ، حريصون على ألاّ تُشوه صورته .
لذلك شرحوا لرسول الله هذه المسألة ، لعله يجد لها مخرجاً ، فأدار رسول الله المسألة في رأسه قبل أنْ يأخذ فيها حُكْماً؛ وعندها نزل الوحي على رسول الله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس . . . } [ النساء : 105 ] أي : جميع الناس ، المؤمن والكافر { بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] أي : تخاصم من أجلهم ولصالحهم { واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 106 ] أي : مما خطر ببالك في هذه المسألة .
وفي بعض الآيات نجد في ظاهرها قسوة على رسول الله وشدة مثل : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين }
(1/6931)

[ الحاقة : 44-46 ] .
وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل لا يُقصد به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الحق سبحانه يريد أن يعطي للأمة نموذجاً يلفت أنظارهم ، وكأنه تعالى يقول لنا : انتبهوا فإذا كان الخطاب لرسول الله بهذه الطريقة ، فكيف يكون الخطاب لكم؟
كأن يكون عندك خادم يعبث بالأشياء حوله ، فتُوجِّه الكلام أنت إلى ولدك : والله لو عبثتَ بشيء لأفعلنَّ بك كذا وكذا ، فتوجِّه الزجر إلى الولد ، وأنت تقصد الخادم ، على حَدِّ المثل القائل ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) .
لذلك يقول بعض العارفين :
مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ ... إلى النبيِّ صَاحبِ البشَارةِ
فكُنْ لَبيباً وافْهَم الإشَارةَ ... إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارة
يعني : اسمعوا يا أمة محمد ، كيف أخاطبه ، وأُوجِّه إليه النذارة ، مع أنه البشير .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ . . . } .
(1/6932)

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
قوله تعالى : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ . . . } [ القصص : 87 ] أي : لا يصرفنك ولا يمنعنَّك المشركون { عَنْ آيَاتِ الله . . . } [ القصص : 87 ] أي : قراءتها وتبليغها للناس ، وقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ القصص : 87 ] هذا أيضاً داخل في ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) لأن رسول الله أبعد ما يكون عن الشرك ، وليس مظنة له .
(1/6933)

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قوله تعالى : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ . . . } [ القصص : 88 ] كسابقتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مظنة أن يدعو مع الله إلهاً آخر { لاَ إله إِلاَّ هُوَ . . . } [ القصص : 88 ] أي : لا معبودَ بحق إلا هو .
ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوه : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] أي : سَعَوْا إليه لينازعوه الألوهية ، أو ليتقرَّبوا إليه .
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . . } [ القصص : 88 ] الوجه في عُرْفنا ما به المواجهة في الإنسان ، وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أنْ نصفه سبحانه به ، بناءً على وصفه في إطار قوله سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . . . } [ الشورى : 11 ] .
فالحق سبحانه له وجه ، لكن ليس ككل الوجوه ، وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق سبحانه مع الخَلْق ، وأنت آمنتَ بوجود الله ، وأن وجوده ذاتي ، ليس كوجودك أنت .
وقوله : { كُلُّ شَيْءٍ . . . } [ القصص : 88 ] كلمة شيء يقولون : إنها جنس الأجناس يعني : أي موجود طرأ عليه الوجود يسمى ( شيء ) مهما كان تافهاً ضئيلاً . وقد تكلم العلماء في أيطلق على الله تعالى أنه شيء لأنه موجود؟
قالوا : ننظر في أصل الكلمة ( شيء ) من شاء شيئاً ، فالشيء شاءه غيره ، فأوجده؛ لذلك لا يقال لله تعالى شيء؛ لأنه سبحانه ما شاءه أحد ، بل هو سبحانه موجود بذاته .
وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ . . . . } [ الإسراء : 44 ] يعني : كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم ، إلا يسبح بحمد الله ، البعض قال : هو تسبيح دلالة على موجدها ، وليس تسبيح مقالة حقيقية ، لكن قوله سبحانه { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . . } [ الإسراء : 44 ] يدل على أنه تسبيح حقيقي ، فكل شيء يُسبِّح بلغته وبما يناسبه .
وقد أثبت الله تعالى منطقاً للطير وتسبيحاً للجبال ، ولو فهمتَ لغة هذه الأشياء لأمكنك أنْ تعرف تسبيحها ، لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر ، ونحن لا نفهم لغات بعضنا ، فإذا لم تكن تعرف مثلاً الإنجليزية ، أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبّح بها الله وهو بشر مثلك يتكلَّم بنفس طريقتك وبنفس الأصوات؟
لذلك يقولون في معجزاته صلى الله عليه وسلم : سبَّح الحصى في يده ، والصواب أن نقول : سمع رسول الله تسبيح الحصى في يده ، وإلاَّ فالحصى يُسبِّح في يد رسول الله ، ويُسبِّح في يد أبي جهل . ومن ذلك أيضاً حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ألم يقل الحق سبحانه : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . . } [ النحل : 68 ] .
ألم يَقُلْ عن الأرض : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] ؟ ألم يُثبت للنملة كلاماً؟ ألم يكلم الهدهد سليمان عليه السلام ، وفهم منه سليمان؟
(1/6934)

إذن : لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ . . . } [ النور : 41 ] وإنْ شاء الله أطلع بعض خَلْقه على هذه اللغات ، وأفهمه إياها .
ومعنى : { هَالِكٌ . . . } [ القصص : 88 ] البعض يظن أن الهلاك خاصٌّ بما فيه روح كالإنسان والحيوان ، لكن لو وقفنا عند قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . . } [ الأنفال : 42 ] .
إذن : فالهلاك يقابله الحياة ، فكل شيء يهلك كانت له حياة تناسبه ، وإنْ كنا لا نفهم إلا حياتنا نحن ، والتي تذهب بخروج الروح .
ومعنى : { إِلاَّ وَجْهَهُ . . . } [ القصص : 88 ] أي : إلا ذاته تعالى ، ولم يقُلْ : إلا هو؛ لأنه تعالى ليس شيئاً ، وللوجه هنا معنى آخر ، كما نقول : فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجه الله يعني : فعلت والله في بالي ، فالمعنى : كل شيء هالك ، إلا ما كان لوجه الله ، فلا يهلك أبداً؛ لأنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا وثوابه في الآخرة .
ثم يقول سبحانه : { لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 88 ] أي : له الحكم في الآخرة يوم يقول : { لِّمَنِ الملك اليوم . . . } [ غافر : 16 ] لكن لماذا خصَّ الملك يوم القيامة ، وهو سبحانه له الملْك الدائم في الدنيا وفي الآخرة؟ قالوا : لأن هناك مُلْكاً في الدنيا ، يُملِّكه لخَلْقه ، كما قال سبحانه في النمرود : { أَنْ آتَاهُ الله الملك . . . } [ البقرة : 258 ] وقال سبحانه : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ . . . } [ آل عمران : 26 ] .
إذن : فالملْك مُلْك الله ، وهو سبحانه الذي يُملِّك خَلْقه في الدنيا دنيا الأسباب ، لكن في الآخرة تُنزع الملكية من أيِّ أحد إلا لله وحده . حتى إرادة الإنسان على جوارحه تُسلَب منه ، فتشهد عليه بما كان منه في الدنيا .
وإنْ أردتَ أن تعرف الآن صِدْق هذه المسألة فانظر إلى الأمور القدرية التي تجري عليك ، كالمرَض وكالموت وغيرها ، هل تستطيع أن تتأبى عليها؟
ثم يقول سبحانه : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 88 ] أي : للحساب في الآخرة؛ لأن الله تعالى لم يخلقنا عَبثاً ، ولن يتركنا هملاً ، بل لا بد من الرجوع إليه ليحاسب كلاً منكم على ما قدَّم ، وما دُمْتم قد عرفتم ذلك ، فعليكم أن تحترموا المرجع إلى الله ، وتنظروا ماذا طلب منكم .
والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنياً للمجهول ( تُرجعون ) وهو للكافر الذي تأبَّى على الله ، فنقول له : ستُرجع إلى الله ، وتٌقذف في النار غَصباً عنك ، ورَغْماً عن أنفك ، فإنْ تأبَّيْتَ على الله في الدنيا ، فلن تتأبَّى عليه في الآخرة ، ويأتي مبنياً للمعلوم ( ترجعون ) وهو للمؤمن الذي يشتاق لثواب الآخرة فيتهافت بنفسه ويُقبل عليه .
(1/6935)

الم (1)
سبق أنْ تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن ، كلما تكررت هذه الظاهرة نتكلم عن مجالات الأذهان في فهمها ، وما دام الحق سبحانه يُكررها فعلينا أيضاً أن نُكرِّر الحديث عنها ، ولماذا ينثر الله هذه الظاهرة في سور القرآن؟ لتظل دائماً على البال .
وقلنا : إن القرآن الكريم مبنيٌّ في كل آياته وسوره على الوَصْل ، لا على الوقف ، اقرأ : { >مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 64-67 ] .
فلم يقل { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 65 ] ويقف ، إنما وصل : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } [ الرحمن : 66 ] لأن القرآن موصول ، لا فصلَ أبداً بين آياته؛ لذلك ليس في القرآن من وقف واجب ، إنما لك أن تقف لضيق النفَس ، لكن حينما تعيد تعيد بالوصل .
وكذلك القرآن مبنيٌّ على الوَصْل في السور ، فحين تنتهي سورة لا تنتهي على سكون ، فلم يَقُلْ - سبحانه وتعالى - وإليه ترجعونْ بسكون النون ، إنما ( تُرْجَعُونَ بسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم ) ليبدأ سورة أخرى موصولة .
فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسُوره إلا في الحروف المقطَّعة في أوائل السور ، فهي مبنية على الوقف ألفْ لامْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل : ألفٌ لامٌ ميمٌ على الوَصْل ، لماذا؟ لأنها حروف مُقطَّعة ، قد يظنها البعض كلمة واحدة ، ففصَل بينها بالوقف .
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " لا أقول الم حرف . ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف ، كل حرف على حدة .
وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا : إنها خامات القرآن ، فمن مثل هذه الحروف يُنسج كلام الله ، وقلنا : إنك إنْ أردتَ أن تُميِّز مهارة النسْج عند بعض العمال مثلاً لا تعطي أحدهم قطناً ، والآخر صوفاً ، والآخر حريراً مثلاً؛ لأنك لا تستطيع التمييز بينهم ، لأن الخامات مختلفة ، فالحرير بطبيعته سيكون أنعم وأرقَّ . فإنْ أردتَ معرفة المهارة فوحِّد المادة الخام عند الجميع .
فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا : إن القرآن مُعْجز ، بدليل أنكم تملكون نفس حروفه ، ومع ذلك عجزتُمْ عن معارضته ، فقد استخدم القرآن نفس حروفكم ، ونفس كلماتكم وألفاظكم ، وجاء بها في صورة بليغة ، عَزَّ عليكم الإتيان بمثلها .
إذن : اختلف أسلوب القرآن ، لأن الله تعالى هو الذي يتكلم . فمعنى ( ألم ) هذه نفس حروفكم فأتوا بمثلها .
أو : ( ألم ) تحمل معنى من المعاني؛ لأن ألف لام ميم أسماء حروف ، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا المتعلم ، فالأُميُّ يقول ( كتب ) لكن لا يعرف أسماء حروفها ، وتقول للولد الصغير في المدرسة : تهجَّ كتب فيقول لك ( كاف فتحة كَ ) و ( تاء فتحة تَ ) و ( باء فتحة بَ ) .
إذن : لا يعرف أسماء الحروف إلا المتعلم ، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً ، فمن أين نطق بأسماء الحروف الم ، طه ، يس ، ق .
(1/6936)

. . إلخ . إذن : لا بُدَّ أن ربه علّمه ولقّنه هذه الحروف ، ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلقيّ في تعلُّم القرآن ، وإلا فكيف يُفرِّق المتعلم بين ( الم ) هنا وبين { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] فينطق الأولى على الوقْف ، والأخرى على الوَصْل ، ينطق الأولى بأسماء الحروف ، والثانية بمُسمَّياتها؟
وتحمل ( الم ) أيضاً معنى التنبيه للسامع ، فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم ، فلا بُدَّ أن تتوفر له خصائص العربية والعربية الراقية ، فلو قرأنا مثلاً في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم يقول :
أَلاَ هُبِّي بصَحْنِك فَاصْبِحينَا ... ولاَ تُبقِي خمور الأندرينا
نسأل : ماذا أفادت ( أَلاَ ) هنا ، والمعنى يصح بدونها؟ ( ألا ) لها معنى عند العربي؛ لأنها تنبهه إنْ كان غافلاً حتى لا يفوته شيء من كلام مُحدِّثه ، حينما يُفَاجأ به ، كما تنادي أنت الآن مَنْ لا تعرفه فتقول : ( اسمع يا . . . ) كأنك تقول له : تنبه لأنني سأكلمك .
والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلَّم برغبته في أي وقت ، أما السامع فقد يكون غافلاً غير مُنتبه ، أو ليس عند استعداد لأنْ يسمعَ ، فيحتاج لمن يُنبِّهه ليفهم ما يُقال له ، إنما لو فاجأتَه بالمراد ، فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك .
وكذلك في ( الم ) حروف للتنبيه ، على أنه سيأتي كلام نفيس اسمعه جيداً ، إياك أنْ يضيع منك حرف واحد منه . كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى ، يفهمها غيرنا ممَّنْ فتح الله عليهم . فهي - إذن - معين لا ينضب ، يأخذ منه كُلٌّ على قَدْره .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَحَسِبَ الناس أَن . . . } .
(1/6937)

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
الفعل ( حسِب ) بالكسر في الماضي ، وبالفتح في المضارع ( يحسَب ) يعني : ظن . أما ( حسَب ) والمضارع ( يحسِب ) بالكسر أي : عَدَّ .
فالمعنى : { أَحَسِبَ الناس . . . } [ العنكبوت : 2 ] أي : ظنوا . والهمزة للاستفهام ، وهي تفيد نفي هذه الظن وإنكاره ، لأنهم حَسِبوا وظنوا أنْ يتركهم الله دون فتنة وتمحيص واختبار .
والحق سبحانه يريد أن يحمل أولوا العزم رسالة الإسلام؛ لأن الإسلام لا يتصدَّى لحمل دعوته إلا أقوياءُ الإيمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها .
والإيمان ليس كلمة تُقال ، إنما مسئولية كبرى ، هذه المسئولية هي التي منعتْ كفار مكة أنْ يؤمنوا؛ لأنهم يعلمون أن كلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة وإلا لَقَالوها ، إنما هي منهج حياة له متطلبات . إنها تعني : لا مُطَاعَ إلا الله ، ولا معبود بحقٍّ إلا الله ، وهم لا يريدون هذه المسألة لتظل لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية .
لذلك يقول سبحانه هنا : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا . . . } [ العنكبوت : 2 ] فالإيمان ليس قَوْلاً فحسب؛ لأن القول قد يكون صِدْقاً ، وقد يكون كذباً ، فلا بُدَّ بعد القول من الاختبار وتمحيص الإيمان { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] فإنْ صبر على الابتلاءات وعلى المحن فهو صادق الإيمان .
ويؤكد سبحانه هذا المعنى في آية أخرى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ خَسِرَ الدنيا والأخرة . . . } [ الحج : 11 ] .
وقد محَّص الله السابقين الأولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني ، فكان المؤمن يُصدِّق بها ، ويؤمن بصِدْق الرسول الذي جاء بها ، أما المتردد المتحيِّر فيُكذِّب بها ، ويراها غير معقولة .
" ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج ، فلمَّا حدَّثوه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنْ كان قال فقد صدق " في حين ارتد البعض وكذَّبوا ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد من هذه الخوارق ، التي يقف أمامها العقل - أنْ يُميِّز بين الناس ليحمل أمر الدعوة أشداءُ الإيمان والعقيدة ، ومَنْ لديهم يقين بصِدْق الرسول في البلاغ عن ربه .
وسبق أنْ بيّنا غباء مَنْ كَذَّب بحادثة الإسراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول الله : أتدَّعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وأنهم غفلوا أو تغافلوا عن نص الآية : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ . . . } [ الإسراء : 1 ] فلم يقل محمد : إني سريت بنفسي إنما أُسْري بي .
وقلنا للرد عليهم : لو جاءك رجل يقول لك : لقد صعدتُ بولدي الرضيع قمة إفرست مثلاً ، أتقول له : كيف يصعد الرضيع قمة إفرست؟
وسبق أنْ تكلَّمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعاً ، وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من الزمن على قَدْر قوة فاعله ، فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد واحدة .
(1/6938)

فالزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً فكلما زادت القوة قلَّ الزمن ، فالذي يذهب مثلاً إلى الأسكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على مَتْن طائرة . وهكذا .
إذن : قِسْ على قدر قوة الفاعل ، فإنْ كان الإسراء بقوة الله تعالى ، وهي قوة القوى فلا زمن ، وهذه مسألة يقف عندها العقل ، ولا يقبلها إلا بالإيمان .
إذن : فالحق سبحانه يُمحِّصكم ويبتليكم؛ لأنه يريدكم لمهمة عظيمة ، لا يصلح لها إلا الصنديد القوي في إيمانه ويقينه .
لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين } [ البقرة : 155 ] .
وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] .
وقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ . . . } [ آل عمران : 142 ] .
فهذه الابتلاءات كالامتحان الذي نُجريه للتلاميذ لنعرف مقدرة كل منهم ، والمهمة التي يصلح للقيام بها ، ومعلوم أن الابتلاءات لا تُذَمُّ لذاتها ، إنما لنتائجها المترتبة عليها ، فما جُعِلَتْ الابتلاءات إلا لمعرفة النتائج ، وتمييز الأصلح للمهمة التي نُدِب إليها .
ومعنى { يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] يُخْتبرون . مأخوذة من فتنة الذهب ، حين نصهره في النار؛ لنُخِرج ما فيه من خَبَث ، ونُصفِّي معدنه الأصلح ، فيما يناسب مهمته .
ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً للحق وللباطل في قوله تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } [ الرعد : 17 ] .
فالفتنة ما كانت إلا لنعرف الصادق من القَوْلة الإيمانية والكاذب فيها : الصادق سيصبر ويتحمل ، والكاذب سينكر ويتردد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . } .
(1/6939)

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
الحق - سبحانه وتعالى - يُسلِّي السابقين من أمة محمد الذين عُذِّبوا وأوذوا ، وضُرِبوا بالسياط تحت حَرِّ الشمس ، ووُضِعت الحجارة الثقال على بطونهم ، والذين جاعوا حتى أكلوا الميتة وأوراق الشجرة يُسلِّيهم : لَسْتم بدعاً في هذه الابتلاءات فاصمدوا لها كما صمد السابقون من المؤمنين .
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . } [ العنكبوت : 3 ] فانظر مثلاً إلى ابتلاء بني إسرائيل مع فرعون ، إذن فابتلاؤكم أهونِ وأخفّ ، وفيه رحمة من الله بكم وأنتم أيسر منهم { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] .
ولك أن تقول : ألم يكُن الله تعالى يعلم حقيقتهم قبل أنْ يبتليهم؟ بلى ، يعلم سبحانه حقيقةَ عباده ، وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم ، إنما الهدف أنْ يُقر العبد بما عُلِم عنه .
ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - حينما نقول للمدرس مثلاً : اعْطنا نتيجة هؤلاء التلاميذ ، فليس في الوقت سعة للامتحان فيقول من واقع خبرته بهم : هذا ناجح ، وهذا راسب ، وهذا الأول ، وهذا كذا . عندها يقوم الراسب ويقول : لو اختبرتني لكنت ناجحاً ، ولو اختبره معلِّمه لرسب فعلاً . إذن : فربنا - عز وجل - يختبر عباده ليُقر كل منهم بما عُلم عنه .
{ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 3 ] عِلْم ظهور وإقرار من صاحب الشأن نفسه ، بحيث لا يستطيع إنكاراً ، حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه .
(1/6940)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
هنا أيضاً { حَسِبَ . . . } [ العنكبوت : 4 ] أي : ظن الذين يعملون السيئات { أَن يَسْبِقُونَا . . . } [ العنكبوت : 4 ] أي : يُفلتوا من عقابنا ، تقول : سبق فلان فلاناً يعني : أفلت منه وهو يطارده ، فالمعنى أنهم لن يستطيعوا الإفلات من العذاب أو الهرب منه ، وإنْ كانوا يعتقدون ذلك أو يظنونه ، فبئس هذا الظن .
{ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 4 ] أي : قَبُح حكمهم وبَطُل ، وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم بالبطلان فإنما نثبت قضيتنا ، وهي أنهم لن يُفْلِتوا من عقابنا .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ . . . } .
(1/6941)

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
معنى { يَرْجُو لِقَآءَ الله . . . } [ العنكبوت : 5 ] يعني : يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله ، يؤمن بأن الله الذي خلقه وأعدَّ له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة ، وأنه سبحانه بعد ذلك سيُعيده ويحاسبه؛ لذلك إنْ لم يعبده ويطعْه شُكْراً له على ما وهب ، فليعبده خوفاً منه أنْ يناله بسوء في الآخرة .
وأهل المعرفة يروْنَ فرقاً بين مَنْ يرجو الثواب ويرجو رحمة الله ، ومن يرجو لقاء الله لذات اللقاء ، لا خوفاً من نار ، ولا طمعاً في جنة؛ لذلك تقول رابعة العدوية :
كُلُّهم يَعْبدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ... ويروْنَ النجاةَ حَظَّاً جَزِيلاً
أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنانَ فيحظَوْا ... بقُصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيلا
لَيْسَ لي بالجنَانِ والنّارِ حَظٌّ ... أنَا لا أبتغي بحِبي بَديلاَ
أي : أحبك يا رب ، لأنك تُحَبُّ لذاتك ، لا خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، وهي أيضاً القائلة : اللهم إنْ كنتَ تعلم أني أحبك طمعاً في جنتك فاحرمني منها ، وإنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها .
ويقول تعالى في سورة الكهف : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] ولو كانت الجنة لأن لقاء الله أعظم ، وهو الذي يُرْجى لذاته .
والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد : { فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ . . . } [ العنكبوت : 5 ] فأكَّده بإن واللام وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقُّق الفعل ، كما قال سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } [ القصص : 88 ] ولم يقل : سيهلك ، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياءً؛ لأن الميِّت : مَنْ يؤول أمره وإن طال عمره إلى الموت ، أما مَنْ مات فعلاً فيُسمَّى ( مَيْت ) .
وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول : يأتي أو سيأتي ، وتقول لمن تتوعده : سأفعل بك كذا وكذا ، فأنت جازفتَ وتكلمتَ بشيء لا تملك عنصراً من عناصره ، فلا تضمن مثلاً أنْ تعيش لغد ، وإنْ عشتَ لا تضمن أن يعيش هو ، وإنْ عاش ربما يتغير فكرك ناحيته ، أو فقدتَ القدرة على تنفيذ ما تكلمت به كأنْ يصيبك مرض أو يِلُم بك حدث .
لكن حينما يتكلم مَنْ يملك ازمّة الأمور كلها ، ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه ، فحين يحكم ، فليس للزمن اعتبار في فعله ، لذلك لم يقل سبحانه : إن أجل الله سيأتي ، بل { لآتٍ . . . } [ العنكبوت : 5 ] على وجه التحقيق .
وسبق أنْ ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } [ النحل : 1 ] وقد وقف السطحيون أمام هذه الآية يقولون : وهل يستجعل الإنسان إلا ما لم يَأْتِ بَعْد؟ لأنهم لا يفهمون مراد الله ، وليست لديهم مَلَكة العربية ، فالله تعالى يحكم على المستقبل ، وكأنه ماضٍ أي مُحقّق؛ لأنه تعالى لا يمنعه عن مراده مانع ، ولا يحول دونه حائل .
(1/6942)

ولفظ الأجل جاء في القرآن في مواضع كثيرة ، منها : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] وفي الآية التي معنا : { فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ . . . } [ العنكبوت : 5 ] .
والأجلان مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للإنسان ، فالأجل الأول يُنهي الحياة الدنيا ، والأجل الآخر يُعيد الحياة في الآخرة للقاء الله عز وجل ، إذن : فالأجلان مرتبطان .
والحق - سبحانه وتعالى - حينما يعرض لنا قضية غيبية يُؤنِسنا فيها بشيء حسيٍّ معلوم لنا ، حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحَسيِّ إلى الغيبي غير المشاهد . وأنت ترى أن أعمار بني آدم من هذه الحياة تتفاوت : فواحد تغيض به الأرحام ، فلا يخرج للحياة ، وواحد يتنفس زفيراً واحداً ويموت . . إلخ .
وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت ، مَنْ يموت بعد نفَس واحد ، ومَنْ يموت بعد المائة عام . إذن : فلا رتابة في انقضاء الأجل ، لا في سِنٍّ ولا في سبب : فهذا يموت بالمرض ، وهذا بالغرق ، وهذا يموت على فراشه .
لذلك يقول الشاعر :
فَلا تحسَب السُّقْم كأسَ الممات ... وإنْ كانَ سُقْماً شَديد الأَثَر
فَرُبَّ عليلٍ تراهُ اسْتفاقَ ... ورُبَّ سَليمٍ تَراَهُ احتُضرْ
وقال آخر :
وَقَدْ ذَهَب الممتِلي صحةً ... وصَحَّ السَّقِيمُ فَلَمْ يذْهب
وتجد السبب الجامع في الوباءات التي تعتري الناس ، فيموت واحد ويعيش آخر ، فليس في الموت رتابة ، والحق - سبحانه وتعالى - حينما يقول : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] نجد واقع الحياة يؤكد هذا ، فلا وحدةَ في عمر ، ولا وحدةَ في سبب .
والصدق في الأجل الأول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الأجل الآخر ، وأن أجل الله لآت ، فالأجل الذي أنهى الحياة بالاختلاف هو الذي يأتي بالحياة بالاتفاق ، فبنفخة واحدة سنقوم جميعاً أحياءً للحساب ، فإن اختلفنا في الأولى فسوف نتفق في الآخرة؛ لأن الأرواح عند الله من لَدُنْ آدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة ، وبنفخة واحدة يقوم الجميع .
وسبق أن قُلْنا : إن الأزمان ثلاثة : حاضر نشهده ، وماضٍ غائب عنا لا نعرف ما كان فيه ، ومستقبل لا نعرف ما يكون فيه . والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليلَ الصدق في غير المشاهد ، فنحن مثلاً لا نعرف كيف خلقنا الخَلْق الأول إلا من خلال ما أخبرنا الله به أن أَصلْ الإنسان تراب اختلط بالماء حتى صار طيناً ، ثم حمأ مسنوناً ، ثم صلصالاً كالفخار . . إلخ .
ثم جعل نسل الإنسان من نطفة تتحول إلى علقة ، ثم إلى مضغة ، ثم إلى عظام ، ثم تُكْسى العظام لحماً . وإنْ كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة ، وأرانا كيف يتكوَّن الجنين ، فيبقى الخَلْق الأول من تراب غيباً لا يعلمه أحد .
ولا تُصدِّق من يقول : إني أعلمه؛ لأن الله تعالى حذرنا من هؤلاء المضلين في قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً }
(1/6943)

[ الكهف : 51 ] .
فلا علمَ لهم بخَلْق الإنسان ، ولا علمَ لهم بخَلْق ظواهر الكون ، فلا تسمع لهم ، وخُذْ معلوماتك من كتاب ربك الذي خلق سبحانه ، ويقوم وجود المضلين الذين يقولون : إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها ، أو أن الإنسان أصله قرد - يقوم وجودهم ، وتقوم نظرياتهم دليلاً على صدق الحق سبحانه فيما أخبر .
وإلا ، فكيف نُصدِّق نظرية ترقِّي القرد إلى الإنسان؟ ولماذا ترقّى قرد ( دارون ) ولم تترقَّ باقي القرود؟
وإذا كان المؤمن مُصدِّقاً بقوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] لأنه آمن بالله ، وآمن بما جاء به رسول الله ، فكيف بمَنْ لا يؤمن ولا يُصدِّق؟ لذلك يُؤنِس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الأشياء يُؤنِسها بما تشاهد : فإنْ كنتَ لا تُصدِّق مسألة الخَلْق فأنت بلا شكٍّ تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم ، والموت نَقْضٌ للحياة ، ونَقْض الشيء يأتي عكْس بنائه .
والخالق - عز وجل - أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء الإنسان ، لذلك هي أول شيء يُنقَض فيه عند الموت ، إذن : مشهدك في كيف تموت ، يؤكد لك صِدْق الله في كيف جئت؟
وأجل الآخرة أمر لا بُدَّ منه ليُثاب المطيع ويُعَاقب العاصي ، أَلاَ ترى إلى النظم الاجتماعية حتى عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لاستقامة حركة الحياة؟ فما بالك بمنهج الله تعالى في خَلْقه ، أيترك الظالم والمجرم يُفلِت من العقاب في الآخرة بعد أنْ أفلت من عقاب الدنيا؟
وكنا نردُّ بهذا المنطق على الشيوعيين : لقد عاقبتُم مَنْ طالته أيديكم من المجرمين ، فكيف بمَنْ ماتوا ولم تعاقبوهم ، أليستِ الآخرةُ تحلّ لكم هذا المأزق؟
ثم تُختمَ الآية بقوله تعالى : { وَهُوَ السميع العليم } [ العنكبوت : 5 ] ألا ترى أنه تعالى لو قال : العليم فقط لشملَ المسموع أيضاً؛ لأن العلم يحيط بكل المدركات؟ فلماذا قال { السميع العليم } [ العنكبوت : 5 ] ؟
قالوا : لأن اللغة العربية حينما تكلمتْ عن العمل والفعل والقول قسَّمت الجوارح أقساماً : فاللسان له القول ، وبقية الجوارح لها الفعل ، وهما جميعاً عمل ، فالقول عمل اللسان ، والفعل عمل بقية الجوارح ، فكأن اللسان أخذ شطر العمل ، وبقية الجوارح أخذت الشطر الآخر .
وباللسان معرفة إيمانك ، حين تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وهي أشرف ما يعمل الإنسان ، وبه بلاغ الرسول عن الله لخَلْقه ، إذن : فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن السماع؛ لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله .
ولأهمية القول قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] فكل فعل ناشيء عن انصياع لقول أو سماع لقول؛ لذلك ختم سبحانه هذه الآية بقوله : { وَهُوَ السميع العليم } [ العنكبوت : 5 ] .
(1/6944)

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
وكلمة { جَاهَدَ . . . } [ العنكبوت : 6 ] تناسب النجاح في الابتلاء ، والجهاد : بذْل الجهد في إنفاذ المراد ، ومنه اجتهد فلان في كذا يعني : عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدِّ والاجتهاد في أن يستنبط الحكم .
والجهاد له مجالان : مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه .
وجاهد : مفاعلة ، كأن الشيء الذي تريده صعب ، يحتاج إلى جهد منك ومحاولة ، والمفاعلة تكون من الجانبين : منك ومن الشيء الذي يقابلك ، وأول ميادين الجهاد النفس البشرية؛ لأن ربك خلق فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها ، ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقِّيها ، حتى لا تنطق معها إلى ما لا يُباح .
فحب الاستطلاع مثلاً غريزة محمودة في البحث العلمي والاكتشافات النافعة ، أمّا إنْ تحوّل إلى تجسُّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام؛ الأكل والشرب غريزة لتقتات به ، وتتولد عندك القدرة على العمل ، فإنْ تحوَّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها .
وعجيب أمر الناس في تناول الطعام ، فالسيارة مثلاً لا نعطيها خليطاً من الوقود ، إنما هو نوع واحد ، أما الإنسان فلا تكفيه عدة أصناف ، كل منها لها تفاعل في الجسم ، حينما تتجمع هذه التفاعلات تضر أكثر مما تنفع .
إذن : هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة؛ لتظل في حَدِّ الاعتدال ، عملاً بالأثر : " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع ، ولا نشرب حتى نظمأ ، وإذا شربنا لا نقنع " .
ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للاقتصاد في بلادنا ، وكم تحلو لك اللقمة بعد الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلِّفة؛ لذلك يقولون : نعم الإدام الجوع ، ثم إذا أكلتَ لا تملأ المعدة ، ودع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفَسه " .
وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية لا يخالطها مرض .
فالغرائز خلقها الله فيك لمهمة ، فعليك أنْ تقف بها عند مهمتك . ومثل الغرائز العواطف من حب وكُرْه وشفقه وحُزْن . . إلخ ، وهذه ليس لها قانون إلا أنْ تقفَ بها عند حدود العاطفة لا تتعداها إلى النزوع ، فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ ، لكن لا تتعدَّ ولا تُرتِّب على العاطفة حكماً .
وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالاً بسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل ، ثم أسلم قاتله ، فكان عمر كلما رآه يقول له : ازْوِ عني وجهك - يعني : أنا لا أحبك - فيقول : أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال : لا ، قال : إنما يبكي على الحب النساء . يعني : الحب والكره مسائل يهتم بها النساء ، والمهم العمل ، وما يترتب على هذه العواطف .
(1/6945)