الكتاب : تفسير الشعراوي
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قوله تعالى : { كذلك } [ طه : 127 ] أي : مثل هذا الجزاء { نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } [ طه : 127 ] والإسراف : تجاوز الحدِّ في الأمر الذي له حَدُّ معقول ، فالأكْل مثلاً جعله الله لاستبقاء الحياة ، فإنْ زاد عن هذا الحدِّ فهو إسراف .
دَخْلك الذي يسَّره الله لك يجب أن تنفق منه في حدود ، ثم تدَّخر الباقي لترقى به في الحياة ، فإنْ أنفقتَه كله فقد أسرفْتَ ، ولن تتمكن من أن تُرقِّى نفسك في ترف الحياة .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 27 ] .
وللإسلام نظرته الواعية في الاقتصاديات ، فالحق يريد منك أنْ تنفق ، ويريد منك ألاَّ تُسرِف وبين هذين الحدَّيْن تسير دَفّة المجتمع ، ويدور دولاب الحياة ، فإنْ بالغتَ في حَدٍّ منهما تعطلتْ حركة الحياة ، وارتبك المجتمع وبارت السلع .
وقد أوضح الحق سبحانه هذه النظرة في قوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
فربُّك يريد منك أنْ تجمع بين الأمرين؛ لأن التقتير والإمساك يُعطِّل حركة الحياة ، والإسراف يُجمِّد الحياة ويحرمك من الترقي ، والأخذ بأسباب الترف؛ لذلك قال تعالى : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] .
وقد يكون الإسراف من ناحية أخرى : فربُّك عز وجل خلقك ، وخلق لك مُقوِّمات حياتك ، وحدَّد لك الحلال والحرام ، فإذا حاولتَ أنت أنْ تزيد في جانب الحلال مما حرمه الله عليك ، فهذا إسراف منك ، وتجاوز للحدِّ الذي حَدَّه لك ربك ، وتجاوزتَ فيما أحلَّ لك ، وفيما حرَّم عليك .
وقد يأتي الإسراف من ناحية أخرى : فالشيء في ذاته قد يكون حلالاً ، لكن أنت تأخذه من غير حِلِّة .
فإذا نقلنا المسألة إلى التكاليف وجدنا أن الله تعالى أحلَّ أشياء وحرَّم أشياء ، فلا تنقل شيئاً مما حُرِّم إلى شيء أحلَّ ، ولا شيئاً مما أُحلَّ إلى شيء حُرِّم ، كما قال سبحانه : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } [ الأعراف : 32 ] .
وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
إذن : فربّك لا يُضيِّق عليك ، وينهاك أنْ تُضيِّق على نفسك وتُحرّم عليها ما أحلَّ لها ، كما يلومك على أنْ تُحلِّل ما حرّم عليك لأن ذلك في صالحك .
وكما يكون الإسراف في الطعام والشراب وهما من مُقوِّمات استبقاء الحياة ، يكون كذلك في استبقاء النوع بالزواج والتناسل ، إلى أنْ تقوم الساعة ، فجعل الحق سبحانه للممارسة الجنسية حدوداً تضمن النسل والاستمتاع الحلال ، فمَنْ تعدَّى هذه الحدود فقد أسرف .
ومن رحمته تعالى أنه يغفر لِمنْ أسرف على نفسه شريطةَ أن يكون مؤمناً : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] .
وقوله تعالى : { وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } [ طه : 127 ] فأنزل الإسراف منزلةَ تالية لعدم الإيمان؛ لذلك قال بعدها : { وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّه } [ طه : 127 ] لأنه حين ينقل الحلال إلى الحرام ، أو الحرام إلى الحلال ، فكأنه عطّل آيات الله .
(1/5797)

ثم يقول تعالى : { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } [ طه : 127 ] إذن : فالكلام هنا عن الدنيا ، فلا تظن أن الله يُؤخِّر للكافر كُلَّ العذاب ، فهناك أشياء تُعجِّل له في الدنيا لا تُؤخِّر .
وأول مَا لا يُؤخِّر ويُعجل الله به في الدنيا عقوبة الظلم ، فلا يمكن أنْ يموتَ الظالم قبل أن يرى المظلوم ما صنعه الله به ، وإلاّ فالذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالجزاء كانوا فجروا في الخَلْق وَعاثُوا في الأرض ، فمن حكمة الله أن نرى لكل ظالم مصرعاً حتى تستقيم حركة الحياة ، ولو لم يكُنْ الإنسان مؤمناً .
والحق سبحانه حين يريد أنْ يُعذِّب يتناسب تعذيبه مع قدرته تعالى ، كما أن ضربة الطفل غير ضربة الشاب القوي . إذن : مَا يناله من عذاب في الحياة هين لأنه من الناس ، أمّا عذاب الآخرة فشيء آخر؛ لأنه عذاب من الله يتناسب مع قدرته تعالى .
{ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } [ طه : 127 ] أبْقَى؛ لأن عذاب الدنيا ينتهي بالموت ، أو بأن يرضى عنك المعذَّب ويرحمك ، وقد يتوسط لك أحد فيزيل عنك العذاب ، أمّا في الآخرة فلا شيء من ذلك ، ولا مفرَّ من العذاب ولا مَلْجأ .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ }
(1/5798)

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
الهداية : الدلالة والبيان ، وتهديه أي : تدلّه على طريق الخير . والاستفهام في { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [ طه : 128 ] والاستفهام يَرِد مرة لتعلم ما تجهل ، أو يرد للتقرير بما فعلتَ .
فالمراد : أفلم ينظروا إلى الأمم السابقة وما نزل بهم لما كَذَّبوا رسُل الله؟ كما قال في آية أخرى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
وقال سبحانه : { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * واليل إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 110 ] .
أَلاَ تروْنَ كل هذه الآيات في المكذبين؟ ألاَ ترون أن الله ناصرُ رسُلَه؟ ولم يكُنْ سبحانه ليبعثهم ، ثم يتخلى عنهم ، ويُسلمهم ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] وقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [ الحج : 40 ] .
وبعد هذا كله يُعرِض المكذبون ، وكأنهم لم يروا شيئاً من هذه الآيات .
وساعة ترى ( كَمْ ) فاعلم أنها للشيء الكثير الذي يفوق الحصر ، كما تقول لصاحبك : كم أعطيتُك ، وكم ساعدتُك . أي : مرات كثيرة ، فكأنك وكلته ليجيب هو بنفسه ، ولا تستفهم منه إلا إذا كان الجواب في صالحك قطعاً .
فمعنى { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [ طه : 128 ] يعني : يُبيّن لهم ويدُّلهم على القرى الكثيرة التي كذَّبت رسلها ، وماذا حدث لها وحاق بها من العذاب ، وكان عليهم أنْ يتنبهوا ويأخذوا منهم عِبرة ولا ينصرفوا عنها .
وقوله تعالى : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } [ طه : 128 ] كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] فليس تاريخاً يُحكَى إنما واقع ماثل تروْنَه بأعينكم ، وتسيرون بين أطلاله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } [ طه : 128 ] أي : عجائب لمَنْ له عقل يفكر .
وكلمة ( النُّهَى ) جمع نُهية ، وهي العقل ، وهذه الكلمة تحلُّ لنا إشكالات كثيرة في الكفر ، فالبعض يظن أن الله تعالى خلق لنا العقل لنرتع به في مجالات الفكر كما نشاء ، وننفلت من كل القيود .
إنما العقل من العقال الذي يُعقَل به البعير حتى لا ينفلتَ منك ، وكذلك عقلُك يعقِلك ، ويُنظِّم حركتك حتى لا تسير في الكون على هَواك ، عقلك لتعقل به الأمور فتقول : هذا صواب ، وهذا خطأ . قبل أن تُقدِم عليه .
فالسارق لو عقل ما يفعل ما أقدمَ على سرقة الناس ، وما رأيك لو أبحنا للناس جميعاً أنْ يسرقوك ، وأنت فرد ، وهم جماعة؟
الحق ساعةَ يعقل بصرك أنْ يمتدَّ لما حرم عليك فلا تقُلْ : ضيق عليَّ ، لأنه أمر الآخرين أنْ يغضُّوا أبصارهم عن محارمك ، والغير أكثر منك ، إذن : فأنت المستفيد . فإنْ أردتَ أن تُعربد في أعراض الناس ، فأَبِح لهم أن يُعربِدوا في أعراضك .
(1/5799)

" والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه شاب يشكو عدم صبره على غريزة الجنس ، يريد أن يبيح له الزنا والعياذ بالله ، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يُلقِّنه درساً يصرفه عن هذه الجريمة ، فماذا قال له؟
قال : " يا أخا العرب ، أتحب هذا لأمك؟ أتحب هذا لأختك؟ أتحب هذا لزوجتك؟ " والشاب يقول في كل مرة : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فداك . ولك أنْ تتصوَّر ماذا ينتاب الواحد منّا إنْ سمع سيرة أمه وأخته وزوجته في هذا الموقف .
ثم يقول صلى الله عليه وسلم للشاب بعد أن هزَّه هذه الهزة العنيفة : " كذلك الناس لا يحبون لذلك لأمهاتهم ، ولا لزوجاتهم ، ولا لأخواتهم ، ولا لبناتهم .
وهنا قال الشاب : " فو الله ما همَّتْ نفسي لشيء من هذا إلا وذكرتُ أمي وزوجتي وأختي وابنتي " .
إذن : فالعقل هو الميزان ، وهو الذي يُجرِي المعادلة ، ويُوازِن بين الأشياء ، وكذلك إنْ جاء بمعنى النُّهى أو اللُّب فإنها تؤدي نفس المعنى : فالنُّهي من النهي عن الشيء ، واللب أي : حقيقة الشيء وأصله ، لا أنْ يكون سطحيّ التفكير يشرد منك هنا وهناك .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ }
(1/5800)

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
الكلام عن آيات الله في المكذبين للرسل وما حاق بهم من العذاب وقد مَرَّ عليها القوم دون أن يعتبروا بها ، أو يرتدعوا ، أو يخافوا أن تكون نهايتهم كنهاية سابقيهم ، وربما قال هؤلاء القوم : ها نحن على ما نحن عليه دون أن يصيبنا شيء من العذاب : لا صَعْق ولا مَسْخ ولا ريح ، فبماذا تهددنا؟
لذلك يوضح لهم الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة : ما منعنا أنْ نفعل بكم ما فعلنا بسابقيكم من المكذبين بالرسل ، ما منعنا من إذلالكم وتدميركم إلا شيء واحد هو كلمة سبقتْ من الله .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] .
فما هذه الكلمة التي سبقتْ من الله ، ومنعتْ عنهم العذاب؟
المراد بالكلمة قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
فهذه الكلمة التي سبقت مني هي التي منعتْ عنكم عذابي ، والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة فيقول : " بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " .
فإنْ قال قائل : الله يهدد الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنْ يُنزل بهم ما أنزل بالمكذِّبين من الأمم السابقة ، وها هم كفار مكة يُكذّبون رسول الله دون أن يحدث لهم شيء .
نقول : لأن لهم أمانين من العذاب ، الكلمة التي سبقتْ ، والأجل المسمّى عند الله { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] فلكل واحد أَجَلٌ معلوم .
معنى : { لَكَانَ لِزَاماً } [ طه : 129 ] أي : لزم لزاماً أنْ يحيق بهم ما حاقَ بالأمم السابقة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ }
(1/5801)

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
فما دام أن القوم يُكذِّبون رسول الله ، وهم في مأمن من العذاب ، فلابُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم ، ويستمروا في عنادهم لرسول الله؛ لذلك يتوجه الحق سبحانه وتعالى إلى الناحية الأخرى فيعطي رسوله صلى الله عليه وسلم المناعة اللازمة لمواجهة هذا الموقف { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } [ طه : 130 ] لأن لك بكل صبر أجراً يتناسب مع ما تصبر عليه .
والصبر قد يكون مَيْسوراً سهلاً في بعض المواقف ، وقد يكون شديداً وصَعْباً ويحتاج إلى مجاهدة ، فمرَّة يقول الحق لرسوله : اصبر . ومرة يقول : اصطبر .
فما الأقوال التي يصبر عليها رسول الله؟ قولهم له : ساحر . وقولهم : شاعر وقولهم : مجنون وكاهن ، كما قالوا عن القرآن : أضغاث أحلام . وقالوا : أساطير الأولين . فاصبر يا محمد على هذا كله؛ لأن كلَّ قوله من أقوالهم تحمل معها دليل كذبهم .
فقولهم عن رسول الله : ساحر ، فمَن الذي سَحَره رسول الله؟ سحر المؤمنين به ، فلماذا إذن لم يسحرْكم أنتم أيضاً ، وتنتهي المسألة . إذن : بقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التهمة .
وقولهم : شاعر ، كيف وهم أمة صناعتها الكلام ، وفنون القول شعره ونثره ، فكيف يَخْفي عليهم أسلوب القرآن؟ والشعر عندهم كلام موزون ومُقفَى ، فهل القرآن كذلك؟ ولو جاء هذا الاتهام من غيركم لكان مقبولاً ، أما أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقاً ومعارض كمعارض الصناعات الآن ، فهذا غير مقبول منكم .
وسبق أنْ قلنا : إنك إذا قرأتَ مقالاً مثلاً ، ومَرَّ بك بيت من الشعر تشعر به وتحسُّ أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر ، أو من شعر إلى نثر . فخُذْ مثلاً قول ابن زيدون :
" هذا العَذْل محمود عواقبه ، وهذه النَّبْوة غمرة ثم تنجلي ، ولن يريبني من سيدي أنْ أبطأ سَيْبه ، أو تأخر غير ضنين غناؤه ، فأبطأ الدِّلاء فَيْضا أملؤها ، وأثقل السحائب مشياً أحفلها . ومع اليوم غد ، ولكل أجل كتاب ، له العتب في احتباله ، ولا عتبَ عليه في اغتفاله .
فَإنْ يكُنِ الفعلُ الذي سَاءَ واحِداً ... فَأفْعالُه اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ "
على الفور تحس أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر .
فإذا ما قرأتَ في القرآن مثلاً قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } [ يوسف : 3032 ] .
فهل أحسستَ بانتقال الأسلوب من نثر إلى شعر ، أو من شعر إلى نثر؟ ومع ذلك لو وزنتَ
(1/5802)

{ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] لوجدتَ لها وزناً شِعْرياً .
وقوله تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم } [ الحجر : 49 ] .
لو أردتها بيتاً شعرياً تقول ( نبىء عبادي إني أنا الغفور الرحيم ) . ومع ذلك تقرأها في سياقها ، فلا تشعر أنها شعر؛ لأن الأسلوب فريد من نوعه ، وهذه من عظمة القرآن الكريم ، كلام فَذٌّ لوحده غير كلام البشر .
أما قولهم " مجنون " فالمجنون لا يدري ما يفعل ، ولا يعقل تصرفاته ولا يسأل عنها ، ولا نستطيع أنْ نتهمه بشيء فنقول عنه مثلاً؛ كذاب أو قبيح؛ لأن آلة الاختيار عنده مُعطّلة ، وليس لديه انسجام في التصرفات ، فيمكن أن يضحك في وجهك ، ثم يضربك في نفس الوقت ، يمكن أن يعطيك شيئاً ثم يتفل في وجهك .
والمجنون ليس له خُلق ، والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 14 ] .
والخُلق هو المَلَكة المستقرة للخير ، فكيف يكون محمد مجنوناً ، وهو على خلق عظيم؟ ثم هل جرَّبْتُم عليه شيئاً مما يفعله المجانين .
أما قولهم : إن رسول الله افترى هذا القرآن ، كيف وأنتم لم تسمعوا منه قبل البعثة شِعْراً أو خطباً ولم يسبق أن قال شيئاً مثل هذا؟ كيف يفتري مثل هذا الأسلوب المعجز ، وليس عنده صنعة الكلام؟ وإن كان محمد قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون أنتم مثله وتعارضونه؟
{ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] .
وهكذا تقوم من نفس أقوالهم الأدلة على كذبهم وادعائهم على رسول الله .
ثم يقول تعالى { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] .
والتسبيح هو التنزيه لله تعالى ، وهو صفة لله قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ويُنزِّهه؛ لذلك يقول تعالى في استهلال سورة الإسراء : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] ؛ لأن العملية مخالفة لمنطق القوانين ، فقال : نزّه فعل الله عن أفعالك .
إذن : فسبحان معناها أن التنزيه ثابت لله ، ولو لم يوجد المنزَّه ، فلما خلق الله الكون سَبَّحتْ السموات والأرض وما فيهن لله .
فإذا كان التسبيح ثابتاً لله قبل أن يوجد المسبّح ، ثم سبح لله أول خلقه ، ولا يزالون يُسبِّحون ، فأنت أيضاً سبِّح باسم ربك الأعلى . أي : نزّهه سبحانه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً وأقوالاً عَمَّا تراه من المخلوقات .
ومعنى { بِحَمْدِ رَبِّكَ } [ طه : 130 ] لأن من لوازم الخلق أن يكون مختلفاً في الأهواء والأغراض والمصالح ، يتشاكلون ويتحاربون على عَرَضٍ زائل ، فمنهم الظالم والمظلوم ، والقوي والضعيف .
إذن : لا بُدَّ من وجود واحد لا توجد فيه صفة من هذه الصفات ، ليضع القانون والقسطاس المستقيم الذي يُنظِّم حياة الخَلْق ، فهذا التنزُّه عن مشابهة الأحداث كلها ، وعن هذه النقائض نعمة يجب أن نشكر الله ونحمده على وجودها فيه ، نحمده على أنه ليس كمثله شيء .
(1/5803)

فذلك يجعل الكون كله طائعاً ، إنما لو مثله شيء فلربما تأبَّى على الطاعة في " كُنْ فيكون " .
والتسبيح والتنزيه يعني المقياس الذي يضبط العالم ليس كمقياس العالم ، إنما أصلح وأقوى ، وهذا في صالح أنت ، فساعةَ أن تُسبِّح الله اذكر أن التسبيح نعمة ، فاحمد الله على أنه لا شيءَ مثلُه . سبِّح تسبيحاً مصحوباً بحمْدِ ربك؛ لأن تنزيهه إنما يعود بالخير على مَنْ خلق ، وهذه نعمة تستحق أن تحمدَ الله عليها .
ومثال ذلك ولله المثل الأعلى ربّ الأسرة ، هذا الرجل الكبير العاقل صاحب كلمة الحق والعدل بين أفرادها ، وصاحب المهابة بينهم تراهم جميعاً يحمدون الله على وجوده بينهم؛ لأنه يحفظ توازن الأسرة ، ويُنظِّم العلاقات بين أفرادها . ألم نَقُلْ في الأمثال ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) ؟
حتى وإن كان هذا الكبير متعالياً؛ لأن تعاليه لصالح أفراد أسرته ، حيث سليزم كل واحد منهم حدوده .
لذلك من أسماء الله تعالى : المتعال المتكبر ، وهذه الصفة وإنْ كانت ممقوتة بين البشر لأنها بلا رصيد ، فهي محبوبة لله تعالى؛ لأنها تجعل الجميع دونه سبحانه عبداً له ، فتَكبُّره سبحانه وتعاليه بحقٍّ : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
إذن : لا يحفظ التوازن في الكون إلا قوة مغايرة للخَلْق .
وقوله : { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى } [ طه : 130 ] .
أي : تسبيحاً دائماً مُتوالياً ، كما أن نعم الله عليك متوالية لا تنتهي ، فكلُّ حركة من حركاتك نعمة ، النوم نعمة ، والاستيقاظ نعمة ، الأكل نعمة ، والشرب نعمة ، البصر والسمع ، كل حركة من حركات الأحداث نعمة تستحق الحمد ، وكل نعمة من هذه ينطوي تحتها نِعَم .
خُذْ مثلاً حركة اليد التي تبطش بها ، وتأمّل كم هي مرِنة مِطْواعة لك كما شئت دون تفكير منك ، أصابعك تتجمع وتمسك الأشياء دون أن تشعر أنت بحركة العضلات وتوافقها ، وربما لا يلتفت الإنسان إلى قدرة الله في حركة يده ، إلا إذا أصابها شلل والعياذ بالله ، ساعتها يعرف أنها عملية صعبة ، ولا يقدر عليها إلا الخالق عز وجل .
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يعطينا زمن التسبيح ، فيعيشه في كل الوقت { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] .
وآناء : جمع إنْى ، وهو الجزء من الزمن ، وهذا الجزء يترقَّى حسْب تنبهك لتسبيح التحميد ، فمعنى التسبيح آناء الليل ، يعني أجزاء الليل كله ، فهل يعني هذا أن يظل الإنسانُ لا عملَ له إلا التسبيح؟
المناطقة يقولون عن الجزء من الوقت : مقول بالتشكيك ، فيمكن أن تُجزّىء الليل إلى ساعات ، فتُسبِّح كل ساعة ، أو تترقّى فتسبح كل دقيقة ، أو تترقّى فتُسبِّح كل ثانية ، وهكذا حسْب مقامات المسبّح الحامد وأحواله .
(1/5804)

فهناك من عباد الله مَنْ لا يفتر عن تسبيحه لحظة واحدة ، فتراه يُسبِّح الله في كل حركة من حركاته؛ لأنه يعلم أنه لا يؤديها بذاته بدليل أنها قد تُسْلَب منه في أي وقت .
إذن : فأجزاء الوقت تختلف باختلاف المقامات والأحوال ، أَلاَ تراهم في وحدة القياس يقيسون بالمتر ، ثم بالسنتيمتر ، ثم بالمللي متر ، وفي قياس الوقت توصّل اليابانيون إلى أجهزة تُحدِّد جزءاً من سبعة آلاف جزء من الثانية .
ثم يقول : { وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] ليستوعب الزمن كله ليله ونهاره ، والمقامات والأحوال كلها؛ لذلك يقول بعض العارفين في نصائحه التي تضمن سلامة حركة الحياة :
( اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك ) فهذا الذي يستحق المراقبة ، وعلى المرء أنْ يتنبه لهذه المسألة ، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه ، أو ينصرف ، أو ينام عنه .
{ واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ) فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ : الحمد لله أن أرواك ، فساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل : الحمد لله . وساعةَ أنْ تُخرجها عرقاً أو بولاً قل : الحمد لله ، وهكذا تكون موالاة حمد الله ، والمداومة على شُكْره .
( واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ) فطالما أنك لا تستغني عنه ، فهو الأَوْلَى بطاعتك .
( واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه ) وإلاَّ فأين يمكنك أن تذهب؟
لكن ، لماذا أطلق زمن التسبيح بالليل ، فقال { آنَآءِ الليل } [ طه : 130 ] وحدده في النهار فقال { وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] ؟
قالوا : لأن النهار عادة يكون محلاً للعمل والسَّعْي ، فربما شغلك التسبيح عن عملك ، وربنا يأمرك أن نضربَ في الأرض ونُسهِم في حركة الحياة ، والعمل يُعين على التسبيح ، ويُعين على الطاعة ، ويُعينك أنْ تلبي نداء : الله أكبر .
ألاَ تقرأ قول الله عز وجل في سورة الجمعة : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 910 ] .
ذلك لأن حركة الحياة هي التي تُعينك على أداء فَرْض ربك عليك ، فأنت مثلاً تحتاج في الصلاة إلى سٍَتْر العورة ، فانظر إلى هذا الثواب الذي تستر به عورتك : كم يَدٌ ساهمتْ فيه؟ وكم حركة من حركات الحياة تضافرتْ في إخراجه على هذه الصورة؟
أمّا في الليل فأنتم مستريح ، يمكنك التفرغ فيه لتسبيح الله في أيِّ وقت من أوقاته .
ويلفتنا قوله تعالى : { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] فأيّ طلوع؟ وأيّ غروب؟ وأيُّ ليل؟ وأيّ نهار؟ أهي لمصر أم للجزائر أم للهند أم لليابان؟ إنها ظواهر متعددة وممتدة بامتداد الزمان والمكان لا تنتهي ، فالشمس في كل أوقاتها طالعة غاربة ، ففي هذا إشارة إلى أن ذِكْر الله وتسبيح الله دائمٌ لا ينقطع .
(1/5805)

ثم يذكر سبحانه الغاية من التسبيح ، فيقول { لَعَلَّكَ ترضى } [ طه : 130 ] ونلحظ أن الحق سبحانه يحثُّ على العمل بالنفعية ، فلم يقُل : لعلِّي أرضى ، قال : لعلك أنت ترضى ، فكأن المسألة عائدة عليك ولمصلحتك .
والرضا : أنْ تصلَ فيما تحب إلى ما تؤمِّل ، والإنسان لا يرضى إلا إذا بلغ ما يريد ، وحقّق ما يرجو ، كما تقول لصاحبك : أأنت سعيد الآن؟ يقول : يعني : يقصد أنه لم يصل بعد إلى حَدِّ الرضا ، فإنْ تحقَّق له ما يريد يقول لك : سعيد والحمد لله .
فإنْ أحسنتَ إليه إحساناً يفوق ما يتوقعه منك يأخذك بالأحضان ويقول : ربنا يُديم عمرك ، جزاك الله خيراً .
إذن : رضا الإنسان له مراحل؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي كما روى النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يتجلى على خَلْقه في الجنة : يا عبادي هل رضيتم؟ فيقولون : وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين ، قال : أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : يا رب ، وهل يوجد أفضل من ذلك؟ قال : نعم ، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبداً " .
وهكذا يكون الرضى في أعلى مستوياته . الغاية من التسبيح إذن الذي كلّفك ربك به أنْ ترضى أنت ، وأن يعودَ عليك بالنفع ، وإلا فالحق سبحانه مُسبَّح قبل أن يخلق ، أنت مُسبّح قبل أن يخلق الكون كله ، ولا يزيد تسبيح في ملكه تعالى شيئاً . ويتم لك هذا الرضا حين تُرضِي الله فيرضيك .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا }
(1/5806)

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
بعد أن قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } [ طه : 130 ] حذره أن ينظر إلى هؤلاء الجبابرة والمعاندين على أنهم في نعمة تمتد عينه إليها . ومعنى مَدِّ العين ألاَّ تقتصر على مجرد النظر على قَدَر طاقتها ، إنما يُوجهها باستزادة ويوسعها لترى أكثر مما ينبغي ، ومَدُّ العين يأتي دائماً بعد شغل النفس بالنعمة وتطلّعها إليها ، فكأن الله يقول : لا تشغل نفسك بما هم فيه من نعيم؛ لأنه زهرة الدنيا التي سرعان ما تفنى .
وقوله : { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [ طه : 131 ] الأزواج لا يُراد بها هنا الرجل والمرأة ، إنما تعني الأصناف المقترنة ، كما في قوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [ فصلت : 25 ] .
كل واحد له شيطان يلازمه لا يفارقه . هذه هي الزوجية المرادة ، كذلك في قوله تعالى : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] .
والزَّهْرة إشارة إلى سرعة النهاية والحياة القصيرة ، وهي زَهْرة لحياة دنيا ، وأيّ وصف لها أقل من كَوْنها دنيا؟ وهذا الذي أعطيناهم من متاع الدنيا الزائل فأخذوا يزهُون به ، ما هو إلا فتنة واختبار { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ طه : 131 ] .
والاختبار يكون بالخير كما يكون بالشر ، يقول تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] .
ويقول تعالى : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ } [ الفجر : 15 ] .
ويشكر أنه عرفها لله { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 16 ] .
وهنا يُصحِّح لهم الحق سبحانه هذه الفكرة ، يقول : كلاكما كاذب في هذا القول ، فلا النعمةَ دليلُ الإكرام ، ولا سلبها دليلُ الإهانة : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 1719 ] .
فهَبْ أن الله أعطاك نعمة ولم تُؤَدِّ شكْرها وحقَّها ، فأيُّ إكرام فيها؟
ثم يقول تعالى : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى } [ طه : 131 ] أي : لا تشغل بالك بما أعطاهم الله؛ لأنه سبحانه سيعطيك أعظم من هذا ، ورِزْق ربك خير من هذا النعيم الزائل وأبْقى وأخلد؛ لأنه دائم لا ينقطع في دار البقاء التي لا تفوتها ولا تفوتك ، أما هؤلاء فنعيمهم موقوت ، إمّا أنْ يفوتهم بالفقر ، أو يفوتوه هم بالموت .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة }
(1/5807)

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
هنا يعطينا الحق تبارك وتعالى منهجاً لإصلاح المجتمع وضمان انسجامه ، منهج يبدأ بالوحدة الأولى وهو ربُّ الأسرة ، فعليه أنْ يُصلح نفسه أولاً ، ثم ينظر إلى الوحدة الثانية ، وهي الخلية المباشرة له وأقرب الناس إليه وهم أهله وأسرته ، فهو مركز الدائرة فإذا أصلح نفسه ، فعليه أنْ يُصلح الدوائر الأخرى المباشرة له .
فقوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } [ طه : 132 ] لتستقيم الوحدة الأولى في بناء الكون ، فإذا ما صلُحَتْ الوحدة الأولى في بناء الكون ، فأمَر كل واحد أهله بالصلاة ، واستقام الكون كله وصَلُح حال الجميع .
والمسألة هنا لا تقتصر على مجرد الأمر وتنتهي مسئوليته عند هذا الحدِّ إنما { واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] لأن في الصلاة مشقة تحتاج إلى صبر ، فالصلاة تحتاج إلى وقت تأخذه من حركة الحياة التي هي سبب الخير والنفْع لك ، فلا بُدَّ إذن من صبر عليها .
وفَرْق بين اصبر واصطبر : اصبر الفعل العادي ، إنما اصطبر فيها مبالغة أي : تكلَّف حتى الصبر وتعَمَّده .
ومن ذلك أن تحرص على أداء الصلاة أمام أولادك لترسخ في أذهانهم أهمية الصلاة ، فمثلاً تدخل البيت فتجد الطعام قد حضر فتقول لأولادك : انتظروني دقائق حتى أُصلي ، هنا يلتفت الأولاد إلى أن الصلاة أهمّ حتى من الأكل ، وتغرس في نفوسهم مهابةَ التكليف ، واحترامَ فريضة الصلاة ، والحرص على تقديمها على أيِّ عمل مهما كان .
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقوم من الليل يصلي ما شاء الله له أنْ يصلي حتى يؤذن للفجر ، فيُوقظ أهله للصلاة فإنْ أبَوْا رَشَّ في وجوههم الماء؛ لأن الصلاة خَيْر من النوم ، فالنوم في مثل هذا الوقت فيه راحة للبدن ، أمّا الصلاة فهي أفضل وأعظم ، ويكفي أنك تكون فيها في حضرة الله تعالى .
وهَبْ أن رب الأسرة غاب عنها لمدة شهر أو عام ، ثم فجأة قالوا : أبوكم جاء ، فترى الجميع يُهرولون إليه ، وهكذا لله المثل الأعلى ، إذا دعاك ، فلا تتخلّف عن دعوته ، بل هَرْول إليه ، وأسرع إلى تلبية ندائه ، ولك أنْ تتصوَّر واحداً يناديك وأنتَ لا تردّ عليه ولا تجيبه ، أعتقد أنه شيء غير مقبول ، ولا يرضاه صاحبك .
إذن : عليك أنْ تُعوِّد أولادك احترام هذا النداء ، وبمجرد أن يسمعوا " الله أكبر " يُلبُّون النداء ، ولا يُقدِّمون عليه شيئاً آخر ، فالله لا يبارك في عمل ألهاك عن نداء ( الله أكبر ) ؛ لأنك انشغلتَ بالنعمة عن المنعم عز وجل .
لذلك ، إنْ أردتَ أنْ تعرف خير عناصر المجتمع فانظر إلى أسبقيتهم إلى إجابة نداء ( الله أكبر ) ، فإنْ أردتَ أن تعرف مَنْ هو أعلى منه منزلةً ، فانظر إلى آخرهم خروجاً من المسجد ، وليس كذلك مَنْ يأتي الصلاة دُبُراً ، وبمجرد السلام يسرع إلى الانصراف .
(1/5808)

" ويُروى أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عابَ على أحد الصحابة إسراعه في الانصراف من المسجد بعد السلام ، فتعمَّد رسول الله أنْ يناديه في إحدى المرات ، قال : أزهداً فيناً "؟
وهل هناك مَنْ يزهد في رؤية رسول الله والجلوس معه؟ فقال الرجل : لا يا رسول الله ، ولكن لي زوجة بالبيت تنتظر ثوبي هذا لتصلي فيه ، فيدعو له رسول الله ، وينصرف الرجل إلى زوجته ، فإذا بها تقول له : تأخرت بقدْرِ كذا تسبيحة ، فقال : لقد استوقفني رسول الله وحدث كذا وكذا ، فقالت له : شكوتَ ربَّك لمحمد "
ثم يقول تعالى : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } [ طه : 132 ] إذن : ما الذي يشغلك عن حَضْرة ربك ، الرزق؟ { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } [ طه : 132 ] فالذي لا يستطيع العمل نُوجِّه إليه من الأغنياء مَنْ يطرق بابه ويعطيه ، فالغنيّ شَرْطٌ في إيمانه الفقيرُ ، وليس شرطاً في إيمان الفقير الغني .
وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ضرورة البحث عن الفقير ، والطَّرْق على بابه لإعطائه حقَّه في مال الغنيّ ، لا ينتظره حتى يسأل ، ويُريق ماء وجهه وهو يطلب حَقّاً من حقوقه في مجتمع الإيمان .
وقوله : { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } [ طه : 132 ] أي : لا نسألك رزقاً ثم نتركك ، إنما لا نسألك ثم نحن نرزقك ، فاطمئن إلى هذه المسألة .
{ والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] لأنك إذا تأزمتْ معك أمور الحياة تلجأ إلى الله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر قام إلى الصلاة ، وتأزُّم الأمور يأتي حينما نفقد نحن الأسباب المعطاة من الله ، فإذا فقدتَ الأسباب وضاقتْ بك الحِيَل لم يَبْقَ لك إلا أنْ تلجأ إلى المسبِّب سبحانه ، كما يقول في آية أخرى :
{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 23 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ }
(1/5809)

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
مرت بنا ( لولا ) في قوله تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ } [ يونس : 19 ] وتعني : امتناع التعذيب لوجود الكلمة ، أما ( لولا ) هنا فتعني : هلا ، للحثِّ والطلب { لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ طه : 133 ] كما في { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله } [ الكهف : 39 ] .
فكأن القرآن لا يعجبهم ، مع أنهم أمةُ بلاغة وبيانٍ ، وأمة فصاحة وكلام ، والقرآن يخجلهم لفصاحته وبلاغته ، فأيُّ آية تريدونها بعد هذا القرآن؟
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ طه : 133 ] كدليل صِدْق على بلاغه عن الله كالمعجزات الحسّية التي حدثتْ لمن قبله من الرسل ، كما قال تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 9093 ] .
إذن : فالآيات من الله لا دَخْلَ لي فيها ولا أختارها ، وها هو القرآن بين أيديكم يخبركم بما كان في الأمم السابقة { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
وقال تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى * إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } [ الأعلى : 1419 ] .
وقال تعالى { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ } [ النساء : 163 ] .
لذلك يقول تعالى بعدها : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى } [ طه : 133 ] .
فالقرآن جاء جامعاً ومُهيْمناً على الكتب السابقة ، وفيه ذِكْر لكل ما حدث فيها من معجزات حسية ، وهل شاهد هؤلاء معجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص؟ هل شاهدوا عصا موسى أو ناقة صالح؟
لقد عرفوا هذه المعجزات عندما حكاها لهم القرآن ، فصارت خبراً من الأخبار ، وليست مَرْأىً ، والمعجزة الحسِّية تقع مرة واحدة ، مَنْ رآها آمن بها ، ومَنْ يرهَا فهي بالنسبة له خبر ، ولولا أن القرآن حكاها ما صدَّقها أحد منهم .
لكن هؤلاء يريدون معجزة حِسِّية تصاحب رسالة محمد العامة للزمان وللمكان ، ولو كانت معجزَة محمد حِسِّية لكانت لمَنْ شاهدها فقط ، والحق سبحانه يريدها معجزة دائمة لأمتداد الزمان والمكان ، فَمنْ آمن بمحمد نقول له : هذه هي معجزته الدائمة الباقية إلى أنْ تقومَ الساعة .
لذلك ، كان القرآن معجزة لكل القرون ، ولو أفنى القرآن معجزته مرة واحدة للمعاصرين له فحسب لاستقبلتْه القرون الآتية بلا إعجاز ، لكن شاءتْ إرادة الله أن يكون إعجاز القرآن سراً مطموراً فيه ، وكل قرن يكتشف من أسراره على قدر التفاتهم إليه وتأملهم فيه ، وهكذا تظل الرسالة محروسة بالمعجزة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ }
(1/5810)

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
يقول تعالى : أنا قطعت عليهم الحجة؛ لأنني لو أهلكتُهم على فَتْرة من الرسل لقالوا : لماذا لم تُبقِنَا ِإلى أن يأتينا رسول ، فلو جاءنا رسول لآمنا به قبل أن نقع في الَذُّلِّ والخِزْي ، فمعنى : ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبل أن يأتي القرآن لقالوا : ربنا لولا أرسلتَ إلينا رسولاً لآمنّا به واهتدينا .
وهذه مجرد كلمة هو قائلها ، وكما قال عنهم الحق سبحانه : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] إنها مجرد كلمة تنقذهم من الإشكال .
وقولهم : { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] الذل : ما يعتري الحييِّ مما ينشأ عنه انكساره بعد أنْ كان متعالياً ، والذلّ يكون أولاً بالهزيمة ، وأذلّ من الهزيمة الأَسْر ، لأنه قد يُهزم ثم يفِرُّ ، وأذلُّ منهما القتل . إذن : الذل يكون في الدنيا أمام المشاهدين له والمعاصرين لانكساره بعد تعاليه .
أما الخزي : نخزى يعني : يُصيبنا الخزي ، وهو تخاذل النفس بعد ارتفاعها . ومن ذلك يقولون : أنت خزيت . يعني : كنت تنتظر شيئاً فوجدت خلافه .
ومنه قوله تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 194 ] فإنْ عُجِّل لهم الذلُّ في الدنيا ، فإن الخزي مُؤخَّر للآخرة حتى تكون فضيحتهم على رؤوس الأشهاد ، كما يقولون ( فضيحة بجلاجل ) حيث يشهد خِزْيَهم أهلُ الموقف جميعاً .
وكلمة " الخزي " هذه لها معنا موقف طريف أيام كنا صغاراً نحفظ القرآن على يد سيدنا فضيلة الشيخ حسن زغلول عليه رحمة الله وكان رجلاً مكفوفَ البصر ، وكنا ( نستلخمه ) فإذا وجدنا فرصة تفلّتنا منه وهربنا من تصحيح اللوح الذي نحفظه ، فالذي يحفظ بمفرده هكذا من المصحف يكون عرْضة للخطأ .
ومن ذلك ما حدث فعلاً من زميل لنا كان اسمه الشيخ محمد حسن عبد الباري ، وقد حضر مدير المدرسة فجأة ، وأراد أن يُسمِّع لنا ، وكان الشيخ عبد الباري لم يصحح لوحه الذي سيقرأ منه فقرأ : ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) فقرأها بالراء بدلاً من الزاي ، فضحك الشيخ طويلاً رحمه الله وقال : يا بني المعنى صحيح ، لكن الرواية ليست هكذا .
فكنا نأخذها على الشيخ عبد الباري ، فَمنْ أراد أنْ يغيظه قال : ( إنك من تدخل النار . . ) ويسكتْ!!
فشاء الله تعالى أن يتعرض كُلُّ منا لموقف مشابه يُؤْخَذ عليه ، وقد أُخِذ عليَّ مثلُ هذا حين قرأت دون أنْ أُصحِّح اللوح أول سورة الشورى : ( حم عسق ) وقد سبق لي أن عرفت ( حم ) لكن لم يمر بي ( عسق ) فقرأت : ( حم عَسَقَ ) بالوصل ، فصار الشيخ عبد الباري كلما قلت له : ( إنك من تدخل النار . . . . ) يقول : ( حم ) .
فقلنا سبحان ا لله :
مَنْ يَعِبْ يَوْماً بشَيْء ... لَمْ يمُتْ حتَّى يَرَاهُ
إذن : فقول هؤلاء : { رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] تمحُّك منهم : لو أرسلت لنا رسولاً لاتبعناه من قبل أنْ نذلّ في الدنيا هزيمةً ، أو أَسْراً ، أو قَتْلاً ، ونخزى في الآخرة بفضيحة علنية على رؤوس الأشهاد .
(1/5811)

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
التربُّص : التحفُّز لوقوع شيء بالغير ، تقول : فلان يتربص بي يعني : يلاحظني ويتابعني ، ينتظر مني هَفْوة أو خطأ ، فقوله : { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } [ طه : 135 ] فكُلٌّ مِنَّا يتربص بالآخر ، لأننا أعداء ، كل منا ينتظر من الآخر هفوة ويترقب ماذا يحدث له .
وقد أوضح سبحانه وتعالى توجيهات التربُّص منه ومنهم في آية أخرى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] .
ماذا تنتظرون إلا إحدى الحُسْنيين : إما أن نموت في قتالكم شهداء ، أو ننتصر عليكم ونُذِلكم ، فأيُّ تربُّص يحدث شرف لنا ، إما النصر أو الشهادة ، فكلاهما حُسنْى ، ونحن نتربّص بكم أنْ يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ، فكلاهما سوءة .
وما دام الأمر كذلك فتربَّصُوا بنا كما تحبون ، ونحن نتربص بكم كما نريد؛ لأن تربصنا بكم يفرحنا ، وتربصكم بنا يُؤلمكم ويُحزنكم .
ومعنى { قُلْ } [ طه : 135 ] هنا أن القول { كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ } [ طه : 135 ] ليست من عند محمد ، فليس في يده زمام الكون ولا يعلم الغيب ، فهو قَوْل الله الذي قال له ( قل ) يا محمد { كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } [ طه : 135 ] .
إذن : قيلتْ مِمَّن يملك أَزمّة الأمور وأعنّتها ، و لايخرج شيء عن مراده تعالى ، وربما لو قُلْت لكم من عندي تقولون : كلام بشر لا يملك من الأمور شيئاً . إذن : خذوها لا بمقياس كلام البشر ، إنما بمقياس مَنْ يملك زمام أقْضية البشر كلها .
ثم يقول تعالى : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي وَمَنِ اهتدى } [ طه : 135 ] متى سيحدث هذا؟ ساعةَ تقوم الساعة حيث الانصراف ، إما إلى جنة ، وإما إلى نار ، ساعتها ستعلمون مَنْ أصحاب الصراط السوي : نحن أمْ أنتم؟ لكنه سيكون عِلْماً لا ينفع ولا يُجدي ، فقد جاء بعد فوات الأوان ، جاء وقت الحساب لا وقت العمل وتلافي الأخطاء .
إنه عِلْم لا يترتب عليه عمل ينجيكم ، فقد انتهى وقت العمل ، وهكذا يكون عِلْماً يُزيد حسرتهم ، ويُؤذيهم ولا ينفعهم .
والصراط : الطريق المستقيم . والسَّويّ : المستقيم الذي لا عِوَجَ فيه ولا أَمْت .
وقال بعدها { وَمَنِ اهتدى } [ طه : 135 ] لأنه قد يوجد الصراط السويّ ، ولا يوجد مَنْ يسلكه ، فالمراد : الصراط السَّوي ومَن اهتدى إليه وسلَكه .
وقد يظن ظانٌّ أن مسألة التربُّص هذه قد تطول ، فيقطع الحق سبحانه هذا الظن بقوله في سورة الأنبياء الآتية بَعدْ : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] .
وهكذا تنسجم السُّورتان ، ويتصل المعنى بين الآيات .
(1/5812)

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
والاقتراب : إما أن يكون زمناً أو مكاناً ، فإذا كانت المسألة في مسافات قلنا : اقترب للناس حسابهم يعني مكانه . وإذا كانت للزمن قلنا : اقترب زمنه . فالاقتراب : دُنُو الحدث من ظرفية زماناً أو مكاناً .
والحق سبحانه حينما يُعبِّر بالماضي { اقترب } [ الأنبياء : 1 ] يدل على أن ذلك أمر لازم وسيحدث ولا بُدَّ ، والبشر حينما يتحدثون عن أمر مقبل يقولون : يقترب لا اقتربَ؛ لأن اقتربَ هكذا بالجزم والحكم بأنه حدثَ فعلاً لا يقولها إلا الله الذي يملك الأحداث ويقدر عليها ، أما الإنسان فلا يملك الأحداث ، ولا يستطيع الحكم على شيء لا يملكه بعد أن يتلفظ بهذا اللفظ .
ومثال ذلك في قوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } [ النحل : 1 ] فلا يُقال لك : لا تستعجل شيئاً إلا إذا كان لم يحدث بَعْد : فكيف - إذن - جمع بين الماضي { أتى . . . } [ النحل : 1 ] والمستقبل { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . } [ النحل : 1 ] .
قالوا : أنت ممنوع أن تحكم بمُضيٍّ على أمر مستقبل؛ لأنك لا تملك نفسك ، ولا تملك ظروف المستقبل ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } [ الكهف : 23-24 ] .
لا بُدَّ أن تُردف هذا القول بالمشيئة؛ لأن قولك " سأفعل ذلك غداً " قضيةٌ يدعوك للفعل والقدرة التي تُعينك أن تفعل .
وهذه كلها عناصر لا تملك أنت شيئاً منها ، وربما جاء غَدٌ فتغيَّر عنصر من هذه العناصر ، وحال بينك وبين ما تريد ، فينبغي أن تُبرِّيء نفسك من احتمال الكذب فتقول : إن شاء الله وتردُّ الأمر إلى القادر عليه الذي يملك كل هذه العناصر ، وكأن ربك يُعلِّمك ألا تكون كاذباًَ .
لذلك نجد أن اللغة قد راعتْ قدرة المتكلم ، ووضعتْ له الزمن المناسب ، فإنْ علمتَ حدوث العفل قُلْ بالماضي : حضر فلان ، انتهت القضية ، فإنْ علمتَ أنه توجه للحضور واستعدَّ له قُلْ : سيحضر فلان أي قريباً ، أو سوف يحضر أي : بعد ذلك .
هذا الذي يناسب قدرة البشر . أما الحق سبحانه فيملك زمام الأشياء وتوجيهها ، وكلّ شيء مرهون بأمره التكويني ، فإنْ قال للأمر المستقبل : أتى أو اقترب فصدِّق؛ لأنه لا شيء يُخرج الأمر عن مراده تعالى ، وهو وحده الذي يملك الانفعال لكلمة كُنْ ، فإنْ قالها فَقد انتهتْ المسألة .
لذلك يقول سبحانه : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 1 ] بصيغة الماضي ولم يقل : يقترب أو سيقترب؛ لأن المتكلم هو الله .
وقد ورد الماضي ( قترب ) أيضاً في قوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] .
وفي قوله تعالى { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] فاقترب غير قَرُب ، قرُب : يعني دنا ، أما اقترب أي : دنا جداً حتى صار قريباً منك .
والحساب : كلمة تُطلَق إطلاقات عِدّة ، فالحساب أنْ تحسب الشيء بالأعداد جمعاً ، أو طرحاً ، أو ضَرْباً ، وتدير حصيلة لك أو عليك ، فإنْ كانت لك فأنت دائن ، وإنْ كانت عليك فأنت مدين .
(1/5813)

أو تربط المسبِّبات بأسبابها .
وهناك أمور تأتي بغير حساب ، كما قال تعالى : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] فهذه مسألة لا تستطيع ضبطها ، والله لا يُسأل : أعطاني زيادة أم نقصاناً .
أما الحساب في { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 1 ] فيقتضي مُحَاسباً هو الله عز وجل ، ومُحاسَباً هم الناس ، ومُحَاسَباً عليه وهي الأعمال والأحداث التي أحدثوها في دنياهم ، وهذه قسمان : قسم قبل أنْ يُكلَّفوا ، وقسم بعد أن كُلِّفوا .
ما كان قبل التكليف وسِنِّ البلوغ لا يحاسبنا الله عليه ، إنما تركنا نمرح ونرتع في نعمه سبحانه دون أن نسأل عن شيء ، أما بعد البلوغ فقد كلَّفنا بأشياء تعود علينا بالخير ، وألزمنا المنهج الذي يضمن سعادتنا " بافعل " و " لا تفعل " وهذا يقتضي أن نحاسب ، فعلنا ، أم لم نفعل .
إذن : المسألة حساب ، ليست جُزَافاً ، جماعة في الجنة وجماعة في النار ، وقوله سبحانه في الحديث القدسي : " هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي " بِناءً على علمه تعالى بما يُؤدُّونه وقت الحساب ، ففي علم الله ما فعلوا وما تركوا .
ولا تنْسَ أن المحاسب في هذا الموقف هو الله ، فإنْ كان الحساب في الخير عاملك بالفضل والزيادة كما يشاء سبحانه؛ لذلك يضاعف الحسنات ، وإنْ كان الحساب في الشر كان على قَدْره دون زيادة ، كما قال تعالى : { جَزَآءً وِفَاقاً } [ النبأ : 26 ] .
وما دام المحاسب هو الله سبحانه وتعالى ، وهو لا ينتفع بما يقضيه على الخَلْق ، فمن رحمته بِنَا ونعمته علينا أنْ حذَّرنا من أسباب الهلاك ، ولم يأخذنا على غَفْلة ، ولم يفاجئنا بالحساب على غِرّة ، إنما أبان لنا التكاليف ، وأوضح الحلال والحرام ، وأخبرنا بيوم الحساب لسنتعدَّ له ، فلا نسير في الحياة على هوانا .
فقال سبحانه : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] .
فمن رحمته تعالى بعابده أنْ وعدهم هذا الوعد ، وعرفهم هذا الميزان وهم في سَعَة الدنيا ، وإمكان تدارك الأخطاء ، واستئناف التوبة والعمل الصالح ، من رحمته بنا أنْ يعِظَنا هذه الموعظة ويكررها على أسماعنا ليلَ نهارَ .
إذن : ما أخذنا ربنا على غِرَّة ، ولم تُفاجئْنا القيامة بأهوالها ، فمن الآن اعلم { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 1 ] وما دام الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يُقَدِّر قَدْر الاقتراب ، ومتى سينتقل إلى يوم الحساب ، ولا تظن أن عُمرك هو عمر الدنيا منذ خلقها الله ، إنما عمرك ودنياك على قَدْر مُكْثك فيها ، وهو مُكْث مظنون غير مُتيقَّن ، فمن الخَلْق من عمَّر دهراً ، ومنهم مَنْ مات في بطن أمه . إذن : لا تُؤجِّل لأنك لا تدري ، أيمهلك الأجل حتى تتوب؟ أم يُعاجلك فتُؤخذ بذنبك؟
والحق سبحانه يقول : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 1 ] مع أن الساعة مازالت بعيدة ، وبيننا وبين القيامة مَا لا يعلمه إلا الله .
(1/5814)

فكيف ذلك؟
قالوا : لأن الحساب إنما يكون على الأعمال ، والأعمال لها وقت هو الدنيا ، فَمنْ مات فقد انقطع عمله ، واقترب وقت حسابه؛ لأن المدة التي يقضيها في القبر لا يشعر بها ، فكأنها ساعة من نهار .
فإنْ قُلْت : من الناس مَنْ يعيش مائة عام ، ومائة وخمسين عاماً . نقول : هذا شيء ظنيّ لا نضمنه ، والإنسان عُرضة للموت في أيِّ لحظة لسبب أو دون سبب .
ونلحظ في قوله تعالى : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 1 ] فقال ( للنَّاسِ ) مع أن الحساب لهم وعليهم ، فهل معنى ( للناس ) أي : لمصلحتهم؟ لا يبدو ذلك؛ لأنه قال بعدها : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] .
إذن : الحساب ليس في مصلحتهم إنما الحساب عليهم ، إذن : كيف يكون ف مثل هذا السياق { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 1 ] ما دام الأمر على الكفار؟ كان المفروض أن يقول : اقترب على الناس حسابهم .
نقول : هذا إذا أخذتَ اللام للحساب ، إنما اللام هنا للاقتراب ، لا للحساب ، أي : اقترب من الناس ، إنما الحساب لهم أو عليهم ، هذه مسألة أخرى .
وقوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] الغفلة معناها : زحزحة الشيء عن بال الواجب أَلاَّ يزحزح عنه ، فكان الواجب أنْ يتذكره ولا يغفل عنه ، والغفلة غير النسيان؛ لأن الغفلة أن تهمل مسألة كان يجب ألاَّ تهمل ، وألاَّ تغيب عن بالك ، أما النسيان فخارج عن إرادتك .
وغفلتهم هنا عن أصل وقمة الدين ، وهو الإيمان بالألوهية ، فإن آمنتَ بالألوهية فالغفلة عن الأحكام التي جاء بها الدين ، وهذه هي المعاصي ، والكلام هنا عن الكافرين بدليل قوله بعدها : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ . . . } [ الأنبياء : 2 ] والغفلة عن الربِّ الأعلى مثلها الغفلةَ عن حكم الرب الأعلى ، وفَرْق ين غَفْلة وغَفْلة .
وقد حدَّثَ النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن هذه الغفلة ، كما روى سيدنا حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر . حدثنا ( أن الأمانة نزلت في جِذَرْ قلوب الرجال ) والأمانة هي الإيمان الحق بالله ، أي : حَلَّ الإيمان ، واستقر في القلب ، ونطقنا بالشهادة ( ثم نزل القرآن ، فعلموا من القرآن ، وعلموا من السُّنة ) ثم حدَّثنا عن رَفْع الأمانة فقال : ( ينام الرجل النومة ، فتُقبض الأمانة من قلبه ) أي : يغفل ( فيظل أثرها مثل أثر الوكت ) الوكت : مثل سيجارة مثلاً تقع على الجلد فلسعته ، فيتغير لونه ( ثم ينام النومة ) أي : مرة أخرى ( فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر المجل ) والمجل : جمرة النار ( فنفط فتراه منتبراً عالياً ، وليس به شيء ) أي : انتفخ ( فيصبح الناس ) أي : بعد رفع الأمانة ( يتابعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً ) لندرة الأمانة بين الناس .
(1/5815)

ثم يقول الراوي : ( وقد مر عليَّ زمان ما كنت أبالي أيكُم بايعت ، فلئن كان مسلماً ليردنَّه عليَّ دينه ) يعني : إنْ غشَّني في شيء أو حدث خطأ ما في البيع ( ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردنَّه عليَّ ساعيه ) أي : الناس المكلفون بمراقبة الأسواق ، وهم أهل الحِسْبة ، فإنْ رأَوْا عِشّاً منعوه ، وردوا إلى صاحب الحق حقه ( وأما الآن فأنا لا أكاد أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً ) فإنْ كان هذا في أيامهم فما بال أيامنا؟
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " أي : رَغْم كثرتها لا تجد فيها جملاً يحمل رَحْلك ويحملك .
وفي رواية أخرى : " تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عوداً " أي : كنسج الحصير ، عُوداً بعد عود ، حتى تتم الحصيرة ، ثم يكون الرَّان على القلب .
فغفْلة هؤلاء غَفْلة عن القمة ، وعن الألوهية ، لا عن التكاليف؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالمكلّف سبحانه .
وقوله تعالى : { مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] تدل على الافتعال أي : أنهم مفتعلون هذا الإعراض؟
ثم يقول الحق سبحانه : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ . . . . } .
(1/5816)

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
أي : ذكر من القرآن { مُّحْدَثٍ } [ الأنبياء : 2 ] يعني : يسمعونه جديداً لأول مرة { إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنبياء : 2 ] لا يعطونه اهتماماً ، ولا يُلْقون له بالاً ، وهم يتعمدون هذا ، ويُوصِي بعضهم بعضاً به ويُحرّضون عليه ، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى حكاية عنهم : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] .
إنهم يخافون إنْ سمعوا القرآن أنْ يتأثروا به فيؤمنوا؛ لذلك لا تسمعوه ، بل شَوِّشوا عليه حتى لا يسمعه أحد في هدوء واطمئنان فيؤمن به . وهذا يعني أن هذا العمل في مصلحتهم؛ لأنهم لا يستطيعون رَدَّ حُجَج القرآن ولا الثبات أمام إعجازيته ولا بلاغته ولا تأثيره على النفوس ، فهُمْ لا يملكون إلاَّ أنْ يصرفوا الناس عن سماعه ، والتشويش عليه ، حتى لا يتمكّن من الأسماع ، وينفذ إلى القلوب ، فيخالطها الإيمان .
واللعب : أن تشغل نفسك بعمل لا قَصْدَ فيه لغاية ، كما يأخذ الطفل الصغير كراسة أخيه ، ويعبث فيها بالقلم دون نظام ودون هدف .
وهناك أيضاً اللهو : وهو عمل مقصود لغاية ، لكن هذه الغاية تضعها أنت لنفسك ، أو يضعها غيرك ممَّنْ يريد أنْ يُفسِدك بها ، إذن : هو عمل مقصود وله غاية ، ليس مجرد ( شخبطة ) كمَنْ ينشغل مثلاً برسم بعض الصور للتسلية ، أو ينشغل بحلِّ الكلمات المتقاطعة ، فهي أعمال لا فائدة منها .
أما العمل النافع الذي ينبغي أن ينشغل الإنسان به فهو الذي يضعه لك مَنْ هو أعلى منك ، وأنْ يكون حكيماً مُحباً لك ، وهذه المواصفات لا تجدها إلا في الإله ، لذلك كل ما يُلهِيك عَمَّا يضعه لك إلهك فهو لَهْو؛ لأنه شَغَلك عما هو أهَمّ .
لذلك يقول تعالى : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ . . . } [ محمد : 36 ] .
فاللعب في مرحلة الطفولة ، بل نأتي نحن باللُّعب ونقول للطفل : العب ، إنما اللهو أن تنشغلَ بعمل مقصود وله غاية لكنها تلهيك عن غاية أسمى هي التي وضعها لك الحكيم القادر الأعلى منك المحبّ لك .
إذن : منتهي اللهو واللعب أن يلعبوا عند سماع القرآن ، فلم يستمعوا له ، حتى على أنه لهو له غاية ، إنما على أنه لَعِبٌ لا غاية له ولا فائدةَ منه؛ لأن غايته ضارّة .
واللعب وإنْ كان مُباحاً في فترة ما قبل البلوغ ، إنما القلوب يجب أن تُربَّى على أنْ تلتفت إلى الله عز وجل الخالق الرازق في هذه الفترة المبكرة من حياة الإنسان ، وهذه مهمة الأب ، فإنْ أتى لولده بطعام أو شراب يقول أمام الولد الصغير : ربنا رزقنا به . وهكذا في كل أمور الحياة يسند الأمر إلى الله وينبه الولد الصغير : قل : بسم الله قل : الحمد لله .
وهكذا تُربِّى في الولد مواجيده على اليقين بالله القوي ، وإنْ كان الولد لا يراه فإنه يرى آثاره ونِعَمه .
(1/5817)

ويرى أباه الذي يتعهده ، ويأتي له بكل شيء لا يتصيّد المجد لنٌفسه ، إنما ينسب كل شيء إلى الله .
فأبوه - وهو المثل الأعلى له - يزحزح هذه المسائل عنه وينسبها لله ، فيتربى وجدانُ الولد على الإيمان . فإذا لم يُرَبَّ الولد هذه التربية تسلل إلى نفسه اللَّهْو واللَّعِب .
وسبق أن قلنا : إن كُلَّ فعل من الأفعال لا بُدَّ أنْ ينشأ عن مَوْجدة من المواجيد ، ولا ينشأ الفعل دون مَوجدة إلا فعل المجنون ، والقلوب هي التي تُوجِّه الجوارح ، ولو لم تكُنْ القلوب لاهية ما لعبت الجوارح .
لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - حينما دخل على رجل يعبث بذقنه هو يصلي - كما يفعل الكثيرون - قال : لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحه . فحركة الجوارح دليل على انشغال القلب؟ لذلك يقول تعالى بعدها : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى . . . } .
(1/5818)

لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
ويا ليت كلاً منهم يفعل هذا الفعل في نفسه ، إنما يتآمرون جميعاً على الحق ليفسدوه باللعب واللهو { وَأَسَرُّواْ النجوى . . . } [ الأنبياء : 3 ] أي : يتناجَوْن في الإثم ، ويُسِرُّونه يعني : يجعلونه سِراً . والنَّجْوى أو التناجي : خَفْضِ الصوت ، كما جاء في قوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ . . . } [ المجادلة : 7 ] .
فلا تظنوا أنكم مستورون عن الله ، أو تُخْفون عنه شيئاً . وتلاحظ في ارتقاءات العدد في هذه الآية أنها لم تذكر اثنين ، فبدأت من العدد ثلاثة؛ لأنه عادةً لا تكون النجوى بين الاثنين ، إنما تكون بين الثلاثة ، حيث يتناجى اثنان حتى لا يسمع الثالث .
كما أنها لم تذكر الأعداد بالترتيب ، فلم تَقُلْ مثلاً : ولا أربعة إلا هو خامسهم؛ ذلك لأن الآية لا تقصد الترتيب العددي ، إنما تعطيك مجرد أمثلة ونماذج من الأعداد .
وكذلك في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول . . . } [ المجادلة : 8 ] .
وما داموا يُخْفون كلاماً ويُسِرُّونه ، فلا بُدَّ أنه مخالف للفطرة السليمة ، ولو كان حقّاً لَقالُوه علانية ، فالنجْوى دليلُ اتهامهم في العقل ، وفي القلب ، وفي كل شيء .
أما قوله تعالى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً . . . } [ المجادلة : 12 ] .
وهل كان الصحابة يُحدِّثون الرسول سرَّاً؟ لا بل هنا إشارة أخرى أوضحها قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً . . . } [ النور : 63 ] .
فالمراد ألاّ نرفع أصواتنا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم كما يحدث مِنّا حين يُكلِّم بعضنا بعضاً ، بل نُكلِّمه كلام المهيب ، ونلتزم معه الأدب والخشوع .
وقوله تعالى : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ . . } [ الأنبياء : 3 ] هل ( الذين ) هنا هي الفاعل لأسرُّوا؟ القاعدة النحوية : إذا تقدم أكلوا على الفاعل لقال : وأَسَرَّ الذين ظلموا ، إنما جاء الفاعل ( واو الجماعة ) ثم الاسم الموصول ( الذين ) بعدها فليست هي الفاعل ، وليست هذه من لغات العرب الصحيحة .
فكأن سائلاً سأل : ومَن الذي أسَرَّ؟ فأجاب : ( الّذِينَ ظَلَمُوا ) وكلمة ( ظَلَمُوا ) عامة في الظلم ، فقد ظلموا أنفسهم أولاً؛ لأن ظلمهم عائد عليهم بالعذاب ، وظُلْم نفسه ناشيء من أنه ظلم الحق الأعلى { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
ثم ظلم الناس في أمور أخرى وفي حقوق لهم ، لكن جاءتْ ( ظلموا ) عامة؛ لأن الظلم الواحد سيشمل كل أنواع الظلم ، وما دام قد وصل به الأمر إلى أنْ ظَلَم الله فلا غرابةَ أنْ يظلم ما دونه تعالى .
فما النجوى التي أسرَّهَا القوم؟ ومَنْ أخبر رسول الله بها؟
النجوى قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] .
فكيف عرف محمد هذه المقولة ، وقد قالوها في أنفسهم وأسرُّوها؟ ألم يكُن على هؤلاء أن يتنبَّهوا : كيف عرف محمد مقولتهم؟ وأن الذي أخبره بما يدور هو ربُّه الإله الأعلى ، الذي لا تَخْفى عليه خافية ، كان عليهم أن يلتفتوا إلى رب محمد ، الله الإله الحق الذي يعلم خَبْءَ كل شيء فيرتدعوا عَمَّا هم فيه ، وبدل أنْ يشغلوا عقولهم بمسائل الشرك ينتهوا بها إلى الإيمان .
(1/5819)

ومما جاء في تناجيهم { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . } [ الأنبياء : 3 ] إذن : أنكروا أن يكون رسولاً لأنه بشر ، والرسول لا بُدَّ أن يكون ملكاً { أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [ الأنبياء : 3 ] فسمُّوا القرآن سحْراً ، لأنهم يروْنَ السحر يُفرِّق بين الابن وأبيه ، والأخ وأخيه { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [ الأنبياء : 3 ] أن القرآن يفعل مثل هذا .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء . . . } .
(1/5820)

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
كأن سائلاً قال : من أين لك يا محمد بكل هذا وقد أسرّه القوم؟ { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض . . . } [ الأنبياء : 4 ] فلا تَخْفى عليه خافية { وَهُوَ السميع العليم } [ الأنبياء : 4 ] السميع لما يُقال ويُسر العليم بما يُفعل ، فالأحداث أقوال وأفعال .
ومما قالوه أيضاً : { بَلْ قالوا أَضْغَاثُ . . . } .
(1/5821)

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
( بَلْ ) تعني أنهم تمادَوْا ، ولم يكتفو بما قالوا ، بل قالوا أيضاً { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } [ الأنبياء : 5 ] وأضغاث : جمع ضِغْث ، وهو الحزمة من الحشيش مختلفة الأشكال ، كما جاء في قصة أيوب عليه السلام : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ . . . } [ ص : 44 ] أي حزمة من أعواد الحشيش .
ووردْت أيضاً في رُؤْيا عزيز مصر : { قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] .
وقوله { بَلِ افتراه . . . } [ الأنبياء : 5 ] أي تمادَوْا فقالوا : تعمد كذبه واختلافه { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ . . . } [ الأنبياء : 5 ] إذن : أقوالهم واتهاماتهم لرسول الله متضاربة في ماهية ما هو؟ وهذا دليل تخبطهم ، فمرة ينكورن أنه من البشر ، ومرة يقولون : ساحر ، ومرة يقولون : مفتر ، والآن يقولون : شاعر!!
وقد سبق أنْ فنَّدنا كل هذه الاتهامات وقلنا : إنها تحمل في طياتها دليل كذبهم وافترائهم على رسول الله .
ثم يقولون : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } [ الأنبياء : 5 ] كأن آية القرآن ما أقنعتْهم ، فلم يكتفُوا بها ، ويطلبون آية أخرى مثل التي جاء بها السابقون ، والقرآن يردّ عليهم في هذه المسألة : لو أنهم سيؤمنون إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لأنزلناهم عليهم ، إنما السوابق تؤكد أنهم لنْ تؤمنوا مهما جاءتهم من الآيات ، وهذا من أسباب العذاب .
وقد أوضح الحق سبحانه أنه لن يُعذَّبهم ما دام فيهم رسول الله؛ لذلك لم يُجِبْهم إلى ما طلبوا من الآيات؛ لأن الله تعالى لا يُخلف وعْدَه ، فإنْ جاءتهم الآية فلم يؤمنوا بها لا بُدَّ أنْ يُنزِل بهم العذاب؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ . . . } .
(1/5822)

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
إذن : هذه التجربة مَرَّت مع غيرهم من الأمم السابقة ، وهم كأمثالهم من السابقين لو أنزلنا عليهم الآية ما آمنوا ، كما لم يؤمن سابقوهم { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً . . . } .
(1/5823)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
الحق - تبارك وتعالى - يردُّ على اعتراضهم على بشرية الرسول وطلبهم أن يكون الرسول ملكاً ، كما قالوا في موضع آخر : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا . . . } [ التغابن : 6 ] .
يعني : هم مثلنا ، وليسوا أفضل منَّا ، فكيف يهدوننا؟! وهل الرسول يهديكم ببشريته؟ أم بشيء جاءه من أعلى؟ هل منهجه من عنده؟
الرسول ليس مُصلِحاً اجتماعياً ، إنما هو مُبلِّغ عن الله ربي وربكم . وقد سبقت السوابق فيمَنْ قبلكم أن يكون الرسول بشراً { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ . . . } [ الأنبياء : 7 ] ولو أرسلنا إليهم مِلَكَاً لجاءكم الرسول مَلَكاً . { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] وهم اليهود والنصارى ، ماذا أرسلنا إليهم أرجالاً أم ملائكة؟
ذلك لأن المفروض في النبي أن يكون قدوة لقومه وأُسْوة ، مُبلِّغَ منهج ، وأُسْوةَ سلوك ، منهج يحققه عن الله ، ثم يُطبِّقه على نفسه ، فهو لا يحمل الناس على أمر هو عنه بنَجْوة ، إنما هو أُسْوتهم وقُدْوتهم ، وشرط أساسي في القدوة أنْ يتحد فيها الجنس : المتأسِّي مع المتأسِّي به .
فلو رأيت مثلاً في الغابة أسداً يصول ويجول ويفترس ، هل تفكر في يوم ما أن تكون أسداً؟ هل تأخذ الأسد لك أُسْوة؟! لا ، لأنه يُشترط في أُسْوتك أن يكون من جنسك ، فإذا رأيتَ فارساً على جواده يصول ويجول ويضرب في الأعداد يميناً وشمالاً ، لا شكَّ أنك تود أن تكون مثله .
كذلك إذا جاء النبي مَلَكاً ، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يُؤْمرون ، إنما نحن بشر ، ولو جاءنا الرسول ملكاً لجاءنا في صورة بشرية .
يقول تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
ويردُّ الحق سبحانه عليهم : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . وهكذا تظل الشبهة موجودة .
إذن : لا يمكن أن يكون الرسول للبشر إلا من البشر . ونعم ، محمد بشر لكن بشر يُوحَى إليه ، كما جاء في الحديث الشريف : " يرد عليَّ - يعني من الحق الأعلى - فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويُؤخَذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " .
وقوله : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] أي : إنْ كنتم في شكٍّ من هذه المقولة فاسألوا أهل الذكر من السابقين : اليهود والنصارى أهل الكتاب .
وقال : { إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] لأنها مسألة عِلْمُها مشكوك فيه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً . . . } .
(1/5824)

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{ جَعَلْنَاهُمْ . . } [ الأنبياء : 8 ] أي : الرسل { جَسَداً . . . } [ الأنبياء : 8 ] يعني : شيئاً مصبوباً جامداً لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ، إنما هم بشر يأكلون ويشربون كأيّ بشر ، ويمشون في الأسواق ، ويعيشون حياة البشر العادية { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] فليس الخلود من صفة البشر وقد تابعوا الرسل ، وعَلِموا عنهم هذه الحقيقة ، وقال تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد . . . } .
(1/5825)

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
وهذه سُنة من سُنَن الله في الرسل أنْ يَصْدقهم وعده ، وهل رأيتم رسولاً عانده قومه وحاربوه واضطهدوه ، وكانت النهاية أن انتصروا عليه؟
ألم يقل الحق تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] .
وكان صِدْق الوعد أن أنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين والمسرفون هم الذين تجاوزوا الحدَّ المعروف . فنهاية الرسل جميعاً النُّصْرة من الله ، والوفاء لهم بما وعدهم . { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً . . . } .
(1/5826)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
الحق سبحانه يخاطب المكذِّبين للنبي : ما أنزلتُ إليكم آية بعيدة عن معرفتكم ، إنما أرسلتُ إليكم رسولاً بآية من جنس ما نبغتُم فيه ، ولما نزل فهمتموه وعرفتم مراميه ، بدليل أن في القرآن ألفاظاً تُستقبل بالغرابة ولم تعترضوا أنتم عليها ، ولم تُكذِّبوا محمداً فيها مع أنكم تتلمسون له خطأ ، وتبحثون له عن زلة .
فمثلاً لما نزلتْ ( الم ) ما سمعنا أحداً منهم قال : أيها المؤمنون بمحمد ، إن محمداً يدَّعي أنه أتى بكتاب مُعْجز فاسألوه : ما معنى ( ألم ) ؟ مما يدل على أنهم فهموها وقبلوها ، ولم يجدوا فيها مَغْمزاً في رسول الله؛ لأن العرب في لغتهم وأسلوبهم في الكلام يستخدمون هذه الحروف للتنبيه .
فالكلام سفارة بين المتكلَّم والسامع ، المتكلِّم لا يُفَاجأ بكلامه إنما يعدّه ويُحضره قبل أن ينطق به ، أمّا السامع فقد يُفَاجأ بكلام المتكلم ، وقد يكون غافلاً يحتاج إلى مَنْ يُوقِظه ويُنبِّهه حتى لا يفوته شيء .
وهكذا وُضِعَتْ في اللغة أدوات للتنبيه ، إنْ أردتَ الكلام في شيء مهم تخشى أنْ يفوتَ منه شيء تُنبِّه السامع ، ومن ذلك قول عمرو ابن كلثوم :
أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبِحينَا ... وقول آخر :
أَلاَ أنعِمْ صَبَاحاً أُيُّها الطَّلَلُ البَالي ... وَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كَانَ في العَصْر الخالي
إذن : ( ألا ) هنا أداة للتنبيه فقط يعني : اسمعوا وانتبهوا لما أقول .
وكذلك أسلوب القرآن : { ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ . . . } [ هود : 5 ] .
إذن : عندما نزل القرآن عليهم فهموا هذه الحروف ، وربما فهموا منها أكثر من هذا ، ولم يردُّوا على رسول الله شيئاً من هذه المسائل مع حرصهم الشديد على نقده والأخذ عليه .
وقوله تعالى : { فِيهِ ذِكْرُكُمْ . . } [ الأنبياء : 10 ] الذكر : سبق أنْ أوضحنا أن الذكر يُطلق بمعنى : القرآن ، أو بمعنى : الكتب المنزّلة ، أو بمعنى : الصِّيت والشرف . أو بمعنى : التذكير أو التسبيح والتحميد .
والذكر هنا قد يُرَاد به تذكيرهم بالله خالقاً ، وبمنهجه الحق دستوراً ، ولو أنكم تنبهتم لما جاء به القرآن لعرفتُم أن الفطرة تهدي إليه وتتفق معه ، ولعرفتم أن القرآن لم يتعصّب ضدكم ، بدليل أنه أقرَّ بعض الأمور التي اهتديتم إليها بالفطرة السليمة ووافقكم عليها .
ومن ذلك مثلاً الدِّيَة في القتل هي نفس الدية التي حدَّدها القرآن ، مسائل الخطبة والزواج والمهر كانت أموراص موجودة أقرها القرآن ، كثيرون منهم كانوا يُحرِّمون الخمر ولا يشربونها ، هكذا بالفطرة ، وكثيرون كانوا لا يسجدون للأصنام ، إذن : الفطرة السليمة قد تهتدي إلى الحق ، ولا تتعارض ومنهجَ الله .
أو : يكون معنى { ذِكْرُكُمْ . . . } [ الأنبياء : 10 ] شرفكم وصيْتكم ومكانتكم ونباهة شأنكم بين الأمم؛ لأن القرآن الذي نزل للدنيا كلها نزل بلغتكم ، فكأن الله تعالى يثني عقول الناس جميعاً ، ويثني قلوبهم للغتكم ، ويحثّهم على تعلّمها ومعرفتها والحديث بها ونشرها في الناس ، فمَنْ لم يستطع ذلك ترجمها ، وأيُّ شرف بعد هذا؟!
وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنبياء : 10 ] أفلا تُعملِون عقولكم وتتأملون أن خيركم في هذا القرآن ، فإنْ كنتم تريدون خُلقاً وديناً ففي القرآن ، وإنْ كنتم تريدون شرفاً وسُمعة وصيتاً ففي القرآن ، وأيُّ شرف بعد أن يقول الناس : النبي عربي ، والقرآن عربي؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } .
(1/5827)

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
قصمنا : القَصْم هو الكَسْر الذي لا جَبْرَ فيه ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يضع أمام أعينهم القُرَى المكذِّبة الظالمة ، ليأخذوا منها عِبْرة وعِظَة ، فليس بِدَعاً أنْ نقصم ظهور المكذِّبين ، بل لها سوابق كثيرة في التاريخ .
لذلك قال : { وَكَمْ قَصَمْنَا . . . } [ الأنبياء : 11 ] وكم هنا خبرية تفيد الكثرة التي لا تُعَدُّ ، فأحذروا إنْ لويتُم أعناقكم أَنْ يُنزِل بكم ما نزل بهم .
وقوله : { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الأنبياء : 11 ] أي : خَلف بعدهم خَلْف آخرون . { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ . . . } .
(1/5828)

فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
أي : حين أحسُّوا العذاب { إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } [ الأنبياء : 12 ] حتى لا يلحقهم العذاب . والركْضُ : الجَرْى السريع بهَرْولة ، والأصل فيه : رَكْضُ الدابة . يعني : ضَرْبها برِجلْه كي تُسرع . ومنها : { اركض بِرِجْلِكَ . . . } [ ص : 42 ] يعني : اضرب الأرض برِجلْك لِتُخرج الماء { هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] .
وفي هذه الآية مَلْمحٌ من ملامح الإعجاز القرآني ، فقد أصاب أيوبَ عليه السلام مرضٌ في جلده ، وأراد له ربُّه - عز وجل - الشفاء . فقال له : اضرب الأرض برِجْلك تُخرج لك ماءً بارداً ، منه مُغْتَسل ومنه شراب ، فالماء هنا دواء يعالج أمرين : يعالج الظاهر والباطن .
وآفةُ المعالجين أنهم إذا رأوا مثلاً البثور والدمامل في الجلد يعالجونها بالمراهم التي يندمِلُ معها الجُرْح ، لكنها لا تعالج أسباب الظاهرة من الداخل ، أما العلاج الإلهي فمغتسلٌ لعلاج الظاهرة ، وشرابٌ لعلاج أسباب الظاهرة في الجوف .
ثم يقول الحق سبحانه : { لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا . . . } .
(1/5829)

لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
الحق - سبحانه وتعالى - في قصة هؤلاء المكذِّبين قدَّم الغاية من العذاب ، فقال : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ . . . } [ الأنبياء : 11 ] ثم فصَّل القَصمْ بأنهم لما أحسًّوا العذاب تركوا قريتهم ، وأسرعوا هاربين أنْ يلحقهم العذاب ، وهنا يقول لهم : لا تركضوا وعودوا إلى مساكنكم ، وإلى ما أُترِفْتم فيه .
والتُّرفُ : هو التنعُّم نقول : ترف الرجل يترف مثل : فرح يفرَح أي : تنعَّم ، فإذا زِيدتْ عليها همزة فقيل : أترف الرجل فمعناها : أخذ نعيماً وأبطره .
ومنها أيضاً : أترفَهُ الله يعني : غرَّه بالنعيم؛ ليكون عقاباً له .
فقوله هنا { إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ . . } [ الأنبياء : 13 ] من أترافه الله يعني : أعطاهم نعيماً لا يؤدون حقَّه ، فيجرّ عليهم العذاب . لكن ما دام أن الله تعالى يريد بهم العذاب ، فلماذا يُنعِّمهم؟
قالوا : فَرْق بين عذاب واحد وعذابين : العذاب أن تُوقع على إنسان شيئاً يؤلمه ، أما أن تُنعِّمه وترفعه ثم تعذبه ، فقد أوقعتَ به عذاباً فوق عذاب .
وقد مثَّلْنا لذلك بأن إنْ أردت أَنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق حصيرة مثلاً ، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون أشدَّ عليه وآلمَ له .
ومن ذلك قَوْلُ القرآن { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ . . . } [ الأنعام : 44 ] أعطيناهم الصحة والمال والجاه والأرض والدُّور والقصور { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] وهكذا يكون أَخذْه أليماً شديداً ، فعلى قَدْر ما رفعهم الله على قَدْر ما يكون عذابهم .
ومَلْمَح آخر في قوله تعالى : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ } [ الأنعام : 44 ] لا لهم كما في : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] فليس هذا كله في صالحهم ، بل هو وَبَال عليهم ، فلا تغترُّوا بها ، فقد أعطاها الله لهم ، وهم سيَبَطْرون بها ، فتكون سببَ عذابهم .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 13 ] أي : عودوا إلى مساكنكم وقصوركم وما كنتم فيه من النعيم ، لعل أحداً يمرُّ بكم فيسألكم : أين ما كنتم فيه من النعيم؟ أين ذهب؟ لكن ما هم فيه الآن من الخزي سيُخرس ألسنتهم ، ولن يقولوا شيئاً مما حدث ، إنما سيكون قولهم وسلوكهم . { قَالُواْ ياويلنآ . . . } .
(1/5830)

قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
لما أحسَّ المكذِّبون بأْسَ الله وعذابه حاولوا الهرب ليُفوِّتوا العذاب ، فقال لهم : ارجعوا إلى ما كنتم فيه ، فلن يُنجيكم من عذاب الله شيء ، ولا يفوت عذاب الله فائت ، فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف لم يجدوا شيئاً إلا الحسرة فتوجَّهوا إلى أنفسهم ليقرعوها ، ويحكموا عليها بأنها تستحق ما نزل بها .
فقولهم : { ياويلنآ . . . } [ الأنبياء : 14 ] ينادون على العذاب ، كما تقول ( يا بؤسي ) أو ( يا شقائي ) وهل أحد ينادي على العذاب أو البُؤْس أو الشقاء؟ الإنسان لا ينادي إلا على ما يُفرِح .
فالمعنى : يا ويلتي تعالى ، فهذا أوانك ، فلن يشفيه من الماضي إلا أنْ يتحسَّر عليه ، ويندم على ما كان منه . فالآن يتحسَّرون ، الآن يعلمون أنهم يستحقون العذاب ويلومون أنفسهم .
{ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 14 ] ظالمين لأنفسنا بظلمنا لربنا في أننا كفرنا به ، كما قال في آية أُخْرى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله . . . } [ الزمر : 56 ] .
(1/5831)

فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ . . . } [ الأنبياء : 15 ] أي : قولهم : { قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 14 ] فلم يقولوها مرة واحدة سرقة عواطف مثلاً ، إنما كانت ديدنهم ، وأخذوها تسبيحاً : يا ويلنا إنا كنا ظالمين ، يا ويلنا إنا كنا ظالمين ، فلا شيءَ يشفي صدورهم إلا هذه الكلمة يُردِّدونها . كما يجلس المرجم يُعزِّي نفسه نادماً يقول : أنا مُخطيء ، أنا أستحق السجن ، أنا كذا وكذا .
وقوله تعالى : { حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 15 ] الحصيد : أي المحصود وهو الزرْع بعد جمعه { خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 15 ] الخمود من أوصاف النار بعد أنْ كانت مُتأجِّجة مشتعلة ملتهبة صارت خامدة ، ثم تصير تراباً وتذهب حرارتها . كأن الحق - سبحانه وتعالى - يشير إلى حرارتهم في عداء الرسول وجَدَلهم وعنادهم معه صلى الله عليه وسلم ، وقد خمدتْ هذه النار وصارتْ تراباً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء . . . } .
(1/5832)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
ربنا - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل الأعلى في الخلْق؛ لأن خَلْق السماوات والأرض مسألة كبيرة : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس . . . } [ غافر : 57 ] فالناس تُولَد وتموت وتتجدد ، أمّا السماء والأرض وما بينهما من نجوم وكواكب فهو خلْق هائل عظيم منضبط ومنظوم طوال هذا العمر الطويل ، لم يطرأ عليه خَلَل أو تعطُّل .
والحق سبحانه لا يمتنُّ بخَلْق السماء والأرض وما بينهما؛ لأنها أعجب شيء ، ولكن لأنها مخلوقة للناس ومُسخَّرة لخدمتهم ، فالسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء ومطر وسحاب والأرض وما عليها من خَيْرات ، بل وما تحتها أيضاً { وَمَا تَحْتَ الثرى } [ طه : 6 ] .
الكل مخلوق لك أيها الإنسان ، حتى ما تتصوره خادماً لغيرك هو في النهاية يصبُّ عندك وبين يديك ، فالجماد يخدم النبات ، والنبات يخدم الحيوان ، وكلهم يخدمون الإنسان .
فإنْ كان الإنسان هو المخدوم الأعلى في هذا الكون فما عمله هو؟ وما وظيفته في كون الله؟ فكل ما دونك له مهمة يؤديها فما مهمتك؟ إذن : إنْ لم يكن لك مهمة في الحياة فأإنت أتفه من الحيوان ، ومن النبات ، حتى ومن الجماد ، فلا بُدَّ أنْ تبحثَ لك عن عمل يناسب سيادتك على هذه المخلوقات .
ثم هل سخَّرْتَ هذه المخلوقات لنفسك بنفسك ، أم سخَّرها الله وذلَّلها لخدمتك؟ فكان عليك أن تلتفت لمن سخَّر لك هذه المخلوقات وهي أقوى منك ، ألك قدرة على السماء؟ أتطول الشمس والقمر؟
{ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } [ الإسراء : 37 ] .
إذن : كان يجب عليك أن تبحث بعقلك فيمَنْ سخَّر لك هذا كله ، كان عليك أنْ تهتدي إلى الخالق للسماء والأرض وما بينهما ، لأنه سبحانه ما خلقها عبثاً ، ولا خلقها للعب ، إنما خلقها من أجلك أنت .
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، خلقتُ الأشياء من أجلك ، وخلقتُك من أجلي ، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له " .
فالكون مملوك لك ، وأنت مملوك لله ، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك .
فما الحكمة من خَلْق السماء والأرض وما بينهما؟ الحكمة أن هذه المخلوقات لولاها ما كُنَّا نستدل على القوة القادرة وراء خَلْق هذه الأشياء ، وهو الخالق سبحانه ، فهي - إذن - لإثبات صفات الجلال والجمال لله عز وجل . فلو ادَّعَى أحد أنه شاعر - ولله المثل الأعلى - نقول له : أين القصيدة التي قلتها؟ فلا نعرف أنه شاعر إلا من خلال شِعْره وآثاره التي ادَّعاها . وهي دعوى دون دليل؟!
وقد خلق الله هذا الخَلْق من أجلك ، وتركك تربَع فيه ، وخلقه مقهوراً مُسيَّراً ، فالشمس ما اعترضتْ يوماً على الشروق ، والقمر والنجوم والمطر والهواء والأرض والنبات كلها تعطي المؤمن والكافر والطائع والعاصي؛ لأنها تعملبالتسخير ، لا بالإرادة والاختيار .
(1/5833)

أما الإنسان هو المخلوق صاحب الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل .
ولو نظرتَ إلى هذا الكون لأمكنك أنْ تُقسِّمه إلى قسمين : قسم لا دَخْلَ لك فيه أبداً ، وهذا تراه منسجماً في نظامه واستقامته وانضباطه ، وقسم تتدخل فيه ، وهذا الذي يحدث فيه الخَلَل والفساد .
قال الحق سبحانه وتعالى : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم * والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم * لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 38-40 ] .
فالكَوْن من حولك يسير بأمر خالقه ، منضبط لا يتخلف منه شيء ، فلو أخذتَ مثلاً سنة كاملة 365 يوماً ، ثم حاولتَ أنْ تعيدها في عام آخر لوجدتَ أن الشمس طلعتْ في اليوم الأول من نفس المكان ، وفي اليوم الثاني من نفس مكان اليوم الثاني ، وهكذا بدقة متناهية ، سبحان خالقها .
لذلك؛ فالذين يضعون التقويم لمعرفة الأوقات يضعون تقويم ثلاث وثلاثين سنة يُسجِّلون دورة الفلك ، ثم يتكرر ما سجَّلوه بانضباط شديد ، ومن ذلك مثلاً إذا حدَّد العلماء موعد الكسوف أو الخسوف أو نوعه جزئي أو حَلْقي ، فإذا ما تابعته وجدته منضبطاً تماماً في نفس موعده ، وهذا دليل على انضباط هذا الكون وإحكامه؛ لأنه لا تدخلُّ لنا فيه أبداً .
وفي المقابل انظر إلى أيِّ شيء للإنسان فيه تدخّل : فمثلاً نحن يكيل بعضنا لبعض ، ويزن بعضنا لبعض ، ويقيس بعضنا لبعض ، ويخبز بعضنا لبعض ، ويبيع بعضنا لبعض . . الخ انظر إلى هذه العلاقات تجدها - إلاّ ما رحم الله - فاسدة مضطربة ، ما لم تَسِرْ على منهج الله ، فإن سارت على منهج الله استقامت كاستقامة السماء والأرض .
إذن : كلما رأيتَ شيئاً فاسداً شيئاً قبيحاً فاعلم أن الإنسان وضع أنفه فيه .
وكأن الخلق - عز وجل - يقول للإنسان : أنت لستَ أميناً حتى على نفسك ، فقد خلقتُ لك كل هذا الكون ، ولم يشذ منه شيء ، ولا اختلَّتْ فيه ظاهرة ، أمّا أنت - لأنك مختار - فقد أخللْتَ بنفسك وأتعبتها .
فاعلم أن المسائل عندي أنا آمَنُ لك ، فإذا أخذتُك من دنيا الأسباب إلى الآخرة وإلى المسبِّب ، فأنا أمين عليك أُنعمك نعيماً لا تعبَ فيه ولا نصبَ ولا شقاء ، وإنْ كنت تخدم نفسك في الدنيا ، فأنا أخدمك في الآخرة ، وأُلبِّي لك رغبتك دون أن تُحرِّك أنت ساكناً .
إذن : لو أنني شغلت نفسي بمَنْ يملكني وهو الله تعالى لاستقام لي ما أملكه .
فهذا الكون وهذا الإيجاد خلقه الله لخدمة الإنسان ، فلماذا؟ كأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول : لأنِّي يكفيني من خلقي أن يشهدوا مختارين أنه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وإنْ كانت المخلوقات قد شهدتْ هذه الشهادة مضطرة ، فالعظمة أن يشهد المختار الذي يملك أنْ يشهد أو لا يشهد .
كما أنني بعد أنْ أنعمتُ عليك كلَّ هذه النعم أنزلتُ إليك منهجاً بافعل كذا ولا تفعل كذا ، فإنْ أطعتَ أثبتك ، وإنْ عصيت عاقبتك ، وهذه هي الغاية من خَلْق السماء والأرض ، وأنها لم تُخلَق لعباً .
وهذا المنهج تعرفه من الرسل ، والرسل يعرفونه من الكتاب . فلو كذَّبْتَ بالرسل لم تعرف هذه الأحكام ولم تعرف المنهج ، وبالتالي لا نستطيع أنْ نثيب أو نعاقب ، فيكون خَلْقُ السماء والأرض بدون غاية .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً . . . } .
(1/5834)

لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
فلو أردنا اللهو لفعلناه ، فنحن نقدر على كل شيء ، وقوله : { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ . . . } [ الأنبياء : 17 ] تدل على أن ذلك لن يحدث .
فمعنى اللهو هو أن تنصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه ، فالإنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر غير المهم ، فاللهو واللعب حركتان من حركات الجوارح ، ولكنها حركات لا مقصد لها إلا الحركة في ذاتها ، فليس لها هدف كمالي نسعي له في الحركة ، ولذلك فاللهو واللعب دون هدف يسمى عَبَثاً .
وهذا يمتنع في حق الله سبحانه وتعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل . . . } .
(1/5835)

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
ما دام أنهم فعلوا اللهو واللعب ، وخانوا نِعَم الله في السماء والأرض فليعلموا أن هذا الحال لن يستمر ، فالحق سبحانه يُملي للباطل ويُوسع له حتى يزحف ويمتد ، حتى إذا أخذه أخْذ عزيز مقتدر ، وقذف عليه بالحق .
فقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل . . } [ الأنبياء : 18 ] القذف : الرَّمْي بشدة مثل القذائف المدمرة { فَيَدْمَغُهُ . . } [ الأنبياء : 18 ] يقال : دمغه أي : أصاب دماغه . والدماغ أشرف أعضاء الإنسان ففيه المخ ، وهو ميزان المرء ، فإنْ كان المخ سليماً أمكن إصلاح أيِّ عطل آخر ، أما إنْ تعطل المخ فلا أملَ في النجاة بعده .
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - عَظْمة الدماغ أغوى عظام الجسم لتحفظ هذا العضو الهام ، والأطباء لا يحكمون على شخص بالموت - مثلاً - إذا توقف القلب؛ لأن القلب يجري له تدليك معين فيعود إلى عمله كذلك التنفس ، أما إنْ توقف المخ فقد مات صاحبه ، فهو الخلية الأولى والتي تحتفظ بآخر مظاهر الحياة في الجسم؛ لذلك يقولون : موت إكلينيكي .
وللمخ يصل خلاصة الغذاء ، وهو المخدوم الأعلى بين الأعضاء ، فالجسم يأخذ من الغذاء ما يكفي طاقته الاحتراقية في العمل ، وما زاد على طاقته يُختزَن على شكل دهون يتغذّى عليها الجسم ، حين لا يوجد الطعم ، فإذا ما انتهى الدُّهْن تغذَّى على اللحم ، ثم على العَظْمِ لِيُوفِّر للمخ ما يحتاجه ، فهو السيد في الجسم ، ومن بعده تتغذّى باقي الأعضاء .
إذن : كل شيء في الجسم يخدم المخ؛ لأنه أَعْلَى الأعضاء ، أما النبات مثلاً فيخدم أسفله ، فإذا جَفَّ الماء في التربة ولم يجد النبات الغذاءَ الكافي يتغذى على أعلاه فيذبل أولاً ، ثم تتساقط الأوراق ، ثم تجفّ الفروع الصغيرة ، ثم الجذع ، ثم الجذر .
ومن ذلك قول سيدنا زكريا عليه السلام : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً . . . } [ مريم : 4 ] فالعَظْم آخر مخزَن للغذاء في الجسم ، فَوهَنُ العظم دليل على أن المسألة أوشكتْ على النهاية .
إذن : فقوله تعالى : { فَيَدْمَغُهُ . . . } [ الأنبياء : 18 ] أي : يصيبه في أهم الأعضاء وسيدها والمتحكم فيها ، لا عضو آخر يمكن أنْ يُجبر؛ لذلك يقول بعدها { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ . . . } [ الأنبياء : 18 ] زاهق : يعني خارج بعنف .
وقوله تعالى : { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] يعني : أيها الإنسان المغتَرّ بلججه وعناده في الباطل ، ووقف بعقله وقلبه ليصادم الحق ، سنقذف بالحق على باطلك ، فنصيب دماغه فيزهق ، ساعتها ستقول : يا ويلتي كما سبق أنْ قالوا : { قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 14 ] حينما يباشرون العذاب .
ومعنى : { تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] تكذبون كذباً افترائياً ، كما لو رأيت شخصاً جميلاً ، فتقول : وجهه يَصِفُ الجمال ، يعني : إنْ كنت تريد وَصْفاً للجمال ، فانظر إلى وجهه يعطيك صورة للجمال ، كما جاء في قوله تعالى :
(1/5836)

{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب . . . } [ النحل : 62 ] يعني : إنْ أردت أنْ تعرف الكذب بعينه ، فاسمع كلامهم وما قالتْه ألسنتهم .
كما يقولون : حديث خرافة ، وأصل هذه المقولة رجل اسمه خرافة ، كان يقول : أنا عندي سهم إنْ أطلقُته على الظَّبي يسير وراءه ، فإن التفت يميناً سار وراءه ، فإنْ ذهب شمالاً ذهب وراءه ، فإنْ صعد الجبل صعد وراءه ، فإنْ نزل نزل وراءه . وكأن سهمه صاروخ مُوجَّه كالذي نراه اليوم!! فسار كلامه مثالاً يُضرب للكذب .
لذلك قال الشاعر :
حَدِيثُ خُرَافَةٍ يا أُمَّ عَمْرو ... فإنْ أردتَ تعريفاً للكذب فأنا لا أُعرِّفه لك بأنه قوْلٌ لا يوافق الواقع ، إنما اسمع إلى كلامهم ، فهو أصدق وَصْف للكذب؛ لأنه كذب مكشوف مفضوح .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنعام : 100 ] أي : يكذبون ويفترون على الله .
وقد يقول قائل : لماذا يُملِي الله للباطل حتى يتمرَّد ويعلو ، ثم يعلو عليه الحق فيدمغه؟
نقول : الحكمة من هذا أنْ تتم الابتلاءات ، والناس لا نتعشق الحق إلا إذا رأتْ بشاعة الباطل ، ولا تعرف منزلة العدل إلا حين ترى بشاعة الظلم ، وبضدها تتميز الأشياء ، كما قال الشاعر :
فَالوجْهُ مِثْلُ الصبُّحْ مُبيضٌ ... وَالشَّعْر مِثْلُ الليْلِ مُسْودُ
ضِدَّان لَمَّا استْجمْعاً حَسْناً ... والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُ
إذن : لا نعرف جمال الحق إلا بقُبْح الباطل ، ولا حلاوة الإيمان إلا بمرارة الكفر . { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض . . . } .
(1/5837)

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
سبق أن أخبر الحق سبحانه أنه خلق السماء والأرض وما بينهما ، وهذا ظَرْف ، فما المظروف فيه؟ المظروف فيه هم الخَلْق ، وهم أيضاً لله : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض . . . } [ الأنبياء : 19 ] وإنْ كان من الخَلْق مَنْ ميَّزه الله بالاختيار يؤمن أو يكفر ، يطيع أو يعصي ، فإنْ كان مختاراً في أمور التكليف فهو مقهورة : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا . . . } [ الأحزاب : 72 ] .
فاختارت التسخير على الاختيار الذي لا طاقة لها به .
أما الإنسان فقد دعاه عقله إلى حملها وفضَّل الاختيار ، ورأى أنه سيُوجه هذه الأمانة التوجيه السليم { وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
فوصفه رَبُّه بأنه كان في هذا العمل ظلوماً جهولاً؛ لأنه لا يدري عاقبة هذا التحمل . فإنْ قلتَ : فما ميزة طاعة السماوات والأرض وهي مضطرة؟ نقول : هي مضطرة باختيارها ، فقد خيَّرها الله فاختارت الاضطرار .
وقوله : { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ . . . } [ الأنبياء : 19 ] أي ليسوا أمثالكم يكذبون ويكفرون ، بل هم في عبادة دائمة لا تنقطع ، والمراد هنا الملائكة؛ لأنهم { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
{ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] من حسر : يعني ضَعُفَ وكَلّ وتعب وأصابه الملل والإعياء .
ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] أي : كليل ضعيف ، لا يَقْوي على مواجهة الضوء الشديد كما لو واجهت بعينيك ضوءَ الشمس أو ضوء سيارة مباشر ، فإنه يمنعك من الرؤية؛ لأن الضوء الأصل فيه أن نرى به ما لا نراه .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون . . . } [ النساء : 172 ] لأن عِزَّهم في هذه المسألة . { يُسَبِّحُونَ الليل . . . } .
(1/5838)

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
فهؤلاء الملائكة يعبدون الله ويسبحونه ، لا يصيبهم ضَعْف ، ولا يصيبهم فُتُور ، ولا يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه : فالملائكة لا تتكبر عن عبادته والخضوع له .
والحق سبحانه يقول : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { أَمِ اتخذوا آلِهَةً . . } .
(1/5839)

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
أي : فما لهم أعرضوا عن كل هذه الحقائق؟ ألهم آلهة غيري وأنا خالق السماء والأرض ، وهي لي بمَنْ فيها من الإنس والجن والملائك'؟ فالجميع عَبْد لي يُسبِّح بحمدي ، فما الذي أعجبهم في غيري فأعرضوا عني ، وانصرفوا إليه؟ أهو أحسن مني ، أو أقرب إليهم مني؟
كأن الحق - تبارك وتعالى - يستنكر انصرافهم عن الإله الحق الذي له كل هذا الملك ، وله كل هذه الأيادي والنِّعَم .
وقوله تعالى : { هُمْ يُنشِرُونَ } [ الأنبياء : 21 ] أي : لهم قدرة على إحياء الموتى وبَعثْهم . وشيء من هذا كله لم يحدث؛ لأنه : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ . . . } .
(1/5840)

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
فمَع انصرافكم عن الإله الحق الذي له مًُلْك السماء والأرض ، وله تُسبِّح جميع المخلوقات ، لا يوجد إله آخر { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا . . . } [ الأنبياء : 22 ] أي : ما زال الكلام مرتبطاً بالسماء والأرض { لَفَسَدَتَا . . . } [ الأنبياء : 22 ] السماء والأرض ، وهما ظرفان لكلِّ شيء من خَلْق الله .
ومعنى { إِلاَّ الله . . . } [ الأنبياء : 22 ] إلا : أداة استثناء تُخرِج ما بعدها عن حكم ما قبلها كما لو قلتَ : جاء القوم إلا محمد ، فقد أخرجتَ محمداً عن حكم القوم وهو المجيء ، فلو أخذنا الآية على هذا المعنى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا . . . } [ الأنبياء : 22 ] يعني : لو كان هناك آلهة ، الله خارج عنها لفسدت السماوات والأرض .
إذن : ما الحال لو قلنا : لو كان هناك آلهة والله معهم؟ معنى ذلك أنها لا تفسد . فإلا إنْ حققت وجود الله ، فلم تمنع الشَّركة مع الله ، وليس هذا مقصود الآية ، فالآية تقرر أنه لا إله غيره .
إذن : ( إلا ) هنا ليست أداةَ استثناء . إنما هي اسم بمعنى ( غير ) كما جاء في قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ . . . } [ هود : 36 ] .
فالمعنى : لو كان فيهما آلهة موصوفة بأنها غير الله لَفسدتَا ، فامتنع أن يكون هناك شريك .
وهناك آية أخرى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] .
الحق - سبحانه وتعالى - يعطينا القسمة العقلية في القرآن : فلنفرض جدلاً أن هناك آلهة أخرى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً . . } [ الإسراء : 42 ] أي : لو حدث هذا { لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] .
السبيل : الطريق ، أي طلبوا طريقاً إلى ذي العرش أي : إلى الله ، لماذا؟ إما ليجادلوه ويصاولوه ، كيف أنه أخذ الألوهية من خلف ظهورهم ، وإمّا ليتقربوا إليه ويأخذوا ألوهية من باطنه ، وقوة في ظل قوته ، كما أعطى الله تعالى قوة فاعلة للنار مثلاً من باطن قوته تعالى ، فالنار لا تعمل من نفسها ، ولكن الفاعل الحقيقي هو الذي خلق النار ، بدليل أنه لو أراد سبحانه لَسِلَبها هذه القدرة ، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] .
وقوله : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . . } [ المؤمنون : 91 ] وهذه الآية الكريمة وأمثالها تثبت أنه سبحانه موجود وواحد .
أما على اعتبار أن ( إلا ) استثناء فهي تثبت أنه موجود ، إنما معه شريك ، وليس واحداً . فهي - إذن - اسم بمعنى غير ، ولما كانت مبنية بناء الحروف ظهر إعرابها على ما بعدها ( لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ ) فيكون إعراب ( غيرُ ) إعرابَ ( إلا ) الذي ظهر على لفظ الجلالة ( الله ) .
(1/5841)

لكن ، لماذا تفسد السماء والأرض إنْ كان فيهما آلهة غير الله؟
قالوا : لأنك في هذه المسألة أمام أمرين : إما أن تكون هذه الآلهة مستوية في صفات الكمال ، أو واحد له صفات الكمال والآخر له صفة نقص . فإنْ كان لهم صفات الكمال ، اتفقوا على خَلْق الأشياء أم اختلفوا؟
إنْ كانوا متفقين على خَلْق شيء ، فهذا تكرار لا مُبرِّر له ، فواحد سيخلق ، والآخر لا عملَ له ، ولا يجتمع مؤثران على أثر واحد .
فإن اختلفوا على الخَلْق : يقول أحدهم : هذه لي . ويقول الآخر : هذه لي ، فقد علا بعضهم على بعض .
أما إنْ كان لأحدهم صفة الكمال ، وللآخر صفة النقص ، فصاحب النقص لا يصحّ أن يكونَ إلهاً . وهكذا الحق - سبحانه وتعالى - يُصرِّف لنا الأمثال ويُوضِّحها ليجلي هذه الحقيقة بالعقل وبالنقل : لا إله إلا الله ، واتخاذ آلهة معه سبحانه أمر باطل .
كذلك يردُّ على الذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل مَنْ قالوا : العزيرُ ابن الله ومَنْ قالوا : المسيح ابن الله . ومَن اتخذوا الملائكة آلهة من دون الله : { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ . . } [ الإسراء : 57 ] .
إن هؤلاء الذين تدعُونهم مع الله يطلبون إليه وسيلة ، ويتقرّبون إليه سبحانه ، وينظرون أيّهم أقرب إلى الله من الآخر ، فكيف يكونون آلهة؟
ثم يقول تعالى : { فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش . . . } [ الأنبياء : 22 ] أي : تنزيهاً لله عَمَّا قال هؤلاء : { عَمَّا يَصِفُونَ } [ الأنبياء : 22 ] أي : يُلحِدون ويكذبون ويفترون .
والعرش : هو السرير الذي يجلس عليه الملك ، وهو علامة الملْك والسيطرة ، كما في قوله تعالى عن ملكة سبأ على لسان الهدهد : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] فحين يقول سبحانه { رَبِّ العرش } [ الأنبياء : 22 ] ينصرف إلى عرشه تعالى ، الذي لا يعلو عليه ، ولا ينازعه عَرْش آخر . ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته سبحانه : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا . . . } .
(1/5842)

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
فالله تعالى لا يُسأل عما يفعل؛ لأن السائلَ له مراتب مع المسئول ، والعادة أن يكون المسئول في مرتبة أَدْنى من السائل؛ لذلكلا احدَ يسأل الله تعالى عَمَّا يفعل ، أمّا هو سبحانه فيسأل الناس .
لذلك قال بعض الظرفاء : الدليل على أن الله لا شريك له ، خَلْقه لفلان ، لأنه له كان له شريك كان عارضه في هذه المسألة .
إذن : لا أحدَ أعلى من الله ، حتى يسأله : لِمَ فعلتَ كذا وكذا؟
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ . . . } .
(1/5843)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
طالما اتخذوا من دون الله آلهة فهاتوا البرهان على صِدْقها ، كما أن الله تعالى - وهو الإله الحق - أتى بالبراهين الدامغة على وجوده ، وعلى قدرته ، وعلى وحدانيته ، وعلى أحديته ، فهاتوا أنتم أيضاً ما لديكم ، أم أنها آلهة لا أدلةَ لها ولا برهانَ عليها ، فلم تنزل كتاباً ، ولا أرسلتْ رسولاً ، ولا جاءت بمنهج .
فأين هم إذن؟ إذا لم يكونوا على دراية بما يحدث ، فهي آلهة غافلة لا يصح أنْ يحتلوا هذه المنزلة ، وإنْ كانوا على دراية فلمَ لَمْ يُجابهوا الحقائق ويدافعوا عن أنفسهم؟ إذن : هم ضعفاء عن هذه المواجهة .
وقوله تعالى : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ . . . } [ الأنبياء : 24 ] أي : هاتوا الدليل على وجود آلهة غير الله ، والبرهان : التدليل بإيجاد الكون على هذا النظام البديع ، فهل سمعتم أن إلهاً آخر قال : أنا الذي أوجدتُ؟ هل أرسل رسولاً بآية؟
إذن : هذا كلام كذب وافتراء واختلاق من عند أنفسكم؛ لأنكم لستم أهلَ علم في شيء ، ولا يعني هذا عدمَ وجود العلم ، إنما العلم موجود ، ولكنكم مُعرِضون عن سماعه : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 24 ] .
كأن للحق سمات يعلم بها ، فَمنْ أقبل على معرفة الحق وجده ، أما مَنْ أعرض عن المعرفة ، فمن أين له أنْ يعرف؟ إذن : فالحق موجود ولو التمسوه لوجدوه وعرفوه ، وأمسكوا بالدليل عليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ . . . . } .
(1/5844)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
إذن : فقضية التوحيد واضحة منذ بداية الرسالات إلى خاتمها ، الكل جاء بقول لا إله إلا الله قضية مشتركة بين جميع رسالات السماء .
وقوله تعالى : { مِن رَّسُولٍ . . } [ الأنبياء : 25 ] ( منْ ) هنا للشمول والتعميم ، يعني : كل أفراد الرسل ، كلّ مَنْ يُقَال له رسول . فلو قال لك شخص : ما عندي مال ، لا يمنع هذا القول أن يكون عنده قليل من المال ، قروش مثلاً لا يُقال لها مال ، فإنْ قال لك : ما عندي من مال فقد نفى وجود جنس المال من بداية ما يقال له مال ، ما عندي حتى مليم واحد .
إذن : ما جئتم به من مسألة الشرك بالله أو إنكاره عز وجل مسألة جديدة ( موضة ) طلعتُم علينا بها . { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن . . . . } .
(1/5845)

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
قوله : { سُبْحَانَهُ . . . } [ الأنبياء : 26 ] أي : تنزيهاً له أنْ يكون له ولد ، فقُلْ : إنْ كان له ، فله عباد مكرمون وهم الملائكة .
ومن صفات هؤلاء العباد المكرمين الذين هم الملائكة أنهم : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول . . . } .
(1/5846)

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
ومع أنهم عباد مكرمون إنما لا يسبقونه بالقول ، فلا يقولون ما لم يقُلْه ولا يتقدمون عليه بقول حتى إنْ وافق مراد الله ، ولا يفعلون ما لم يأمر به ، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة لبعض آفات المجتمع ، فمن آفات المجتمع أن ترى العظماء المكرمين إلا أنهم يصنعون لأنفسهم سلطة زمنية من باطنهم ، فيقولون ما لم يَقُلْه ربهم عز وجل ، ويفعلون ما لم يأمر به ، ويُقدِّمون أوامرهم على أوامره .
وقوله تعالى : { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] أي : يأتمرون بأمره ، فإنْ أمر فعلوا ، وإنْ نَهَى تركوا .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ . . . } .
(1/5847)

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
الكلام هنا عن العباد المكرمين من الملائكة ، فَمَع أن الله أكرمهم وفضَّلهم ، إلا أنه لم يتركهم دون متابعة ومراقبة ، إنما يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولم تُترك لهم مسألة الشفاعة يُدخلون فيها مَنْ أحبوا إنما { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى . . . } [ الأنبياء : 28 ] .
أي : لمن ارتضاه الله وأحبه ، فإياكم أنْ تفهموا أنكم حين تقولون : الملائكة بنات الله ، أو تعبدونهم من دون الله أنهم يكونون لكم شفعاء عند الله؛ لأنهم لا يشفعون إلا لمنْ أحبّه الله ، وارتضاه من أهل الإيمان ، فلا تظن أنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] أي : مُدلَّلُون يفعلون ما يحلو لهم ، لا ، إنهم مع ذلك ملتزمون بحدودهم لا يتعدونها ، فما أكرمتهم كل هذا الإكرام إلا لأنهم مطيعون ملتزمون .
وهم مع هذه الطاعة { مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] فليسوا مع هذا الإكرام مطمئنين آمنين ، بل مشفقون خائفون وجلون من خشية الله ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ . . . } .
(1/5848)

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
أي : على فَرْض أنْ قال أحدهم هذا القول ، إذن : هذا كلام لم يحدث ، ولا يمكن أنْ يُقال منهم { فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } [ الأنبياء : 29 ] لماذا؟ لأنهم أخذوا الظُّلم في أعلى مراتبة وعنُفوانه وطغيانه ، ظلم في مسألة القمة { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
لذلك يُهدّدهم ، مع أنهم ملائكة ومكرمون ، لكن إنْ بدر من أحدهم هذا القول فجزاؤه جهنم ، وفي هذا اطمئنان للخَلْق أجمعين .
***
بعد ذلك أراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُدلِّل على هذه الوحدانية التي أكَّدها في كلامه السابق ، والوحدانية في طَيِّها الأحدية ، لأن هناك فَرْقاً بينهما ، وليسا مترادفين كما يظن البعض ، فواحد وأحد وَصفْان لله عز وجل { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] وقال : { الواحد القهار } [ الرعد : 16 ] .
فالواحد أي : الفرد الذي لا يُوجد له نظير ، وهذا الواحد في ذاته أحد أي : ليس له أجزاء ، فالواحدية تمنع أنْ يُوجد فَرْد مثله ، والأحدية تمنع أن يكون في ذاته مُكوّناً من أجزاء؛ لأنه سبحانه لو كوّن من أجزاء لصار كل جزء محتاجاً في وجوده إلى الجزء الآخر ، فلا احتياج له في وجوده ليكوِّن كله ، إذنْ : فلا هو كليّ ، ولا هو جزئي .
فاختار سبحانه للتدليل آيات الكون الموجودة والمشهودة التي لا يمكن أنْ ينكرها أحد؛ لأنها آيات مُرتّبة واضحة ونافعة في الوقت نفسه ، فقد يكون المرئي واضحاً لكن لا حاجة لك فيه - فالإنسان يشعر بمنفعة الشمس لو غابت عنه ، ويشعر بمنفعة المطر إن امتنعت السماء عن المطر . . إلخ .
فمشهودية هذه الآيات تقتضي الالتفات إليها ، والنفعية فيها تقتضي أيضاً الالتفات إليها ، حتى وهي غائبة عنك ، فتنظر وتتطلع إلى عودتها من جديد .
فيقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات . . . } .
(1/5849)

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا . . . } [ الأنبياء : 30 ] يعني : أعميتْ أبصارهم ، فلم ينظروا إلى هذا الكون البديع الصنع المحكم الهندسة والنظام ، فيكفروا بسبب أنهم عَمُوا عن رؤية آيات الله . وهكذا كما رأيت الهمزة بعد الواو والفعل المنفي .
لكن كيف يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا . . } [ الأنبياء : 30 ] والحديث هنا عن السماء والأرض ، وقد قال تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] ؟
فهذه مسألة لم يشهدها أحد ، ولم يخبرهم أحد بها ، فكيف يروْنَها؟
سبق أن تكلمنا عن الرؤية في القرآن ، وأن لها استعمالات مختلفة : فتارة تأتي بمعنى : نظر أي : بصرية . وتأتي بمعنى : علم ، ففي قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة ولم يشهدها؛ لأنه وُلِد في نفس عامها ، فالمعنى : ألم تعلم ، فلماذا عَدلَ السياق عن الرؤية البصرية إلى الرؤية العلمية ، مع أن رؤية العين هي آكد الرُّؤى ، حتى أنهم يقولون : ليس مع العَيْن أيْن؟
قالوا : لأن الله تعالى يريد أن ينبه رسوله صلى الله عليه وسلم أنت صحيح لم ترهَا بعينيك ، لكن ربك أخبرك بهان وإخبار الله أصدق من رؤية عينيك ، فإذا أخبرك الله بشيء فإخبار الله أصدقُ من رؤية العين ، فالعين يمكن أنْ تخدعك ، أو ترى بها دون أنْ تتأمل . أما إخبار الله لك فصادقٌ لا خداعَ فيه .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ] .
لكن ، كيف تمَّتْ الرؤية العلمية لهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض؟
قالوا : لأن الإنسان حين يرى هذا الكون البديع كان يجب عليه ولو بغريزة الفضول أنْ يتساءلَ : من أين جاء هذا الكون العجيب؟ والإنسان بطبعه يلتفت إلى الشيء العجيب ، ويسأل عنه ، وهو لا يعنيه ولا ينتفع به ، فما بالُكَ إنْ كان شيئاً نافعاً له؟
إذن : كان عليهم أن ينظروا : مَنِ الذي نبَّأَ رسول الله بهذه المسألة؟ خاصة وقد كانوا يسألون عنها ، وقد جاءهم رسول الله بمعجزة تُثبِت صدقه في البلاغ عن الله ، وتُخبرهم بما كانوا يبحثون عنه ، وما دام الكلام من الله فهو صدق : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } [ النساء : 122 ] .
وقد نزل القرآن في جزيرة العرب كفار عُبَّاد أصنام ، وفيها اليهود وبعض النصارى ، وهما أهل الكتاب يؤمنون بإله وبرُسُل وبكتب ، حتى إنهم كانوا يجادلون الكفار الوثنيين يقولون لهم : لقد أطلّ زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم .
ومع ذلك ، لما جاءهم ما عرفوا من الحق كفروا به ، والتحموا بالكفار ، وكوَّنوا معهم جبهة واحدة ، وحزباً واحداً ، ما جمعهم إلا كراهية النبي ، وما جاء به من الدين الحق ، وما أشبهَ هذا بما يفعله الآن كُلٌّ من المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي من اتحاد ضد الإسلام .
(1/5850)

إذن : بعد أنْ جاء الإسلام أصبح أهلُ الكتاب والكفار ضد الإسلام في خندق واحد ، وكان الكفار يسمعون من أهل الكتاب ، وفي التوراة كلام عن خَلْق السماء والأرض يقول : إن الله أول ما خلق الخَلْق خلق جوهرة ، ثم نظر إليها نظرَ الهيبة فحصل فيها تفاعل وبخار ودخان ، فالدخان صعد إلى أعلى فكوَّنَ السماء ، والبقية ظلتْ فكوَّنت الأرض .
وهكذا كان لديهم طرف من العلم عن مسألة الخَلْقِ؛ لذلك قال الله عنهم : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا . . . } [ الأنبياء : 30 ] .
وقد كان للمستشرقين كلام حول قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] قالوا : السماوات جمع ، والأرض كذلك جنس لها جمع ، فالقاعدة تقتضي أنْ نقول : كُنَّ رتقاً بضمير الجمع . وصاحب هذا الاعتراض لم يَدْر أن الله سبحانه وتعالى نظر إلى السماء كنوع والأرض كنوع ، فالمراد هنا السماوةي والأرضية وهما مُثنَّى .
وفي القرآن نظائر كثيرة لهذه المسألة؛ لأن القرآن جاء بالأسلوب العربي المبنيّ على الفِطنة والذكاء ومُرونة الفهم . فخُذْ مثلاً قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا . . . } [ الحجرات : 9 ] .
فلم يقُلْ حسْب الظاهر : اقتتلتَا؛ لأن الطائفة وإنْ كانت مفرداً إلا أنها تحوي جماعة ، والقتال لا يكون بين طائفة وطائفة ، إنما بين أفراد هذه وأفراد هذه ، فالقتال ملحوظ فيه الجمع { اقتتلوا . . . } [ الحجرات : 9 ] فإذا ما جِئْنا للصُّلْح لا يتم بين هؤلاء الأفراد ، وإنما بين ممثَل عن كل طائفة ، فالصُّلْح لا يتم بين هؤلاء الأفراد ، وإنما بين ممثل عن كل طائفة ، فالصُّلْح قائم بين طرفين؛ لذلك يعود السياق للتثنية . { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } [ الحجرات : 9 ] .
والرَّتْق : الشيء الملتحم الملتصق ، ومعنى { فَفَتَقْنَاهُمَا . . } [ الأنبياء : 30 ] أي : فَصلَنْاهما وأزَحْنَا هذا الالتحام ، وما ذُكِر في التوراة من أن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها في هَيْبة ، فحصل لها كذا وكذا في القرآن له ما يؤيده في قوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً . . . } [ فصلت : 11 ] .
والعلماء ساعةَ يستقبلون الآية الكونية لهم فيها مذاهب اجتهادية مختلفة؛ لأنها تتعرَّض لحقيقة الكون ، وهذا أمر قابل للخلاف ، فكلُّ واحد منهم يأخذ منه على قَدْر ثقافته وعِلْمه .
فالعربي القديم لم يكُنْ يعرف كثيراً عن الظواهر الكونية ، لا يعرف الجاذبية ، ولا يعرف كُروية الأرض ولا حركتها ، فلو أن القرآن تعرَّض لمثل هذه الأمور التي لا يتسع لها مداركه وثقافته فلربما صرفه هذا الكلام الذي لا يفهمه ، ولك أنْ تتصوَّر لو قلتَ له مثلاً : إن الأرض كرة تدور بنا بما عليها من بحار وجبال الخ .
(1/5851)

والقرآن بالدرجة الأولى كتاب منهج " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " لذلك كلُّ ما يتعلق بهذا المنهج جاء واضحاً لا غموض فيه ، أمَّا الأمور الكونية التي تخضع لثقافات البشر وارتقاءاتهم الحضارية فقد جاءت مُجْملةً تنتظر العقول المفكرة التي تكشف عن هذه الظواهر واحدةً بعد الأخرى ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مجرد إشارة ، وعلى العقول المتأمّلة أنْ تُكمِلَ هذه المنظومة .
وقد كان لعلماء الإسلام موقفان في هذه المسألة ، كلاهما ينطلق من الحب لدين الله ، والغرام بكتابه ، والرغبة الصادقة في إثبات صدْق ما جاء به القرآن من آيات كونية جاء العلم الحديث ليقول بها الآن ، وقد نزل بها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان .
الموقف الأول : وكان أصحابه مُولعين بأنْ يجدوا لكل اكتشاف جديداً شاهداً من القرآن ليقولوا : إن القرآن سبق إليه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق في بلاغه عن الله .
الموقف الثاني : أما أصحاب الموقف الآخر فكانوا يتهيَّبون من هذه المسألة خشية أن يقولوا بنظرية لم تثبت بَعْد ، ويلتمسون لها شاهداً من كتاب الله ، ثم يثبُت بطلانها بعد أنْ ربطوها بالقرآن .
والموقف الحق أن هناك فرقاً بين نظرية علمية ، وحقيقة علمية ، فالنظرية مسألة محلّ بحث ومحلّ دراسة لم تثبت بَعْد؛ لذلك يقولون : هذا كلام نظري أي : يحتاج إلى ما يؤيده من الواقع ، أمّا الحقيقة العلمية فمسألة وقعتْ تحت التجربة ، وثبت صدقها عملياً ووثقنا أنها لا تتغير .
فعلينا - إذن - أَلاَّ نربط القرآن بالنظرية التي تحتمل الصدق أو الكذب ، حتى لا يتذبذب الناس في فَهْم القرآن ، ويتهمونا أننا نُفسِّر القرآن حَسْب أهوائنا . أمّا الحقيقة العلمية الثابتة فإذا جاءت بحيث لا تُدفَع فلا مانعَ من ربطها بالقرآن .
من ذلك مسألة كروية الأرض ، فعندما قال بها العلماء اعترض كثيرون وأثاروها ضجة وألَّفوا فيها كتباً ، ومنهم مَنْ حكم بكفر مَنْ يقول بذلك؛ لأن هذه المسألة لم ينص عليها القرآن . فلما تقدم العلم ، وتوفرتْ له الأدلة الكافية لإثبات هذه النظرية ، فوجدوا الكواكب الأخرى مُدوَّرة كالشمس والقمر ، فلماذا لا تكون الأرض كذلك؟!
كذلك إذا وقفتَ مثلاً على شاطئ البحر ، ونظرتَ إلى مركب قادم من بعيد لا ترى منها إلا طرفَ شراعها ، ولا ترى باقي المركب إلا إذا اقتربتْ منك ، عَلامَ يدلُّ ذلك؟ هذا يدل على أن سطح الأرض ليس مستوياً ، إنما فيه تقوُّس وانحناء يدل على كُرويتها .
فلما جاء عصر الفضاء ، وصعد العلماء للفضاء الخارجي ، وجاءوا للأرض بصور ، فإذا بها كُروية فعلاً ، وهكذا تحولتْ النظرية إلى حقيقة علمية لا تُدفع ، ولا جدال حولها ، ومَنْ خالفها حينما كانت نظرية لا يسعه الآن إلاّ قبولها والقول بها .
وما قلناه عن كُروية الأرض نقوله عن دورانها ، ومَنْ كان يصدق قديماً أن الأرض هي التي تدور حول الشمس بما عليها من مياه ومَبانٍ وغيره؟ ولك أن تأخذَ كوزاً ممتلئاً بالماء ، واربطه بخيط من أعلى ، ثم أَدِرْه بسرعة من أسفل إلى أعلى ، تلاحظ أن فوهة الكوز إلى أسفل دون أنْ ينسكب الماء ، لماذا؟ لأن سرعة الدوران تفوق جاذبية الأرض التي تجذب الماء إليها ، بدليل أنك إذا تهاونتَ في دوران الكوز يقع الماء من فُوهته ، ولا بُد من وجود تأثير للجاذبية ، فجاذبية الأرض هي التي تحتفظ بالماء عليها أثناء دورانها .
(1/5852)

أما أن نلتقط نظرية وليدة في طََوْر البحث والدراسة ، ثم نفرح بربطها بالقرآن كما حدث أوائل العصر الحديث والنهضة العلمية ، حين اكتشف العلماءُ المجموعةَ الشمسية ، وكانت في بدايتها سبعة كواكب فقط مُرتّبة حسب قُرْبها من الشمس في المركز : عطارد ، فالزهرة ، فالأرض ، فالمريخ ، فالمشتري ، فزُحَل ، فأورانوس .
وهنا أسرع بعض علمائنا الكبار - منهم الشيخ المراغي - بالقول بأنها السماوات السبع ، وكتبوا في ذلك بحوثاً ، وفي القرآن الذي سبق إلى هذا . ومرَّتْ الأيام ، واكتشف العلماء الكواكب الثامن ( نبتون ) ، ثم التاسع .
إذن : رَبْط النظرية التي لم تتأكد بَعْد علمياً بالقرآن خطأ كبير ، ومن الممكن إذا توفَّر لهم أجهزة أحدث ومجاهر أكبر - كما يقول بعض علماء الفضاء - لاكتشفوا كواكب أخرى كثيرة ، لأن مجموعتنا الشمسية هذه واحدة من مائة مليون مجموعة في المجرة التي نسميها ( سكة التبَّانة ) ، والإغريق يسمونها ( الطريق اللبني ) .
وهذه الكواكب التي نراها كبيرة وعظيمة ، لدرجة تفوق تصورات الناس ، فالشمس التي نراها هذه أكبر من الأرض بمليون وربع مليون مرة ، وهناك من الكواكب ما يمكنه ابتلاع مليون شمس في جوفه . والمسافة بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية ، وتُحسب الدقيقة الضوئية بأن تُضرب في ستين ثانية ، الثانية الواحدة السرعة فيها 186 ألف ميل يعني : ثلاثمائة ألف كيلومتر .
أما المسافة بين الأرض والمرأة المسلسلة فقد حسبوها بالسنين الضوئية لا الدقائق ، فوجدوها مائة سنة ضوئية ، أما الشِّعْري الذي امتنَّ الله به في قوله { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] فهو أبعد من ذلك . وهذه الكواكب والأفلاك كلها في السماء الدنيا فقط ، فما دَخْل هذا بالسماوات السبع التي تحدثوا عنها؟!
لذلك حاول كثيرون من عُشَّاق هؤلاء العلماء أن يمحوا هذه المسألة من كتبهم ، حتى لا تكون سُبَّة في حقِّهم وزلّة في طريقهم العلمي .
كذلك من النظريات التي قالوا بها وجانبتْ الصواب قولهم : إن المجموعة الشمسية ومنها الأرض تكوَّنت نتيجة دوران الشمس وهي كتلة ملتهبة ، فانفصل عنها بعض ( طراطيش ) ، وخرج منها بعض الأجزاء التي بردتْ بمرور الوقت ، ومنها تكونت الأرض ، ولما بردتْ الأرض أصبحتْ صالحة لحياة النبات ، ثم الحيوان ، ثم الإنسان بدليل أن باطن الأرض ما يزال ملتهباً حتى الآن . وتتفجر منه براكين كبركان ( فيزوف ) مثلاً .
والقياس العقلي يقتضي أن نقول : إذا كانت الأرض قطعة من الشمس وانفصلت عنها ، فمن الطبيعي أن تبرد مع مرور الزمن وتقلّ حرارتها حتى تنتهي بالاستطراق الحراري ، إذن : فهذه نظرية غير سلمة ، وقولكم بها يقتضي أنكم عرفتم شيئاً عن خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ما أخبر الله به ، وقد قال تعالى :
(1/5853)

{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض . . } [ الكهف : 51 ] .
ثم يقول في آية جامعة { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] .
والمضلّ هو الذي يأخذ بيدك عن الحقيقة إلى الباطل ، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ما سيكون من أقوال مُضلِّلة في هذه المسألة تقول : حدث في الخلق كيت وكيت .
والواجب علينا أن نأخذ هذه التفاصيل من الخالق - عز وجل - وأن نقف عند هذا الحد ، لأن معرفتك بكيفية الشيء ليست شرطاً لانتفاعك به ، فأنت تنتفع بمخلوقات الله وإن لم تفهم كيف خُلِقَتْ؟ وكيف كانت؟ انتفعنا بكروية الأرض وبالشمس وبالقمر دون أن نعرف شيئاً عنها ، ووضع العلماء حسابات للكسوف وللخسوف والأوقات قبل أن تكتشف كروية الأرض .
فالرجل الأميّ الذي لا يعلم شيئاً يشتري مثلاً " التليفزيون " ويتعلم كيفية تشغيله والانتفاع به ، دون أنْ يعلم شيئاً عن تكوينه أو كيفية عمله ونَقْله للصورة وللصوت . . إلخ . فخُذْ ما في الكون من جمال وانتفع به كما خلقه الله لك دون أن تخوض في أصل خَلْقه وكيفية تكوينه ، كما لو قُدِّم لك طعام شهيّ أتبحثُ قبل أن تأكل : كيف طُهِي هذا الطعام؟!
وقد تباينتْ آراء العلماء حول هذه الآية ومعنى الرَّتْق والَتْق ، فمنهم مَنْ قال بالرأي الذي قالتْه التوراة ، وأنها كانت جوهرة نظر الله إليها نظرة المهابة ، وحدث لها كذا وكذا ، وتكوَّنت السماء والأرض .
ومنهم مَنْ رأى أن المعنى خاصٌّ بكل من الأرض والسماء ، كل على حِدَة ، وأنهما لم يكونا أبداً ملتحمتين ، واعتمدوا على بعض الآيات مثل قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } [ عبس : 24-28 ] .
وفي موضع آخر قال : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11-12 ] .
فالمراد - إذن - أن الأرض وحدها كانت رَتْقاً ، فتفجرت بالنبات ، وأن السماء كانت رتْقاً فتفجرت بالمطر ، فشقَّ الله السماء بالمطر ، وشَقّ الأرض بالنبات الذي يصدعها : { والسمآء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع } [ الطارق : 11-12 ] .
وقال عن السماء : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام . . . } [ الفرقان : 25 ] على اعتبار أن السماء كُلُّ ما علاك فأظلّك ، فيكون السحاب من السماء .
نفهم من هذا الرأي أن الفَتْق ليس فَتْقَ السماء عن الأرض ، إنما فتق كل منهما على حِدَة ، وعلى كل حال هو فَهْم لا يُعطي حكماً جديداً ، واجتهاد على قَدْر عطاء العقول قد تُثبته الأيام ، وقد تأتي بشيء آخر ، المهم أن القوليْن لا يمنع أحدُهما الآخر .
(1/5854)

وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } [ الأنبياء : 30 ] قال أصحاب التأويل الثاني : ما دام ذكر هنا الماء ، فلا بُدَّ أن له صلة بالرَّتْق والفَتْق في كل من الأرض والسماء .
ونلحظ أن الآية لم تَقُلْ : كل شيء حيَّا ، إنما { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } [ الأنبياء : 30 ] وقد استدلوا بها على أن الحيَّ المراد به الحياة الإنسانية التي نحياها ، ولم يفطنوا إلى أن الماء داخلٌ في تكوين كل شيء ، فالحيوان والنبات يحيا على الماء فإنْ فَقَد الماء مات وانتهى ، وكذلك الأدنى من الحيوان والنبات فيه مائية أيضاً ، فكُلُّ ما فيه لمعة أو طراوة أو ليونة فيه ماء .
فالمعنى { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . } [ الأنبياء : 30 ] أي : كل شيء مذكور موجود .
والتحقيق العلمي أن لكل شيء حياةً تناسبه ، وكل شيء فيه ماء ، بدليل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ . . . } [ الأنفال : 24 ] .
والحق سبحانه يخاطبهم وهم أحياء ، إذن : يحييكم أي : حياة أخرى لها قيمة؛ لأن حياتكم هذه قصاراها الدنيا ، إنما استجيبوا لحياة أخرى خالدة هي حياة الآخرة .
وسمُيِّ الشيء الذي يتصل بالمادة ، فتدبّ فيها الحياة روحاً ، فقال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي . . . } [ الحجر : 29 ] .
وسُمِّي المنهج الذي ينزل من السماء لهداية الأرض روحاً ، وسُمّي الملَك الذي ينزل به روحاً؛ لأنه يعطينا حياة دائمة باقية ، لا فناء لها ، وهكذا يتم الإرتقاء بالحياة .
فإذا نزلنا أدنى من ذلك وجدنا للحيوان حياة ، وللنبات حياة ، فالحيوان يُنْفَق ويموت ، والنبات إنْ منعتَه الماء جَفَّ وذَبُل وانتهى . أما الجماد فله حياة أيضاً ، بدليل قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . . } [ القصص : 88 ] .
فوَصَف كل ما يقال له شيء بأنه هالك ، والهلاك ضد الحياة ، فلا بُدَّ أن تكون له حياة ، ألم تقرأ قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . . } [ الأنفال : 42 ] فالحياة ضِدُّها الهلاك .
إذن : فكل شيء في المخلوقات حتى الجماد له حياة ، وفي تكوينه مائية ، كما قال سبحانه : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ . . . } [ الأنبياء : 30 ] .
ويختتم سبحانه هذه الآية بقوله : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] يعني : أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها ، وامتنعوا عن الإيمان؟ يعني : أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها ، وامتنعوا عن الإيمان؟ فكان يجب عليهم أنْ يتفتوا إلى هذه الآيات العجيبة والنافعة لهم ، كيف والبشر الآن يقفون أمام مخترع أو آله حديثة أو حتى لُعبة تبهرهم فيقولون : مَنْ فعل هذه؟ ويُؤرِّخون له ولحياته ، وتخرَّج في كلية كذا . . . إلخ .
فمن الأَوْلى أنْ نلتفتَ إلى الخالق العظيم الذي أبدع لنا هذا الكون ، فالانصراف - إذن - عن آيات الله والإعراض عنها حالة غير طبيعية لا تليق بأصحاب العقول .
يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا فِي الأرض . . . } .
(1/5855)

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
الرواسي : الجبال جمع رَاس يعني : ثابت ، وقد عبر عنها أيضاً بالأوتاد ، فقال : { والجبال أَوْتَاداً } [ النبأ : 7 ] شبّه الجبال بالنسبة للأرض بالأوتاد بالنسبة للخيمة .
ثم يذكر عِلَّة ذلك : { أَن تَمِيدَ بِهِمْ . . . } [ الأنبياء : 31 ] أي : مخافة أن تميل وتضطرب وتتحرك بهم ، ولو أنها مخلوقة على هيئة الثبوت ما كانت لتميد أو تتحرك ، وما احتاجت لأن يُثبِّتها بالجبال؛ لذلك قال تعالى : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب . . . } [ النمل : 88 ] .
فليس غريباً الآن أن نعرف أن للجبال حركة ، وأنْ كنا لا نراها؛ لأنها ثابتة بالنسبة لموقعك منها؛ لأنك تسير بنفس حركة سيرها ، كما لو أنك وصاحبك في مركب ، والمركب تسير بكما ، فأنت لا تدرك حركة صاحبك لأنك تتحرك بنفس حركته .
وقد شبَّه الله حركة الجبال بمرِّ السحاب ، فالسحاب لا يمرُّ بحركة ذاتية فيه ، إنما يمرُّ بدفْع الرياح ، كذلك الجبال لا تمرُّ بحركة ذاتية إنما بحركة الأرض كلها ، وهذا دليل واضح على حركة الأرض .
ثم يقول تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً . . . } [ الأنبياء : 31 ] أي من حكمة الله أنْ جعل لنا في الأرض سُبُلاً نسير فيها ، فلو أن الجبال كانت كتلة تملأ وجه الأرض ما صَلُحَتْ لحياة البشر وحركتهم فيها ، فقال { فِجَاجاً سُبُلاً . . . } [ الأنبياء : 31 ] أي : طرقاً واسعة في الوديان ، والأماكن السهلة . وفي موضع آخر قال : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] .
ومعنى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا . . . } [ الأنبياء : 31 ] يصح في الجبال أو في الأرض ، ففي كل منهما طرق يسلكها الناس ، وهي في الجبال على شكل شِعَأب ووديان .
ثم يذكر سبحانه عِلَّة ذلك ، فيقول : { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ الأنبياء : 31 ] والهداية هنا تحتَمل معنيين : يهتدون لخالقها ومكوِّنها ، ويستدلون بها على الصانع المبدع سبحانه ، أو يهتدون إلى البلاد والأماكن والاتجاهات ، وقديماً كانوا يتخذون من الجبال دلائل وإشارات ويجعلونها علامات ، فيصفون الأشياء بمواقعها من الجبال ، فيقولون : المكان الفلاني قريب من جبل كذا ، وعلى يمين جبل كذا ، وقد قال شاعرهم :
خُذَا بَطْنَ هِرْشَي أو قَفَاهَا فَإنَّهُ ... كِلاَ جَانِبَي هَرْشَي لَهُنَّ طَريقُ
فالهداية هنا تشمل هذا وذاك ، كما في قوله تعالى : { وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] أي : يهتدون إلى الطرق والاتجاهات ، وكان العربي يقول مثلاً : اجعل الثُّريَا عن يمينك أو النجم القطبي ، أو سهيل أو غيرها ، فكانوا على علم بمواقع هذه النجوم ويسيرون على هَدْيها .
أو : يهتدون إلى أن للنجوم علاقة بحياة الإنسان الحيِّ ، وقديماً كانوا يقولون : فلان هَوَى نَجْمه ، كأن لكل واحد منا نجماً في السماء له علاقة ما به ، وهذه يعرفها بعض المختصين ، وربما اهتدوا من خلالها إلى شيء ، شريطة أن يكونوا صادقين أمناء لا يخدعون خَلْق الله .
ويُؤيِّد هذا قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ] أي : لو كنتم على معرفة بها لعلمتُم أن للنجوم دوراً كبيراً وعظيماً في الخَلْق .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً . . . } .
(1/5856)

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
سمَّي السماء سقفاً؛ لأن السماء كل ما علاَك فأظلّك ، وفرْقٌ بين سقف من صنع البشر يعتمد على أعمدة ودعائم . . الخ ، وسقف من صُنْع الخالق العظيم ، سقف يغطي الأرض كلها ومحفوظ بلا أعمدة ، سقف مَسْتوٍ لا نتوءَ ولا فتور .
والسماء أخذتْ دوراً تكوينياً خصَّها الله به كما خَصَّ آدم عليه السلام ، فالخَلْق جميعاً خُلِقوا بكُنْ من أب وأم ، أمّا آدم فقد خُلق خلقاً مباشراً بيد الله سبحانه ، لذلك قال تعالى : { قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ . . . } [ ص : 75 ] وهذا شرف كبير لآدم .
وكذلك قال في خَلْق السماء : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ . . . } [ الذاريات : 47 ] .
وفي آية أخرى قال سبحانه : { والسمآء ذَاتِ الحبك . . . } [ الذاريات : 7 ] يعني : محبوكة ومحكمة ، والحبكة معناها أن ذراتها التي لا تُدرَك ملتحمة مع بعضها ، ليس التحاماً كلياً إنما التحام ذرات؛ لذلك ترى السماء ملساء؛ ولذلك قال عنها الخالق عز وجل : { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } [ النازعات : 28 ] .
ولك أن تلاحظ صنعة البشر إذا أراد أحدنا أنْ يبنيَ مثلاً ، أو يصنع سقفاً ، فالبناء يُبنى بمنتهى الدقة ، ومع ذلك ترى طوبة بارزة عو طوبة ، فيأتي عامل المحارة فيحاول تسوية الجدار ، ويزنه بميزان الماء ، ومع ذلك نجد في الجدار تعاريج ، ثم يأتي عامل الدهانات ، فيحاول إصلاح مثل هذه العيوب فيعد لها معجوناً ويكون له في الحائط دور هام .
وبعد أن يستنفد الإنسان كل وسائله في إعداد بيته كما يحب تأتي بعد عدة أيام ، فترى الحق - سبحانه وتعالى - يُعدِّل على الجميع ، ويُظهر لهم عيوب صنعتهم مهما بلغتْ من الدِّقة بقليل من الغبار ينزل عمودَياً فيرُيك بوضوح ما في الحائط من عيوب .
وإذا كانت صنعتة البشر تختلف باختلاف مهارة كل منهم وحَذَقة في عمله ، فما بالك إنْ كان الصانع هو الله الذي يبني ويُسوِّي ويُزيِّن؟ { الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ . . . } [ الملك : 3 ] .
وانظر إلى أمهر الصُّناع الآن ، يُسوِّي سقفاً لعدة حجرات ، ويستخدم مادة واحدة ويُلوِّنها بلون واحد ، لا بُدَّ أن تجد اختلافاً من واحدة للأخرى ، حتى إنْ خلط العامل اللون مرة واحدة لكل الحجرات يأتي اللون مختلفاً ، لماذا؟ لأنه حين يأخذ من هذا الخليط تجد ما يتبقى أكثر تركيزاً ، فإذا لم يكمل العمل في نفس اليوم تجد ما تبقّى إلى الغد يفقد كمية من الماء تؤثر أيضاً في درجة اللون .
ومعنى : { مَّحْفُوظاً . . . } [ الأنبياء : 32 ] أي : في بنية تكوينه؛ لأنه مُحْكَم لا اختلاف فيه ، ولا يحفظ إلا الشيء النفيس ، تحافظ عليه لنفاسته وأصالته . لكن من أيّ شيء يحفظه الله؟ يحفظها أن تمور ، يحفظها أن تقع على الأرض إلا بإذنه . { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] .
وقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ . . . }
(1/5857)

[ الروم : 25 ] .
إذن : في خَلْق السماء عظمة خَلْق ، وعظمة تكوين ، وعظمة صيانة تناسب قدرته تعالى ، وإنْ كانت لا تحتاج إلى صيانة لأنها صنعتنا .
ومن المسائل التي بيَّنها لنا الحق - سبحانه وتعالى - في أمر السماء مسألة استراق السمع ، فكانت الشياطين قبل الإسلام تسترق السمع ، لكن بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم شاء الحق سبحانه ألاَّ يدلس على دعوته بسماع شيطان يُوحِي إلى أعدائه ، فمنع الجن من استراق السمع بالشُّهُب ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } [ الحجر : 16-18 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] كأن للسماء آيات خاصة بها ، ففي الكون آيات كثيرة ، وللسماء آياتها ، فالشمس والقمر والنجوم والأفلاك من آياتها .
وبعد ذلك نسمع من رجال الأرصاد أن من كواكب السماء ما لم يَصِلْنا ضوؤه منذ خلق الله الأرض حتى الآن ، مع أن سرعة الضوء ثلثمئة ألف كيلومتر في الثانية ، ويمكن أن نفهم هذا في ضوء قوله تعالى : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [ الذاريات : 47 ] .
لذلك يعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة تقريبية لهذه المسألة ، حتى لا نُرهق أنفسنا بالتفكير فيها : " ما السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة لملْك الله إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة " .
ومع ذلك لما صعد رواد الفضاء للقمر سارع بعض علمائنا من منطلق حُبِّهم للإسلام وإخلاصهم للقرآن بالقول بأنهم صعدوا للسماء ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] .
والمراد هنا : سلطان العلم الذي مكَّنَهم من الصعود .
لكن ما داموا نفذوا بِسلطن العلمِ ، فلماذا قال بعدها : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [ الرحمن : 35 ] إذن السلطان المراد ليس هو سلطان العلم كما يظنون ، إنما المراد سلطان مِنِّى ، بإذني وإرادتي .
ولو كان الأمر كما يقولون لقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بالمعراج : كيف تقول ذلك يا محمد وربك هو القائل : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] .
إذن : المراد هنا سلطان من الله تعالى هو سبحانه الذي يأذن بهذه المسألة ، فتُفتّح له أبواب السماء .
ثم ما علاقة القمر بالسماء؟ والكلام عن النفاذ من أقطار السماوات ، وأين القمر من السماء؟ إن المسافة بين الأرض والقمر سنتان ضوئيتان ، فالقمر - إذن - ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض ، كالمعادي مثلاً بالنسبة للقاهرة ، فأَيُّ سماء هذه التي يتحدثون عنها؟!
وقوله تعالى : { مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 33 ] سبق أن تحدّثنا عن الإعراض ، وهو الانصارف عن الشيء مِنْ أعرض يعني : أعطاه ظهره .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل . . . . } .
(1/5858)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
الحق - سبحانه وتعالى - يمتنّ ببعض خَلْقه ، ولا يمتن الله إلا بشيء عظيم ونعمة من نعمه على عباده ، ومن ذلك الليل والنهار ، وقد أقسم سبحانه بهما في قوله تعالى : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1-2 ] وقال : { والضحى * والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1-2 ] فالليل والنهار آيتان متكاملتان ، ليستا متضادتين ، فالأرض خلقها الله ليعمرها خليفته فيها : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا . . . } [ هود : 61 ] .
أي : طلب منكم عمارتها بما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة ، فالعقل المدبر ، والجوارح الفاعلة ، والقوة ، والمادة كلها مخلوقة لله تعالى ، وما عليك إلا أنْ تستخدم نِعَم الله هذه في عمارة أرضه ، فإذا ما تَمَّتْ الحركة في النهار احتاج الجسم بعدها إلى الراحة في الليل .
لذلك كان النوم آية عُظْمى من آيات الله للإنسان تدلّ على أن الخالق - عز وجل - أمين على النفس أكثر من صاحب النفس .
لذلك نرى البعض مِنّا يُرهِق نفسه في العمل ، ولا يعطي لجسده راحته الطبيعية ، إلى أنْ يصيرَ غير قادر على العمل والعطاء ، وهنا يأتي النوم كأنه رادع ذاتيٌّ فيك يُجبرك على الراحة ، ويدقُّ لك ناقسو الخطر : أنت لست صالحاً الآن للعمل ، ارحم نفسك وأعطها حقَّها من الراحة ، فإنْ حاولتَ أنت أنْ تنام قبل وقت النوم يتأبَّى عليك ولا يطاوعك ، أما هو فإنْ جاء أخذك من أعتى المؤثرات . وغلبك على كل شيء فتنام حتى على الحصى .
وفي المثل العربي : ( فراش المتعبَ وطيء ، وطعام الجائع هَنِيء ) أي : هين ينام الإنسان المتعَب المجهد ينام ، ولو على الحصى ، ولو دون أيِّ وسائل للراحة ، ومع ذلك ينام نَوْمه مريحة .
وفي المثَل أيضاً : ( النوم ضيف ، إنْ طلبتَه أعْنَتَكَ ، وإنْ طلبك أراحك ) والحق سبحانه يُحدِّثن عن آية النوم في موضع آخر : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار } [ الروم : 23 ] .
وهنا احتياط ومَلْحظ ، فإنْ كان النوم بالليل للسكن وللراحة ، فهناك مَنْ يعملون بالليل ، فينامون بالنهار كالحرّاس ورجال الشرطة والخبازين وغيرهم ، وهؤلاء لا مانعَ أن يناموا بالنهار ليسايروا حركة الحياة .
ثم يقول تعالى : { والشمس والقمر . . . } [ الأنبياء : 33 ] نعم هناك آيات أخرى كثيرة في كَوْن الله ، لكن أوضحها وأشهرها : الشمس والقمر فهما تحت المشاهدة { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] فالليل والنهار والشمس والقمر يدور كُلٌّ منهم خَلْف الآخر ويخلقه ، كما قال سبحانه : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً . . . } [ الفرقان : 62 ] .
وكلمة { يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] تعبير قرآني دقيق للأداء الحركي ، وهي مأخوذة من سبحة السمك في الماء حيث يسبح السمك في ليونة الماء بحركة انسيابية سهلة؛ لأن الحركة لقطع المسافات إما حركة إنسيابية ، وإما حركة قفزية .
وتلاحظ هاتين الحركتين في عقارب الساعة ، فلو لاحظت عقرب الثواني مثلاً لوجدّتَه يتحرّك حركة قفزية ، يعني : ينطلق من الثبات إلى الحركة إلى الثبات ، فالزمن فيه جزء للحركة وجزء للسكون .
(1/5859)

أما عقرب الدقائق فيسير بحركة إنسيابية مستمرة ، كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة ، وهكذا تكون سُبْحة السمك ، ومنها قوله تعالى : { والسابحات سَبْحاً } [ النازعات : 3 ] .
وكذلك تكون حركة الظل : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل . . . } [ الفرقان : 45 ] وأيضاً حركة نمو الطفل ، فلو أدَمَْتَ النظر إلى طفلك الصغير لا تكاد تلاحظ عليه مظاهر النمو ، وكأنه لا يكبر أمام عينيك ، أمّا لو غِبْتَ عنه مثلاً عدة شهور يمكن أن تلاحظ نُموه؛ ذلك لأن النمو حركة مُوزّعة على كل ثانية في الزمن؛ لا أن النمو يتجمع ثم يظهر فجأة ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ . . . } .
(1/5860)

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
ذلك لأن الكفار حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء حجر عليه من مكان عالٍ وهكذا يتخلَّصون منه صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتمنون ذلك ، فيخاطبه ربه : يا محمد لست بدعاً من الرسل { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
وهذه سُنَّة الله في خَلْقه ، بل موتك يا محمد لنسرع لك بالجزاء على ما تحمّلْته من مشاقِّ الدعوة ، وعناء الحياة الدنيا .
لذلك " لما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموت قال : " بل الرفيق الأعلى " أما نحن فنتشبث بالحياة ، ونطلب امتدادها .
فقوله : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد . . . } [ الأنبياء : 34 ] فأنت كغيرك من البشر قبلك ، أما مَنْ بعدك فلن يخلدوا بعد موت { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] فلا يفرحوا بموتك؛ لأنهم ليسوا خالدين من بعدك . { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم . . . } .
(1/5861)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
إذن : فالموت قضية كونية عامة ، وهي في حقيقتها خَيْر ، فإنْ كانوا أخياراً نُعجِّل لهم جزاءهم عند الله ، وإنْ كانوا أشراراً فقد أراحَ اللهُ منهم البلاد والعباد .
لكن ، كيف يُذَاق الموت؟ الذَّوْق هنا يعني إحساسَ الإنسان بالألم من الموت ، فإنْ مات فعلاً يستحيل أن يذوق ، أما قبل أن يموت فيذوق مقدمات الموت ، والشاعر يقول :
وَالأَسَى بَعْد فُرْقَةِ الرُّوحِ عَجْزٌ ... وَالأسَى لاَ يكُونُ قَبْل الفِرَاقِ
فعلى أيِّ شيء يحزن الإنسان بعد أن يموت؟ ولماذا الحزن قبل أن يموت؟
فالمراد - إذن - ذائقةٌ مقدمات الموت ، التي يعرف بها أنه ميت ، فالإنسان مهما كان صحيحاً لا بُدّ أنْ يأتي عليه وقت يدرك أنه لا محالةَ ميت ، ذلك إذا بلغت الروح الحلقوم ، كما قال تعالى : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق } [ القيامة : 26-28 ] فالموت في هذه الحالة أمر مقطوع به .
ثم يقول سبحانه : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً . . . } [ الأنبياء : 35 ] أي : نختبركم ، والإبتلاء لا يُذَمُّ في ذاته ، إنما تذم غية الابتلاء : أينجح فيه أم يفشل؟ كما نختبر الطلاب ، فهل الاختبار في آخر العام شَرٌّ؟ لكن هل الحق سبحانه في حاجة لأنْ يختبر عباده ليعلم حالهم؟ الحق يختبر الخَلْق لا ليعلم ، ولكن ليقيم عليهم الحجة .
والمخاطب في { وَنَبْلُوكُم . . . } [ الأنبياء : 35 ] الجميع : الغني والفقير ، والصحيح والسقيم ، والحاكم والمحكوم . . إلخ .
إذن : كلنا فتنة ، بعضنا لبعض : فالغنيّ فتنة للفقير ، والفقير فتنة للغني ، كيف؟ الفقير : هل يصبر على فقره ويرضى به؟ هل سيحقد على الغني ويحسده ، أم يقول : بسم الله ما شاء الله ، اللهم بارك له ، وأعطني من خَيْرك؟ والغني : هل يسير في ماله سَيْراً حسناً ، فيؤدي حقَّه وينفق منه على المحتاجين؟
وهكذا ، يمكنك أنْ تُجري مثل هذه المقابلات لتعلم أن الشر والخير كلاهما فتنة واختبار ، ينتهي إما بالنجاح وإما بالفشل؛ لذلك يقول بعدها : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] لنجازي كُلاّ على عمله ، فإنْ حالفك التوفيق فَلَكَ الأجر والمكافأة ، وإنْ أخفقت فَلَكَ العقوبة ، فلا بُدَّ أن تنتهي المسألة بالرجوع إلى الله .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ . . . } .
(1/5862)

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعٍ حدثَ له مع الكفار : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً . . . } [ الأنبياء : 36 ] و ( إنْ ) هنا ليست شرطية ، إنما للنفي كما في قوله تعالى : { الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ . . . } [ المجادلة : 2 ] أي : ما أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنهم .
فالمعنى : إذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا هُزُواً ، أي : يهزأون بك ، لكن ما وَجْه الهُزْو هنا؟
قولهم : { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ . . . } [ الأنبياء : 36 ] أي : يعيبها ويسبُّها ، ويقول عنها : إنها باطلة ومعنى { أهذا . . . } [ الأنبياء : 36 ] كأنهم يستقلّونه ، ويستقلّون أنْ يقول هذا عن آلهتهم .
والذكر قد يكون بالخير ، وقد يكون بالشر ، فإنْ ذكرك صديق تتوقع أنْ يذكرك بخير ، وإنْ ذكرك عدو تتوقع أنْ يذكرك بشرٍّ ، وطالما أن محمداً سيذكر آلهتهم ، فلا بُدَّ أنه سيذكرها بشرٍّ ، والشر الذي ذكره محمد عن آلهتكم أنها أصنام وحجارة لا تضرُّ ولا تنفع . { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ . . . } [ فاطر : 14 ] .
ثم يقول تعالى : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } [ الأنبياء : 36 ] فكيف تتعجبون وتغضبون أنْ يسُبّ محمد آلهتكم الباطلة ، وأنتم تسبُّون الإله الحق ، وتكفرون به ، ونلحظ أن السياق ذكر الضمير العائد عليهم مرتين : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } [ الأنبياء : 36 ] ليؤكد أن ذلك حدث منهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ . . . } .
(1/5863)

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
معنى : { مِنْ عَجَلٍ . . . } [ الأنبياء : 37 ] أي : مُتعجِّلاً كأن في طينته عجلة ، والعجلة أن تريد الشيء قبل نُضْجه ، وقبل أوانه ، وقد يتعجَّل الإنسان الخير ، وهذا أمر جائز ، أما أنْ يتعجّل الشر فهذا هو الحمق بعينه والغباء ، ألم يقولوا لرسول الله : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ الأنبياء : 38 ] .
ألم يقولوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
إذن : تعجَّل هؤلاء العذاب؛ لأنهم غير مؤمنين به ، لا يُصدِّقون أن شيئاً من هذا سيحدث؛ لذلك يردُّ عليهم : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [ الأنبياء : 37 ] وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] .
أي : سنريك فيهم آياتنا ، وسترى ما وعدناهم من العذاب ، فإنْ قبضناك إلينا فسترى ما ينزل بهم في الآخرة .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد . . . } .
(1/5864)

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
وهذا استبطاء منهم لِوَعْد الله بالآخرة والعَرْض عليه سبحانه ، وأن سيُعذِّبهم بالنار التي تُنضج جلوددهم ، ويُبدِّلهم الله جلوداً غيرها . . إلخ؛ لأنهم لا يُصدِّقون هذا ولا يؤمنون به ، وسبق أنْ قالوا لرسول الله : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] .
ثم يقول تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ . . . } .
(1/5865)

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
أي : لو يعلمون ما يحدث لهم في هذا الوقت حين لا يستطيعون دَفْع النار عن وجوههم ، وذَكر الوجه بالذات لأنه أشرف أعضاء الإنسان وأكرمها؛ لذلك إذا أصابك أذىً في وجهك تحرص على إزالته بيدك ، وأنت لم تفعل أكثر من أنك نقلْتَ الأذى من وجهك إلى يدك ، لماذا؟ لأن الوجه عزيز عليك ، لا تقبل إهانته ، ولا تتحمَّل عليه أيَّ سوء .
فقوله تعالى : { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار . . . } [ الأنبياء : 39 ] دلاَلة على إهانتهم { وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ . . . } [ الأنبياء : 39 ] لأنها تأتيهم من كل مكان : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ . . } [ الأنبياء : 39 ] أي : لا يجدون مَنْ ينقذهم ، أو يأخذ بأيديهم ويدفع عنهم .
حتى الشيطان الذي أغواهم في الدنيا سيتبرّأ منهم يوم القيامة ، ويقول : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] وأصرخه : أزال سبب صراخه ، والهمزة في أصرخه تسمى همزة إزالة ، تقول : صرخ فلان إذا وقع عليه ما هو فوق طاقته واحتماله ، فيصرخ صرخةً يستدعي بها مَنْ يغيثه ويُعينه ، فإنْ أجابه وأزال ما هو فيه فقد أصرخه ، يعني : أزال سبب صراخه . فالمعنى : لا أدافع عنكم ، ولا تدافعون عني ، ولا أنقذكم من العذاب ، ولاتنقذونني .
وفي موضع آخر : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ الحشر : 16 ] فحظُّ الشيطان أنْ يُوقِعك في المعصية ، ثم يتبرأ منك .
فما جواب ( لو ) هنا؟ المعنى : لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي لا يكفُّون فيه النار عن وجوههم ، ولا عن ظهورهم ولا يُنصرون لكفّوا عما يُؤدِّي بهم إلى ذلك ، وانتهَوْت عن أسبابه .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ . . . } .
(1/5866)

بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
أي : القيامة ، والبغتة : نزول الحدث قبل توقعه لذلك { فَتَبْهَتُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 40 ] من البهت : أي : الدهشة والحيرة ، فإذا ما باغتتهم القيامة يندهشون ويتحيرون ماذا يفعلون؟ وأين يفرون؟
والبغتة تمنع الاستعداد والتأهُّب ، وتمنع المحافظة على النفس . ومن ذلك ما كانوا يفعلونه أوقات الحروب من صافرات الإنذار التي تُنبّه الناس إلى حدوث غارة مثلاً ، فيأخذ الناس استعدادهم ، ويلجئون إلى المخابئ ، أمَّا إن داهمهم العدو فجأة فلن يتمكنوا من ذلك ، ولن يجدوا فرصة للنجاة من الخطر .
ومن البَهْت قوله تعالى في قصة الذي حَاجَّ إبراهيم عليه السلام في ربه : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ . . . } [ البقرة : 258 ] .
وقوله : { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ الأنبياء : 40 ] أي : لا يُمهَلُون ولا يُؤخَّرون ، فليست المسألة تهديداً وننصرف عنهم إلى وقت آخر ، إنما هي الأَخْذة الكُبْرى التي لا تُرَدُّ عنهم ولا تُؤخَّر .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ . . . } .
(1/5867)

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
سبق أنْ خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً . . } [ الأنبياء : 36 ] لذلك يُسلِّيه هنا : لست بدعاً من الرسل ، فَخُذْ هذه المسألة بصدر رَحْب ، فلقد استهزئ بالرسل من قبلك فلا تحزن ، فسوف يحيق بهم ما صنعوا ، ويجدون عاقبة هذا الاستهزاء .
كما جاء في قصة نوح عليه السلام : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ . . . } [ هود : 38 ] فيردُّ نوح : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] أي : انتظروا النهاية ، وسوف ترون!! .
ومعنى : { فَحَاقَ . . . } [ الأنبياء : 41 ] أي : حَلَّ ونزل بقسوة { بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنبياء : 41 ] .
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 29-31 ] أي : مسرورين فرحين ، وهذا دليل على لُؤْمهم ورذالة طباعهم ، فلم يكتفوا بالاستهزاء ، وإنما يحكونه وينبجحون به . { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 32-36 ] .
هل استطعنا أنْ نُجازيهم بما عملوا؟ نعم يا ربّ .
ولا ننسى أن استهزاء الكفار بأهل الحق استهزاء موقوت بوقته في الدنيا ، أمّا استهزاء الله بهم فاستهزاء أبديّ لا نهايةَ له . ويجب هنا أن نتنبه لهذه المسألة ، فكثيراً ما يتعرض أهل الإيمان للاستهزاء وللسخرية من أهل الباطل ، وهؤلاء الذين يسخرون منهم لأجلهم يصون الله لهم الحياة ويدفع عنهم العذاب ، كما جاء في الحديث القدسي : " فلولا أطفال رُضَّع ، وشيوخ رُكّع ، وبهائم رُتَّع لصببتُ عليكم العذاب صباً " .
فحين ترى تقياً ، فإذا لم تشكره على تقواه وتقتدي به فلا أقلَّ من أنْ تدعَه لحاله ، لا تهزأ به ، ولا تسخر منه؛ لأن في وجوده استبقاءً لحياتك وأَمْنِكَ ، وأقل ما يمكنك أنْ تُقيِّم به التقى : يكفيك منه أن أمنتَ شرَّه ، فلن يعتدي عليك ، ولن ترى منه شيئاً يسؤوك .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار . . . } .
(1/5868)

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
أي : يرعاكم ويحفظكم ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُجري مقارنة بين إنعامه سبحانه على عباده وما يقابلونه به من جحود ونكران وكفران ، أنتم تكفرون بالله وتُؤذُون الصالحين من عباده وتسخرون منهم ، وهو سبحانه الذي { يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار . . . } [ الأنبياء : 42 ] أي : كلاءة صادرة من الله الرحمن .
كما في قوله تعالى : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله . . . } [ الرعد : 11 ] فليس المراد أنهم يحفظونه من أمر الله الذي أراده الله فيه؛ لأن الحِفْظَ صادر من الله ، والحفَظة مكلّفون من قبله تعالى بحفظكم ، وليس تطوُّعاً منهم . وكلاءة الله لك وحفْظه إياك في النهار وفي الليل وأنت نائم عليك حَفَظة يحفظونك ، ويدفَعون عنك الأذى .
وكثيراً ما نسمع أن بعض الناس قام من نومه فوجد ثعباناً في فراشه ، ولم يُصِبْه بسوء ، وربما فزع لرؤيته فأصابه مكروه بسبب هذا الخوف ، وهو لا يعلم أن الثعبان لا يؤذيه طالما أنه لم يتعرَّض له ، وهذا من عجائب هذه المخلوقات أنها لا تؤذيك طالما لا تؤذيها . إذن : لا أحدَ يرقبك ويحفظك في نومك مِمَّا يُؤذيك إلا الحق سبحانه .
وكلاءة الله لكم لا تقتصر على الحِفْظ من المعاطب ، فمن كلاءته سبحانه أن يمدّكم بمقوّمات الحياةَ ، فالشمس بضوئها ، والقمر بنوره ، والأرض بنباتها ، والسماء بمائها . ومع هذا تكفرون به ، وتسخرون من رسله وأهل طاعته؛ لذلك يقول بعدها : { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 42 ] وما كان يصحّ أنْ يغيبَ ذِكْره تعالى عنهم .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا . . . } .
(1/5869)

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
أَلَهم آلهة أخرى تمنعهم من الإيمان بالله؛ هؤلاء الآلهة لا يستطيعون نَصْر أنفسهم ، وكيف ينصرون أنفسهم ، وهي أصنام من حجارة نحتَها عُبَّادها على أشكال اختاروها؟ كيف ينصرون أنفسهم ، ولو أطاحت الريح بأحدهم لاحتاج لمَنْ يرفعه ويقيمه؟
وقوله تعالى : { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } [ الأنبياء : 43 ] كانوا قديماً في البادية ، إذا فعل أحدهم ذنباً ، أو فعل فَعْله في إحدى القبائل ، واحتاج إلى المرور عليهم في طريقه يذهب إلى واحد قويٍّ يصاحبه في مشواره ، ويحميه منهم إلى أنْ يمرَّ على ديارهم ، كما في قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 14 ] .
فالمراد : يصحبه كي يحميه بهذه الصُّحْبة وينجو من العذاب ، فهؤلاء لن نكون في صُحْبتهم لننجيهم ، ولا أحدَ يستطيع أن يصحبهم لينجيهم من عذابنا ، لا هذه ولا تلك .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ . . . } .
(1/5870)

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
أي : أنهم مكثوا فترة طويلة من الزمن يتقلَّبون في نعَم الله ، لكن انظروا ماذا حدث لهم بعد ذلك ، فخذوا منهم عبرةً : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا . . } [ الروم : 9 ] .
ومع ذلك أُخذوا أَخْذ عزيز مقتدر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [ الأنعام : 6 ] .
ثم يقول سبحانه : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ . . . } [ الأنبياء : 44 ] .
وفي موضع آخر : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } [ الرعد : 41 ] .
وهذه آية من الآيات التي وقف عندها بعض علماءنا من النبيين من بعمليات القرآن ، فلما أعلن العلماء أن الأرض بيضاوية ، لشكل ، وليست كاملة الاستدارة ، يعني : أقطارها مختلفة بالنسبة لمركزها ، سارع بعضهم من منطلق الغَيْرة على دين الله ومحاولة إثبات صِدْق القرآن ، وأنه سبق إلى ذِكْر هذه المسألة فقالوا : لقد ذكر القرآن هذا الإكتشاف في قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ . . . } [ الأنبياء : 44 ] يعني : من ناحية خط الاستواء ، لا من ناحية القطبين .
وغفل هؤلاء أن الآية تقول : { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ . . } [ الأنبياء : 44 ] لا من طرفها ، فالنقص من جميع الأطراف ، فمِثْل هذه الأقوال تفتح الباب للطعن في القرآن والخوْض فيه .
ونتساءل { أَفَلاَ يَرَوْنَ . . . } [ الأنبياء : 44 ] رأي هنا علمية أم بصرية؟ لو قلنا : إنها بصرية فهذه ظاهرة لم تُعْرَف إلا في القرن العشرين ، ولم ينتبه لها أحد قبل ذلك ، إذن : فهي ليست بصرية . وأيضاً ليست علمية ، فلم تصل هذه المعلومة إلى هؤلاء ، ولم يكُنْ العرب حينذاك أمةَ علم ، ولا أمة ثقافة ، ولاشيء من ذلك أبداً . فإذا ما استبعدنا هذا التفسير ، فما المعنى المناسب؟
نقول : إنْ كانت رأي بصرية ، فقد رأوا هذه الظاهرية في الأمم السابقة ، وقد كانوا يصادمون دين الله ويحاربونه؛ لأنه جاء ليقضي على سلطتهم الزمنية ، ويجعل الناس سواء ، ومع ذلك كان الدين ينتشر كل يوم وتزيد رقعته وتقلّ رُقعة الكفر .
فالمعنى : ننقص أرض الكفر إما من الناس ، أو من العمائر التي تُهدم وتخرب بالزلازل والخسف وغيره ، فننقص الأرض ، وننقص الناس ، وننقص مظاهر العمران في جانب الكفر ، وهذا النقص هو نفسه الزيادة في أرض الإيمان . وهذه الظاهرة حدثت في جميع الرسالات .
فإنْ قال قائل : كيف نقبل هذا التفسير ، وزيادة أرض الإيمان لم تحدث إلا بعد الهجرة ، والآية مكية؟ تقول : كَوْن الآية مكية لا يقدح في المعنى هنا ، فليس من الضروري أن يَروْا ذلك في أنفسهم ، ويكفي أنْ يروها في الأمم السابقة ، كما جاء في قوله تعالى :
(1/5871)

{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
وقال : { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد } [ الفجر : 9-12 ] .
وإن اعتبرنا ( رأي ) علمية ، فقد علموا ذلك من أهل الكتاب ممَّنْ تحالفوا معهم ، فما حدث للأمم السابقة سيحدث لكم .
وقوله تعالى : { أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] يعني : أفلم يشاهدوا أنَّا ننقص الأرض من أطرافها ، أم أن هذا لم يحدث ، وهم الغالبون؟ أيهما الغالب : رسل الله ، أم الكافرون؟ الإجابة أنهم غُلِبوا واندحروا ، فقال تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] وقال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا . . . } [ غافر : 51 ]
ويخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي . . . } .
(1/5872)

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
أي : أن رسول الله ما أبلغكم بشيء من عند نفسه ، إنما كل ما جاء به من وعد ووعيد فهو من عند الله ، وأنتم أنفسكم تؤكدون على بشريته ، نعم هو بشر لا يعلم شيئاً كما تقولون ، وهذه تُحسَب له لا عليه ، إنما ربه يوحي إليه .
فلو قال محمد : إنما أنذركم . . لكان لكم حق أنْ تتشكَّكوا ، إنما القائل هو الله ، وأنا مجرد مُبلِّغ عن الله الذي يملك أعِنَّة الأحداث ، فإذا قال بوجود حدث فلا بُدَّ أنْ يقع .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [ الأنبياء : 45 ]
وحاسّة السمع هي أول معلوميات الإنسان ، وأول حواسه عملاً ، وقبل أن يتكلم الطفل لا بُدَّ أنْ يسمع أولاً ، لينطق ما سمعه؛ لأن السمع هو الإدراك الأول المصاحب لتكوين الإدراكات ، والأذن - كما قلنا - تسبق العين في أداء مهمتها .
لذلك قدّمه الحق سبحانه ، فقال : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] .
والسمع هو الآلة التي لا تتعطّل عن مهمتها ، حتى ولو كان الإنسان نائماً؛ لأن به يتم الاستدعاء؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ضرب على آذانهم ، وعطّل عندهم حاسة السمع حتى لا تُزعجهم أصوات الطبيعة خارج الغار ، فقال : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] .
ومعنى : { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء . . . } [ الأنبياء : 45 ] صحيح أنهم يسمعون ، وآلة السمع عندهم صالحة للعمل ، إلا أنه سماعٌ لا فائدة منه ، ففائدة السمع أنْ تستجيب لمن يُحدِّثك ، فإذا لم تستجِبْ فكأنك لم تسمع ، وإذا أمرت العامل مثلاً بشيء فتغافل عنه تقول له : أأنت أطرش؟ ولذلك سماهم القرآن : صُماً .
وقوله تعالى : { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [ الأنبياء : 45 ] أي : لَيْتهم يتغافلون عن نداء عادي ، إنما يتغافلون وينصرفون { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [ الأنبياء : 45 ] حين يُخوِّفهم عذاب الله ، والإنذار والتحذير أَوْلَى ما يجب على الإنسان الاهتمام به ، ففيه مصلحته ، ومن الغباء ألاَّ يهتم به ، كما لو أنذرتَ إنساناً وحذَّرْتَه من مخاطر طريق ، وأن فيه ذئاباً أو أُسُوداً أو ثعابين أو قطاعَ طريق ، فلا يهتم بكلامك ، ولا يحتاط للنجاة بنفسه .
وقلنا : إن الإنذار : أنْ تخبر بشرٍّ قبل أوانه ليستعد لتلافيه ، لا أنْ تنذره ساعة الحادث فلا يجد فرصة .
إذن : المسألة ليست طبيعية في التكوين ، إنما توجيه إدراكات ، كأنْ تكلِّم شخصاً في أمر لا يعجبه ، فتجده " أذن من طين ، وأذن من عجين " ينصرف عنك كأنه لم يسمع شيئاً ، كأحدهم لما قال لصاحبه : فيك مَنْ يكتم السر؟ قال : نعم سِرُّك في بير ، قال : أعطني عشرة جنيهات ، فردَّ عليه : كأنِّي لم أسمع شيئاً!!!
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ . . . } .
(1/5873)

وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
الآن فقط تنبهتم ووَعَيْتُم؟ الآن بعد أن مسَّكم العذاب؟
ومعنى : { مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ . . . } [ الأنبياء : 46 ] أي : مساً ولمساً خفيفاً ، والنفخة : هي الريح الليئة التي تحمل إليك آثارَ الأشياء دون حقيقتها ، كأن تحمل لك الريحُ رائحة الورود مثلاً ، هي لا تحمل لك الوورد نفسها ، إنما رائحتها ، وتظل الورود كما هي .
كذلك هذه المسَّة من العذاب ، إنها مجرد رائحة عذاب ، كما نقول لفح النار الذي نشعر به ، ونحن بعيدون عنها .
والنفحة : اسم مرَّة أي : تدل على حدوثها مرة واحدة ، كما تقول : جلس جَلسة أي : مرة واحدة ، وهذا أيضاً دليل على التقليل . ( فمسَّتْهُمْ ) تقليل و ( نَفْحَة ) تقليل ، وكونها مرة واحدة تقليل آخر ، ومع ذلك يضجُّون ويجأرون ، فما بالك إنْ نزل بهم العذاب على حقيقته ، وهو عذاب أبديّ؟!
وقوله تعالى : { لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 46 ] الآن ينطقون ، الآن يقولون كلمة الحق التي طالما كتموها ، الآن ظهرتْ حساسية الإدراك لديهم ، فمن أقلِّ القليل ومن رائحة العذاب يجأؤون ، وأين كان هذا الإدراك ، وهذه الحساسية من قبل؟ إذن : المسألة - كما قلنا - ليست طبيعة تكوين ، إنما توجيه إدراكات .
وقولهم : { ياويلنآ . . . } [ الأنبياء : 46 ] إحساس بما هم مُقبلون عليه ، وهذا القول صادر عن مواجيد في النفس وفي الذِّهْن قبل أن ينطق بالكلمة ، ثم يُقرُّون على أنفسهم ويعترفون : { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 46 ] . { وَنَضَعُ الموازين . . . } .
(1/5874)

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
نقلهم الحق سبحانه من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرسول ، وعدم الإيمان بالوحي ، وصَمِّ آذانهم عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط ، فلماذا هذه النَّقْلة؟ ليُنبههم ويلفت أنظارهم إلى أن هذا الكلام الذي قابلتموه بالتكذيب والتشكيك كان لمصلحتكم ، وأن كل شيء محسوب ، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى ، وكأنه ينصحهم ، فما تزال رحمانية الله بهم وحِرْصه على نجاتكم .
وكلمة ( موازين ) جمع : ميزان ، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها ، لأن التقدير يقع على عدة أشياء : على الكثافة بالوزن ، وعلى المسافات بالقياس . . الخ ، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت ، فمثلاً : المتر صنعوه من البلاتين حتى لا يتآكل ، وهو موضوع الآن - تقريباً - في باريس ، وكذلك الياردة . وجعلوا للوزن معايير من الحديد : الكيلو والرطل . . إلخ .
وقديماً كانوا يَزِنُون قطعةً من الحجارة تساوي كيلو مثلاً ، ويستعملونها في الوزن؛ لأن لها مرجعاً ، لكن هذه القطعة تتآكل من كثرة الاستعمال ، فلا بُدَّ من تغييرها .
وهنا تكلَّم عن الشيء الذي يَوزَن ، ولم يذكر المعايير الأخرى ، قالوا : لأن الأشياء التي لها كثافة هي الأكثر ، وكاوا يختبرون الأولاد يقولون : كيلو الحديد أثقل ، أم كيلو القطن؟ فالولد ينظر إلى القطن فيراه هَشَّاً مُنتفِشاً فيقول : القطن ، والقطن أزيد من الحديد في الحجم ، لكن كثافته يمكن أن تستطرق ، فنُرقّق القطن إلى أن يتحول إلى مساحة طول وعرض . إذن : العُمْدة في التقدير : الثقل .
وفي موضع آخر قال تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ] فهل هي موازين متعددة ، أم هو ميزان واحد
الخَلْق جميعاً سيُحاسبون مرة واحدة ، فلن يقفوا طابوراً ينتظر كل منهم دَوْره ، بل في وقت واحد؛ لذلك لما سُئِل الإمام على - كرَّم الله وجهه : كيف يُحاسب الله الخَلْق جميعاً في وقت واحد؟ قال : كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد . فالمسألة صعبة بالنسبة لك ، إنما سهلة ميسورة للحق سبحانه .
والقِسْط : صفة للموازين ، وهي مصدر بمعنى عدل ، كما تقول في مدح القاضي : هذا قاضٍ عادل . أي : موصوف بالعدل ، فإذا أردتَ المبالغة تقول : هذا قاضٍ عَدْل ، كأنه هو نفسه عَدْل أي ( معجون بالعدل ) ؛ لذلك نقول في أسماء الحق سبحانه : الحكم العدل . ولا نقول : العادل .
وهذه المادة ( قسط ) لها دور في اللغة ، فهي من الكلمات المشتركة التي تحمل المعنى وضده ، مثل ( الزوج ) تُطلق على الرجل والمرأة ، و ( العَيْن ) تطلق على العين : العين الباصرة ، وعلى عين الماء ، وعلى الجاسوس ، وعلى الذهب والفضة .
كذلك ( القِسْط ) نقول : القِسْط بالكسر مثل : حِمْل بمعنى العدل من قَسَط قِسْطَاً . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ المائدة : 42 ] ونقول : القَسْط بالفتح يعني : الظلم من قسط قُسوطاً وقَسْطاً ، ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] أي : الجائرون الظالمون .
(1/5875)

والقِسْط بمعنى العدل إذا حكم بالعدل أولاً وبداية ، لكن أقسط يعني كان هناك حكم جائر فعدَّله إلى حكم بالعدل في الاستئناف .
ومن هذه المادة أيضاً قوله تعالى : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله . . . } [ الأحزاب : 5 ] فأقسط هنا : أفعل تفضيل ، تدل على أن حكم محمد صلى الله عليه وسلم في مسألة زيد كان عَدْلاً وقِسْطاً ، إنما حكم ربه تعالى هو أقسط وأعدل .
ومعلوم من قصة زيد بن حارثة أنه فضَّل رسول الله واختاره على أهله ، وكان طبيعياً أنْ يكافئه رسول الله على محبته وإخلاصه ويُعوِّضه عن أهله الذين آثر عليهم رسولَ الله ، وكانت المكافأة أن سماه زيد بن محمد .
إذن : الحق سبحانه عدل لرسوله ، لكن عدل له العدل لا الجوْر ، وعَدْل الله أَوْلى من عدل محمد لذلك قال : { أَقْسَطُ عِندَ الله . . . } [ الأحزاب : 5 ] أما عندكم أنتم فقد صنع محمد عَيْن العَدْل .
وقوله تعالى : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ . . } [ الأحزاب : 5 ] جاء ليبطل التبني؛ ليكون ذلك مقدمة لتشريع جديد في الأسرة والزواج والمحارم وأمور كثيرة في شرع الله لا تستقيم في وجود هذه المسألة ، وإلاّ فكيف سيكون حال الأسرة حين يكبر المتنبنّي ويبلغ مَبلْلَ الرجال؟ وما موقفه من الزوجة ومن البنت ، وهو في الحقيقة غريب عن الأسرة؟
ومسألة الموازين هذه من المسائل التي وجد فيها المستشرقون تعارضاً في ظاهر الآيات ، فجعلوا منها مَأخَذاً على كتاب الله ، من ذلك قولهم بالتناقض بين الآيتين : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة . . . } [ الأنبياء : 47 ] وقوله تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] حيث أثبت الميزان في الأولى ، ونفاه في الثانية .
وقلنا : إن هؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يملكون الملكَة اللغوية التي تمكِّنهم من فَهْم كلام الله . ولو تأملنا اللام في { نُقِيمُ لَهُمْ . . . } [ الكهف : 105 ] لا نحلَّ هذا الإشكال ، فاللام للملك والانتفاع ، كما يقولون في لغة البنوك : له وعليه . والقرآن يقول : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت . . . } [ البقرة : 286 ] .
فالمعنى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] أي : وزناً في صالحهم ، إنما نقيم عليهم وندينهم . كذلك نجد أن كلمة الوزن تُستعمل في اللغة إمَّا لوزن الماديّ ، أو لوزن المعنى ، كما نقول : فلان لا وَزْنَ له في الرجال .
وعلى هذا يكون المعنى : أنهم لا وَزْنَ لذواتهم ومادتهم ، إنما الوزن لأعمالهم ، فلا نقول : كان من الأعيان ، كان أصله كذا وكذا ، وهذه المسألة واضحة في قصة ابن نوح عليه السلام : { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ . . . } [ هود : 46 ] .
فالنبوة هنا بُنوّة عمل وإيمان ، لا بُنوة ذات .
وقد ظَنَّ الكفار والعصاة أن لهم وَزْناً عند الله ، ومنزلة ستكون لهم في الآخرة ، كما كانت لهم في الدنيا ، كما جاء في قصة صاحب الجنتين الذي قال لأخيه متباهياً مفتخراً . { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }
(1/5876)

[ الكهف : 34-36 ] .
لكن هيهات أنْ يكون لهم وَزْنٌ في الآخرة ، فالوزن في القيامة للأعمال ، لا للأعيان .
إذن : المعنى لا نقيم لذواتهم ، إنما نزن أعمالهم؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقرابته : " لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأحسابكم " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً " فالذوات والأحساب والأنساب لا قيمة لها في هذا الموقف .
وقوله تعالى : { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً . . . } [ الأنبياء : 47 ] مع أن القاعدة : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ . . } [ البقرة : 194 ] وهؤلاء قد ظلموا الحق سبحانه ظُلْماً عظيماً حين أشركوا به ، وظلموا رسول الله لما قالوا عنه : ساحر ، وكاذب ومجنون ، ومع ذلك فلن نردّ هذا الاعتداء بمثله بظلمهم .
وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا . . . } [ الأنبياء : 47 ] والخردل : مثال للصِّغَر ، للدلالة على استقصاء كل شيء ، ولا يزال الخردل هو المقياس العالمي للكيلو ، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساوياً في الوزن ، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن ، وقد أتى بها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان .
ومعنى : { أَتَيْنَا بِهَا . . . } [ الأنبياء : 47 ] أي : لهم أو عليهم ، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله لا يظلمهم ، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من الخير ، وإنْ كانت عليهم علموا أن الله يستقصي كل شيء في الحساب ، وحَبّة الخردل تدل على صِغَرها على الجحم ، وكلمة مثقال تدل على الوزن ، فجمع فيها الحجم والوزن .
ثم يُعقِّب سبحانه على هذه المسألة : { وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن ، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبَطْْ لمعايير الحساب .
ولا تظن أن مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن تصل فيها إلى الدقة الكاملة مهما أخذتَ من وسائل الحيطة ، فأنت بشر لا تستطيع أنْ تزِنَ الوزن المضبوط؛ لأن المعيار الحديد الذي تزن به عُرْضة في استعماله للزيادة أو النقصان .
فقد يتراكم عليه الغبار ويقع عليه مثلاً نقطة زيت ، وبمرور الوقت يزيد المعيار ولو شيئاً ضيئلاً ، وهذا في صالح الموزون له ، وقد يحدث العكس فينقص الميزان نتيجة الملامسة للأشياء ، ولك أن تنظر مثلاً إلى ( أكرة ) الباب تراها لامعةً على خلاف ما حولها . إذن : أي ملامسة أو احتكاك للأشياء يُنقصها .
حتى في الموازين الحديثة التي تضمن لك أقصى درجات الدقة فبشرية الإنسان لا يمكن أن تُعطى الدقة المتناهية ، وهذا معنى { وكفى بالله حَسِيباً } [ الأحزاب : 39 ] { وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] لأن معياره تعالى لا يختلف ، ولا ينسى شيئاً ، ولا يغفل عن شيء .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى . . . . } .
(1/5877)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
يريد الحق - تبارك وتعالى - أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه مَا لاقاه من قومه ، فيذكر له نماذج من إخوانه أُولِي العزم من الرسل الذين اضطهدهم أقوامهم ، وآذوهم ليُسهِّل على رسول الله مهمته ، فلا يصده إيذاء قومه عن غايته نحو ربه .
فبدأ بموسى - عليه السلام - لأنه من أكثر الرسل الذين تعبوا في دعوتهم ، فقد تعب موسى مع المؤمنين به فضلاً عن الكافرين به ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان . . . } [ الأنبياء : 48 ] لأن رسالتهما واحدة ، وهم فيها شركاء : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً . . . } [ القصص : 34 ] وقال : { اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي } [ طه : 31-32 ] .
والفرقان : هو الفارق القوي بين شيئين؛ لأن الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى ، كما تقول : غفر الله لفلان غفراناً ، وتقول : قرأت قراءة ، وقرأة قرآناً ، فليست القراءة واحدة ، ولا كل كتاب يُقرأ .
والفرقان من أسماء القرآن : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
فالفرقان - إذن - مصدر يدلُّ على المبالغة ، تقول : فرَّق تفريقاً وفرقاناً ، فزيادة الألف والنون تدل على زيادة في المعنى ، وأن الفَرْق في هذه المسألة فَرْق جليل وفَرْق واضح؛ لأن كونك تُفرِّق بين شيئين يترتب على ذلك خطورة في تكوين المجتمع وخطورة في حركة الحياة ، فهذا فرقان؛ لذلك سَمَّي القرآن فرقاناً؛ لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل .
ومن الفرقان ، قوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً . . . } [ الأنفال : 29 ] وتقوى الله لا تكون إلا بتنفيذ أوامره وتعاليمه الواردة في القرآن الذي نزل على محمد ، والفرقان هنا يعني : نور تُفَرِّق به بين الأشياء وتُميِّز به بين المتشابهات .
وعلى قَدْر ما تتقي الله باتباع الفرقان الأول يجعل لكم الفرقان الثاني ، وتتكوَّن لديكم فراسة المؤمن وبصيرته ، وتنزل عليكم الإشراقات التي تُسعِف المؤمن عندما يقع في مأزق .
ألاَ تراهم يقولون : فلان ذكي ، فلان حاضر البديهة . أي : يستحضر الأشياء البعيدة وينتفع بها في الوقت الحاضر ، وهذا من توفيق الله له ، ونتيجة لبصيرته وفراسته ، وكانت العرب تضرب المثل في الفراسة والذكاء بإياس بن معاوية حتى قال الشاعر :
إقْدامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمِ ... في حِلْمِ أَحنَفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ
ويُرْوَى أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لما أراد أنْ يحج بيت الله في آخر مرة ، بلغه أن سفيان الثوري يتناوله ونتقده ويتهمه بالجور ، فقال : سوف أحج هذا العم ، وأريد أنْ أراه مصلوباً في مكة ، فبلغ الخبر أهل مكة ، وكان سفيان الثوري يقيم بها في جماعة من أصحابه من المتصوفة وأهل الإيمان ، منهم سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ، وكانا يُدلِّلان الثوري ويعتزان به .
وفي يوم كان الثلاثة في المسجد والثوري مُسْتَلْقٍ بين صاحبيه يضع رأسه في حِجْر أحدهما ، ورِجلْيهْ في حِجْر الآخر ، وقد بلغهم خبر المنصور ومقالته ، فتوسل ابنُ عيينة والفضيل للشيخ الثوري : يا سفيان لا تفضحنا واختفِ حتى لا يراك ، فلو تمكَّن منك المنصور ونفذ فيك تهديده فسوف يَضعف اعتقاد الناس في المنسوبين إلى الله .
(1/5878)

وهنا يقول الثوري : والذي نفسي بيده لن يدخلها ، وفعلاً دخل المنصور مكة من ناحية الحجون ، فعثرت به الدابة ، وهو على مشارف مكة فوقع وأُصيب بكسر فمات لساعته . ودخل المنصور مكة محمولاً وأتَوْا به إلى المسجد الحرام حيث صلى عليه الثوري .
هذا هو الفرقان والنور والبصيرة وفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله ، ولا يصدر في أمر من أموره إلا على هَدْيه .
ويُروى أن المهدي الخليفة العباسي أيضاً دخل الكعبة ، فوجد صبياً صغيراً في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يلتف حوله أربعمائة شيخ كبير من أصحاب اللحي والهَيْبة والوقار ، والصبي يُلْقِي عليهم درساً ، فتعجب المهدي وقال : أُفٍّ لهذه السعانين يعني الذقون ، أمَا كان فيهم مَنْ يتقدم؟! ثم دنا من الصبي يريد أن يُقرِّعه ويؤنِّبه فقال له : كم سِنّك يا غلام؟ فقال الصبي : سني سِنُّ أسامة بن زيد حينما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة جيش فيه أبو بكر وفيه عمر ، فقال له المهدي - معترفاً بذكائه وأحقيقته لهذا الموقف : بارك الله فيك .
فالفرقان - إذن - لا تُستعمل إلا للأمور الجليلة العظيمة ، سواء ما نزل على موسى ، أو ما نزل على محمد ، إلا أن الفرقان أصضبح عَلَماً على القرآن ، فهناك بين العلم والوصف ، فكل ما يُفرِّق بين حَقٍّ وباطل تصفه بأنه فرقانٌ ، أمّا إنْ سُمِّي به ينصرف إلى القرآن .
والمتأمل في مادة ( فَرَق ) في القرآن يجد أن لها دوراً في قصة موسى عليه السلام ، فأول آية من آياته : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر . . . } [ البقرة : 50 ] .
والفَرْق أنْ تفصل بين شيء مُتصل مع اختلاف هذا الشيء ، وفي علم الحساب يقولون : الخَلْط والمزج ، ففَرْق بين أن تفصل بين أشياء مخلوطة مثل برتقال وتفاح وعنب ، وبين أنْ تفصلها وهي مزيج من العصير ، تداخل حتى صار شيئاً واحداً .
إذن : ففَرْق البحر لموسى - عليه السلام - ليس فَرْقاً بل فرقاناً ، لأن أعظم ألوان الفروق أن تَفرِق السائل إلى فِرْقيْن ، كل فِرق كالطود العظيم ، ومَنْ يقدر على هذه المسألة إلا الله؟
ثم يقول تعالى : { وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] أي : نوراً يهدي الناس إلى مسالك حياتهم دون عَطَب ، وإلاَّ فكيف يسيرون في دروب الحياة؟ فلو سار الإنسان على غير هدى فإمّا أنْ يصطدم بأقوى منه فيتطحم هو ، وإمّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه ، فالضياء - إذن - هام وضروري في مسيرة الإنسان ، وبه يهتدي لحركة الحياة الآمنة ويسعي على بينة ، فلا يَتْعب ، ولا يُتعِب الآخرين .
(1/5879)

{ وَذِكْراً . . . } [ الأنبياء : 48 ] أي : يذكِّر ويُنبِّه الغافلين ، فلو تراكمتْ الغفلات تكوَّنَ الران الذي يحجب الرؤية ويُعمى البصيرة ، لذلك لما شبه النبي صلى الله عليه وسلم غفلة الناس قال : " تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً " .
وفي رواية " عوذاً عوذاً " أي يستعيذ بالله أن يحدث هذا لمؤمن ، فهل رأيتَ صانع الحصير حينما يضمُّ عُوداً إلى عُود حتى يُكوِّن الحصير؟ كذلك تُعرَض علينا الفتن ، فإنْ جاء التذكير في البداية أزال ما عندك من الغفلة فلا تتراكم عليك الغفلات .
" فأيُّما قلب أُشْرِبها - يعني قَبلَها - العود تلو العود - نُكتَتْ فيه نكتة سوداء ، وأيُّما قلب أنكرها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء ، حتى تكون على قلبين - صدق رسول الله - على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ، ما دامت السماوات والأرض . أو على أسود كالكوز مُجَخِّياً - يعني منكُوساً - لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً " .
قالوا : فذلك هو الرَّانُ الذي يقول الله فيه : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] والذكر هو الذي يُجلِّي هذا الران .
{ وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] ومن صفاتهم أنهم : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب . . . }
(1/5880)

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
الخشية : الخوف بتعظيم ومهابة ، فقد تخاف من شيء وأنت تكرهه أو تحتقره . فالخشية كأنْ تخاف من أبيك أو من أستاذ كأن يراك مُقصِّراً ، وتخجلل منه أنْ يراك على حال تقصير . فمعنى الخوف من الله : أن تخاف أن تكون مُقصِّراً فيما طُلِب منك ، وفيماً كلَّفك به؛ لأن مقاييسه تعالى عالية ، وربما فاتكَ من ذَلك شيء .
وفي موضع آخر يشرح الحق سبحانه هذه المسألة ، فيقول : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء . . . } [ فاطر : 28 ] لماذا؟ لأنهم الأعلم بالله وبحكمته في كونه ، وكلما تكشَّفَتْ لهم حقائق الكون وأسراره ازدادوا لله خشية ، ومنه مهابة وإجلالاً؛ لذلك قال عنهم : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ . . . } [ النحل : 50 ] أي : أعلى منهم وعلى رؤوسهم ، لكن بِحُبٍّ ومهابة .
ومعنى : { بالغيب . . . } [ الأنبياء : 49 ] أنهم يخافون الله ، مع أنهم لا يَروْنه بأعينهم ، إنما يَرَوْنَه في آثار صُنْعه ، أو بالغيب يعني : الأمور الغيبية التي لا يشاهدونها ، لكن أخبرهم الله بها فأصبحت بَعْد إخبار الله كأنها مشهدٌ لهم يروْنَها بأعينهم .
أو يكون المعنى : يخشون ربهم في خَلَواتِهم عن الخَلْق ، فمهابة الله والأدب معه تلازمهم حتى في خَلْوتهم وانفرادهم ، على خلاف مَنْ يُظهِر هذا السلوك أمام الناس رياءً ، وهو نمرود في خَلْوته .
وقوله تعالى : { وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 49 ] والإشفاق بمعنى الخوف أيضاً ، لكنه خَوْفَ يصاحبه الحذر مما تخاف ، فالخوف من الله مصحوب بالمهابة ، والخوف من الساعة مصحوب بالحذر منها ، مخافة أنْ تقوم عليهم قبل أنْ يُعِدوا أنفسهم لها إعداداً كاملاً يُفرحهم بجزاء الله ساعة يلقوْنَه . { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ . . . } .
(1/5881)

وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
أي : كما جاءت التوراة { ذِكْراً . . . } [ الأنبياء : 48 ] كذلك القرآن الذي نزل عليك يا محمد ( ذكر ) ، لكنه { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ . . } [ الأنبياء : 50 ] يقولون : هذا شيء مبارك يعني : فيه البركة ، والبركة في الشيء أنْ يعطي من الخير فوق ما يتوقع فيه .
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسقي صحابته من قَعْب واحد من اللبن ، ويُطعِم الجيش كله من الطعام اليسير القليل . وتسمعهم يقولون : فلان راتبة ضئيل ، ومع ذلك يعيش هو وأولاده في كذا وكذا فنقول : لأن الله تبارك له في هذا القليل .
فمعنى { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ . . . } [ الأنبياء : 50 ] أي : فيه من الخير فوق ما تظنون ، فإياك أنْ تقولوا : إنه كتاب أحكام وتكاليف فحسْب ، فالقرآن فيه صفة الخلود ، وفيه من الأسرار ما لا ينتهي ، فبركته تشمل جميع النواحي وجميع المجالات إلى أنْ تقوم الساعة . فمهما رددنا آياته نجدها جميلة مُوحِية مُعبّرة . فكل عصر يأتي بجديد ، لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقَضي عجائبه فهو مبارك لأن ما فيه من الخير يتجاوز عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وكل العصور والأعمار والقرون فيعطي كل يوم سراً جديداً من أسرار قائله سبحانه .
إذن : فالقرآن { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ . . . } [ الأنبياء : 50 ] لأن ما فيه من وجوه الخير سيتجاوز العصر الذي نزل فيه ، ويتجاوز كل الأعمار وكل القرون ، فيعطي كل يوم لَوْناً جديداً من أسرار قائله والمتكلِّم به؛ لذلك يتعجّب بعدها من إنكار القوم له : { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ الأنبياء : 50 ] أَمِثْل هذا الكلام يُنكر؟
وسبق أنْ أوضحنا أقوالهم في القرآن .
منهم مَنْ قال : سحر . ومنهم من قال : شعر . ومنهم من قال كذب وأساطير الأولين ، وهذا كله إفلاس في الحُجَّة ، وتصيُّد لا معنى له ، ودليل على تضارب أفكارهم .
ألم يقولوا هم أنفسهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] إذن : هم يعرفون صِدْق القرآن ومكانته ، وأنه من عند الله ، ولا يعترضون عليه في شيء ، إنما اعتراضهم على مَنْ جاء بالقرآن ، وفي هذا دليل على أنهم ليست عندهم يقظة في تغفيلهم .
وتأمل : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ . . } [ الأنبياء : 50 ] ولم يقل : هذا القرآن ، كأنه لا يُشار إلا إلى القرآن . { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ . . . } .
(1/5882)

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
نلاحظ أن الحق سبحانه بدأ تسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم بذِكْر طرف من قصة موسى ، ثم ثنَّى بقصة إبراهيم ، مع أن إبراهيم عليه السلام سابقٌ لموسى ، فلماذا؟ لأن موسى له صِلَة مباشرة باليهود وقريب منهم ، وكان اليهود معه أهلَ جَدَل وعناد .
ومعنى { رُشْدَهُ . . . } [ الأنبياء : 51 ] الرُّشْد : اهتداء العقل إلى الأكمل في الصلاح والأعلى في الخير ، بحيث لا يأتي بعد الصلاح فسادٌ ، ولا بعد الخير شر ، ولا يُسلمك بعد العُلو إلى الهبوط ، هذا هو الرُّشْد . أما أنْ يجرَّك الصلاح الظاهر إلى فساد ، أو يُسلِمَك اليخر إلى شر ، فليس في ذلك رُشْدٌ .
والآن نسمعهم يتحدثون عن الفنون الجميلة ، ويستميلون الناس بشعارات برّاقة أعجبتْ الناس حتى وصلت بهم الجرأة إلى أنْ قالوا عن الرقص : فنٌّ راقٍ وفنّ جميل . . سبحان الله ، الرقص كما قلتم لو أنه فعلاً راقٍ وجميل ، وظل كذلك إلى آخر الطريق ، ولم ينحدر إلى شيء قبيح وهابط ، ماذا يحدث حين يجلس الرجل أمام راقصة تُبدِي من مفاتنها وحركاتها ما لا تُحسنه زوجته في البيت؟ كم بيوت خَرِبَتْ وأُسرَ تهدمت بسبب راقصة ، فأيُّ رقيٍّ؟ وأيُّ جمال في هذا الفن؟!
لذلك؛ فالإمام علي - كرَّم الله وجهه - لخَّص هذه المسألة فقال : " لا شَرَّ في شَرٍّ بعده الجنة ، ولا خيرَ في خير بعده النار " .
إذن : على الإنسان أن ينتبه إلى الرُّشْد الذي هو اهتداء العقل إلى الصالح الأعلى أو إلى الكمال الأعلى أو الخير الأعلى . وهذا الرُّشْد له اتجاهان : رُشْد البِنْية ، ورُشْد المعنى .
رُشْد البِنْية وهو اكتمال تكوين الإنسان بحيث يُؤدِّي كل جهاز فيه وظيفته ، وهذا لا يكون إلا بعد سِنِّ البلوغ ، وقد جعل الخالق سبحانه استواء الأعضاء التناسلية دليلاً على اكتمال هذا الرُّشْد حين يصير المرء قادراً على إنجاب مثله .
وهذا واضح في الثمار حيث لا يحلو مذاقها إلا بعد نضجها واكتمال بذرتها لتكون صالحة للإنبات إذا زرعتها ، وهذا من حكمة الخالق - سبحانه وتعالى - فنأكل الثمرة ونستبقي نوعها ببذرتها الصالحة ، أما لو استوت الثمرة للأكل قبل نُضْج بذرتها لأكلنا الثمار الموجودة ولم نستبق نوعها فتنقرض .
لذلك ، من حكمة الله أيضاً أن الثمرة إذا استوتْ ونضجَتْ ولم تجد مَنْ يقطفها تسقط من تلقاء نفسها ، وتُجدِّد دورتها في الحياة .
ولأمر ما جعل الله التكليف بعد البلوغ ، فلو كلّفك قبل البلوغ لوجدتَ في التكاليف نَهْياً عن بعض الأمور التي لا تعرفها ولا تدركها ، وقد تعترض على ربك : كيف أفعل يا ربّ وقد جاءتني هذه الغريزة ففعلتْ بي كذا وكذا .
ولكل آلة وجهاز في جسم الإنسان رُشْد يناسبه ، ونمو يناسب تكوينه ، فمثلاً عَيْن الطفل وفمه وأصابع يده كلها تنمو نمواً مناسباً لتكوين الطفل .
(1/5883)

أما الأسنان ففيها حكمة بالغة من الخالق عز وجل ، فقد جعل للطفل في المرحلة التي لا يستطيع فيها تنظيفَ أسنانه بنفسه ، ولا حتى يستطيع غيره تنظيفها جعل له ( طقماً ) احتياطياً من الأسنان ، يصاحبه في صِغَره تُسمَّى الأسنان اللبنية ، حتى إذا ما شَبَّ وكَبر واستطاع أنْ يُنَظّف أسنانه بنفسه أبدله الله ( طَقْماً ) آخر يصاحبه طوال عمره .
وهناك رُشْد أعلى ، رُشْد فكري معنوي ، رُشْد يستوي فيه العقل والتفكير ويكتمل الذِّهنْ الذي يختار ويُفَاضل بين البدائل ، فقد يكتمل للمرء رُشْد البُنياني الجسماني دون أنْ يكتملَ عقله وفِكْره ، وفي هذه الحالة لا نُمكِّنه من التصرف حتى نختبره ، لنعلم مدى إحسانه للتصرف فيما يملك ، فإنْ نجح في الاختبار فَلْنُعْطِه المال الذي له ، يتصرف فيه كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ . . . } [ النساء : 6 ] أي : لا تنتظر حتى يكبر ، ثم تعطيه ماله ، يفعل فيه ما يشاء دون خِبْرة ودون تجربة ، إنما تختبره وتَشْركه في خِضَمِّ الحياة ومعتركها ، فيشبّ مُتمرِّساً قادراً على التصرف السليم .
وفي آية أخرى قال تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ . . . } [ النساء : 5 ] لأنهم إن بلغوا الرشْد البدنيّ فلم يبلغوا الرُّشد العقلي ، وإياك أن تقول : هو ماله يتصرف فيه كما يشاء ، فليس للسفيه مال بدليل : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ . . . } [ النساء : 5 ] ولم يقُلْ : أموالهم ، فهو مالُكَ تحافظ عليه كأنه لك ، وأنت مسئول عنه أمام الله ، ولا يكون مال السَّفيه له إلا إذا أحسنَ التصرف فيه .
ومن الرُّشْد ما سماه القرآن الأشُدّ : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ . . . } [ الأحقاف : 15 ] .
والأشُدُّ هو : التسامي في الرُّشْد وقال هنا ( أربعين سنة ) مع أننا ذكرنا أن الإنسان يبلغ رُشْد البِنْية ورُشْد العقل بعد سِنَِّ البلوغ في الخامسة عشرة تقريباً ، إذن : مَنْ لم يرشُدْ حتى الأربعين فلا أملَ فيه ، والنار أَوْلَى به؛ لأنه حين يكفر أو ينحرف عن الطريق في عنفوانه شبابه وقوته نقول : شراسة الشباب والشهوة والمراهقة ، إلى آخر هذه الأعذار فإذا ما بلغ الأربعين فما عذره؟
وإذا لم يتلقَّ مبادئ الرُّشْد في صِغَره وفي شبابه ، فلا شَكَّ أنه سيجد في أحداث الحياة طوال أربعين سنة واقعاً يُرشده قَهْراً عنه ، حيث يرى أعماله وعواقبها وأخطاءه وسقطاته ، وينبغي أنْ يأخذ منها درساً عملياً نظرياً في الرُّشْد .
ومن ذلك ما نسمعه من مصطلحات معاصرة يقولون " الرشد السياسي " ويقولون " ترشيد الاستهلاك " ، ما معنى هذه المصطلحات؟ معناها أن أحداث الحياة وتجاربها وعدم الرُّشْد في مسيرتهم عضَّت الناس ، وألجأتْهم إلى التفكير في ترشيد يُذهب هذا الفساد .
إذن : فالرُّشْد للذات والترشيد للغير كما نفعل في ترشيد استهلاك القمح مثلاً وكنا نعلف به المواشي ، حتى أصبحنا لا نجده؛ لذلك بدأنا في ترشيد استهلاك رغيف الخبز وصِرْنا نقسمه أربعة أقسام ، ونأكل بحساب ، ولا نهدر شيئاً ، وما يتبقى يتبقى نظيفاً نأكله في وَجْبة أخرى .
(1/5884)

وقد لا يكون عند الخباز نفسه ترشيد ، فيُخرج الرغيف قبل استوائه فتجده عجيناً ، كله لبابة ، فتأتي ربة البيت الواعية فتفتح الرغيف قبل وضعه على المائدة ، وتُخرِج منه هذه البابة ، وتجمعها ثم تُحمِّصها في الفرن ، وتصنع منها طعاماً آخر .
وما يقال في " ترشيد الخبز " يقال في " ترشيد الماء " ، وقد أمرنا رسول الله بترشيد استهلاك الماء حتى في الوضوء الذي هو قربي إلى الله .
هذا الرُّشْد الذي وصفنا رُشْد كل عاقل غير الرسل ، وهو أنه يهتدي إلى قضايا حياته ، ويتصرّف فيها تصرفاً سليماً ، إنما مقتضى نتيجة هذا الصلاح في الدنيا ، أما الرسل فلهم رُشْد آخر ، رُشْد أعلى للدنيا وللآخرة ، وهذه هبة من الله للرسل .
قال تعالى في حَقٍّ إبراهيم عليه السلام : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ . . . } [ الأنبياء : 51 ] وكأن رُشْد إبراهيم لا يخضع لهذه القواعد ، ولا يرتبط ببلوغ ، ولا نبوة ، بل هو رُشْد سابق لأوانه منذ أنْ كان صغيراً يتأمل في النجوم ويبحث عن ربه : { فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين * فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 77-78 ] .
فكان - عليه السلام - مُؤهِّلاً للرسالة منذ صِغَره ، ولما أُرسل ونُبِّيء ظهرتْ مواهب رُشْده حين أُلقِي في النار ، وجاءه جبريل - عليه السلام - يعرض عليه المساعدة ، فيقول إبراهيم : أما إليك فلا . وهذه أول بشائر الرشد الفكري والعقدي عند إبراهيم .
وفي حَقِّه قال تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ . . . } [ البقرة : 124 ] أي : اختبره في أشياء فأتمهُنَّ وأتى بِهنّ على أكمل وجه ، منها : أنه طلب منه أنْ يرفعَ قواعد البيت ، وكان يلفي أن يرفع إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده ، إنما إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده ، إنما إبراهيم عليه السلام كان حريصاً أنْ يتم الأمر على أكمل وجه ، فيفكر ويحتال في أنْ يأتيَ بحجر ويقف عليه ليرفع البناء بمقدار الحجر ، ويساعده ولده الصغير إسماعيل فيناوله الحجارة ، لكن الولد الصغير تتزحلق قدماه حينما يرفع الحجارة لأبيه ، فيحتال على هذا الأمر فيحفر في الحجر على قَدْر قدميه حتى يثبت ، وهاتان القدمان نشاهدهما حتى الآن في حِجْر إسماعيل .
إذن : كان عنده عِشْق لللتكاليف وحِرْص على إتمامها .
وقوله تعالى : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] هذا واضح في قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . . . } [ الأنعام : 124 ] . { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ . . . } .
(1/5885)

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
أي : اذكر يا محمد ، إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه { مَا هذه التماثيل . . . } [ الأنبياء : 52 ] .
والتماثيل : جمع تمثال ، وهو مأخوذ من مِثْل أو مَثَل ، ومِثْل الشيء يعني : شبيهه ونظيره ، وكانوا يعمدون إلى الأشياء التي لها جِرْم ويُصورِّونها على صورة أشياء مخلوقة لله تعالى ، كصورة الإنسان أو الحيوان ، من الحجر أو الحديد أو الخشب أو غيرها ويُسمُّونه تمثالاً ، ويُقيمونه ليعبدوه .
وكانوا يبالغون في ذلك : فهذا من الحجر ، وهذا من المرمر ، وهذا صغير ، وهذا كبير ، وقد يضعون في عينيه خرزتين ليظهر للرائي أن له نظراً ، وهي ألوان من التفنن في هذه الصناعة .
فإبراهيم - عليه السلام - يقول مستنكراً لأبيه وقومه { مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] .
فالاستفهام هنا على غير حقيقته ، بل هو استفهام إنكاري يحمل لهجة الاستهزاء والسخرية والتقريع ، ولا بد أنه ألقى عليهم هذا السؤال بشكل أدائي يُوحي بالتقريع .
وسبق أنْ تحدّثنا في معنى ( أبيه ) هنا وقلنا : المراد عَمُّه ، بدليل قوله في موضع آخر : { لأَبِيهِ آزَرَ . . . } [ الأنعام : 74 ] فقد بدأ المسألة بأبيه أو عمه ، وهو أقرَبُ الناس إليه ، يريد أن يطمئنَ الناسُ إلى ما يدعو إليه ، وأنه خير ، وإلا ما بدأ بأبيه .
وأيضاً لأن القوم قد لا يكونُ لهم في نفسه تأثير هَيْبة أو حُبٍّ إنما الهيبة والحب موجود بالنسبة لأبيه أو لعمه ، ومع ذلك لم تمنعه هذه الهيبة أنْ يُسقِّه كلامهم وأفعالهم الباطلة ، كما جاء في قول الله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ التوبة : 24 ] .
وقد وقف المفسرون عند اللام في قوله تعالى : { لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] مع أن المعنى : يعكفون على عبادتها ، كما جاء في آية أخرى : { فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ . . . } [ الأعراف : 138 ] وهنا جاءت باللام؛ لذلك قال بعضهم : اللام هنا بمعنى على ، فلماذا عدَل عن علي إلى اللام؟
ولو تنبَّهنا لمعطيات الألفاظ { لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] نقول : الاعتكاف : هو الإقامة . فلان عاكف في المسجد يعني : على الإقامة في المسجد ، فكلمة عاكفون وحدها تعطي معنى ( على ) أي : لصالح هذه الآلهة . أمّا اللام فلشيء آخر ، اللام هنا لام الملكية والنفعية . وذكروا لها مثالاً آخر في قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ . . . } [ الأنبياء : 104 ] .
السِّجل هو : القرطاس والورق الذي نكتب فيه ، ومنه قولهم : نُسجِّل كذا يعني : نكتبه في السِّجل أو الورق لتحفظ ، ومعنى { لِلْكُتُبِ . . . } [ الأنبياء : 104 ] يعني : الشيء المكتوب ، فكأن المعنى : نطوي الورق على ما كُتِب فيه .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا . . . } .
(1/5886)

قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
إذن : لا حُجَّة لهم في عبادتهم لهذه التماثيل التي صنعوها وأقاموها بأنفسهم ، إلا أنهم رَأَوْا آباءهم يعبدونها ، فحُجَّتهم التقليد الأعمى ، ولو كان عندهم حجة لذاتية العمل لَقالُوها .
وفي موضع آخر قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] إذن : نعيب عليهم هذا التقليد ونعيب على آبائهم أيضاً ، فكيف يكون رَدُّ إبراهيم إذن؟
وكلمة { عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 53 ] هنا تعبير عن أن عبادتهم لهم عبادة عن غير فَهْم ، لأن العبادة طاعة عباد لأوامر معبوده ، فبماذا أمرتهم الأصنام؟
ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم أنه قال لقومه : { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ . . . } .
(1/5887)

قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
أراد أنْ يُرشِّد هذا السِّفَه فقال : أنتم في ضلال؛ لأنكم قلّدتم في الإيمان ، والإيمان لا يكون بالتقليد ، وآباؤكم لأنهم اخترعوا هذه المسألة وسَنُّوهَا لكم .
ومن العجيب أنْ يُقلِّدوا آباءهم في هذه المسألة بالذات دون غيرها ، وإلاَّ فَمن الذي يظل على ما كان عليه أبوه ، ونحن نرى كُلَّ جيل يأتي بجديد مِمَّا لم يكُنْ معروفاً للجيل السابق .
لذلك يقولون : الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم ، فلكُل زمن وَضْعه وارتقاءاته ، وأنت تتحكم في ولدك ما دام صغيراً ، فيأكل الولد ويشرب ويلبس حَسْب ما تحب أنت ، فإذا ما شبَّ وكَبِر صارتْ له شخصيته الخاصة وفِكْره المستقِلّ ، فيختار هو مَأكله ومَلْبسه ، والكلية التي يدخلها ، وربما انتقدكَ في بعض الأمور .
إذن : هؤلاء قلَّدوا آباؤهم في هذه المسألة دون غيرها ، فلماذا مسألة الإيمان بالذات تتمسَّكون فيها بالتقليد؟ ولو أن كُلَّ جيل جاء صورة طِبْق الأصل لسابقه لما تغيَّر وَجْه الحياة ، ففي هذا دلالة على أن لكل جيل ذاتيته المستقلة وفِكْره الخاص .
لقد قلَّد هؤلاء آباءهم في هذه العبادة دون غيرها من الأمور؛ لأنها عبادة وتديُّن بلا تكليف ، وآلهة بلا منهج ، لا تُضيِّق عليهم في شيء ، ولا تمنعهم شيئاً مما أَلِفُوه من الشهوات ، فهو تديُّن بلا تَبِعة .
لذلك؛ فالحق سبحانه يردُّ عليهم في أسلوبين مختلفين ، فمرة يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] .
وفي موضع آخر يقول : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] .
ونلحظ أن عَجُزَ الآيتين مختلف ، فمرة : { لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً . . . } [ البقرة : 170 ] ومرة : { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً . . . } [ المائدة : 104 ] فلماذا؟
قالوا : لأن عَجُزَ كل آية مناسب لصَدْرها ، وصَدْر الآيتين مختلف ، ففي الأولى قالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ . . . } [ البقرة : 170 ] فيمكن أن نتبع هذا أو هذا ، دون أنْ يقصروا أنفسهم على شيء واحد .
وفي الثانية قالوا : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ . . . } [ المائدة : 104 ] يعني : يكفينا ، ولا نريد زيادة عليه ، فَقصَروا أنفسهم على ما وجدوا عليه آباؤهم .
لذلك قال في عَجُز الأولى : { لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً . . . } [ البقرة : 170 ] وفي عَجُز الثانية { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً . . . } [ المائدة : 104 ] لأن العاقل هو الذي يهتدي إلى الأمر بذاته .
أمّا الذي يعلم فيعلم ما عَقِله هو ، وما عَقِله غيره ، إذن : فدائرة العلم أوسع من دائرة العقل؛ لأن العقل يهتدي للشيء بذاته ، أمَّا العلم فيأخذ اهتداء الآخرين .
فكان ردُّهم : { قالوا أَجِئْتَنَا . . . } .
(1/5888)

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
يعني : أهذا الكلام يا إبراهيم جدٌّ؟ أم أنك تَهْزِر معنا؟ كأنهم يستبعدون أن يكون كلام إبراهيم جِدّاً؛ لأنه بعيد عن مداركهم . { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات . . . } .
(1/5889)

قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
يردّ إبراهيم : لقد جئتكم بالحق الذي يقول : إن هذه الأصنام لا تُعبد ، بل الذي يستحق العبادة هو الله ربُّ السماوات والأرض : { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ . . . } [ الأنبياء : 56 ] ف ( بل ) تُضرب عما قبلها ، وتُثبِت الحكم لما بعدها { الذي فطَرَهُنَّ . . . } [ الأنبياء : 56 ] يعني : خَلق السماوات والأرض والأصنام ، وكل ما في الوجود .
{ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين } [ الأنبياء : 56 ] والشاهد هو الذي اهتدى إلى الحق ، كأنه رَأْى العَيْن ، وليس مع العين أَيْن ، واهتدى إلى الدليل على هذا الحق ، فقال : أنا شاهد على أن ربكم ربّ السماوات والأرض ومعي الدليل على هذه الحقيقة . { وتالله لأَكِيدَنَّ . . . } .
(1/5890)

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
بعد ما حدث منهم من لجج وجدال بالباطل أقسم إبراهيم عليه السلام { وتالله . . . } [ الأنبياء : 57 ] والتاء هنا للقسم { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ . . . } [ الأنبياء : 57 ] وهل الأصنام تُكَاد؟ أم أن المراد : لأكيدنكم في أصنامكم؟ فالأصنام كمخلوق من مخلوقات الله تُسبِّح لله ، وتشكر إبراهيم على هذا العمل .
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى حين تكلَّم بلسان الأحجار في غار حراء وغار ثور ، حيث كانت الحجارة تَغَارُ وتحسد حِراء؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يتعبَّد به قبل البَعْثة ، فحِراء شاهدُ تعبُّد لرسول الله يزهو بهذه الصحبة ، فلما نزل رسول الله بغار ثور عند الهجرة فرح ثور؛ لأنه صار في منزلة حراء :
كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرَى ... الرُّوحَ أميناً يغزُوك بالأَنْوارِ
فَحِرَاءُ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً ... بهِمَا تشفع لدولةِ الأحْجَارِ
عَبَدُونَا ونحْنُ أعبَدُ ... لله مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِ
تخِذُوا صَمْتَنَا عليْنَا دَليلاً ... فَغدَوْنا لَهُمْ وقُودَ النَّارِ
لأن الله قال : { وَقُودُهَا الناس والحجارة . . . } [ البقرة : 24 ] .
قَدْ تَجَنَّوْا جَهْلاً كما قَدْ ... تَجنَّوْهُ علَى ابْنِ مرْيَم والحَوارِي
لِلْمُغَالِي جَزَاؤُهُ والمغالَي فِيهِ ... تٌنجيهِ رَحْمةُ الغَفَّار
إذن : فتحطيم الأصنام ليس كَيْداً للأصنام ، بل لعُبَّادها الذين يعتقدون فيها أنها تضرُّ وتنفع ، وكأن إبراهيم - عليه السلام - يقيم لهؤلاء الدليل على بطلان عبادة الأصنام ، الدليل العملي الذي لا يُدْفَع وكأن إبراهيم يقول بلسان الحال : حين أُكسِّر الأصنام إنْ كنتُ على باطل فليمنعُوني وليردّوا الفأْسَ من يدي ، وإنْ كنتُ على حق تركوني وما أفعل .
وقوله تعالى : { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } [ الأنبياء : 57 ] أي : بعد أنْ تنصرفوا عنها . يعني : على حين غَفْلة منهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً . . . } .
(1/5891)

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
ونلحظ هنا أن السياق القرآني يحذف ما يُفهم من الكلام ، كما في قصة سليمان - عليه السلام - والهدهد : { اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ] وحَذْف ما كان من الهدهد ورحلته إلى بلقيس ، وإلقائه الكتابَ إليها ، وأنها أخذتْه وعرضتْه على مستشاريها : { قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] .
ومعنى { جُذَاذاً . . . } [ الأنبياء : 58 ] أي : قطعاً متناثرة وحطاماً ، بعد أنْ كانت هياكل مجتمعة { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ . . } [ الأنبياء : 58 ] أي : أنه تركه فلم يحطمه ، وقد كانوا يضعون الأصنام على هيئة خاصة و ( ديكور ) ، بحيث يكون الكبير في الوسط ، وحوله الأصنام الصغيرة يعني : كأن له سيطرةً عليهم ومنزلة بينهم ، وكانوا يضعون في عينه الزبرجد ، حتى يُخيَّل لمَنْ يراه أنه ينظر إليه .
وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 58 ] فيسألونه عَمَّا حدث لأولاده الآلهة الصغار ، ولماذا لم يدافع عنهم خاصةً وقد وجدوا الفأْس على كتفه؟ { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا . . . } .
(1/5892)

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
أي : لما ذهبوا إلى المعبد الذي يعبدون فيه أصنامهم وجدوها مُحطمة فقالوا : { مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 59 ] لأنه اعتدى على الآلهة السليمة وكسَّرها .
إذن : هذه الآلهة لا تستطيع أنْ تدفع عن نفسها الضر ، وكان عليهم أنْ يتنبّهوا إلى هذه المسألة ، كيف يقبَلُون عبادتها ، ولو أوقعت الريحُ أحدهم لكسرته ، فيحتاج الإله إلى مَنْ يُصلِح ذراعه ويُرمِّمه ويُقيمه في مكانه ، فأيُّ ألوهية هذه التي يدافعون عن حقوقها؟!
(1/5893)

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
أي : تطوع بعضهم وقالوا هذا ، وكان للقوم يوم مُحدّد يذهبون فيه إلى معبدهم ومكان أصنامهم ، ويأخذون طعامهم وشرابهم ، ويبدو أنه كان يَوْمَ عيد عندهم ، وقد استعدّ آزر لهذا اليوم ، وأراد أنْ يأخذ معه إبراهيم لعلَّ الآلهة تجذبه فيهتدي وينصرف عَمَّا هو فيه .
لكن إبراهيم عليه السلام ادّعى أنه مريض ، لا يستطيع الخروج معهم ، فقال { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] وعندها عزم إبراهيم على تحطيم أصنامهم وقال : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } [ الأنبياء : 57 ] سمعه بعض القوم فأخبرهم بأمره .
{ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ . . . } [ الأنبياء : 60 ] والذكْر هنا يعني بالشر بالنسبة لهم ، { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] يعني : اسمه إبراهيم ، أو حين نناديه نقول : يا إبراهيم .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ . . . } .
(1/5894)

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
ومعنى { على أَعْيُنِ الناس . . . } [ الأنبياء : 61 ] يعني : على مَرْأىً منهم ليشاهدوه بأعينهم { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } [ الأنبياء : 61 ] أي : يشهدون ما نُوقِعه به من العذاب حتى لا يجترئ أحد آخر أنْ يفعل هذه الفِعْلة ، ويكون عبرةً لغيره . { قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ . . . } .
(1/5895)

قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
هنا أيضاً كلام محذوف : فأتَوْا به ، ثم سألوه هذا السؤال ، والاستفهام { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا } [ الأنبياء : 62 ] استفهام عن الفاعل؛ لأن الفعلَ وضاح لا يحتاج إلى استفهام؛ لذلك لم يقُلْ : أفعلتَ هذا يا إبراهيم ، بل اهتم بالفاعل : { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا . . } [ الأنبياء : 62 ] كما تقول : أبنيتَ الدار التي كنت تنوي بناءها؟ فهذا استفهام عن الفِعْل ، إنما أأنت بنيت الدار ، فالمراد الفاعل . { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ . . . } .
(1/5896)

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
وكأنه يريد أنْ ينتزعَ منهم الإقرار بأن هذا الكبير لا يفعل شيئاً ، فيُواجههم : فلماذا - إذن - تعبدونهم؟
وقَوْل إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا . . . } [ الأنبياء : 63 ] فيه توبيخ وتبكيت لهم ، حيث رَدَّ الأمر إلى مَنْ لا يستطيعه ولا يتأتّى منه ، وقد ضرب الزمخشري - رحمه الله - مثلاً لذلك برجل جميل الخطِّ ، وآخر لا يُحسِن الكتابة ، فيرى الأخيرُ لوحة جميلة ، فيقول للأول : أأنت كاتب هذه اللوحة؟ فيقول : لا بل أنت الذي كتبتَها!! تبكيتاً له وتوبيخاً .
ثم يُصرِّح إبراهيم لهم بما يريد : { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 ] وهم لن يسألوهم؛ لأنهم يعرفون حقيقتهم . { فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ . . . } .
(1/5897)

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
أي : تنبّهوا وعادوا إلى عقولهم ، ونطقوا بالحق : { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } [ الأنبياء : 64 ] يعني : بعبادتكم هذه الأصنام ، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضرُّ ، ولا ترى ولا تتكلم .
هكذا واجهوا أنفسهم بهذه الحقيقة وكشفوا عن بطلان هذه العبادة ، لكن هذه الصحوة ستكون على حسابهم ، وخسارتهم بها ستكون كبيرة ، هذه الصحوة ستُفقِدهم السُّلْطة الزمنية التي يعيشون في ظلها ، وينتفعون من ورائها بما يُهدَي للأصنام؛ لذلك سرعان ما يتراجعون ويعودون على أعقابهم بعد أن غلبهم الواقع وتذكَّروا ما تجرُّه هذه الصحوة . { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ . . . } .
(1/5898)

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
فبعد أنْ جابهوا أنفسهم بالحق { نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ . . . } [ الأنبياء : 65 ] والنكسة : أن الأعلى يأتي في الأسفل ، وأنتم تعلمونها طبعاً!! ورجعوا يقولون له نفس حجته عليهم : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } [ الأنبياء : 65 ] وهذا هو التغفيل بعينه .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ . . . } .
(1/5899)

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
يعني : لا ينفعكم بشيء إنْ عبدتموه ولا يضرّكم بشيء إنْ تركتم عبادته . { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ . . . } .
(1/5900)

أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
أفٍّ : اسم فعل بمعنى أتضجر ، فليس اسماً ، ولا فعلاً ، ولا حرفاً ، إنما ( أف ) اسمٌ مدلوله فعل ، ففيه من الاسمية ، وفيه من الفعلية؛ لذلك يسمونها " الخالفة " لأن كلام العرب يدور على اسم أو فعل أو حرف ، مثل هيهات : اسم فعل بمعنى بَعُدَ . فإبراهيم - عليه السلام - يعبِّر بهذه الكلمة ( أُفٍّ ) عن ضيقه وتضجُّره ممَّا يفعل قومه من عبادة الأصنام من دون الله . { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا . . . } .
(1/5901)

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
ونلحظ قولهم { حَرِّقُوهُ . . } [ الأنبياء : 68 ] بالتضعيف الدالّ على المبالغة ، ولم يقولوا مثلاً : احْرٍقوه ، وقد اجتمعوا على هذا الفعل فبنَوْا بناءً وضعوا فيه النار ، ومكثوا أربعين يوماً يسجرونها بكل ما يمكن أن يشتعل ، وبذلك اشتدت حرارة النار ، حتى إن الطير الذي يمرُّ فوق هذه النار كان يسقط مشوياً من شدة حرها .
والدليل على ذلك أنهم لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار لم يستطيعوا الاقتراب منها لشدة لَفْحها ، فصنعوا له منِجنيقاً لِيُلْقُوه به في النار من بعيد .
وقولهم : { وانصروا آلِهَتَكُمْ . . . } [ الأنبياء : 68 ] حسب اعتقادهم كأن المعركةَ بين إبراهيم والآلهة ، والحقيقة أن الآلهة التي يعبدونها مع إبراهيم وليست ضده ، فالمعركة - إذن - بين إبراهيم وبين عُبَّاد الأصنام .
وقولهم : { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 68 ] يعني : إنْ فعلتم شيئاً بإبراهيم فَحرِّقوه .
ثم يقول الحق سبحانه عن إنجائه لإبراهيم - عليه السلام - من هذه المَحْرقَة : { قُلْنَا يانار كُونِي . . . } .
(1/5902)

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
جاء هذا الأمر من الحق الأعلى سبحانه؛ ليخرق بالمعجزة نواميس الكون السائدة ، ولا يخرق الناموسَ إلا خالقُ الناموس ، كما قلنا في قصة موسى عليه السلام : الماء قانونه السيولة والاستطراق ، ولا يسلبه هذه الخاصية إلا خالقه؛ لذلك فَرَقه لموسى فُرْقاناً - كما قلنا - كلُّ فِرْق كالطَّوْد العظيم ، فلا يُعطّل قانون الأشياء إلا خالقها؛ لأن الأشياء لم تُخلق لتكون لها القدرة على قيُّومية نفسها ، بل مخلوقة تُؤدِّي مهمة ، والذي خلقها للمهمة هو القادر أنْ يسلبَها خواصّها .
وفَرْق بين فِعْل العبد وفِعْل الحق سبحانه : فلو أنَّ في يدك مسدساً ، وأنت تُحسِن التصويب ، وأمامك الهدف ، ثم أطلقتَ تجاه الهدف رصاصة ، أَلَكَ تحكُّمٌ فيها بعد ذلك؟ أيمكن أنْ تأمرها أن تميلَ يميناً أو شمالاً؟
لكن الحق سبحانه يتحكّم فيها ، ويُسيِّرها كيف يشاء ، فالحق سبحانه خلق النار وخلق فيها خاصية الإحراق ، وهو وحده القادر على سَلْب هذه الخاصية منها ، فتكون ناراً بلا إحراق ، فليس للنار قيومية بذاتها .
لذلك يقول البعض : بمجرد أنْ صدر الأمر : { يانار كُونِي بَرْداً وسلاما . . . } [ الأنبياء : 69 ] انطفأت كل نار في الدنيا ، فلما قال : { على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] أصبح الأمر خاصاً بنار إبراهيم دون غيرها ، فاشتعلت نيران عدا هذه النار . ونلحظ أن الحق سبحانه قيَّد بَرْداً بسلام؛ لأن البرد المطلق يؤذي .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً . . . } .
(1/5903)

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
والمراد بالكيد هنا مسألة الإحراق ، ومعنى الكيد : تدبير خفيّ للعدو حتى لا يشعر بما يُدبَّر له ، فيحتاط للأمر ، والكيد يكون لصالح الشيء ، ويكون ضده ، ففي قوله تعالى : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ . . . } [ يوسف : 76 ] .
أي : لصالحه فلم يقُلْ : كِدْنا يوسف إنما كِدْنا له ، وقالوا في الكيد : إنه دليل ضعف وعدم قدرة على المواجهة ، فالذي يُدبِّر لغيره ، ويتآمر عليه خُفْية ما فعل ذلك إلاّ لعدم قدرته على مواجهته .
لذلك يقولون : أعوذ بالله من قبضة الضعيف ، فإنِّي قويٌّ على قبضة القوى . فإذا ما تمكّن الضعيف من الفرصة لا يدعها؛ لأنه لا يضمنها في كل وقت ، أما القوى فواثق من قوته يستطيع أن ينال خَصْمه في أيِّ وقت ، ومن هنا قال الشاعر :
وَضَعِيفَةً فَإِذَا أَصَابَتْ فُرْصَة ... قتلتْ كَذلِكَ قْدْرَةُ الضِّعفَاءِ
لذلك استدلوا على ضعف النساء بقوله تعالى : { ِإِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] وما دام أن كيدهن عظيم ، فضعفُهن أيضاً عظيم أو حتى أعظم .
ثم قول تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين } [ الأنبياء : 70 ] والأخسرون جمع أخسر ، على وزن أفعل؛ ليلد على المبالغة في الخُسْران ، وقد كانت خسارتهم في مسألة حَرْق إبراهيم من عِدَّة وجوه : أولاً أن إبراهيم عليه السلام لم يُصِبْه سوء رغم إلقائه في النار ، ثم إنهم لم يَسْلَموا من عداوته ، وبعد ذلك سيجازون على فِعْلهم ، هذا في الآخرة ، فأيُّ خُسْران بعد هذا؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى . . . } .
(1/5904)

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{ وَنَجَّيْنَاهُ . . . } [ الأنبياء : 71 ] يعني : كان هناك شرٌّ يصيبه ، وأذىً يلحق به ، فنجّاه الله منه ، وهذه النجاة مستمرة ، فبعد أنْ أنجاه الله من النار أنجاه أيضاً مِمَّا تعرَّض له من أَذَاهم .
{ وَلُوطاً . . . } [ الأنبياء : 71 ] وكان لوط عليه السلام ابنَ أخ إبراهيم { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 71 ] أي : قلنا لإبراهيم : اترك هذه الأرض - وهي أرض بابل من العراق - واذهب إلى الأرض المقدسة بالشام ، وخُذْ معك ابن أخيك ، فبعد أنْ نجاهما الله لم يتركهما في هذا المكان ، بل اختار لهما هذا المكان المقدس .
والأرض حينما تُوصَف يُراد بها أيضاً مُحدَّدة مخصوصة ، فإذا لم تُوصَف فتطلق على الأرض عامة إلا أن يعينها سياق الحال ، فمثلاً لما قال أخو يوسف : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي . . . } [ يوسف : 80 ] فالسياق يُوضِّح لنا أنها أرض مصر .
لكن قوله : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض . . . } [ الإسراء : 104 ] فلم تُعيَّن ، فدلَّ ذلك على أنها الأرض عامة ، اسكنوا كُلَّ الأرض ، يعني : تبعثروا فيها ، ليس لكم فيها وطن مستقل ، كما قال في آية أخرى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً . . . } [ الأعراف : 168 ] .
فإذا أراد الله تجمعوا من الشتات { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة . . . } [ الإسراء : 104 ] أي : المرة التي سينتصرون فيها { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] وهكذا يتجمَّعون في مكان واحد ، فيسْهُلُ القضاء عليهم .
ومعنى { بَارَكْنَا فِيهَا . . . } [ الأنبياء : 71 ] البركة قد تكون مادية أو معنوية ، وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات ، أو بركة معنوية ، وهي بركة القِيَم في الأرض المقدسة ، وهي أرض الأنبياء ، ومعالم النبوة والرسالات .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ . . . } .
(1/5905)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
يعطينا الحق سبحانه هنا لقطةً من قصة إبراهيم لكن بعيدة عَمّا نحن بصدده من الحديث عنه ، فقد وهب الله لإبراهيم إسحق لما دعا الله قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } [ الصافات : 100 ] مع أنه كان عنده إسماعيل ، لكن إسماعيل من هاجر ، وقد تحركت مشاعر الغَيْرة لدى سارة ، ووجدت في نفسها ما تجده النساء في مسألة الولد ، وكيف يكون لإبراهيم ولد من هاجر التي زوَّجتها له دون أن يكون لها مِثْله .
لذلك ألحَّتْ سارة على إبراهيم أن يدعو الله أنْ يرزقها الولد ، فدعا إبراهيم ربه ، وأراد الحق سبحانه أن يجيب إبراهيم ، وأن يُحقِّق له له ما ترجوه زوجته ، لكن أراد أن يعطيه هذا الولد في ملحظ عقدي يُسجَّل ولا يزول عن الأذهان أبداً ، ويظلُّ الولد مقترناً بالحادثة .
فبداية قصة إسحق لما أمر الله نبيه إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده إسماعيل ، فأخبره برؤياه : { يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى . . . } [ الصافات : 102 ] .
أراد إبراهيم أنْ يُشرك ولده معه في هذا الاختبار ، وألاَّ يأخذه على غِرَّة حتى لا تتغير نفسه نحو أبيه فيكرهه وهو لا يعلم ما حدث ، وأراد أيضاً ألاَّ يحرم ولده من الثواب والأجر على هذه الطاعة وهذا الصبر على البلاء .
أما إسماعيل فمن ناحيته لم يعارض ، ولم يقُلْ مثلاً : يا أبت هذه مجرد رؤيا وليست وحياً ، وكيف نبني عليها ، بل نراه يقول : { ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] ولم يقُلْ : أفعل ما تقول ، فما دام الأمر من الله فافعل ما أمرتَ به { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] .
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا . . . } [ الصافات : 103 ] أي : هما معاً إبراهيم وإسماعيل { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . . . } [ الصافات : 103 ] يقال : تله يعني جعل رأسه على التل ، وهو المكان المرتفع من الأرض ، و { لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] يعني : جعل جبهته مباشرة للأرض ، بحيث يذبحه من قفاه ، وهذا هو الذَّبْح العاجل المثمر .
{ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ . . . } [ الصافات : 104-105 ] وما دُمْتَ صدّقْتَ الرؤيا ، فلكَ جزاء الإحسان؛ لأنك أسرعتَ بالتنفيذ مع أنها رؤيا ، كان يمكنه أن يتراخى في تنفيذها ، لكنه بمجرد أن جاء الأمر قام وولده بتنفيذه .
إذن : الحق سبحانه لا يريد من عبده إلا أنْ يُسلِّم بقضائه ، وصدق القائل :
سَلِّم لربِّكَ حُكْمَهُ فلحكمةٍ يَقْضِي ... ه حتى تستريح وتنْعماً
واذْكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْحِ ابنهِ ... إذ قال خالقه فلما أسلمَا
لذلك لا يرفع الله قضاءٌ يقضيه على خلقه إلا إذا رُضيَ به ، فلا أحدَ يجبر الله على شيء ، وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثَل الأعلى - بالأب حين يدخل ، فيجد ولده على أمر يكرهه ، فيزجره أو يضربه ضربة خفيفة ، تُعبِّر عن غضبه ، فإنْ خضع الولد لأبيه واستكان عاد الوالد عطوفاً حانياً عليه وربما احتضنه وصالحه ، أمّا لو عارض الولد وتبجَّح في وجه والده فإنه يشتد عليه ويُضاعِف له العقوبة ، وتزداد قسوته عليه .
(1/5906)

وهكذا الحال مع إبراهيم { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 107 ] ففدينا له إسماعيل ، ليس هذا وفقط بل { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ . . . } [ الصافات : 112 ] ثم زاده بأنْ جعل إسحق أيضاً نبياً مثل إسماعيل ، هذه هي مناسبة الكلام عن إسحق ويعقوب .
هنا يقول تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً . . } [ الأنبياء : 72 ] والنافلة : الزيادة ، وقط طلب من ربه ولداً من الصالحين ، فبشَّره الله بإسحق ومن بعده يعقوب وجميعهم أنبياء؛ لذلك قال { نَافِلَةً . . . } [ الأنبياء : 72 ] يعني : أمر زائد عما طلبتَ؛ فإجابة الدعاء بإسحق ، والزيادة بيعقوب ، وسرور الإنسان بولده كبير ، وبولد ولده أكبر ، كما يقولون : " أعز من الوِلْد وِلْد الولد " والإنسان يضمن بقاء ذِكْره في ولده ، فإن جاء ولد الولد ضَمِن ذِكْره لجيل آخر .
والهبة جاءت من الله؛ لأن المرأة لم تكُنْ صالحة للإنجاب ، بدليل قوله تعالى : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 29 ] فردَّ عليها : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله . . . } [ هود : 73 ] أي : أنه سبحانه قادر على كل شيء .
ويقولالحق سبحانه : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } [ الأنبياء : 72 ] فالحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية ، ومبالغة في الإكرام ، ثم يمتن الله على الجميع بأن يجعلهم صالحين ، ويجعلهم أنبياء ، كما قال في آية أخرى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] . { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا . . . } .
(1/5907)

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
أئمة : ليس المقصود بالإمامة هنا السُّلْطة الزمنية من باطنهم ، إنما إمامة القدوة بأمر الله { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا . . } [ الأنبياء : 73 ] فهم لا يصدرون في شيء إلا على هُدًى من الله .
وقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات . . . } [ الأنبياء : 73 ] أي : يفتح لهم أبواب الخير ويُيسِّر لهم ظروفه؛ لأن الموفّق الذي يتوفر لديه الاستعداد للخير يفتح الله له مصارف الخير ويُعينه عليه .
{ وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة . . } [ الأنبياء : 73 ] وإقامة الصلاة هي : عَيْن الخيرات كلها؛ لأن الخيرات نعمة ، لكن إقامة الصلاة حضرة في جانب المنعم سبحانه ، فالصلاة هي خَيْر الخَيْر .
ومع ذلك نجد مَنْ يتشاغل عن الصلاة ، ويعتذر بالعمل وعدم الوقت . . الخ وكلها أعذار واهية ، فكنتُ أقول لبعض هؤلاء : بالله عليك لو احتجتَ دورة المياه أتجد وقتاً أم لا؟ يقول : أجد الوقت ، فلماذا - إذن - تحتال في هذه المسألة وتدبر الوقت اللازم ، ولا تحتال في وقت الصلاة؟
وربك عز وجل لو علم منك أنك تُجيب نداءه لَسهَّل لك الإجابة وقد رأينا الحق سبحانه يُسخِّر لك حتى الكافر ليعينك على أمر الصلاة .
ففي إحدى سفرياتنا إلى بلجيكا رأينا أن أولاد المسلمين هناك لا يدرسون شيئاً من الدين الإسلامي في المدارس ، بل يُدرِّسون لهم الدين المسيحي ، فطلبنا مقابلة وزير المعارف عندهم ، وتكلمنا معه في هذا الأمر ، وكانت حُجَّتنا أنكم قبلتُم وجود هؤلاء المسلمين في بلادكم لحاجتكم إليهم ، وإسهامهم في حركة حياتكم ، ومن مصلحتكم أن يكون عند هؤلاء المسلمين دين يراقبهم قبل مراقبتكم أنتم ، وأنتم أوّلُ المستفيدين من تدريس الدين الإسلامي لأولاد المسلمين .
وفعلاً في اليوم التالي أصدروا قراراً بتدريس الدين الإسلامي في مدارسهم لأولاد المسلمين؛ ذلك لأن الإسلام دين مثمر ، ودين إيجابي تضمنه وتأمنه .
فلأهمية الصلاة ذكرها الحق سبحانه في أول أفعال الخيرات ، وفي مقدمتها ، فقمّة الخيرات أنْ تتواجد مع الإله الذي يهبُكَ هذه الخيرات .
{ وَإِيتَآءَ الزكاة . . . } [ الأنبياء : 73 ] والزكاة تطبيق عمليٌّ للاستجابة لله حين تُخرج جزءاً من مالك لله ، والصلاة دائماً ما تُقرَن بالزكاة ، فالعلاقة بينهما قوية ، فالزكاة تضحية بجزء من المال ، والمال في الحقيقة نتيجة العمل ، والعمل فرع الوقت ، أما الصلاة فهي تضحية بالوقت ذاته .
وقوله تعالى : { وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 73 ] أي : مطيعين لأوامرنا ، مجتنبين لنواهينا ، فالعبادة طاعة عباد لمعبوده .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً . . . } .
(1/5908)

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{ وَلُوطاً . . . } [ الأنبياء : 74 ] جاءتْ منصوبة؛ لأنها معطوفة على قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ . . . } [ الأنبياء : 51 ] وأيضاً : آتينا لوطاً رشده . والحُكْم : يعني الحكمة ، وأصله من الحكمة التي تُوضَع في حنك الفَرَس؛ لأن الفَرس قد يشرد بصاحبه أو يتجه إلى جهة غير مرادة لراكبه؛ لذلك يوضع في حنكه اللجام أو الحَكمة ، وهي قطعة من الحديد لها طرفان ، يتم توجيه الفرس منهما يميناً أو شمالاً .
ومن ذلك الحِكْمة ، وهي وَضْع الشيء في موضعه ، ومنه الحُكْمْ ، وهو : وضع الحقَ في مَوْضعه من الشاكي أو المشكو أي : الخصمين .
{ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً . . } [ الأنبياء : 74 ] وفرْقٌ بين العلْم والحكم : العلم أن تُحقِّق وتعرف ، أمَّا الحكم فسلوك وتطبيق لما تعلم ، فالعلم تحقيق والحكم تطبيق .
ثم يقول تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث . . . } [ الأنبياء : 74 ] فقد نجَّى الله إبراهيم عليه السلام من النار ، وكذلك نجَّى لوطاً من أهل القرية التي كانت تعمل الخبائث ، والخبائث في قوم لوط معروفة .
لذلك يقول بعدها : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } [ الأنبياء : 74 ] ورجل السَّوءْ هو الذي يسوء كل مَنْ يخالطه ، لا يسوء البعض دون البعض ، فكل مَنْ يخالطه أو يحتكّ به يسؤوه .
والفسْق : الخروج عن أوامر التكليف ، وهذا التعبير ككُلِّ التعابير القرآنية مأخوذ من واقعيات الحياة عند العرب ، فأصل الفِسْق من فَسقَتِ الرُّطبة عن قشرتها حين تستوي البلحة فتنفصل عنها القشرة حتى تظهر منها الرُّطبة ، وهذه القشرة جُعلَتْ لتؤدي مهمة ، وهي حِفْظ الثمرة ، كذلك نقول في الفسق عن المنهج الديني الذي جاء ليؤدي مهمة في حياتنا ، فمَنْ خرج عنه فهو فاسق .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ . . . } .
(1/5909)

وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
كيف؟ ألسنا جميعاً في رحمة الله؟ قالوا : لأن هناك رحمة عامة لجميع الخَلْق تشمل حتى الكافر ، وهناك رحمة خاصة تعدي الرحمة منه إلى الغير ، وهذه يعنُون بها النبوة ، بدليل قول الله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] فردَّ الله عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ . . . } [ الزخرف : 32 ] أي : النبوة : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا . . } [ الزخرف : 32 ] .
فكيف يقسمون رحمة الله التي هي النبوة ، وهي قمة حياتهم ، ونحن نقسم لهم أرزاقهم ومعايشهم في الدنيا؟
فمعنى { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ . . . } [ الأنبياء : 75 ] أي : في رَكْب النبوة { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } [ الأنبياء : 75 ] أي : للنبوة ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، لكن قمة هذه الرحمة جاءت في النبي الخاتم والرسول الذي لا يُستْدرك عليه برسول بعده؛ لذلك خاطبه ربه بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] .
فالرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا رحمة لأممهم ، أمّا محمد فرحمة لجميع العالمين .
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن رسول آخر من أولى العزم من الرسل : { وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ . . . } .
(1/5910)

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
قوله تعالى : { وَنُوحاً . . . } [ الأنبياء : 76 ] مثلما ثلنا في { وَلُوطاً . . . } [ الأنبياء : 74 ] أي : آتيناه هو أيضاً رُشْده { إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ . . . } [ الأنبياء : 76 ] والنداء في حقيقته : طلبُ إقبال ، فإنْ كان من أعلى لأدنى فهو نداء ، وإنْ كان من مُسَأوٍ لك فهو التماس ، فإنْ كان من أدنى لأعلى فهو دعاء ، فحين تقول يا رب : الياء هنا ليست للنداء بل للدعاء .
وحين تمتحن تلميذاً تقول له : أعرب : رَبِّ اغفر لي ، فلو كان نبيهاً يقول : ربّ مدعو . والتقدير يا رب ، ومن قال : منادى نسامحه لأنه صحيح أيضاً ، فالياء في أصلها للنداء ، لكنه غير دقيق في الأداء . كذلك في : اغفر لي ، إنْ قال فِعْل أمر نعطيه نصف الدرجة ، أما إن قال دعاء فَلَهُ الدرجة الكاملة .
فماذا قال نوح عليه السلام في ندائه؟ المراد قوله : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] فاستجاب الله لنبيه نوح عليه السلام : { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } [ الأنبياء : 76 ] والمراد بالكرب ما لبثه نوح في دعوة قومه من عمر امتد ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وما تحمَّله في سبيل دعوته من عَنَتٍ ومشقّة قال الله فيها : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } [ نوح : 7-9 ] .
ثم لما أمره الله بصناعة الفُلك أخذوا يسخرون منه : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ . . } [ هود : 38 ]
إذن : استجاب الله دُعَاءه ونداءه { فاستجبنا لَهُ . . . } [ الأنبياء : 76 ] وفي موضع آخر : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون } [ الصافات : 75 ] فوصف الحق سبحانه إجابته لنوح ب ( نِعْم ) الدالة على المدح .
فهل يعني ذلك أن هناك مَنْ يكون بِئْس المجيب؟ قالوا : نعم إذا سألته شيئاً فأجابك إليه وهو شَرٌّ لك ، أمَّا الحق سبحانه فهو نِعْم المجيب؛ لأنه لا يُجيبك إلا بما هو صالح ونافع لك ، فإنْ كان في دعائك شَرٌّ ردَّه لعلمه سبحانه أنه لن ينفعك .
وكأن الحق الأعلى سبحانه يقول لك : أنا لستُ موظفاً عندك ، أجيبك إلى كُلِّ ما تطلب ، إنما أنا قيُّوم عليك ، وقد تدعو بما تظنّه خيراً لك ، وأعلم بأزلية عِلْمي أن ذلك شر لا خيرَ فيه ، فيكون الخير لك أَلاَّ أجيبك؛ لأنني نِعْمَ المجيب .
وهَبْ أن الله تعالى يجيب كُلاً منّا إلى ما يريد ، فكيف حال الأم التي تغضب مثلاً من وحيدها ، وفي لحظة الغضب والثورة تدعو عليه فتقول مثلاً : ( إلهي أشرب نارك ) ؟ فالحق - تبارك وتعالى - حين يردُّ مِثْل هذا الدعاء هو نِعْم المجيب؛ لأنه نِعْم المانع .
لذلك يقول تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] أي : يدعو ويُلِحُّ في الدعاء بما يظنُّه خَيْراً ، وهو ليس كذلك . { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم . . . } .
(1/5911)

وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
مازالت الآيات تقصُّ علينا طرفاً مُوجزاً من رَكْب النبوات ، ونحن في سورة الأنبياء ، وحينما نتأمل هذه الآية نجد أن الله تعالى يُعذَّب بالماء كما يُعذِّب بالنار ، مع أنهما ضِدَّانِ لا يلتقيان ، فلا يقدر على هذه المسألة إلا خالقهما سبحانه وتعالى .
وقصة غَرَق قوم نوح وأهل سبأ بعد انهيار سَدِّ مأرب أحدثَا عقدة عند أهل الجزيرة العربية ، فصاروا حين يروْنَ الماء يخافون منه ويبتعدون عنه ، حتى إذا احتاجوا الماء يذهبون إلى مكان بعيد يملأون قِرَبهم ، ذلك لعلمهم بخطر الطوفان ، وأنه لا يُصَدُّ ولا يردُّه عنهم شيء .
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن نبيين من أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ . . . } .
(1/5912)

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
يحكمان تعني أن هناك خصومة بين طرفين ، والحرْث : إثارة الأرض وتقليب التربة؛ لتكون صالحة للزراعة ، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضاً في قوله تعالى : { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل . . . } [ البقرة : 205 ] .
والحرْث ذته لا يهلك ، إنما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار ، فسمَّى الزرع حَرْثاً؛ لأنه ناشيء عنه ، كما في قوله تعالى أيضاً : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ . . . } [ آل عمران : 117 ] .
لكن ، لماذا سَمَّي الحرْث زَرْعاً ، مع أن الحَرْث مجرد إعداد الأرض للزراعة؟ قالوا : لُيبيِّن أنه لا يمكن الزرع إلا بحرْث؛ لأن الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض ، وهذه العملية تساعد على إدخال الهواء للتربة وتجفيفها من الماء الزائد؛ لأن الأرض بعد عملية الريِّ المتكررة يتكوَّن عليها طبقة زَبَدية تسدُّ مسَام التُّربة ، وتمنع تبخُّر المياه الجوفية التي تُسبِّب عطباً في جذور النبات .
لذلك ، ليس من جَوْدة التربة أن تكون طينية خالصة ، أو رملية خالصة ، فالأرض الطينية تُمسك الماء ، والرملية يتسرَّب منها الماء ، وكلاهما غير مناسب للنبات ، أما التربة الجيدة ، فهي التي تجمع بين هذه وهذه ، فتمسح للنبات بالتهوية اللازمة ، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته .
لذلك سَمَّي الزرْع حَرْثاً؛ لأنه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته ، وليُلفت أنظارنا أنه لا زَرْع بدون حَرْث ، كما جاء في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 63-64 ] .
ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله في الكون ، هي أنك لا بُدَّ أن تعمل لتنال ، فربُّك وخالقك قدَّم لك العطاء حتى قبل أنْ تُوجد ، وقبل أن يُكلِّفك بشيء ، ومكثت إلى سنِّ البلوغ ، تأخذ من عطاء الله دون أنْ تُحاسبَ على شيء من تصرفاتَك .
وكذلك الأمر في الآخرة سيعطيك عطاءً لا ينتهي ، دون أن تتعب في طلبه ، هذا كُلُّه نظير أنْ تطيعه في الأمور الاختيارية في سِنِّ التكليف .
إذن : لقد نِلْتَ قبل أن تعمل ، وستنال في الآخرة كذلك بدون أنْ تعمل ، فلا بُدَّ لك من العمل بين بدايتك ونهايتك لتنال الثمرة .
لذلك ، في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : " أَعْطُوا الأجير أجره قبل أنْ يجفَّ عَرَقُه " ما دام قد عمل فقد استحق الأجر ، والأمر كذلك في مسألة الحرث .
ثم يقول تعالى : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم . . . } [ الأنبياء : 78 ] هذه خصومة بين طرفين ، احتكما فيها لداود عليه السلام : رجل عنده زرع ، وآخر عنده غنم ، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزرع ، فاشتكى صاحبُ الزرع صاحبَ الغنم لداود ، فحكم في هذه القضية بأن يأخذَ صاحبُ الزرع الغنَم ، وربما وجد سيدنا داود أن الزرع الذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها .
فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان - عليه السلام - وكان في الحادية عشرة من عمره ، وعرف منهما حكومة أبيه في هذه القضية ، فقال : ( غير هذا أرفق بالفريقين ) فسمَّي حُكْم أبيه رِفْقاً ، ولم يتهمه بالجَوْر مثلاً ، لكن عنده ما هو أرفق .
(1/5913)

فلما بلغت مقالته لأبيه سأله : ما الرِّفق بالفريقين؟ قال سليمان : نعطي الغنم لصاحب الزرع يستفيد من لبنها وأصوافها ، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتى تعود كما كانت ، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه ، وصاحب الزرع زَرْعه .
ومعنى { نَفَشَتْ . . . } [ الأنبياء : 78 ] نقول : نفش الشيء أي : أخذ حَجْماً فوق حَجْمه ، كما لو أخذتَ مثلاً قطعة من الخبز أو البقسماط ووضعتَها في لبن أو ماء ، تلاحظ أنها تنتفش ويزداد حجمها نقول : انتفشت ، كما نقول لمن يأخذ حجماً أكثر من حجمه : " أنت نافش ريشك " .
وقوله تعالى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] أي مراقبين .
يقول الحق سبحانه : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا . . . } .
(1/5914)

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
فداود وسليمان - عليهما السلام - نبيان ، لكل منهما مكانته ، وقد أعطاهما الله حُكْماً وعلماً ، ومع ذلك اختلف قولهما في هذه القضية ، فما توصَّل إليه سليمان لا يقدح في عِلْم داود ، ولا يطعن في حُكْمه .
وما أشبه حُكْم كُلٍّ من داود وسليمان بمحكمة درجة أولى ، ومحكمة درجة ثانية ، ومحكمة النقْض ، ومحكمة الاستئناف ، وإياك أن تظن أن محكمة الاستئناف حين تردُّ قضاء درجة أولى أنها تطعن فيها .
فهذا مثل قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ . . . } [ الأنبياء : 79 ] فجاء بحكْم غير ما حكَم به أبوه؛ لذلك فالقاضي الابتدائي قد يحكم في قضية ، ويتم تأجيلها إلى أنْ يترقى إلى قاضي استئناف ، فيقرأ نفس القضية لكن بنظرة أخرى ، فيأتي حُكْمه غير الأول .
ثم يقول تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير . . . } [ الأنبياء : 79 ] حينما جمع السياق القرآني بين داود وسليمان أراد أنْ يُبيِّن لنا طَرفاً مِمَّا وهبهما الله ، فقوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ . . . } [ الأنبياء : 79 ] مظهر من مظاهر امتيازه ، وهنا يُبيِّن مَيْزةً لداود عليه السلام : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير . . . } [ الأنبياء : 79 ] .
والتسخير : قَهْر المسَخّرل على فعل لا يستطيع أنْ ينفكَّ عنه ، وليس مختاراً فيه ، ونلحظ هنا الارتقاء من الأَدْنى إلى الأعلى : أولاً : سخّر الجبال وهي جماد ، ثم الطير وهي أرْقَى من الجماد ، لكن إنْ تصوَّرْنا التسبيح من الطير؛ لأنه حَيٌّ ، وله روح ، وله حركة وصوت مُعبّر ، فكيف يكون التسبيح من الجبال الصماء؟
بعض العلماء حينما يستقبلون هذه الآية يأخذونها بظواهر التفسير ، لا بُعمْق ونظر في لُبِّ الأشياء ، فالجبال يروْنها جامدة ، ليس لها صوت مُعبّر كما للطير؛ لذلك يعجبون من القول بأن الجبال تُسبِّح ، فكيف لها ذلك وهي جمادات؟
لكن؛ ما العجب في ذلك ، وأنت لو قُمْتَ بمَسْح شامل لأجناس الناس الأرض ، واختلاف لغاتهم وألسنتهم وأشكالهم وألوانهم بحسْب البيئات التي يعيشون فيها ، فالناس مختلفون في مثل هذه الأمور متفقون فقط في الغرائز ، فالجوع والعطش والخوف والضحك والعواطف كلها غرائز مشتركة بين جميع الأجناس ، وهذه الغرائز المشتركة ليس فيها اختيار .
ألم تَرَ إلى قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] فما دام أنه سبحانه الذي يُضحِك ، والذي يُبكِي ، فلن نختلف في هذه الأمور .
فالكلام - إذن - من الأشياء التي يختلف فيها الناس ، وهذا الاختلاف ليس في صوت الحروف ، فالحروف هي هي ، فمثلاً حين ننطق ( شرشل ) ينطقها أهل اللغات الأخرى كذلك : شين وراء وشين ولام ، فنحن - إذن - متحدون في الحروف ، لكن نختلف في معاني الأشياء .
وقد يعزّ على بعض الحناجر أن تنطقَ ببعض الحروف بطبيعة تكوينها ، فغيْر العربي لا ينطق الضاد مثلاً ، فليس عندهم إلا الدال ، أما في العربية فعندنا فَرْق بين الدال المرقّقة والضاد المفخّمة ، وفرْق بين السين والثاء ، وبين الزاي والذال ، وبين الهمزة والعَيْن ، لذلك نجد غير العربي يقول في ( على ) : ألي ، فليس له قدرة على نُطْق العين ، وهو إنسان ناطق بلغة ومُتكلِّم .
(1/5915)

فإذا كنا - نحن البشر - لا يفهم بعضُنا لغاتِ بعض ، فهذا عربي ، وهذا إنجليزي ، وهذا فرنسي . . إلخ فإذا لم تتعلم هذه اللغة لا تفهمها .
ومعلوم أن اللغة بنت المحاكاة وبنت السماع ، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان ، والأبكم الذي لا يتكلم كان أصمَّ لا يسمع ، والطفل ينطق بما سمع ، فلو وُضِع الطفل الإنجليزي في بيئة عربية لنطق بالعربية . . وهكذا .
فلماذا نعجب حين لا نفهم لغة الطَّيْر أو لغة الجمادات ، وهي أشياء مختلفة عنّا تماماً ، فلا يعني عدم فَهْمِنا للغاتهم أنهم ليست لهم لغة فيما بينهم يتعارفون عليها ويُعبِّرون بها .
إذن : لا تستبعد أنْ يكونَ للأجناس الأَدْنى منك لغات يتفاهمون بها وأنت لا تفهمها ، بدليل أن الله تعالى أعطانا صورة من لغات الطير ، وهذه يعلمها مَنْ علَّمه الله ، كما امتنَّ الله على سليمان وعلَّمه لغة الطير ، ففهم عنها وخاطبها .
وقد حكة الحق سبحانه وتعالى عنه : { ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ . . . } [ النمل : 16 ] ولولا أن الله علَّمه لغة الطير ما عَلِمها .
وها هو الهدهد يقول لسليمان عليه السلام لما تفقَّد الطير ، ولم يجد الهدهد فتوعَّده : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] .
ونلحظ هنا دِقَّة سليمان - عليه السلام - في استعراض مملكته ، فلم يترك شيئاً حتى الهدهد ، ونلحظ أدبه في قوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } [ النمل : 20 ] فقد اتهم نظره وشَكَّ أولاً ، فربما الهدهد يكون موجوداً ، ولم يَرَهُ سليمان .
وانظر إلى قَوْل الهدهد للملك : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ . . . } [ النمل : 22 ] ثم معرفته الدقيقة بقضية التوحيد والعقائد : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله . . . } [ النمل : 24 ] .
ويعترض الهدهد على هذا الشرك ، ويردُّ عليه بشيء خاص به ، وبظاهر تُهمه : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض . . . } [ النمل : 25 ] .
فاختار الهدهد مسألة إخراج الخبْء؛ لأن منه طعامه ، فلا يأكل من ظاهر الأرض ، بل لا بُدَّ أنْ ينبشَ الأرض ، ويُخرِج خبأها ليأكله .
وكذلك النمل ، وهو أقلُّ من الهدهد ، فقد كان للنملة مع سليمان لغة ، وكلام ، وفَهْم عنها : { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا . . . } [ النمل : 19 ] .
إذن : كان الكلام للنمل ، لكنْ فَهمه سليمان؛ لذلك قال : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ . . . } [ النمل : 19 ] .
ذلك لأننا لا نفهم هذه اللغات إلا إذا فَهَّمنا الله إياها .
ومع هذا حينما وقف العلماء أمام هذه الآية { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ . . . } [ الأنبياء : 79 ] قالوا : يعني تسبيح دلالة ، فهي بحالها تدلُّ على الخالق سبحانه ، وليس المراد التسبيح على حقيقته ، وأَوْلى بهم أنْ يعترفوا لها بالتسبيح؛ لكنه تسبيح لا نفهمه نحن ، كما قال تعالى :
(1/5916)

{ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
والآن نرى في طموحات العلماء السَّعْي لعمل قاموس للغة الأسماك ولغة بعض الحيوانات ، ولا نستبعد في المستقبل عمل قاموس للغة الأحجار والجمادات ، وإلا فكيف ستكون ارتقاءات العلم في المستقبل؟ وهذه حقيقة أثبتها القرآن تنتظر أن يكتشفها العلم الحديث .
والمزيّة التي أعطاها الله تعالى لنبيه داود - عليه السلام - ليستْ في تسبيح الجبال؛ لأن الجبال تُسبِّح معه ومع غيره ، إنما الميزة في أنها تُردِّد معه ، وتوافقه التسبيح ، وتجاوبه ، فحين يقول داود : سبحان الله تردد وراءه الجبال : سبحان الله ، وكأنهم جميعاً ( كورس ) يردد نشيداً واحداً .
وليس معنى الجماد أنه جامد لا حياةَ فيه ، فهو جماد من حيث صورة تكوينه ، ولو تأمَلتَ المحاجر في طبقات الأرض لوجدت بين الأحجار حياة وتفاعلاً وحركةً منذ ملايين السنين ، ونتيجة هذه الحركة يتغير لَوْنُ الحجر وتتغير طبيعته ، وهذا دليل الحياة فيها ، انظر مثلاً لو دهنتَ الحجرة لَوْناً معيناً تراه يتغير مع مرور الزمن ، إذن : في هذه الجمادات حياة ، لكن لا ندركها .
وسبق أن أشرنا إلى أن الذين يقولون في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبَّح الحصى في يده . أن هذه المقولة غير دقيقة تحتاج إلى تنقيح عقلي ، فالحجر مُسبِّح في يد رسول الله ، وفي يد أبي جهل ، إذن : قل : إن المعجزة هي أن رسول الله سمع تسبيح الحصى في يده .
فما من شيء في كون الله إلا وله حياة تناسبه ، وله لغة يُسبِّح الله بها ، أدركناها أم لم ندركها؛ لأن الكلام فرع وجود حياة ، وكل شيء في الوجود له حياة ، فعلبة الكبريت هذه التي نستعملها يقول العلماء : إن بين ذراتها تفاعلات تكفي لإدارة قطار حول العالم . هذه التفاعلات دليل حركة وحياة .
ألم يقُلْ الحق سبحانه وتعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . . } [ القصص : 88 ] .
فكلُّ ما يقال له شيء - إلا وَجْه الله - هالك ، والهلاك يعني أن فيه حياةً؛ لأن الهلاك ضد الحياة ، كما جاء في قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . . } [ الأنفال : 42 ] .
فكُلُّ شيء في الوجود له حياة بقانونه ، وليس من الضروري أن تسمع الكلام حتى تعترف بوجوده ، فهناك مثلاً لغة الإشارة ، وهي لغة مفهومة ومُعبِّرة ، أَلاَ ترى مثلاً إلى الخادم ينظر إليه سيده مجرد نظرة يفهم منها ما يريد أنْ يُقدِّمه للضيف مثلاً .
البحارة لهم إشارات يتعارفون عليها ويتفاهمون بها . جهاز التلغراف لَوْن من ألوان الأداء ووسيلة من وسائل التفاهم ، إذن : الأداء والبيان ليس من الضروري أنْ يتمّ بالكلام المسموع ، إنما تتفاهم الأجناس ويُكلِّم بعضها بعضاً كلّ بلغته ، فإذا أراد الله أن يفيض عليك من إشراقاته أعطاك من البصيرة والعلم ما تفهم به فقدت غيرك من الأجناس .
(1/5917)

لذلك يقول تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ . . . } [ النور : 41 ] والتنوين هنا دالٌّ على التعميم ، فلكل شيء صلاته التي تناسبه ، وتسبيحه الذي يناسب طبيعته .
والحق - سبحانه وتعالى - حين يعرض قضية التسبيح والخضوع والقَهْر من المخلوقات جميعاً لله يأتي الكلام عاماً في كل الأجناس بلا استثناء ، إلا في الكلام عن الإنسان ، فإن التسبيح والخضوع خاصٌّ ببعض الناس .
اقرأ قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب . . . } [ الحج : 18 ] هكذا بلا استثناء ، أمّا في الإنسان ، فقال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] .
ثم يقول تعالى : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 79 ] نعم ، الحق سبحانه خالق كل شيء ، وفاعل كل شيء ، لكن مع ذلك يؤكد هذه الحقيقة حتى لا نتعجب من تسبيح الطير والجماد ، فالله هو الفاعل ، وهو المانح والمحرك .
ثم يقول الحق سبحانه عن داود عليه السلام : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ . . . } .
(1/5918)

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{ وَعَلَّمْنَاهُ . . . } [ الأنبياء : 80 ] العِلْم نقل قضية مفيدة في الوجود من عالم بها إلى جاهل بها ، والإنسان دائماً في حجة إلى معرفة وتعلُّم ، لأنه خليفة الله في الأرض ، ولن يؤدي هذه المهمة إلا بحركة واسعة بين الناس ، هذه الحركة تحتاج إلى فَهْم ومعرفة وتفاعل وتبادل معارف وثقافات ، فمثلاً تشكيل الحديد يحتاج إلى تسخين حتى يصير لَيِّناً قابلاً للتشكيل ، الماء لا بُدَّ أنْ نغليَه لكذا وكذا . . إلخ .
وقضايا العلم التي تحتاجها حركة الإنسان في الأرض نوعان : نوع لم يأمن الله فيه الخَلْق على أنفسهم ، فجاء من الله بالوحي ، حتى لا يكون للعقل مجال فيه ، ولا تختلف حوله الأهواء والرغبات ، وهذا هو المنهج الذي نزل يقول لك : افعل كذا ، ولا تفعل كذا .
لكن الأمور التي لا تختلف فيها الأهواء ، بل تحاول أن تلتقي عليها وتتسابق إليها ، وربما يسرق بعضهم من بعض ، هذه الأمور تركها الحق - سبحانه - لعمل العقول وطموحاتها ، وقد يلهم فيها بالخاطر أو بالتعلم ، ولو من الأدنى كما تعلَّم ابن آدم ( قابيل ) من الغراب ، كيف يواري سوأة أخيه ، فقال سبحانه : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ . . . } [ المائدة : 31 ] .
والقضية العلمية قد يكون لها مقدمات في الكون حين نُعمِل فيها العقل ، ونُرتِّب بعض الظواهر على بعض ، نتوصل منها إلى حقائق علمية ، وقد تأتي القضية العلمية بالتجربة ، أو بالخاطر يقذفه الله في قَلْب الإنسان .
فقوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ . . . } [ الأنبياء : 80 ] يصح أن نقول : كان هذا التعليم بالوحي ، أو بالتجربة أو الإلقاء في الرَّوْع ، وهذه الصنعة لم تكن معروفة قبل داود عليه السلام .
واللَّبوس : أبلغ وأحكم من اللباس ، فاللباس من نفس مادة ( لبس ) هي الملابس التي تستر عورة الإنسان ، وتقيه الحر والبرد ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر . . . } [ النحل : 81 ] .
أما في الحرب فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العادية التي نجدها في اللباس ، في الحرب نحتاج إلى ما يقينا البأس ، ويحمينا من ضربات العدو في الأماكن القاتلة؛ لذلك اهتدى الناس إلى صناعة الخوذة والدرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشري ، وتتمثل هذه في الرأس والصدر ، ففي الرأس المخ ، وفي الصدر القلب ، فإن سِلَمَتْ هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداوته وجَبْره .
إذن : اللبوس أبلغ وأكثر حماية من اللباس؛ لأن مهمته أبلغ من مهمة اللباس ، وكانت قبل داود مَلْساء يتزحلق السيف عليها ، فلما صنعها داود جعلها مُركَّبة من حلقات حتى ينكسر عليها السيف؛ لذلك قال تعالى بعدها : { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ . . . } [ الأنبياء : 80 ] أي : تحميكم في حَرْبكم مع عدوكم ، وتمنعكم وتحوطكم .
إذن : ألهمنا داود عليه السلام ، فأخذ يُفكِّر ويبتكر ، وكل تفكير في ارتقاء صَنْعه إنما ينشأ من ملاحظة عيب في صَنْعة سابقة ، فيحاول اللاحق تلافي أخطاء السابق ، وهكذا حتى نصلَ إلى شيء لا عَيْبَ فيه ، أو على الأقل يتجنب عيوب سابقة؛ لذلك يُسمُّونه ( آخر موديل ) .
(1/5919)

ثم يقول تعالى : { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } [ الأنبياء : 80 ] شاكرون على نعمة الله الذي يرعاكم ويحفظم في المآزق والمواقف الصعبة ، واختار سبحانه موقف البأس أمام العدو؛ ليعطينا إشارة إلى ضرورة إعداد المؤمن لمواجهة الكافر ، والأخذ بأسباب النجاة إذا تمَّتْ المواجهة .
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] .
فليست مهمة الحديد في الحياة أنه ينفع الناس فحسْب ، إنما له مهمة قتالية أيضاً؛ لذلك قال : { وَأَنزَلْنَا الحديد . . . } [ الحديد : 25 ] كما قال : { نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن . . . } [ الإنسان : 23 ] فإنْ كان القرآن للهداية فالحديد يُؤيِّد هذه الهداية ، حيث نضرب به على أيدي الكافرين العاصين ، ونحمي به صدور المؤمنين المصدِّقين؛ لذلك قال { وَأَنزَلْنَا . . . } [ الحديد : 25 ] أي : من أعلى مع أنه خارج من الأرض .
إذن : مسألأة الحديد في الأرض نعمة كبيرة من نِعَم الله علينا ، بها نحفظ أنفسنا من العدو ، فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الخَلْق ولم يتركه هكذا يُدبِّر أمره ، إنما خلقه ووضع له قانون حمايته وصيانته ، وهذا يستحقّ مِنّا الشكر الدائم الذي لا ينقطع .
ثم ينتقل السياق من الكلام عن داود إلى ابنه سليمان عليهما السلام ، فيقول الحق سبحانه : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً . . . } .
(1/5920)

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
لا شكّ أن سليمان - عليه السلام - قد استفاد بما علَّم الله به أباه داود ، وأخذ من نعمة الله على أبيه ، وهنا يزيده ربه - تبارك وتعالى - أموراً يتميز بها ، منها الريح العاصفة أي : القوية الشديدة { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا . . . } [ الأنبياء : 81 ] وكأنها مواصلات داخلية في مملكته من العراق إلى فلسطين .
وفي موضع آخر قال : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب * فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 35-36 ] .
ؤُخَأء : أي : هيّنة ليّنة ناعمة ، وهنا قال { عَاصِفَةً . . . } [ الأنبياء : 81 ] فكأن الله تعالى جمع لهذه الريح صفة السرعة في ( عاصفة ) وصفة الراحة في ( رخاء ) ، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلا الله ، فنحن حين تُسْرِع بنا السيارة مثلاً لا تتوفر لنا صِفَة الراحة والاطمئنان ، بل يفزع الناس ويطلبون تهدئة السرعة .
أما ريح سليمان فكانت تُسرع به إلى مراده ، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه ، ولا تُحدث له رجَّة أو قوة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان ، فمَنْ يقدر على الجمع بين هذه الصفات إلا الله القابض الباسط ، الذي يقبض الزمن في حق قوم ويبسطه في حق آخرين .
ومعنى : { بَارَكْنَا فِيهَا . . . } [ الأنبياء : 81 ] أي : بركة حِسِّية بما فيها من الزروع والثمار والخِصْب والخيرات ، وبركة معنوية حيث جعل فيها مهابط الوحي والنبوات وآثار الأنبياء .
وليس تسخير الريح لسليمان أنها تحمله مثلاً ، كما رأينا في ( السينما ) بساط الريح الذي نراه يحمل شيئاً ويسير به في الهواء ، أو : أنها كانت تُسيِّر المراكب في البحار ، إنما المراد بتسخيرها له أن تكون تحت مراده ، وتأتمر بأمره ، فتسير حيث شاء يميناً أو شمالاً ، فهي لا تهٌُبُّ على مرادات الطبيعة التي خلقها الله عليها ، ولكن على مراده هو .
وإنْ كانت هذه الريح الرُّخَاء تحمله في رحلة داخلية في مملكته ، فهناك من الرياح ما يحمله في رحلات وأسفار خارجية ، كالتي قال الله تعالى عنها : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ . . . } [ سبأ : 12 ] فيجوب بها في الكون كيف يشاء { حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] .
ثم يقول تعالى : { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 81 ] أي عندنا علْم نُرتِّب به الأمور على وَفْق مرادنا ، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء فَنُسيِّر الريح كما نحب ، لا كما تقتضيه الطبيعة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ . . . } .
(1/5921)

وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
فبعد أنْ سخَّر الله له الريح سخَّر له الشياطين { يَغُوصُونَ لَهُ . . . } [ الأنبياء : 82 ] والغَوْصُ : النزول إلى أعماق البحر؛ ليأتوه بكنوزه ونفائسه وعجائبه التي ادخرها الله فيه { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك . . . } [ الأنبياء : 82 ] أي : مما يُكلِّفهم به سليمان من أعمال شاقة لا يقدر عليها الإنسان ، وقد شرحت هذه الآية في موضع آخر : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ . . . } [ سبأ : 13 ] فأدخل مرادات العمل في مشيئته .
والمحاريب جمع محراب ، وهو مكان العبادة كالقِبْلة مثلاً ، والجِفَان : جمع جَفْنة ، وهي القَصْعة الكبيرة الواسعة التي تكفي لعدد كبير ، والقدور الراسيات أي : الثابتة التي لا تنقل من مكان لآخر وهي مبنية .
وقد رأينا شيئاً من هذا في الرياض أيام الملك عبد العزيز رحمه الله ، وكان هذا القدْر من الاتساع والارتفاع بحيث إذا وقف الإنسان ماداً ذراعيه إلى أعلى لا يبلغ طولها ، وفي الجاهلية أشتهرت مثل هذه القدور عند ابن جدعان ، وعند مطعم بن عدي .
أما التماثيل فهي معروفة ، والموقف منها واضح منذ زمن إبراهيم عليه السلام حينما كسَّرها ونهي عن عبادتها ، وهذا يردُّ قول مَنْ قال بأن التماثيل كانت حلالاً ، ثم فُتِن الناس فيها ، فعبدوها من دون الله فَحرِّمت ، إذن : كيف نخرج من هذا الموقف؟ وكيف يمتنّ الله على نبيه سليمان أن سخر له من يعملون التماثيل وهي مُحرَّمة؟
نقول : كانوا يصنعون له التماثيل لا لغرض التعظيم والعبادة ، إنما على هيئة الإهانة والتحقير ، كأن يجعلوها على هيئة رجل جبار ، أو أسد أضخم يحمل جزءاً من القصر أو شرفه من شرفاته ، أو يُصوِّرونها تحمل مائدة الطعام . . الخ . أي أنها ليست على سبيل التقديس .
ثم يقول تعالى : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [ الأنبياء : 82 ] حافظين للناس المعاصرين لهذه الأعمال يروْنَ البشر ، والبشر لا يرَوْنَهم ، كما قال تعالى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . . . } [ الأعراف : 27 ] .
أما سليمان عليه السلام فكان يرى الجنَّ ويراقبهم وهم يعملون له ، وفي قصته : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ . . . } [ سبأ : 14 ] .
وفي هذا دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ لذلك قال تعالى : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين } [ سبأ : 14 ] .
ويُقال : إن سليمان - عليه السلام - بعد أنْ امتنَّ الله عليه ، وأعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، أخذ هؤلاء الجن وحبسهم في القماقم حتى لا يعملوا لأحد غيره .
هذه مجرد لقطة من قصة سليمان ، ينتقل السياق منها إلى أيوب عليه السلام : { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ . . . } .
(1/5922)

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
( نَأديَ ) : قلنا النداء لمثلك طلب إقبال ، أما بالنسبة لله تعالى فهو بمعنى الدعاء ، فمعنى { إِذْ نادى رَبَّهُ . . . } [ الأنبياء : 83 ] أي : دعاه وناداه بمطلوب هو : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين . . . } [ الأنبياء : 83 ] والضُّر : ابتلاء من الله في جسده بمرض أو غيره .
أما الضرَّ بفتح الضاد ، فهو إيذاء وابتلاء في أي شيء آخر غير الجسد ، ولا مانع أن يمرض الأنبياء لكن بمرض غير مُنفِّر .
لكن ، كيف ينادي أيوب عليه السلام ربه ويتوجع { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر . . . } [ الأنبياء : 83 ] أليس في علم الله أن أيوبَ مسَّه الضرُّ؟ وهل يليق بالنبي أنْ يتوجّع من ابتلاء الله؟
نعم ، يجوز له التوجُّع؛ لأن العبد لا يَشْجَعُ على ربه؛ لذلك فإن الإمام علياً رضي الله عنه لما دخل عليه رجل يعوده وهو يتألم من مرضه ويتوجع ، فقال له : أتتوجَّع وأنت أبو الحسن؟ فقال : أنا لا أشجع على الله يعني : أنا لست فتوة أمام الله .
ألا ترى أنه من الأدب مع مَنْ يريد أن يُثبِت لك قوته فيمسك بيدك مثلاً ، ويضغط عليها لتضجّ وتتألم ، أليس من الأدب أن تطاوعه فتقول : آه وتُظهِر له ولو مجاملة أنه أقوى منك؟
ومعنى : { وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } [ الأنبياء : 83 ] ساعةَ أنْ ترى جَمْعاً في صفة من الصفات يُدخِل الله فيه نفسه مع خَلْقه ، كما في : { أَرْحَمُ الراحمين } [ الأنبياء : 83 ] و { أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] و { خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] فاعلم أن الله تعالى يُثبِت نفس الصفة لعباده ، ولا يبخسهم حقهم .
فالرحمة من صفات البشر ، كما جاء في الحديث الشريف : " الراحمون يرحمهم الرحمن " .
وفي " ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء " .
فالرحمة تخلُّق بأخلاق الحق سبحانه ، " والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " تخلَّقوا بأخلاق الله " " .
إذن : للخَلْق صفة الرحمة ، لكن الله هو أرحم الراحمين جميعاً؛ لأن رحمته تعالى وسعَتْ كل شيء . كما قلنا في صفة الخَلْق : فيمكنك مثلاً أن تصنع من الرمل كوباً ، وتُخرِِجه إلى الوجود ، وتنتفع به ، لكن أخَلْقك للكوب كخَلْق الله؟
ثم يقول الحق سبحانه : { فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا . . . } .
(1/5923)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
استجاب الله لأيوب فيما دعا به من كَشْف الضُّر الذي أصابه ، وأعطاه زيادة عليه ونافلة لم يَدْعُ بها ، حيث كان في قِلَّة من الأهل ، وليس له عِزْوة .
{ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ . . . } [ الأنبياء : 84 ] ليعلم كلُّ عابد أخلص عبادته لله تعالى ، أنه إذا مسَّه ضُرٌّ أو كَرْب ولجأ إلى الله أجابه الله إلى ما يريد ، وأعطاه فوق الإجابة نافلة أخرى ، وكأن ما حدث لنبي الله أيوب نموذج يجب أن يُحْتَذَى . { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ . . . } .
(1/5924)

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
قلنا : إن سورة الأنبياء لا تذكر قصَصاً كاملاً للأنبياء ، إنما تعطينا طَرَفاً منها ، وهنا تذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالاسم فقط .
ثم يقول تعالى : { كُلٌّ مِّنَ الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] كأن الصبر في حَدِّ ذاته حيثية يُرسل الله من أجلها الرسول ، ولنتأمل الصبر عند إسماعيل ، وكيف أنه صبر على أنْ يذبحه أبوه برؤيا رآها ، فأيُّ صبر أعظم من هذا؟
ثم يعيش في صِغَره - وحتى كبر - في وَادٍ غير ذي زرع ، ويتحمل مشاق هذه البيئة الجافة المجْدِبة ، ويخضع لقول الله تعالى : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة . . } [ إبراهيم : 37 ] .
وكأن في خروجه من هذه الأرض وطلبه لأرض أخرى فيها النعيم والزروع والثمار تأبّياً على إقامة الصلاة؛ لذلك نراه يُفضّل البقاء في هذا المكان ، ويزهد في نعيم الدنيا الذي يتمتع به غيره امتثالاً لأمر الله .
وتكون النتيجة أنْ أعطاه الله ما هو خَيْر من الزروع والثمار ، أعطاه عطاءً يفخر به بين جميع الأنبياء ، هو أنه جعل من نسله النبي الخاتم محمد بن عبد الله ، وأيُّ ثمرة أحسن من هذه؟
وإدريس : وهو من الجيل الخامس من أولاد آدم عليه السلام ، وبعض العلماء يقولون هو " أوزوريس " ، ونحن لا نقول إلا ما قاله القرآن ( إدريس ) وأهل السير يقولون : إن نبي الله إدريس أول مَنْ علّمه الله غزل الصوف وخياطة الملابس ، وكانوا قبلها يسترون عوراتهم بقطع الجلود .
وهو أول مَن استخدم النجوم لمعرفة الاتجاهات والأحوال ، وأول مَنْ خط بالقلم ، هذه يُسمُّونها أوليات إدريس .
وذا الكفل : الكِفْل هو الحظ والنصيب ، فلماذا سُمِّي " ذو الكفل "؟ ذو الكفل ابن أيوب عليه السلام ، ويظهر أن أولاد أيوب كانوا كثيرين ، إنما اختص الله ذا الكفل بالرسالة ، وكان هذا حظه دون غيره من أبناء أيوب؛ لذلك سُمِّي " ذو الكفل " .
وقد جاءت هذه المادة ( كَفَل ) أيضاً في قوله الحق سبحانه وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ . . . } [ الحديد : 28 ] .
جاءت هذه الآية بعد الكلام عن عيسى - عليه السلام - والذين آمنوا به واتبعوه ، يقول تعالى : يا مَنْ آمنتم بالرسل السابقين ، وآخرهم عيسى - عليه السلام - آمنوا بالرسول الخاتم ليكون لكم كفلان أي : نصيبان وحظَّان من رحمةَ الله ، نصيبٌ لإيمانكم بعيسى ، ومَنْ سبقه من الرسل ، ونصيبٌ لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول تعالى في وصفهم { كُلٌّ مِّنَ الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] فوصف كلّ الأنبياء بالصبر؛ لأنهم تعرَّضوا لأنواع الاضطهاد والإيذاء والأهوال في سبيل دعوتهم ، وصبروا على هذا كله . { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا . . . } .
(1/5925)

وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
والرحمة هنا بمعنى النبوة ، وهي أمر عظيم وعطاء كبير ، فإنْ تحمّلوا في سبيله بعض المتاعب ، فلا غضاضةَ في ذلك : { وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ . . . } .
(1/5926)

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
" ذو النون " : هو سيدنا يونس بن متى صاحب الحوت ، والنون من أسماء الحوت ، وجمعه ( نينان ) كحوت وحيتان؛ لذلك سُمِّيَ به ، وقد أُرسل يونس عليه السلام إلى أهل ( نِينَويَ ) من أرض الموصل بالعراق .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعداس : " أنت من بلد النبي الصالح : يونس ابن متّى " .
والنون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم ، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر ، كما في ( ق ) وهو اسم جبل ، وكذلك السين ، فهناك نهر اسمه نهر السين ، وهكذا تصادف أسماء الحروف أسماء أشياء .
وقوله تعالى : { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً . . . } [ الأنبياء : 87 ] مادة ( غضب ) نأخذ منها الوصف للمفرد . نقول : غاضب وغضبان ، أمّا ( مغاضب ) فتعطي معنى آخر؛ لأنها تدل على المفاعلة ، فلا بُدَّ أن أمامك شخصاً آخر ، أنت غاضب وهو غاضب ، مثل : شارك فلان فلاناً .
لكن في أصول اللغة رجحنا جانب الفاعلية في أحدهما ، والمفعُولية في الآخر ، كما نقول : شارك زيدٌ عَمْراً ، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً ، لكن جانب الفاعلية أزيد من ناحية زيد ، فكلُّ واحد منهما فاعل مرة ومفعول أخرى .
واللغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة؛ فتُحمِّل اللفظ المعنيين معاً : الفاعل والمفعول ، كما جاء في قَوْل الشاعر العربي الذي يصف السير في أرض معقربة ، والتي إذا سرْت فيها دون أنْ تتعرض للعقارب فإنها تسالمك ولا تؤذيك ، فيقول :
قَدْ سَالَم الحياتُ مِنْه القَدَمَا ... الأفْعُوانَ والشُّجاعَ القَشْعَمَا
أي : أنه سَالَم الحيات ، فالحيات سالمتْه ، فالمسالمة منهما معاً ، لكن غلب جانب الحيات فجاءت فاعلاً؛ لأن إيذاءَها أقوى من إيذائه ، فلما أبدل من الحيات ( الأفعوان والشجاع القشعما ) وهما من أسماء الحيات كان عليه أنْ يأتي بالبدل مرفوعاً تابعاً للمبدل منه ، إلا أنه نصبه فقال : الأُفْعَوانَ والشجاعَ القشعمَا؛ لأنه لاحظ في جانب الحيات أنها أيضاً مفعولٌ .
فَمِمَّ غضب ذو النون؟ غضب لأن قومه كذبوه ، فتوعدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزل بهم العذاب ، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعدهم به ، فخاف أنْ يُكذِّبوه ، وأن يتجرَّأَوا عليه ، فخرج من بينهم مغاضباً إلى مكان آخر ، وهو لا يعلم أنهم تابوا فأخّر الله عذابهم ، وأجّل عقوبتهم .
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذا الموقف : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
أي : لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلا قرية واحدة هي قوم يونس ، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله عذابهم .
إذن : خرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً؛ لأن قومه شاركوه ، وكانوا سبب غضبه ، كما حدث في مسألة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة لكنه لم يهْجرهَا ، فسُمِّيَتْ هجرة؛ لأن أهل مكة هجروا رسول الله أولاً ، وهجروا دعوته وألجئوه أيضاً إلى الهجرة وتَرْك مكة ، فهم طرف في الهجرة وسببٌ لها .
(1/5927)

لذلك قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة : " والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إليَّ ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منكِ ما خرجْتُ " .
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى ، وعبَّر عنه بقوله :
إذَا ترحلْتَ عَنْ قَوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا ... ألاَّ تُفارِقَهُمْ فالراحِلُون هُمُ
وقوله تعالى : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ . . . } [ الأنبياء : 87 ] البعض ينظر في الآية نظرةً سطحية ، فيقولون : كيف يظن يونس أن الله لن يقدر عليه؟ وهذا الفَهْم ناشيء عن جَهْل باستعمالات اللغة ، فليس المعنى هنا من القدرة على الشيء والسيطرة ، ولو استوعبتَ هذه المادة في القرآن ( قَدَرَ ) لوجدت لها معنى آخر ، كما في قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله . . . } [ الطلاق : 7 ] معنى قُدِر عليه رزقه يعني : ضُيِّق عليه .
ومنها قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ . . . } [ الإسراء : 30 ]
وقوله سبحانه تعالى : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15-16 ] .
إذن : فقوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ . . . } [ الأنبياء : 87 ] أي : أن يونس لما خرج من بلده مُغاضباً لقومه ظنَّ أن الله لن يُضيِّق عليه ، بل سيُوسِّع عليه ويُبدله مكاناً أفضل منها ، بدليل أنه قال بعدها { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] يريد منه سبحانه تنفيس كربته ، وتنفيس الكربة لا يكون إلا بصفة القدرة له .
فكيف يستقيم المعنى لو قلنا : لن يقدر عليه بمعنى : أن الله لا يقدر على يونس؟
إذن : المعنى : لن يُضيِّق عليه؛ لأنه يعلم أنه رسول من الله ، وأن ربه لن يُسلْمه ، ولن يخذله ، ولن يتركه في هذا الكرب .
وقد وُجدَتْ شبهة في قصة يونس - عليه السلام - في قوله تعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143-144 ] .
فكيف يلبث في بطن الحوت إلى يوم يُبعثون ، مع أن يونس سيموت ، وسيأتي أجَل الحوت ويموت هو أيضاً ، أم أن الحوت سيظل إلى يوم القيامة يحمل يونس في بطنه؟
وفات هؤلاء نظرية الاحتواء في المزيجات ، كما لو أذبتَ قالباً من السكر في كوب ماء ، فسوف تحتوي جزئيات الماء جزئيات السكر ، والأكثر يحتوي الأقل ، فقالب السكر لا يحتوي الماء ، إنما الماء يحتوي السكر .
فلو مات الحوت ، ومات في بطنه يونس - عليه السلام - وتفاعلت ذراتهما وتداخلتْ ، فقد احتوى الحوتُ يونسَ إلى أن تقوم الساعة ، وعلى هذا يظل المعنى صحيحاً ، فهو في بطنه رغم تناثر ذراتهما . { فاستجبنا لَهُ . . . } .
(1/5928)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
استجاب الله نداء يونس - عليه السلام - ونجَّاه من الكرب { وكذلك نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] إذن : فهذه ليست خاصة بيونس ، بل بكل مؤمن يدعو الله بهذا الدعاء { وكذلك . . . } [ الأنبياء : 88 ] أي : مثل هذا الإنجاء نُنْجي المؤمنين الذين يفزعون إلى الله بهذه الكلمة : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] فيُذهِب الله غَمَّه ، ويُفرِّج كَرْبه .
لذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " ثوِّروا القرآن " يعني : أثيروه ونقِّبوا في آياته لتستخرجوا كنوزه وأسراره .
وكان سيدنا جعفر الصادق من المثوِّرين للقرآن المتأملين فيه ، وكان يُخرِج من آياته الدواء لكل داء ، ويكون كما نقول ( روشتة ) لكل أحوال المؤمن .
والمؤمن يتقلّب بين أحوال عدة منها : الخوف سواء الخوف أنْ يفوته نعيم الدنيا ، أو الخوف من جبار يهدده ، وقد يشعر بانقباض وضيق في الصدر لا يردي سببه وهذا هو الغَمُّ ، وقد يتعرض لمكر الماكرين ، وكَيْد الكائدين ، وتدبير أهل الشر .
هذه كلها أحوال تعتري الإنسان ، ويحتاج فيها لمَنْ يسانده ويُخرجه مما يعانيه ، فليس له حَوْل ولا قوة ، ولا يستطيع الاحتياط لكل هذه المسائل .
وقد تراوده بهجة الدنيا وزُخْرفها ، فينظر إلى أعلى مِمّا هو فيه ، ويطلب المزيد ، ولا نهايةَ لطموحات الإنسان في هذه المسألة ، كما قال الشاعر :
تَمُوتُ مع المرْءِ حَاجَاتُه ... وتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِي
والناس تحرص دائماً على أن تستوعب نِعَم الحياة وراحتها ، وهم في ذلك مُخْطِئون؛ لأن تمام الشيء بداية زواله ، كما قال الشاعر :
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه ... تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قيلَ تَم
لأن الإنسان ابنُ أغيار ، ولا يدوم له حال من صحة أو مرض ، أو غِنيً أو فقر ، أو حزن أو سرور ، فالتغيُّر سِمَة البشر ، وسبحان مَنْ لا يتغير ، إذن : فماذا بعد أنْ تصل إلى القمةَ ، وأنت ابنُ أغيار؟
ونرى الناس يغضبون ويتذمرون إنْ فاتهم شيء من راحة الدنيا ونعيمها ، أو انتقصتهم الحياة شيئاً؟ وهم لا يدرون أن هذا النقص هو الذي يحفظ عليك النعمة ، ويدفع عنك عيون الحاسدين فيُسلِّم لك ما عندك .
فتجد مثلاً أسرة طيبة حازتْ اهتمام الناس واحترامهم ، غير أن بها شخصاً شريراً سِّيئاً ، يعيب الأسرة ، فهذا الشخص هو الذي يدفع عنها عُيون الناسِ وحَسَدهم .
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى ، وعبَّر عنه في مدحه لسيف الدولة ، فقال :
شَخَصَ الأنَامُ إِلَى كَمَالِكَ فَاستْعِذ ... مِنْ شَرِّ أعيُنهم بِعَيْبٍ وَاحِدٍ
نعود إلى ( روشته ) سيدنا جعفر الصادق التي استخلصها لنا من كتاب الله ، كما يستخلص الأطباء الدواءَ والعقاقير من كتب الحكماء :
يقول : عجبتُ لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } [ آل عمران : 173 ] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء . . } [ آل عمران : 174 ] .
(1/5929)

وعجبتُ لمَنْ اغتمَّ ، ولم يفزع إلى قوله تعالى : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] .
وعجبتُ لمن مُكِرَ به ، ولم يفزع إلى قوله تعالى : { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله } [ غافر : 44 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ . . . } [ غافر : 45 ] .
وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها ، ولم يفزع إلى قوله تعالى : { مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله . . . } [ الكهف : 39 ] فإنِّ سمعت الله بعقبها يقول : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ . . . } [ الكهف : 40 ] .
وهكذا يجب على المؤمن أن يكون مُطْمئناً واثقاً من معيّة الله ، ويضع كما نقول ( في بطنه بطيخة صيفي ) ؛ لأنه يفزع إلى ربه بالدعاء المناسب في كل حال من هذه الأحوال ، وحين يراك ربك تلجأ إليه وتتضرع ، وتعزو كل نعمة في ذاتك أو في أهلك أو في مالك وتنسبها إلى الله ، وتعترف بالمنعِم سبحانه فيعطيك أحسنَ منها .
ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن نبي آخر من أنبيائه ، فيقول تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ . . . } .
(1/5930)

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
لقد بلغ زكريا - عليه السلام - من الكبر عتياً ، ولم يرزقه الله الولد ، فتوجه إلى الله : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [ مريم : 4-5 ] .
فلما بشَّره الله بالولد تعجَّب؛ لأنه نظر إلى مُعْطيات الأسباب ، كيف يرزقه الله الولد ، وقد بلغ من الكِبَر عتياً وامرأته عاقر ، فأراد أن يُؤكّد هذه البُشْرى : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً * قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 8-9 ] .
يُطمئنُ الله تعالى نبيَّه زكريا : اطرح الأسباب الكونية للخَلْق؛ لأن الذي يُبشِّرك هو الخالق .
وقد تعلَّم زكريا من كفالته لمريم أن الله يُعطي بالأسباب ، ويعطي إن عزَّتْ الأسباب ، وقد تباري أهل مريم في كفالتها ، وتسابقوا في القيام بهذه الخدمة؛ لأنهم يعلمون شرفها ومكانتها؛ لذلك أجروا القرعة على مَنْ يكفلها فأتوا بالأقلام ورموْها في البحر فخرج قلم زكريا ، ففاز بكفالة مريم : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] .
وإجراء القرعة لأهمية هذه المسألة ، وعِظَم شأنها ، والقرعة إجراء للمسائل على القَدَر ، حتى لا تتدخّل فيها الأهواء .
فلما كفَل زكريا مريم كان يُوفِّر لها ما تحتاج إليه ، ويرعى شئونها ، وفي أحد الأيام دخل عليها ، فوجد عندها طعاماً لم يأْتِ به : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] .
وهنا مَلْخظ وإشارة إلى ضرورة متابعة ربِّ الأسرة لأسرته ، فإذا ما رأى في البيت شيئاً لم يأْتِ به فليسأل عن مصدره ، فربما امتدت يد الأولاد إلى ما ليس لهم ، إنه أصل لقانون " من أين لك هذا؟ " الذي نحتاج إلى تطبيقه حين نشكّ .
التقط زكريا إجابة مريم التي جاءتْ سريعة واثقة ، تدل على الحق الواضح الذي لا يتلجلج : { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] .
نعم ، هذه مسألة يعرفها زكريا ، لكنها لم تكُنْ في بُؤْرة شعوره ، فقد ذكَّرْته بها مريم : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } [ آل عمران : 38 ] .
أي : ما دام الأمر كذلك ، فَهَبْ لي ولداً يرثُ النوبة من بعدي . ثم يذكر حيثيات ضَعْفه وكِبَر سِنَّه ، وكوْنَ امرأته عاقراً ، وهي حيثيات المنع لا حيثيات الإنجاب؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب وبغير أسباب .
وهكذا ، استفاد زكريا من هذه الكلمة ، واستفادتْ منها مريم كذلك فيما بعد ، وحينما جاءها الحَمْل في المسيح بدون الأسباب الكونية .
وهنا يدعو زكريا ربه ، فيقول : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] أي : لا أطلب الولد ليرث مُلْكي من بعدي ، فأنت خير الوارثين ترِثُ الأرضَ والسماء ، ولك كل شيء . { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا . . . } .
(1/5931)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
فلم تكُنْ استجابة الله لزكريا أنْ يهبه الولد حال كِبَره وكوْن امرأته عاقراً ، إنما أيضاً سماه ، ولله تعالى سِرٌّ في هذه التسمية؛ لأن الناس أحرار في وَضْع الأسماء للمُسمّيات كما قلنا فلا مانع أن نسمي فتاة زنجية ( قمر ) ؛ لأن الاسم يخرج عن معناه الأصلي ، ليصير عَلَماً على هذا المسمى . إذن : هناك فَرْق بين الاسم وبين المسمَّى .
وقد نُسمِّي الأسماء تفاؤلاً أن يكونوا كذلك ، كالذي سمَّي ولده يحيى ، ويظهر أنه كان يعاني من موت الأولاد؛ لذلك قال :
فَسمَّيْتُه يَحيى ليحيى فَلَم يكُنْ ... لِرَدِّ قَضَاءِ اللهِ فيه سَبيلُ
أي : سمَّيْته يحي أَملاً في أن يحيا ، لكن هذا لم يردّ عنه قضاء الله .
وكذلك لما سمَّي عبد المطلب محمداً قال : سمَّيته محمداً ليُحمد في الأرض وفي السماء .
لكن ، حين يُسمِّى يحيى مَنْ يملك الحياة ويملك الموت ، فلا بُدَّ أن يكون اسماً على مُسمَّى ، ولا بُدَّ له أن يحيا ، حتى إنْ مات يموت شهيداً ، لتتحقق له الحياة حتى بعد الموت .
ومعنى : { وَوَهَبْنَا . . } [ الأنبياء : 90 ] أي : أعطيناه بدون قانون التكوين الإنساني ، وبدون أسباب .
ثم يقول سبحانه : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ . . . } [ الأنبياء : 90 ] فبعَد أنْ كانت عاقراً لا تلد أجرينا لها عملية ربانية أعادتْ لها مسألة الإنجاب؛لأن المرأة تلد طالما فيها البويضات التي تكوِّن الجنين ، فإذا ما انتهتْ هذه البويضات قد أصبحت عقيماً ، وهذه البويضات في عنقود ، ولها عدد مُحدَّد أشبه بعنقود البيض في الدجاجة؛ لذلك يسمون آخر الأولاد " آخر العنقود " .
إذن : وُجِد يحيى من غير الأسباب الكونية للميلاد؛ لأن المكوِّن سبحانه أراد ذلك .
لكن ، لماذا لم يقُلْ لزكريا أصلحناك؟ قالوا : لأن الرجل صالح للإنجاب ما دام قادراً على العملية الجنسية ، مهما بلغ من الكِبَر على خلاف المرأة المستقبِلة ، فهي التي يحدث منها التوقُّف .
وأصحاب العُقْم وعدم الإنجاب نرى فيهم آيات من آيات الله ، فنرى الزوجين صحيحين ، أجهزتُهما صالحة للإنجاب ، ومع ذلك لا ينجبان ، فإذا ما تزوج كل منهما بزوج آخر ينجب؛ لأن المسألة ليست ( آليّة ) ، بيل وراء الأسباب الظاهرة إرادة الله ومشيئته .
لذلك يقول تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً . . . } [ الشورى : 49 - 50 ] .
ثم تُوضِّح الآيات سبب وعِلَّة إكرام الله واستجابته لنبيه زكريا - عليه السلام : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ]
هذه صفات ثلاث أهَّلَتْ زكريا وزوجته لهذا العطاء الإلهي ، وعلينا أن نقف أمام هذه التجربة لسيدنا زكريا ، فهي أيضاً ليستْ خاصة به إنما بكل مؤمن يُقدِّم من نفسه هذه الصفات .
لذلك ، أقول لمن يُعاني من العقم وعدم الإنجاب وضاقتْ به أسباب الدنيا ، وطرق باب الأطباء أن يلجأ إلى الله بما لجأ به زكريا - عليه السلام - وأهله { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] خذوها ( روشتة ) ربانية ، ولن تتخلف عنكم الاستجابة بإذن الله .
(1/5932)

لكن ، لماذا هذه الصفة بالذات : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } [ الأنبياء : 90 ] ؟
قالوا : لأنك تلاحظ أن أصحاب العُقْم وعدم الإنجاب غالباً ما يكونون بُخَلاء مُمْسِكين ، فليس عندهم ما يُشجِّعهم على الإنفاق ، فيستكثرون أن يُخرجوا شيئاً لفقير؛ لأنه ليس ولده .
فإذا ما سارع إلى الإنفاق وسارع في الخيرات بشتى أنواعها ، فقد تحدَّى الطبيعة وسار ضدها في هذه المسألة ، وربما يميل هؤلاء الذين ابتلاهم الله بالعُقْم إلى الحقد على الآخرين ، أو يحملون ضغينة لمن ينجب ، فإذا طرحوا هذا الحقد ونظروا لأولاد الآخرين على أنهم أولادهم ، فعطفوا عليهم وسارعوا في الخيرات ، ثم توجَّهوا إلى الله بالدعاء رَغَباً ورَهَباً ، فإن الله تعالى وهو المكوِّن الأعلى يخرق لهم النواميس والقوانين ، ويرزقهم الولد من حيث لا يحتسبون .
ومعنى : { وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] يعني : راضين بقدرنا فيهم ، راضين بالعُقْم على أنه ابتلاء وقضاء ، ولا يُرفع القضاء عن العبد حتى يرضى به ، فلا ينبغي للمؤمن أنْ يتمرَّد على قدر الله ، ومن الخشوع التطامن لمقادير الخَلْق في الناس .
(1/5933)

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
ولك أن تسأل : لماذا يأتي ذِكْر السيدة مريم ضمن مواكب النبوة؟ نقول : لأن النبوة اصطفاء الله لنبي من دون خَلْق الله ، وكوْنه يصطفي مريم من دون نساء العالمين لتلد بدون ذكورة ، فهذا نوع من الاصطفاء ، وهو اصطفاء خاص بمريم وحدها من بين نساء العالمين؛ لأن اصطفاء الأنبياء تكرَّر ، أمّا اصطفاء مريم لهذه المسألة فلم يتكرر في غيرها أبداً .
وقوله تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا . . } [ الأنبياء : 91 ] يعني : عَفَّتْ وحفظتْ فَرْجها ، فلم تمكِّن منها أحداً .
ومعنى : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا . . } [ الأنبياء : 91 ] يعني : مسألة خاصة به ، خارجة على قانون الطبيعة ، فليس في الأمر ذكورة أو انتقاء ، إنما النفخة التي نفخها الله في آدم ، فجاءت منها كل هذه الأرواح ، هي التي نفخها في مريم ، فجاءت منها روح واحدة . فالروح هي نفسها التي قال الله فيها : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي . . } [ الحجر : 29 ] .
ثم يقول تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] يعني : شيئاً عجيباً في الكون ، والعجيبة فيها أن تلدَ بدون ذكورة ، والعجيبة فيه أن يُولَد بلا أب ، فكلاهما آية لله ومعجزة .
ثم يقول الحق سبحانه بعد سَرْد لقطات من موكب الأنبياء :
{ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً . . } .
(1/5934)

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
الأمة : الجماعة يجمعها رباط واحد من أرض أو مُلك مَلِك أو دين ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ . . } [ الزخرف : 22 ] يعني : على دين .
فالمراد : هذه أمتكم أمةٌ حال كَوْنها أمةً واحدة ، لا اختلافَ فيها والرسل جميعاً إنما جاءوا ليتمموا بناءً واحداً ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلاّ وُضِعت هذه اللبنة؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين " .
والمعنى أن به صلى الله عليه وسلم تتم النبوة وتختم .
وتُطلَق الأمة على الرجل الذي يجمع خصال الخير كلها؛ لأن الله تعالى بعثر خصال الخير في الخَلْق ، فليس هناك مَنْ هو مَجْمع مواهب وفضائل ، إنما في كل منا ميزةٌ وفضيلةٌ في جانب من الجوانب؛ ليتكامل الناس ويحتاج بعضهم إلى بعض ، ويحدث الترابط بين عناصر المجتمع ، هذا الترابط يتم إمَّا بحاجات تطوُّعية ، أو حاجات اضطرارية .
فلو تعلَّم الناس جميعاً وتخرجوا في الجامعة فَمنْ للمِهَن والحِرَف الأخرى؟ مَنْ سيكنس الشوارع ، ويقضي مثل هذه الأمور؟ لو تعطلتْ مجاري الصرف الصحي ، أيجتمع هؤلاء الدكاترة والأساتذة لإصلاحها ، ولو أصلحوها مرة فهذا تطوُّع .
أمّا المصالح العامة فلا تقوم على التطوع إنما تقوم على الحاجة والاضطرار ، ولولا هذه الحاجة لما خرجَ عامل الصرف الصحي في الصباح إلى هذا العمل الشاقّ المنفّر ، لكن كيف وفي رقبته مسئولية أُسْرة وأولاد ونفقات؟
وسبق أنْ قُلْنا : ينبغي ألاَّ يغترَّ المرء بما عنده من مواهب ومميزات ، ولا يتعالى بها على خَلْق الله ، وعليه أنْ يسأل عَمَّا عند الآخرين من مواهب يحتاج هو إليها ، ولا يؤديها بنفسه .
إذن : الحاجة هي الرابطة في المجتمع ، ولو كانَ التطوّع والتفضّل فلن نحقق شيئاً ، فلو قلنا للعامل : تفضل بكنس الشارع لوجدَ ألْفَ عذر يعتذر به ، أما إنْ كان أولاده سيموتون جوعاً إن لم يعمل فلا شكَّ أنه سيُسرع ويُبادر .
فالحقيقة أن كل فرد في المجتمع لا يخدم إلا نفسه ، فكما تنفع الآخرين تنتفع بهم؛ لذلك إياك أنْ تحسد صاحب التفوق على تفوّقه في أمر من الأمور؛ لأن تفوقه في النهاية عائد عليك .
وكما نقول هذه المسائل في أمور الدنيا نقولها في أمور الآخرة ، حين نرى صاحب التديُّن ، وصاحب الخُلق والالتزام لا نهزأ به ولا نسخر منه ، كما يحلو للبعض؛ لأن صلاحه سيعود عليك ، وسوف تنتفع بتديُّنه واستقامته ولعلنا نُرزَق بسبب هؤلاء .
وقد يكون في البيت الواحد فُتوات وأذكياء ومتعلمون وفيهم مُعوَّق أو مجنون أو مجذوب ، فترى الجميع يحتقرونه ، ويُهوِّنون من شأنه ، أو تراه منبوذاً بين هؤلاء مُبْعَداً ، لا يشرُف بمعرفته أحد ، وربما يعيشون جميعاً في ظِلِّه ويُرزَقون كرامة له .
(1/5935)

وكثيراً ما نرى الناس يغضبون وينقمون على قضاء الله إن رزقهم بمولود فيه عيب أو إعاقة ، ووالله لو رضيتَ به وتقبلْتَ قضاء الله فيه ، لكان هو الظل الظليل لك .
فهؤلاء خُلِقوا هكذا لحكمة ، حتى لا نتمرد على صَنْعة الله في كَوْنه ، وحتى يشعر أهل النعمة والسلامة والصحة بفضل عليهم ، ولنعلم أن الله تعالى لا يسلب شيئاً من عبده إلاّ وقد أعطاه عِوَضاً عنه .
ولك أن تلاحظ مثلاً أحوال الناس المجاذيب الذين تراهم في أيِّ مكان مُهملين يستقلهم الناس ، وينفرون من هيئتهم الرثّة ، ومع ذلك ترى أصحاب الجاه والسلطان إذا نزلتْ بهم ضائقة وأعيَتْهم الأسباب يلجئون لمثل هؤلاء المجاذيب يلتمسون منهم البركة والدعاء ، وهذا في حَدِّ ذاته أسمى ما يمكن أن يتطلع إليه أهل الجاه وأهل السلطان والنفوذ ، أن تكون كلمتهم مسموعةً وأمرهم مُطاعاً ، وأن يلجأ الناس إليهم كما لجئوا إلى هذا المجذوب المسكين .
فإذا ما أجرى الله الخير على يد هذا الشيخ المجذوب ترى السيد العظيم يتمحك فيه ، ويدعوه إلى طعامه ، ويدفع عنه أذى الناس ويحتضنه ، لأنه جرَّب وعلم أن لديه فيضاً من فيض الله وكرامة يختص الله بها مَنْ يشاء من عباده ، ونحن جميعاً عباد الله ليس فينا مَنْ هو ابن لله ، أو بينه وبين الله قرابة .
وإنْ كان العقل هو أعزّ ما يعتز به الإنسان ، وهو زينته وحليته ، فلك أن تنظر إلى المجنون الذي فقد العقل ، وحُرِم هذه الآلة الغالية ، وترى الناس يشيرون إليه : هذا مجنون ، نعم هو مجنون ، لكن انظر إلى سلوكه : هل رأيتم مجنوناً يسرق؟ هل رأيتم مجنوناً يزني؟ هل رأيتم مجنوناً انتحر؟
إذن : مع كونه مجنوناً إلا أنه مدرك لنفسه تماماً؛ لأن خالقه عز وجل وإنْ سلبه العقل إلا أنه أعطاه غريزة تحكمه كما تحكم الغريزة الحيوان ، وهل رأيتم حماراً ألقى بنفسه مثلاً أمام القطار؟
إذن : علينا ألاَّ نُحقِّر هؤلاء ، وألاَّ نستقل بهم فقد عوَّضهم الله عما سلبه منهم ، ومنّا مَنْ يسعى ليصل إلى ما وصلوا هم إليه ولا يستطيع ، ومَنْ مِنّا لا يتمنى أن يكون مثل هذا المجذوب الذي يتمسَّح الناس فيه ، ويطلبون منه البركة والدعاء؟ وأيُّ عظمة يطلبها الإنسان فوق هذا؟ ويكفي هذا أنه لا يُسأَلُ عَمّا يفعل في الدنيا ، ولا يُسْأَل كذلك في الآخرة .
نعود إلى قول الله تعالى : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً . . } [ الأنبياء : 92 ] فمن معاني أمة : الرجل الذي جمع خصال الخير كلها؛ لذلك وصف الله نبيه إبراهيم بأنه أمة ، فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً . . } [ النحل : 120 ] .
يعني : جمع من خصال الخير مَا لا يوجد إلا في أمة كاملة .
والأمة لا تكون واحدة ، إلا إذا صدر تكوينها المنهجي عن إله واحد ، فلو كان تكوينها من متعدد لذهب كُلُّ إله بما خلق ، ولعلاَ بعضهم على بعض ، ولفسد الحال .
(1/5936)

إذن : كما قال سبحانه : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض . . } [ المؤمنون : 71 ] .
فلا تكون الأمة واحدة إلا إذا استقبلت أوامرها من إله واحد وخضعت لمعبود واحد ، فإنْ نسيتْ هذا الإله الواحد تضاربتْ وتشتتتْ .
وكأن الحق سبحانه يقول : أنتم ستجربون أمة واحدة ، تسودون بها الدنيا وتنطلق دعوتكم من أمة أمية لا تعرف ثقافة ، ولا تعرف علماً ، ولم تتمرس بحكم الأمم؛ لأنها كانت أمة قبلية ، لكل قبيلة قانونها وسيادتها وقيادتها .
ثم ينزل لكم نظام يجمع الدنيا كلها بحضاراتها ، نظام يطوي تحت جناحه حضارة فارس وحضارة الروم ويُطوِّعها ، ولو أنكم أمة مثقفة لقالوا قفزة حضارية ، إنما هذه أمة أمية ، ونبيها أيضاً أُمِّي إذن : فلا بُدَّ أن يكون المنهج الذي جاء به ليسلب هذه الحضارات عِزَّها ومجدَها منهجاً أعلى من كل هذه المناهج والحضارات .
ثم يقول تعالى : { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون } [ الأنبياء : 92 ] أي : التزموا بمنهجي لتظلوا أمة واحدة ، واختار صفة الربوبية فلم يقُلْ : إلهكم؛ لأن الرب هو الذي خلق ورزق وربى ، أمّا الإله فهو الذي يطلب التكاليف .
فالمعنى : ما دُمْتُ أنا ربكم الذي خلقكم من عَدَم ، وأمدكم من عُدْم ، وأنا القيوم على مصالحكم ، أكلؤكم بالليل والنهار ، وأرزق حتى العاصي والكافر بي ، فأنا أوْلَى بالعبادة ، ولا يليق بكم أن أصنع معكم هذا كله وتذهبون إلى إله غيري ، هذا منطق العقل السليم ، وكما يقولون ( اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي ) .
ومن العبادة أن تطيع الله في أمره ونَهيْه؛ لأن ثمرة هذه الطاعة عائدة عليك بالنفع ، فلله تعالى صفات الكمال الأزليّ قبل أنْ يخلق مَنْ يطيعه ، فطاعتك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله ، ومعصيتك لن تنتقص منه شيئاً . إذن : فالأمر راجع إليك ، وربك يُثيبك على فعل هو في الحقيقة لصالحك .
لكن ، هل سمع الناس هذا النداء وعملوا بمقتضاه ، فكانوا أمة واحدة كهذه الأمة التي أدخلتْ الدنيا في رحاب الإسلام في نصف قرن؟ هذه الأمة التي ما زلنا نرى أثرها في البلاد التي تمردتْ على العروبة ، وعلى لغة القرآن ، ومع ذلك هم مسلمون على لغاتهم وعلى حضارتهم ، إن الدين الذي يصنع هذا ، والأمة الواحدة التي تحمَّلتْ هذه المسئولية ما كان ينبغي أن نتخلى عنها .
والسؤال : هل بقيت الأمة الواحدة؟ تجيب الآيات : { وتقطعوا أَمْرَهُمْ . . } .
(1/5937)

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
أي : صاروا شيعاً وأحزاباً وجماعات وطوائف ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 159 ] .
لماذا ، لست منهم في شيء؟ لأنهم يقضون على واحدية الأمة ، ولا يقضون على واحدية الأمة إلا إذا اختلفتْ ، ولا تختلف الأمة إلا إذا تعددتْ مناهجها ، هنا ينشأ الخلاف ، أمَّا إنْ صدروا جميعاً عن منهج واحد فلن يختلفوا .
وما داموا قد تقطعوا أمرهم بينهم ، فصاروا قِطَعاً مختلفة ، لكل قطعة منهج وقانون ، ولكل قطعة تكاليف ، ولكل قطعة راية ، وكأن آلهتهم متعددة ، فهل سيُتركون على هذا الحال ، أم سيعودون إلينا في النهاية؟
{ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [ الأنبياء : 93 ] إذن : أنتم أمة واحدة في الخَلْق من البداية ، وأمة واحدة في المرجع وفي النهاية ، فلماذا تختلفون في وسط الطريق؟
إذن : الاختلاف ناشىء من اختلاف المنهج ، وكان ينبغي أن يكون واضع المنهج واحداً . وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم خَاتَماً للرسالات ، وجاءت شريعته جامعة لمزايا الشرائع السابقة ، بل وتزيد عليها المزايا التي تتطلبها العصور التي تلي بعثته .
فكان المفروض أن تجتمع الأمة المؤمنة على ذلك المنهج الجامع المانع الشامل ، الذي لا يمكن أن يستدرك عليه ، وبذلك تتحقق وحدة الأمة ، وتصدر في تكليفاتها عن إله واحد ، فلا يكون فيها مَدْخَل للأهواء ولا للسلطات الزمنية أو الأغراض الدنيئة .
لذلك ، إذا تعددت الجماعات التي تقول بالإسلام وتفرقت نقول لهم : كونوا جماعة واحدة ، وإلا فالحق مع أيِّ جماعة منكم؟! لأن الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [ الأنعام : 159 ] .
ولا يتفرق الداعون لدعوة واحدة إلا باتباع الأهواء والأغراض ، أما الدين الحق فهو الذي يأتي على هوى السماء ، موافقاً لما ارتضاه الله تعالى لخَلْقه .
لقد انفضَّ المؤمنون عن الجامع الذي يجمعهم بأمر الله ، فانفضت عنهم الوحدة ، وتدابروا حتى لم يَعُدْ يجمعهم إلا قَوْلُ " لا إله إلا الله محمد رسول الله " أما مناهجهم وقوانينهم فقد أخذوها من هنا أو من هناك ، وسوف تعضهم هذه القوانين ، وسوف تخذلهم هذه الحضارات ، ويرون أثرها السيء ، ثم يعودون في النهاية إلى الإسلام فهو مرجعهم الوحيد ، كما نسمع الآن نداء لا حَلَّ إلا الإسلام .
نعم ، الإسلام حَلٌّ للمشاكل والأزمات والخلافات والزعامات ، حَلٌّ للتعددية التي أضعفتْ المسلمين وقوَّضَتْ أُخوَّتهم التي قال الله فيها : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً . . } [ آل عمران : 103 ] .
ووالله ، لو عُدْنا إلى حبل الله الواحد فتمسَّكنا به ، ولم تلعب بنا الأهواء لَعُدْنا إلى الأمة الواحدة التي سادتْ الدنيا كلها .
إذن : { إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [ الأنبياء : 93 ] أي : في الآخرة للحساب ، وأنا أقول يا رب . . لعل هذا الرجوع يكون في الدنيا بأنْ تعضَّنا قوانين البشر ، فنفزع إلى الله ونعود إليه من جديد ، فيعود لنا مجدنا ، ويصْدُق فينا قَوْل الرسول صلى الله عليه وسلم : " بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ غريباً ، فطوبى للغرباء " .
ويُعزِّز هذا الفهم ويُقوِّي هذا الرجاء قول الله تعالى بعدها : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ . . } .
(1/5938)

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
الحق -سبحانه وتعالى- يستأنف معنا العظة بالعمل الصالح ليعطينا الأمل لو رجعنا إلى الله ، والدنيا كلها تَشهد أن أيَّ مبدأ باطل ، أو شعار زائف زائل يُزخرفون به أهواءهم لا يلبث أنْ ينهار ولو بَعْد حين ، ويتبين أصحابه أنه خطأ ويعدلون عنه .
ومثال ذلك الفكر الشيوعي الذي ساد روسيا منذ عام 1917 وانتهكت في سبيله الحرمات ، وسفكتْ الدماء ، وهدمتْ البيوت ، وأخذت الثروات ، وبعد أن كانت أمة تصدر الغذاء لدول العالم أصبحت الآن تتسول من دول العالم ، وهم أول مَنْ ضَجَّ من هذا الفكر وعانى من هذه القوانين .
وقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ . . } [ الأنبياء : 94 ] ربط العمل الصالح بالإيمان ، لأنه مُنطلَق المؤمن في كُلِّ ما يأتي وفي كُلِّ ما يدع؛ لينال بعمله سعادة الدنيا وسعادة الآخرة .
أمّا مَنْ يعمل الصالح لذات الصلاح ومن منطلق الإنسانية والمروءة ، ولا يخلو هذا كله في النهاية عن أهواء وأغراض ، فليأخذ نصيبه في الدنيا ، ويحظى فيها بالتكريم والسيادة والسُّمْعة ، وليس له نصيب في ثواب الآخرة؛ لأنه فَعَل الخير وليس في باله الله .
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لذلك في قوله تعالى : { الذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ . . } [ النور : 39 ] .
يعني : فوجئ بوجود إله يحاسبه ويجازيه ، وهذه مسألة لم تكُنْ على باله ، فيقول له : عملتَ ليقال وقد قيل . وانتهت المسألة؛ لذلك يقول تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . . } [ الشورى : 20 ] أي : نعطيه أجره في عالم آخر لا نهاية له { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
لأنه عَمِلَ للناس ، فليأخذ أجره منهم ، يُخلِّدون ذكراه ، ويُقيمون له المعارض والتماثيل . . الخ .
وقوله تعالى : { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ . . } [ الأنبياء : 94 ] يعني : لا نبخسه حَقَّه ولا نجحد سَعْيه أبداً { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } [ الأنبياء : 94 ] نسجِّل له أعماله ونحفظها ، والمفروض أن الإنسان هو الذي يُسجِّل لنفسه ، فإنْ سجَّل لك عملَك ربُّك الذي يُثيبك عليه ، وسجَّله على نفسه ، فلا شكَّ أنه تسجيل دقيق لا يبخسك مثقال ذرة من عملك .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ . . } .
(1/5939)

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{ حَرَامٌ . . } [ الأنبياء : 95 ] يعني : ممتنع : لا يجب أن يكون ، والقرية : أي قرية أهلكناها؛ لأنها كذَّبَتْ الرسل ، ووقفتْ منهم موقف اللَّدَد والعناد والمعارضة ، فأهلكها الله بذنوبها في الدنيا ، أيُعقَلُ بعد هذا أن نتركها في الآخرة من غير أنْ نأخذها بذنوبها؟
لا بُدَّ - إذن - أن ترجع إلينا في الآخرة لنحاسبها الحساب الدائم الخالد ، فلا نكتفي بحساب الدنيا المنتهي .
ثم يقول الحق سبحانه : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ . . } .
(1/5940)

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وردتْ قصة يأجوج ومأجوج في آخر سورة الكهف ، حينما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الجوَّال الذي طاف الأرض ، فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 83 ] .
وقد تكلم العلماء في ذي القرنين ، منهم مَنْ قال : هو قورش ومنهم مَنْ قال هو : الإسكندر الأكبر . والقرآن لا يعنيه الشخص وإلاَّ لَذكره باسمه ، فالقرآن لا يُؤرِّخ له ، لا يقيم له تمثالاً ، إنما يريد التركيز على الأوصاف التي تعني الحق وتعني الخَلْق .
فيكفي أن نعلم أنه إنسان مكَّنَه الله في الأرض . يعني : أعطاه من أسباب القوة وأسباب المهابة والسيطرة ، وأعطاه من كُلِّ مُقوِّمات القوة : أعطاه المال والعلم والجيوش ، فلم يكتف بذلك كله ، بل { فَأَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 85 ] يعني : أخذ بالأسباب التي تؤدِّي إلى الخير .
وسبق أنْ تحدثنا عن تشخيص البطل في قصص القرآن؛ لأن القرآن لا يُؤرِّخ للشخصية ، ولا يُعطى لها خصوصية ، وإنما يريدها عامة لتكون مثلاً يُحتذَى ، ويتم بها الاعتبار ، وتُحدِث الأثر المراد من القصة .
فما يعنينا في قصة ذي القرنين أنه رجل مُكِّن في الأرض ، وكان من صفاته كذا وكذا ، وما يعنينا من أهل الكهف أنهم فتية آمنوا بربهم وتمسَّكوا بدينهم وعقيدتهم وضَحَّوْا في سبيلها ، لا يهمنا الأشخاص ولا الزمان ولا المكان ولا العدد .
لذلك؛ أبهم القرآن كل هذه المسائل ، فأيّ فتية ، في أيّ زمان ، وفي أيِّ مكان ، وبأيِّ أسماء يمكن أن يقفوا هذا الموقف الإيماني ، ولو شخَّصناهم وعيَّناهم لَقالَ الناس : إنها حادثة خاصة بهؤلاء ، أو أنهم نماذج لا تتكرر؛ لذلك أبهمهم القرآن ليكونوا عبرة وأُسْوة تسير في الزمان كله .
كذلك ، لما أراد القرآن أنْ يضرب مثلاً للذين كفروا ذكر امرأة نوح وامرأة لوط ولم يُعيِّنهما ، وكذلك ضرب مثلاً للذين آمنوا بامرأة فرعون ولم يذكر مَنْ هي ، فالغرض من ضَرْب هذه الأمثال ليس الأشخاص ، إنما لنعلم أن للمرأة حريةَ العقيدة واستقلاليةَ الرأي ، فليست هي تابعة لأحد ، بدليل أن نوحاً ولوطاً لم يتمكَّن كل منهما من هداية امرأته .
وفرعون الكافر الذى ادَّعَى الألوهية ، لم يستطع أن يمنع زوجته من الإيمان ، وهي قالت : { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] .
إذن : ما يعنينا في قصة " ذي القرنين " أن الله مكَّن له في الأرض وأعطاه كُلَّ أسباب القوة والسيطرة؛ لذلك ائتمنه أنْ يكونَ ميزاناً للخير وللحق ، وفوَّضَهُ أن يقضي في الخَلْق بما يراه من الحق والعدل . { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] .
لأننا مكَّنَّاه وفوَّضناه ، فاستعمل التمكين في موضعه ، وأخذ الأمانة بحقَِّها ، فقال :
(1/5941)

{ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ] أي : نُعذِّبه على قَدْر مقدرتنا ، ثم يُرَدُّ إلى ربه فيُعذِّبه على قَدْر قدرته تعالى . { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 88 ]
وهكذا يكون دستور الحياة من الحاكم الممكَّن في الخَلْق ، دستور الثواب والعقاب الذي تستقيم به أمور البلاد والعباد ، فحين يرى تقصيراً لا بُدَّ أنْ يأخذ على يد صاحبه مهما تكُنْ منزلته ، لا يخافه ولا ينافقه ولا يخشى في الله لومة لائم ، وإنْ رأى المحسن المجتهد يُثيبه ويكافئه .
وهذا القانون نراه في مجتمعنا يكاد يكون مُعطّلاً بين العاملين ، فاختلط الحابل بالنابل ، وتدهورتْ الأمور ، ودخلت بيننا مقاييس أخرى للثواب وللعقاب ما أنزل الله بها من سلطان ، فانقلبتْ الموازين ، حيث تبجح الكسالى ، وأُحْبِط المجدُّون المحسنون . { حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } [ الكهف : 90 ] .
هذا كُلُّ ما أخُبر الله به ، ويبدو أنه وصل في تجواله العام إلى بلاد تظل الشمس بها مشرقة ثلاثة أو ستةَ أشهر لا تغرب؛ لذلك لم يجد لهم من دون الشمس ستْراً يسترها أيْ ظلمة { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] .
ومع ذلك احتال أن يفهم منهم ، ويخاطبهم؛ لحرصه على نفعهم وما يصلحهم ، وهذه صفة الحاكم المؤمن حين يُمكَّن في الأرض ، وتُعطَى له أسباب القيادة ، ويُفوَّض في خَلْق الله ، ولو لم يكُنْ حريصاً على نفعهم لوجد العذر في كونه لا يفهم منهم ولا يفهمون منه .
فلما توصلوا إلى لغة مشتركة ، ربما هي لغة الإشارة التي نتفاهم بها مع الأخرس مثلاً : { قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } [ الكهف : 94 ] .
ثم أمرهم أن يأتوا بقطَع الحديد ، فأشعل فيها النار حتى احمرَّت فقال { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] وهكذا صنع لهم السدَّ الذي يحميهم من هؤلاء القوم ، فلم يَقصُر نفعه لهم على هذه القضية ذاتها ، إنما نفعهم نَفْعاً يعطيهم الخير والقوة في ألاَّ يتعرضوا لمثلها بعد ذلك ، عملاً بالحكمة التي تقول : لا تعطني سمكة ، ولكن علمني كيف أصطاد .
ذلك لأنه أشركهم في العمل؛ ليشعروا بأهميته ويتمسكوا بالمحافظة عليه وصيانته ، وإذا ما تعرضوا لمثل هذا الموقف لا ينتظرون مَنْ يصنع لهم .
هذا هو النموذج الذي تُقدِّمه قصة " ذي القرنين " وهو نموذج صالح لكل الزمان ولكل المكان ولكل حاكم مكَّنه الله في الأرض ، وألقى بين يديه أزِمّة الأمور ، وفي حديث أفضل العمل يقول صلى الله عليه وسلم : " تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق " .
وقد تضاربتْ الأقوال حول : مَنْ هم يأجوج ومأجوج ، فمنْ قائل : هم التتار .
(1/5942)

وآخر قال : المغول . وآخر قال : هم الحتيت ، أو السرديال ، أو قبائل الهُونْ .
ولو كان في تحديدهم فائدة لعيَّنهم القرآن ، إنما المهم من قصتهم أنهم قوْمٌ مفسدون في الأرض لا يتركون الصالح على صلاحه ، فإذا ما تصدَّى لهم الممكَّن في الأرض فعليه أن يحول بينهم وبين هذا الإفساد في غيرهم ، وعلينا نحن ألاَّ نُفسِد الصالح كهؤلاء ، إنما نترك الصالح على صلاحه ، بل ونزيده صلاحاً .
وفي بناء ذي القرنين للسد دروس يجب أنْ يعيها أولو الأمر الذين يتوَّلْون مصالح الخَلْق ، من هذه الدروس أنه لم يقف عند طلبهم في بناء سدٍّ يمنع عنهم أذى عدوهم ، إنما اجتهد وترقَّى بالمسألة إلى ما هو أفضل لهم ، فالسدُّ الأصمّ المتماسك كقطعة واحدة يسهل هَدْمه أو النفاذ منه؛ لذلك قال : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } [ الكهف : 95 ] .
لقد طلبوا سداً وهو يقول : رَدْماً ، لقد رقّى لهم الفكرة ، وأراد أن يصنع لهم سداً على هيئة خاصة تمتصّ الصدمات ، ولا تؤثر في بنائه؛ لأنه جعل بين الجانبين رَدْماً كأنه سوسته تُعطِي السدّ نوعاً من المرونة . وهكذا يجب أن يكون المؤمن عند تحمُّل مسئولية الخَلْق .
ولما عرضوا عليه المال نظير عمله أبى ، وقال : { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ . . } [ الكهف : 95 ] أي : عندي المال الكثير من عطاء الله لكن أعينوني بما لديكم من قوة . إذن : زكاة القوة أنْ تمنع الفساد من الغير .
نعود إلى قوله تعالى : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ . . } [ الأنبياء : 96 ] فلها علاقة بقوله تعالى : { وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ . . } [ الأنبياء : 93 ] فتقطّع أهل الخير وتفرُّقهم يُجرِّئ عليهم أصحاب الفساد ، وأقل ما يقولونه في حقِّهم أنهم لو كانوا على خير لنفعوا أنفسهم ، فدعُوكم من كلامهم ، وهكذا يفُتُّ أهل الباطل في عَضُدِ أهل الحق ، ويصرفون الناس عنهم .
{ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ . . } [ الأنبياء : 96 ] يعني : جاءت عناصر الفساد والفتنة في الكون ، وعناصر الفساد والفتنة لا تتمكن ولا تجد الفرصة والسلطة الزمنية إلا إذا غفل أهل الحق وتفرقوا فلم يردوهم ، ويأخذوا على أيديهم .
ويأجوج ومأجوج هم أهل الفساد في كل زمان ومكان ، فجنكيزخان الذي هدم أول ولاية إسلامية في خوارزم ، وكان عليها الملك قطب أرسلان ، ثم جاء من ذريته الثالثة هولاكو الذي دخل بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وخربَّها وقتل أهلها حتى سالتْ الدماء ، وألقى بالكتب الإسلامية في النهر حتى كانت قنطرة يعبرون عليها . هؤلاء الذين نُسمِّيهم التتار .
إذن : فالقرآن قَصَّ علينا من التاريخ القديم قصة يأجوج ومأجوج أيام ذي القرنين ، ثم رأيناهم في حياتنا الإسلامية ، وشاء الله أن يستفيد المسلمون من هجمات هؤلاء البرابرة ، وأن تتجمع ولاياتهم ويصدُّوا هجمات التتار على أرض مصر بقيادة قطز والظاهر بيبرس ، وهما مثالان للممكَّنين في الأرض ، مع أنهما من المماليك .
هذه الهجمات التترية للمفسدين في الأرض كانت هجمات همجية وحشية ، وقد تجمَّع أحفاد هؤلاء من يأجوج ومأجوج العصر الحديث في هجمات مدنية تغزونا بحضارتها ، إنهم الصليبيون الذين انهزموا أمام وحدة المسلمين بقيادة صلاح الدين .
(1/5943)

وهكذا على مرِّ التاريخ ننتصر إذا كنا أمة واحدة ، ونُهزَم إذا تفرّقنا وتقطّعنا أمماً وأحزاباً ، وهذه حقائق تُثبِت صِدْق القرآن فيما وجَّهنا إليه من الوحدة وعدم التفرق .
ثم يقول تعالى : { وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] .
الحدب : المكان المرتفع ، نقول : فلان أحدب الظهر يعني : في ظهره منطقة مرتفعة ، وكذلك هؤلاء المفسدون أتوْا من أماكن مرتفعة في هضبة شمال الصين . ومعنى { يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يعني : يسرعون ، ومنه نقول : انسلَّ القماش؛ لأن القماش مُكوَّن من سُدى ولُحمة ، يعني خيوط طولية وخيوط عرضية ، تتداخل فتكوِّن القماش ، فنسل القماش أن تنزع خيوط العرض وتفكّ تداخلها مع خيوط الطول ، ولا تُنزع خيوط الطول لأنها دائماً مُحكَمة بثَنْى السُّدَى على اللحمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ . . } .
(1/5944)

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
فكوْنُ أهل الفساد يأتون مُسْرِعين من كل حَدب وصَوْب إلا أن فسادهم لن يطول ، فقد اقتربت القيامة ، قال تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] .
وقال : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . } [ النحل : 1 ] .
وهذا تنبيه للغافل ، وتحذير للباغي من أهل الفساد ، وتطمين ورجاء للمظلومين المستضعفين المعتدَى عليهم : اطمئنوا فقد قرب وقت الجزاء .
{ واقترب الوعد الحق . . } [ الأنبياء : 97 ] والوعد الحق أي : الصادق الذي يملك صاحبه أن يُنفّذه ، فقد تَعِد وعداً ولا تملك تنفيذه فهو وَعْد ، لكنه وَعْد باطل ، فالوعد يختلف حَسْب مروءة الواعد وإمكانياته وقدرته على إنفاذ ما وعد به .
لكن مهما كانت عندك من إمكانيات ، ومهما ملكتَ من أسباب التنفيذ ، أتضمن أن تُمكِّنك الظروف والأحوال من التنفيذ؟ ولا يملك هذا كله إلا الله عز وجل ، فإذا وعد حقق ما وعد به ، فالوعد الحق - إذن - هو وعد الله .
وحين يقول الحق سبحانه : { واقترب الوعد الحق . . } [ الأنبياء : 97 ] فتنبه ولا تَقِسْ الدنيا بعمرها الأساسي ، إنما قِسْ الدنيا بعمرك فيها ، فهذه هي الدنيا بالنسبة لك ، ولا دَخْلَ لك بدنيا غيرك ، فإذا كنتَ لا تعلم متى تفارق دنياك فلا شَكَّ أن عمرك قريب ، واقترب الوعد الحق بالنسبة لك .
وكذلك مدة مُكْثِك في قبرك إلى أن تقوم الساعة ستمر عليكِ كساعة من نهار ، كما قال سبحانه : { كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار . . } [ يونس : 45 ] .
ولو تنَّبه كل مِنّا إلى إخفاء الله لأجله ، لعلم أن في هذا الإخفاء أعظمَ البيان ، فحين أخفاه ترقبناه في كل طَرْفة عَيْن ، وتنفُّس نَفَسٍ؛ لذلك يقولون : " مَنْ مات قامت قيامته " ، لأن القيامة تعنى الحساب والجزاء على الأعمال ، ومَنْ مات انقطع عمله ، وطُويَتْ صحيفته .
وقوله تعالى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ . . } [ الأنبياء : 97 ] وَعْد الله هنا هو القيامة ، وهي تفاجئنا وتأتينا بغتة؛ لذلك نقول في ( فَإذَا ) أنها الفجائية ، كما تقول : خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب ، يعني : فوجئت به ، وهكذا ساعةَ تقوم الساعة سوف تُفَاجِئ الجميع ، لا يدري أحد ماذا يفعل .
لذلك يقول سبحانه : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ . . } [ الأنبياء : 97 ] وشخوص البصر يأتي حين ترى شيئاً لا تتوقعه ، ولم تحسب حسابه ، فتنظر مُنْدهِشاً يجمد جفنُك الأعلى الذي يتحرك على العين ، فلا تستطيع حتى أنْ ترمش أو تطرف .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] .
وإذا أردتَ أن ترى شُخوص البصر فانظر إلى شخص يُفَاجأ بشئ لم يكُنْ في باله ، فتراه - بلا شعور وبغريزته التكوينية - شاخصَ البصر ، لا ينزل جفنه .
ثم يقولون : { ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا . . } [ الأنبياء : 97 ] فلم يقتصر الموقف على شخوص البصر إنما تتحرك أيضاً أدوات الإدراك فيقول اللسان : { ياويلنا } وهذا نداء للويل أي : جاء وقتُك فلم يَعُدْ أمامهم إلا أنْ يقولوا : يا عذاب هذا أوانك فاحضر .
(1/5945)

والويل : هو الهلاك السريع ينادونه ، فهل يطلب الإنسان الهلاكَ ، ويدعو به لنفسه؟ نقول : نعم ، حين يفعل الإنسان الفعلَ ويجد عواقبه السيئة ، وتواجهه الحقيقة المرّة يميل إلى تعذيب نفسه ، أَلاَ تسمع مثل هؤلاء يقولون : أنا أستحق . . أنا أستاهل الضرب . . ؟ إنه لَوْم النفس وتأنيبها على ما كان منها ، فهي التي أوقعتْه في هذه الورطة .
لذلك يقول سبحانه : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] .
فلماذا لا يُؤنِّب نفسه ، ويطلب لها العذاب ، وهي التي أردتْه في التهلكة ، ففي هذا الموقف تنقلب موازينهم التي اعتادوها في الدنيا ، فالأصدقاء في الشر وفي المعصية هم الآن الأعداء .
{ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا . . } [ الأنبياء : 97 ] لم يكن هذا الموقف في بالنا ، ولم نعمل له حساباً ، والغفلة : أنْ تدرأ عن بالك ما يجب أن يكون على بالك دائماً .
لكن ، أيّ غفلة هذه والله - عز وجل - يُذكِّرنا بهذا الموقف في كل وقت من ليل أو نهار ، ألاَ ترى أنه سبحانه سَمَّى القرآن ذِكْراً ليزيح عنّا هذه الغفلة ، فكلما غفلتَ ذكّرك ، وهزَّ مواجدك ، وأثار عواطفك .
إذن : المسألة ليست غفلة؛ لذلك نراهم يستدركون على كلامهم ، فيقولون : { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 97 ] لأنهم تذكَّروا أن الله تعالى طالما هَزَّ عواطفهم ، وحرَّك مواجيدهم ناحية الإيمان ، فلم يستجيبوا .
لذلك اعترفوا هنا بظلمهم ، ولم يستطيعوا إنكاره في مثل هذا الموقف ، فلم يعُدْ الكذب مُجْدِياً ، ولعلّهم يلتمسون بصدقهم هذا نوعاً من الرحمة ، ويظنون أن الصدق نافعهم ، لكن هيهات .
وكأن الحق سبحانه يحكي عنهم هذه المواجهة حين تفاجئهم القيامة بأهوالها ، فتشخص لها أبصارهم ، ويقول بعضهم { ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا . . } [ الأنبياء : 97 ] فيردّ عليهم إخوانهم : أيّ غفلة هذه ، وقد كان الله يُذكِّرنا بالقيامة وبهذا الموقف في كل وقت { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } [ الأنبياء : 97 ] .
و ( بَلْ ) حرف إضراب عن الكلام السابق ، وإثبات للكلام اللاحق ، وهكذا يُراجِعون أنفسهم ، ويُواجِه بعضهم بعضاً ، لكن بعد فوات الأوان .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله . . } .
(1/5946)

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
فالذين اتخذتموهم آلهة من دون الله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر والأشجار سيسبقونكم إلى جهنم لنقطع عليكم أيَّ أمل في النجاة؛ لأنهم حين يروْنَ العذاب ربما تذكّروا هؤلاء ، وفكَّروا في اللجوء إليهم والاستنجاد بهم ، لعلّهم يُخرِجِونهم من هذا المأزق ، وقد سبق أنْ قالوا عنهم : { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله . . } [ يونس : 18 ] وقالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى . . } [ الزمر : 3 ] .
لذلك ، يجمعهم الله جميعاً في جهنم ليقطع عنهم الآمال ، ويبدو خجل المعبود وخيبة العابد؛ لأنه جاء النارَ فوجد معبوده قد سبقه إليها . . لكن ، هل هذا الكلام على إطلاقه فقد عبد الكفارُ الأصنامَ ، ومنهم مَنْ عبدوا عيسى عليه السلام ، ومنهم مَنْ عبدوا عُزَيْراً ، ومنهم مَنْ عبدوا الملائكة ، فهل سيُجمع هؤلاء أيضاً مع عابديهم في النار؟
لو قُلْنا بهذا الرأي فدخولهم النار مثلما دخلها إبراهيم ، فجمع الله له النار والسلامة في وقت واحد ، ويكون وجودهم لمجرد أنْ يراهم عابدوهم ، ويعلموا أنهم لا ينفعونهم .
ومعنى { حَصَبُ جَهَنَّمَ . . } [ الأنبياء : 98 ] الحصب مثل : الحطب ، وهو كل ما تُوقَد به النار أياً كان خشباً أو قَشاً أو بترولاً أو كهرباء ، وفي آية أخرى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة . . } [ التحريم : 6 ] لذلك فإن النار نفسها تشتاق للكفار ، وتنتظرهم ، وتتلهّف عليهم كما يقول تعالى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] وقوله تعالى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ . . } [ الملك : 7 - 8 ] وقوله تعالى : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] الورود هنا بمعنى : الدخول والمباشرة ، لا كالورود في الآية الأخرى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا . . } [ مريم : 71 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا . . } .
(1/5947)

لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
لأنهم سيدخلون فيجدون آلهتهم أمامهم؛ لينْقطِع أملهم في شفاعتهم التي يظنونها ، كما قال تعالى في شأن فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار . . } [ هود : 98 ] فرئيسهم وفُتوتهم يتقدمهم ، ويسبقهم إلى النار ، فلو لم يكُنْ أمامهم لظنوا أنه ينقذهم من هذا المأزق . ولو كان هؤلاء آلهة - كما تدَّعون - ما وردوا النار .
ومعنى : { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأنبياء : 99 ] لأن المعروف عن النار أنها تأكل ما فيها ، ثم تنتهي ، أما هذه النار فلا نهايةَ لها ، فكلما نضجَتْ جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ، وهكذا تظل النار مُتوقِّدة لا تنطفئ . ومعنى { كُلٌّ . . } [ الأنبياء : 99 ] أي : العابد والمعبود .
(1/5948)

لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
معلوم أن الزفير هو الخارج من عملية التنفس ، فالإنسان يأخذ في الشهيق الأكسجين ، ويُخرِج في الزفير ثاني أكسيد الكربون ، فنلحظ أن التعبير هنا اقتصر على الزفير دون الشهيق؛ لأن الزفير هو الهواء الساخن الخارج ، وليس في النار هواء للشهيق ، فكأنه لا شهيقَ لهم ، أعاذنا الله من العذاب .
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأنبياء : 100 ] .
وهذه من الآيات التي توقف عندها المستشرقون ، لأن هناك آياتٍ أخرى تُثبت لهم في النار سَمْعاً وكلاماً . كما في قوله سبحانه : { ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ]
نعم ، هم يسمعون ، لكن لا يسمعون كلاماً يَسُرُّ ، إنما يسمعون تبكيتاً وتأنيباً ، كما في قوله تعالى : { ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } [ الأعراف : 50 ] .
(1/5949)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الكافرين في النار ذكر المقابل ، وذِكْر المقابل يوضح المعنى ، اقرأ قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] .
ويقول : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً . . } [ التوبة : 82 ] لذلك تظل المقارنة حيَّة في الذِّهْن .
ومعنى : { سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى . . } [ الأنبياء : 101 ] الحُسْنى : مؤنث الأحسن ، تقول : هذا حَسَن ، وهذه حسنة ، فإنْ أردتَ المبالغة تقول : هذا أحسن ، وهذه حُسْنى . مثل : أكبر وكُبْرى . ومعنى : { سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى . . } [ الأنبياء : 101 ] أنهم من أهل الطاعة ، ومن أهل الجنة ، فهكذا حُكْم الله لهم ، وقد أخذ الله تعالى جزءاً من خَلْقه وقال : " هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي " .
ولا تقُلْ : ما ذنب هؤلاء؟ لأنه سبحانه حكم بسابق عِلْمه بطاعة هؤلاء ، ومعصية هؤلاء .
وقوله : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] أي : مبعدون عن النار .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشتهت . . } .
(1/5950)

لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
حسيس النار : أزيزها ، وما ينبعث منها من أصوات أول ما تشتعل { وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } [ الأنبياء : 102 ] فلم يقُلْ مثلاً : وهم بما اشتهتْ أنفسهم ، إنما { فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ . . } [ الأنبياء : 102 ] كأنهم غارقون في النعيم ممَّا اشتهتْ أنفسهم ، كأن شهوات أنفسهم ظرف يحتويهم ويشملهم . وهذا يُشوِّق أهل الخير والصلاح للجنة ونعيمها ، حتى نعمل لها ، ونُعِد العُدَّة لهذا النعيم .
وسبق أن قلنا : إن الإنسان يتعب في أول حياته ، ويتعلم صنعة ، أو يأخذ شهادة لينتفع بها فيما بعد ويرتاح في مستقبل حياته ، وعلى قَدْر تعبك ومجهودك تكون راحتك ، فكل ثمرة لا بُدَّ لها من حَرْث ومجهود ، والله عز وجل لا يُضيع أجرَ مَنْ أحسن عملاً .
وكنا نرى بعض الفلاحين يقضي يومه في حقله ، مهملَ الثياب ، رثَّ الهيئة ، لا يشغله إلا العمل في زرعه ، وآخر تراه مُهنْدماً نظيفاً يجلس على المقهى سعيداً بهذه الراحة ، وربما يتندر على صاحبه الذي يُشقِى نفسه في العمل ، حتى إذا ما جاء وقت الحصاد وجد العامل ثمرة تعبه ، ولم يجد الكسول غير الحسرة والندم .
إذن : ربك - عز وجل - أعطاك الطاقة والجوارح ، ويريد منك الحركة ، وفي الحركة بركة ، فلو أن الفلاح جلس يُقلِّب في أرضه ويُثير تربتها دون أنْ يزرعها لَعوَّضه الله وأثمر تعبه ، ولو أن يجد شيئاً في الأرض ينتفع به مثل خاتم ذهب أو غيره .
وترف الإنسان وراحته بحسب تَعبه في بداية حياته ، فالذي يتعب ويعرق مثلاً عَشْر سنين يرتاح طوال عمره ، فإنٍْ تعب عشرين سنة يرتاح ويرتاح أولاده من بعده ، وإنْ تعِب ثلاثين سنة يرتاح أحفاده وهكذا .
وترَف المتعلم يكون بحسب شهادته : فهذا شهادة متوسطة ، وهذا عُلْيا ، وهذا أخذ الدكتوراة ، ليكون له مركز ومكانة في مجتمعه .
لكن مهما أعدَّ الإنسان لنفسه من نعيم الحياة وترفها فإنه نعيم بقّدْر إمكانياته وطاقاته؛ لذلك ذكرنا أننا حين سافرنا إلى سان فرانسيسكو رأينا أحد الفنادق الفخمة وقالوا : إن الملك فيصل - رحمه الله - كان ينزل فيه ، فأردنا أنْ نتجوّل فيه ، وفعلاً أخذنا بما فيه مظاهر الترف والأُبهة وروعة الهندسة ، وكان معي ناس من عِلْية القوم فقلتُ لهم : هذا ما أعدّه العباد للعباد ، فما بالكم بما أعدَّه رب العباد للعباد؟
فإذا ما رأيتَ أهل النعيم والترف في الدنيا فلا تحقد عليهم؛ لأن نعيمهم يُذكِّرك ويُشوِّقك لنعيم الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر . . } .
(1/5951)

لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
ذلك لأنهم في نعيم دائم لا ينقطع ، وعطاء غير مجذوذ ، لا يفوتك بالفقر ولا تفوته بالموت؛ لذلك : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر . . } [ الأنبياء : 103 ] وأيُّ فزع مع هذه النعمة الباقية؟ أو : لا يحزنهم فزع القيامة وأهوالها .
وقوله : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 103 ] فقد صَدَقكم الله وَعْده ، وأنجزَ لكم ما وعدكم به من نعيم الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ . . } .
(1/5952)

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
أي : ما يحدث من عذاب الكفار وتنعيم المؤمنين سيكون { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ . . } [ الأنبياء : 104 ] و ( يَوْمَ ) : زمن وظَرْف للأحداث ، فكأن ما يحدث للكافرين من العذاب والتنكيل ، وما يحدث للمؤمنين من الخلود في النعيم يتم في هذا اليوم .
والسجل : هو القرطاس ، والورق الذي نكتب فيه يُسمَّى سجلاً؛ ولذلك الناس يقولون : نسجل كذا ، أي : نكتبه في ورقة حتى يكون محفوظاً ، والكتاب : هو المكتوب .
والحق سبحانه يقول في آية أخرى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ . . } [ الزمر : 67 ] يطويها بقدرته؛ لأن اليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء ، ولكن لا نأخذ الطي أنه الطي المعروف ، بل نأخذه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . . } [ الشورى : 11 ] .
وقوله تعالى : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ . . } [ الأنبياء : 104 ] يدلنا على أن الحق سبحانه يتكلم عن الخَلْق الأول و { نُّعِيدُهُ . . } تدل على وجود خَلْق ثَان .
إذن : فقوله تعالى في موضع آخر : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] دليل على أن الخَلْق الأول خَلْق فيه الأسباب وفيه المسبّب ، فالحق سبحانه أعطاك في الدنيا مُقوِّمات الحياة من : الشمس والقمر والمطر والأرض والماء . . . . الخ ، وهذه أمور لا دَخْل لك فيها ، وكل ما عليك أنْ تستخدمَ عقلك الذي خلقه الله في الترقي بهذه الأشياء والترف بها .
أما في الخلق الثاني فأنت فقط تستقبل النعيم من الله دون أَخْذ بالأسباب التي تعرفها في الدنيا؛ لأن الآخرة لا تقوم بالأسباب إنما بالمسبِّب سبحانه ، وحين ترى في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر تعلم أن فِعْل ربك لك أعظم من فِعْلك لنفسك .
ومهما ارتقتْ أسباب الترف في الدنيا ، ومهما تفنَّن الخَلْق في أسباب الراحة والخدمة الراقية ، فقصارى ما عندهم أن تضغط على زِرٍّ يفتح لك الباب ، أو يُحضِر لك الطعام أو القهوة ، لكن أتحدَّى العالم بما لدية من تقدُّم وتكنولوجيا أنْ يُقدم لي ما يخطر ببالي من طعام أو شراب ، فأراه أمامي دون أنْ أتكلم؛ لأن هذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
فقوله : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ . . } [ الأنبياء : 103 ] فالمعنى ليستْ مجرد إعادته كما كان ، إنما نعيده على أَرْقى وأفضل مما كان بحيث يصل بك النعيم أنْ يخطرَ الشئ ببالك فتجده بين يديك ، بل إنَّ المؤمن في الجنة يتناول الصنف من الفاكهة فيقول : لقد أكلْتُ مثل هذا من قبل فيُقال له : ليس كذلك بل هو أفضل مما أكلْتَ ، وأهنأ مما تذوقتَ . فلو تناولتَ مثلاً تفاح الدنيا تراه خاضعاً لنوعية التُّرْبة والماء والجو المحيط به والمبيدات التي لا يستغني عنها الزرع هذه الأيام . . . إلخ . أمّا تفاح الآخرة فهو شيء آخر تماماً ، إنه صَنْعة ربانية وإعداد إلهيّ .
وكأن الحق سبحانه يلفت عباده إلى أن عنايته بهم أفضل من عنايتهم بأنفسهم؛ لأنه سبحانه أوْلَى بنا من أنفسنا ، ولكي نعلم الفرق بين الشيء في أيدينا والشيء في يده عز وجل .
ثم يقول تعالى : { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] أي : لا يُخرِجنا شيء عمَّا وعدنا به ، ولا يخالفنا أحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ . . } .
(1/5953)

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
والكَتْب : التسجيل ، لكن علم الله أزليٌّ لا يحتاج إلى تسجيل ، إنما التسجيل من أجلنا نحن حتى نطمئن ، كما لو أخذتَ من صاحبك قَرْضاً وبينكما ثقة ، ويأمن بعضكم بعضاَ ، لكن مع هذا نكتب القَرْض ونُسجِّله حتى تطمئن النفس .
ومعنى : { كَتَبْنَا فِي الزبور . . } [ الأنبياء : 105 ] الزبور : الكتاب الذي أُنزِل على نبي الله داود ، ومعنى الزبور : الشيء المكتوب ، فإنْ أطلقتَها على عمومها تُطلَق على كل كتاب أنزله الله ، ومعنى : { مِن بَعْدِ الذكر . . } [ الأنبياء : 105 ] الذِكْر : يُطلَق مرة على القرآن ، ومرة على الكتب السابقة . وما دام الزَبور يُطلَق على كل كتاب أنزله الله فلا بُدَّ أن للذكر معنى أوسع؛ لذلك يُطلَق الذكر على اللوح المحفوظ ، لأنه ذكْر الذكْر ، وفيه كل شيء .
فمعنى : { كَتَبْنَا فِي الزبور . . } [ الأنبياء : 105 ] أي : في الكتب التي أُنزلَتْ على الأنبياء ما كتبناه في اللوح المحفوظ ، أو ما كتبناه في الزبور ، لا أنّ سيدنا داود أعطاه الله فوق ما أعطى الآخرين .
ومعنى : { مِن بَعْدِ الذكر . . } [ الأنبياء : 105 ] هذه تدل على أن واحداً أسبق من الآخر ، نقول : القرآن هو كلام الله القديم ، ليس في الكتب السماوية أقدم منه ، والمراد هنا { مِن بَعْدِ الذكر . . } [ الأنبياء : 105 ] بعدية ذِكْرية ، لا بعدية زمنية .
فما الذي كتبه الله لداود في الزبور؟ كتب له { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] كلمة الأرض إذا أُطلقَتْ عموماً يُراد بها الكرة الأرضية كلها .
وقد تُقيَّد بوصف معين . كما في : { الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ . . } [ المائدة : 21 ] .
وفي : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض . . } [ يوسف : 80 ] أي : التي كان بها .
وهنا يقول تعالى : { أَنَّ الأرض . . } [ الأنبياء : 105 ] أي : الأرض عموماً { يَرِثُهَا . . } أي : تكون حقاً رسمياً لعبادي الصالحين . فأيُّ أرض هذه؟ أهي الأرض التي نحن عليها الآن؟ أم الأرض المبدلة؟
ما دُمْنَا نتكلّم عن بَدْء الخَلْق وإعادته ، فيكون المراد الأرض المبدلَة المعادة في الآخرة ، والتي يرثها عباد الله الصالحون ، والإرْث هنا كما في قوله تعالى : { تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] .
فعن مَنْ ورثوا هذه الأرض؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الخَلْق أعدَّ الجنة لِتسعَ كلَّ بني آدم إنْ آمنوا ، وأعدَّ النار لتسع كُلَّ بني آدم إنْ كفروا ، فليس في المسألة زحام على أيِّ حال . فإذا ما دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ، ودخل أهلُ النارِ النارَ ظلَّتْ أماكن أهل النار في الجنة خالية فيُورثها الله لأهل الجنة ويُقسِّمها بينهم ، ويُفسح لهم أماكنهم التي حُرِم منها أهل الكفر .
أو نقول : الأرض يُراد بها أرض الدنيا . ويكون المعنى أن الله يُمكِّن الصالح من الأرض ، الصالح الذي يَعْمُرها ولو كان كافراً؛ لأن الله تعالى لا يحرم الإنسان ثمار عمله ، حتى وإنْ كان كافراً ، يقول تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ }
(1/5954)

[ الشورى : 20 ] .
لكن عمارة الكفار للأرض وتمكينهم للحضارة سَرْعان ما تنزل بهم النكبات ، وتنقلب عليهم حضارتهم ، وها نحن نرى نكبات الأمم المرتقية والمتقدمة وما تعانيه من أمراض اجتماعية مستعصية ، فليست عمارة الأرض اقتصاداً وطعاماً وشراباً وترفاً . ففي السويد - مثلاً - وهي من أعلى دول العالم دَخْلاً ومع ذلك بها أعلى نسبة انتحار ، وأعلى نسبة شذوذ ، وهذه هي المعيشة الضَّنْك التي تحدَّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 124 ]
فالضَّنْك لا يعني فقط الفقر والحاجة ، إنما له صور أخرى كثيرة .
إذن : لا تَقِسْ مستوى التحضُّر بالماديات فحسب ، إنما خُذْ في حُسبانك كُلَّ النواحي الأخرى ، فمَنْ أتقن النواحي المادية الدنيوية أخذها وترف بها في الدينا ، أمّا الصلاح الديني والخُلقي والقِيَمي فهو سبيل لترف الدنيا ونعيم الآخرة .
وهكذا تشمل الآية : { يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] الصلاح المادي الدنيوي ، والصلاح المعنوي الأخروي ، فإنْ أخذتَ الصلاح مُطلقاً بلا إيمان ، فإنك ستجد ثمرته إلى حين ، ثم ينقلب عليك ، فأين أصحاب الحضارات القديمة من عاد وثمود والفراعنة؟
إن كُلَّ هذه الحضارات مع ما وصلتْ إليه ما أمكنها أن تحتفظ لنفسها بالدوام ، فزالتْ وبادتْ .
يقول تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 6 - 10 ] .
إنها حضارات راقية دُفِنَتْ تحت أطباق التراب ، لا نعرف حتى أماكنها . أمّا إنْ أخذت الصلاح المعنوي ، الصلاح المنهجي من الله عز وجل فسوف تحوز به الدنيا والآخرة؛ ذلك لأن حركة الحياة تحتاج إلى منهج يُنظِّمها : افعل كذا ولا تفعل كذا . وهذا لا يقوم به البشر أمّا ربُّ البشر فهو الذي يعلم ما يُصلحهم ويُشرِّع لهم ما يُسعدهم .
إن منهج الله وحده هو الذي يأمرنا وينهانا ، ويخبرنا بالحلال والحرام ، وعلينا نحن التنفيذ ، وعلى الحكام وأولياء الأمر الممسكين بميزان العدل أنْ يراقبوا مسألة التنفيذ هذه ، فيُولُّوا مَنْ يصلُح للمهمة ، ويقوم بها على أكمل وجه ، وإلا فسد حال المجتمع ، الحاكم يُشرف ويُراقِب ، يُشجِّع العامل ويُعاقب الخامل ، ويضع الرجل المناسب في مكانه المناسب .
فعناصر الصلاح في المجتمع : علماء يُخططون ، وحكام يُنفّذون ، ويديرون الأمور ، وكلمة حاكم مأخوذة من الحكَمة ( بالفتح ) وهي : اللجام الذي يكبح الفَرس ويُوجِّهها .
لذلك جاء في الحديث الشريف : " مَنْ ولَّى أحداً على جماعة ، وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة " .
لماذا؟ لأن ذلك يُشيع الفساد في الأرض ، ويُثبِّط العزائم العالية والهمم القوية حين ترى مَنْ هو أقلّ منك كفاءة يتولّى الأمر ، وتُستبعد أنت .
(1/5955)

أما حين تعتد كِفَة الميزان فسوف يجتهد كُلٌّ مِنّا ليصل إلى مكانه المناسب .
إذن : مهمة الحكام وولاة الأمر ترقية المجتمع ، فلا نقول لحاكم مثلاً يُعِدُّ لنا طعاماً ، أو يصنع لنا آلة ، فليستْ هذه مهمته ، ولقد رأينا أحد الأمراء وكان له أرض يزرعها ، يتولاها أحد الموظفين يقولون له ( الخُولي ) ومهمة الخولي الإشراف والمراقبة .
وفي يوم جاء الأمير ليباشر أرضه ويتفقد أحوالها في صُحْبة الخولي ، وفي أثناء جولتهما بالأرض رأى الخولي قناةً ينسابُ منها الماء حتى أغرق الزرع فنزل وسَدَّ القناة بنفسه .
وعندها غضب الأمير وفصله من عمله؛ لأنه عمل بيده في حين أن مهمته الإشراف ولديه من العمال مَنْ يقوم بمثل هذا العمل .
لكن لماذا هذه النظرة في إدارة الأعمال؟ قالوا : لإنك إنْ عملتَ بيدك فأنت واحد ، لكن إنْ أشرفتَ فيمكن أنْ تُشرِف على آلاف من العمال . ومن هنا جاءت مسألة التخصُّص في الأعمال .
وعلى الحاكم ووليّ الأمر أنْ يحافظ على منهج الله ، ويتابع تطبيق الناس له ، فيقف أمام أي فساد ، ويأخذ على يد صاحبه ، ويثيب المجتهد العامل ، كما جاءَ في قوله تعالى في قصة القرنين : { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 87 - 88 ] .
ذلك ، لأن الله تعالى يزَعُ بالسلطان مَا لا يزع بالقرآن ، ولو تركنا أهل الفساد والمنحرفين لجزاء القيامة لفسد المجتمع ، لا بُدَّ من قوة تصون صلاح المجتمع ، وتضرب على أيدي المفسدين ، لا بُدَّ من قوة تمنع مَنْ يتجرؤون علينا ويطالبون بتغيير نظامنا الإسلامي .
لذلك يقول تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] لا بُدَّ أن يعلم العدو أن لديك الرادعَ الذي يَردعه إنِ اعتدى عليك أو حاول إفساد صلاح المجتمع .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث إن السهم الذي يُرمى في سبيل الله ، لكل مَنْ شارك في إعداده ورمية جزء من الثواب ، فالذي قطعه من الشجرة والذي براه ، والذي وضعه في القوس ورمى به؛ لأن في ذلك صيانةً للحق وصيانة للصلاح حتى يدوم ، ولا يفسده أحد .
والمسئولية هنا لا تقتصر على الحكام وولاة الأمر ، إنما هي مسئولية كل فرد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين ، كما جاء في الحديث : " كلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته : فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بَعْلها وولده وهي مسئولة عنهم ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته " .
وعلى العامل ألاّ ينظرَ إلى مراقبة صاحب العمل ، وليكُنْ هو رقيباً على نفسه ، والله عز وجل يراقب الجميع ، وقد جاء في الحديث القدسي
(1/5956)

" " إن كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخَلل في إيمانكم ، وإنْ كنتم تعتقدون أَنِّي أراكم فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ " .
والمتأمل في حركة الحياة يجدها متداخلة ، فمثلاً لو أردتَ بناء بيت ، فالهندسة حركة ، والبناء حركة ، والكهرباء حركة ، والنجارة حركة ، وهكذا . . ، فلو قلنا : إن هذا العمل يتكون من مائة حركة مثلاً ، فإنك لا تملك منها إلا حركة واحدة هي عملك الذي تتقنه ، والباقي حركات لغيرك ، فإنْ أخلصتَ فيما للناس عندك ألهمهم الله أنْ يخلصوا لك ولو عن غير قصد ، فأنت أخلصتَ وأتقنتَ حركة واحدة ، وأخلص الناس لك في تسع وتسعين حركة .
واعلم أن الخواطر والأفكار بيد الله سبحانه ، فإنْ راقبتَ الله فيما للناس عندك راقبهم الله لك فيما لك عندهم ، وكفاك مُؤْنة المراقبة ، فقد يصنع لك الصانع شيئاً ، ويريد أنْ يغشَّك فيه فيحول الله بينه وبين هذا؛ ربما يجلس معه أحد معارفه فيستحي أن يغش أمامه ، أو لا يجد الشيء الذي يغشك به ، أو غير ذلك من الأسباب التي يُسخِّرها الله لك ، فيتقن لك الصانع صَنْعته ، ولو رَغْماً عن إرادته .
إذن : إن أردتَ صلاحَ أمرك فأصلح أمور الآخرين .
ومن الأساسيات التي نُصلح بها ونرث الأرض أن ننظر إلى الناس جميعاً على أنهم سواسية ، لا فضلَ لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح ، فليس فينا مَنْ هو ابن لله عز وجل ، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة ، قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ . . } [ الحجرات : 13 ] .
والإسلام لا يعرف الطبقية إلا في إتقان العمل ، فقيمة كل امرئ ما يُحسِنه ، وقد ضربنا لذلك مثلاً ، وما نزال نذكره مع أنه لرجل غير مسلم ، إنه رجل فرنسي كان نقيباً للعمال ، وكان يدافع عن حقوقهم ، ويطلب لهم زيادة الدَّخْل من ميزانية الوزارة ، فلما تولى منصب الوزارة وتولى المسئولية عدلَ عَمَّا كان يطالب به ، فضجَّ العمال ، وأراد أحدهم أنْ يغيظه فقال له : اذكر يا معالي الوزير أنك كنت في يوم من الأيام ماسح أحذية ، فما كان من الرجل إلا أن قال : نعم . . لكني كنت أجيدها .
وسبق أن ذكرنا أن الله تعالى وزَّعَ المواهب والقدرات بين خَلْقه ، فساعة ترى نفسك مُميزاً على غيرك في شيء فلا تغتر به ، وابحثْ فيما مُيّز به عنك غيرُك؛ لأننا جميعاً عند الله سواء ، لا يحابي أحداً على أحد ، فأنت مُميز بعلمك أو قوتك ، وغيرك أيضاً مُميز في سعادته مع أهله أو في أمانته وثقة الناس به ، أو في رضاه بما قسم له أو في مقدرته على نفسه ورضاه بالقليل ، وقد يُميَّز الواحد مِنَّا بالولد الصالح الذي يكون مِطْواعاً لأبيه ، وقُرة عَيْن له .
(1/5957)

إذن : هذه مسألة مُقدّرة محسوبة؛ لأن ربك سبحانه قيُّوم عليك ، لا تخفى عليه منك خافية ، وحين يُميّز بعضنا على بعض إنما ليدكّ فينا الغرور والكبرياء ، وينزع من قلوبنا الحِقْد والغلَّ ، وهكذا يتوازن المجتمع ، ولا يكون التميز مثار حقدٍ؛ لأن تميزَ غيرك لصالحك ، وسيعود عليك .
والحق - سبحانه وتعالى - يُحدِّثنا عن يوم القيامة ، وكيف أن الشمس ستدنو من الرؤوس ، ويشتدّ بالناس الكرب ، إلا هؤلاء الذين يُظلُّهم الله يوم لا ظل إلا ظله ، ذلك لأنهم كانوا مظلة أمان في الدنيا ، فأظلهم الله في الآخرة .
كما جاء في الحديث الشريف : " سبعة يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد ، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " .
نعم ، لقد صنع هؤلاء بسلوكهم القويم مظلَّة أمانٍ في الكون ، فاستحقوا مظلَّة الله في الآخرة . وبمثل هؤلاء يتوازن المجتمع المسلم ويَرْقَى إلى القمة ، هذا المجتمع الذي نريده هو مجتمع غنيّه متواضع ، وفقيره كريم شريف ، وشابُّه طائع .
يقول رب العزة سبحانه في الحديث القدسي : " " أحب ثلاثة وحُبِّي لثلاثة أشدُّ - فهؤلاء ستة نقسمهم إلى قسمين - أحب الفقير المتواضع ، وحُبِّي للغني المتواضع أشد - لأن عنده أسبابَ الكبر ومع ذلك يتواضع - وأحب الغنيِّ الكريم وحُبِّي للفقير الكريم أشدّ ، وأحب الشيخ الطائع وحبي للشاب الطائع أشدُّ "
. " وأكره ثلاثة وكُرْهي لثلاثة أشد : أكره الغني المتكبر ، وكُرْهي للفقير المتكبر أشدّ ، وأكره الفقير البخيل ، وكُرْهي للغني البخيل أشد ، وأكره الشاب العاصي وكرهي للشيخ العاصي أشد " .
هؤلاء اثنا عشر نوعاً : ستة في المحبوبية ، وستة في المكروهية ، وكلما التزمنا بتطبيق هذا المنهج وجدنا مجتمعاً راقياً من الدرجة الأولى .
(1/5958)

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
البلاغ : الشيء المهم الذي يجب أن يعلمه الناس؛ لذلك حين ينشغل الناس بالحرب ، وينتظرون أخبارها تأتيهم على صورة بلاغات ، يقولون : بلاغ رقم واحد ، لأنه أمر مهم .
فقوله تعالى : { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً . . } [ الأنبياء : 106 ] أي : أن ما جاء به القرآن هو البلاغ الحق ، والبلاغ الأعلى الذي لم يترك لكم عذراً ، ولا لغفلتكم مجالاً ، ولا لمستدرك أنْ يستدرك عليه في شيء . فهو مُنتْهى ما يمكن أنْ أخبركم به .
وهو بلاغ لمن؟ { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 106 ] أي : يتلقفون مُرادَ الله لينفذوه ، سواء أكان أمراً أمْ نَهياً .
(1/5959)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
وما دام صلى الله عليه وسلم خاتَم الرسل ، وبعثتُه للناس كافة ، وللزمن كله إلى أنْ تقوم الساعة . وقد جاء الرسل السابقون عليه لفترة زمنية محددة ، ولقوم بعينهم ، أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فجاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛ لذلك لا بُدَّ لها أنْ تتسعَ لك أقضية الحياة التي تعاصرها أنت ، والتي يعاصرها خَلَفُك ، وإلى يوم القيامة .
ومعنى : العالمين ، كُلُّ ما سوى الله عز وجل : عالم الملائكة ، وعالم الجن ، وعالم الإنس ، وعالم الجماد ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات . لكن كيف تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم جميعاً؟
قالوا : نعم ، رحمة للملائكة ، فجبريل - عليه السلام - كان يخشى العاقبة حتى نزل على محمد قوله تعالى : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] فاطمأن جبريل عليه السلام وأَمِن .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للجماد؛ لأنه أمرنا بإماطة الأذى عن الطريق . وهو رحمة بالحيوان . وفي الحديث الشريف : " ما من مسلم يزرع زَرْعاً ، أو يغرس غَرْساً فيأكلَ منه طيْرٌ أو إنسان أو بهيمة ، إلا كان له به صدقة " .
وحديث المرأة التي دخلتْ النار في هِرَّة حبستْها ، فلا هي أطعمتْها وسقتْها ، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض .
وحديث الرجل الذي دخل الجنة؛ لأنه سقى كلباً كان يلهث يأكل الثرى من شدة العطش ، فنزل الرجل البئر وملأ خُفَّه فسقى الكلب ، فشكر الله له وغفر له ، لأنه نزل البئر وليس معه إناء يملأ به الماء ، فاحتال للأمر ، واجتهد ليسقي الكلب .
وهكذا نالتْ رحمة الإسلام الحيوان والطير والإنسان ، ففي الدين مبدأ ومنهج يُنظِّم كل شيء ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الناس؛ لذلك فهو رحمة للعالمين .
فقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] يعني أن كل ما يجيء به الإسلام داخل في عناصر الرحمة .
ثم يقول سبحانه : { قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ . . . } .
(1/5960)

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
فالوحدانية هي أول رحمة بنا ، أن نكون كلنا سواء ، ليس لنا إلا إله واحد ، هذه من أعظم رحمات الله أن نعبده وحده لا شريكَ له ، فعبادته تُغنينا عن عبادة غيره ، ولو كانت آلهةً متعددة لأصابتنا الحيرة بين إله يأمر ، وإله ينهى .
لذلك؛ فالحق - سبحانه وتعالى - يطلب منا أنْ نعتزّ وأنْ نفخَر بهذه الوحدانية ، وبهذه الألوهية ، وفي هذا يقول الشاعر الإسلامي محمد إقبال :
والسُّجود الذِي تَجْتويِه ... مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةُ
فسجودك لله وتعفير وجهك له سبحانه يحميك من السجود لغيره ، ولولا سجودك لله لَسجدت لكل مَنْ هو أقوى منك ، فعليك - إذن - أن تعتز بعبوديتك لله؛ لأنها تحميك من العبودية لغيرك من البشر ، وحتى لا يقول لك شخص أنت عبد ، نعم أنا عبد لكن لستُ عبداً لك ، فعبد غيرك حُرٌّ مثلك .
وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في هذه المسألة في قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [ الزمر : 29 ] فهل يستوي عبد لعدة أسياد يتجاذبونه في وقت واحد ، وهم مع ذلك مختلفون بعضهم مع بعض ، وعبد سَلَمَاً لسيد واحد؟
وهكذا ، نحن جميعاً عبيد لله - عز وجل - حين نخضع لا نخضع إلا له سبحانه ، فلا أخضع لك ولا تخضع أنت لي؛ لذلك يقولون " اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم " لأنه أمر من أعلى ، من السماء ، لا دَخْلَ لأحد فيه .
لذلك؛ فالعبودية تُكره حين تكون عبوديةً للبشر ، لأن عبودية البشر للبشر يأخذ السيد خير عبده ، أما العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده .
والشاعر يقول :
حَسْبُ نفسي عِزاً بأنِّي عَبْدٌ ... يحتفي بي بلاَ مواعيدَ رَبُّ
هُوَ في قُدْسِه الأعزِّ ولكِنْ ... أنا أَلْقَى متى وأيْنَ أُحِبُّ
ولك أنْ تقارن بين مقابلة عظيم من عظماء الدنيا ، ومقابلة ربك عز وجل . فإنْ أردتَ الدخولَ على أحد هؤلاء لا بُدَّ أن تطلب المقابلة ، ويا ترى تقبل أم ترفض ، وإنْ قبلت فلا تملك من عناصرها شيئاً ، فالزمان ، والمكان ، وموضوع الكلام . كلها أمور يحددها غيرك .
أما إن أردتَ مقابلة ربك - عز وجل - فما عليك إلا أنْ تتوضأ وترفع يديك قائلاً : الله أكبر بعدها ستكون في معية الله ، وقد اخترتَ أنت الزمان ، والمكان ، وموضوع الحديث ، وإنهاء اللقاء .
أَلاَ ترى كيف امتنَّ الله تعالى على رسوله في رحلة " الإسراء والمعراج " بأنْ وصفه بالعبودية له سبحانه ، فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] إذن : جاء قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ . . } [ الأنبياء : 108 ] بعد قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ليدلنا : أن دعوة الله لنا إلى عبادة إله واحد ترحمنا من عبوديتنا بعضنا لبعض .
ثم يُرغِّبنا الحق سبحانه في هذه العبودية ، فيقول : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ الأنبياء : 108 ] كما تحث ولدك المتكاسل أن يكون مثلَ زميله الذي تفوَّق ، وأخذ المركز الأول ، فتقول له : ألا تذاكر وتجتهد حتى تكون مثله؟
وهكذا في { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ الأنبياء : 108 ] أي : مسلمون لله؛ لأن مصلحتكم في الإسلام وعزّكم في عبوديتكم لله .
(1/5961)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } [ الأنبياء : 109 ] يعني : أعرضوا وانصرفوا { فَقُلْ آذَنتُكُمْ . . } [ الأنبياء : 109 ] مادة : أذن ومنها الأذان تعني الإعلام بالشيء ، والأصل في الإعلام كان في الأًذُن بالكلام ، حيث لم يكُنْ عندهم قراءة وكتابة ، فاعتمد الإعلام على الكلام ، والسماع بالأذن ، فمعنى : { آذَنتُكُمْ . . } [ الأنبياء : 109 ] أعلمتُكم وأخبرتُكم .
وقوله تعالى : { على سَوَآءٍ . . } [ الأنبياء : 109 ] يعني : جاء الإعلام لكم جميعاً لم أخصّ أحداً دون الآخر ، فأنتم في الإعلام سواء ، لا يتميز منكم أحد على أحد؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إبلاغ الجميع ، فيقول : " نضَّر الله امْراً سمع مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها ، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع " وهكذا يشيع الخيْر ويتداول بين الجميع .
{ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ . . } [ الأنبياء : 109 ] فلم أُعْلِم قوماً دون قوم ، ولم أُسْمِع أُذناً دون أُذن ، وجعلت من كمال الإيمان أن يخبر السامع مَنْ لم يسمع؛ لأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
ثم يُنبِّههم إلى أمر الساعة : { وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 109 ] فانتبهوا وخُذوا بالكم ، واحتاطوا ، فلا أدري لعلَّ الساعةَ تكون قريباً ، ولعلها تفاجئكم من قبل أنْ أُنهي كلامي معكم .
لذلك؛ لما سألوا أحد الصالحين : فِيمَ أفنيتَ عمرك؟ قال : " أفنيت عمري في أربعة أشياء : علمت أني لا أخلو من نظر الله طَرْفة عين فاستحييتُ أنْ أعصيه ، وعلمتُ أن لي رزْقاً لا يتجاوزني قد ضمنه الله لي فقنعتُ به ، وعلمتُ أن عليَّ دَيْناً لا يؤديه عني غيري فاشتغلتُ به ، وعلمتُ أن لي أَجَلاً يبادرني فبادرتُه " .
إذن : فالمراد : استعدوا لهذه المسألة قبل أن تفاجئكم .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول . . } .
(1/5962)

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
وما دام ربك - عز وجل - يعلم الجهر ويعلم السرَّ وأخْفى ، فإياك أنْ تنافق؛ لأننا ننهاك عن النفاق مع البشر ، فمن باب أَوْلى أن ننهاك عن نفاق ربك سبحانه الذي يعلم سِرَّك كما يعلم علانيتك ، وقصارى أمر البشر أنْ يُراقبوا علانيتك . لذلك ، فإن كل احتياطات أهل الإجرام التخفِّي عن أعين الدولة ، والهرب من مراقبة الشرطة ، لكن كيف التخفي عن نظر الله وعلمه؟
وقوله تعالى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] يُعلّمنا الأدب حتى فيما نكتم ، فالأدب في الجهر من باب أَوْلَى ، ونحن مؤمنون بأن الله سبحانه غَيْب غير مشهد ، وهَبْ أنك في بيتك تعلم كل شيء فيه؛ لأنه مشهد لك ، أمّا ما كان خارج البيت فهو غَيْب عنك لا تعلمه ، أمّا الحق سبحانه فهو غَيْب يعلم كل مَشْهد وكل غيب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ . . } .
(1/5963)

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
أي : لعل الإمهال وبقاءكم دون عذاب وتباطؤ الساعة عنكم فتنةٌ واختبار ، يا ترى أتُوفَّقون وتفوزون في هذا الاختبار ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .
وقال تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] .
وقوله تعالى : { وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } [ الأنبياء : 111 ] أي : لن يدوم هذا النعيم وهذا المتاع؛ لأن له مدة موقوتة .
ثم يقول الحق سبحانه في ختام سورة الأنبياء : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق وَرَبُّنَا الرحمن . . } .
(1/5964)

قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق . . } [ الأنبياء : 112 ] كما دعا بذلك الرسل السابقون : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] .
وهل يحكم الله سبحانه إلا بالحق؟ قالوا : الحق سبحانه يُبيِّن لنا؛ لأننا عِشْنا في الدنيا ورأينا كثيراُ من الباطل ، فكأننا لأول مرة نسمع الحكم بالحق .
ثم يقول سبحانه : { وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 112 ] أي : المستعان على تُجرمون فيه من نسبتنا إلى الجنون ، أو إلى السحر . . الخ .
وتلاحظ أن الحق سبحانه في آيات سورة الأنبياء تكلم عن طَيِّ السماء كطيِّ السجل للكتب ، ثم قال : { لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ . . } [ الأنبياء : 111 ] { وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } [ الأنبياء : 111 ] ، ثم قال : { رَبِّ احكم بالحق . . } [ الأنبياء : 112 ] هذا كله ليُقرِّب لنا مسألة الساعة وقيامها ، ويُعِدُّنا لاستقبال " سورة الحج " .
(1/5965)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
الخطاب هنا عام للناس جميعاً ، وعادةً ما يأتي الخطاب الذي يطلب الإيمان عاماً لكل الناس ، إنما ساعة يطلب تنفيذ حكم شرعي يقول : يا أيها الذين آمنوا .
لذلك يقول هنا : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ . . } [ الحج : 1 ] يريد أنْ يلفتهم إلى قوة الإيمان . وكلمة { اتقوا رَبَّكُمْ . . } [ الحج : 1 ] التقوى : أنْ تجعل بينك وبين ما أحدِّثك عنه وقايةً ، أي : شيئاً يقيك العذاب الذي لا طاقةَ لك به .
ونلحظ أن الله تعالى يقول مرة : { واتقوا الله . . } [ البقرة : 194 ] ومرة يقول : { فاتقوا النار . . } [ البقرة : 24 ] نعم ، لأن المعنى ينتهي إلى شيء واحد . معنى : { فاتقوا النار . . } [ البقرة : 24 ] أي : اجعل بينك وبينها وقاية تحميك منها ، ويكون هذا بفِعْل الأمر وتَرْك النهي .
وقوله : { واتقوا الله . . } [ البقرة : 194 ] لأن الله تعالى صفات جمال ، وصفات جلال ، صفات الجمال كالرحمن ، والرحيم ، والباسط ، والستار ، وصفات الجلال كالقهار والجبار وغيرها مما نخاف منه .
فاجعل بينك وبين صفات الجلال وقايةً ، فليستْ بك طاقة لقاهريته ، وبطشه سبحانه ، والنار من جنود الله ، ومن مظاهر قَهْره . فكما نقول : اتقِّ الله نقول : اتقِّ النار .
واختار في هذا الأمر صفة الربوبية ، فقال : { اتقوا رَبَّكُمْ . . } [ الحج : 1 ] ولم يقُلْ : اتقوا الله؛ لأن الرب هو المتولِّي للرعاية وللتربية ، فالذي يُحذّرك هو الذي يُحبك ويُعطيك ، وهو الذي خلقك وربَّاك ورعاك .
فالربوبية عطاء : إيجاد من عَدم وإمداد من عُدم ، فأولْى بك أن تتقيه ، لأنه قدَّم لك الجميل .
أما صفة الألوهية فتعني التكاليف والعبادة بافْعل ولا تفعل ، الله معبود ومُطَاع فيما أمر وفيما نَهَى .
ثم يقول تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] الزلزلة : هي الحركة العنيفة الشديدة التي تُخرِج الأشياء عن ثباتها ، كما لو أردتَ أنْ تخلعَ وتداً من الأرض ، فعليك أولاً أنْ تهزْه وتخلخله من مكانه ، حتى تجعل له مجالاً في الأرض يخرج منه ، إنما لو حاولت جذْبه بدايةً فسوف تجد مجهوداً ومشقة في خَلْعه ، وكذلك يفعل الطبيب في خلع الضِّرس .
فمعنى الزلزلة : الحركة الشديدة التي تزيل الأشياء عن أماكنها ، والحق سبحانه وتعالى تكلم عن هذه الحركة كثيراً فقال : { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً * وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 4 - 6 ]
ويقول : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 1 - 5 ] .
فالزلزال هنا ليس زلزالاً كالذي نراه من هزّات أرضية تهدم بعض البيوت ، أو حتى تبتلع بعض القرى ، فهذه مجرد آيات كونية تثبت صدْق البلاغ عن الله ، وتنبهك إلى الزلزال الكبير في الآخرة ، إنه صورة مصغرة لما سيحدث في الآخرة ، حتى لا نغتر بسيادتنا في الدنيا فإن السيادة هبة لنا من الله .
وعندما حدث زلزال " أغادير " لاحظوا أن الحيوانات ثارتْ وهاجتْ قبل الزلزال بدقائق ، ومنها ما خرج إلى الخلاء ، فأيُّ إعلام هذا؟ وأيُّ استشعار لديها وهي بهائم في نظرنا لا تفهم ولا تعي؟
إن في ذلك إشارة للإنسان الذي يعتبر نفسه سيد هذا الكون : تنّبه ، فلولا أن الله سَيَّدَك لوكزتْكَ هذه البهائم فقضت عليك .
(1/5966)

نقول : ليس هذا زلزالاً عاماً ، إنما هو زلزال مخصوص منسوب إلى الأرض بوحي من الله ، وبأمر منه سبحانه أن تتزلزل .
لذلك وُصِف هذا الزلزال بأنه شيء عظيم : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] فحين تقول أنت أيها الإنسان : هذا شيء عظيم فهو عظيم بمقياسك أنت ، أما العظيم هنا فعظيم بمقاييس الحق سبحانه ، فلكَ أن تتصوَّر فظاعة زلزال وصفه الله سبحانه بأنه عظيم .
لقد افتُتحَتْ هذه السورة بزلزلة القيامة؛ لأن الحق سبحانه سبق أنْ قال : { واقترب الوعد الحق . . } [ الأنبياء : 97 ] فلا بُدَّ أنْ يعطينا هنا صورة لهذا الوعد ، ونُبْذة عما سيحدث فيه ، وصورة مُصغَّرة تدل على قدرته تعالى على زلزال الآخرة ، وأن الأرض ليس لها قوام بذاتها ، إنما قوامها بأمر الله وقدرته ، فإذا أراد لها أنْ تزول زالتْ .
وكذلك في قوله تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] .
فَمَا نراه من البراكين ومن الثروات في باطن الأرض وعجائب يقع تحت هذه الآية؛ لذلك قال تعالى : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى } [ طه : 6 ] .
ما دام الحق سبحانه يمتنُّ بملكية ما تحت الثَّرى فلا بُدَّ أن تحت الثرى ثروات وأشياءَ نفيسة ، ونحن الآن نُخرِج معظم الثروات من باطن الأرض ، ومعظم الأمم الغنية تعتمد على الثروات المدفونة من بترول ومعادن ومناجم وذهب . . إلخ .
وسبق أن ذكرنا أن الحق - سبحانه وتعالى - بعثَر الخيرات في كونه ، وجعل لكل منها وقته المناسب ، فالرزق له ميلاد يظهر فيه : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا . . } .
(1/5967)

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
والرؤية : قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية ، والشيء الذي نعلمه إما : علمَ اليقين ، وإما عين اليقين ، وإما حقيقة اليقين . علم اليقين : أنْ يخبر مَنْ تثق به بشيء ، كما تواترت الأخبارعن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا ، وبها كذا وكذا ، فهذا نسميه " علم يقين " ، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا " عين اليقين " فإذا نزلتَ بها وتجولتَ بين شوارعها ومبانيها فهذا نسميه " حقيقة اليقين " .
لذلك؛ حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاباً في النار فهذا الإخبار صادق من الله فعِلْمنا به " علم يقين " ، فإذا رأيناها فهذا " عين اليقين " كما قال سبحانه : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } [ التكاثر : 7 ]
فإذا ما باشرها أهلها ، وذاقوا حرّها ولظاها - وهذا مقصور على أهل النار - فقد علموها حَقَّ اليقين ، لذلك يقول تعالى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين * فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } [ الواقعة : 90 - 96 ]
ومعنى : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ . . } [ الحج : 2 ] الذهول : هو انصراف حاجة عن مهمتها الحقيقية لهوْلٍ رأتْه فتنشغل بما رأته عن تأديةِ وظيفتها ، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً ، فيسقط ما بيده مثلاُ ، فالذهول - إذن - سلوك لا إرادي قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة ، أو عن شيء تفرضه الغريزة .
العاطفة كالأم التي تذهَلُ عن ولدها ، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد ، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأم تحتاط في مشيتها ، وفي حركاتها ، خوفاً على الجنين في بطنها ، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد ، وإلاَّ تعرض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته .
لذلك ، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها ، قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يعود ، والمريض حتى يُشْفَى ، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة ، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قوية ، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة .
فانظر إلى المرضعة ، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه ، وأيُّ هول هذا الذي يشغلها ، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويُعطِّل حتى الغريزة .
وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ } [ عبس : 34 - 36 ] .
ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم ، قالوا : لأن الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه ، ولا هو في حاجة إليهما لأنه كبر ، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة .
(1/5968)

وقوله تعالى : { كُلُّ مُرْضِعَةٍ . . } [ الحج : 2 ]
والمرضعة تأتي بفتح الضاد وكَسْرها : مُرضَعة بالفتح هي التي من شأنها أن ترضع وصالحة لهذه العملية ، أما مُرضِعة بالكسر فهي التي تُرضع فعلاً ، وتضع الآن ثديها في فَم ولدها ، فهي مرضِعة فانظر - إذن - إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه الحالة .
وقوله تعالى : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا . . } [ الحج : 2 ] بعد أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل ، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني ، فالرحم بمجرد أنْ تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها ، كما قال سبحانه وتعالى : { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى . . } [ الحج : 5 ] .
فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله ، فهذه - إذن - مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها . إذن : وَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث .
والحَمْل نوعان : ثقَل تحمله وهو غيرك ، وثقل تحمله في ذاتك ، ومنه قوله تعالى : { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } [ طه : 101 ] والحِمْل ( بكسر الحاء ) : هو الشيء الثقيل الذي لا يُطيقه ظهرك ، أمّا الحَمْل بالفتح فهو : الشيء اليسير تحمله في نفسك . وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهْرُ ... مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْر
أي : أن الشيء الذي تطيق حَمْله ويَقْوى عليه ظهرك ليس بحمل ، إنما الحمل هو الهمّ الذي يحتويه الصدر .
ثم يقول سبحانه : { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] سكارى : أي يتمايلون مضطربين ، مثل السكارى حين تلعب بهم الخمر ، ( وتطوحهم ) يميناً وشمالاً ، وتُلقِي بهم على الأرض ، وكلما زاد سُكْرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديداً!!
وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْرِ ولكن من خوف وهَوْل وفزع { وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] .
لكن ، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا؟
قالوا : لأن الله تعالى خلق الجوارح ، وخلق في كل جارحة غريزة الانضباط والتوازن ، وعلماء التشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معينة مسئولة عن حِفْظ التوازن للجسم ، فإذا ما تأثرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدُّوار ، ويفقد توازنه ، كأنْ تنظر من مكان مرتفع ، أو تسافر في البحر مثلاً .
فهذا الاضطراب لا من سُكْر ، ولكن من هَوْل ما يرونه ، فيُحدث لديهم تغييراً في الغُدد والخلايا المسئولة عن التوازن ، فيتمايلون ، كمن اغتالتْه الخمر .
وقوله تعالى : { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] إنهم لم يَرَوْا العذاب بَعْد ، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم؛ لأن الذي يَصْدُق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يَصْدُق في أن بعدها عذاباً في جهنم ، إذن : انتهت المسألة وما كنا نكذب به ، ها هو ماثل أمام أعيننا .
ثم يقول سبحانه : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله . . }
.
(1/5969)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
الجدل : هو المحاورة بين اثنين ، يريد كل منهما أنْ يؤيد رأيه ويدحضَ رأْيَ الآخر ، ومنه : جَدْل الخوص أو الحبل أي : فَتْله واحدة على الأخرى .
ولو تأملتَ عملية غَزْل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدة سنتيمترات ، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلاً طويلاً ، لأنهم يداخلون هذه الشعيرات بعضها في بعض ، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى ، وهكذا يتم فَتْله وغَزْله ، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى ، وهكذا يكون الجدل في الأفكار ، فكل صاحب فكرة يحاول انْ يُقوِّي رأيه وحجته؛ ليدحض حجة الآخرين .
فقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله . . } [ الحج : 3 ] فكيف يكون الجدل في الله تعالى؟
يكون الجدل في الله وجوداً ، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله ، أو يكون الجدل في الوحدانية ، كمن يشرك بالله إلهاً آخر ، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء غيبي ، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يُصدِّقون به ، هذا كله جدل في الله .
وقوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ . . } [ الحج : 3 ] إذن : فالجدل في ذاته مُبَاح مشروع ، شريطة أن يصدر عن علم وفقه ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ النحل : 125 ] .
فالحق سبحانه لا يمنع الجدل ، لكن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين ، وكما يقولون : النصح ثقيل ، فلا تجعله جَدَلاً ، ولا ترسله جبلاً ، ولا تُخرِج الإنسان مما يألف بما يكره ، واقرأ قوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة . . } [ النحل : 125 ] .
وقال سبحانه : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ العنكبوت : 46 ] .
لذلك؛ فالقرآن الكريم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لَوْناً من الجدل في قوله تعالى : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] .
فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي : ففي خطابهم يقول : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا . . } [ سبأ : 25 ] وينسب الإجرام إلى نفسه ، وحين يتكلم عن نفسه يقول : { وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] ولم يقُلْ هنا : تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين . وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق .
ولما اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القرآن بالعقل وبالمنطق ، فسألهم : ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئاً من هذا؟ وما هو الخُلق؟ الخُلق : استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير ، فهل رأيتُم على محمد خلاف هذا؟
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ . . } [ سبأ : 46 ] .
وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنوناً؟
ولما قالوا : كذاب ، جادلهم القرآن :
(1/5970)

{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] .
لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين ، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم؟
وقالوا : إنها عبقرية كانت عند محمد ، فأيُّ عبقرية هذه التي تتفجَّر بعد الأربعين ، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله : أبوه مات قبل أنْ يوُلد ، وأمه ماتت وهو رضيع ، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيراً .
وهكذا ، يعطينا القرآن مثالاً للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة ، للجدل الصادر عن عِلْم بما تقول ، وإدراك لحقائق الأمور .
لذلك؛ لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك : عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل ، فقال الشَّعْبيّ : ما الذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال : تقولون إن في الجنة طعاماً لا ينفد أبداً ، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لابُدَّ أنْ ينفد . انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون .
قال الشَّعْبي : أرأيتَ لو أن عندك مصباحاً ، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من ضوئه ، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ هذا - إذن - جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى .
ويستمر ملك الروم فيقول : كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أوْ نتغوّط أو تكون لنا فضلات؟ نقول : أرأيتم الجنين في بطن الأم : أينمو أم لا؟ إنه ينمو يوماً بعد يوم ، وهذا دليل على أنه يتغذَّى ، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات ، إذن : يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه ، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء .
ثم قال : أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرجل إجمالاً : تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك ، وأمامك المصباح وفيه ضوء ، ثم نفخ المصباح فانطفأ ، فقال له : أين ذهب الضوء؟
ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه ، حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر ، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا " قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمار : " تقتله الفئة الباغية " " وأخذوا يتركون جيش معاوية واحداً بعد الآخر ، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال : لقد فشَتْ في الجيش فاشية ، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد ، فقال معاوية : وما هي؟ قال : يقولون : إننا قتلنا عماراً والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه : " تقتله الفئة الباغية " .
فاحتار معاوية ثم قال : قُلْ لهم قتله مَنْ أخرجه للقتال - يعني : علي بن أبي طالب ، فلما بلغ الكلامُ سيدنا علياً ، قال : قولوا لهم : فمَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟ أي : إن كان الأمر كما تقولون فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قاتل حمزة؛ لأنه هو الذي أخرجه للقتال .
(1/5971)

هذا هو الجدل عن علم ، والعلم قد يكون علماً بدهياً وهو العلم الذي تؤمن به ولا تستطيع أن تدلل عليه . أو علماً عقلياً استدلالياً ، وقد يكون العلم بالوحي من الله لا دَخْلَ لأحد فيه ، وسبق أنْ ضربنا مثلاً للبدهيات بالولد الصغير حينما يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلاً ، فيأتي الصغير يريد أنْ يجلس هو بجوار الأب ، فيحاول أولاً أنْ يقيم أخاه من المكان فيشدُّه ويجذبه ليخلى له المكان .
وهنا نتساءل : كيف عرف الطفل الصغير أن الحيِّز لا يسع اثنين؟ ولا يمكن أنْ يحلَّ بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولاً؟
هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية ، فعرفنا معنى الحيِّز وعدم تداخل الأشياء ، هذه المسألة يعرفها الطفل بديهة .
ولو تأملتَ النظريات الهندسية لوجدتَ أن كل نظرية تُبنَى على نظرية سابقة ، فلو أردت أنْ تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلاً ، وهكذا إلى أنْ تصلَ إلى نظرية بدهية لا برهانَ عليها .
وهكذا تستطيع أن تقول : إن كل شيء علمي في الكون مبنيٌّ على البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان ، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفاً ، فالسماء مثلاً ، يقولون هي كل ما علاك فأظَّلك ، فالسقف سماء ، والغيم سماء ، والسحاب سماء ، والسماء سماء ، مع أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف؛ لأنك حين تسمع هذه الكلمة ( السماء ) تعرف معناها بديهة دون تعريف .
وهذه الأمور البدهية لا جدلَ فيها؛ لأنها واضحة ، فلو قلتَ لهذا الطفل : اجلس على أخيك ، فهذا ليس جدلاً؛ لأنه لا يصح .
أما العلم الاستدلالي فأنْ تستدل بشيء على شيء ، كأنْ تدخل بيتك فتجد ( عقب سيجارة ) مثلاً في ( طفاية السجائر ) فتسأل : مَنْ جاءكم اليوم؟ ومثل الرجل العربي حين سار في الصحراء ، فوجد على الأرض آثاراً لخفِّ البعير وبَعْره ، فقال : البعرة تدل على البعير ، والقدم تدل على المسير .
أما عِلْم الوحي فيأتي من أعلى ، يلقيه الله سبحانه على مَنْ يشاء من عباده .
فعلى المجادل أن يستخدم واحداً من هذه الثلاثة ليجادل به ، فإن جادل بغير علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها .
وقد نزلت هذه الآية : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ . . } [ الحج : 3 ] في النضر بن الحارث ، وكان يجادل عن غير علم في الوجود ، وفي الوحدانية ، وفي البعث . . إلخ .
والآية لا تخص النضر وحده ، وإنما تخص كل مَنْ فعل فِعْله ، ولَفَّ لفَّه من الجدل .
ثم يقول تعالى : { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } [ الحج : 3 ] أي : أن هذا الجدل قد يكون ذاتياً من عنده ، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله ، سواء أكان شيطانَ الإنس أو شيطانَ الجن .
إذن : فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة ، إما من النفس التي لا تنتهي عن مخالفة ، وإما من الشيطان الذي يُلِحُّ عليك إلى أنْ يوقِع بك في شِرَاكه .
(1/5972)

لكن ، لا نجعل الشيطان ( شماعة ) نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا ، فليست كل الذنوب من الشيطان ، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها ، وسبق أنْ قُلْنا : إذا كان الشيطان هو الذي يوسوس بالشر ، فمَنِ الذي وسوس له أولاً؟ وكما قال الشاعر :
إِبْلِيسُ لَمَّا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه؟ ... وفَرْق بين المعصية من طريق النفس ، والمعصية من طريق الشيطان ، الشيطان يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه ، أمّا النفس فتريدك عاصياً من وجه واحد لا تحيد عنه ، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك ، إلاَّ أنْ تُوقعك في هذا الشيء بالذات .
وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية صرفكَ إلى معصية أخرى ، أياً كانت ، المهم أن تعصي ، وهكذا يمكنك أنْ تُفرِّق بين المعصية من نفسك ، أو من الشيطان .
ولما سُئل أحد العلماء : كيف أعرف : أأنا من أهل الدنيا أمْ من أهل الآخرة؟ قال : هذه مسألة ليستْ عند العلماء إنما عندك أنت ، قال : كيف؟ قال : انظر في نفسك ، فإنْ كان الذي يأخذ منك الصدقة أحبّ إليك ممَّنْ يعطيك هدية ، فاعلم أنك من أهل الآخرة ، وإنْ كانت الهدية أحبَّ إليك من الصدقة فأنت من أهل الدنيا .
ذلك لأن الإنسان يحب من عمَّر له ما يحب ، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا التي تحبها فأنت تحبه ، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه . فهذه مسألة لا دَخْل للشيطان فيها .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [ لقمان : 20 ] فهذه الآية تُجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها : فالعلم يُرَاد به البدهيات ، والهدى أي : الاستدلال ، والكتاب المنير يُراد به ما جاء وَحيْاً من الله ، وبهذه الثلاثة يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن .
ومعنى : { مَّرِيدٍ } [ الحج : 3 ] من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر ، والمرود : العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد ، ومنها مارد ومريد ومتمرد ، والمارد : هو المستعلى أعلى منك .
(1/5973)

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
أي : كتب الله على هذا الشيطان المريد ، وحكم عليه حُكماً ظاهراً ، هكذا ( عيني عينك ) كما يقال { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ . . . } [ الحج : 4 ] أي : تابعه وسار خلفه { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير } [ الحج : 4 ] يضله ويهديه ضِدّان ، فكيف نجمع بينهما؟
المراد : يُضِلُّه عن طريق الحق والخير ، ويهديه أي : للشر؛ لأن معنى الهداية : الدلالة مُطْلقاً ، فإن دللْتَ على خير فهي هداية ، وإن دللتَ على شر فهي أيضاً هداية .
واقرأ قوله سبحانه وتعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 22 - 23 ] .
أي : دُلُّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم .
ويقول تعالى في آية أخرى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ . . } [ النساء : 168 - 169 ] .
والسَّعير : هي النار المتوهّجة التي لا تخمد ولا تنطفئ .
ثم يقول الحق سبحانه : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ . . } .
(1/5974)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قوله : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث . . } [ الحج : 5 ] .
الريب : الشك . فالمعنى : إنْ كنتم شاكِّين في مسألة البعث ، فإليكم الدليل على صِدْقه { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ . . } [ الحج : 5 ] أي : الخَلْق الأول ، وهو آدم عليه السلام ، أما جمهرة الناس بعد آدم فخُلِقوا من ( نطفة ) حية من إنسان حي .
والمتتبع لآيات القرآن يجد الحق - سبحانه وتعالى - يقول مرة في خَلْق الإنسان : { مِّن تُرَابٍ . . } [ الحج : 5 ] ، ومرة { مِن مَّآءٍ . . } [ الطارق : 6 ] ، و { مِّن طِينٍ . . } [ الأنعام : 2 ] ، و { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ . . } [ الحجر : 26 ] ، و { مِن صَلْصَالٍ كالفخار . . } [ الرحمن : 14 ] وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى الاعتراض على أسلوب القرآن ، يقولون : من أيِّ هذه الأشياء خُلِقْتم؟
وهذا الاعتراض ناشيء من عدم فَهْم لغة القرآن ، فالتراب والماء والطين والحمأ والمسنون والصلصال ، كلها مراحل متعددة للشيء الواحد ، فإذا وضعتَ الماء على التراب صار طيناً ، فإنْ تركتَ الطين حتى يتخمّر ، ويتداخل بعضه في بعض حتى لا تستطيع أنْ تُميِّز عنصراً فيه عن الآخر . وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون ، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار ، ومنه خلق اللهُ الإنسان وصوَّره ، ونفخ فيه من روحه ، إذن : هذه مراحل للشيء الواحد ، ومرور الشيء بمراحل مختلفة لا يُغيِّره .
ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلام ، وهم ذريته ، فقال : { مِن نُّطْفَةٍ . . } [ الحج : 5 ] والنطفة في الأصل هي قطرة الماء العَذْب ، كما جاء في قول الشاعر :
بَقَايَا نِطَافٍ أودَعَ الغيمُ صَفْوَهَا ... مُثقَّلَةُ الأرجَاء زُرْقُ الجَوانبِ
ولا تظهر زُرْقة الماء إلا إذا كان صافياً لا يشوبه شيء ، وكذلك النطفة هي خلاصة الخلاصة ، لأن جسم الإنسان تحدث فيه عملية الاحتراق ، وعملية الأيض أي : الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم : فالبول ، والغائط ، والعرق ، والدموع ، وصَمْغ الأذن ، كلها فضلات ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم حيث يمتص الجسم خلاصة الغذاء ، وينقلها إلى الدم .
ومن هذه الخلاصة يُستخلص منيُّ الإنسان الذي تؤخذ منه النطفة ، فهو - إذن - خلاصة الخلاصة في الإنسان ، ومنه يحدث الحمل ، ويتكَّون الجنين ، وكأن الخالق - عز وجل - قد صَفَّاها هذه التصفية ونقَّاها كل هذا النقاء؛ لأنها ستكون أصْلاً لأكرم مخلوقاته ، وهو الإنسان .
وهذه النطفة لا تنزل من الإنسان إلا في عملية الجماع ، وهي ألذُّ متعة في وجود الإنسان الحيِّ ، لماذا؟ لو تأملتَ متعة الإنسان ولذاته الأخرى مثل : لذة الذَّوْق ، أو الشم ، أو الملمس ، فهي لذَّاتٌ معروفة محددة بحاسَّة معينة من حواس الإنسان ، أمّا هذه اللذة المصاحبة لنزول المنيِّ أثناء هذه العملية الجنسية فهي لذة شاملة يهتز لها الجسم كله ، ولا تستطيع أنْ تُحدِّد فيها منطقة الإحساس ، بل كل ذرة من ذرات الجسم تحسها .
(1/5975)

لذلك أمرنا ربنا - عز وجل - أن نغتسل بعد هذه العملية؛ لأنها شغلتْ كل ذرة من ذرات تكوينك ، وربما - عند العارفين بالله - لا تغفل عن الله تعالى إلا في هذه اللحظة؛ لذلك كان الأمر بالاغتسال بعدها ، هو قول العلماء .
أما أهل المعرفة عن الله وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون : إن الله خلق آدم من طين ، وجعل نَسْله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء ، ثم أتى منها كل الخَلْق بعده ، فكأن في كل واحد منا ذرة من أبيه آدم؛ لأنه لو طرأ على هذه الذرة موت ما كان نَسْلٌ بعد آدم ، فهذه الذرة موجودة فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي منها ولدك ، وهي أصْفى شيء فيك؛ لأنها الذرة التي شهدتْ الخَلْق الأول خَلْق أبيك آدم عليه السلام .
وقد قرّبنا هذه المسألة وقلنا : لو أنك أخذت سنتيمتراً من مادة ملونة ، ووضعته في قارورة ماء ، ثم أخذتَ ترجُّ القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه المادة ، وهكذا لو ألقيتَ القارورة في برميل . . الخ .
إذن : فكل إنسان مِنّا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلام ، هذه الذرة شهدتْ خَلْق آدم ، وشهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله على عباده في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ . . } [ الأعراف : 172 ] .
لذلك؛ يُسمِّي الله تعالى إرسال الرسل بَعْثاً فيقول : { بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] بعثه : كأنه كان موجوداً وله أَصْل في رسالة مباشرة من الله حين أخذ العهد على عبادة ، وهم في ظَهْر آدم عليه السلام ، كما يخاطب الرسول بقوله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [ الغاشية : 21 ] أي : مُذكِّر بالعهد القديم الذي أخذناه على أنفسنا .
لذلك اقرأ الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ . . } [ الأعراف : 172 ] .
هذا في مرحلة الذِّرِّ قبل أنْ يأتي الهوى في النفوس { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } [ الأعراف : 172 - 173 ]
إذن : بعث الله الرسل لتُذكِّر بالعهد الأول ، حتى لا تحدث الغفلة ، وحتى تقيم على الناس الحجة .
ثم يقول تعالى : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ . . } [ الحج : 5 ] سمِّيت النطفة علقة؛ لأنها تعلَقُ بالرحم ، يقول تعالى في آية أخرى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى } [ القيامة : 37 - 38 ] .
فالمنيُّ هو السائل الذي يحمل النطفة ، وهي الخلاصة التي يتكوَّن منها الجنين ، والعَلَقة هنا هي البُويْضَة المخصَّبة ، فبعد أنْ كان للبويضة تعلُّق بالأم ، وللحيوان المنوي ( النطفة ) تعلُّق بالأب ، اجتمعا في تعلُّق جديد والتقيَا ليتشبَّثا بجدار الرحم ، وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلَق بنفسها ، يُسمُّونها ( زيجوت ) .
(1/5976)

ومنها قولهم : فلان هذا مثل العلقة إذ كان ملازماً لك .
بعد ذلك تتحول العلقة إلى مضغة { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ . . } [ الحج : 5 ] والمضغة : هي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمضغ من الطعام ، وهو خليط من عِدَّة أشياء ، كما لو أكلتَ مثلاً قطعة لحم مع ملعقة خضار مع ملعقة أرز ، وبالمضغ يتحوّل هذا إلى خليط ، ذلك لأن جسم الإنسان لا يتكَّون من عنصر واحد ، بل من ستة عشر عنصراً .
هذه المضغة { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ . . } [ الحج : 5 ] معنى مخلقة يعني : يظهر عليها هيكل الجسم ، وتتشكَّل على صورته ، فهذه للرأس ، وهذه للذراع ، وهذه للرِّجْل وهكذا ، يعني تخلَّقتْ على هيئة الأنسان .
أما غير المخلَّقة ، فقد عرفنا مؤخراً أنها الخلايا التي تُعوِّض الجسم وتُرقِّعه إذا أصابه عَطَب فهي بمثابة ( احتياطي ) لإعادة تركيب ما تلف من أنسجة الجسم وترميمها ، كما يحدث مثلاً في حالة الجُرْح فإنْ تركتَه لطبيعة الجسم يندمل شيئاً فشيئاً ، دون أنْ يتركَ أثراً .
نرى هذا في أولاد الفلاحين ، حين يُجرح الواحد منهم ، أو تظهر عنده بعض الدمامل ، فيتركونها لمقاومة الجسم الطبيعية ، وبعد فترة تتلاشى هذه الدمامل دون أنْ تتركَ أثراً على الإطلاق؛ لأنهم تركوا الجسم للصيدلية الربانية .
أما إذا تدخَّلنا في الجُرْح بمواد كيماوية إو خياطة أو خلافه فلا بُدَّ أن يترك أثراً ، فترى مكانه لامعاً؛ لأن هذه المواد أتلفت مسام الجسم؛ لذلك نجد مثل هذه الأماكن من الجسم قد تغيرتْ ، ويميل الإنسان إلى حَكِّها ( وهرشها ) ؛ لأن هذه المسام كانت تُخرِج بعض فضلات الجسم على هيئة عرق ، فلما انسدت هذه المسام سببت هذه الظاهرة . هذا كله لأننا تدخَّلْنا في الطبيعة التي خلقها الله .
إذن : فمعنى { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ . . } [ الحج : 5 ] هي الصيدلية التي تُعوِّض وتُعيد بناء ما تلف من جسم الإنسان .
ثم يقول سبحانه : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى . . } [ الحج : 5 ] أي : نُوضِّح لكم كل ما يتعلَّق بهذه المسألة { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ . . } [ الحج : 5 ] وهي المضْغة التي قُدِّر لها أنْ تكون جنيناً يكتمل إلى أنْ يولد؛ لذلك قال : { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى . . } [ الحج : 5 ] أو نسقطه ميتاً قبل ولادته .
فإنْ قلتَ : وما الحكمة من خَلْقه وتصويره ، إنْ كان قد قُدِّر له أنْ يموت جنيناً؟ نقول : لنعرف أن الموت أمر مُطْلق لا رابطَ له ولا سِنّ ، فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه ، ففي أيِّ وقت ينتهي الأجل .
وقوله تعالى : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً . . } [ الحج : 5 ] قال : { نُخْرِجُكُمْ . . } [ الحج : 5 ] بصيغة الجمع ولم يقُلْ : أطفالاً إنما { طِفْلاً . . } [ الحج : 5 ] بصيغة المفرد ، لماذا؟ قالوا : في اللغة ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع ، فطفل هنا بمعنى أطفال ، وقد وردتْ أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه :
(1/5977)

{ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم . . } [ النور : 59 ] .
وكما تقول هذا رجل عَدْل ، ورجال عَدْل . وفي قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يتكلم عن الأصنام فيقول : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي . . } [ الشعراء : 77 ] ولم يقُلْ : أعداء . وحينما تكلم عن ضَيْفه قال : { هَؤُلآءِ ضَيْفِي . . } [ الحجر : 68 ] ولم يقل : ضيوفي ، إذن : المفرد هنا يُؤدِّي معنى الجمع .
ثم يقول سبحانه : { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ . . } [ الحج : 5 ] وهكذا ، وسبق أنْ تحدَّثنا عن مراحل عمر الإنسان ، وأنه يمر بمرحلة الرُّشْد : رُشْد البنية حين يصبح قادراً على إنجاب مثله ، ورُشْد العقل حين يصبح قادراً على التصرّف السليم ، ويُحسن الاختيار بين البدائل .
ثم تأتي مرحلة الأشد : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ . . } [ الأحقاف : 15 ] يعني : نضج نُضْجاً من حوادث الحياة أيضاً .
ثم يقول تعالى : { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر . . } [ الحج : 5 ] وأرذل العمر يعني رديئه ، حين تظهر على الإنسان علامات الخَوَر والضعف { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً . . } [ الحج : 5 ] لأنه ينسى ، وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه ، إنما موهوبة له من الله .
وإذا بلغ الرجل أرذلَ العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجياً ، فيحتاج لمَنْ يأخذ بيده ليقوم أو ليمشي ، كما تأخذ بيد الطفل الصغير ، فإذا تكلّم يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلام . . وهكذا في جميع شئونه .
لذلك يقولون : الزواج المبكر أقرب طريق لإنجاب ( والد ) يعولُك في طفولة شيخوختك ، ولم يقُلْ : ولداً؛ لأنه سيقوم معك فيما بعد بدوْر الوالد ، يقولون : لحق والده يعني سنُّهما متقارب .
لكن ، لماذا يُرَدُّ بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض؟ الحق سبحانه جعلها نماذج حتى لا نقول : يا ليت أعمارنا تطول؛ لأن أعمار الجميع لو طالتْ إلى أرذَلِ العمر لأصبح الأمر صعباً علينا ، فمن رحمة الله بنا أنْ خلق الموت .
ثم يقول تعالى : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ]
أي : كما كان خَلْق الإنسان من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مُضْغة مُخلَّقة وغير مُخلَّقة ، ثم أخرجه طفلاً ، وبلغ أَشُدَّهُ ، ومنهم مَنْ مات ، ومنهم مَنْ يُرَدُّ إلى أرذَل العمر ، كذلك الحال في الأرض : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً . . } [ الحج : 5 ] .
هامدة : ساكنة ، ومنه قولنا للولد كثيرالحركة : اهمد { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت . . } [ الحج : 5 ] أي : تحركتْ ذراتُها بالنبات بعد سكونها .
والاهتزاز : تحرُّك ما كنت تظنه ثابتاً ، وليس ما كان ثابتاً في الواقع؛ لأن لكل كائن حركة في ذاته ، حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها ، لكن ليس لديْك من وسائل الإدراك ما تدرك به هذه الحركة . ولو تأملت المغناطيس لأدركتَ هذه الحركة بين ذراته ، فحين تُدلِّك القضيب الممغنط وتُمرِّره على قضيب آخر غير مُمغنط في اتجاه واحد ، فإنه يكتسب منه المغناطيسية ، وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه تعديل للذرات لتحمل شحنة واحدة سالبة أو موجبة ، فإن اختلف اتجاه الدَّلْك فإن الذرات أيضاً تختلف .
(1/5978)

إذن : في الحديد - رمز الصلابة والجمود - حركة وحياة تناسبه ، وإنْ خُيِّل إليك أنه أصمُّ جامد في ظاهرة .
لذلك نقول { هَامِدَةً . . } [ الحج : 5 ] يعني : ساكنة في رَأْي العلم ، حيث لا نباتَ فيها ثم { اهتزت . . } [ الحج : 5 ] يعني : زادتْ ورَبَتْ وتحركتْ لإخراج النبات ، إنما هي في الحقيقة لم تكُنْ ساكنة مُطْلقاً؛ لأن فيها حركة ذاتية بين ذراتها .
ومعنى : { وَرَبَتْ . . } [ الحج : 5 ] أي : زادت عن حجمها ، كما تزيد حبة الفول مثلاً حين تُوضَع في الماء ، وتأخذ حظها من الرطوبة ، وكذلك في جميع البقول ، وهذه الزيادة في حجم الحبة هي التي تفلقها إلى فلقتين في عملية الإنبات ، ويخرج منها زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث عن الهواء ، وإلى أسفل فيكون الجذر الذي يبحث عن الماء . وتظل هاتان الفلقتان مصدرَ غذاءٍ للنبتة حتى تقوى ، وتستطيع أنْ تمتصَّ غذاءها من التربة ، فإذا أدَّتْ هاتان الفلقتان مهمتهما في تغذية النبتة تحوَّلتَا إلى ورقتين ، وهما أول ورقتين في تكوين النبتة .
كذلك ، نلاحظ في تغذية النبات أنه لا يأخذ كُلَّ غذائه من التربة ، إنما يتغذى بنسبة ربما 90 بالمائة من غذائه من الهواء ، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة إذا نظرتَ إلى إصيص به زرع ، فسوف تجد ما نقص من التربة كمية لا تُذكَر بالنسبة لحجم النبات الذي خرج منها .
وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات الله ، فالجذر يمتد إلى أن يصل إلى الرطوبة أو الماء ، حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقَّف ، ولك أن تنظر مثلاً إلى ( كوز الحلبة ) فسوف تجد الجذور غير متساوية في الطول ، بحسب بُعد الحبة عن مصدر الرطوبة .
{ وَرَبَتْ . . } [ الحج : 5 ] أي : زادت وانتفشتْ ، كما يحدث في العجين حين تضع فيه الخميرة { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] .
هذه صورة حيَّة واقعية نلاحظها جميعاً عياناً : الأرض تكون جرداء ساكنة ، لا حركةَ فيها ، فإذا ما نزل عليها الماء تغيرتْ وتحركتْ ذراتها وتشققتْ عن النبات ، ولو حتى بالمطر الصناعي ، كما نرى في عرفة مثلاً ينزل عليها المطر الصناعي فيخضرُّ الوادي ، لكن حينما ينقطع الماء يعود كما كان لعدم موالاة الماء ، ولو واليتَ عليها بالماء لصارت غابات وأحراشاً وبساتين كالتي نراها في أوروبا .
والمطر لا يحتاج أنْ تُسوَّى له الأرض؛ لأنه يسْقِي المرتفع والمنخفض على السواء ، على خلاف الأرض التي تسقيها أنت لا بُدَّ أن تُسوِّيها للماء حتى يصل إليها جميعاً .
فإذا أنزل الله تعالى المطر على الأرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق بالنبات ، فمن أين جاءت هذه البذور؟ وكيف لم يُصِبْها العطب ، وهي في الأرض طوال هذه الفترات؟ الأرض هي التي تحفظها من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة للإنبات ، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض دون تدخُّل الإنسان يسمونه ( عِذْى ) .
(1/5979)

أما عن نَقْل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان ، فهي تنتقل بواسطة الريح ، أو في رَوَث الحيوانات .
ومعنى : { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] الزوج : البعض يظن الزوج يعني الاثنين ، إنما الزوج كلمة مفردة تدل على واحد مفرد معه مِثْله من جنسه ، ففي قوله تعالى : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] فكل منهما زوج ، وكما نقول : زوج أحذية يعني فردة حذاء معها فردة أخرى مثلها ، ومثلها كلمة توأم يعني مولود معه مثله فكل واحد منهما يسمى ( توأم ) وهما معاً ( توأمان ) ولا نقول : هما توأم .
وهنا مظهر من مظاهر دِقَّة الأداء القرآني : { كُلِّ زَوْجٍ . . } [ الحج : 5 ] لأن كل المخلوقات ، سواء أكانت جماداً أو نباتاً أو حيواناً ، لا بُدَّ فيه من ذكر وأنثى ، هذه الزوجية قال الله فيها : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ . . } [ الذاريات : 49 ] حتى في الجماد الذي نظنه جماداً لا حركةَ فيه ، يتكَّون من زوجين : سالب وموجب في الكهرباء ، وفي الذرة ، وفي المغناطيس ، فكلُّ شيء يعطي أعلى منه ، فلا بُدَّ فيه من زوجيْن .
لذلك ، فالحق سبحانه وتعالى حينما عالج هذه المسألة عالجها برصيد احتياطي في القرآن ، يقول سبحانه : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] .
فقوله سبحانه : { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] رصيد عالٍ لما سيأتي به العلم من اكتشافات تثبت صِدْق القرآن على مَرِّ الأيام ، ففي الماضي عرفنا الكهرباء ، وأنها سالب وموجب فقلنا : هذه مما لا نعلم ، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا : هذه مما لا نعلم ، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا : هذه مما لا نعلم ، وهذا وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم .
إذن : خُذْها قضية عامة : كل شيء يتكاثر إلى أعلى منه ، فلا بُدَّ ان فيه زوجية .
فقوله تعالى : { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] فالزوج من النبات مفرد معه مثله ، وهذا واضح في لقاح الذكر والأنثى ، هذا اللقاح قد يكون في الذكر وحده ، أو في الأنثى وحدها كما في النخل مثلاً ، وقد يكون العنصران معاً في النبات الواحد كما في سنبلة القمح أو كوز الذرة .
ولو تأملت نبات الذرة لوجدتَ له في أعلاه ( شوشة ) بها حبيبات دقيقة تحمل لقاح الذكورة ، وفي منتصف العود يخرج الكوز ، وبه شعيرات تصل كل شعرة منها إلى حبة من حبات الذرة المصطفة على الكوز ، وهذه تحمل لقاح الأنوثة ، فإذا هبَّتْ الريح هزَّتْ أعلى العود فتساقطت لقاحات الذكورة على هذه الشعيرات فلقحتها؛ لذلك نرى الحبة التي لا يخرج منها شعرة إلى خارج الغلاف تضمر وتموت؛ لأنها لم تأخذ حظها من اللقاح .
(1/5980)

ومعنى : { بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] من البهجة ، فالمراد : الشيء حسن المنظر والجميل الذي يجذب الأنظار إليه ، وبهجة النظر إلى النبات شائعة لا تقتصر على مَنْ يملكه بخلاف الأكل منه ، فحين تمر ببستان أو حديقة تتمتع بمنظرها وجمال ألوانها وتُسَرُّ برائحتها .
وفي النفس الإنسانية ملكات تتغذى على هذه الخضرة ، وعلى هذه الألوان وتنبسط لهذا الجمال ، ولو لم تكُنْ تمتلكه .
لذلك الحق - سبحانه وتعالى - ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ . . } [ الأنعام : 99 ] أي : أن النظر مشاع للجميع ، ثم بعد ذلك اتركوا الخصوصيات لأصحابها ، تمتَّعوا بما خلق الله ، ففي النفس ملكَات أخرى غير الطعام .
واقرأ أيضاً قوله تعالى في الخيل : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ النحل : 6 ] فليست الخيل لحمل الأثقال وفقط ، وإنما فيها جمال وأُبَّهة ، تُرضِي شيئاً في نفوسكم ، وتُشْبِع ملكَة من ملكاتها .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق . . }
.
(1/5981)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
أي : أن ما حدث في خَلْق الإنسان تكويناً ، وما حدث في إنبات الزرع تكويناً ونماءً ، يردُّ هذا كله إلى أن الله تعالى { هُوَ الحق . . } [ الحج : 6 ] فلماذا أتى بالحق ولم يقُلْ الخالق؟ قالوا : لأن الخالق قد يخلق شيئاً ثم يتخلى عنه ، أمّا الله - سبحانه وتعالى - فهو الخالق الحق ، ومعنى الحق أي : الثابت الذي لا يتغير ، كذلك عطاؤه لا يتغير ، فسوف يظل سبحانه خالقاً يعطيك كل يوم؛ لأن عطاءه سبحانه دائم لا ينفد .
وإذا نظرتَ إلى الوجود كله لوجدته دروة مكررة ، فالله عز وجل قد خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها ، فمثلاً كمية الماء التي خلقها الله في الكون هي هي لم تَزِدْ ولم تنقص؛ لأن للماء دورة في الحياة ، فالماء الذي تشربه طوال حياتك لا يُنقص في كمية الماء الموجود؛ لأنه سيخرج منك على صورة فضلات ليعود في دورة الماء في الكون من جديد .
وهكذا في الطعام الذي تأكله ، وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها ، كل ما في الوجود له دورة يدور فيها ، وهذا معنى : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا . . } [ فصلت : 10 ]
فمعنى : { الحق . . } [ الحج : 6 ] هنا الثابت الذي لا يتغير في الخَلْق وفي العطاء . فلا تظن أن عطاء الله لك شيء جديد ، إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك .
ثم يقول تعالى : { وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى . . } [ الحج : 6 ] كما قُلْنا في الآية السابقة : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً . . } [ الحج : 5 ] أي : ساكنة لا حياةَ فيها ، والله وحده القادر على إحيائها؛ لذلك نجد علماء الفقه يُسمُّون الأرض التي نصلحها للزراعة ( إحياء الموات ) فالله تعالى هو القادر وحده على إحياء كل ميت؛ لذلك يقول بعدها : { وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الحج : 6 ]
وما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تشاهدون آية إحياء الموات في الأرض المتية فلا تنكروا البعث وإعادتكم بعد الموت . فيقول تعالى : { وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا . . } .
(1/5982)

وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
وقد سبق أن أنكروا البعث بعد الموت وقالوا : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } [ الصافات : 16 - 17 ] .
فيردُّ عليهم الحق سبحانه : نعم ، سنعيدكم بعد الموت ، والذي خلقكم من لا شيءَ قادرٌ على إعادتكم من باب أَوْلَى؛ لذلك يقول تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ . . } [ الروم : 27 ] والحق سبحانه هنا يخاطبنا على قَدْر عقولنا؛ لأننا نفهم أن الخَلْق من موجود أهون من الخَلْق من عدم ، أما بالنسبة للخالق - عز وجل - فليس هناك سَهْل وأسهل ، ولا هَيِّن وأهْون .
فقوله تعالى : { وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا . . } [ الحج : 7 ] كأن عملية إحياء الموتى ليست مُنْتهى قدرة الله ، إنما في قدرته تعالى كثير من الآيات والعجائب ، ومعنى : { لاَّ رَيْبَ فِيهَا . . } [ الحج : 7 ] أي : لا شَكَّ فيها . والساعة : أي : زمن القيامة وموعدها ، لكن القيامة ستكون للحساب وللفَصْل بين الناس ، فلا بُدَّ من بَعْثهم من القبور؛ لذلك يقول بعدها : { وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور } [ الحج : 7 ] .
فكُلُّ ما تقدم ناشيء من أنه سبحانه هو الحق؛ ولأنه سبحانه الحق؛ فهو يُحيي الموتي ، وهو على كل شيء قدير ، والساعة آتية لا رَيْبَ فيها ، وهو سبحانه يبعث مَنْ في القبور .
ثم يقول الحق سبحانه : { ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله . . }
(1/5983)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
تكلمنا في أول السورة عن الجدل بالعلم والموعظة الحسنة وقلنا : العلم إما علم بَدْهي أو علم استدلالي عقليّ ، أو علم بالوحي من الله سبحانه ، أما هؤلاء الذين يجادلون في الله بغير علم بدهي { وَلاَ هُدًى . . } [ الحج : 8 ] يعني : علم استدلالي عقلي ، { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [ الحج : 8 ] يعني : وحي من الله ، فهؤلاء أهل سفسطة وجدل عقيم لا فائدة منه ، وعلى العاقل حين يصادف مثل هذا النوع من الجدال أن لا يجاريه في سفسطته؛ لأنه لن يصل معه إلى مفيد ، إنما عليه أنْ ينقله إلى مجال لا يحتمل السفسطة .
ولنا في هذه المسألة مثَلٌ وقُدْوة بسيدنا إبراهيم - عليه السلام - حينما جادل النمرود ، اقرأ قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ . . } [ البقرة : 258 ]
لقد اتبع النمرودُ أسلوب السَّفْسَطة حين قال { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . . } [ البقرة : 258 ] لأنه ما فعل حقيقةَ الموت ، ولا حقيقة الحياة ، فأراد إبراهيم أن يُلجئه إلى مجال لا سفسطة فيه؛ لينهي هذا الموقف ويسدّ على خَصْمه باب اللدد والتهريج ، فقال : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب . . } [ البقرة : 258 ] وكانت النتيجة أنْ حَارَ عدو الله جواباً { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ . . } [ البقرة : 258 ] أي : دُهِش وتحيَّر
.
(1/5984)

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ ثَانِيَ . . } [ الحج : 9 ] ثَنَى الشيء يعني : لَواه ، وعِطْفه : يعني جَنْبه ، والإنسان في تكوينه العام له رأس ورقبة وكتفان ، وله جانبان وظَهْر ، وهذه الأعضاء تُؤدِّي دَوْراً في حياته وحركته ، وتدلّ على تصرفاته ، فالذي يجادل في الله عن غير علم ولا هدى ولا كتاب منير يَثنِي عنك جانبه ، ويَلْوي رأسه؛ لأن الكلام لا يعجبه؛ ليس لأن كلامك باطل ، إنما لا يعجبه لأنه أفلس وليست لديه الحجة التي يواجهك بها ، فلا يملك إلا هذه الحركة .
لذلك يُسمَّى هذا الجدل " مراءً " ، ومنه قوله تعالى : { أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى } [ النجم : 12 ] يعني : أتجادلون رسول الله في أمر رآه؟ والمراء : هو الجَدل العنيف ، مأخوذ من ( مَرْى الضرع ) يعني : حَلْب ما فيه من لبن إلى آخر قطرة فيه ، وأهل الريف يقولون عن هذه العملية ( قرقر البقرة ) يعني : أخذ كل لبنها ولم يَبْقَ في ضرعها شيء .
كذلك المجادل بالباطل ، أو المجادل بلا علم ولا حجة تراه يكابر ليأخذ آخر ما عند خَصْمه ، ولو كان عنده علم وحجة لأنهَى الموقف دون لجج أو مكابرة .
والقرآن الكريم يعطينا صورة لهذا الجدل والإعراض عن الحق ، فيقول سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [ المنافقون : 5 ] .
والقرآن يعطينا التدرج الطبيعي للإعراض عن الحق الذي يبدأ بلَىِّ الرأس ، ثم الجانب ، ثم يعطيك دُبُره وعَرْض أكتافه ، هذه كلها ملاحظ للفرار من الجدل ، حين لا يقوى على الإقناع .
ثم يقول سبحانه : { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله . . } [ الحج : 9 ] هذه عِلَّة ثَنْى جانبه ، لأنه يريد أنْ يُضل مَنِ اهتدى ، فلو وقف يستمع لخَصْمه وما يلقيه من حجج ودلائل لانهزم ولم يتمكّن من إضلال الناس؛ لذلك يَثْني عِطْفه هَرَباً من هذا الموقف الذي لا يَقْدر على مواجهته والتصدي له .
فما جزاء هذا الصنف؟ يقول تعالى : { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ . . } [ الحج : 9 ] والخِزْي : الهوان والذِّلَّة ، هذا جزاء الدنيا قبل جزاء الآخرة ، ألم يحدث للكفار هذا الخزي يوم بدر؟ ألم يُمسِك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده قبل المعركة ويشير به : " هذا مَصرع فلان ، وهذا مصرع فلان " ويسمي صناديد الكفر ورؤوس الضلال في قريش؟ وبعد انتهاء المعركة كان الأمر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصُرِع كلُّ هؤلاء الصناديد في نفس الأماكن التي أشار إليها رسول الله .
ولما قُتِل في هذه المعركة أبو جهل عَلاَهُ سيدنا عبد الله بن مسعود ، سبحان الله ، عبد الله بن مسعود راعي الغنم يعتلي ظهر سيد قريش ، عندها قال أبو جهل - وكان فيه رَمَق حياة : لقد ارتقيتَ مُرْتقىً صَعْباً يا رُوَيْعيَّ الغنم ، يعني : ركبتني يا ابن الإيه!! فأيُّ خِزْي بعد هذا؟!
وأبو سفيان بعد أن شفع له العباس رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأى موكب النبي يوم الفتح ، وحوله رايات الأنصار في موكب رهيب مهيب ، لم يملك نفسه ولم يستطع أنْ يُخفي ما في صدره ، فقال للعباس رضي الله : لقد أصبح مُلْك ابن أخيك قوياً ، فقال له : إنها النبوة يا أبا سفيان يعني : المسألة ليست مُلْكاً ، إنما هي النبوة المؤيَّدة من الله .
(1/5985)

وسيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - حينما استأذن عليه القوم في الدخول ، فأذِنَ للسابقين إلى الإسلام من العبيد والموالي ، وترك بعض صناديد قريش على الباب ، ( فورِِمَتْ ) أنوفهم من هذا الأمر وأغتاظوا ، وكان فيهم أبو سيدنا أبي بكر فقال له : أتأذن لهؤلاء وتتركنا؟ فقال له : إنه الإسلام الذي قدمهم عليكم . وقد شاهد عمر هذا الموقف فقال لهم : ما لكم ورِمَتْ أنوفكم؟ وما بالكم إذا أُذِن لهم على ربهم وتأخرتم أنتم .
فالغضب الحقيقي سيكون في الآخرة حين يُنَادى بهؤلاء إلى الجنة ، وتتأخرون أنتم في هَوْل الموقف .
واقرأ قوله تعالى : { والسابقون السابقون * أولئك المقربون } [ الواقعة : 10 - 11 ] .
ثم يقول تعالى : { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } [ الحج : 9 ] فهذا الخِزْيُ الذي رَأَوْه في الدنيا لن يُفلتهم من خِزْي وعذاب الآخرة ، ومعنى { عَذَابَ الحريق } [ الحج : 9 ] الحريق : هو الذي يحرق غيره من شِدتّه ، كالنار التي أوقدوها لإبراهيم - عليه السلام - وكانت تشوي الطير الذي يمرُّ بها في السماء فيقع مشوياً . ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ . . }
.
(1/5986)

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ ذلك . . } [ الحج : 10 ] يعني خِزْي الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة بما قدَّمتْ ، وبما اقترفت يداك ، لا ظُلْماً منّا ولا اعتداء ، فأنت الذي ظلمتَ نفسك ، كما قال سبحانه : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ]
وهل أخذناهم دون إنذار ، ودون أن نُجرِّم هذا الفعل؟ لأنك لا تعاقب شخصاً على ذنب إلا إذا كنتَ قد نبَّهته إليه ، وعرَّفته بعقوبته ، فإنْ عاقبته دون علمه بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمتَه؛ لذلك فأهل القانون يقولون : لا عقوبةَ إلا بتجريم ، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ .
وقد جاءكم النص الذي يُبيِّن لكم ويُجرِّم هذا الفعل ، وقد أبلغتُكم الرسل ، وسبق إليكم الإنذار ، كما في قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ . . } [ الحج : 10 ] فهل الذنوب كلها تقديمُ اليد فقط؟
الذنوب : إما أقوال ، وإما أفعال ، وإما عمل من أعمال القلب ، كالحقد مثلاً أو النفاق . . إلخ لكن في الغالب ما تُزَاول الذنوب بالأيدي .
ثم يقول تعالى : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [ الحج : 10 ] ظلاَّم : صيغة مبالغة من الظلم ، تقول : ظالم . فإنْ أردتَ المبالغة تقول : ظلاَّم ، كما تقول : فلان آكل وفلان أكُول ، فالفعل واحد ، لكن ما ينشأ عنه مختلف ، والمبالغة في الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره ، فمثلاً قد تأكل في الوجبة الواحدة رغيفاً واحداً ، وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة ، فأنت تأكل ثلاث وجبات ، لكن تبالغ في الوجبة الواحدة ، وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في الوجبة رغيفاً واحداً ، لكن تأكل خمس وجبات بدلاً من ثلاث . فهذه مبالغة بتكرار الحدث .
وصيغة المبالغة لها معنى في الإثبات ولها معنى في النفي : إذا قُلْتَ : فلان أكول وأثبتَّ له المبالغة فقد أثبتَّ له أصل الفعل من باب أَوْلَى فهو آكل ، وإذا نفيتَ المبالغة فنَفْي المبالغة لا ينفي الأصل ، تقول : فلان ليس أكولاً ، فهذا لا ينفي أنه آكل . فإذا طبَّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [ الحج : 10 ] فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى ( ظالم ) حاشا لله ، وهنا نقول : هناك آيات أخرى تنفي الفعل ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } [ الزخرف : 76 ] .
كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد ، فعلى فرض المبالغة تكون مبالغة في تكرار الحدث { بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [ الحج : 10 ] ظلم هذا ، وظلم هذا ، فالمظلوم عبيد ، وليس عبداً واحداً .
والظلم في حقيقته أن يأخذ القويُّ حَقَّ الضعيف ، ويكون الظلم على قَدْر قوة الظالم وقدرته ، وعلى هذا إنْ جاء الظلم من الله تعالى وعلى قَدْر قوته وقدرته فلا شكَّ أنه سيكون ظُلْماً شديداً لا يتحمله أحد ، فلا نقول - إذن - ظالم بل ظلام ، وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة .
فالحق سبحانه ليس بظلام للعبيد؛ لأنه بيَّن الحلال والحرام ، وبيَّن الجريمة ووضع لها العقوبة ، وقد بلَّغَتْ الرسل من بداية الأمر فلا حُجَّةَ لأحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ . . }
.
(1/5987)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ . . } [ الحج : 11 ] العبادة : أنْ تطيع الله فيما أمر فتنفذه ، وتطيعه فيما نهى فتجتنبه ، بعض الناس يعبد الله هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور مستمر ، فإذا أصابه شَرٌّ أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ . . } [ الحج : 11 ]
والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان ، لا تزعزعه الأحداث ، ولا تهز إيمانه فيتراجع ، ربك يريدك عبداً له في الخير وفي الشر ، في السراء وفي الضراء ، فكلاهما فتنة واختبار ، وما آمنتَ بالله إلا لأنك علمتَ أنه إله حكيم عادل قادر ، ولا بد أنْ تأخذ ما يجري عليك من أحداث في ضوء هذه الصفات .
فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلأولادك من بعدك ، فلعلهم إنْ وجدوك في سعة وفي خير طَمِعُوا وفسدوا وطَغَوْا ، ولعل حياة الضيق وقِلَّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات الحياة يكون دافعاً لهم .
واقرأ قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6 - 7 ] وقوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] .
لا بُدَّ أنْ تعرف هذه الحقائق ، وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك ، سواء أكان نعيماً أو بُؤْساً ، فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك فَقُلْ : ماذا حدث خارج البيت ، أبعدني الله عنه وعافاني منه؟ فلعل الخير فيما تظنه شراً ، كما قال تعالى : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ . . } [ البقرة : 216 ] .
وقد أجرى علماء الإحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا ، فوجدوا الإخوة في البيت الواحد ، وفي ظروف بيئية واحدة وأب واحد ، وأم واحدة ، حتى التعليم في المدرس على مستوى واحد ، ومع ذلك تجد أحد الأبناء مستقيماً ملتزماً ، وتجد الآخر على النقيض ، فلمَّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضاً ويلازم بيته لمدة ست سنوات ، فأخذ هذا الولد أكبر قِسْط من الرعاية والتربية ، ولم يجد الفرصة للخروج من البيت أو الاختلاط برفاق السوء .
وفي نموذج آخر لأحد الأبناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته كان تاجراً ، وكان كثير الأسفار ، ومع ذلك كان يُغْدِق على أسرته ، فتربَّى الولد في سَعَة من العيش ، بدون مراقبة الأب .
وفي نموذج آخر وجدوا أخوين : أحدهما متفوق ، والآخر فاشل ، ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما يعيشان ظروفاً واحدة وجدوا أن الابن المتفوق صحته ضعيفة ، فمال إلى البيت والقراءة والاطلاع ، وكان الآخر صحيحاً وسيماً ، فمال إلى حياة الترف ، وقضى معظم وقته خارج البيت .
(1/5988)

والأمثلة في هذا المجال كثيرة .
إذن : فالابتلاءات لها مغانم ، ومن ورائها حِكَم؛ لأنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك ، وليست من سَعْيك ولا من عمل يدك ، وما دامت كذلك فارْضَ بها ، واعبد الله بإخلاص وإيمان ثابت في الخير وفي الشر .
ومعنى : { يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ . . } [ الحج : 11 ] والحرف : هو طرف الشيء ، كأن تدخل فتجد الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين ، وهذا عادةً لا يكون معه تمكُّن واطمئنان ، كذلك مَنْ يعبد الله على حرف يعني : لم يتمكَّن الإيمان من قلبه ، وسرعان ما يُخرِجه الابتلاء عن الإيمان ، لأنه عبد الله عبادةً غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه على عبده .
والآية لم تترك شيئاً من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر .
وتأمل قول الله تعالى : { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ . . } [ الحج : 11 ] وكذلك : { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ . . } [ الحج : 11 ] فأنت لا تقول : أصبتُ الخيرَ ، إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك ، فأنت لا تبحث عن رزقك بقدر ما يبحث هو عنك؛ لذلك يقول تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ . . } [ الطلاق : 2 - 3 ] .
ويقول أهل المعرفة : رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه ، يعني يعرف عنوانك أما أنت فلا تعرف عنوانه ، بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فلا تُرزَق منه بشيء ، وقد ترى الزرع في الحقول زاهياً تأمل فيه المحصول الوفير ، وتبني عليه الآمال ، فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه ، فلا تُرزَق منه حتى بما يسدُّ الرَّمَق .
ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة ، فقالوا له : إن لك صحبة بهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلافة ، وفعلاً سافر ابن أذينة إلى صديقه ، وضرب إليه أكباد الإبل حتى الشام ، واستأذن فأَذن له ، واستقبله صاحبه ، وسأله عن حالة فقال : في ضيق وفي شدة . وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له : يا عروة ألست القائل - وكان ابن أُذَيْنَة شاعراً :
لَقَد عَلِمت ومَا الإسْرَافُ مِنْ خُلُقِي ... أَنَّ الذي هُوَ رِزْقي سَوْفَ يأْتِينِي؟
وهنا أحسَّ عروة أن الخليفة كسر خاطره ، وخَيَّب أمله فيه ، فقال له : جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين ، لقد ذكَّرت مني ناسياً ، ونبَّهْتَ مني غافلاً ، ثم انصرف .
فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة ، وفكَّر الخليفة في الموقف وأنَّب نفسه على تصُّرفه مع صاحبه الذي قصد خَيْره ، وكيف أنه رَدَّه بهذه الصورة ، فأراد أنْ يُصلِح هذا الخطأ ، فأرسل إليه رسولاً يحمل الهدايا الكثيرة ، إلا أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى مكان آخر ، إلى أنْ وصل إلى بيته ، فطرق الباب ، وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان منه ، وهذه عطاياه وهداياه .
(1/5989)

وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الأول ، فقال :
أسْعَى لَهُ فَيُعَنَّيني تطلُّبه ... وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لاَ يُعنَّيني
كذلك نلحظ في هذه الآية : { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ . . } [ الحج : 11 ] ولم يقابل الخير بالشر ، إنما سماها ( فتْنَة ) أي : اختبار وابتلاء؛ لأنه قد ينجح في هذا الاختبار فلا يكون شراً في حَقِّه .
ومعنى : { انقلب على وَجْهِهِ } [ الحج : 11 ] يعني : عكس الأمر ، فبعد أنْ كان عابداً طائعاً انقلب إلى الضِّدِّ فصار عاصياً { خَسِرَ الدنيا والأخرة . . } [ الحج : 11 ] وخسْران الإنسان لعبادته خسران كبيرٌ لا يُجْبَر ولا يُعوِّضه شيء؛ لذلك يقول بعدها : { ذلك هُوَ الخسران المبين } [ الحج : 11 ] فهل هناك خُسْران مبين ، وخسران غير مبين؟
نعم : الخسران هو الخسارة التي تُعوَّض ، أما الخسارة التي لا عِوضَ لها فهذه هي الخسران المبين الذي يلازم الإنسان ولا ينفكُّ عنه ، وهو خُسْران لا يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوِّضه أو تصبر عليه ، إنما يمتد للآخرة حيث لا عِوضَ لخسارتها ولا صَبْر على شِدَّتها . فالخسران المبين أي : المحيط الذي يُطوِّق صاحبه .
لذلك نقول لمن فقد عزيزاً عليه ، كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلاً : إنْ كان الفقيد حبيباً وغالياً فبيعوه غالياً وادخلوا به الجنة ، ذلك حين تصبرون على فَقْده وتحتسبونه عند الله ، وإنْ كنتم خسرتم به الدنيا فلا تخسروا به الآخرة ، فإنْ لطَمْنا الخدود وشَقَقْنَا الجيوب ، واعترضنا على قَدَر الله فيه فقد خسرنَا به الدنيا والآخرة .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير : إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك إلا للمؤمن " .
والصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب الإيمان ، ومرحلة من مراحل اليقين في نفس المؤمن ، وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ ، حَسْب قوة الإيمان .
اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزُّهَّاد ، وكيف كانوا يتباروْنَ في الوصول إلى هذه المراقي الإيمانية ، ويتنافسون فيها ، لا عن مُبَاهاة ومفاخرة ، إنما عن نية خالصة في الرُّقي الإيماني .
يسأل أحد هؤلاء المتمكِّنين صاحبه : كيف حال الزهاد في بلادكم؟ فقال : إن أصابنا خير شكرنا ، وإن أصابنا شَرٌّ صبرنا ، فضحك الشيخ وقال : وما في ذلك؟! إنه حال الكلاب في بَلْخ . أما عندنا : فإنْ أصابنا خير آثرنا ، وإنْ أصابنا شَرٌّ شكرنا .
وهذه ليست مباهاة إنما تنافس ، فكلاً الرجلين زاهد سالك لطريق الله ، يرى نفسه محسوباً على هذا الطَريق ، فيحاول أنْ يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه ، فإياك أنْ تظن أن الغاية عند الصبر على البلاء والشُّكْر على العطاء ، فهذه البداية وبعدها منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلاَ ، وشمَّر عن ساعد الجد في عبادة ربه .
انظر إلى أحد هؤلاء الزُّهَّاد يقول لصاحبة : أَلاَ تشتاق إلى الله؟ قال : لا ، قال مُتعجباً : وكيف ذلك؟ قال : إنما يُشتاق لغائب ، ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه؟ وهكذا تكون درجات الإيمان وشفافية العلاقة بين العبد وربه عز وجل .
ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد الله على حرف : { يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ . . } .
(1/5990)

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
معنى : { مَا لاَ يَضُرُّهُ . . } [ الحج : 12 ] هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون الله يمكن أن يضره؟ لا ، الصنم لا يضر ، إنما الذي يضره حقيقة مَنْ عانده وانصرف عن عبادته ، تضره الربوبية التي يعاندها والمجَازي الذي يجازيه بعمله ، إذن : فما معنى : { يَضُرُّهُ . . } [ الحج : 12 ] هنا؟
المعنى : لا يضره إن انصرف عنه ولم يعبده ، ولا ينفعه إنْ عبده : { ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ الحج : 12 ] نعم ضلال : لأن الإنسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في أيِّ شيء ، أو يخشى ضره في أيِّ شيء .
وقد ذكرنا سابقاً قول بعض العارفين : ( واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ) ، ولو قلنا هذه المقولة لأبنائنا في الكتب الدراسية ، واهتمَّ بها القائمون على التربية لما أغرى الأولاد بعضهم بعضاً بالفساد ، ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه ، ونصائح أبيه وأمه ، وكيف أنه سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق لا يعرف عنه وعن أخلاقه شيئاً .
لا بُدَّ أنْ نُطعِّم أبناءنا مبادئ الإسلام ، ليعرف الولد منذ صِغَره مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه ، ومَنْ هو أَوْلَى بطاعته .
وتلحظ في الآية أن الضر سابق للنفع : { مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ . . } [ الحج : 12 ] لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة؛ لأن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه ، والنفع يزيدك ويضيف إليك ، أما الضر فينقصك ، لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت لا تنقص ولا تزيد ، فإذا وقفتَ أمام أمرين : أحدهما يجلب خيراً ، والآخر يدفع شراً ، فلا شَكَّ أنك ستختار دَفْع الشر أولاً ، وتشتغل بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة .
وضربنا لذلك مثلاً : هَبْ أن إنساناً سيرمي لك بتفاحة ، وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت ، فماذا تفعل؟ تأخذ التفاحة ، أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى " دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة " .
(1/5991)

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
الأية السابقة تثبت أنه يدعو مَا لا يضُرُّه ومَا لا ينفعه ، وهذه الآية تُثبت أنه يدعو مَنْ ضَرُّه أقرب من نَفْعه .
صيغة أفعل التفضيل ( أقرب ) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة ، إلا أن أحدهما زاد عن الآخر في هذه الصفة ، فلو قُلْتَ : فلان أحسن من فلان . فهذا يعني أن كلاهما حَسَن ، لكن زاد أحدهما عن الآخر في الحُسْن .
فقوله تعالى : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ . . } [ الحج : 13 ]
إذن : هناك نَفْع وهو قريب ، لكن الضر أقرب منه ، فهذه الآية في ظاهرها تُناقِض الآية السابقة ، والحقيقة ليس هناك تناقض ، ولا بُدَّ أنْ نفهمَ هذه المسألة في ضوء قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
فالأوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكَّمون فيها وفي عابديها ، فإذا أرادوا من الآلهة شيئاً قالوا للسدنة : ادعوا الآلهة لنا بكذا وكذا ، إذن : كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية ، وكانوا هم الواسطة بين الأوثان وعُبَّادها ، هذه الواسطة كانت تُدِرُّ عليهم كثيراً من الخيرات وتعطيهم كثيراً من المنافع ، فكانوا يأخذون كل ما يُهْدَى للأوثان .
فالأوثان - إذن - سبب في نَفْع سدنتها ، لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا ، ثم يتركونه بالموت ، فمدة النفع قصيرة ، وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه ، وإنْ جاء الموت فلا إيمانَ ولا عملَ ولا توبةَ ، وهذا معنى { ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ . . } [ الحج : 13 ] .
لذلك يقول تعالى بعدها : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } [ الحج : 13 ] كلمة ( بئس ) تُقَال للذم وهي بمعنى : ساء وقَبُح ، والموْلَى : الذي يليك ويقرُب منك ، ويُراد به النافع لك؛ لأنك لا تقرِّب إلا النافع لك ، إما لأنه يعينك وقت الشدة ، ويساعدك وقت الضيق ، وينصرك إذا احتجتَ لِنُصْرته ، وهذا هو الوليُّ .
وإما أنْ تُقرِّبه منك؛ لأنه يُسليك ويجالسك وتأنس به ، لكنه ضعيف لا يقوى على نُصْرتك ، وهذا هو العشير .
والأصنام التي يعبدونها بئست المولى؛ لأنها لا تنصرهم وقت الشدة ، وبئست العشير؛ لأنها لا تُسليهم ، ولا يأنسون بها في غير الشدة .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ . . } .
(1/5992)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
بعد أن تكلَّم الحق - سبحانه وتعالى - عن الكفار وأهل النار ومَنْ يعبدون الله على حَرْف ، كان لا بُدَّ أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لأن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار ، وفي أسباب دخول الجنة ، وهذا أَجْدى في إيقاع الحجة .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] وقوله تعالى : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً . . } [ التوبة : 82 ]
فذِكْر النعمة وحدها دون أنْ تقابلها النِّقْمة لا تُؤتِي الأثر المطلوب ، لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة وَسَلْب الضّر بإيجاب النفع فإنَّ كلاهما يُظهر الآخر؛ لذلك يقول تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ . . } [ آل عمران : 185 ] فإنْ آمنتَ لا تُزَحْزح عن النار فقط - مع أن هذه في حَدِّ ذاتها نعمة - لكن تُزَحْزح عن النار وتدخل الجنة .
والإيمان : عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس ، لكن الإيمان له مطلوب : فأنت آمنتَ بالله ، واطمأنَّ قلبك إلى أن الله هو الخالق الرازق واجب الوجود . . إلخ ، فما مطلوب هذا الإيمان؟
مطلوب الإيمان أنْ تستمع لأوامره ، لأنه حكيم ، وتثق في قدرته لأنه قادر ، وتخاف من بطشه لأنه جبار ، ولا تيأس من بَسْطه لأنه باسط ، ولا تأمن قبضه لأنه قابض .
لقد آمنتَ بكل هذه القضايا ، فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيات هذا الأمر ، وأنت واثق أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم يَنْهَكَ من فراغ ، إنما من خلال صفات الكمال فيه سبحانه ، أو صفات الجلال والجبروت ، فاستحضر في كُلِّ أعمالك وفي كُلِّ ما تأتي أو تدع هذه الصفات .
لذلك ، جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصالح : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ . . } [ الحج : 14 ]
وفي سورة العصر : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . } [ العصر : 1 - 3 ] ليس ذلك وفقط إنما أيضاً : { وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ] .
فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الاستجابة لداعي الإيمان وثمرة من ثماره؛ لأن المؤمن سيتعرَّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله ، وسيواجه سُخْرية واستهزاءً ، وربما تعرَّض لألوان العذاب .
فعليه إذن - أنْ يتمسَّك بالحق ويتواصى به مع أخيه ، وعليه أن يصبر ، وأنْ يتواصى بالصبر مع إخوانه ، ذلك لأن الإنسان قد تعرض له فترات ضَعف وخَوَر ، فعلى القوي في وقت الفتنة أنْ ينصحَ الضعيف .
وربما تبدَّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى ، فَمنْ أوصيْتَه اليوم بالصبر ربما يوصيك غداً ، وهكذا يُثمِر في المجتمع الإيماني التواصي بالحق والتواصي بالصبر .
إذن : تواصَوْا؛ لأنكم ستتعرضون لِهزَّات ليست هزَّات شاملة جامعة ، إنما هزَّات يتعرض لها البعض دون الآخر ، فإنْ ضعُفْتَ وجدتَ من إخوانك مَنْ يُواسيك : اصبر ، تجلَّد ، احتسب .
(1/5993)

وإياك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحق ، أو تخرج عن الصبر ، وهذه عناصر النجاة التي ينبغي للمؤمنين التمسك بها : إيمان ، وعمل صالح ، وتواصٍ بالحق ، وتواصٍ بالصبر .
وقوله سبحانه : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار . . } [ الحج : 14 ] .
الجنات : هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتَّع : الزرع ، والخضرة ، والنضارة ، والزهور ، والرائحة الطيبة ، وهذه كلها بنت الماء؛ لذلك قال { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار . . } [ الحج : 14 ] ومعنى : { مِن تَحْتِهَا . . } [ الحج : 14 ] أن الماء ذاتيٌّ فيها ، لا يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع عنها ، كما جاء في آية أخرى : { تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار . . } [ التوبة : 100 ] .
ثم يقول سبحانه : { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ . . } [ الحج : 14 ] لأنه سبحانه لا يُعْجِزه شيء ، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ولو تأملتَ هذه الآية لوجدتَ الشيء الذي يريده الله ويأمر بكونه موجوداً في الحقيقة ، بدليل أن الله تعالى يخاطبه { يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فهو - إذن - كائن فعلاً ، وموجود حقيقةً ، والأمر هنا إنما هو لإظهاره في عالم المشاهدة .
ثم يقول سبحانه : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ . . }
.
(1/5994)

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
( يظنُّ ) تفيد عِلْماً غير يقيني وغير مُتأكد ، وسبق أنْ تكلَّمنا في نسبة القضايا ، فهناك حكم محكوم به ومحكوم عليه ، تقول : زيد مجتهد ، فأنت تعتقد في نِسْبة الاجتهاد لزيد ، فإنْ كان اعتقادك صحيحاً فتستطيع أنْ تُقدِّم الدَليل على صحته فتقول : بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق .
أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدِّم عليها دليلاً كأنْ سمع الناسَ يقولون : زيد مجتهد . فقال مثلهم ، لكن لا دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة ، كالطفل الذي نُلقّنه { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] هذه قضية واقعية يعتقدها الولد ، لكن لا يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل عليها إلا عندما يكُبر ويستوي تفكيره .
فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها؟ أخذها من المأمون عليه : من أبيه أو أستاذه ثم قلَّده . إذن : إنْ كانت القضية واقعة ، لكِنْ لا تستطيع أنْ تقيم الدليل عليها فهي تقليد ، فإنِ اعتقدتَ قضية واقعة ، وأقمْتَ الدليل عليها ، فهذا أسمْى مراتب العلم ، فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ ، فهذا جهل .
فالجاهل : مَنْ يعتقد شيئاً غير واقع ، وهذا الذي يُتعِب الدنيا كلها ، ويُشقي من حوله ، لأن الجاهل الأميَّ الذي لا يعلم شيئاً ، وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء ، تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة ويقبلها منك؛ لأنه خالي الذهن ولا يعارضك .
فإنْ تشككْتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب ، فهذا هو الشَّكُّ ، فلا تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد ، ولا بعدم اجتهاده ، فإنْ غلب الاجتهاد فهو ظَنٌّ ، فإنْ غلب عدم الاجتهاد فهو وَهْم .
إذن : نسبة القضايا إما علم تعتقده : وهو واقع وتستطيع أنْ تقيمَ الدليل عليه ، أو تقليد : وهو ما تعتقده وهو واقع ، لكن لا تقدر على إقامة الدليل عليه ، أو جهل : حين تعتقد شيئاً غير واقع ، أو شك : حين لا تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والإثبات ، أو ظن : حين تُرجِّح الإثبات ، أو وهم : حين تُرجِّح النفي .
فالظن في قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله . . } [ الحج : 15 ] أي : يمرُّ بخاطره مجرد مرور أن الله لن ينصر محمداً ، أو يتوهم ذلك - ولا يتوهم ذلك إلا الكفار - لأنهم يأملون ذلك في معركة الإيمان والكفر - مَنْ ظَنَّ هذا الظنَّ فعليه أنْ ينتهيَ عنه؛ لأنه أمر بعيد ، لن يحدث ولن يكون .
وقد ظَنَّ الكفار هذا الظن حين رَأَوْا بوادر نصر الإيمان وعلامات فوزه ، فاغتاظوا لذلك ، ولم يجدوا شيئاً يريح خاطرهم إلا هذا الظن .
لذلك؛ يردُّ الله غيظهم عليهم ، فيقول لهم : ستظلون بغيظكم؛ لأن النصر للإيمان ولجنوده مستمر ، فليس أمامك إلا أنْ تجعل حبلاً في السماء وتربط عنقك به ، تشنق نفسك حتى تقع ، فإنْ كان هذا الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] .
(1/5995)

لكن ما الغيظ؟ الغيظ : نوع من الغضب مصحوب ومشُوب بحزن وأَسَىً وحَسْرة حينما ترى واقعاً يحدث أمام عينيك ولا يرضيك ، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تفعل شيئاً تمنع به مَا لا يُرضيك .
وهذه المادة ( غيظ ) موجودة في مواضع أخرى من كتاب الله ، وقد استُعْملَتْ حتى للجمادات التي لا تُحسُّ ، اقرأ قول الله تعالى عن النار : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ . . } [ الملك : 8 ] وقال : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] فكأن النار مغتاظة من هؤلاء ، تتأهب لهم وتنتظرهم .
والغَيْظ يقع للمؤمن والكافر ، فحين نرى عناد الكفار وسُخريتهم واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ ، لكن يُذهب الله غيْظ قلوبنا ، كما قال سبحانه : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ . . } [ التوبة : 15 ] .
أما غيْظ الكفار من نصْر الإيمان فسوف يَبْقى في قلوبهم ، فربُّنا - سبحانه وتعالى - يقول لهم : ثقُوا تماماً أن الله لم يرسل رسولاً إلا وهو ضامن أنْ ينصره ، فإنْ خطر ببالكم خلافُ ذلك فلن يُريحكم ويَشْفي غيظكم إلاّ أنْ تشنقوا أنفسكم؛ لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ . . } [ آل عمران : 119 ] .
ومعنى : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء . . } [ الحج : 15 ] { فَلْيَمْدُدْ . . } [ الحج : 15 ] : من مدَّ الشيء يعني : أطاله بعد أنْ كان مجتمعاً ، ومنه قوله تعالى : { والأرض مَدَدْنَاهَا . . } [ الحجر : 19 ] فكلما تسير تجد أرضاً ممتدة ليس لها نهاية حافَّة .
والسبب : الحبل ، يُخرجون به الماء من البئر ، لكن هل يستطيع أحد أنْ يربط حبلاً في السماء؟ إذن : علَّق المسألة على محال ، وكأنه يقول لهم : حتى إنْ أردتم شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا ، وسوف تظلُّون هكذا بغيظكم .
أو : يكون المعنى : { إِلَى السمآء . . } [ الحج : 15 ] يعني : سماء البيت وسقفه ، كمَنْ يشنق نفسه في سَقْف البيت .
ويمكن أن نفهم ( السبب ) على أنه أيّ شيء يُوصِّلك إلى السماء ، وأيّ وسيلة للصعود ، فيكون المعنى : خذوا أيّ طريقة تُوصِّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر؛ لأن نَصْر محمد يأتي من السماء فامنعوه ، وهذه أيضاً لا يقدرون عليها ، وسيظل غيظهم في قلوبهم .
وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أن الآية لم تذكر شيئاً عنه ، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله . . } [ الحج : 15 ] والحديث مُوجَّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب الإيمان ، فقوله : { يَنصُرَهُ . . } [ الحج : 15 ] ينصر مَنْ؟ لا بُدَّ أنه محمد ، لماذا؟
قالوا : لأن الأسماء حينما تُطلَق تدلُّ على مَعَانٍ ، فعندما تقول " سماء " نفهم المراد ، وعندما تقول " قلب " نفهم ، " نور " نعرف المراد . والأسماء إما اسم ظاهر مثل : محمد وعلي وعمر وأرض وسماء ، والأسماء إما اسم ظاهر مثل : أنا ، أنت ، هو ، هم .
(1/5996)

والضمير مُبْهم لا يُعيِّنه إلا التكلُّم ، فأنت تقول : أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن ، فالذي يُعيِّن الضمير المتكلّم به حال الخطاب ، فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب . فإن لم يكن متكلّماً ولا مخاطباً فهو غائب ، فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟
حين تقول : هو ، هي ، هم . مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيِّنها؟ إنْ عيَّنْتَ المتكلم بكلامه ، والمخاطب بمخاطبته ، كيف تُعيِّن الغائب؟ قالوا : لا بُدَّ أنْ يسبقه شيء يدل عليه ، كأن تقول : جاءني رجل فأكرمتُه ، أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه ، جاءتني امرأة فأكرمتُها ، جاء قوم فلان فأكرمتهم . إذن : فمرجع الضمير هو الذي يدلُّ عليه .
لكن لم يسبق ذِكْر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الضمير ليُعيِّنه ويدلُّ عليه ، نعم لم يسبق ذِكْر لرسول الله ، لكن تأمَّل المعنى : الكلام هنا عن النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد صلى الله عليه وسلم ، وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلاء المعاندون ، فالمقام مُتعيّن أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومثال ذلك قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ . . } [ القدر : 1 ] .
فالضمير هنا مُتعيِّن ، ولا ينصرف إلا إلى القرآن ، ولا يتعين الضمير إلا إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه .
اقرأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] تلحظ أن الضمير سابق على الاسم الظاهر ، فالمرجع متأخر ، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى الله ، فإذا قِيلَ : هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا لله عز وجل .
كذلك في قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [ النحل : 61 ] . على ظَهْر أيِّ شيء؟ الذِّهْن لا ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض .
وقوله تعالى : { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] الاستفهام هنا مِمَّنْ يعلم ، فهو استفهام للتقرير ، ليِقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلُّ كما هو ، لا يشفيه شيء ، وأنهم سيموتون بغيظهم ، كما قال تعالى : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ . . } [ آل عمران : 119 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . } .
(1/5997)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
قوله { أَنزَلْنَاهُ . . } [ الحج : 16 ] أي : القرآن؛ لأن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعِّين ، وما دام مرجعه مُتعيناً فلا يحتاج لذكر سابق . والإنزال يحمل معنى العلو ، فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن ما يشقُّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك ، فاعلم أنه من أَعْلى منك ، من الله ، وليس من مُسَاوٍ لك ، يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه : لماذا هذا الأمر؟ ولماذا هذا النهي؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلا بُدَّ أن تسمع وتطيع ولا تناقش .
ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له : إن صاحبك يقول : إنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس ، ثم عُرِج به إلى السماء ، فما كان من الصِّديِّق إلا أنْ قال : إنْ كان قال فقد صدق ، هكذا دون مناقشة ، فالأمر من أعلى ، من الله .
وقلنا : إنك لو عُدْتَ مريضاً فوجدتَ بجواره كثيراً من الأدوية فسألته : لماذا كل هذا الدواء؟ قال : لقد وصفه الطبيب ، فأخذت تعترض على هذا الدواء ، وتذكر من تفاعلاته وأضراره وعناصره ، وأقحمت نفسك في مسألة لا دَخْلَ لك بها .
هذا قياس مع الفارق ومع الاعتراف بأخطاء الأطباء في وصف الدواء ، لكن لتوضيح المسألة ولله المثل الأعلى ، وصدق القائل :
سُبْحانَ مَنْ يَرِثُ الطَّبِيبَ وطِبَّهُ ... ويُرِي المريض مَصَارِعَ الآسِينا
إذن : حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته ، إنما يكفي أنْ نعلم الآمر به .
ومعنى { آيَاتٍ . . } [ الحج : 16 ] أي : عجائب { بَيِّنَاتٍ . . } [ الحج : 16 ] واضحات . وسبق أنْ ذكرنا أنْ كلمة الآيات تُطلَق على معَانٍ ثلاثة : الآيات الكونية التي تُثبِت قدرة الله ، وبها يستقر الإيمان في النفوس ، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر ، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صِدْق بلاغهم عن الله ، والآيات التي يتكوَّن منها القرآن ، وتُسمَّى " حاملة الأحكام " .
فالمعنى هنا { وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . } [ الحج : 16 ] تحمل كلمة الآيات كُلَّ هذه المعاني ، فآيات القرآن فيها الآيات الكونية ، وفيها المعجزة ، وهي ذاتها آيات الأحكام .
ثم يقول سبحانه : { وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ . . } [ الحج : 16 ] وهذه من المسائل التي وقف الناس حولها طويلاً : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ . . } [ النحل : 93 ] وأمثالها تمسَّك بها مَنْ ليس لهم حَظٌّ من الهداية ، يقولون : لم يُرِدِ الله لنا الهداية ، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟
وهذه وقفة عقلية خاطئة؛ لأن الوَقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء ومقابله ، أما هؤلاء فقد نبَّهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى ، فهي - إذن - وَقْفة تبريرية ، فالضال الذي يقول : لقد كتب الله عليَّ الضلال ، فما ذنبي؟ لماذا لم يَقُلْ : الطائع الذي كتب الله له الهداية ، لماذا يثيبه؟!
فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟
(1/5998)

والمتأمل في الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله في الإضلال والهداية يجد أنه سبحانه قد بيِّن مَنْ شاء أنْ يُضلّه ، وبين مَنْ شاء أنْ يهديه ، اقرأ قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ المائدة : 67 ] إذن : كُفْره سابق لعدم هدايته وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المنافقون : 6 ] وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ القصص : 50 ] .
إنما يهدي مَنْ آمن به ، أما هؤلاء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا ، فإن الله تعالى يختم على قلوبهم ، فلا يدخلها الإيمان ، ولا يخرج منها الكفر ، لأنهم أحبُّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيماناً : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى . . } [ محمد : 17 ] .
والهداية هنا بمعنى الدلالة على الخير ، وسبق أنْ ضربنا لها مثلاً ، ولله تعالى المثَل الأعلى : هَبْ أنك تسلك طريقاً لا تعرفه ، فتوقفتَ عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدلَّكَ عليها ، ووصف لك الطريق الموصِّل إليها . لكن ، هل دلالته لك تُلزمك أنْ تسلك الطريق الذي وُصِف لك؟
بالطبع أنت حُرٌّ تسير فيه أو في غيره . فإذا ما حفظتَ لرجل المرور جميلَهُ وشكرته عليه ، ولمس هو فيك الخير ، فإنه يُعينك بنفسه على عقبات الطريق ، وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة يخاف عليك منها . هذا معنى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
أما لو تعاليتَ على هذا الرجل ، أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق ، فإنه يدعُكَ وشأنك ، ويضِنُّ عليك بمجرد النصيحة .
وهكذا . . الحق - سبحانه وتعالى - دَلَّ المؤمن ودَلَّ الكافر على الخير ، المؤمن رضي بالله وقَبِل أمره ونَهْيه ، وحمد الله على هذه النعمة ، فزاده إيماناً وأعانه على مشقة العبادة ، وجعل له نوراً يسير على هَدْيه ، أما الكافر فقد تركه يتخبّط في ظلمات كفره ، ويتردد في متاهات العمى والضلال .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُوا . . } .
(1/5999)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
هذه فئات ست أخبر الله عنها بقوله : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة . . } [ الحج : 17 ] ومعنى الفصل بينهم أن بينهم خلافاً ومعركة ، ولو تتبعتَ الآيات التي ذكرت هذه الفئات تجد أن هناك آيتين في البقرة وفي المائدة .
يقول تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .
وفي المائدة يُقدِّم الصابئين على النصارى ، وفي هذا الموضع تأتي بالرفع بالواو ، يقول تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ المائدة : 69 ] .
{ الذين آمَنُواْ . . } [ الحج : 17 ] أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { والذين هَادُواْ . . } [ الحج : 17 ] أي : اليهود ، ثم النصارى وهما قبل الإسلام ، أما الصابئون : فهؤلاء جماعة كانوا على دين إبراهيم عليه السلام ، ثم عبدوا الكواكب فَسُمُّوا الصابئة لخروجهم عن الدين الحق . أما المجوس : فهم عبدة النار ، والذين أشركوا : هم المشركون عَبَدة الأصنام والأوثان .
أما التقديم والتأخير بين النصارى والصابئين ، قالوا : لأن النصارى فرقة كبيرة معروفة ولهم نبي ، أما الصابئة فكانوا جماعة خرجوا على نبيهم وخالفوه وأتَوْا بعقيدة غير عقيدته ، فهم قلَّة ، لكن سبقوا النصارى في الترتيب الزمني؛ لذلك حين يراعي السَّبْقَ الزمني يقول : { والصابئين والنصارى . . } [ الحج : 17 ] وحين يراعي الكثرة والشهرة ، يقول : { والنصارى والصابئين . . } [ البقرة : 62 ] فكلٌّ من التقديم أو التأخير مُراد لمعنى مُعيَّن .
أما قوله : { والصابئون . . } [ المائدة : 69 ] بالرفع على خلاف القاعدة في العطف ، حيث عطفت على منصوب ، والمعطوف تابع للمعطوف عليه في إعرابه ، فلماذا وسَّط مرفوعاً بين منصوبات؟
قالوا : لا يتم الرفع بين المنصوبات إلا بعد تمام الجملة ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى ، والصابئون كذلك ، فعطف هنا جملة تامة ، فهي مُؤخَّرة في المعنى ، مُقدَّمة في اللفظ ، وهكذا تشمل الآية التقديم والتأخير السابق .
لكن ، كيف ينشأ الخلاف بين الأديان؟
ينشأ الخلاف من أن قوماً يؤمنون بإله ويؤمنون بالنبي المبلِّغ عن هذا الإله ، لكنهم يختلفون على أشياء فيما بينهم ، كما نرى الخلاف مثلاً بين المعتزلة وأهل السنة ، أو الجبرية والقدرية ، فجماعة تثبت الصفات ، وآخرون يُنكرونها ، جماعة يقولون : الإنسان مُجْبَر في تصرفاته ، وآخرون يقولون : بل هو مختار .
وقد ينشأ الخلاف بين الأديان للاختلاف في النبوات ، فأهل الديانات يؤمنون بالإله الفاعل المختار ، لكن يختلفون في الأنبياء موسى وعيسى ومحمد مع أنهم جميعاً حَقٌّ . وقد ينشأ الخلاف من الادعاء ، كالذين يدَّعُون النبوة كهؤلاء الذين يعبدون النار ، أو يعبدون بوذا مثلاً .
فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الآية ، فما حكم هؤلاء جميعاً بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ؟
نقول : أما المشركون الذين عبدوا الأصنام ، وكذلك الذين عبدوا النبوة المدَّعاة ، فهؤلاء كفار ضائعون .
(1/6000)

أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار ، ويؤمنون بنبوة صادقة ، فشأنهم بعد ظهور الإسلام ، أن الله تعالى أقام لنا تصفية آخر الأمر لهذه الديانات ، فمَنْ كان يهودياً قبل الإسلام ، ومن كان نصرانياً قبل الإسلام ، فإن الله أجْرى لهم تصفية عقدية هي الإسلام ، فإنْ كانوا مؤمنين الإيمان الأول بالله تعالى فعليهم أنْ يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين .
لذلك قال بعدها : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 62 ] .
فبعد ظهور الإسلام بدأت لهؤلاء جميعاً - اليهود والنصارى والمجوس والمشركين - حياة جديدة ، وفُتِحَتْ لهم صفحة جديدة هم فيها أولاد اليوم ، حيث لزمهم جميعاً الإيمان بالله تعالى والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن الإسلام تصفية ( وأوكازيون إيماني ) يجُبُّ ما قبله ، وعفا الله عما سلف .
والحق - سبحانه - حينما تكلم عن الأجيال السابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ] لذلك نبَّه كُلٌّ من موسى وعيسى - عليهما السلام - بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وبشَّروا به ، بدليل قول الله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ . . } [ البقرة : 89 ] والمراد اليهود والنصارى .
وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، وجامعاً للأديان كلها في الإسلام الذي زاد عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر ، إلى أن تقوم الساعة .
جاء الإسلام تصفية لهؤلاء ، استأنفوها بإيمان ، واستأنفوها بعمل صالح ، فكان لهم أجرهم كاملاً عند ربهم لا يطعن فيهم دينهم السابق ، ولا عقائدهم الفاسدة الكافرة .
أما إنْ حدث خلاف حول النبوات كما تذكر الآية التي نحن بصددها : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] والفَصْل أن نعرف مِنَ المحقُّ ومَنِ المبطل ، وهكذا جمعتْ الآيات بين حالة الاتفاق وحالة الاختلاف وبيَّنَتْ جزاء كل منهما .
فالفصل إما فصل أماكن ، وإما فصل جزاءات ، قالوا : بالطبع فالحكم بينهم : هذا مُحِقٌّ وهذا مُبطِل سيؤدي إلى اختلاف الأماكن واختلاف الجزاءات .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] لأن الله تعالى هو الحكَم الذي يفصل بين عباده ، والحكم يحتاج إما إلى بينة أو شهود ، والشهود لا بُدَّ أن يكونوا عُدولاً ، ولا يتحقق العدل في الشهادة إلا بدين يمنع الإنسان أنْ يميل عن الحق ، فإن كان الحكم هو الله فلا حاجة لبيِّنة ، ولا حاجةَ لشهود؛ لأنه سبحانه يحيط علمه بكل شيء ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض .
ومن العجيب أن الحُكْم والفَصْل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات : التشريعية والقضائية والتنفيذية ، فحُكْمه سبحانه لا يُؤجَّل ولا يُتحّايل عليه ، ولا تضيع فيه الحقوق كما تضيع في سراديب وأدراج المحاكم .
أما حُكْم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ ، فربما صدر الحكم وتعطَّل تنفيذه ، أما حكم الله فنافذ لا يُؤجِّله شيء .
إذن : المسألة لن تمرَّ هكذا ، بل هي محسوبة لك أو عليك .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض . . } .
(1/6001)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ . . } [ الحج : 18 ] يعني : ألم تعلم؛ لأن السُجود من هذه الأشياء سجود على حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا ، ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه .
وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة : أدناها الجماد ، ثم يليه النبات ، حيث يزيد عليه خاصية النمو وخاصية الحركة ، ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الإحساس ، ثم يليه الإنسان ويزيد عليه خاصية الفكر والاختيار بين البدائل .
وكل جنس من هذه الأجناس يخدم ما هو أعلى منه ، حيث تنتهي هذه الدائرة بأن كل مَا في كون الله مُسخَّر لخدمة الإنسان ، وفي الخبر : " يا ابن آدم خلقتُ الأشياء من أجلك ، وخلقتُكَ من أجلي ، فلا تشتغل بما هو لك عَمَّنْ أنت له " .
فكان على الإنسان أن يفكر في هذه الميْزة التي منحه ربه إياها ، ويعلم أن كل شيء في الوجود مهما صَغُر فله مهمة يؤديها ، ودَوْر يقوم به . فأَوْلَى بك أيها الإنسان وأنت سيد هذا الكون أن يكون لك مهمة ، وأن يكون لك دور في الحياة فلستَ بأقلَّ من هذه المخلوقات التي سخَّرها الله لك ، وإلاَّ صِرْتَ أقلّ منها وأدنى .
إن كانت مهمة جميع المخلوقات أنْ تخدمك لأنك أعلى منها ، فانظر إلى مهمتك لمَنْ هو أعلى منك ، فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبِّهك إلى هذه المهمة كان عليك أن تشكره؛ لأنه نبَّهك إلى ما ينبغي لك أن تشتغل به ، وإلى مَنْ يجب عليك الاتصال به دائماً لذلك فالرسول لا يصح أن تنصرف عنه أبداً؛ لأنه يُوضِّح لك مسائل كثيرة هي مَحَلٌّ للبحث العقلي .
وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الأجناس التي تخدمه : ألك قدرة عليها؟ لقد خدمتْكَ منذ صِغَرِك قبل أنْ تُوجِّه إليها أمراً ، وقبل أنْ توجدَ عندك القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الأشياء ، كان عليك أنْ تتنبه إلى القوة الأعلى منك ومن هذه المخلوقات ، القوة التي سخَّرَتْ الكون كله لخدمتك ، وهذا بَحْث طبيعي لا بُدَّ أن يكون .
هذه الأشياء في خدمتها لك لم تتأبَّ عليك ، ولم تتخلف يوماً عن خدمتك ، انظر إلى الشمس والقمر وغيرهما : أقالت الشمس يوماً : إن هؤلاء القوم لا يستحقون المعروف ، فلن أطلع عليهم اليوم؟!
الأرض : هل ضنَّتْ في يوم على زراعها؟ الريح : هل توقفتْ عن الهبوب . وكلها مخلوقات أقوى منك ، ولا قدرةَ لك عليها ، ولا تستطيع تسخيرها ، إنما هي في قبضة الله - عز وجل - ومُسخَّرة لك بأمره سبحانه ، ولأنها مُسخَّرة فلا تتخلف أبداً عن أداء مهمتها .
أما الإنسان فيأتي منه الفساد ، ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه الله من منطقة الاختيار .
(1/6002)

البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دلالة ، لا سجوداً على حقيقته ، لكن هذا القول يعارضه قول الله تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ . . } [ النور : 41 ] .
فلكل مخلوق مهما صَغُر صلاة وتسبيح وسجود ، يتناسب وطبيعته ، إنك لو تأملت سجود الإنسان بجبهته على الأرض لوجدتَ اختلافاً بين الناس باختلاف الأحوال ، وهم نوع واحد ، فسجود الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش ، أو جالس على مقعد ، وربما يشير بعينه ، أو أصبعه للدلالة على السجود ، فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره .
فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حَسْب حالة وقدرته وطاقته ، فلماذا نستبعد أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به ، والذي يتناسب مع طبيعته؟
وإذا كان هذا حال السجود في الإنسان ، فهل ننتظر مثلاً أن نرى سجود الشمس أو سجود القمر؟! ما دام الحق - سبحانه وتعالى - قال إنها تسجد ، فلا بُدَّ أن نؤمن بسجودها ، لكن على هيئة لا يعلمها إلا خالقها عز وجل .
بالله ، لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش ، أتعرف وهو أمامك أنه يسجد؟ إذن : كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات؟
ومن معاني السجود : الخضوع والطاعة ، فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجوداً على الحقيقة ، فليعتبر السجود هنا للخضوع والانقياد والطاعة ، كما تقول على إنسان متكبر : جاء ساجداً يعني : خاضعاً ذليلاً ، ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
إذن : لك أن تفهم السجود على أيِّ هذه المعاني تحب ، فلن تخرج عن مراده سبحانه ، ومن رحمة الله أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لإرادته ، لا تنحلّ عنها أبداً ولا تتخلف ، كما قال سبحانه : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
ونحن نتناقل الآن ، ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب الفيوضات الذين فَهِموا عن الله وتذوَّقوا لذَّة قُرْبه ، وكانوا يتحاورون ويتنافسون لا للمباهاة والافتخار ، إنما للترقي في القرب من الله .
جلس اثنان من هؤلاء العارفين وفي فَمِ أحدهم نَخْمة يريد أنْ يبصقها ، وبدتْ عليه الحيرة ، وهو ينظر هنا وهناك فقال لَه صاحبه : أَلْقِها واسترحِ ، فقال : كيف وكلما أردتُ أنْ أبصقها سمعت الأرض تُسبِّح فاستحيْتُ أنْ أُلقيها على مُسبِّح ، فقال الآخر - ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه - وقد افتعل البَصْق وقال : مُسبِّح في مُسبِّح .
إذن : فأهل الكشف والعارفون بالله يدركون هذا التسبيح ، ويعترفون به ، وعلى قدر ما لديك من معرفة بالله ، وما لديك من فَهْم وإدراك يكون تلقِّيك وتقبُّلك لمثل هذه الأمور الإيمانية .
والحق - سبحانه وتعالى - حين قال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض .
(1/6003)

. } [ الحج : 18 ] معلوم أن مَنْ في السموات هم الملائكة ولسنْا منهم ، لكن نحن من أهل الأرض ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلولة ، فلماذا قال بعدها : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] .
كلمة : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] تُبيّن أن لنا قهريةً وتسخيراً وسجوداً كباقي أجناس الكون ، ولنا أيضاً نطقة اختيار . فالكافر الذي يتعوَّد التمرُّد على خالقه : يأمره بالإيمان فيكفر ، ويأمره بالطاعة فيعصي ، فلماذا لا يتمرد على طول الخط؟ لماذا لا يرفض المرض إنْ أمرضه الله؟ ولماذا لا يرفض الموت إنْ حَلَّ به؟
إذن : الإنسان مُؤتمِر بأمر الله مثل الشجر والحجر والحيوان ، ومنطقة الاختيار هي التي نشأ عنها هذا الانقسام : كثير آمن ، وكثير حَقَّ عليه العذاب .
لكن ، لماذا لم يجعل الله - سبحانه وتعالى - الخَلْق جميعاً مُسخَّرين؟
قالوا : لأن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات الله تثبت لله تعالى صفة القدرة على الكل ، إنما لا تُثبت لله المحبوبية ، المحبوبية لا تكون إلا مع الاختيار : أن تكون حُرَّا مختاراً في أنْ تُؤمنَ أو تكفر فتختار الإيمان ، وأنْ تكون حُراً وقادراً على المعصية ، لكنك تطيع .
وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - : هَبْ أن عندك عبدين ، تربط أحدهما إليك في سلسلة مثلاً ، وتترك الآخر حُراً ، فإن ناديتَ عليهما أجاباك ، فأيهما يكون أطْوعَ لك : المقهور المجبر ، أم الحر الطليق؟ .
إذن : التسخير والقهر يُثبت القدرة ، والاختيار يُثبت المحبة .
والخلاف الذي حدث من الناس ، فكثير منهم آمن ، وكثير منهم حَقَّ عليه العذاب ، من أين هذا الاختلاف يا رب؟ مما خلقتُه فيك من اختيار ، فمَنْ شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، فكأن كفر الكافر واختياره؛ لأن الله سَخَّره للاختيار ، فهو حتى في اختياره مُسخَّر .
أما قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس . . } [ الحج : 18 ] يعني : باختياراتهم ، وكان المفروض أن يقول في مقابلها : وقليل ، لكن هؤلاء كثير ، وهؤلاء كثير أيضاً .
ومعنى : { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] حقَّ : يعني ثبتَ ، فهذا أمر لا بُدَّ منه ، حتى لا يستوي المؤمن والكافر : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } [ القلم : 35 ] إذن : لا بُدَّ أنْ يعاقب هؤلاء ، والحق يقتضي ذلك .
وقوله سبحانه : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] لأن أحقيَّة العذاب من مُساوٍ لك . قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه ، أو يأتي شافع يشفع له ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُيئَّسُ هؤلاء من النجاة من عذابه ، فلن يمنعهم أحد .
فمَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد ، لابنُصْرته ولا بالشفاعة له ، فالمعنى : { وَمَن يُهِنِ الله . . } [ الحج : 18 ] أي : بالعذاب الذي حَقَّ عليه وثبت { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ . . } [ الحج : 18 ] يعني : يكرمه ويُخلِّصه من هذا العذاب ، كذلك لا يوجد مَنْ يُعِزه؛ لأن عِزَّته لا تكون إلا قَهْراً عن الله ، وهذا مُحَال ، أو يكون بشافع يشفع له عند الله ، ولا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه سبحانه .
لذلك ، نقول : إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ولا يُجَار عليه ، يعني : لا أحد يقول لله : هذا في جواري؛ لذلك ذيَّلَ الآية بقوله تعالى : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ فالذين كَفَرُواْ . . } .
(1/6004)

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
كلمة خَصْم من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع ، وكذلك المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } [ ص : 21 ] .
ويقول تعالى : { خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ . . } [ ص : 22 ] .
والمراد بقوله : { خَصْمَانِ . . } [ الحج : 19 ] قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] والخصومة تحتاج إلى فَصْل بين المتخاصمين ، والفَصْل يحتاج إلى شهود ، لكن إنْ جاء الفَصْل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود { وكفى بالله شَهِيداً . . } [ النساء : 79 ]
وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم ، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم ، يقول تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . . } [ فصلت : 21 ] .
فإنْ قلتَ : كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت؟
نقول : هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه ، وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - بالقائد الذي يأمر جنوده ، وعليهم أنْ يُطيعوه حتى إنْ كانت الأوامر خاطئة ، فإنْ رجعوا إلى القائد الأعلى حكَوْا له مَا كان من قائدهم؛ ذلك لأن القائد الأعلى جعل له ولاية عليهم ، وألزمهم طاعته والائتمار بأمره .
فالخالق - عز وجل - جعل لإرادة الإنسان ولاية على جوارحه ، فالفعل - إذن - للإرادة ، وما الجوارح إلا أداة للتنفيذ . فحينما تريد مثلاً أنْ تقوم ، مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائماً دون أنْ تفكر في حركة القيام أو العضلات التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل ، مع أنها عملية مُعقَّدة تتضافر فيها الإرادة والعقل والأعصاب والأعضاء ، وأنت نفسك لا تشعر بشيء من هذا كله ، وهل في قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرَّك فتحركتْ؟
فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الإرادة ، أفلا يكون أوْلى من هذا أنْ ينفعل خَلْق الله لإرادة الله؟
إذن : العمدة في الأفعال ليستْ الجوارح وإنما الإرادة ، بدليل أن الله تعالى إذا أراد أنْ يُعطِّل جارحة من الجوارح عطّل الإرادة الآمرة ، وقطعها عن الجارحة ، فإذا هي مشلولة لا حركةَ فيها ، فإنْ أراد الإنسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع ، لماذا؟
لأنه لا يعلم الأبعاض التي تُحرِّك هذه الجارحة ، ولو سألتَ أعلم الناس في علم الحركة والذين صنعوا الإنسان الآلي : ما الحركة الآلية التي تتم في جسم الإنسان كي يقوم من نومه أو من جِلْسته؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة .
أما لو نظرتَ مثلاً إلى الحفَّار ، وهو يُؤدِّي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدتَ صبياً يشغله باستخدام بعض الأزرار ، ويستطيع أنْ يصِفَ لك كل حركة فيه ، وما الآلات التي تشترك في كل حركة . فَقُلْ لي بالله : ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك؟ ما الزر الذي تُحرِّك به عينيك ، أو لسانك ، أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة منك فينفعل لك ما تريد؛ لأن الله تعالى خلقك ، وجعل لإرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك ، فلا تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات لله - عز وجل - إنْ أراد منها أنْ تفعلَ .
(1/6005)

حتى العذاب في الآخرة ليس لهذه الجوارح والأبعاض ، إنما العذاب للنفس الواعية ، بدليل أن الإنسان إذا تعرَّض لألم شديد لا يستريح منه لا أنْ ينام ، فإذا استيقظ عاوده الألم ، إذن : فالنفس هي التي تألم وتتعذَّب لا الجوارح .
والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن ، كما قال سبحانه في آية أخرى { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة . . } [ الحج : 17 ] .
لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه : أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب . هؤلاء في جانب وفي الجانب المقابل : عتبة ابن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة .
لماذا؟ لأن بين هؤلاء كانت أول معركة في الإسلام ، وهذه أول خصومة وقعتْ فيه ، ذلك لأنهم في معركة بدر أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً للمبارزة ، وكانت عادتهم في الحروب أنْ يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أنْ يُعذِّبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال ، ويعرِّضوا أرواح الناس جميعاً للخطر .
ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - في موقعة صِفِّين حيث قال علي لمعاوية : ابرز إليَّ يا معاويةُ ، فإنْ غلبتني فالأمر لك ، وإنْ غلبتُك فاجعل الأمر لي ، فقال عمرو بن العاص وكان في صفوف معاوية : والله ، يا معاوية لقد أنصفك الرجل ، وفي هذا حَقْنٌ لدماء المسلمين في الجانبين .
فنظر معاوية إلى عمرو وقال : والله يا عمرو ما أردْتَ إلا إن أبرز له فيقتلني ، ويكون لك الأمر من بعدي ، وما دُمْتَ قد قلتَ ما قلتَ فلا يبارزه غيرك فاخرج إليه .
فقام عمرو لمبارزة علي ، لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته؟ وحمل عليٌّ على عمرو حملة قوية ، فلما أحسَّ عمرو أن علياً سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة ، واستعمل دهاءه في صَرْف عليٍّ عنه ، فكشف عمرو عن عورته ، وهو يعلم تماماً أن علياً يتورع عن النظر إلى العورة ، وفعلاً تركه علي وانصرف عنه ، ونجا عمرو بحيلته هذه .
وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف فقال :
وَلاَخَيْرَ في رَدٍّ الرَّدَى بِدَنيَّةٍ ... كَما رَدَّهَا يَوْماً بِسَوْأَتِهِ عَمْرُو
ويقول الشريف الرضي - وهو من آل البيت - في القصيدة التي مطلعها :
أرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيمَتُكَ الصَّبْر ... أَما لِلْهَوَى نَهْيُ عليْكَ ولاَ أَمْر
بَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وعِنْدي لَوْعَةٌ ... وَلكِنْ مِثْلي لاَ يُذَاعُ لَهُ سِرُّ
وفيها يقول :
وَإنَّا أُنَاسٌ لاَ تَوسُّطَ بَيْنَنَا ... لَنَا الصَّدْرُ دُون العَالَمينَ أو القَبْرُ
(1/6006)

نعود إلى بدر ، حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول الله بعض رجال الأنصار فقالوا : هؤلاء نكرات من الأنصار ، نريد أن تُخرِج لنا أَكْفَاءنا من رجال قريش ، فأخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخرجوا هم عتبة وشيبة والوليد ، وكان ما كان من نُصْرة المسلمين وهزيمة المشركين .
وهذا هو اليوم الذي قال الله فيه : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ آل عمران : 123 ] .
إذن : فبدر كانت فَصْلاً دنيوياً بين هذيْ الخصْمين ، ويبقى فَصْل الآخرة الذي قال فيه الإمام علي : " أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل " .
ومعنى : { اختصموا فِي رَبِّهِمْ . . } [ الحج : 19 ] أي : بسبب اختلافهم في ربهم ، ففريقٌ يؤمن بوجود إله ، وفريقٌ يُنكره ، فريق يُثبت له الصفات ، وفريق ينفي عنه هذه الصفات ، يعني : انقسموا بين إيمان وكفر .
ثم يُفصِّل القول : { فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } [ الحج : 19 ] .
{ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ . . } [ الحج : 19 ] كأن النار تفصيل على قَدْر جسومهم إحكاماً للعذاب ، ومبالغةً فيه ، فليس فيها اتساع يمكن أنْ يُقلِّل من شِدَّتها ، وليست فضفاضة عليهم .
ثم { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } [ الحج : 19 ] والحميم : الماء الذي بلغ منتهى الحرارة ، حتى صار هو نفسه مُحْرِقاً من شِدَّة حَرّه ، ولكَ أنْ تتصور ماءً يَغليه ربنا عز وجل!!
وهكذا يجمع الله عليهم ألوان العذاب؛ لأن الثياب يرتديها الإنسان لتستر عورته ، وتقيه الحر والبرد ، ففيها شمول لمنفعة الجسم ، يقول تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] .
فالإذاقة ليستْ في اللباس ، إنما بشيء آخر ، واللباس يعطي الإحاطة والشمول ، لتعم الإذاقة كُلَّ أطراف البدن ، وتحكم عليه مبالغةً في العذاب .
(1/6007)

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
قلنا : إن هذا الماء بلغ من الحرارة منتهاها ، فلم يغْلِ عند درجة الحرارة التي نعرفها ، إنما يُغلِيه ربه الذي لا يُطيق عذابَه أحدٌ . وأنت إذا صببتَ الماء المغلي على جسم إنسان فإنه يشوي جسمه من الخارج ، إنما لا يصل إلى داخله ، أمّا هذا الماء حين يُصَبُّ عليهم فإنه يصهر ما في بطونهم أولاً ، ثم جلودهم بعد ذلك ، فاللهم قِنَا عذابك يوم تبعث عبادك .
(1/6008)

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
المقامع : هي السياط التي تقمع بها الدابة ، وتَرْدعها لتطاوعك ، أو الإنسان حين تعاقبه ، لكنها سياط من حديد ، ففيها دلالة على الذِّلَّة والانكسار ، فضلاً عن العذاب .
ثم يُبيِّن الحق سبحانه مهمة هذه المقامع ، فيقول : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا . . } .
(1/6009)

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
الحق - سبحانه وتعالى - يُصوّر حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن اليأس في أن يُخفف عنهم ، فإذا ما حاولوا الخروج من غَمِّ العذاب جاءتهم هذه السياط فأعادتهم حيث كانوا ، والإنسان قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه الأمر ، كالمسجون مثلاً الذي يُضْرب بالسياط على ظهره ، فبعد عدة ضربات يفقد الإحساس ولا يؤثر فيه ضَرْب بعد ذلك .
وقد أجاد المتنبي في وصف هذا المعنى حين قال :
رَمَاني الدَّهْرُ بالأَرْزَاءِ حتّى ... كَأنِّي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فكنتُ إذا أَصَابتْني سِهَامٌ ... تكسَّرتْ النِّصَالُ علَى النِّصَال
لكن أنَّى يُخفَّف عن أهل النار ، والحق سبحانه وتعالى يقول : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب . . } [ النساء : 56 ] .
ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أنْ طمِعوا في النجاة ، وما أشدّ اليأس بعد الطمع على النفس؛ لذلك يقولون : لا أفجعَ من يأسٍ مقمع ، بعد أمل مُقْمِع . كما يقول تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ . . } [ الكهف : 29 ] ساعة يسمعون الإغاثة يأملون ويستبشرون ، فيأتيهم اليأس في { بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه . . } [ الكهف : 29 ] .
وقوله تعالى : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } [ الحج : 22 ] الحريق : الشيء الذي يحرق غيره لشدته .
وبعد أن تحدثتْ الآياتُ عن الكافرين ، وما حاق بهم من العذاب كان لا بُدَّ أنْ تتحدَّث عن المقابل ، عن المؤمنين ليُجري العقلُ مقارنةً بين هذا وذاك ، فيزداد المؤمن تشبُّثاً بالإيمان ونُفْرةً من الكفر ، وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كُفْره فيزهد فيه ويرجع إلى الإيمان ، وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي المقابلات وسائل النجاة والرحمة .
يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ . . } .
(1/6010)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
يُبيِّن الحق سبحانه وتعالى مَا أعدّه لعباده المؤمنين حيث السكن : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار . . } [ الحج : 23 ] والزينة : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً . . } [ الحج : 23 ] واللباس : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] فجمع لهم نعيم السَّكَن والزينة واللباس .
وفي الآخرة يُنعَّم الرجال بالحرير وبالذهب الذي حُرِّم عليهم في الدنيا ، وهنا قد يعترض النساء ، وما النعيم في شيء تنعّمنا به في الدنيا وهو الحرير والذهب؟
نعم تتمتعْن بالحرير والذهب في الدنيا ، أمّا في الآخرة فهو نوع آخر ومتعة كاملة لا يُنغِّصها شيء ، فالحلي للمرأة خالصٌ من المكدِّرات ، وباقٍ معها لا يأخذه أحد ، ولا تحتاج إلى تغييره أو بيعه؛ لأنه يتجدّد في يدها كل يوم ، فتراه على صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه . كما قلنا سابقاً في قوله تعالى عن أهل الجنة : { قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ . . } [ البقرة : 25 ] .
فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل ، فيُبيِّن لهم ربهم أنها ليستْ كفاكهة الدنيا { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً . . } [ البقرة : 25 ] يعني : أنواعاً مختلفة للصنف الواحد .
ثم يقول الحق : { وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول . . } .
(1/6011)

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
( هُدُوا ) هداهم الله ، فالذي دلّهم على وسائل دخول الجنة والتمتّع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك يهديهم الآن في الجنة ويدلّهم على كيفية شُكر المنعم على هذه النعمة ، هذا معنى : { وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول . . } [ الحج : 24 ] هذا القول الطيب لخَّصته آيات أخرى ، ومنها قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ . . } [ الزمر : 74 ] .
وقوله : { الحمد للَّهِ . . * الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ . . } [ فاطر : 34 - 35 ] .
وقوله : { الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن . . } [ فاطر : 34 ]
فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ ، ويباشرون النعيم المقيم لا يملكون إلا أنْ يقولوا : الحمد لله ، كما يقول الحق سبحانه عنهم : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] .
وقالوا : { الطيب مِنَ القول . . } [ الحج : 24 ] هو كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، فهذه الكلمة هي المعشوقة التي أتتْ بنا إلى الجنة ، والمعنى يسَع كل كلام طيب ، كما قال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء } [ إبراهيم : 24 ] .
ثم يقول تعالى : { وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد } [ الحج : 24 ] أي : هداهم الله إلى طريق الجنة ، أو إلى الجنة ذاتها ، كما قال في آية الكافرين : { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ . . } [ النساء : 168 - 169 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام . . } .
(1/6012)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
انتقلتْ بنا الآيات إلى موضوع جديد : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } [ الحج : 25 ] بصيغة الماضي ، لأن الكفر وقع منهم فعلاً { وَيَصُدُّونَ . . } [ الحج : 25 ] بصيغة المضارع ، والقياس أن نقول : كفروا وصَدُّوا ، لكن المسألة ليست قاعدة ولا هي عملية آلية؛ لأن الصدَّ عن سبيل الله ناشيء عن الكفر وما يزال صدُّهم مستمراً .
ومعنى { عَن سَبِيلِ الله . . } [ الحج : 25 ] أي : عن الجهاد { والمسجد الحرام . . } [ الحج : 25 ] لأنهم منعوا المسلمين من دخوله ، وكان في قبضتهم وتحت سيطرتهم ، وهذا ما حدث فعلاً في الحديبية حينما اشتاق صحابة رسول الله إلى أداء العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه ، فلما ذهبوا منعهم كفار مكة ، وصدُّوهم عن دخوله .
{ والمسجد الحرام . . } [ الحج : 25 ] كلمة حرام يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ تفعل فيه خطأ ، أو تهينه ، أو تعتدي فيه . وكلمة ( الحَرَام ) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان ، وهي خمسة أشياء : نقول : البيت الحرام وهو الكعبة ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، ثم المشعر الحرام . وهذه عبارة عن دوائر مركز الكعبة ، هذه أماكن ، ثم الخامس وهو زمن : الشهر الحرام الذي قال الله فيه : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ . . } [ الحج : 25 ]
وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه؛ لأنه رَبٌ رحيم بخَلْقه يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم ، والحدّ من غرورهم ، وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات التي كانت تُذْكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب ، حتى أن كِلاَ الفريقين يريد أنْ يُفني الآخر ، وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها ، لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والانسحاب .
لذلك جعل الله سبحانه لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمة لتكون ستاراً لهذا الكبرياء الزائف ، ولهذه العزة البغيضة . وكل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان ، فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم ، حتى إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام ، فأنقذ الضعيف من قبضة القوى دون أنْ يجرح كبرياءه ، وربما هَزّ رأسه قائلاً : لولا الشهر الحرام كنت فعلتُ بهم كذا وكذا .
فهذه - إذن - رحمة من الله بعباده ، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويَحْقِن دماءهم .
وما أشبه كبرياءَ العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجيْن تخاصما على مَضَض ، ويريد كل منهم أنْ يأتي صاحبه ، لكن يمنعه كبرياءه أن يتنازل ، فجلس الرجل في غرفته ، وأغلق الباب على نفسه ، فنظرتْ الزوجة ، فإذا به يرفع يديه يدعو الله أنْ تُصالحه زوجته ، فذهبتْ وتزيَّنَتْ له ، ثم دفعت الباب عليه وقالت - وكأن أحداً يُجبرها على الدخول - ( مُوديَّانِي فين يا أم هاشم )
وكذلك ، جعل في المكان محرماً؛ لأن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة أشهر : ثلاثة سرد وواحد فرد ، الفرد هو رجب ، والسرد هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
(1/6013)

فحرَّم أيضاً القتال في هذه الأماكن ليعصم دماء الخَلْق أنْ تُراقَ بسبب تناحر القبائل بالغِلِّ والحِقْد والكبرياء والغرور .
يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } [ البقرة : 191 ] .
فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم ، أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب ، فيدركون لذة السلام وأهمية الصلح ، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب ، فسُعَار الحرب يجُرُّ حرباً ، ولذة السلام وراحة الأمن والشعور بهدوء الحياة يَجُرُّ مَيْلاً للتصالح وفضّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية .
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب ، وكأنها دوائر مركزها بيت الله الحرام وهو الكعبة ، ثم المسجد الحرام حولها ، ثم البلد الحرام وهي مكة ، ثم المشعر الحرام الذي يأخذ جزءاً من الزمن فقط في أيام الحج .
أما الكعبة فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه ، الكعبة هي المكان ، أما هذا البناء فهو المكين ، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن فمكان البناء هو البيت ، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض أو صعدْتَ في طبقات السماء .
إذن : فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء ، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا ، وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟ إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة ، لا يواجهون الكعبة ذاتها ، لماذا؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله .
ثم يلي البيت المسجد ، وهو قطعة أرض حُكرت على المسجدية ، لكن هناك مسجد بالمكان حين تقيمه أنت ، وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الآن يسمى " مسجد " بالمكان ، أو مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع فهو في هذه الحالة مسجد ، قالوا : ولو امتد إلى صنعاء وتواصلتْ الصفوف فكلُّه مسجد .
نعود إلى " ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية ، فقد صدَّ الكفار المسلمين عن بيت الله الحرام وهم على مَرْمى البصر منه ، فاغتاظ المسلمون لذلك ، ورأى بعضهم أن يدخل مكة عُنْوة ورَغْماً عنهم .
لكن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سِرٌّ بينه وبين ربه عز وجل ، فنزل على شروطهم ، وعقد معهم صُلْحاً هو " صلح الحديبية " الذي أثار حفيظة الصحابة ، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ، فقال لرسول الله : يا رسول الله ، ألسنا على الحق؟ قال صلى الله عليه وسلم : " بلى " قال : أليسوا هم على باطل؟ قال : فلِمَ نُعْطِى الدنيّة في ديننا؟ " .
وكان من بنود هذا الصلح : إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا ذهب مسلم إليهم لا يردونه إلى المسلمين .
وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة - رضوان الله عليها - موقف عظيم في هذه الشدة ، ورَأْي سديد ردَّ آراء الرجال إلى الرُّشْد وإلى الصواب ، وهذا مما نفخر به للمرأة في الإسلام ، ونردّ به على المتشدِّقين بحقوق المرأة .
(1/6014)

فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فُسْطاطه مُغْضباً فقال لأم سلمة : " هلك المسلمون يا أم سلمة ، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا " يعني امرهم بالعودة دون أداء العمرة هذا العام .
فقالت السيدة أم المؤمنين : يا رسول الله ، إنهم مكروبون ، فقد مُنِعُوا عن بيت الله وهم على مَرْأىً منه ، لكن اذهب يا رسول الله إلى ما أمرك به ربك ، فافعل فإذا رأوْك فعلْتَهُ علموا أن الأمر عزيمة - يعني لا رجعةَ فيه - وفعلاً أخذ رسول الله بهذه النصيحة ، فذهب فحلق ، وذبح هدية وفعل الناس مثله ، وانتهت هذه المسألة .
لكن قبل أنْ يعودوا إلى المدينة شاءتْ إرادة الله أنْ يخبرهم بالحكمة في قبول رسول الله لشروط المشركين مع أنها شروط ظالمة مُجْحفة :
أولاً : في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته ، وأنه أصبح مساوياً لهم ، وهذا مكسب في حَدِّ ذاته .
ثانياً : اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات ، وهذه الفترة أعطتْ المسلمين فرصة كي يتفرغوا لاستقبال الوفود ونَشْر دين الله .
ثالثاً : كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يدخلهم مكة رَغْماً عن أهلها ، وكان في مقدوره أن يقتلهم جميعاً ، لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم ولا يعرفهم أحد؟ إنهم وسط هؤلاء الكفار ، وسينالهم ما ينال الكفار ، ولو تميَّز المؤمنون من الكفار أو خرجوا في جانب لأمكن تفاديهم .
اقرأ قوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ] .
ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام : { الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ . . } [ الحج : 25 ] أي : جميعاً { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد . . } [ الحج : 25 ] العاكف فيه يعني : المقيم ، والباد : القادم إليه من خارج مكة ، ومعنى { سَوَآءً . . } [ الحج : 25 ] يعني : هذان النوعان متساويان تماماً .
لذلك نقول للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة ، وفي بيوت الله عامة : أريحوا أنفسكم ، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق ، لا لمن وضع سجادته ، وشغل بها المكان .
وقد دَعَتْ هذه الآية : { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد . . } [ الحج : 25 ] البعض لأنْ يقول : لا يجوز تأجير البيوت في مكة ، فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب .
وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين ، وأرض مكة كانت للجميع حين كان المكان حُراً يبني فيه من أراد ، أمَّا بعد أن بنى بيتاً ، وسكنه أصبح مكيناً فيه ، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته .
(1/6015)

وقد دار حول هذه المسألة نقاش بين الحنظلي في مكة والإمام الشافعي ، حيث يرى الحنظلي أنه لا يجوز تأجير البيوت في مكة؛ لأنها حسب هذه الآية للجميع ، فردَّ عليه الشافعي رضي الله عنه : لو كان الأمر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين : { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ . . } [ الحشر : 8 ] .
فنسب الديار إليهم . ولَمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة : " وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟ " وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا ، فهذا دليل على ملكيتهم لها . لذلك رجع الحنظلي إلى رأي الشافعي .
هذا مع أن الآية تعني البيت فقط ، لا مكة كلها ، فما كان الخلاف ليصل إلى مكة كلها .
ثم يقول تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] الإلحاد قد يكون في الحق الأعلى ، وهو الإلحاد في الله عز وجل ، أما هنا فيُراد بالإلحاد : الميْل عن طريق الحقِّ ، وقوله : { بِظُلْمٍ . . } [ الحج : 25 ] الظلم في شيء لا يسمو إلى درجة الكفر ، والإلحاد بظلم إنْ حدث في بيت الله فهو أمر عظيم؛ لأنك في بيت ربك ( الكعبة ) .
وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية ، مجرد الإرادة هنا تُعَدُّ ذنباً؛ لأنك في مقام يجب أنْ تستشعر فيه الجلال والمهابة ، فكما أعطى الله لبيته مَيْزة في مضاعفة الحسنات ، كذلك عظَّم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته ، فتنبَّه لهذه المسألة .
حتى في أمثال أهل الريف يقولون : ( تيجي في بيت العالم وتسكر ) يعني : السُّكْر يُتصوَّر في بيت أحد العصاة ، في بيت فاسق ، في خمارة ، لكن في بيت عالم ، فهذا شيء كبير ، وجرأة عظيمة . لماذا؟
فللمكان حُرْمة بحُرمة صاحبة ، فإذا كان للمكان حُرْمة بحُرْمة صاحبه ، والبيت منسوب إلى الله ، فأنت تعصي ربك في عُقْر داره ، وأيْ جرأة أعظم من الجرأة على الله؟
وهذه خاصية للمسجد الحرام ، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله ، لكن هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله ، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل بيتُ الله باختيار الله ( البيت الحرام ) هو القِبْلة التي تتجه إليها كل بيوت الله في الأرض .
فما عاقبة الإلحاد في بيت الله؟ { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائماً وأبداً ، والإذاقة أشد الإدراكات تأثيراً ، وذلك هو العذاب المهين ، والذوق هو الإحساس بالمطعوم شراباً كان أو طعاماً ، إلا أنه تعدى كل مُحسٍّ به ، ولو لم يكن مطعوماً أو مشروباً ، ويقول ربنا عز وجل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
أي : ذق الإهانة والمذلة ، لا مما يُطعم أو مما يُشرب ، ولكن بالإحساس ، فالإذاقة تتعدى إلى كل البدن ، فالأنامل تذوق ، والرِّجْل تذوق ، والصدر يذوق ، والرقبة تذوق . وهذا اللون من إذاقة الذل والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب الله .
وعذاب الآخرة سيكون مهولاً ، والعذاب هو إيلام الحس . إذا أحببت أن تديم ألمه ، فأبْقِ فيه آلة الإحساس بالألم .
(1/6016)

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام ، فمن المناسب أنْ يتكلم عن تاريخه وبنائه ، فقال سبحانه : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] معنى بَوَّأه : أي : جعله مَبَاءةً يعني : يذهب لعمله ومصالحه ، ثم يبوء إليه ويعود ، كالبيت للإنسان يرجع إليه ، ومنه قوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله . . } [ البقرة : 61 ] .
وإذ : ظرف زمان لحدث يأتي بعده الإخبار بهذا الحدث ، والمعنى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لإبراهيم كذا وكذا . وهكذا في كل آيات القرآن تأتي ( إذ ) في خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحدث وقع في ذلك الظرف .
لكن ، ما علاقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت؟ قالوا : لأن المكان المتبوّأ بقعة من الأرض يختارها الإنسان؛ ليرجع إليها من متاعب حياته ، ولا يختار الإنسان مثل هذا المكان إلا توفرتْ فيه كل مُقوِّمات الحياة .
لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلام : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ . . } [ يوسف : 56 ]
وقال في شأن بني إسرائيل : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ . . } [ يونس : 93 ] فمعنى : { بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت . . } [ الحج : 26 ] أي : جعلناه مبَاءة له ، يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ أعلمنَاهُ ، ودَلَلْناه على مكانه .
وقلنا : إن المكان غير المكين ، المكان هو البقعة التي يقع فيه ويحلُّ بها المكين ، فأرض هذا المسجد مكان ، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى " مكين في هذا المكان " . وعلى هذا فقد دَلَّ الله إبراهيم عليه السلام على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه .
وقد كان للعلماء كلام طويل حول هذه المسألة : فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام هو أول مَنْ بنى البيت . ونقول لأصحاب هذا الرأي : الحق - تبارك وتعالى - بوَّأ لإبراهيم مكان البيت ، يعني : بيَّنه له؛ كأن البيت كان موجوداً ، بدليل أن الله تعالى يقول في القصة على لسان إبراهيم : { إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم . . } [ إبراهيم : 37 ] .
وفي قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ . . } [ البقرة : 127 ]
ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما شَبَّ ، وأصبح لديه القدرة على معاونة أبيه ، أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعاً ، وقوله تعالى : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم . . } [ إبراهيم : 37 ] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت ، إذن : هذا دليل على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم .
وقد أوضح الحق - سبحانه وتعالى - هذه المسألة في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }
(1/6017)

[ آل عمران : 96 ] .
وحتى نتفق على فَهْم الآية نسأل : مَنْ هُم الناس؟ الناس هم آدم وذريته إلى أن تقوم الساعة ، إذن : فآدم من الناس ، فلماذا لا يشمله عموم الآية ، فالبيت وُضِع للناس ، وآدم من الناس ، فلا بُدَّ أن يكون وَُضِع لآدم أيضاً .
إذن : يمكنك القول بأن البيت وَُضِع حتى قبل آدم؛ لذلك نُصدِّق بالرأي الذي يقول : إن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً ، ثم طمسَ الطوفانُ معالم البيت ، فدلَّ الله إبراهيم بوحي منه على مكان البيت ، وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي .
ويُقال : إن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دَلَّتْه على المكان ، ونطقتْ : يا إبراهيم خُذْ على قدري ، أي : البناء .
ولو تدبرتَ معنى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت . . } [ البقرة : 127 ] الرَّفْع يعني : الارتفاع ، وهو البعد الثالث ، فكأن القواعد كان لها طُول وعَرْض موجود فعلاً ، وعلى إبراهيم أنْ يرفعها .
لكن لماذا بوَّأ الله لإبراهيم مكان البيت؟
لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة . . } [ إبراهيم : 37 ] كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة ، الصلاة للإله الحقِ والربِّ الصِّدْق؛ لذلك أمره أولاً : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] والمراد : طَهِّر هذا المكان من كل ما يُشعِر بالشرك ، فهذه هي البداية الصحيحة لإقامة بيت الله .
وهل كان يُعقل أنْ يدخل إبراهيم - عليه السلام - في الشرك؟ بالطبع لا ، وما أبعدَ إبراهيمَ عن الشرك ، لكن حين يُرسِل الله رسولاً ، فإنه أول مَنْ يتلقَّى عن الله الأوامر ليُبلِّغ أمته ، فهو أول مَنْ يتلقى ، وأول مَنْ يُنفذ ليكون قدوةً لقومه فيُصدِّقوه ويثقوا به؛ لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنَجْوة عنه .
ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { ياأيها النبي اتق الله . . } [ الأحزاب : 1 ] وهل خرج محمد صلى الله عليه وسلم عن تقوى الله؟ إنما الأمر للأمة في شخص رسولها ، حتى يسهُلَ علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه ، ولا نرى غضاضةً في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله؛ لأنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول له : يا فلان اتق الله ، وربما اعتبرها إهانة واتهاماً ، وظن أنها لا تُقال إلا لمَنْ بدر منه ما يخالف التقوى .
وهذا فَهْم خاطئ للأمر بالتقوى ، فحين أقول لك : اتق الله . لا يعني أنني أنفي عنك التقوى ، إنما أُذكِّرك أنْ تبدأ حركة حياتك بتقوى الله .
إذن : قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً . . } [ الحج : 26 ] لا تعني تصوُّر حدوث الشرك من إبراهيم ، وقال { شَيْئاً . . } [ الحج : 26 ] ليشمل النهيُ كُلَّ ألوان الشرك ، أياً كانت صورته : شجر ، أو حجر ، أو وثن ، أو نجوم ، أو كواكب .
ويؤكد هذا المعنى بقوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ . . } [ الحج : 26 ] والتطهير يعني : الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك ، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريكَ له ، وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان ، فقد يكون به شيء من القاذورات مثلاً .
ومعنى { لِلطَّآئِفِينَ . . } [ الحج : 26 ] الذين يطوفون بالبيت : { والقآئمين . . } [ الحج : 26 ] المقيمين المعتكفين فيه للعبادة { والركع السجود } [ الحج : 26 ] الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لأداء الصلاة ، عبَّر عن الصلاة بالركوع والسجود؛ لأنهما أظهر أعمال الصلاة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً . . }
.
(1/6018)

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
أمر الله نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذِّن في الناس بالحج ، لماذا؟ لأن البيت بيت الله ، والخَلْق جميعاً خَلْق الله ، فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به ، أو يعيش إلى جواره؟
فأراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً ، فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم ، وإنْ كانت المساجد كلها بيوت الله ، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله؛ لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق .
إن من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم ، ثم يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات ، ويرى في ذلك شرفاً ورِفْعة ، فما بالك ببيت الله ، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدِّر لهم المرور به؟
ومعنى { أَذِّن . . } [ الحج : 27 ] الأذان : العلم ، وأول وسائل العلم السماع بالأذن ، ومن الأذن أُخذ الأذان . أي : الإعلام . ومن هذه المادة قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ . . } [ إبراهيم : 7 ] أي : أعلم؛ لأن الأذن وسيلة السماع الأولى ، والخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به؛ لذلك قبل أنْ تتكلَّم لا بُدَّ أنْ تسمع .
وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته ، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟ فناداه ربه : " يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ " .
مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان ، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس ، في كل الزمان ، وفي كل المكان ، سيسمعه البشر جميعاً ، وهم في عالم الذَّرِّ وفي أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى . . } [ الأنفال : 17 ] .
يعني : أَدِّ ما عليك ، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك . فأذَّنَ إبراهيم في الناس بالحج ، ووصل النداء إلى البشر جميعاً ، وإلى أن تقوم الساعة ، فَمنْ أجاب ولَبَّى : لبيك اللهم لبيك كُتِبَتْ له حجة ، ومَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن وهكذا ، لأن معنى لبيك : إجابةً لك بعد إجابة .
فإنْ قُلْتَ : إن مطالب الله وأوامره كثيرة ، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول : أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصوم ، ثم الحج ، لو نظرتَ إلى هذه الأركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعاً له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته ، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج ، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة ، لماذا؟
قالوا : لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال : أَذِّن - يأتوكَ ، هكذا رَغْماً عنهم ، ودون اختيارهم ، أَلاَ ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة ، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم .
(1/6019)

وهذا معنى قوله تعالى : { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ . . } [ إبراهيم : 37 ] ومعنى تهوي : تأتي دون اختيار من الْهُويِّ أي : السقوط ، وهو أمر لا يملكه الإنسان ، كالذي يسقط من مكان عالٍ ، فليس له اختيار في ألاَّ يسقط .
وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله ، وتتحرَّق شَوْقاً إليه ، وكأن شيئاً يجذبها لأداء هذه الفريضة؛ لأن الله تعالى أمر بهذه الفريضة ، وحكم فيها بقوله { يَأْتُوكَ . . } [ الحج : 27 ] أما في الأمور الأخرى فقد أمر بها وتركها لاختيار المكلف ، يطيع أو يعصي ، إذن : هذه المسألة قضية صادقة بنصِّ القرآن .
وبعض أهل الفَهْم يقولون : إن الأمر في : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج . . } [ الحج : 27 ] ليس لإبراهيم ، وإنما لمحمد صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه القرآن ، وخاطبه بهذه الآية ، فالمعنى { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت . . } [ الحج : 26 ] يعني : اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، اذكر هذه القضية { وَأَذِّن فِي الناس بالحج . . } [ الحج : 27 ] فكأن الأمر هنا لمحمد صلى الله عليه وسلم .
لذلك لا نشاهد هذا النسك في الأمم الأخرى كاليهود والنصارى ، فهم لا يحجون ولا يذهبون إلى بيت الله أبداً ، وقد ثبت أن موسى - عليه السلام - حج بيت الله ، لكن لم يثبت أن عيسى عليه السلام حَجَّ ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " " يُوشك أنْ ينزل ابن مريم ، ويأتي حاجاً ، ويزور قبري ، ويُدفن هناك " .
فقال رسول الله : " ويأتي حاجاً " لأنه لم يمت ، وسوف يدرك عهد التكليف من رسول الله حين ينزل من السماء ، وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى الله على جميع أنبياء الله ورُسُله .
ومن المسائل التي نحتجُّ بها عليهم قولهم : إن الذبيح إسحق ، فلو أن الذبيح إسحق كما يدَّعون لكانت مناسك الذبح والفداء ورَمْي الجمار عندكم في الشام ، أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة ، حيث كان إسماعيل .
ثم تذكَّروا جيداً ما قاله كتابكم المقدس في الأصحاح 23 ، 24 من أن الحق - سبحانه وتعالى - أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران ، ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه ، فالوحيد إسماعيل لا إسحق؛ لأن الله فدى إسماعيل ، ثم بشَّر إبراهيم بإسحق .
ومن حكمة الله - عز وجل - أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذاً للحق ، وثغرات نصل منها إلى الحقيقة؛ لذلك يقول رجال القضاء : ليست هناك جريمة كاملة أبداً ، لا بُدَّ أنْ يترك المجرم قرينة تدلُّ عليه مهما احتاط لجريمته ، كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملابسه ، أو ورقة صغيرة بها رقم تليفون . . إلخ ، لذلك نقول : الجريمة لا تفيد؛ لأن المجرم سيقع لا محالة في يد مَنْ يقتصُّ منه .
(1/6020)

ولرجال القضاء ووكلاء النيابة مقدرة كبيرة على استخلاص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم ، فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلامه ثغرةً أو تضارباً يصل منه إلى الحقيقة .
ذلك لأن للصدق وجهاً واحداً لا يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد ، أمّا الكذب فله أكثر من وجه ، والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييراً وتضارباً في كلامه؛ لذلك العرب يقولون : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً . يعني : تذكَّر ما قُلْته أولاً ، حتى لا تُغيِّره بعد ذلك .
ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه قَوْلُ أحدهم للآخر : هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة العيد الصغير ، وكان القمر ظهراً!! فقال : كيف ، يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر؟
وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل ، ولا بُدَّ أنْ يستخدم ذكاءه لاستجلاء وجه الحق ، كالقاضي الذي احتكم إليه رجلان يتهم أحدهما الآخر بأنه أخذ ماله أمانة ، ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا وكذا ، فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه ، وتوجَّه إلى صاحب الأمانة ، وقال له : اذهب إلى المكان ، وابحثْ لعلَّك تكون قد نسيتَه هنا أو هناك .
أو لعلّ آخر أخذه منك ، فذهب صاحب المال ، وفجأة سأل القاضي المتهم : لماذا تأخر فلان طوالَ هذا الوقت؟ فردَّ المتهم : لأن المكان بعيدٌ يا سيادة القاضي . فخانتْه ذاكرته ، ونطق بالحق دون أن يشعر .
ثم يقول تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً . . } [ الحج : 27 ] ورجالاً هنا ليست جَمْعاً لرجل ، إنما جمع لراجل ، وهو الذي يسير على رِجْلَيْه { وعلى كُلِّ ضَامِرٍ . . } [ الحج : 27 ] الضامر : الفَرَس أو البعير المهزول من طول السفر .
وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي { يَأْتُوكَ . . } [ الحج : 27 ] فالجميع حريص على اداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشياً .
وقوله : { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] أي : من كل طريق واسع { عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] يعني : بعيد .
ثم يقول الحق سبحانه : { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ . . } .
(1/6021)

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
كلمة { مَنَافِعَ . . } كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع : مادية دنيوية ، أو دينية أُخروية ، ولا ينبغي أنْ نُضيِّق ما وسَّعه الله ، فكُلُّ ما يتصل بالحج من حركات الحياة يُعَد من المنافع ، فاستعدادك للحج ، وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لأهلك ما يكفيهم حتى تعود .
ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج ، كلها منافع متبادلة بين الناس ، التاجر الذي يبيع لك ، وصاحب البيت الذي يُؤجِّره لك ، وصاحب السيارة التي تنقلك .
إذن : المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة ، متداخلة مع المنافع الدينية الأخروية ، فحين تشتري الهَدْي مثلاً تؤدي نُسُكاً وتنفع التاجر الذي باع لك ، والمربِّي الذي ربَّى هذا الهَدْي ، والجزار الذي ذبحه ، والفقير الذي أكل منه .
إذن : لا يتم الحج إلا بحركة حياة واسعة ، فيها نَفْع لك وللناس من حيث لا تدري ، ولك أنْ تنظرَ في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لأهليهم وذويهم ، خاصة المصريين منهم ، فترى بعضهم ينشغل بجَمْع هذه الأشياء قبل أنْ يُؤدِّي نُسُكه ويقضي معظم وقته في الأسواق ، وكأنه لن يكون حاجاً إلا إذا عاد مُحمّلاً بهذه الهدايا .
لذلك يأتي إلينا بعض هؤلاء يسألون : أنا عليَّ دَم مُتْعة وليس معي نقود ، فماذا أفعل؟ يريد أن يصوم . صحيح : كيف سيُؤدي ما عليه وقد أنفق كُلَّ ما معه؟ فكنت أقول له : اعْطِني حقيبة سفرك ، وسأبيع ما بها ، ولن أُبقي لك إلا ما يكفيك من نفقات حتى تعود .
أليست هذه كلها من المنافع؟
ومن منافع الحج ان الحاجَّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة ويُعِد نفسه لها إعداداً مادياً ، وإعداداً نفسياً معنوياً ، فيحاول أنْ يُعيد حساباته من جديد ، ويُصلح من نفسه ما كان فاسداً ، وينتهي عَمَّا كان يقع فيه من معصية الله ، ويُصلِح ما بينه وبين الناس ، إذن : يجري عملية صَقْل خاصة تُحوِّله إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم ، ويكون أهْلاً لرؤية بيت الله والطواف به .
ومن الإعداد للحج أنْ يتعلّم الحاجُّ ما له وما عليه ، ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما يحرُم عليه ، وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملابسه التي يزهو بها ، ومكانته التي يفتخر بها بين الناس ، وكيف أن الإحرام يُسوِّي بين الجميع .
يتعلم كيف يتأدب مع نفسه ، ومع كل أجناس الكون من حوله ، مع نفسه فلا يُفكّر في معصية ، ولا تمتدّ يده حتى على شعره من شعره ، أو ظُفْر من أظافره ولا يقْربُ طيباً ، ولا حتى صابونة لها رائحة .
والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الإحرام يحرص كل الحرص على هذه الأحكام ، وأتحدى أيَّ إنسان ينوي الحج ويأخذ في الإحرام به ، ثم يفكر في معصية؛ لأنه يُعِدُّ نفسه لمرحلة جديدة يتطهر فيها من الذنوب ، فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلاد بعيدة ليتطهر منها؟
وفي الحجِّ يتأدب الحاج مع الحيوان ، فلا يصيده ولا يقتله ، ومع النبات فلا يقطع شجراً .
(1/6022)

يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره أَدْنى أجناس الكون ، فيحرص على تقبيل الحجر الأسود ، ويجتهد في الوصول إليه ، فإنْ لم يستطع أشار إليه بيده .
إن الحج التزام وانضباط يفوق أيَّ انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم ، ففي الحج ترى هذا الإنسان السيد الأعلى لكل المخلوقات كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته ، وكم هي طمأنينة النفس البشرية حين تُقبِّل حجراً وهي راضية خاضعة ، بل ويحزن الإنسان إذ لم يتمكن من تقبيل الحجر .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ . . } [ الحج : 28 ] يذكروا اسم الله؛ لأن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر الله وتلبيته ، فَمَا من عمل يُؤدِّيه الحاجّ إلا ويقول : لبيك اللهم لبيك . وتظل التلبية شاغله ودَيْدنه إلى أنْ يرمي جمرة العقبة ، ومعنى " لبيك اللهم لبيك " أن مشاغل الدنيا تطلبني ، وأنت طلبتني لأداء فَرْضِك عليَّ ، فأنا أُلبِّيك أنت أولاً؛ لأنك خالقي وخالق كل ما يشغلني ويأخذني منك .
والأيام المعلومات هي : أيام التشريق .
ومعنى : { على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ . . } [ الحج : 28 ] أي : يشكرون الله على هذا الرزق الوقتي الذي يأكلون منه ويشربون ، ويبيعون ويشترون في أوقات الحج . أو يشكرون الله على أنْ خلقَ لهم هذه الأنعام ، وإنْ لم يحجُّوا ، ففي خَلْق الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم والماعز - وتسخيرها للإنسان حكمة بالغة ، ففضلاً عن الانتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا الله واشكروه أنْ سخَّرها لكم ، فلولا تسخير الله لها لَمَا استطعتُم أنْ تنتفعوا بها ، فالجمل مثلاً هذا الحيوان الضخم يقوده الطفل الصغير ، وينُيخه ويحمله في حين لم يستطع الإنسان تسخير الثعبان مثلاً أو الذئب .
لذلك يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ . . } [ يس : 71 - 72 ] .
لذلك نذكر الله ونشكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام استمتاعاً بها أَكْلاً ، أو استمتاعاً بها بَيْعاً أو زينة ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [ النحل : 6 ] .
ولولا أن الله تعالى ذَلَّلها لِخدمتك ما استطعْتَ أنت تذليلها والانتفاع بها؛ لذلك من حكمة الله أنْ يترك بعض خَلْقه غير مُسْتأنس ، ولا يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تُذلّله لتظل على ذِكْر لهذه النعمة؛ وتشكر الله عليها .
وسبق أن ضربنا مثلاً بالبرغوث ، وهو أَدْنى هذه المخلوقات ، ولا تكاد تراه ، ومع ذلك لا تقدر عليه ، وربما أقضَّ مَضْجعك ، وأقلق نومك طوال الليل . وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده الصبي الصغير ، إذا حرن منك فلا تستطيع أن تجعله يسير رغماً عنه ، أو صَالَ فلا يقدر عليه أحد ، وقد يقتل صاحبه ويبطش بمَنْ حوله .
(1/6023)

إذن : لا قدرة لك عليه بذاتك ، إنما بتذليل الله يمكن الانتفاع به ، فتسوقه إلى نَحْره ، فيقف ساكناً مُسْتسلماً لك .
والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها الله لنا يجد امرها عجيباً ، فالحيوان الذي أحلَّه الله لك تظل تنتفع به طوال عمره ، فإذا ما تعرّض لما يُزهِق روحه ، ماذا يفعل؟ يرفع رأسه إلى أعلى ، ويعطيك مكان ذَبْحه ، وكأنه يقول لك : أنا في اللحظات الأخيرة فاجتهد في أنْ تنتفع بلحمي ، وأهل الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون : طلب الحلال يعني الذبح . أما الحيوان الذي لا يُذبح ولا يُحله الله فيموت مُنكَّس الرأس؛ لأنه لا فائدة منه .
هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم . . الخ لو فكرتَ فيه لَتغيَّر رأيّك ، فالحمار الذي نتخذه رَمْزاً للغباء وعدم الفَهْم تسوقه أمامك وتُحمِّله القاذورات وتضربه فلا يعترض عليك ولا يخالفك ، فإنْ نظفْته وزيَّنْتَه بلجام فضة ، وبردعة قطيفة تتخذه رُكُوبة وزينة ويسير بك ويحملُك ، وأنت على ظهره ، فإنْ غضبتَ عليه واستخدمْته في الأحمال وفي القاذورات تحمَّل راضياً مطيعاً . .
وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثالاً للغباء ، إذا أردتَ منه ان يقفز قناة أوسع من مقدرته وإمكانياته ، فإنه يتراجع ، ومهما ضربتَه وقسْوتَ عليه لا يُقدِم عليها أبداً؛ لأنه يعلم مدى قفزته ، ويعلم مقدرته ، ولا يُقدِم على شيء فوق ما يطيق - وبعد ذلك نقول عنه : حمار!!
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير . . } [ الحج : 28 ] .
البائس : هو الذي يبدو على مِحْنته وشكله وزِيِّه أنه فقير محتاج ، أما الفقير فهو محتاج الباطن ، وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى ، وهؤلاء الفقراء لا يلتفت الناس إليهم ، وربما لا يعلمون حالهم وحاجتهم ، وقد قال الله فيهم : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً . . } [ البقرة : 273 ] .
والمعنى : كُلُوا مما يُبَاح لكم الأكل منه ، وهي الصدقة المحضة ، أو الهدية للبيت غير المشروطة بشيء ، يعني : لا هي دم قِرَان أو تمتُّع ، ولا هي فدية لمخالفة أمر من أمور الإحرام ، أو كانت نذراً فهذه كلها لا يؤكَل منها .
إذن : كلوا من الصدقة والتطوع ، وأطعموا كذلك البائس والفقير ، ومن رحمة الله بالفقراء أنْ جعل الأغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحمَّلون مشقة هذا كله ، ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحاً ، يأتيه رِزْقه من فَضْل الله سهلاً وميسّراً .
لذلك يقولون : من شرف الفقير أنْ جعله الله ركناً من أركان إسلام الغنيّ ، أي : في فريضة الزكاة ، ولم يجعل الغني ركناً من أركان إسلام الفقير .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ . . }
.
(1/6024)

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ لْيَقْضُواْ . . } [ الحج : 29 ] كلمة قضاء تُقال ، إما لقضاء الله الذي يقضيه على الإنسان مثلاً ، وهو أمر لازم محكوم به ، وإما قضاء من إنسان بين متخاصمين ، وأول شيء في مهمة القضاء أن يقطع الخصومة ، كأن المعنى { لْيَقْضُواْ . . } [ الحج : 29 ] أي : يقطعوا .
ومعنى { تَفَثَهُمْ . . } [ الحج : 29 ] لما نزل القرآن بهذه الكلمة لم تكن مستعملة في لسان قريش ، ولم تكن دائرة على ألسنتهم ، فسألوا عنها أهل البادية ، فقالوا : التفَثُ يعني : الأدران والأوساخ التي تعلَقُ بالجسم ، فقالوا : والله لم نعرفها إلا ساعةَ نزل القرآن بها .
فالمراد - إذن - ليقطعوا تفثهم أي الأدران التي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الإحرام ، حيث يمكث الحاجُّ أيام الحج مُحْرِماً لا يتطيب ، ولا يأخذ شيئاً من شعره أو أظافره ، فإذا ما أنهى أعمال الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث ، ويزيل هذه الأدران بالتحلُّل من الإحرام ، وفِعْل ما كان محظوراً عليه .
وقوله تعالى : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ . . } [ الحج : 29 ] يعني : طواف الإفاضة ، والطواف : أنْ تدور حول شيء بحيث تبدأ وتنتهي ، وتبدأ وتنتهي ، وهكذا ، وقد وصف البيت بأنه عتيق ، وكلمة عتيق استعملت في اللغة استعمالات واسعة ، منها : القديم ، وما دام هو أول بيت وُضِع للناس فهو إذن قديم ، والقِدَم هنا صفة مدح؛ لأنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به .
كما نرى عند بعض الناس أشياء ثمينة ونادرة يحتفظون بها ويتوارثونها يسمونها " العاديات " مثل : التحف وغيرها ، وكلما مَرَّ عليها الزمن زادتْ قميتها ، وغلا ثمنها .
والعتيق : الشيء الجميل الحسن ، والعتيق : المعتوق من السيطرة والعبودية لغيره ، فما المراد بوصف البيت هنا بأنه عتيق؟
وَصْف البيت بالقِدَم يشمل كُلَّ هذه المعاني : فهو قديم؛ لأنه أول بيت وُضِع للناس ، وهو غالٍ ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا لا نراه في غيره من آيات ، ويكفي أن رؤيته والطواف به تغفر الذنوب ، وهو بيت الله الذي لا مثيلَ له .
وهو كذلك عتيق بمعنى معتوق من سيطرة الغير؛ لأن الله حفظه من اعتداء الجبابرة ، ألاَ ترى قصة الفيل ، وما فعله الله بأبرهة حين أراد هَدْمه؟ حتى الفيل الذي كان يتقدَّم هذا الجيش أدرك أن هذا اعتداءٌ على بيت الله ، فتراجع عن البيت ، وأخذ يتوجَّه أي وجهة أرادوا إلا ناحية الكعبة .
ويُقال : إن رجلاً تقدّم إلى الفيل . وقال في أذنه : ابْرُك محمود - اسم الفيل - وارجع راشداً فإنك ببلد الله الحرام . وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف ، فقال :
حُبِسَ الفيل بالمُغَمَّسِ حَتَّى ... ظَلَّ يعوي كأنه مَعْقُور
ثم ينزل الله عليهم الطير الأبابيل التي ترميهم بالحجارة حتى الموت .
لذلك لما ذهب عبد المطلب جَدُّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليُكلِّم أبرهة في الإبل المائة التي أخذها من إبله ، قال أبرهة : لقد كنتُ أهابك حين رأيتُك ، لكنك سقطت من نظري لما كلَّمتني في مائة بعير أصبْتها لك ، وتركتَ البيت الذي فيه مجدُكم وعزكم .
(1/6025)

فماذا قال عبد المطلب؟ قال : أما الإبل فإنها لي ، أما البيت فله رَبٌّ يحميه .
البعض يتهم عبد المطلب لمقالته هذه بالسلبية ، وليست هذه سلبية من كبير قريش ، إنما ثقةً منه في حماية الله لبيته؛ لذلك رَدَّه إلى أقوى منه ، وكأنه قال : إنْ كنتُ أحميه أنا ، فسأحميه بقوتي وقدرتي وحيلتي ، لكنني أريد أنْ أرعبه بقدرة الله وقوته ، وما سلَّمتُ البيت إلاَّ وأنا واثق أن ربَّ البيت سيحميه ، وهذه تُزلزل العدو وتُربكه .
وما أشبه موقف عبد المطلب بموقف موسى عليه السلام ، لما قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فقال في يقين وثقة : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
إذن : لم يكُنْ عبد المطلب سلبياً كما يتهمه البعض ، بل كان إيجابياً من النوع الراقي ، فلو كان إيجابياً بالمعنى الذي تريدون لأعطتْه هذه الإيجابية منعةً بقوته هو ، إنما تصرُّفه وما تعتبرونه سلبية أعطاه منعةً بقدرة الله وقُوَّته سبحانه؛ لذلك تدخَّلتْ فوراً جنود السماء .
لكن لماذا الطواف والدوران حول الكعبة؟
قالوا : لأن المسلم وهو غائب عن الكعبة يُصلِّي لجهتها ، كلّ حسب موقعه منها ، فتجد المسلمين في كل أنحاء العالم يتجهون نحوها ، كل من ناحية ، هذا من الشمال ، وهذا من الجنوب ، وهذا من الشرق ، وهذا من الغرب ، يعني بكل الجهات الأصلية والفرعية .
فإذا ما ذهبتَ إلى الكعبة ذاتها ، وتشرفتَ برؤيتها ، فهل تستقبلها من نفس المكان الذي كنتَ تتجه إليه في صلاتك وغيرك وغيرك؟ إذن : فكل اتجاهات الكعبة سواء لك ولغيرك ، كما قال تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله . . } [ البقرة : 115 ] فليس هناك مكان أَوْلَى من مكان؛ لذلك نطوف حول البيت .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام . . }
.
(1/6026)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ ذلك . . } إشارة إلى الكلام السابق بأنه أمْر واضح ، لكن استمع إلى أمر جديد سيأتي ، فهنا استئناف كلام على كلام سابق ، فبعد الكلام عن البيت وما يتعلَّق به من مناسك الحج يستأنف السياق : { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ . . } [ الحج : 30 ] فالحق - سبحانه - يريد لعبده أنْ يلتزمَ أوامره بفعل الأمر واجتناب النهي ، فكُلُّ أمر لله يَحرُم عليك أن تتركه ، وكلّ نَهْي يحرم عليك أنْ تأتيه ، فهذه هي حرمات الله التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة الأمر واجتناب النهي .
وحين تُعظِّم هذه الحرمات لا تُعظمها لذاتها ، فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته ، إنما تُعظِّمها لأنها حرمات الله وأومره؛ لذلك قد يجعل الالتزام بها مُتغيّراً ، وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضاً في الظاهر .
فالوضوء مثلاً ، البعض يرى فيه نظافة للبدن ، فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده حَلَّ محلّه التيمُم بالتراب الطاهر الذي نُغبِّر به أعضاء التيمم ، إذن : ليس في الأمر نظافة ، إنما هو الالتزام والانقياد واستحضار أنك مُقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطَّهر له بالوضوء ، فإنْ أمرتُكَ بالتيمم فعليك الالتزام دون البحث في أسباب الأمر وعِلّته .
وهكذا يكون الأدب مع الأوامر وتعظيمها؛ لأنها من الله ، ولِمَ لا ونحن نرى مثل هذا الالتزام أو رياضة التأديب في الالتزام في تعاملاتنا الطبيعية الحياتية ، فمثلاً الجندي حين يُجنَّد يتعلم أول ما يتعلم الانضباط قبل أنْ يُمسِك سلاحاً أوْ يتدرب عليه ، يتعلم أن كلمة " ثابت " معناها عدم الحركة مهما كانت الظروف فلو لَدغه عقرب لا يتحرك .
ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول : ثابت فينفذ الجميع . . الملعقة التي في الطبق تظل في الطبق ، والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه ، فلا ترى في الصالة الواسعة حركة واحدة . وهذا الانضباط الحركي السلوكي مقدمة للانضباط في الأمور العسكرية الهامة والخطيرة بعد ذلك .
إذن : فربُّك - عز وجل - أَوْلَى بهذا الانضباط؛ لأن العبادة ما هي إلا انضباط عابد لأوامر معبود وطاعة مطلقة لا تقبل المناقشة؛ لأنك لا تؤديها لذاتها وإنما انقياداً لأمر الله ، ففي الطواف تُقبِّل الحجر الأسود ، وفي رمي الجمار ترمي حجراً ، وهذا حجر وذاك حجر ، هذا ندوسه وهذا نُقبِّله فَحَجر يُقَبَّل وحَجر يُقَنْبل؛ لأن المسألة مسألة طاعة والتزام ، هذا كله من تعظيم حرمات الله .
لذلك الإمام علي - رضي الله عنه - يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم : لو أن الأمر كما نرى لكان مسح باطن القدم أَوْلَى من ظاهرها؛ لأن الأوساخ تعلق بباطن القدم أولاً .
وقد ذكرنا في الآيات السابقة أن الحرمات خمس : البيت الحرام ، والمسجد الحرام ، والبلد الحرام ، والمشعر الحرام ، والشهر الحرام ، وحرمات الله هي الأشياء المحرمة التي يجب الاَّ تفعلها .
(1/6027)

ثم يُبيَّن الحق سبحانه جزاء هذا الالتزام : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ . . } [ الحج : 30 ] الخيرية هنا ليست في ظاهر الأمر وعند الناس أو في ذاته ، إنما الخيرية للعبد عند الله .
ثم يقول سبحانه : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ . . } [ الحج : 30 ] قد تقول : كيف وهي حلال من البداية وفي الأصل ، قالوا : لأنه لما حرَّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائماً فلا ينتفعون بها ، فبيَّن سبحانه أنها حلال إلا ما ذُكر تحريمه ، ونصَّ القرآن عليه في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام . . } [ المائدة : 3 ] .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ . . } [ الأنعام : 121 ] .
ومعنى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان . . } [ الحج : 30 ] الرجْس : النجاسة الغليظة المتغلغلة في ذات الشيء . يعني : ليست سطحية فيه يمكن إزالتها ، وإنما هي في نفس الشيء لا يمكن أنْ تفصلها عنه .
{ واجتنبوا . . } [ الحج : 30 ] لا تدل على الامتناع فقط ، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية؛ لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لا بُدَّ أن تداعبك وتشغل خاطرك ، ومَنْ حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه ، لذلك لم يقُل الحق - سبحانه وتعالى - امتنعوا إنما قال : اجتنبوا ، ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون : إن الأمر في اجتنبوا لا يعني تحريم الخمر ، فلم يَقُلْ : حُرِّمَتْ عليكم الخمر .
نقول : اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُرِّمَتْ عليكم ، لو قال الحق - تبارك وتعالى - حُرّمت عليكم الخمر ، فهذا يعني أنك لا تشربها ، ولكن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها وتبيعها ، أما اجتنبوا فتعني : احذروا مجرد الاقتراب منها على أيِّ وجه من هذه الوجوه .
لذلك ، تجد الأداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الأوامر والنواهي من الله يُفرِّق بين حدود ما أحلَّ الله وحدود ما حرَّم ، ففي الأوامر يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا . . } [ البقرة : 229 ] .
وفي النواهي يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا . . } [ البقرة : 187 ] .
ففي الأوامر وما أحلَّ الله لك قِفْ عند ما أحلَّ ، ولا تتعداه إلى غيره ، أمَّا المحرمات فلا تقترب منها مجردَ اقتراب ، فلما أراد الله نَهْي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة قال لهما : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة . . } [ البقرة : 35 ] .
وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجْس في عبادة الأصنام قال : { واجتنبوا قَوْلَ الزور } [ الحج : 30 ] فقرن عبادة الأوثان بقول الزُّور ، كأنهما في الإثم سواء؛ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم يوماً من صلاة الصبح ، ثم وقف وقال : " ألا وإن شهادة زور جعلها الله بعد الأوثان " .
(1/6028)

لماذا؟ لأن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم ، فساعةَ يقول : ليس للكون إله ، فهذه شهادة زور ، وقائلها شاهد زور ، كذلك حين يظلم أو يُغير في الحقيقة ، أو يذمُّ الآخرين ، كلها داخلة تحت شهادة الزور .
ولما عدَّد النبي صلى الله عليه وسلم الكبائر ، قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - فقال : ألا وقول الزور ألا وقول الزور ، قال الراوي : فما زال يكررها حتى قلنا ( ليته سكت ) أو حتى ظننا أنه لا يسكت " .
ويقولون في شاهد الزور : يا شاهد الزور أنت شر منظور ، ضلَّلتَ القُضاة ، وحلفت كاذباً بالله .
ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر مَنْ شهد لصالحه ، فرغم أنه شَهِد لصالحك ، ورفع رأسك على خَصْمك لكن داستْ قدمك على كرامته وحقَّرته ، ولو تعرَّض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول مَنْ تفضحه بأنه شهد زوراً لصالحك .
ثم يقول سبحانه : { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء . . }
.
(1/6029)

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
اكتفتْ الآية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الإجمال ، وهما حنفاء لله ، غير مشركين به ، وحنفاء : جمع حنيف ، مأخوذة من حنيف الرِّجل يعني : تقوُّسها وعدم استقامتها ، فيقال : فيه حَنَف أي : ميْل عن الاستقامة ، وليس الوصف هنا بأنهم مُعْوجون ، إنما المراد أن الاعوجاج عن الاعوجاج استقامة .
لذلك وُصِف إبراهيم - عليه السلام - بأنه { كَانَ حَنِيفاً . . } [ آل عمران : 67 ] يعني : مائلاً عن عبادة الأصنام .
وقلنا : إن السماء لا تتدخَّل برسالة جديدة إلا حين يَعمُّ الفسادُ القومَ ، ويستشري بينهم الضلال ، وتنعدم أسباب الهداية ، حيث لا واعظَ للإنسان لا من نفسه وضميره ، ولا من دينه ، ولا من مجتمعه وبيئته؛ ذلك لأن في النفس البشرية مناعةً للحق طبيعية ، لكن تطمسها الشهوات ، فإذا عُدِم هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخَّلَتْ السماء بنبي جديد ، ورسالة جديدة ، وإنذار جديد؛ لأن الفساد عَمَّ الجميع ، ولم يَعُدْ أحد يعِظُ الآخر ويهديه .
وهذا المعنى الذي قال الله فيه : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 79 ]
ومن هنا شهد الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها خير أمة أُخرِجَتْ للناس؛ لأن المناعة للحق فيها قائمة ، ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير ، ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم؛ لذلك قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " .
والمعنى : الخير فِيَّ حصراً وفي أمتي نَثْراً ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جمع خصال الخير كله ، وخَصه الله بالكمال ، لكن مَنْ يُطيق الكمال المحمدي من أمته؟ لذلك نثر الله خصال الخير في جميع أمة محمد ، فأخذ كلّ واحد منهم صفةً من صفاته ، فكماله صلى الله عليه وسلم منثور في أمته : هذا كريم ، وهذا شجاع ، وهذا حليم . . إلخ .
ولما كان لأمة محمد هذا الدور كان هو خاتم الأنبياء؛ لأن أمته ستؤدي رسالته من بعده ، فلا حاجة - إذن - لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة .
إذن نقول : الرسل لا تأتي إلا عند الاعوجاج ، يأتون هم لِيُقوِّموا هذا الاعوجاج ، ويميلون عنه إلى الاستقامة ، هذا معنى الحنيف أو { حُنَفَآءَ للَّهِ . . } [ الحج : 31 ] .
وهذه الصفة هي مقياس الاستقامة على أوامر الله لا على أوامر البشر ، فنحن لا نضع لأنفسنا أسبابَ الكمال ثم نقول : ينبغي أن يكون كذا وكذا ، لا إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو الخالق .
والحق - سبحانه وتعالى - ليس مراده من الفعل أنْ يُفعل لذاته ولمجرد الفعل ، إنما مراده من الفعل أنْ يُفعل لأنه أمر به ، وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس والمجتمع ، لكن ليس من منطلق الدين وأمر الله ، إنما من منطلق الإنسانية والمكانة الاجتماعية والمهابة والمنزلة بين الناس ، ومثل هذا لا يجحفه الله حَقه ، ولا يبخسه ثواب عمله ، يعطيه لكن في الدنيا عملاً بقول الله تعالى :
(1/6030)

{ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] .
لكن لا حَظَّ لهؤلاء في ثواب الآخرة؛ لأنهم عملوا للمجتمع وللناس وللمنزلة ، وقد أخذوا المقابل في الدنيا شُهْرة وصيتاً ذائعاً ، ومكانة وتخليداً .
وفي الحديث القدسي يقول الحق سبحانه لهم : " لقد فعلْتَ ليُقال وقد قيل " وانتهت المسألة .
والحق - تبارك وتعالى - ضرب لنا عدة أمثلة لهؤلاء ، فقال : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب . . } [ النور : 39 ] .
فعمل الكافر كالسراب يتراءى له من بعيد ، يظن من ورائه الخير ، وهو ليس كذلك ، حتى إذا ما عاين الأمر لم يجد شيئاً ، وفُوجِئ بوجود إله عادل لم يكُنْ في باله يوم عمل ما عمل .
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ . . } [ إبراهيم : 18 ] .
وقال : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين . . } [ البقرة : 264 ] .
وهل ينبت المطر شيئاً إذا نزل على الحجر الصَّلد الأملس؟ هكذا عمل الكافر ، فمن أراد ثواب الآخرة فليحقق معنى { حُنَفَآءَ للَّهِ . . } [ الحج : 31 ] ويعمل من منطلق أن الله أمر .
إذن : العمل لا يُفعَل؛ لأنه حسن في ذاته ، إنما لأن الله أمرك به ، بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور لا تجد فيها حُسْناً ، ومع ذلك عليك أنْ تلتزم بها لتحقق الانضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم ، وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحُسْن في هذا العمل ، وتعلم الحكمة منه .
خذ مثلاً موقف الإسلام من اليتيم ، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعايته وإكرامه وكفالته حتى أنه قال : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " فكافل اليتيم قرين لرسول الله في الجنة .
ففي هذا الموقف حِكَم كثيرة ، قد لا يعلمها كثير من الناس؛ لأن اليتيم فقد أباه وهو صغير ، ونظر فلم يَجِدْ له أباً ، في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم ، فإذا لم يجد هذا الصغير حناناً من كل الناس كأنهم آباؤه لتربّي عنده شعور بالسُّخْط على الله والاعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره من حنان الأب ورعايته .
لذلك يريد الإسلام أن ينشأ اليتيم نشأة سويّة في المجتمع ، لا يسخط على الله ، ولا يسخط على الناس؛ لأنهم جميعاً عاملوه كأنه ولد لهم .
وهناك ملحظ آخر : حين ترى مكانة اليتيم ، وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إنْ فاجأك الموت وأولادك صغار ، هذه مناعات يجعلها الإسلام في المجتمع : مناعة في نفس اليتيم ، ومناعة فيمَنْ يرعاه ويكفله .
(1/6031)

وكفالة اليتيم وإكرامه لا بُدَّ أنْ تتم في إطار { حُنَفَآءَ للَّهِ . . } [ الحج : 31 ] فيكون عملك لله خالصاً ، دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا ، كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله ، أو أن له مطمعاً في أمه . . إلخ فهذا عمله كالذي قُلْنا : ( كسراب بقيعة ) أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر أملس صَلْد لا ينبت شيئاً .
فإنْ حاول الإنسان إخلاص النية لله في مثل هذا العمل فإنه لا يأمن أنْ يخالطه شيء ، كما جاء في الحديث الشريف : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " .
الصفة الثانية التي وصف الله بها عباده المؤمنين : { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ . . } [ الحج : 31 ] فالشرك أمر عظيم؛ لأن الحق - تبارك وتعالى - كما قال في الحديث القدسي - أغنى الشركاء عن الشرك ، فكيف تلجأ إلى غير الله والله موجود؟
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، مَنْ عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ، تركته وشِرْكه " .
ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشرك : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ . . } [ الحج : 31 ] .
خرَّ : يعني سقط من السماء لا يُمسكه شيء ، ومنه قوله تعالى : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ . . } [ النحل : 26 ] .
وفي الإنسان جمادية؛ لأن قانون الجاذبية يتحكم فيه ، فإنْ صَعِد إلى أعلى لا بُدَّ أنْ يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبية ، لا يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلَّقاً في الهواء ، فهذا أمر لا يملكه وخارج عن استطاعته ، وفي الإنسان نباتية تتمثل في النمو ، وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز ، وفيه إنسانية تتمثل في العقل والتفكير والاختيار بين البدائل ، وبهذه كُرِّم عن سائر الأجناس .
وتلحظ أن ( خرَّ ) ترتبط بارتفاع بعيد { خَرَّ مِنَ السمآء . . } [ الحج : 31 ] بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه ، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره ، وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطفه الطير ، فإنْ لم تتخطفه تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلاعب به ، فهو هالك هالك لا محالةَ ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية .
وعلى العاقل أنْ يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير ، فهذه حال مَنْ أشرك بالله ، فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة ، فها هي الصورة أمامك واضحة ، وإنْ أردتَ تفسيراً آخر يُوضِّح أجزاءها : فالسماء هي الإسلام ، والطير هي الشهوات ، والريح هي ريح الشيطان ، يتلاعب به هنا وهناك . فأيُّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير؟
ثم يقول سبحانه : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله . . }
.
(1/6032)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ ذلك . . } [ الحج : 32 ] كما قلنا في السابقة : إشارة إلى الكلام السابق الذي أصبح واضحاً معروفاً ، ونستأنف بعدها كلاماً جديداً تَنبَّه له .
{ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله . . } [ الحج : 32 ] الشعائر : جمع شعيرة ، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها ، فالإحرام شعيرة ، والتكبير شعيرة ، والطواف شعيرة ، والسَّعْي شعيرة ، ورمْي الجمار شعيرة . . إلخ . وهذه أمور عظّمها الله ، وأمرنا بتعظيمها .
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله ، أو أدائه ، أو عمله ، عَظَّم الشعائر يعني : أدَّاها بحبٍّ وعشْق وإخلاص ، وجاء بها على الوجه الأكمل ، وربما زاد على ما طُلِبَ منه .
ومثالنا في ذلك : خليل الله إبراهيم ، عندما أمره الله أنْ يرفع قواعد البيت : كان يكفيه أنْ يبني على قَدْر ما تطوله يده ، وبذلك يكون قد أدّى ما أُمِر به ، لكنه عشق هذا التكليف وأحبَّه فاحتال للأمر ووضع حجراً على حجر ليقف عليه ، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه .
فمحبة أمر الله مَرْقي من مراقي الإيمان ، يجب أن نسموَ إليه ، حتى في العمل الدنيوي : هَبْ أنك نُقِلْتَ إلى ديوان جديد ، ووصل إلى عِلْمك أن مدير هذا الديوان رجل جادّ وصعب ، ويُحاسب على كل صغيرة وكبيرة ، فيمنع التأخير أو التسيّب أثناء الدوام الرسمي ، فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات حرفياً ، بل وتزيد عليها ليس حباً في العمل ، ولكن حتى لا تُسئَل أمام هذا المدير في يوم من الأيام .
إذن : الهدف أنْ نؤدي التكاليف بحُبٍّ وعِشْق يُوصِّلنا إلى حب الله عز وجل؛ لذلك نجد من أهل المعرفة مَنْ يقول : رُبَّ معصية أورثتْ ذلاً وانكساراً خَيْر من طاعة أورثت عِزاً واستكباراً .
فالمهم أن نصل إلى الله ، أن نخضع لله ، أنْ نذِلّ لعزته وجلاله ، والمعصية التي تُوصِّلك إلى هذه الغاية خير من الطاعة التي تُسلِمك للغرور والاستكبار .
هذه المحبة للتكاليف ، وهذا العشق عبَّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : " وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة " لذلك نَعَي القرآن على أولئك الذين { إِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً . . } [ النساء : 142 ] .
وابنته فاطمة - رضي الله عنها - كانت تجلو الدرهم وتلمعه ، فلما سألها رسول الله عما تفعل ، قالت : لأنني نويتُ أنْ أتصدَّق به ، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير . هذا هو التعظيم لشعائر الله والقيام بها عن رغبة وحب .
وفي عصور الإسلام الأولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلاة الجماعة حين يسمع النداء ، وبآخرهم خروجاً من المسجد بعد أداء الصلاة ، ولك أن تقيس حال هؤلاء بحالنا اليوم . هؤلاء قوم عظَّموا شعائر الله فلم يُقدِّموا عليها شيئاً .
وقد بلغ حُبُّ التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أنْ قال : لقد أصبحتُ أخشى ألا يثيبني الله على طاعته ، فسألوه : ولماذا؟ قال : لأنني أصبحتُ أشتهيها يعني : أصبحتْ شهوة عندي ، فكيف يُثاب - يعني - على شهوة عندي؟!
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن الله إذا ورد الأمر من الله وثبت أخذوه على الرَّحْب والسِّعَة دون جدال ولا مناقشة ، وكيف يناقشون أمر الله وهم يُعظِّمونه؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في أمور فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل تعدُّد زوجاته مثلاً ويعترضون ، بل ومنهم مَنْ يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق .
(1/6033)

نقول لهم : ما دُمْتُم آمنتم بأنه رسول الله ، فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم . وتقولون : كان ينبغي أنْ يفعل كذا ، ولا يفعل كذا؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به فِعْل رسول الله؟ المفروض أن الكمال منه صلى الله عليه وسلم ومن ناحيته ، لا من ناحيتكم .
ثم يقول سبحانه : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } [ الحج : 32 ] ليست من تقوى الجوارح ، بل تقوى قلب لا تقوى قالب ، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك ، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله .
وسبق أنْ ذكرنا أن الله تعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا ، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا ، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة ، كما جاء في قوله تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] .
وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَنْ هو أضعف منك على أيِّ شيء يكرهه ، إنْ شئتَ سجد لك ، لكن لا تملك أنْ تجعل في قلبه حباً أو احتراماً لك ، لماذا؟ لأنك تجبر القالب ، أمّا القلب فلا سلطةَ لك عليه بحال .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى . . }
.
(1/6034)

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
يعني : ما دامت هذه المسائل من شعائر الله ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظِّموها؛ لأن لكم فيها منافع عرفتها أو لم تعرفها ، وربما تعرف بعضها ولا تعرف الباقي؛ لأنه مستور عنك ولو أنك لا تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر ، فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الإخلاص في هذا العمل .
ومعنى { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى . . } [ الحج : 33 ] ما دام الحق - سبحانه وتعالى - ذَيَّل الآية بقوله { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق . . } [ الحج : 33 ] .
إذن : فالمراد هنا شعيرة الذَّبْح ، ولا يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها ، ونتخذها زينة وركوبة .
كل هذا { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى . . } [ الحج : 33 ] يعني : زمن معلوم ، وهو حين تقول وتنوي : هذه هدية للحرم ، ساعة تعقد هذه النية فليس لك الانتفاع بشيء منها ، لا أنت ولا غيرك؛ لذلك يُميِّزونها بعلامة حتى إنْ ضلت من صاحبها يعرفون أنها مُهْداة لبيت الله ، فلا يأخذها أحد .
وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى ، فلا بُدَّ أنها المنافع الدنيوية ، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة .
ثم يقول سبحانه : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] أي : بعد هذا الأجل المسمى ينتهي بها المطاف عند الحرم حيث تُذبَح هناك .
وقد كان للعلماء كلامٌ حول هذه الآية : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] حيث قالوا : محل الذَّبْح في مِنَى ، وليس في مكة ، والآية تقول ، محلها البيت العتيق .
نقول : الأصل كما جاء في الآية أن الذبح في مكة وفي الحرم ، إلا أنهم لما استقذروا الذَّبْح في الحرم بسبب ما يُخلفه من قاذورات ودماء وخلافه نتيجة هذه العملية ، فرُؤي أن يجعلوا الذبح بعيداً عن الحرم حتى يظل نظيفاً ، وهذا لا يمنع الأصل ، وهو أنْ يكون الذَّبْح في الحرم ، كما جاء في آية أخرى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة . . } [ المائدة : 95 ] وفي الحديث الشريف : " مكّةُ كلُّها مَنْحرٌ " .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام . . }
.
(1/6035)

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
يُبيِّن لنا الحق سبحانه بعض صفات المختبين ، فهم { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ . . } [ الحج : 35 ] ( وَجِلت ) : يعني خافت ، واضطربت ، وارتعدت لذكر الله تعظيماً له ، ومهابة منه .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] .
فمرة يقول { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ . . } [ الحج : 35 ] ومرة { تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] ، لماذا؟ لأن ذكر الله إنْ جاء بعد المخالفة لا بُدَّ للنفس أنْ تخاف وتَوْجَل وتضطرب هيبةً لله عز وجل ، أما إنْ جاء ذِكْر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنُّ به ، وتأنَسُ لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه عند الشدة وتركَنُ إليه عند الضيق والبلاء ، فإنْ تعرَّضَت لمصيبة وعزَّتْ أسبابُ دَفْعها عليك تقول : أنا لي رب فتلجأ إليه ، كما كان من موسى - عليه السلام - حين قال : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
{ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ . . } [ الحج : 35 ] ومعنى أصاب : يعني جاء بأمر سيء في عُرْفك أنت ، فتعده مصيبة؛ لأننا نُقدِّر المصيبة حَسْب سطحية العمل الإيذائي ، إنما لو أخذتَ مع المصيبة في حسابك الأجر عليها لهانَتْ عليك وما أعتبرتَها كذلك؛ لذلك في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : " المصاب من حرم الثواب " .
هذا هو المصاب حقاً الذي لا تُجبَر مصيبته ، أما أنْ تُصاب بشيء فتصبر عليه حتى تنالَ الأجر فليس في هذا مصيبة .
ثم يقول سبحانه : { والمقيمي الصلاة . . } [ الحج : 35 ] لأن الصلاة هي الولاء الدائم للعبد المسلم ، والفرض الذي لا يسقط عنه بحال من الأحوال ، فالشهادتان يكفي أنْ تقولها في العمر مرة ، والزكاة إنْ كان عندك نِصَاب فهي مرة واحدة في العام كله ، والصيام كذلك ، شهر في العام ، والحج إنْ كنتَ مستطيعاً فهو مرة واحدة في العمر ، وإنْ لم تكُنْ مستطيعاً فليس عليك حج .
إذن : الصلاة هي الولاء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله ، وربك هو الذي يدعوك إليها ، ثم لك أنْ تُحدِّد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في حَضْرته تعالى؛ لأنه سبحانه مستعد للقائك في أيِّ وقت .
وتصور أن رئيس الجمهورية أو الملك مثلاً يدعوك ويُحتِّم عليك أنْ يراك في اليوم خمس مرات لتكون في حضرته ، والحق سبحانه حين يدعو عباده للقائه ، لا يدعوهم مرة واحدة إنما خمس مرات في اليوم والليلة؛ لأنه سبحانه لا يتكلف في هذه العملية تكرار لقاءات ، فهو سبحانه يَلْقَى الجميع في وقت واحد .
ولما سئل الإمام علي - رضي الله عنه - : كيف يُحاسب اللهُ كلَّ هؤلاء الناس في وقت واحد؟ قال : كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد .
وقوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ الحج : 35 ] لا ينفقون من جيوبهم ، إنما من عطاء الله ورزقه .
(1/6036)

ومن العجيب أن الله تعالى يعطيك ويهبُكَ ويُغدِق عليك تفضلاً منه سبحانه ، فإذا أرادك تُعين محتاجاً قال لك : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً . . } [ الحديد : 11 ]
وكأن الله تعالى يقول لنا : أنا لا أعود في هبتي ولا عطائي ، فأقول : أعْطِ ما أخذتَه لفلان ، بل إنْ أعطيتَ الفقير من مالك فهو أيضاً لك مُدَّخر لا يضيع ، فرِزْقك الذي وهبك الله إياه مِلْكك ، ولا نغبنك في شيء منه أبداً ، فربّك يحترم ملكيتك ويحترم جزاء عملك وجدِّك واجتهادك .
نقول - ولله المثل الأعلى - : كالرجل الذي يحتاج مبلغاً كبيراً لأحد الأبناء فيأخذ من الباقين ما معهم وما ادخروه من مصروفاتهم على وَعْد أنْ يُعوِّضهم بدلاً منها فيما بعد .
لذلك يقول بعدها : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ . . } [ الحديد : 11 ] فيعاملك ربك بالزيادة؛ لذلك يقول البعض : إن الله تعالى حرَّم علينا الربا وهو يعاملنا به ، نعم يعاملك ربك بالربا ويقول لك : اترك لي أنا هذا التعامل؛ لأنني حين أزيدك لا أنقص الآخرين ، ولا أُنقِص مما عندي ، ولا أُرِهق ضعيفاً ولا محتاجاً ولا أستغلّ حاجته .
والصدقة في الإسلام تأمينٌ لصاحبها ضد الفقر إن احتاج ، فأخوَفُ ما يخافه المرءُ الحاجة عند الكبَر ، وعدم القدرة على الكَسْب ، وعند الإعاقة عن العمل ، يخاف أنْ ينفد ماله ، ويحتاج إلى الناس حال كِبَره .
وعندها يقول له ربه : اطمئن ، فكما أَعطيْتَ حال يُسْرك سيعطيك غيرُك حال عَوَزِك وحاجتك .
إذن : أخذ منك ليعطيك ، وليُؤمِّن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه .
الصدقة في الإسلام صندوق لتكافل المجتمع ، كصندوق التأمين في شركات التأمين ، فإذا ما ضاقت بك أسباب الرزق وشكوْتَ الكِبَر والعجز نقول لك : لا تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل ، وكما طلبنا منك أنْ تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أنْ يعطيَك وأنت مُعْدم .
ثم يقول الحق سبحانه : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا . . }
.
(1/6037)

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في النفقة مِمَّا رزقكم الله تكلَّم في النفقة في البُدْن ، والبُدْن : جمع بَدَنة ، وهي الجمل أو الناقة ، أو ما يساويهما من البقر ، وسمَّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أنْ تكون بدينة سمينة وافرة ، ولا بُدَّ أنْ تراعي فيها هذه الصفة عند اختيارك للهَدْي الذي ستُقدمه لله ، واحذر أن تكون من أولئك الذين يجعلون لله ما يكرهون ، إنما كُنْ من الذين قال الله لهم : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ . . } [ البقرة : 267 ] وقوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ . . } [ الحج : 36 ] أي : اذكروا الله بالشكر على أنْ وهبها وذلَّلها لكم ، واذكروا اسم الله عليها حين ذَبْحها .
ومعنى { صَوَآفَّ . . } [ الحج : 36 ] يعني : واقفةً قائمة على أرْجُلها ، لا ضعفَ فيها ولا هُزَال ، مصفوفة وكأنها في معرض أمامك . وهذه صفات البُدْن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أنْ تُقدَّمْ هَدْياً لبيت الله .
ومعنى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا . . } [ الحج : 36 ] وجبَ الشيء وجباً يعني : سقط سقوطاً قوياً على الأرض ، ومعلوم أن البَدَنة لا تُذبح وهي مُلْقاة على الأرض مثل باقي الأنعام ، وإنما تُنْحر وهي واقفة ، فإذا ما نُحِرَتْ وقعتْ على الأرض وارتمتْ بقوة من بدانتها .
{ فَكُلُواْ مِنْهَا . . } [ الحج : 36 ] وقلنا : إن الأكل لا يكون إلا من الهَدْي المحض والتطوع الخالص الذي لا يرتبط بشيء من مسائل الحج ، فلا يكون هَدْيَ تمتُّع أو قِرَان ، ولا يكون جِبْراً لمخالفة ، ولا يكون نَذْراً . . إلخ .
وعِلَّة الأمر بالأكل من الهَدْي؛ لأنهم كانوا يتأففون أنْ يأكلوا من المذبوح للفقراء ، وكأن في الأمر بالأكل منها إشارة لوجوب اختيارها مما لا تعافه النفس .
ومعنى : { القانع والمعتر . . } [ الحج : 36 ] القانع : الفقير الذي يتعفَّف أنْ يسأل الناس ، والمعترّ : الفقير الذي يتعرَّض للسؤال .
ثم يقول سبحانه : { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . . } [ الحج : 36 ] يعني : سخّرناها لكم ، ولو في غير هذا الموقف ، لقد سخَّرها الله لكم منذ وُجِد الإنسان؛ لذلك عليكم أنْ تشكروا الله على أنْ أوجدها وملّككم إياها ، وتشكروه على أنْ سخَّرها وذلَّلها لكم ، وتشكروه على أنْ هداكم للقيام بهذا المنسك ، وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانة : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ . . }
.
(1/6038)

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
ذلك لأنهم كانوا قبل الإسلام حين يذبحون للأوثان يُلطّخون الصنم بدماء الذبيحة ، كأنهم يقولون له : لقد ذبحنا لك ، وها هي دماء الذبيحة ، وفي هذا العمل منهم دليل على غبائهم وحُمْق تصرفهم ، فهم يروْن أنهم إذا لم يُلطِّخوه بالدم ما عرف أنهم ذبحوا من أجله .
وهنا ينبه الحق - سبحانه وتعالى - إلى هذه المسألة : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا . . } [ الحج : 37 ] يعني : لا يأخذ منها شيئاً ، وهو سبحانه قادر أنْ يعطي الفقير الذي أمرك أنْ تعطيه ، ويجعله مثلك تماماً غير محتاج .
إنما أراد سبحانه من تباين الناس في مسألة الفقر والغنى أن يُحدِث توازناً في المجتمع ، فالمجتمع ليس آلة ميكانيكية تسير على وتيرة واحدة ، إنما هي حياة بشر لا بُدَّ من هذه التفاوتات بين الناس ، ثم تتدخّل الشرائع السماوية فتأخذ من القوى وتعطي الضعيف ، وتأخذ من الغني وتعطي الفقير . . وساعتها ، نقضي على مشاعر الحقد والحسد والبغضاء والأَثَرة .
فحين يعطي القويُّ الضعيفَ من قوته لا يحسده عليها ، ويتمنى له دوامها؛ لأن خيرها يعود عليه ، وحين يعطي الغنّي مما أفاض الله عليه للفقير يُؤلِّف قلبه ، ويجتثّ منه الغِلَّ والحسد ، ويدعو له بدوام النعمة .
لا بد من هذا التفاوت ليتحقق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص ، يشدُّ بعضه بعضاً " .
لذلك ، ترى صاحب النعمة الذي ينثر منها على غيره ، إنْ أصابته في ماله مصيبة يحزن له الآخرون ويتألمون بألمه؛ لأن نعمته تفيض عليهم ، وخيرُه ينالهم . وأهل الريف إلى عهد قريب كان الواحد منهم يُربِّي البقرة أو الجاموسة؛ ليحلب لبنها ، وكان لا ينسى الجيران وأهل الحاجة ، فكانوا يدعُونَ الله له أنْ يبارك له في ماله ، وإنْ أصابته ضرَّاء في ماله حَزِنوا من أجله .
إذن : حين تفيض من نعمة الله عليك على مَنْ حُرِم منها تدفع عن نفسك الكثير من الحقد والحسد ، فإنْ لم تفعل فلا أقلَّ من إخفاء هذا الخير عن أعْيُنِ المحتاجين حتى لا تثير حفائظهم ، وربما لو رآك الرجل العاقل يُردعه إيمانه فلا تمتدّ عيناه إلى ما في يدك ، إنما حين يراك الأطفال الصغار تحمل ما حُرِموا منه ، أو رأوا ولدك يأكل وهم محرومون هنا تكون المشكلة وقوله تعالى : { ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ . . } [ الحج : 37 ] واتقاء الله هو اتباع منهجه ، فيُطاع الله باتباع المنهج فلا يُعصي ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر ، وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج ب " افعل " و " لا تفعل " ، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله ، والمنهج يدعوك أنْ تتذكر في كل نعمة مَنْ أنعم بها ، وإياك أنْ تُنسيَك النعمةُ المنعِمَ .
(1/6039)

ثم يقول تبارك وتعالى : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين } [ الحج : 37 ]
تلحظ هنا مسألة المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن الكريم ، ففي الآية السابقة ذَيَّلها الحق سبحانه بقوله : { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الحج : 36 ] .
هذه المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن ويُقلِّبون في آياته؛ لذلك يجمعون مثل هذه المتشابهة التي تتحدث في موضوع واحد ويُرتِّبونها في الذِّهن؛ لذلك لا يُؤتمنون على الحِفْظ ، ومن هنا قالوا : ينبغي لمَنْ أراد حِفْظ القرآن أنْ يدعَ مسألة العلم جانباً أثناء حِفْظه ، حتى إذا نسي كلمةً وقف مكانه لا يتزحزح إلى أنْ يعرفها ، أمّا العالم فربما وضع مرادفها مكانها ، واستقام له المعنى .
والمراد بقوله تعالى : { لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ . . } [ الحج : 37 ] يعني : تذكرونه وتشكرونه على ما وفّقكم إليه من هذه الطاعات { وَبَشِّرِ المحسنين . . } [ الحج : 37 ] بشِّر يعني : أخْبِرْ بشيء سَارٍّ قبل مَجِيء زمنه ، ليستعد له المبشَّر ويفرح به ، كذلك الإنذار : أن تخبر بشيء سيء قبل حلوله أيضاً؛ ليستعد له المنذر ، ويجد الفرصة التي يتلافى فيها خطأه ، ويُجنِّب نفسه ما يُنذَر به ، ويُقبل على ما يُنجِيه .
و { المحسنين . . } [ الحج : 37 ] : جمع مُحسِن ، والإحسان : أعلى مراتب الإيمان ، وهو أنْ تُلزِم نفسك بشيء من طاعة الله التي فرضها عليك فوق ما فرض ، فربُّك عز وجل فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة ، وفي إمكانك أنْ تزيد من هذه الصلوات ما تشاء ، لكن من جنس ما فرض الله عليك ، لا تخترع أنت عبادة من عندك ، كذلك الأمر في الصوم ، وفي الزكاة ، وفي الحج ، وفي سائر الطاعات التي ألزمك الله بها ، فإنْ فعلت هذا فقد دخلتَ في مقام الإحسان .
وفي الإحسان أمران : مُحسن به وهو العبادة أو الطاعة التي تُلزِم نفسك بها فوق ما فرض الله عليك ، ودافعٌ عليه ، وهو أن تؤدي العمل كأن الله يرقبك ، كما جاء في حديث جبريل : " والإحسان أنْ تعبدَ الله كأنك تراه ، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك " .
فمراقبتك لله ومراعاتك لنظره تعالى إليك ، يدفعك إلى هذا الإحسان ، أَلاَ ترى العامل الذي تباشره وتُشرِف عليه ، وكيف يُنهِي العمل في موعده؟ وكيف يُجيده؟ على خلاف لو تركتَه وانصرفْتَ عنه .
فإنْ لم تَصِل إلى هذه المرتبة التي كأنك ترى الله فيها ، فلا أقلَّ من أنْ تتذكر نظره هو إليك ، ومراقبته سبحانه لحركاتك وسكناتك .
لذلك ، في سورة الذرايات : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15 - 16 ] ثم يُفسِّر سبب هذا الإحسان : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 17-19 ] .
ومَنْ يلزمك بهذه الكاليف؟ لك أنْ تصلي العشاء ثم تنام إلى الفجر ، كذلك لم يُلزمك بالاستغفار وقت السَّحَر ، ولم يلزمك بصدقة التطوع . إذن : هذه طاعات فوق ما فرض الله وصلَتْ بأصحابها إلى مقام الإحسان ، وأعلى مراتب الإيمان ، فليُشمِّر لها مَنْ أراد .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا . . } .
(1/6040)

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
صَدْر الآية : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا . . } [ الحج : 38 ] يُشْعِرنا أن هناك معركة ، والمعركة التي يدافع الله فيها لا بُدَّ أنها بين حق أنزله ، وباطل يُواجهه ، وقد تقدَّم قبل ذلك أن قال تبارك وتعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ . . } [ الحج : 19 ] .
وما دام هناك خصومة فلا بُدَّ أنْ تنشأ عنها معارك ، هذه المعارك قد تأخذ صورة الألفاظ والمجادلة ، وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة والالتحام المباشر بأدوات الحرب .
ومعركة النبي صلى الله عليه وسلم مع معارضيه من كفار مكة لم تقف عند حَدِّ المعركة الكلامية فحَسْب ، فقد قالوا عنه - صلوات الله وسلامه عليه : ساحر ، وكاهن ، ومجنون ، وشاعر ، ومُفْتر . . إلخ ثم تطوَّر الأمر إلى إيذاء أصحابه وتعذيبهم ، فكانوا يأتون رسول الله مَشْدوخين ومجروحين فيقول لهم صلى الله عليه وسلم : " لم أومر بقتال ، اصبروا اصبروا ، صبراً صبراً . . " .
إلى أنْ زاد اعتداء الكفار وطََفَح الكَيْل منهم أَذن الله لرسوله بالقتال ، فقال : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الحج : 39 ] .
فقوله تعالى : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا . . } [ الحج : 38 ] صيغة يدافع : مبالغة مِنْ يدفع ، معنى يدفع يعني : شيئاً واحداً ، أو مرة واحدة ، وتنتهي المسألة ، أمّا يدافع فتدل على مقابلة الفعل بمثله ، فالله يدفعهم وهم يقابلون أيضاً بالمدافعة ، فيحدث تدافع وتفاعل من الجانبين ، وهذا لا يكون إلا في معركة .
والمعركة تعني : منتصر ومنهزم ، لذلك الحق - تبارك وتعالى - يُطمئن المؤمنين أنه سيدخل المعركة في صفوفهم ، وسيدافع عنهم .
فقوله تعالى : { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا . . } [ الحج : 38 ] أمر طبيعي؛ لأن الحق سبحانه ما كان ليُرسِل رسولاً ، ويتركه لأهل الباطل يتغلَّبون عليه ، وإلاّ فما جَدْوى الرسالة إذن؛ لذلك يُطمئِن الله تعالى رسوله ويُبشِّره ، فيقول : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171 - 173 ] .
وقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ . . } [ الحج : 40 ] .
وقال : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] .
فهذه كلها آيات تُطمئِن المؤمنين وتُبشِّرهم ، وقد جاءتْ على مراحل لحكمة أرادها الحق سبحانه ، فمنعهم عن القتال في البداية لحكمة ، ثم جعل القتال فيما بينهم ، وقبْل أنْ يأذنَ لهم في قتال أعدائهم لحكمة : هي أنْ يَبْلوا المؤمنين ويُمحِّصهم ليُخرِج من صفوفهم أهل الخَوَر والجُبْن ، وضعيفي الإيمان الذين يعبدون الله على حَرْف ، ولا يبقى بعد ذلك إلا قويُّ الإيمان ثابتُ العقيدة ، الذي يحمل راية هذا الدين وينسَاح بها في بقاع الأرض؛ لأنها دعوة عالمية لكل زمان ولكل مكان إلى أنْ تقوم الساعة ، ولما كانت هذه الدعوة بهذه المنزلة كان لا بُدَّ لها من رجال أقوياء يحملونها ، وإلا لو استطاع الأعداءُ القضاءَ عليها فلن تقومَ لدين الله قائمة .
(1/6041)

إذن : كان لا بُدَّ أن يُصفِّي الحقُ سبحانه أهلَ الإيمان كما يُصفِّي الصائغُ الذهبَ ، ويُخرِج خَبَثه حين يضعه في النار ، كذلك كانت الفِتَن والابتلاءات لتصفية أهل الإيمان وتمييزهم ، لكن بالقتال في صَفٍّ واحد .
ثم يقول سبحانه : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [ الحج : 38 ] فكأن الحق - سبحانه وتعالى - أصبح طرفاً في المعركة ، والخوَّان : صيغة مبالغة من خائن ، وهو كثير الخيانة وكذلك كفور : صيغة مبالغة من كافر .
ومعنى الخيانة يقتضي أن هناك أمانةً خانها . نعم ، هناك الأمانة الأولى ، وهي أمانة التكليف التي قال الله فيها : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان . . } [ الأحزاب : 72 ] فلقد خانَ هذه الأمانة بعد أنْ رَضِي أنْ يكونَ أهْلاً لها .
وهناك أمانة قبل هذه ، وهي العهد الذي أخذه الله على عباده ، وهم في مرحلة الذَّرِّ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ . . } [ الأعراف : 172 - 173 ] .
فإنْ قالوا : نعم هذه أمانة ، لكنها بعيدة ، ومَنْ مِنَّا يذكرها الآن؟
نقول : ألم تُقِرُّوا بأن الله خلقكم ، وأوجدكم من عدم ، وأمدكم من عُدم؟ كما قال سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله . . } [ الزخرف : 87 ] كما أقرُّوا بخَلْق السماوات والأرض وما فيها من خيرات لله عز وجل ، فكان وفاء هذا الإقرار أنْ يؤمنوا ، لكنهم مع هذا كله كفروا ، أليست هذه خيانة للأمانة عاصروها جميعاً وعايشوها وأسهموا فيها؟
والكَفُور : مَنْ كفر نِعَم الله وجَحَدها .
وما دام هناك الخوَّان والكفُور فلا بُدَّ للسماء أنْ تُؤيِّد رسولها ، وأنْ تنصره في هذه المعركة أولاً ، بأنْ تأذنَ له في القتال ، ثم تأمره بأخذ العُدة والأسباب المؤدية للنصر ، فإنْ عزَّتْ المسائل عليكم ، فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي .
وقد حدث هذا في بَدْء الدعوة ، فأيَّد الله نبيه بجنود من عنده ، بل أيَّده حتى بالكافر المعاند : ألم يكُن دليل رسول الله في الهجرة كافراً؟ ألم ينصره الله بالحمام وبالعنكبوت وهو في الغار؟ ألم ينصره بالأرض التي ساخَتْ تحت أقدام فرس " سُرَاقة " الذي خرج في طلبه؟
هذه جنود لم نَرها ، ولم يُؤيَّد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن استنفد أسبابه ، ولو أراد سبحانه لَطوَّع لرسوله هؤلاء المعاندين ، فما رفع أحد منهم رأسه بعناد لمحمد ، إنما الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يعطيه طواعية ويخضع له القوم ، ألم يقُلْ سبحانه وتعالى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] .
وقلنا : إن الله تعالى يريد أنْ يُخضِع قلوب عباده لا قوالبهم ، فلو أخضعهم الله بآية كونية طبيعية كالريح أو الصاعقة أو الخَسْف ، أو غيره من الآيات التي أخذتْ أمثالهم من السابقين لقالوا : إنها آفاتٌ طبيعية جاءتنا ، لكن جعل الله بين الفريقين هذه المواجهة ، ثم يسَّر لحزبه وجنوده أسباب النصر .
قال سبحانه : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ . . }
.
(1/6042)

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
ودفاع الحق سبحانه عن الحق يأخذ صوراً متعددة ، فأول هذا الدفاع : أنْ أَذِن لهم في أنْ يقاتلوا . ثانياً : أمرهم بإعداد القوة للقتال : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل . . } [ الأنفال : 60 ] .
والمراد أنْ يأخذوا بكل أسباب النصر على عدوهم ، وأن يستنفدوا كل ما لديهم من وسائل ، فإنِ استنفدتم وسائلكم ، أتدخَّل أنا بجنود من عندي لا ترونها ، فليس معنى أن الله يدافع عن الذين آمنوا أن تدخُلَ السماء لحمايتهم وهم جالسون في بيوتهم ، لا إنما يأخذون بأسباب القوة ويسعَوْنَ ويبادرون هم أولاً إلى أسباب النصر .
ومعنى { أُذِنَ . . } [ الحج : 39 ] أنهم كانوا ينتظرون الأمر بالقتال ، ويستشرفون للنصر على الأعداء ، لكن لم يُؤذَن لهم في ذلك ، فلما أراد الله لهم أنْ يقاتلوا أَذن لهم فيه ، فقال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الحج : 39 ] .
وعِلّة القتال أنهم ظُلِموا ، لذلك أمرهم ربهم - تبارك وتعالى - أنْ يقاتلوا ، لكن لا يعتدوا ، كما قال سبحانه : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين * واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ . . } [ البقرة : 190 - 191 ] .
إذن : أمرهم أولاً بالصبر ، وفي المرحلة الأولى بأنْ يقاتلوا لِردِّ العدوان ، وللدفاع عن أنفسِهم دون أنْ يعتدوا ، وفي المرحلة الثانية سيقول لهم : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 123 ] .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [ الحج : 39 ] بأسباب يُمكِّنهم منها ، أو بغير أسباب فتأتيهم قوة خفية لا يروْنها ، وقد رأوا نماذج من ذلك فعلاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله . . }
.
(1/6043)

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
فلو أنهم أُخْرِجوا بحقٍّ كأنْ فعلوا شيئاً يستدعي إخراجهم من ديارهم ، كأنْ خدشوا الحياء ، أو هددوا الأمْن ، أو أجرموا ، أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقٍّ .
إنما الواقع أنهم ما فعلوا شيئاً ، وليس لهم ذَنْب { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا . . } [ الحج : 40 ] هذه المقولة اعتبرها القوم ذَنْباً وجريمة تستحق أنْ يخرجوهم بها من ديارهم .
كما قال سبحانه في أهل الأخدود : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] .
وفي آية أخرى : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله . . } [ المائدة : 59 ] .
وفي قصة لوط عليه السلام : { قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] .
إذن : أخرجوهم ، لا لأنهم أهل نجاسة ومعصية ، إنما لأنهم أناسٌ يتطهَّرون ، فالطهارة والعفة جريمتهم التي يُخْرَجُون من أجلها!! كما تقول : لا عيْبَ في فلان إلا أنه كريم ، أو تقول : لا كرامةَ في فلان إلا أنه لِصٌّ . فهذه - إذن - صفة لا تمدح ، وتلك صفة لا تذم .
لقد قلب هؤلاء الموازين ، وخالفوا الطبيعة السويّة بهذه الأحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع ، وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير ، فكرهوا ما يجب أنْ يُحب ، وأحبوا ما يجب أن يكره؟ ولا أدلَّ على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر ، وترْكهِم عبادة خالق السماوات والأرض .
ثم يقول تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً . . } [ الحج : 40 ]
وفي آية أخرى يُبيِّن الحق سبحانه نتيجة انعدام هذا التدافع : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض . . } [ البقرة : 251 ] .
والفساد إنْ حدث بين الناس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوَّض ويُتدارك ، أما إنْ تعدّى الفساد إلى مُقوِّمات اليقين الإيماني في الأرض فَكرِه الناس ما يربطهم بالسماء ، وهدموا أماكن العبادة ، فهذه الطامة والفساد الذي لا صلاحَ بعده ، فكأن الآيتين تصوران نوعاً من الإيغال في الفساد ، والاتّضاع في الجرائم .
وتفسد الأرض حين ينعدم هذا التدافع ، كيف؟ هَبْ أن ظالماً مسْتبداً في بلد ما يستعبد الناس ويمتصّ خيراتهم بل ودماءهم دون أنْ يردَّه أحد ، لا شكَّ أن هذا سيُحدث في المجتمع تهاوناً وفوضى ، ولن يجتهد أحد فوق طاقته ، ولمن سيعمل وخيره لغيره؟ وهذا بداية الفساد في الأرض .
فإنْ قُلْنا : هذا فساد بين الناس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد ، فما بالك إن امتدَّ الفساد إلى أماكن الطاعات والعبادات ، وقطع بين الناس الرباط الذي يربطهم بالسماء؟
إنْ كان الفساد الأول قابلاً للإصلاح ، ففساد الدين لا يصلح ، لأنك خرَّبْتَ الموازين التي كانت تُنظِّم حركة الحياة ، فأصبح المجتمع بلا ميزان وبلا ضوابط يرجع إليها .
ونلْحظُ في قوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ .
(1/6044)

. } [ الحج : 40 ] جاءت قضية عامة لكل الناس ، فلم يخصْ طائفة دون أخرى ، فلم يَقُلْ مثلاً : لولا دَفْع الله الكافرين بالمؤمنين ، إنما قال مُطلْق الناس؛ لأنها قضية عامة يستوي فيها الجميع في كل المجتمعات .
كذلك جاءت كلمة ( بعض ) عامة؛ لتدل على أن كلاَ الطرفين صالح أن يكون مدفوعاً مرة ، ومدفوعاً عنه أخرى ، فَهُمْ لبعض بالمرصاد : مَنْ أفسد يتصدى له الآخر لِيُوقِفه عند حَدِّه ، فليس المراد أن طائفة تدفع طائفة على طول الخط .
ومثال ذلك قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . . } [ الزخرف : 32 ] دون أنْ يُحدِّد أيّهما مرفوع ، وأيهما مرفوع عليه؛ لأن كلاً منهما مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر؛ ذلك لأن العباد كلهم عيال الله ، لا يُحابي منهم أحداً على أحد .
انظر الآن إلى قوة روسيا في الشرق وقوة أمريكا في الغرب ، إنهما مثال لقوله تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . . } [ الحج : 40 ] فكلٌّ منهما تقف للأخرى بالمرصاد ، ترقبها وترصُد تحركاتها وتقدّمها العسكري ، وكأن الله تعالى جعلها لحماية سلامة الآخرين أنْ تقف كُلٌّ منهما موقفَ الحذَر والخوف من الأخرى .
وهذا الخوف والترقُّب والإعداد هو الذي يمنع اندلاع الحرب بينهما ، فما بالك لو قامت بينهما حرب أسفرت عن منتصر ومهزوم؟ لا بُدَّ أن المنتصر سيعيثُ في الأرض فساداً ويستبد بالآخرين ، ويستشري ظُلْمه لعدم وجود مَنْ يُردِعه .
ومن رحمة الله بالمؤمنين أنْ يكيد الظالمين بالظالمين بكل ألوانهم وفنونهم ، ويؤدِّب الظالم بمَنْ هو أشد منه ظُلْماً؛ ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة ، لا يدخلون طَرَفاً فيها؛ لأن الأخيار لا يصمدون أمام هذه العمليات ، لأنهم قوم رِقَاق القلوب ، لا تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في الانتقام .
اقرأ قول الله تعالى : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] .
وهكذا يُوفِّر الله أهل الخير ، ويحْقِن دماءهم ، ويُريح أولياءه من مثل هذه الصراعات الباطلة .
لذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخولَ المنتصر ، بعد أنْ أخرجه قومه منها ، وبعد أنْ فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل ، كيف دخلها وهو القائد المنتصر الذي تمكَّن من رقاب أعدائه؟
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مُطأطيء الرأس ، حتى لتكاد رأسه تلمس قربوس السرج الذي يجلس عليه ، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك قال أبو سفيان لما رأى رسول الله في هذا الموقف ، قال للعباس : لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً .
وبعد أن تمكَّن رسول الله من كفار مكة ، وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم ، قال : " يا معشر قريش ، ما تظنُّون أَنِّي فاعل بكم؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء " .
فأيُّ رحمة هذه؟ وأيُّ لين هذا الذي جعله الله في قلوب المؤمنين؟ وهل مِثْل هذا الدين يُعارَض ويُنْصَرف عنه؟
إذن : يُسلِّط الحق - تبارك وتعالى - الأشرار بعضهم على بعض ، وهذه آية نراها في الظالمين في كل زمان ومكان ، ويجلس الأخيار يرقبون مثل هذه الصراعات التي يُهلِك الله فيها الظالمين بالظالمين .
(1/6045)

ثم يقول سبحانه وتعالى : { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ . . } [ الحج : 40 ] صوامع جمع صومعة ، وهي مكان خاصٌّ للعبادة عند النصارى ، وعندهم مُتعبَّد عام يدخله الجميع هو الكنائس ، أما الصَّومعة فهي مكان خاص لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة ، ولا تكون الصَّوْمعة في حضر ، إنما تكون في الجبال والأودية ، بعيداً عن العمران لينقطع فيها الراهب عن حركة حياة الناس ، وهي التي يسمونها الأديرة وتوجد في الأماكن البعيدة .
وقد حرم الإسلام الرهبانية بهذا المعنى؛ لأنها رهبانية ما شرّعها الله ، كما قال سبحانه : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . . } [ الحديد : 27 ] .
ومعنى : { وَبِيَعٌ . . } [ الحج : 40 ] البِيعَ هي الكنائس .
فالحق - سبحانه وتعالى - مَا نَعَى عليهم الانقطاع للعبادة ، لكن نعى عليهم انقطاعهم عن حركة الحياة ، وأسباب العيش؛ لذلك قال : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . . } [ الحديد : 27 ] .
وقد أباح الإسلام أيضاً الترهُّب والانقطاع للعبادة ، لكن شريطة أن تكون في جَلْوة يعني : بين الناس ، لا تعتزل حركة الحياة ، إنما تعبَّد الله في كل حركة من حركات حياتك ، وتجعل الله تعالى دائماً في بالك ونُصْب عينيك في كُلِّ ما تأتي ، وفي كل ما تدَع ، إذن : هناك فَرْق بين مَنْ يعبد الله في خَلْوته ، ومَنْ يعبد الله في جَلْوته .
لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - قال عن الرجل الذي لازم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه يتكفّل به ويُنفق عليه ، قال : أخوه أعبد منه . كيف؟
قالوا : لأنك تستطيع أنْ تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة ، حين تُخِلص النية فيها لله عز وجل . ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر ، كلاهما يعمل ويجتهد لِيقُوتَ نفسه وأهل بيته ، ويحيا الحياة الكريمة ، وهذا هدف الجميع من العمل ، لكن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف لاستوى مع الكافر تماماً .
إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره ، المؤمن يفعل على قَدْر طاقته ، لا على قَدْر حاجته ، ثم يأخذ ما يحتاج إليه ويُنفِق من الباقي ويتصدَّق على مَنْ لا يقدر على الحركة الحياتية .
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ * والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 1 - 4 ] هل يعني : مُؤدُّون فقط؟ لا ، بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى ، وفي نيته مَنْ لا يقدر على السَّعْي والعمل ، فكأنه يُقبل على العمل ويجتهد فيه ، وفي نيته أنْ يعمل شيئاً لله بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا ما يُميِّز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر .
(1/6046)

وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلاثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني ، وكان مريضاً - رحمه الله ورضي الله عنه - وكان يسكن في حارة ، وفضَّلنا أن نأخذ ( تاكسي ) يُوصِّلنا بدل أن نمشي في وَحْل الشتاء ، وعند مدخل الحارة رفض سائق ( التاكسي ) الدخول وقال : إن أجرة التوصيل لا تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوَحْل ، وبعد إلحاح وافق وأوصلنا إلى حيث نريد ، فأعطيناه ضِعْف أجرته ، لكني قبل أن أنصرف قلتُ له : أنت لماذا تعمل على هذا ( التاكسي ) ولماذا تتعب؟ قال : من أجل مصالحي ومصالح أولادي ، فقلت له : وما يُضيرك إنْ زِدْتَ على ذلك وجعلْتَ في نيتك أنْ تُيسِّر بعملك هذا على الناس؟ فاهتمّ الرجل ولبسته الكلمة فقال : والله لا اردُّ راكباً أبداً .
ومعنى : { والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ] لم يقل مؤدون؛ لأن { فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ] تعني : أن نيتهم في الفعل أنْ يفعلوا على قَدْر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون منه .
إذن : حرَّم الإسلام الرهبانية التي تَحرِم المجتمع من مشاركة الإنسان فقال صلى الله عليه وسلم : " لا رهبانية في الإسلام " لأنه اعتبر كل حركة مقصودٍ منها صالحُ المجتمع كله حركةً إيمانية عبادية ، ومن هنا كان العمل عبادة .
وقد وضع العلماء شروطاً لمَنْ أراد الانقطاع للعبادة : أولها : ألاَّ يأخذ نفقته من أحد ، بمعنى أن يعمل أولاً لِيُوفِّر احتياجاته طوال فترة انقطاعه ، وصدق ( إقبال ) حين قال :
لَيْسَ زُهْداً تصوف من تقي ... فرَّ من غَمْرة الحيَاةِ بدين
إنما يُعرَفُ التصَوفُ في ال ... سُّوق بمالٍ ومَطْمعٍ وفُتُون
ثم يقول تعالى : { وَصَلَوَاتٌ . . } [ الحج : 40 ] وهذه لليهود يُسمُّون مكان التعبد : صَالوتاً . لكن ، لماذا لم يرتبها القرآن ترتيباً زمنياً ، فيقول : لهدمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا : لأن القرآن يُؤرِّخ للقريب منه فالأبعد .
{ وَمَسَاجِدُ . . } [ الحج : 40 ] وهذه للمسلمين { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً . . } [ الحج : 40 ] .
وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل { لَّهُدِّمَتْ . . } [ الحج : 40 ] فهذا دليل على أنه لا بُدَّ أن يكون للمسلمين مكان يُحكر للعبادة ، وإنْ جُعِلَتْ الأرض كلها لهم مسجداً وطَهُوراً ، ومعنى ذلك أنْ تصلي في أيِّ بقعة من الأرض ، وإنْ عُدِم الماء تتطهر بترابها ، وبذلك تكون الأرض مَحَلاً للعبادة ومَحَلاً لحركة الحياة وللعمل وللسَّعْي ، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مثلاً وتُصلِّي فيه ، لكن الحق سبحانه يريد منا أن نُخصِّص بعض أرضه ليكون بيتاً له تنقطع منه حركة الحياة كلها ، ويُوقَف فقط لأمور العبادة .
لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بنى لله مسجداً ولو كمِفْحَصِ قَطَاةٍ بنى الله له بيتاً في الجنة " .
فقوله تعالى : { لَّهُدِّمَتْ . . وَمَسَاجِدُ . . } [ الحج : 40 ] تدل على مكان خاص للعبادة وإلاَّ لو اعتُبرَتْ الأرضُ كلها مسجداً ، فماذا تهدم؟
وعليه ، فكل مكان تُزاوَل فيه أمورٌ غير العبادة لا يُعتبر مسجداً ، كأماكن الصلاة التي يتخذونها تحت العمارات السكنية ، هذه ليست مساجد ، والصلاة فيها كالصلاة في الشارع وفي البيت؛ لأن المسجد ( مكان ) وما يُبنى عليه ( مكين ) .
(1/6047)

والمسجدية تعني : المكان من الأرض إلى السماء ، بدليل أننا في بيت الله الحرام نصلي فوق سطح المسجد ، ونتجه لجوِّ الكعبة ، لا للكعبة ذاتها ، لماذا؟ لأن جَوَّ الكعبة إلى السماء كعبة ، وكذلك لو كنا في مخابيء أو في مناجم تحت الأرض؛ لأن ما تحت الكعبة من الأرض كعبة . وكذلك في المسْعَى مَسْعَى .
إذن : المسجد ما حُكِر للعبادة ، وخُصِّص للمسجدية من أرضه إلى سمائه ، وهذا لا يُمارس فيه عمل دنيوي ولا تُعقد فيه صفقة . . إلخ .
أما أنْ نجعل المسجد تحت عمارة سكنية ، وفوق المسجد مباشرة يباشر الناس حياتهم ومعيشتهم بما فيها من هَرج ولَهْو ، حلال وحرام ، وطهارة ونجاسة ، ومعاشرة زوجية . . إلخ فهذا كله يتنافى مع المسجدية التي جعلها الله حِكْراً للعبادة من الأرض إلى السماء . فلنُسَمِّ هذه الأماكن : مُصلّى . ولا نقول : مسجد .
ثم يصف الحق سبحانه المساجد بقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً . . } [ الحج : 40 ] لأن ذِكْر الله في المساجد دائم لا ينقطع ، ونحن لا نتحدث عن مسجد ، ولا عن مساجد قُطْر من الأقطار ، إنما المراد مساجد الدنيا كلها من أقصى الشرق لأقصى الغرب ، ومن الشمال للجنوب .
ولو نظرتَ إلى أوقات الصلوات لرأيتَ أنها مرتبطة بحركة الفلك وبالشمس في الشروق ، وفي الزوال ، وفي الغروب ، وباعتبار فارق التوقيت في كل بلاد الله تجد أن ذِكْر الله دائم لا ينقطع أبداً في ليل أو نهار ، فأنت تُؤذِّن للصلاة ، وغيرُك يقيم ، وغيركما يصلي ، أنت تصلي الظهر ، وغيرك يصلي الصبح أو العصر ، بل أنت في الركعة الأولى من الصبح ، وغيرك في الركعة الثانية ، أنت تركع وغيرك يسجد .
إذن : هي منظومة عبادية دائمة في كل وقت ، ودائرة في كل مكان من الأرض ، فلا ينفكّ الكون ذاكراً لله . أليس هذا ذِكْراً كثيراً؟ أليستْ كلمة ( الله أكبرُ ) دائرة على ألسنة الخلق لا تنتهي أبداً؟
ثم لما كان دَفْع الله الناسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة تُسْفر عن منتصر ومنهزم ، قال سبحانه : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ . . } [ الحج : 40 ] فإنْ كان التدافع بين الكفار فإنه لا ينتهي ، وإنْ كان بين حقٍّ لله وباطل حكم الله بأنه باطل لا بُدَّ أن تنتهي بنُصْرة الحق ، وغالباً لا تطول هذه المعركة؛ لأن الحق دائماً في حضانة الله ، إنما تطول المعارك بين باطل وباطل ، فليس أحدهما أَوْلَى بنُصْرة الله من الآخر ، فيظل كل منهما يطحن في الآخر ، وإنْ لم تكن حرباً ساخنة كانت حرباً باردة ، لماذا؟ لأنه لا يوجد قويٌّ لا هوى له يستطيع أن يفصل فيها ، وطالما تدخّل الهوى تستمر المعركة .
(1/6048)

يبقى في القسمة العقلية المعركة بين حق وحق ، وهذه لا وجودَ لها؛ لأن الحق واحد في الوجود ، فلا يمكن أنْ يحدث تصادم أبداً بين أهل الحق .
والحق - تبارك وتعالى - في نُصْرته لأوليائه يستطيع أن ينصرهم دون حرب ، ويُهلك أعداءهم ، لكن الحق سبحانه يريد أنْ يأخذوا هم بأسباب النصر؛ لذلك يُعلّمهم أصول هذه المسألة ، فيقول سبحانه : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ . . } [ محمد : 4 ] .
ومعنى { أَثْخَنتُمُوهُمْ . . } [ محمد : 4 ] يعني : جعلتموهم لا يقدرون على الحركة { فَشُدُّواْ الوثاق . . } [ محمد : 4 ] لا تُجهِزوا عليهم ، ولا تقتلوهم ، إنما شُدُّوا قيودهم واستأسِروهم ، وهذه من رحمة الإسلام وآدابه في الحروب ، فليس الهدف القتل وإزهاق الأرواح ثم { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً . . } [ محمد : 4 ] مَنّاً إنْ كان هناك تبادل للأسرى . فأنت تمنُّ وهو يمنُّ . والفداء أنْ يفدي نفسه .
وكانت هذه المسألة حجة لنا حينما نتحدث عن الرقِّ في الإسلام ، ونرد على هؤلاء الذين يحلو لهم اتهام الإسلام ، ويستخدمون في ذلك السفسطة والمراوغة اللغوية لإقناع الناس بأن الإسلام ساهم في نِشْر الرقِّ والعبودية .
ونقول : لقد جاء الإسلام والرق موجود ومنتشر لم يُشرِّعه الإسلام ، ولم يُوجِدْه بداية ، حيث كانت أسباب الرق كثيرة ، وأسباب الاستعباد متعددة : فَمنْ تحمّل دَيْناً وعجز عن سدادة يُسْتعبد لصاحب الدين ، ومَنْ عمل ذنباً وخاف من عقوبته أخذوه عبداً ، ومَنْ اختطفه الأشرار في الطريق جعلوه عبداً . . إلخ .
فلما جاء الإسلام عمل على سَدِّ منابع الرقِّ هذه ، وجعل الرقَّ مقصوراً على الحرب المشروعة . ثم فتح عدة مصارف شرعية للتخلُّص من الرق القائم ، حيث لم يكُنْ موجوداً من أبواب العتق إلا إرادة السيد في أنْ يعتق عبده ، فأضاف الإسلام إلى هذا الباب أبواباً أخرى ، فجعل العتق كفارة لبعض الذنوب ، وكفارة لليمين ، وكفارة للظِّهار ، وحثَّ على الصدقة في سبيل العتق ، ومساعدة المكاتب الذي يريد العتق ويسعى إليه . . إلخ .
فإذا لم تعتق عبدك ، فلا أقل من أن تطعمه من طعامك ، وتُلْبسه من ملبسك ، ولا تُحمِّله ما لا يطيق ، وإنْ حمَّلْته فأعِنْه ، وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هم إخوانكم " .
ونلاحظ على الذين يعيبون على الإسلام مسألة الرقِّ في الحروب أنهم يقارنون بين الرِّق والحرية ، لكن المقارنة هنا ليستْ كذلك ، المقارنة هنا بين الرق والقتل؛ لأنه لا يُسترقّ إلا مَنْ قدر المسترقُّ عليه وتمكَّن منه في المعركة ، وكان باستطاعته قَتْله ، لكن رحمة الله بعباده منعتْ قتله ، وأباحت أَخْذه رقيقاً ، فالنفعية للمقاتل المنتصر يقابلها حَقْن دم الآخر ، ثم بعد انتهاء الحرب نحثُّ على عتقه ، ونفتح له أبواب الحرية .
إذن : لا تقارن بين عبد وحر ، إنما قارن بين العبودية والقتل : أيهما أقلّ ضرراً؟
لذلك قال تعالى :
(1/6049)

{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 - 15 ] .
هذه نتائج سِتٌّ للأمر { قَاتِلُوهُمْ . . } [ التوبة : 14 ] وجواب الأمر مجزوم بالسكون كما في ( يُعذِّبْهم ) ومجزوم بحذف حرف العلة كما في ( وَيُخْزِهِم ) ، والخزي لأنهم كانوا مغترين بقوتهم ، ولديهم جبروت مفتعل ، يظنون أَلاَّ يقدر عليهم أحد ، وكذلك في : ينصركم ، ويشف ، ويذهب .
ثم قطع السياقُ الحكمَ السابق ، واستأنف كلاماً جديداً ، وإنْ كان معطوفاً على ما قبله في اللفظ ، وهذا مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني ، ومَلْحَظ لرحمة الله تعالى حتى بالكفار ، فقال تعالى : { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ . . } [ التوبة : 15 ] هكذا بالرفع ، لا بالجزم فقطع الفعل ( يتوب ) عما قبله؛ لأن الله تعالى لم يشأ أن يشرِّك بينهم حتى في جواب الأمر .
وحتى على اعتبار أنهم هُزِمُوا ، وكُسِرت شوكتهم ، وضاعتْ هيبتهم ، لعلهم يفيقون لأنفسهم ، ويعودون للحق ، وهذه من رحمة بالكافرين في معاركهم مع الإيمان .
لكن ، لماذا يتوب الله على الكفار ويرحمهم وهم أعداء دينه وأعداء نبيه؟ قالوا : لأنه سبحانه وتعالى ربهم وخالقهم ، وهم عباده وعياله ، وهو أرحم بهم ، ومرادات الله في الخَلْق أن يكونوا جميعاً طائعين .
لذلك ، يقول سبحانه في الحديث القدسي : " قالت السماء : يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الأرض : يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك " " .
فالكون كله ناقم على الكافرين ، متمرد على العصاة ، مغتاظ منهم ، فماذا قال الحق - تبارك وتعالى - لهم؟ قال سبحانه : " دعوني وخَلْقي ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، فإنْ تابوا إليَّ ، فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " .
نعود إلى قوله تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ . . } [ الحج : 40 ] وما دام أن النصر من عند الله فإياكم أنْ تبحثوا في القوة أو تقيسوا قوتكم بقوة عدوكم ، فلربك عز وجل جنود لا يعلمها إلا هو ، ووسائل النصر وأنت في حضانة الله كثيرة تأتيك من حيث لا تحتسب وبأهْون الأسباب ، أقلّها أن الله يُريكم أعداءكم قليلاً ويُكثِّر المؤمنين في أعين الكافرين ليفتَّ ذلك في عَضُدهم ويُرهبهم ويُزعزع معنوياتهم ، وقد يحدث العكس ، فيرى الكفار المؤمنين قليلاً فيجترئون عليهم ، ويتقدمون ، ثم تفاجئهم الحقيقة .
إذن : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ . . } [ المدثر : 31 ] فلا تُعوِّل فقط على قوتك وتحسب مدى تكافُئِك مع عدوك ، دَعْكَ من هذه الحسابات ، وما عليك إلا أنْ تستنفد وسائلك وأسبابك ، ثم تدع المجال لأسباب السماء .
(1/6050)

وأقلُّ جنود ربك أنْ يُلقي الرعب في قلوب أعدائك ، وهذه وحدها كافية ، ويُرْوى أنهم في إحدى المعارك الإسلامية تغيرت رائحة أفواه المسلمين ، وأحسُّوا فيها بالمرارة لطول فترة القتال ، فأخرجوا السواك يُنظفِّون أسنانهم ، ويُطيِّبون أفواههم ، عندها قال الكفار : إنهم يسنُّون أسنانهم ليأكلونا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب من حيث لا يدرون .
ثم يقول تعالى : { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] عزيز : يعني لا يُغلب ، وما دام أن الله تعالى ينصر مَنْ نصره فلا بُدَّ أن تنتهي المعركة بالنصر مهما خارتْ القوى ومهما ضَعُفتْ ، ألم يكُن المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين ، لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه بين الكفار؟
ولما نزل قول الله تعالى وهم على هذه الحال : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] تعجب عمر بفراسته وعبقريته : أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ونحن غير قادرين حتى حماية أنفسنا؟ فلما رأى يوم بدر قال : صدق الله { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
فما دام أن الله قوي عزيز فلا بُدَّ أن ينصركم ، وهذه مسألة محكوم بها أزلاً : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي . . } [ المجادلة : 21 ] .
فإذا تمَّتْ لكم الغَلَبة ، فاعلموا أن لك دَوْراً ، أَلاَ وهو : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة . . }
.
(1/6051)

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
معنى : { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض . . } [ الحج : 41 ] جعلنا لهم سلطاناً وقوة وغَلَبة ، فلا يَجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم ، وعليهم أنْ يعلموا أن الله ما مكَّنهم ونصرهم لذاتهم ، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح وينقوا الخلافة الإنسانية في الأرض من كُلِّ ما يُضعِف صلاحها أو يفسده .
لذلك ، سيدنا سليمان عليه السلام كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد ، فداخله شيء من الزهو ، فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه ، ثم سمع من البساط مَنْ يقول له : أُمِرْنا أن نطيعك ما أطعتَ الله .
والممكَّن في الأرض الذي أعطاه الله البأْس والقوة والسلطان ، يستطيع أنْ يفرض على مجتمعه ما يشاء ، حتى إنْ مُكِّن في الأرض بباطل يستطيع أنْ يفرض باطله ويُخضِع الناس له ، ولو إلى حين .
فماذا يُناط بالمؤمن إنْ مُكِّن في الأرض؟
يقول تعالى : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة . . } [ الحج : 41 ] ليكونوا دائماً على ذكْر وولاء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين؛ ذلك لأنهم يترددون عليه سبحانه خَمْس مرات في اليوم والليلة .
{ وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } [ الحج : 41 ] فهذه أسس الصلاح في المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع .
{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } [ الحج : 41 ] يعني : النهاية إلينا ، وآخر المطاف عندنا ، فمَن التزم هذه التوجيهات وأدَّى دوره المنُوط في مجتمعه ، فبها ونِعْمتْ ، ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة .
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يهتم بما يفعله قوم من كفر وعناد ومجابهة للدعوة : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ . . }
.
(1/6052)

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ . . } [ الحج : 42 ] يعني : في دعوتك فيواجهونك ، ويقفون في سبيل دعوتك ليبطلوها ، فاعلم أنك لست في ذلك بِدْعاً من الرسل ، فقد كُذِّب كثير من الرسل قبلك ، وعليك أَلاَّ تلاحظ مسألة التكذيب منفصلةً عن عاقبته ، نعم : كذب القوم لكن كيف كانت العاقبة؟ اتركناهم أم أخذناهم أَخْذ عزيز مقتدر؟
فلا تحزن ، فسوف يحلُّ بهم ما حَلَّ بسابقيهم من المكذِّبين والمعاندين .
وقلنا : إن الرسول يتحمّل من مشقة الرسالة وعناء الدعوة على قَدْر رسالته ، فكلُّ رسل الله قبل محمد كان الرسول يُرْسَل إلى قومه خاصة ، وفي مدة محدودة ، وزمان محدود ، ومع ذلك تعبوا كثيراً في سبيل دعوتهم ، فما بالك برسول بُعِثَ إلى الناس كافة في كل زمان وفي كل مكان ، لا شَكَّ أنه سيتحمل من التعب والعناء أضعاف ما تحمِّله إخوانه من الرسل السابقين .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُعد رسوله صلى الله علية وسلم ويُوطِّنه على تحمُّل المشاقِّ من بداية الطريق حتى لا تفتّ في عَضُده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدعوة ، يقول له : ليست السيادة أمراً سهلاً ، إنما دونها متاعب وأهوال ومصاعب فاستعد ، كما تنبه ولدك : انتبه ، فالامتحانات ستأتي هذا العام صعبة ، فالوزارة تريد تقليل عدد المتقدمين للجامعة ، فاجتهد حتى تحصل على مجموع مرتفع ، وحين يسمع الولد هذا التنبيه يُجمع تماسكه ، ويجمع تركيزه ، فلا يهتز حين يواجه الامتحانات .
ثم يذكر الحق - تبارك وتعالى - نماذج للمكذِّبين للرسل : { وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ . . }
.
(1/6053)

وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين ، إلا في قصة موسى فذكر المكذَّب ، فلم يَقُل : وقوم موسى بل قال : وكُذِّب موسى ، لماذا؟ قالوا : لأن مهمته كانت أصعب حيث تعرَّض في دعوته لمنِ ادَّعى الألوهية ذاتها .
وقوله تعالى : { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ . . } [ الحج : 44 ] أمليت : أمهلْتُ حتى ظنوه إهمالاً ، وهو إمهال بأنْ يمدّ الله لهم ، ويطيل في مدتهم ، لا إكراماً لهم ، ولكن ليأخذهم بعد هذا أخْذ عزيز مقتدر ، وفي آية أخرى يُوضِّح لنا هذه البرقية المختصرة ، فيقول سبحانه : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً . . } [ آل عمران : 178 ]
وفي هذا المعنى يقول أيضاً : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .
إذن : لا تغتر بما في أيديهم؛ لأنه فتنة ، حتى إذا أخذهم الله كانت حسرتهم أكبر ، فمن عُدم هذه النعم لا يتعلق قلبه بها ، ولا يألَم لفقدها .
وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول ، وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه ، لكن فوجئ الجميع بأنه يُولِّيه منصباً مرموقاً في القاهرة ، فتعجّب الناس وسألوه في ذلك فقال : نعم ، وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسَّر عليها حين تُسْلَب منه ، وتكون أنكى له . يعني : يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته ، لأنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثلا ً؟!!
ثم يقول تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الحج : 44 ] الحق سبحانه يُلقِي الخبر في صورة استفهام لتقول أنت ما حدث وتشهد به .
والمراد : أعاقبناهم بما يستحقون؟
والنكير : هو الإنكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة ، كالذي يُكرمك ويُواسيك ويَبَشُّ في وجهك ويُغدق عليك ، ثم يقطع عنك هذا كله ، فتقول : لماذا تنكَّر لي فلان؟ يعني : قطع عني نعمته .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أن ينتزع مِنَّا الإقرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه ومُكذِّبي رسله ، وهذا المعنى جاء أيضاً في قوله تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29 - 36 ] يعني : هل جُوزي الكفار بما عملوا؟ وهل استطعنا أنْ نعاقبهم بما يستحقون من العذاب؟
{ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الحج : 44 ] أي : إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدَّلها الله عليهم نقمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا . . }
.
(1/6054)

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قوله تعالى : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ . . } [ الحج : 45 ] ( كأيِّن ) أداة تدل على الكَثْرة مثل : كم الخبرية حين تقول : كَمْ أحسنتُ إليك . تعني مرات عديدة تفوق الحصر ، فهي تدل على المبالغة في العدد والكمية ، ومنها قوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ . . } [ آل عمران : 146 ] .
والقرية : اسم للمكان ، وحين يُهلِك الله القرية لا يُهلك المكان ، إنما يهلك المكين فيه ، فالمراد بالقرية أهلها ، كما ورد في قوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا . . } [ يوسف : 82 ] أي : اسأل أهل القرية .
ويحتمل أن يكون المعنى : اسأل القرية تُجبك ، لأنك لو سألتَ أهل القرية فلربما يكذبون ، أمَّا القرية فتسجل الأحداث وتُخبِر بها كما حدثت .
وقد يتعدى الهلاك إلى القرية ذاتها ، فيغير معالمها بدليل قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا . . } [ النمل : 52 ] .
ومعنى : { أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ . . } [ الحج : 45 ] أي : بسبب ظُلْمها ، ولا يُغيِّر الله ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ، وفي آية أخرى يقول تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] .
فهلاك القُرَى لا بُدَّ أن يكون له سبب ، فلما وقع عليها الهلاك أصبحت { خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا . . } [ الحج : 45 ] الشيء الخاوي يعني : الذي سقط وتهدَّم على غيره ، وقوله : { على عُرُوشِهَا . . } [ الحج : 45 ] يدل على عِظَم ما حَلَّ بها من هلاك ، حيث سقط السقف أولاً ، ثم انهارت عليه الجدران ، أو : أن الله تعالى قَلَبها رأساً على عَقِب ، وجعل عاليها سافلها .
وقوله سبحانه : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ . . } [ الحج : 45 ] البئر : هو الفجوة العميقة في الأرض ، بحيث تصل إلى مستوى الماء الجوفيّ ، ومنه يُخرجون الماء للشُّرْب وللزراعة . . إلخ ومنه قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ . . } [ القصص : 23 ] أي : البئر الذي يشربون منه .
والبئر حين تكون عاملة ومُسْتفاداً منها تلحظ حولها مظاهر حياة ، حيث ينتشر الناس حولها ، وينمو النبات على بقايا المياه المستخرجة منها ، ويحوم حولها الطير ليرتوي منها ، أما البئر المعطّلة غير المستعملة فتجدها خَرِبة ليس بها علامات حياة ، وربما تسفو عليها الرياح ، وتطمسها فتُعطَّل وتُهجَر ، فالمراد معطلة عن أداء مهمتها ، ومهمة البئر السُّقيا .
{ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] القصر : اسم للمأوى الفَخْم؛ لأن المأوى قد يكون خيمة ، أو فسطاطاً ، أو عريشة ، أو بيتاً ، أو عمارة ، وعندما يرتقي الإنسان في المأوى فيبني لنفسه شيئاً خاصاً به ، لكن لا بُدَّ له أنْ يخرج لقضاء لوازم الحياة من طعام وخلافه ، أما القصر فيعني مكان السكن الذي يتوفر لك بداخله كل ما تحتاج إليه ، بحيث لا تحتاج إلى الخروج منه ، يعني : بداخله كل مُقوِّمات الحياة . ومنه : سميت الحور مقصورات في قوله تعالى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام }
(1/6055)

[ الرحمن : 72 ] يعني : لا تتعداها ولا تخرج منها .
و { مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] من الشيد ، وهو الجير الذي يستعمل كَمُونَةٍ في بناء الحجر يعني : مادة للصق الحجارة ، وجَعْلها على مستوى واحد ، وقديماً كان البناء بالطوب اللَّبن ، والمونة من الطين ، أما في القصور والمساكن الفخمة الراقية فالبناء بالحجر ، والمشيد أيضاً العالي المرتفع ، ومنه قولهم : أشاد به يعني : رفعه وأعْلى من مكانته ، والارتفاع من مَيْزات القصور ، ومعلوم أن مقاسات الغرف في العمارات مثلاً غيرها في القصور ، هذه ضيقة منخفضة ، وهذه واسعة عالية .
وفي قوله تعالى { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] دليل على أن هؤلاء المهلْكين كانوا من أصحاب الغِنَى والنعيم ، ومن سكان القصور ومِنْ عِلْية القوم .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا . . }
.
(1/6056)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
السَّيْر : قَطْع مسافات من مكان إلى آخر ، ويسمونه السياحة ، والحق سبحانه يدعو عباده إلى السياحة في أنحاء الأرض؛ لأن للسياحة فائدتين :
فإما أنْ تكون سياحة استثمارية لاستنباط الرزق إنْ كنتَ في مكان يضيق بك العيش فيه ، كهؤلاء الذين يسافرون للبلاد الأخرى للعمل وطلب الرزق .
وإما أن تكون سياحة لأَخْذ العبرة والتأمل في مخلوقات الله في مُلْكه الواسع ليستدل بخَلْق الله وآياته على قدرته تعالى .
والسياحة في البلاد المختلفة تتيح لك فرصة ملاحظة الاختلافات من بيئة لأخرى ، فهذه حارة وهذه باردة ، وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء لا يوجد بها حبة رمل ، لذلك يخاطبنا ربنا تبارك وتعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا . . } [ الأنعام : 11 ]
فالعطف في الآية ب ( ثُمَّ ) يدل على أن للسياحة مهمة أخرى ، هي الاستثمار وطلب الرزق ، ففي الآية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين ، فحين تذهب للعمل إياك أنْ تغفل عن آيات الله في المكان الذي سافرت إليه ، وخُذْ منه عبرة كونية تفيدك في دينك .
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ . . } [ النمل : 69 ]
العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب ، يعني : سيروا في الأرض لتنظروا آيات الله ، فهي خاصة بسياحة الاعتبار والتأمل ، لا سياحة الاستثمار وطلب الرزق .
لذلك يقولون في الأمثال : ( اللي يعيش ياما يشوف ، واللي يمشي يشوف أكثر ) فكلما تعددتْ الأماكن تعددت الآيات والعجائب الدالة على قدرة الله ، وقد ترى منظراً لا يؤثر فيك ، وترى منظراً آخر يهزُّك ويُحرِّك عواطفك ، وتأملاتك في الكون .
وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ . . } [ الحج : 46 ] تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلاً ، كما تقول : أفلم أُكرمك؟ ولا تقول هذا إلا إذا أكرمته فعلاً ، وقد حدث أنهم ساروا فعلاً في البلاد أثناء رحلة الشتاء والصيف ، وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين ، كما قال تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . . } [ الصافات : 137 ] .
يعني : أنتم أهل سَيْر وترحال وأهل نظر في مصير مَنْ قبلكم ، فكيف يقبل منكم الانصراف عن آيات الله؟
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] فما داموا قد ساروا وترحلَّوا في البلاد ، فكيف لا يعقلون آيات الله؟ وكيف لا تُحرِّك قلوبهم؟
ولنا وقفة عند قوله تعالى : { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ . . } [ الحج : 46 ] وهل يعقِل الإنسانُ بقلبه؟ معلوم أن العقل في المخ ، والقلب في الصدر .
نعم ، للإنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسَّات يُسمُّونها تأدُّباً مع العلم : الحواس الخمس الظاهرة؛ لأن العلم أثبت للإنسان في وظائف الأعضاء حواساً أخرى غير ظاهرة ، فحين تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميِّز أيهما أثقل من الآخر ، فبأيِّ حاسة من الحواس الخمس المعروفة توصلْتَ إلى هذه النتيجة؟
إنْ قُلْتَ بالعين فدعْها على الأرض وانظر إليها ، وإنْ قُلْتَ باللمس فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها من مكانها ، إذن : فأنت لا تدرك الثقل بهذه الحواس ، إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة العَضَلِ الذي يُميِّز لك الخفيف من الثقيل .
(1/6057)

وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك ، فتستطيع أنْ تُميِّز الثخين من الرقيق ، مع أن الفارق بينهما لا يكاد يُذْكَر ، فبأيِّ حاسة أدركْتَه؟ إنها حاسة البَيْن . كذلك هناك حاسة البُعْد وغيرها من الحواسّ التي يكتشفها العلم الحديث في الإنسان .
فلما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخَّل العقل ليغربل هذه المدركات ، ويختار من البدائل ما يناسبه ، فإنْ كان سيختار ثوباً يقول : هذا أنعم وأرقّ من هذا ، وإنْ كان سيختار رائحة يقول : هذه ألطف من هذه ، إنْ كان في الصيف اختار الخفيف ، وإنْ كان في الشتاء اختار السميك .
وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذِّهْن وتقتنع بها ، ولا تحتاج لإدراك بعد ذلك ، ولا لاختيار بين البدائل ، وعندها تنفذ ما استقر في نفسك ، وارتحْتَ إليه بقلبك .
إذن : إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب ، وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد أصبح دستوراً لحياتك ، وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه ، واستقر في قلبك ووجدانك .
لكن ، لماذا القلب بالذات؟ قالوا : لأن القلب هو الذي يقوم بعملية ضَخِّ سائل الحياة ، وهو الدم في جميع إجزاء الجسم وجوارحه ، وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان؛ لذلك قالوا : الإيمان محلّه القلب ، كيف؟ قالوا : لأنك غربلْتَ المسائل وصفَّيْت القضايا إلى أن استقرت العقيدة والإيمان في قلبك ، والإيمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرَّ فيه ، ومن القلب تمتد العقيدة إلى جميع الأعضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا الإيمان ، وما دُمْتَ قد انتهيتَ إلى مبدأ وعقيدة ، فإياك أنْ تخالفه إلى غيره ، وإلاَّ فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه .
وكلمة { يَعْقِلُونَ بِهَآ . . } [ الحج : 46 ] تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين البدائل ، فالعقل من مهامه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ ، ويعقله أنْ يشرد في المتاهات ، والبعض يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأنْ يشطح المرء بعقله في الأفكار كيف يشاء ، لا ، العقل من عِقَال الناقة الذي يمنعها ، ويحجزها أنْ تشرُدَ منك .
ثم يقول سبحانه : { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا . . } [ الحج : 46 ] كيف ولهؤلاء القوم آذان تسمع؟ نعم ، لهم آذان تسمع ، لكن سماع لا فائدة منه ، فكأن الحاسَّة غير موجودة ، وإلا ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم تستفد به ولم تُوظِّفه في حركة حياتك ، إنه سماع كعدمه ، بل إن عدمه أفضل منه؛ لأن سماعك يقيم عليك الحجة .
(1/6058)

{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] فعمي الأبصار شيء هيِّن ، إذا ما قِيسَ بعمى القلوب؛ لأن الإنسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع ، وأنْ يُعمل عقله ، وأنْ يهتدي ، ومَا لا يراه يمكن أنْ يخبره به غيره ، ويَصِفه له وَصْفا دقيقاً وكأنه يراه ، لكن ما العمل إذا عَميَتْ القلوب ، والأنظار مبصرة؟
وإذا كان لعمى الأبصار بديل وعِوَض ، فما البديل إذا عَمي القلب؟ الأعمى يحاول أنْ يتحسَّس طريقه ، فإنْ عجز قال لك : خُذْ بيدي ، أما أعمى القلب فماذا يفعل؟
لذلك ، نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر : أعمى قَلْب . يعني : طُمِس على قلبه فلا يعي شيئاً .
وقوله : { القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] معلوم أن القلوب في الصدور ، فلماذا جاء التعبيرهكذا؟ قالوا : ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي ، حتى لا تظن أنه القلب التفكيريّ التعقليّ ، كما جاء في قوله تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم . . } [ آل عمران : 167 ]
ومعلوم أن القَوْل من الأفواه ، لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلام؛ لأن القول قد يكون بالإشارة والدلالة ، فالقول بالكلام هو أبلغ أنواع القول وآكده؛ لذلك قال الشاعر :
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ... ولاَ يُلْتَامُ مَا جَرَح اللسَانُ
ويقولون : احفظ لسانك الذي بين فكَّيْك ، وهل اللسان إلا بين الفكَّيْن؟ لكن أراد التوكيد على القول والكلام خاصة ، لا على طرق التفاهم والتعبير الأخرى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ . . }
.
(1/6059)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
ألم يقولوا في استعجال العذاب : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . . } [ الأنفال : 32 ] .
وقالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 70 ] .
ولا يستعجل الإنسانُ العذابَ إلا إذا كان غَيْرَ مؤمن به ، المؤمن بالعذاب - حقيقةً - يخاف منه ، ويريد أنْ يبطئ عنه أو أنْ ينجوَ منه . والمعنى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب . . } [ الحج : 47 ] أنهم يظنون أنَّه إنْ توعّدهم الله بالعذاب فإنه سيقع لِتَوِّه . لذلك ، الحق سبحانه يصحح لهم هذا الفهم ، فيقول : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ . . } [ الحج : 47 ] فلا تتعجلوا توعّدكم به ، فهو واقع بكم لا محالة؛ لأنه وَعْد من الله ، والله لا يُخلِف وعده ، لكن اعلموا أن اليوم عند الله ليس كيومكم ، اليوم عندكم أربع وعشرون ساعة ، أما عند الله فهو كألف سنة من حسابكم أنتم للأيام .
واليوم زمن يتسع لبعض الأحداث ، ولا يسع أكثر مما قدِّر أن يُفعل فيه من الأحداث ، أما اليوم عند الله - عَزَّ وجَلَّ - فيسع أحداثاً كثيرة تملأ من الزمن ألف سنة من أيامكم؛ ذلك لأنكم تزاولون الأعمال وتعالجونها ، أما الخالق سبحانه فإنه لا يزاول الأفعال بعلاج ، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كُنْ فيكون ، ففِعْلُك يحتاج إلى وقت ، أما فِعْل ربك فبكلمة كُنْ . وقد شاء الحق سبحانه أنْ يعيشَ هؤلاء في عذاب التفكير في هذا الوعيد طول عمرهم ، فيُعذّبون به قبل حدوثه .
إذن : لا تظن أن العذاب الذي توعّدكم به سيحدث اليوم أو غداً ، لا؛ لأن حساب الوقت مختلف .
ألم تقرأ قول الله تعالى لنبيه موسى - عليه السلام - لمَّا دعا على قومه : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم . . } [ يونس : 88 ]
قال له ربه : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا . . } [ يونس : 89 ] .
ويقول المفسرون : حدثتْ هذه الإجابة لموسى بعد أربعين سنة من دعوته عليهم .
وفي موضع آخر يقول تعالى : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] .
وتزيد هذه المدة في قوله سبحانه : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] لماذا؟ لأن الزمن عندكم في هذه الحالة مُعطَّل ، فأنتم من هَوْل ما تروْنَ تستطيلون القصير ، ويمر عليكم الوقت ثقيلاً؛ لذلك تتمنون الانصراف ولو إلى النار .
كما أن صاحب النعيم يستقصر الطويل ، ويمر عليه الوقت كأنه لمح البصر ، ومن ذلك ما تلاحظه من قِصَر الوقت مع الأحبة وطوله مع الأعداء ومَنْ لا يهواه قلبك ، ولهذه المسألة شواهد كثيرة في شعرنا العربي ، منها قول أحدهم :
حَادِثَاتُ السُّرورِ تُوزَنُ وَزْناً ... وَالبَلايَا تُكَال بالقُفْزَان
وقول الآخر :
لَمْ يَطُلْ لَيْلِي ولكِنْ لَمْ أَنَمْ ... ونَفَى عَنِّي الكَرَى طَيْفٌ أَلَمّ
ويقول ابن زيدون :
إنْ يَطُلْ بعدَكَ لَيْلِي فَلَكَمْ ... بِتُّ أشكُو قِصَرَ الليْلِ مَعَك
ثم يقول سبحانه : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ . . }
.
(1/6060)

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{ وَكَأَيِّن . . } [ الحج : 48 ] قلنا : تدل على الكثرة يعني : كثير من القرى ، { أَمْلَيْتُ . . } [ الحج : 48 ] : أمهلتُ ، لكن طوال الإمهال لا يعني الإهمال؛ لأن الله تعالى يُملي للكافر ويُمهله لأجل ، فإذا جاء الأجل والعقاب أخذه .
{ ثُمَّ أَخَذْتُهَا } [ الحج : 48 ] وأخْذُ الشيء يتناسب مع قوة الآخذ وقدرته وعنف الانتقام بحسب المنتقم ، فإذا كان الآخذ هو الله عز وجل ، فكيف سيكون أَخْذه؟
في آية أخرى يوضح ذلك فيقول : { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] لا يُغَالب ، ولا يمتنع منه أحد ، وكلمة الأَخْذ فيها معنى الشدة والعنف والقَهْر .
ثم يقول سبحانه : { وَإِلَيَّ المصير } [ الحج : 48 ] يعني : المرجع والمآب ، فلن يستطيعوا أنْ يُفلِتوا .
إذن : الإملاء : تأخير العذاب إلى أجل معين ، كما قال سبحانه : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] .
هذا الأجل قد يكون لمدة ، ثم يقع بهم العذاب ، كما حدث في الأمم السابقة التي أهلكها الله بالخسْف أو بالغرق . . الخ ، أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون الإملاء بأحداث سطحية في الدنيا ، كالذي حَلَّ بالكفار من الخِزْي والهوان والهزيمة وانكسار شوكتهم ، أمّا العذاب الحقيقي فينتظرهم في الآخرة .
لذلك يقول الحق - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تستبطئ عذابهم والانتقام منهم في الدنيا ، فما لم تَرَهُ فيهم من العذاب في الدنيا ستراه في الآخرة : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ . . }
.
(1/6061)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
والإنذار نوع من الرحمة ، لأنك تخبر بشرٍّ قبل أوانه ، ليحذره المنذَر ، ويحاول أنْ يُنجي نفسه منه ، ويبتعد عن أسبابه ، فحين أُذكّرك بالله ، وأنه يأخذ أعداءه أخْذَ عزيز مقتدر ، فعليك أنْ تربأ بنفسك عن هذه النهاية ، وأن تنجوَ من دواعي الهلاك .
ومعنى { مُّبِينٌ } [ الحج : 49 ] محيط ، لا يترك صغيرة ولا كبيرة .
(1/6062)

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذراة ، وأثمرتْ فيهم ، فآمنوا بالله إلهاً فاعلاً مختاراً له صفات الكمال المطلق ، ثم عملوا على مقتضى أوامره؛ لذلك يكون لهم مغفرة إنْ كانت أَلَمَّتْ نفوسهم بشيء من المعاصي ، ويكون لهم رزق كريم . والكريم هو البذَّال ، كأن الرزق نفسه وصل إليهم بكرم وزيادة ، كما أن الكريم هو الذي تظل يده مبسوطة دائماً بالعطاء ، على حَدِّ قول الشاعر :
وَإِنِّي امْرؤٌ لاَ تَسْتَقِرُّ دَرَاهِمِي ... عَلَى الكَفِّ إِلاَّ عَابِرَات سَبِيل
فالرزق نفسه كريم؛ لأنه ممدود لا ينقطع ، كما لو أخذت كوب ماء من ماء جارٍ ، فإنه يحلُّ محلَّه غيره على الفور ، وهكذا .
(1/6063)

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
السعي : عمل يذهب إلى غاية ، فإنْ كان قطع مسافة نقول : سِرنْا من كذا إلى كذا ، وإنْ كان في قضية علمية فكرية ، فيعني : أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية .
والسَّعْيُ لا يُحمد على إطلاقه ، ولا يُذَمُّ على إطلاقه ، فإنْ كان في خير فهو محمود ممدوح ، كالسعي الذي قال الله فيه : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] ، وإنْ كان في شَرٍّ فهو قبيح مذموم ، كالسعي الذي قال الله تعالى فيه : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام * وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل . . } [ البقرة : 204 - 205 ] .
أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر . وتعني : الوشاية والسّعي بين الناس بالنميمة ، تقول : فلان سَعَّاء بين الخلق يعني : بالشر ينقله بين الناس بقصْد الأذى ، وهؤلاء إنْ عَلِموا الخير أخفَوْه ، وإنْ علموا الشر أذاعوه ، وإن لم يعلموا كذبوا .
لذلك ، نقول عَمَّا ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس : هذا آفة الآخِذ ، يعني : الذي سمع الشرَّ ونقله وسعى به ، وكان عليه أنْ يحبسه ويُخفِيَه ، حتى لا تنتشر هذه الرذيلة بين الخَلْق .
وقد وشى واشٍ بمهام بن عبد الله السلولي إلى زياد بن أبيه ، وكان زياد جباراً فقال للواشي : أأجمع بينك وبينه؟ فلم يجد الواشي بُدَّاً من أنْ يقول : نعم ، فكيف ينكر ما قال؟! ولعله قال في نفسه : لعل الله يقضي أمراً يُخرِجني من هذه ( الورطة ) قبل هذه المواجهة؟ ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأُتِي به ، وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار ، وأُدخِل همام ، فقال له : يا همام بلغني أنك هجوْتني ، فقال : كلا ، أصلحك الله ما فعلتُ : ولا أنت لذلك بأهْل ، فكشف زياد الستار وقال : هذا الرجل أخبرني أنك هجوتني ، فنظر ابن همام ، فإذا هو صديق له يجالسه ، فقال له :
أنتَ امْرؤٌ إمّا ائتمنْتكَ خَالِياً ... فَخُنْتَ وَإِمّا قُلْتَ قَوْلاً بِلاَ عِلْمِ
فَأُبْتَ مِنَ الأَمْرِ الذي كَانَ بينَنَا ... بمنزلةٍ بيْنَ الخِيَانَةِ والإثْمِ
يعني : أنت مذموم في كل الأحوال؛ لأنك إما خُنْتَ أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سِراً فضفضْتُ لك به ، وإمَّا اختلقْتَ هذا القوْل كذباً وبلا علم .
وعندها خلع زياد على همام الخُلَع ، لكنه لم يعاقب الواشي ، وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل إليهم ، وأن آذانهم قد أخذتْ على ذلك وتعوَّدَتْ عليه .
ومعنى { في آيَاتِنَا } [ الحج : 51 ] والآيات إما كونية ، كالشمس والقمر ، وإما معجزات ، وإما آيات الأحكام ، وسَعَوْا فيها يعني : قالوا فيها قِوْلاً باطلاً غير الحق ، كما يسعى الواشي بالباطل بين الناس ، فهؤلاء إنْ نظروا في آيات الكون قالوا : من صنع الطبيعة .
(1/6064)

وإنْ شاهدوا معجزة على يد نبيٍّ قالوا : سحر وأساطير الأولين ، وإنْ سمعوا آيات الأحكام تُتْلى قالوا : شعر . وهم بذلك كله يريدون أنْ يُفسِدوا على أهل الإيمان إيمانهم ، ويصدُّوا عن سبيل الله .
ومعنى { مُعَاجِزِينَ } [ الحج : 51 ] جمع لاسم الفاعل معاجز مثل : مقاتل ، وهي من عَاجَزَ غير عجز عن كذا يعني : لم يقدر عليه ، عَاجَزَ فلانٌ فلاناً يعني باراه أيُّهما يعجز قبل الآخر ، فعاجزه مثل باراه ليثبتَ أنه الأفضل ، ومثل : سابقه ونافسه .
إذن : فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة ، وكلمة نافسه الأصل فيها من النفَس الذي نأخذه في الشهيق ، ونُخرِجه في الزفير ، والذي به يتأكسد الدم ، وتستمر حركة الإنسان ، فإن امتنع التنفس يموت؛ لأن الإنسان يصبر على الطعام ويصبر على الماء ، لكنه لا يصبر على الهواء ولو لنفَس واحد .
وقد حدثتْ هذه المعاجزة أو المنافسة بين سيدنا عمر وسيدنا العباس رضي الله عنهما : قال عمر للعباس : أتُنافسني في الماء ، يعني : نغطس تحت الماء وننظر أيهما يُعجِز الآخر ، ويتحمل عملية توقُّف النفَس ، ومثل هذه المنافسة قد يحتال عليها الإنسان إنْ كتم نفسَه وهو في جَوِّ الهواء ، أما إنْ نزل تحت الماء حيث ينعدم الهواء ، فكيف سيحتال على هذه المسألة؟ وتحت الماء لا يكون إلا الهواء الذاتي الذي اختزنه كل منهما في رئته ، ومثل هذه المنافسة أيهما أفسح صَدْراً من الآخر ، وأيُّهما أكثر تحمُّلاً تحت الماء . هذه هي المعاجزة .
فمعنى { سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ . . } [ الحج : 51 ] أي : يظنون أنهم قادرون أن يُعجزونا ، فحين نأتي إليهم بكلام بليغ مُعْجز يختلقون كلاماً فارغاً ليعجزونا به ، فأنّى يكون لهم ذلك؟ وأنّى لهم أنْ يطعنوا بكلامهم على كلام الله؟
ثم يُبيّن جزاء هذا الفعل وهذه المكابرة : { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } [ الحج : 51 ] فهذا حُكْم الله فيهم قضية واضحة من أقصر الطرق ، فمَنْ ذَا الذي يُعجِز الله؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ . . }
.
(1/6065)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
أثارت هذه الآية جَدلاً طويلاً بين العلماء ، ودخل فيه كثير من الحشْو والإسرائيليات ، خاصة حول معنى { تَمَنَّى } [ الحج : 52 ] وهي تَرد في اللغة بمعنيين ، وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أَوَْلَى من الآخر إلا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية ، ويأتي التمني في اللغة بمعنى القراءة ، كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي الله عنهما :
تمنَّى كِتابَ الله أوَّلَ لَيْلةٍ ... وآخِرَهَا وَافَاهُ حَتْم المقَادِرِ
يعني : قُتِل عثمان وهو يقرأ القرآن ، وهذا المعنى غريب في حمَلْ القرآن عليه لعدم شيوعه .
وتأتي تمنى بمعنى : أحب أن يكون الشيء ، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب . أما بمعنى قرأ فهو غير شائع ، ويُردّ هذا القول ، وينقضه نَقْضاً أولياً مبدئياً قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ . . } [ الحج : 52 ] .
ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه ، أمّا النبي فلا ينزل عليه كتاب ، بل يعمل بشرع مَنْ سبقه من الرسل . إذن : فما دام الرسول والنبي مشتركْين في إلقاء الشيطان ، فلا بُدَّ أن تكون الأمنية هنا بمعنى : أحب أن يكون الشيء ، لا بمعنى قرأ ، فأيُّ شيء سيقرأ النبي وَليس معه كتاب؟
والذين فهموا التمني في قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] أنه بمعنى : قرأ ، سواء أكانوا من العلماء المتعمِّقين أو السطحيين ، قالوا : المعنى إذا قرأ رسولُ الله القرآنَ تدخّل الشيطان في القراءة ، حتى يُدخِل فيها ما ليس منها .
وذكروا دليلاً على ذلك في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } [ النجم : 19 -20 ] ثم أضافوا : والغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى . وكأن الشيطان أدخل في القرآن هذا الكلام ، ثم نسخه الله بعد ذلك ، وأحكم الله آياته .
لكن هذا القول يُشكِّك في قضية القرآن ، وكيف نقول به بعد أن قال تعالى في القرآن : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } [ الشعراء : 193 - 194 ] .
وقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] .
إذن : الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث ، وكيف نُدخِل في القرآن هذه الكفريات؟ وكيف تستقيم عبارتهم : والغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى مع قول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى * أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 19 - 22 ] كيف ينسجم هذا وذاك؟
فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم ، ولا يمكن للشيطان أنْ يُدخِل في القرآن ما ليس منه ، لكن يحتمل تدخُّل الشيطان على وجه آخر : فحين يقرأ رسول الله القرآن ، وفيه هداية للناس ، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات ، أتنتظر من عدو الله أنْ يُخلِي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أنْ يُشوِّش عليهم ، ويُبلبل أفكارهم ، ويَحُول بينهم وبين سماعه؟
فإذا تمنّى الرسول يعني : قرأ ألقى الشيطان في أُمنيته ، وسلَّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن : سِحْر وشِعْر وإفْك وأساطير الأولين : فدَوْر الشيطان - إذن - لا أنْ يُدخِلَ في كلام الله ما ليس منه ، فهذا أمر لا يقدر عليه ولا يُمكِّنه الله من كتابه أبداً ، إنما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن وفَهْمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصدُّ الناس عن فَهْمه والتأثر به ، وتُفسِد القرآن في نظر مَنْ يريد أن يؤمن به .
(1/6066)

لكن ، هل محاولة تشويه القرآن هذه وصَدّ الناس عنه جاءت بنتيجة ، وصرفتْ الناس فعلاَ عن كتاب الله؟
لقد خيَّبَ الله سَعيْه ، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن والتأثر به؛ لأن القرآن وجد قلوباً وآذاناً استمعتْ وتأملتْ فآمنت وانهارتْ لجلاله وعظمته وخضعتْ لأسلوبه وبلاغته ، فآمنوا به واحداً بعد الآخر .
ثم يقول تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] يعني : ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الأباطيل والعقبات التي أراد بها أنْ يصدَّ الناس عن القرآن ، وأحكمَ الله آياته ، وأوضح أنها منه سبحانه ، وأنه كلام الله المعْجز الذي لو اجتمعتْ الإنس والجنُّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
هذا على قول مَنِ اعتبر أن { تَمَنَّى } [ الحج : 52 ] بمعنى : قرأ .
أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه ، فنقول : الرسول الذي أرسله الله تعالى بمنهج الحق إلى الخَلْق ، فإنْ كان قادراً على تطبيق المنهج في نفسه فإنَّ أُمنيته أنْ يُصدَّق وأنْ يُطاع فيما جاء به ، أمنيته أنْ يسود َمنهجه ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في الناس .
والنبي أو الرسول هو أَوْلى الناس بقومه ، وهو أحرصهم على نَفْعهم وهدايتهم ، والقرآن خير يحب للناس أن يأخذوا به عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
لكن ، هل يترك الشيطان لرسول الله أنْ تتحقق أُمنيته في قومه أَمْ يضع في طريقه العقبات ، ويُحرِّك ضده النفوس ، فيتمرّد عليه قومه حيث يُذكِّرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام؟
وهكذا يُلْقي الشيطان في أُمنية الرسول { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] وما كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم ، أليس هو صاحب فكرة : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ . . } [ فصلت : 26 ] .
إن الشيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويُشكّك فيه لآمن به كل مَنْ سمعه؛ لأن للقرآن حلاوةً لا تُقَاوم ، وأثراً ينفذ إلى القلوب مباشرة .
(1/6067)

ومع ذلك لم يَفُتّ ما ألقى الشيطان في عَضُد القرآن ، ولا في عَضُد الدعوة ، فأخذت تزداد يوماً بعد يوم ، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدِّقين به ، المهم أن نتنبه : كيف نستقبل القرآن ، وكيف نتلقاه ، لا بد أن نستقبله استقبالَ الخالي من هوى ، فالذي يفسد الأحكام أنْ تُستقبل وتدخل على هوى سابق .
وسبق أن قلنا : إن الحيز الواحد لا يسع شيئين في وقت واحد ، لا بُدَّ أنْ تُخرِج أحدهما لتُدخِل الآخر ، فعليك - إذن - أنْ تُخلِي عقلك وفكرك تماماً ، ثم تستقبل كلام الله ، وابحث فيه كما شئت ، فسوف تنتهي إلى الإيمان به شريطة أنْ تُصفِّي له قلبك ، فلا تُبق في ذِهْنِك ما يُعكِّر صَفْو الفطرة التي خلقها الله فيك ، عندها سيأخذ القرآن طريقه إلى قلبك ، فإذا أُشْرِب قلبُك حُبَّ القرآن ، فلا يزحزحه بعد ذلك شيء .
ولنا في إسلام سيدنا عمر مثالٌ وعِظَة ، فلما سمع القرآن من أخته لأول مرة ، وقد أغلق قلبه على كفره لم يتأثر به ، وضربها حتى أَدْمى وجهها ، وعندها رَقَّ قلبه ، وتحركت عاطفته نحو أخته ، وكأن عاطفة الحب زحزحتْ عاطفة العداوة ، وكشفت عن صفاء طَبْعه ، فلما سمع القرآن بعدها آمن به على الفور .
كذلك ، إنْ أردت أنْ تناقشَ قضية الإيمان أو الكفر ، وأنْ تختار بينهما؛ لأنهما يجتمعان أبداً ، ولا بُدَّ أنْ تختار ، فحين تناقش هذه القضية وأنت مُصِرٌّ على الكفر فلن تصل إلى الإيمان؛ لأن الله يطبع على القلب المُصِرَّ فلا يخرج منه الكفر ، ولا يدخله الإيمان ، إنما أخرِجْ الكفر أولاً وتحرّر من أَسْره ، ثم ناقش المسائل كما تحب .
كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ . . } [ سبأ : 46 ] .
أما أنْ تناقش قضية ، وفي ذهْنك فكرة مُسبقة ، فأنت كهؤلاء الذين قال الله فيهم : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً . . } [ محمد : 16 ] يعني : ما الجديد الذي جاء به ، وما المعجزة في هذا الكلام؟ فيأتي الرد : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ * والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 16 - 17 ] .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه عن القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى . . } [ فصلت : 44 ] .
فالقرآن واحد ، لكن المستقبل مختلف ، وقد ذكرنا أنك حين تريد أن تبرد كوب الشاي الساخن فإنك تنفخ فيه ، وكذلك إنْ أردتَ أنْ تُدفِئ يديك في برد الشتاء فإنك أيضاً تنفخ فيها ، كيف - إذن - والفاعل واحد؟ نعم ، الفاعل واحد ، لكن المستقبل للفعل مختلف .
وقوله تعالى : { مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } [ الحج : 52 ] .
(1/6068)

( من ) هنا للدلالة على العموم وشمول كل الأنبياء والرسل السابقين ، فكل نبي أو رسول يتمنى يعني : يودّ ويحب ويرغب أن ينتشر دينه ويُطبِّق منهجه ، ويؤمن به جميع قومه ، لكن هيهات أنْ يتركه الشيطان وما أحبَّ ، بل لا بُدَّ أنْ يقف له بطريق دعوته ليصدَّ الناس عنه ويصرفهم عن دعوته ومنهجه ، لكن في النهاية ينصر الله رسُله وأنبياءه ، وينسخ عقبات الشيطان التي ألقاها في طريق الدعوة ، ثم يُحكِم الله آياته ، ويؤكدها ويظهرها ، فتصير مُحْكَمة لا ينكرها أحد .
وساعةَ تسمع كلمة { أَلْقَى } [ الحج : 52 ] فاعلم أن بعدها عقبات وشروراً ، كما يقول تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } [ المائدة : 64 ] .
ومما قاله أصحاب الرأي الأول في تفسير { تَمَنَّى } [ الحج : 52 ] وأنها بمعنى قرأ : يقولون : إن الله تعالى يُنزِل على رسوله صلى الله عليه وسلم أشياء تُثبت بشريته ، ثم يمحو الله آثار هذه البشرية ليبين أن الله صنعه على عينه ، حتى إنْ همَّتْ بشريته بشيء يعصمه الله منها .
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " يَرِدُ عليَّ فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويُؤخذ مِنِّي فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " .
إذن : فالرسول بشر إلا أنه يوحى إليه ما يعصمه من زلاَّت البشر .
ومن بشريته صلى الله عليه وسلم أنه تعرّض للسحر ، وهذه واقعة لا تُنكر ، وقد ورد فيها أحاديث صحيحة ، وقد كاد الكفار لرسول الله بكل أنواع الكيد : استهزاءٌ ، وسباباً ، واضطهاداً ، وإهانة ، ثم تآمروا عليه بليل ليقتلوه ، وبيَّتوا له ، فلم يفلحوا قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] .
وكاد الله لرسوله وأخرجه من بينهم سالماً ، وهكذا فضح الله تبييتهم وخيّب سَعْيهم ، وفشلَتْ محاولاتهم الجهرية والسرية فلجئوا إلى السحرة ليفعلوا برسول الله ما عجزوا هم عنه ، وعملوا لرسول الله سحراً في مُشْطٍ ومُشَاطة من شعره صلى الله عليه وسلم وطلع نخلة ذكر ففضحهم الله ، وأخبر رسوله بذلك فأرسل الإمام علياً فأتى به من بئر ذروان .
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُبيِّن لنا بشرية الرسول ، وأنه يجري عليه ما يجري على البشر ، لكن ربه لا يترك بشريته وحدها ، وإنما يعصمه بقيوميته .
وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الأول : أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر العادي ، لكن تتدخّل السماء لتعصمه ونحن نختار الرأي الآخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ودَّ وأحب .
ثم تختتم الآية بقوله تعالى : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] عليم بكيد الشيطان ، وتدبيره ، حكيم في علاج هذا الكيد .
(1/6069)

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
ولسائل أن يقول : إذا كان الله تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان ، فلماذا كان الإلقاءُ بدايةً؟
جعل الله الإلقاء فتنةً ليختبر الناس ، وليُميِّز مَنْ ينهض بأعباء الرسالة ، فهي مسئولية لا يقوم بها إلا مَنْ ينفذ من الفتن ، وينجو من إغراءات الشيطان ، ويتخطى عقباته وعراقيله؛ لذلك قال تعالى عنهم : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] .
وما تبوأتُم هذه المنزلة إلا لأنكم أهلٌ لحمْل هذه الأمانة ، تمرُّ بكم الفتن فتهزأون بها ولا تزعزعكم؛ لذلك قال تعالى : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ الحج : 53 ] أي : نفاق ، فإنْ تعرَّض لفتنة انقلب على وجهه . يقول كما يقولون : سحر وكذب وأساطير الأولين .
وكذلك فتنة { والقاسية قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 53 ] وهم الذين فقدوا لين القلب ، فلم ينظروا إلى الجميل عليهم في الكون خَلْقاً وإيجاداً وإمداداً ، ولم يعترفوا بفضل الله عليهم ، ولم يستبشروا به ويأتوا إليه .
ونحن نلحظ الولد الصغير يأنس بأمه وأبيه ، ويركن إليهما؛ لأنه ذاق حنانهما ، وتربَّى في رعايتهما ، فإنْ ربَّته مثلاً المربية حتى في وجود أمه فإنه يميل إليها ، ويألف حضنها ، ولا يلتفت لأمه ، لماذا؟ لأنه نظر إلى الجميل ، من أين أتاه ، ومَنْ صاحب الفضل عليه فرقَّ له قلبه ، بصرف النظر مَنْ هو صاحب الجميل .
فهؤلاء طرأوا على كَوْن الله ، لا حَوْلَ لهم ولا قوة ، فاستقبلهم بكل ألوان الخير ، ومع ذلك كانت قلوبهم قاسيةً مُتحجِّرة لا تعترف بجميل .
ثم يقول سبحانه : { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [ الحج : 53 ] فهم ظالمون أولاً لأنفسهم حين نظروا إلى منفعة عاجلة قليلة ، وتركوا منفعة كبيرة دائمة . والشِّقاق : الخلاف ، ومنه قولنا : هذا في شِقٍّ ، وهذا في شِقٍّ ، يعني : غير ملتئمين ، وليْته شِقَاق هَيِّن يكون له اجتماع والتئام ، ليته كشِقَاق الدنيا بين الناس على عَرَضٍ من أعراض الحياة ، إنما هم في شقاق بعيد . يعني : أثره دائم ، وأثره فظيع .
إذن : العلة الأولى لما يُلقِي الشيطان أن يكون فتنة . أما العلة الثانية ففي قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ . . }
.
(1/6070)

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
قوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ } [ الحج : 54 ] يعني : يتأكدوا تأكيداً واضحاً أن هذا هو الحق ، مهما شوَّشَ عليه المشوِّشُون ، ومهما قالوا عنه : إنه سحر ، أو كذب ، أو أساطير الأولين؛ لأن الله سيُبطل هذا كله ، وسيقف أهل العلم والنظر على صِدْق القرآن بما لديهم من حقائق ومقدمات واستدلالات يعرفون بها أنه الحق .
وما دام هو الحق الذي لم تزعزعه هذه الرياح الكاذبة فلا بُدّ أن يؤمنوا به { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } [ الحج : 54 ] ثم يتبع هذا الإيمان عملٌ وتطبيق { فَتُخْبِتَ لَهُ } [ الحج : 54 ] يعني : تخشع وتخضع وتلين وتستكين .
ثم يقول سبحانه : { وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الحج : 54 ] .
فمسألة كيد الشيطان وإلقائه لم تنته بموت الرسول ، بل هو قاعد لأمته من بعده؛ فالشيطان يقعد لأمة محمد كلها ، ولكل مَنْ حمل عنه الدعوة .
يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 112 ] .
يعني : دعهم جانباً فالله لهم بالمرصاد ، فلماذا - إذن - فعلوه؟ وما الحكمة؟ يقول تعالى : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ . . } [ آل عمران : 141 ] .
وقال : { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } [ الأنعام : 113 ]
فمهمة الشيطان أنْ يستغلّ ضعاف الإيمان ، ومَنْ يعبدون الله على حرف من أصحاب الاحتجاجات التبريرية الذين يريدون أنْ يبرروا لأنفسهم الانغماس في الشهوة والسير في طريق الشيطان ، وهؤلاء يحلو لهم الطعن في الدين ، ويتمنون أن يكون الدين والقيامة والرب أوهاماً لا حقيقة لها ، لأنهم يخافون أن تكون حقيقة ، وأن يتورطوا بأعمالهم السيئة ونهايتهم المؤلمة ، فهم - إذن - يستبعدون القيامة ويقولون : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الصافات : 16 ] .
لماذا؟ لأنه يريد أنْ يبرر سلوكه ، إنه يريد أنْ يُخرِج نفسه من ورطة ، لا مخرج منها ، وهؤلاء يتبعون كل ناعق ، ويجْرُون وراء كل شبهة في دين الله يتلقفونها ويرددونها ، ومرادهم أن يهدموا الدين من أساسه .
نسمع من هؤلاء المسرفين على أنفسهم مثلاً مَنْ يعترض على تحريم الميتة وأكل الذبيحة ، وهذا دليل على خميرة الشرك والكفر في نفوسهم ، ولهم حجج واهية لا تنطلي إلا على أمثالهم من الكفرة والمنافقين ، وهذه مسألة واضحة ، فالموت غير القتل ، غير الذبح .
الموت : أن تخرج الروح أولاً دون نَقْض بِنْية الجسم ، وبعد خروج الروح ينقض بناء الجسد ، أما القتل فيكون بنقض البنية أولاً ، ويترتب على نَقْض البنية خروج الروح ، كأن يُضرب الإنسان أو الحيوان على رأسه مثلاً ، فيموت بعد أنْ اختلّ مخه وتهشَّم ، فلم يعُدْ صالحاً لبقاء الروح فيه .
يقول تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ . . }
(1/6071)

[ آل عمران : 144 ] إذن : فالموت غير القتل .
وقد مثَّلْنا لذلك بضوء الكهرباء الذي نراه ، والذي يسري في الأسلاك ، ويظهر أثره في هذه اللمبات ، نحن لا نعرف حتى الآن كُنْه هذه الكهرباء وماهية هذا الضوء ، إنما نراه وننعَم به ، فإذا ما كُسِرت هذه اللمبة ينطفئ النور؛ لأنها لم تعُدْ صالحة لاستقبال هذا النور ، رغم أنه موجود في الأسلاك ، إذن : لا يظهر نور الكهرباء إلا في بنية سليمة لهذا الشكل الزجاجي المفرَّغ من الهواء .
كذلك الروح لا تسكن الجسم ، ولا تبقى فيه إلا إذا كانت له مواصفات معينة ، فإن اختلَّتْ هذه المواصفات خرجتْ الروح من الجسد .
أما الذبح فهو أيضاً إزهاق روح ، لكن بأمر الله خالقها وبرخصة منه سبحانه ، كأن يُقتلَ إنسان في قصاص ، أو في قتال مشروع ، أو نذبح الحيوان الذي أحلَّه الله لنا وأمرنا بذبحه ، ولولا أمْر الله بذبحه ما ذبحناه ، ولولا أحلَّه ما أكلناه ، بدليل أننا لا نأكل ما لم يحِل لنا من الحيوانات الأخرى .
والذين يجادلون في عملية الذَّبْح الشرعية ، ويُزهقون أرواح الحيوان بالخنق مثلاً غفلوا عن الحكمة من الذبح : الذبح إراقة للدم ، وفي الدم مواد ضارة بالإنسان يجب أن يتخلص منها بتصفية دم ذبيحته؛ لأن بها كمية من الدم الفاسد الذي لم يمرّ على الكلية لتنقيه .
فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحريص على أن يسود هذا المنهج حركة الحياة ، لكن لن يدَعَه الشيطان يُحقِّق هذه الأمنية ، كما لم يدع رسوله صلى الله عليه وسلم من قبل ، فكيْده وإلقاؤه لم ينتهِ بموت الرسول ، وإنما هو بَاقٍ ، وإلى أنْ تقومَ الساعة .
لذلك يقول تعالى في الآية بعدها : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى . . }
.
(1/6072)

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قوله : { فِي مِرْيَةٍ } [ الحج : 55 ] يعني : في شك من هذا ، لذلك قلنا : إن أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم مُكلَّفون من الله بأنْ يكونوا امتداداً لرسالته : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً . . } [ البقرة : 143 ] شهداء أنكم بلَّغتم كما كان الرسول شهيداً عليكم ، فكلٌّ مِنَّا كأنه مبعوث من الله ، وكما شهد رسول الله عليه أنه أبلغه ، كذلك هو يشهد أنه بلَّغ من بعد رسول الله؛ لذلك جاءت هذه الآية للأمرين ليكون الرسول شهيداً عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس .
والحق - سبحانه وتعالى - حينما حمَّلنا هذه الرسالة قال : ما دُمْتم امتداداً لرسالة الرسول ، فلا بُدَّ أنْ تتعرَّضوا لما تعرَّض له الرسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم ، فإنْ صمدتم فإن الله تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان ، وينصر في النهاية أولياءه ، وسيظل الإسلام إلى أنْ تقوم الساعة ، وسيظل هناك أناس يُعَادُون الدين ويُشكِّكون فيه ، وسيظل الملحدون الذين يُشكِّكون الناس في وجود الله يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين الله كقولهم : إن هذا الكون خُلِق بالطبيعة ، وترى وتسمع هذا الكلام في كتاباتهم ومقالاتهم .
ولم يَسْلم العلم التجريبي من خرافاتهم هذه ، فإنْ رأوا الحيوان منسجماً مع بيئته قالوا : لقد أمدته الطبيعة بلون مناسب وتكوين مناسب لبيئته .
وفي النبات حينما يقفون عند آية من آياته مثلاً : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل . . } [ الرعد : 4 ] يقولون : إن النبات يتغذى بعملية الانتخاب ، يعني النبات هو الذي ينتخب ويختار غذاءه ، ففي التربة الواحدة وبالماء الواحد ينمو النبات الحلو والمر والحمضي والحريف ، فبدل أنْ يعترفوا لله تعالى بالفضل والقدرة يقولون : الطبيعة وعملية الانتخاب .
وقد تحدثنا مع بعض هؤلاء في فرنسا ، وحاولنا الرد عليهم وإبطال حججهم ، وأبسطها أن عملية الانتخاب تحتاج إلى إرادة واعية تُميِّز بين الأشياء المنتخبة ، فهل عند النبات إرادة تُمكِّنه من اختيار الحلو أو الحامض؟ وهل يُميز بين المرِّ والحريف؟
إنهم يحاولون إقناع الناس بدور الطبيعة ليبعدوا عن الأذهان قدرة الله فيقولون : إن النبات يتغذّى بخاصية الأنابيب الشعرية يعني : أنابيب ضيقة جداً تشبه الشعرة فسميت بها ، ونحن نعرف أن الشعرة عبارة عن أنبوبة مجوفة . وحين تضع هذه الأنبوبة الضيقة في الماء ، فإن الماء يرتفع فيها إلى مستوى أعلى؛ لأن ضغط الهواء داخل هذه الأنبوبة لضيقها أقلّ من الضغط خارجها لذا يرتفع فيها الماء ، أما إنْ كانت هذه الأنبوبة واسعة فإن الضغط بداخلها سيساوي الضغط خارجها ، ولن يرتفع فيها الماء .
فقُلْنا لهم : لو أحضرنا حوضاً به سوائل مختلفة ، مُذَاب بعضها في بعض ، ثم وضعنا به الأنابيب الشَّعْرية ، هل سنجد في كل أنبوبة سائلاً معيناً دون غيره من السوائل ، أم سنجد بها السائل المخلوط بكل عناصره؟
لو قمتَ بهذه التجربة فستجد السائل يرتفع نعم في الأنابيب بهذه الخاصية ، لكنها لا تُميِّز بين عنصر وآخر ، فالسائل واحد في كل الأنابيب ، وما أبعد هذا عن نمو النبات وتغذيته .
(1/6073)

وصدق الله حين قال : { الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 2 - 3 ] .
إذن : ما أبعدَ هذه التفسيرات عن الواقع! وما أجهلَ القائلين بها والمروِّجين لها! خاصة في عصر ارتقى فيه العلم ، وتقدّم البحث ، وتنوَّعت وسائلة في عصر استنارتْ فيه العقول ، واكتُشِفت أسرار الكون الدالة على قدرة خالقه عز وجل ، ومع ذلك لا يزال هناك مبطلون .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً . . } [ الحج : 55 ] .
فهم - إذن - موجودون في أمة محمد إلى أنْ تقومَ الساعة ، وسنواجههم نحن كما واجههم رسول الله ، وسيظل الشيطان يُلقِي في نفوس هؤلاء ، ويوسوس لهم ، ويوحي إلى أوليائه من الإنس والجن ، ويضع العقبات والعراقيل ليصدَّ الناس عن دين الله . هذا نموذج من إلقاء الشيطان في مسألة القمة ، وهي الإيمان بالله .
كما يُلقِي الشيطان في مسألة الرسول ، فنجد منهم مَنْ يهاجم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف وهو الأميّ يقود أمة ويتهمونه ويخوضون في حقِّه ، وفي مسألة تعدُّد زوجاته صلى الله عليه وسلم . . الخ مِمّا يُمثِّل عقبة في سبيل الإيمان به صلى الله عليه وسلم .
ونعجب لهجوم هؤلاء على رسول الله طالما هم كافرون به ، إن هذا الهجوم يحمل في طياته إيماناً بأنه رسول الله ، وإلا لَمَا استكثروا عليه ولَمَا انتقدوه ، فلو كان شخصاً عادياً ما تعرَّض لهذه الانتقادات .
لذلك لا تناقش مثل هؤلاء في مسألة الرسول ، إنما في مسألة القمة ، ووجود الإله ، ثم الرسول المبلِّغ عن هذا الإله ، أمّا أنْ تخوض معهم في قضية الرسول بدايةً فلن تصلَ معهم إلى حَلٍّ؛ لأنهم يضعون مقاييس الكمال من عندهم ، ثم يقيسون عليها سلوكيات رسول الله ، وهذا وَضْع مقلوب ، فالكمال نأخذه من الرسول ومن فِعْله ، لا نضع له نحن مقاييس الكمال .
ثم يُشكِّكون بعد ذلك في الأحكام ، فيعترضون مثلاً على الطلاق في الإسلام ، وكيف نفرق بين زوجين؟ وهذا أمر عجيب منهم فكيف نجبر زوجين كارهين على معاشرة لا يَبْغُونها ، وكأنهما مقترنان في سلسلة من حديد؟ كيف وأنت لا تستطيع أنْ تربط صديقاً بصديق لا يريده ، وهو لا يراه إلا مرة واحدة في اليوم مثلاً؟ فهل تستطيع أن تربط زوجين في مكان واحد ، وهما مأمونان على بعض في حال الكراهية؟
ويُخيِّب الله سَعْيهم ، ويُظهر بطلان هذه الأفكار ، وتُلجِئهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى تشريع الطلاق ، حيث لا بديلَ عنه لحلِّ مثل هذه المشاكل .
وقد ناقش هؤلاء كثيراً في قوله تعالى :
(1/6074)

{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] .
وفي قوله : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ الصف : 8 ] { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ الصف : 9 ] .
يقولون : ومع ذلك لم يتم الدين ، ولا يزال الجمهرة العالمية في الدنيا غَيْر مؤمنين بالإسلام ، يريدون أنْ يُشكِّكوا في كتاب الله . وهذا القول منهم ناشيء عن عدم فَهْم للآية ، ولمعنى { لِيُظْهِرَهُ } [ التوبة : 33 ] فهي لا تعني أن ينتصر الإسلام على كل ما عداه انتصاراً يمحو المخالفين له .
إنما يُظهِره يعني : يكتب له الغلبة بصدق حُجَجه وقضاياه على كُرْه من الكافرين والمشركين ، فهم - إذن - موجودون ، لكن يظهر عليهم ، ويعلو دين الإسلام ، ويضطرون هم للأخذ بقوانينه وتشريعاته حَلاً لمشاكلهم ، وكَوْنهم يتخذون منه حلاً لمشاكلهم وهم كافرون به أبلغ في الردِّ عليهم لو آمنوا به ، فلو آمنوا بالإسلام ما كان ليظهر عليهم ويعلوهم .
فما كنتم تُشكِّكون فيه وتقولون إنه ما كان يصدر من إله ولا رسول ، فها هي الأيام قد عضّتكم بأحداثها وتجاربها وألجأتكم إلى هذا الحكم الذي تعارضونه ، وها أنتم تُشرِّعون بتشريع الإسلام وأنتم كافرون به ، وهذا دليل ظهوره عليكم .
ومعنى { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } [ الحج : 55 ] يعني : فجأة ، وقد تكلَّم العلماء في معنى الساعة : أهي يوم القيامة ، أم يوم يموت الإنسان؟ الساعة تشمل المعنيين معاً ، على اعتبار أن مَنْ مات فقد قامت قيامته حيث انقطع عمله ، وموت الإنسان يأتي فجأة ، كما أن القيامة تأتي فجأة ، فهما - إذن - يستويان .
لكن ، إنْ كانت الساعة بغتة تفجؤهم بأهوالها ، فما العلامات الصُّغْرى؟ وما العلامات الكبرى؟ أليست مقدمات تأذن بحلول الساعة ، وحينئذ لا تُعَدُّ بغتة؟ قالوا : علامات الشيء ليست هي إذن وجودة ، العلامة تعني : قُرْب موعده فانتبهوا واستعِدُّوا ، أما وقت حدوثه فلا يعلمه أحد ، ولا بُدَّ أنْ يأتي بغتة رغم هذه المقدمات .
ثم يقول الحق تعالى : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ الحج : 55 ] البعض اعتبر : { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ الحج : 55 ] يعني القيامة ، وبالتالي فالساعة تعني الموت ، وآخرون يقولون : { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ الحج : 55 ] المراد يوم بدر الذي فصل الله فيه بين الحق والباطل .
وهذا اجتهاد يُشْكرون عليه ، لكن لما نتأمل الآية : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } [ الحج : 55 ] يعني : المرية مستمرة ، لكن بدراً انتهت ، المرية ستظل إلى أن تقوم الساعة .
ولا مانعَ أن تكون الساعة بمعنى القيامة ، واليوم العقيم أيضاً هو يوم القيامة ، فيكون المدلول واحداً ، لأن هناك فرقاً بين زمن الحدث والحدث نفسه ، فالساعة هي زمن يوجد فيه الحدث وهو العذاب ، فالساعة أولاً ثم يأتي العذاب ، مع أن مجرد قيام الساعة في حَدِّ ذاته عذاب .
ومعنى { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [ الحج : 55 ] العقيم : الذي لا يلد ، رجل كان أو امرأة ، فلا يأتي بشيء بعده ، ومنه قوله تعالى عن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام :
(1/6075)

{ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 29 ] وكذلك يوم القيامة يوم عقيم ، حيث لا يوم بعده أبداً ، فهي نهاية المطاف على حَدِّ قول أحدهم : حَبَتْهُم به الدنيا وأدركَها العُقْم .
أو { عَقِيمٌ } [ الذاريات : 29 ] بمعنى : أنها لا تأتي بخير ، بل بشرٍّ ، كما في قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } [ الذاريات : 41 - 42 ] .
ذلك لأن الريح حين تهبُّ ينتظر منها الخير ، إما بسحابة مُمطرة ، أو تحريك لقاح الذكورة بالأنوثة { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] أما هذه فلا خَيْر فيها ، ولا طائل منها ، ولتها تقف عند عدم النفع ، ولكن تتعدَّاه إلى جَلْب الضُّر { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } [ الذاريات : 42 ] فهي تدمر كل شيء تمرُّ عليه .
وكما جاء في قوله سبحانه : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 24 - 25 ] .
فالمعنى - إذن - { عَقِيمٍ } [ الحج : 55 ] لا خيرَ فيها ولا نفع ، بل فيها الشر والعذاب ، أو عقيم يعني : لا يأتي يوم بعده؛ لأنكم تركتم دنيا الأغيار ، وتقلّب الأحوال حال بعد حال ، فالدنيا تتقلَّب من فقر إلى غنى ، ومن صحة إلى مرض ، ومن صِغَر إلى كِبَر ، ومن أَمْن إلى خوف ، وتتحول من صيف إلى شتاء ، ومن حر إلى برد ، ومن ليل إلى نهار . . وهكذا .
أما في الآخرة فقد انتقلتم مِن عالم الأغيار الذي يعيش بالأسباب إلى عالم آخر يعيش مع المسبِّب سبحانه ، وإلى يوم آخر لا يومَ بعده ، كأنه عَقِم أن يكون له عَقِب من بعده أو مثيل له ، كما لو حضرتَ حفلاً مثلاً قد استكمل ألوان الكمال والنعم ، فتقول : هذا حدث لا يتكرر يعني : عقيم لا يأتي بعده مثله .
وإذا كنتَ في الدنيا تعيش بالأسباب التي خلقها الله لك ، فأنت في الآخرة ستجلس مستريحاً تتمتع بالمسبِّب عَزَّ وجَلَّ ، ويكفي أن يخطر الشيء ببالك ، فتراه بين يديك؛ ولأن القيامة لا أغيارَ فيها ولا تقلّب ، فسيظل الجميع كلٌّ على حاله في سِنٍّ واحدة ، لا يشيب ولا يهرم ، ولا يمرض ولا يموت .
ألاَ ترى إلى قوله تعالى في نساء الجنة : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 35 - 38 ] .
والكاره لزوجته في الدنيا لأنها كانت تتعبه نقول له : لا تقِسْ زوجة الدنيا بزوجة الآخرة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ النساء : 57 ] .
أي : مطهرة من كل ما كنتَ تكرهه فيها في الدنيا شكلاً وطَبْعاً وخُلقاً ، فأنت الآن في الآخرة التي لا يعكر نعيمها كَدَر .
ثم يقول الحق سبحانه : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فالذين آمَنُواْ . . }
.
(1/6076)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
ولقائل أنْ يقول : أليس الملْك لله يومئذ ، وفي كل يوم؟ نعم ، الملْك لله في الدنيا وفي الآخرة ، لكن في الدنيا خلق الله خَلْقاً وملّكهم ، وجعلهم ملوكاً من باطن مُلْكه تعالى ، لكنه مُلْك لا يدوم ، كما قال سبحانه : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] .
إذن : ففي الدنيا ملوك مَلّكهم الله أمراً من الأمور ، ففيها ملك للغير ، أمّا في الآخرة فالملْك لله تعالى وحده : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وفي القيامة { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ . . } [ الحج : 56 ] فقد رَدَّ الملْك كله إلى صاحبه ، ورُدَّت الأسباب إلى مُسبِّبها .
ومعنى { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ . . } [ الحج : 56 ] أن هناك خصومةً بين طرفين ، أحدهما على حق ، والآخر على باطل ، والفَصْل في خصومات الدنيا تحتاج إلى شهود ، وإلى بينة ، وإلى يمين فيقولون في المحاكم : البينة على المدَّعي واليمين على مَنْ أنكر ، هذا في خصومات الدنيا ، أما خصومات الآخرة فقاضيها الحق - سبحانه وتعالى - الذي يعلم السرَّ وأخفى ، فلا يحتاج إلى بينة ولا شهود ولا سلطة تُنفِّذ ما حكم به .
محكمة الآخرة لا تحتاج فيها إلى مُحامٍ ، ولا تستطيع فيها أنْ تُدلِّس على القاضي ، أو تُؤجِّر شاهد زور ، لا تستطيع في محكمة الآخرة أن تستخدم سلطتك الزمنية فتنقض الحكم ، أو تُسقطه؛ لأن الملْك يومئذ لله وحدة ، والحكم يومئذ لله وحدة ، هو سبحانه القاضي والشاهد والمنفِّذ ، الذي لا يستدرك على حكمه أحد .
وما دام هناك حكومة ، فلا بُدَّ أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه ، ويُوضِّحهما قوله تعالى : { فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم } [ الحج : 56 ] .
وهؤلاء هم الفائزون الذين جاء الحكم في صالحهم .
(1/6077)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
وهؤلاء هم الجبابرة وأصحاب السيادة في دنيا الكفر والعناد ، والذين حكم الله عليهم بالعذاب الذي يُهينهم بعد عِزَّتهم وسلطانهم في الدنيا ، وتلحظ أن العذاب يُوصَف مرة بأنه أليم ، ومرة بأنه عظيم ، ومرة بأنه مُهين .
فالعذاب الأليم الذي يُؤلم صاحبه ، لكنه قد يكون لفترة ثم ينتهي ، أما العذاب العظيم فهو الدائم ، والمهيمن هو الذي يُذِله ويدوس كرامته التي طالما اعتز بها . وأنت تجد الناس يختلفون في تقبُّل ألوان العذاب : فمنهم مَنْ لا يؤثر فيه الضرب الموجع ولا يحركه ، لكن تؤلمه كلمة تجرح عِزَّته وكرامته . لذلك جاء العذاب هكذا ألواناً؛ ليستوعب كل صنوف الملَكات النفسية ، ويواجه كُلَّ نفس بما يؤلمها .
ثم تكلم الحق سبحانه عن أمر كان لا بُدَّ أن نعرفه ، فالمسلمون الأوائل في مكة أُخرِجوا من ديارهم وأبنائهم وأموالهم لأنهم قالوا : ربنا الله ، ولا شَكَّ أن للوطن وللأهل والبيئة التي نشأ فيها المرء أثراً في ملكات نفسه ، لا يمكن أنْ يُمحَى بحال ، فإنْ غاب عنه اشتاق إليه وتمنَّى العودة ، وكما يقول الشاعر :
بَلَدِي وَإنْ جَارَتْ عليَّ عَزيزَةٌ ... أَهْلِي وإنْ ضَنُّوا عليَّ كِرَامُ
لذلك ، فطالب العالم عندما يترك بلده إلى القاهرة يقولون : لا بُدَّ له أنْ يرجع ، ولو أن تعضَّه الأحداث والشدائد ، فيعود ليطلب من أهله العون والمساعدة ، أو حتى يعود إليها في نهاية المطاف ليدفنوه في تراب بلده .
وقالوا : إن سيدنا سليمان - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما تفقَّد الطير { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 20 - 21 ] .
ذلك لأنه نبي ، فالمسألة ليستْ جبروتاً وتعذيباً ، دون أن يسمع منه . وقالوا : إن الطير سأل سليمان : كيف يعذب الهدهد؟ قال : أضعه في غير بني جنسه ، وفي غير المكان الذي يألفه ، يعني : في غير موطنه .
يقول تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً . . }
.
(1/6078)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
وفي موضع آخر يقول تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } [ الحج : 40 ] هؤلاء تحملوا الكثير ، وتعبوا في سبيل عقيدتهم ، فلا بُدَّ أنْ يُعوِّضهم الله عن هذه التضحيات ، لذلك يقول هنا : { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } [ الحج : 58 ] وأوضحنا أن الموت غير القتل : الموت أن تخرج الروح دون نَقْضٍ للبنية ، أما القتل فهو نَقْض للبِنْية يترتب عليه خروج الروح .
{ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً . . } [ الحج : 58 ] تعويضاً لهم عَمَّا فاتوه في بلدهم من أهل ومال ، كما يُعوّض الحاكم العادل المظلوم فيعطيه أكثر ممَّا أُخِذ منه؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله . . } [ النساء : 100 ] .
لأن مَنْ قُتِل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحُسنْيين ، أما مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشرف؛ لذلك فقد وقع أجره على الله ، وما بالك بأجر مُؤدِّيه ربك عز وجل؟ وكما لو أن رجلاً مُتْعباً يسير ليس معه شيء ولا يجد حتى مَنْ يقرضه ، وفجأة سقطت رِجْله في حفرة فتكَّدر وقال : حتى هذه؟! لكن سرعان ما وجد قدمه قد أثارتْ شيئاً في التراب له بريق ، فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه .
ويُروْى أن فضالة حضرهم وهم يدفنون شهيداً ، وآخر مات غير شهيد ، فرأوْه ترك قبر الشهيد وذهب إلى قبر غير الشهيد ، فلما سألوه : كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد؟ قال : والله ما أبالي في أيِّ حفرة منهما بُعثْت ما دام قد وقع أجري على الله ، ثم تلا هذه الآية : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله . . } [ النساء : 100 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ الحج : 58 ] حين يصف الحق سبحانه ذاته بصفة ، ثم تأتي بصيغة الجمع ، فهذا يعني أن الله تعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصفة ، كما سبق أنْ تكلمنا في قوله تعالى : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
فقد أثبت للخَلْق صفة الخَلْق ، وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة؛ لأنه سبحانه لا يبخس عباده شيئاً ، ولا يحرمهم ثمرة مجهودهم ، فكل مَنْ أوجد شيئاً فقد خلقه ، حتى في الكذب قال { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً . . } [ العنكبوت : 17 ] .
لأن الخَلْق إيجاد من عدم ، فأنت حين تصنع مثلاً كوب الماء من الزجاج أوجدتَ ما لم يكن موجوداً ، وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة لله تعالى ، وأعملتَ فيها عقلك حتى توصلْتَ إلى إنشاء شيء جديد لم يكُنْ موجوداً ، فأنت بهذا المعنى خالق حسن ، لكن خلق ربك أحسن ، فأنت تخلق من موجود ، وربك يخلق من عدم ، وما أوجدتَه أنت يظل على حالته ويجمد على خلْقتك له ، ولا يتكرر بالتناسل ، ولا ينمو ، وليست فيه حياة ، أما خَلْق ربك سبحانه فكما تعلم .
(1/6079)

كذلك يقول سبحانه هنا : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ الحج : 58 ] فأثبت لخَلْقه أيضاً صفة الرزق ، من حيث هم سَبَب فيه ، لأن الرزق : هو كل ما ينتفع به حتى الحرام يُعَدُّ رزقاً؛ لذلك قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . } [ البقرة : 172 ] .
نقول : فالعبد سبب في الرزق؛ لأن الله تعالى هو خالق الرزق أولاً ، ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل فيه ، وتعطي منه للغير ، فالرزق منك مناولة عن الرازق الأول سبحانه ، فأنت بهذا المعنى رازق وإنْ كرهوا أنْ يُسمَّي الإنسان رازقاً ، رغم قوله تعالى : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ الحج : 58 ] لماذا؟ قالوا : حتى لا يفهم أن الرزق من الناس .
لذلك نسمع كثيراً من العمال البسطاء ، أو موظفاً صغيراً ، أو بواب عمارة مثلاً حين يفصله صاحب العمل ، يقول له : يا سيدي الأرزاق بيد الله . كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله؟ قالوا : لأنه نظر إلى المناوِل الأول للرزق ، ولم ينظر إلى المناوِل الثاني .
أما الرزق الحسن الذي أعدَّه الله للذين هاجروا في سبيله ، فيوضحه سبحانه في قوله : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ . . }
.
(1/6080)

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
لأن الرزق قد يكون حسناً لكنه لا يُرضِي صاحبه ، أما رزق الله لهؤلاء فقد بلغ رضاهم ، والرضا : هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة ، بحيث لا تستشرف إلى أعلى منه ، ولا تبغي أكثر من ذلك .
لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنة بنعيمها ، مِمَّا لا عَيْنٌ رأتْ ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر ، بعدها يتجلَّى الحق - سبحانه - عليهم فيقول لعباده المؤمنين : يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون : وكيف لا نرضى وقد أعطيْتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين؟ قال : ألا أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا : وهل شيء أفضل مما نحن فيه؟ قال : نعم ، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً .
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] .
وقوله تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 27 - 28 ] .
يبالغ في الرضا ، حيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية ، وكأنها تعشقك هي ، وترضى بك .
ثم يقول سبحانه : { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ الحج : 59 ] .
عليم : بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم ، ثم يزيد مَنْ يشاء من فضله ، فليس حساب ربك في الآخرة كحسابكم في الدنيا ، إنما حسابُه تعالى بالفضل لا بالعدل .
وحليم : يحلم على العبد إنْ أساء ، ويتجاوز للصالحين عن الهَفَوات ، فإنْ خالط عملك الصالح سوء ، وإنْ خالفت منهج الله في غفلة أو هفوة ، فلا تجعل هذا يعكر صفو علاقتك بربك أو يُنغِّص عليك طمأنينة حياتك؛ لأن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حَدِّ قولهم ( حبيبك يبلع لك الزلط ) .
لذلك " لما وَشَى أحد المؤمنين للكفار في فتح مكة ، وهَمَّ عمر أن يقتله فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم " .
ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعُدَّة ، ألا نذكر لهم هذا الموقف؟ ألم يقل الحق سبحانه : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات . . } [ هود : 114 ] ومَنِ ابتُلِي بشيء يضعف أمامه ، فليكن قوياً فيما يقدر عليه ، وإنْ غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمِّر له أنت في أبواب الخير ، فإن هذا يُعوِّض ذاك .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ . . }
.
(1/6081)

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ ذلك } [ الحج : 60 ] يعني : هذا الأمر الذي تحدثنا فيه قد استقر ، وإليك هذا الكلام الجديد { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ . . } [ الحج : 60 ] .
الحق - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلافته في الأرض بحركات متوازنة ، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة ، هذه العواطف لا يحكمها قانون . وخلق لنا أيضاً غرائز ولها مهمة ، لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق ، فإياك أنْ تتعدى بغريزتك إلى غير المهمة التي خلقها الله لها .
فمثلاً ، غريزة حب الطعام جعلها الله فيك لاستبقاء الحياة ، فلا تجعلها غرضاً أصيلاً لذاتها ، فتأكل لمجرد أنْ تلتذَّ بالأكل؛ لأنها لذة وقتية تعقبها آلام ومتاعب طويلة . وهذه الغريزة جعلها الله في النفس البشرية منضبطة تماماً كما تضبط المنبّة مثلاً ، فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته ، وإنْ عطشتْ مالتْ نفسك نحو الماء ، وكأن بداخلك جرساً يُنبِّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقوِّمات استبقائها .
حب الاستطلاع غريزة جعلها الله فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة الله وعظمته ، فلا تتعدى هذا الغرض ، ولا تحرِّك هذه الغريزة إلى التجسُّس على الخَلْق والوقوف على أسرارهم .
التناسل غريزة جعلها الله لحِفْظ النوع ، فلا ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرَّم الله .
الغضب غريزة وانفعال قَسْري لا تختاره بعقلك تغضب أو لا تغضب ، إنما إنْ تعرضتَ لأسبابه فلا تملك إلا أنْ تغضب ، ومع ذلك جعل له حدوداً وقنَّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع .
الحب والكُرْه غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون ، ولا يحكمها العقل ، فلك أن تحب وأن تكره ، لكن إياك أنْ تتعدَّى هذه العاطفة إلى عمل عقليٍّ ونزوع تعتدي به أو تظلم .
لذلك يقول تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ . . } [ المائدة : 8 ] .
لأن هذه المسألة لا يحكمها قانون ، وليس بيدك الحب أو الكره؛ لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل أخيه قال له عمر : أَدِرْ وجهك عني فإنِّي لا أحبك . وكان الرجل عاقلاً فقال لسيدنا عمر : أَوَ عَدمُ حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال عمر : لا ، فقال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء . يعني أحب أو اكره كما شِئْتَ ، لكن لا تتعدَّ ولا تحرمني حقاً من حقوقي .
فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأملتَ مثلاً الغريزة الجنسية التي يصِفُها البعض بِمْلء فيه يقول : غريزة بهيمية . . سبحان الله أَلاَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها لا تتكلّم ، وهي أفهم لهذه الغريزة منك ، أَلاَ تراها بمجرد أن يُخصِّب الذكَر أُنثاه لا يقربها أبداً ، وهي لا تمكِّنه من نفسها إذا ما حملَتْ ، في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة ، وتنطلق فيها انطلاقاً يُخرِجها عن هدفها والحكمة منها؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة ، وألاَّ يظلم البهائم ، فمن الناس مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير .
(1/6082)

وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطعام والشراب .
إذن : الخالق سبحانه خلق الغرائز فيك ، ولم يكبتها ، وجعل لها منافذ شرعية لتؤدي مهمتها في حياتك؛ لذلك أحاطها بسياج من التكليف يُنظِّمها ويحكمها حتى لا تشرد بك ، فقال مثلاً في غريزة الطعام والشراب : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا . . } [ الأعراف : 31 ] .
وقال في غريزة حب الاستطلاع : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ . . } [ الحجرات : 12 ] وهكذا في كل غرائزك تجد لها حدوداً يجب عليك ألاَّ تتعداها .
لذلك قلنا في صفات الإيمان وفي صفات الكفر أن الله تعالى يصف المؤمنين بأنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ . . } [ الفتح : 29 ] لأنهم يضعون كل غريزة في موضعها فالشدة مع الأعداء ، والرحمة مع إخوانهم المؤمنين ، ويقف عند هذه الحدود لا يقلب مقاييسها ، ويلتزم بقول الحق سبحانه وتعالى { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين . . } [ المائدة : 54 ] .
وكأن الخالق عز وجل يُسوِّينا تسوية إيمانية ، فالمؤمن لم يُخلَق عزيزاً ولا ذليلاً ، إنما الموقف هو الذي يضعه في مكانه المناسب ، فهو عزيز شامخ مع الكفار ، وذليل مُنكسِر متواضع مع المؤمنين .
ويتفرع عن هذه المسألة مسألة ردِّ العقوبة إذا اعتُدِي عليك : { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله . . } [ الحج : 60 ] .
الحق - سبحانه وتعالى - هو خالق النفس البشرية ، وهو أعلم بنوازعها وخَلَجاتها؛ لذلك أباح لك إن اعتدى عليك أنْ تردَّ الاعتداء بمثله ، حتى لا يختمر الغضب في نفسك ، وقد ينتج عنه ما هو أشد وأبلغ في ردِّ العقوبة ، يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ولا تتفاقم ، فمَنْ ضربك ضربة فلك أنْ تُنفِّس عن نفسك وتضربه مثلها ، لك ذلك ، لكن تذكرَّ المثلية هنا ، لا بد أن تكون تامة ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . } [ النحل : 126 ] .
وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فتردّ الضربة بمثلها؟ وهل قوتك كقوته ، وحِدَّة انفعالك كحِدَّة انفعاله؟ ولو حدث وزدْتَ في ردِّك نتيجة غضب ، ماذا تفعل؟ أتسمح له أنْ يردَّ عليك هذه الزيادة؟ أم تكون أنت ظالماً معتدياً؟
إذن : ماذا يُلجئك لمثل هذه المتاهة ، ولك في التسامح سِعَة ، وفي قول الله بعدها : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] مَخْرج من هذا الضيق؟
وسبق أنْ حكينا قصة المرابي اليهودي الذي قال لطالب الدَّيْن : إن تأخرت في السداد أشترط عليك أنْ آخذ رطلاً من لحمك . وجاء وقت السداد ولم يُوف المدين ، فرفعه الدائن إلى القاضي وأخبره بما اشترطه عليه ، فقال القاضي : نعم من حقك أن تأخذ رطلاً من لحمه لكن بضربة واحدة بالسكين تأخذ رطلاً ، إنْ زاد أو نقص أخذناه منك .
(1/6083)

إذن : مسألة المثلية هنا عقبةٌ تحدُّ من ثورة الغضب ، وتفتح باباً للارتقاءات الإيمانية ، فإنْ كان الحق سبحانه سمح لك أن تُنفِّس عن نفسك فقال : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . } [ الشورى : 40 ] فإنه يقول لك : لا تنسَ العفو والتسامح { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] .
لذلك ، فالآية التي معنا تلفتنا لَفْتةً إيمانية : { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ . . } [ الحج : 60 ] واحدة بواحدة { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ . . } [ الحج : 60 ] يعني : زاده بعد أنْ ردَّ العدوان بمثله وظلمه واعتدى عليه { لَيَنصُرَنَّهُ الله . . } [ الحج : 60 ] ينصره على المعتدي الذي لم يرتَض حكم الله في رَدِّ العقوبة بمثلها .
وتلحظ في قوله تعالى مخايل النصر بقوله { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [ الحج : 60 ] مع أن الصفة التي تناسب النُّصْرة تحتاج قوة وتحتاج عزة ، لكنه سبحانه اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر مَنْ أراد أنْ يعاقب إلى هذه الارتقاءات الإيمانية : اغفر وارحم واعْفُ؛ لأن ربك عفو غفور ، فاختار الصفة التي تُحنِّن قلب المؤمن على أخيه المؤمن .
ثم أليس لك ذنب مع الله؟ { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ . . } [ النور : 22 ] فما دُمْت تحب أن يغفر الله لك فاغفر لعباده ، وحين تغفر لمَنْ يستحق العقوبة تأتي النتيجة كما قال ربك عز وجل : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] .
فالحق سبحانه يريد أن يشيع بيننا الصفاء النفسي والتلاحم الإيماني ، فأعطاك حقَّ رَدِّ العقوبة بمثلها لتنفِّس عن نفسك الغيظ ، ثم دعاك إلى العفو والمغفرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ . . }
.
(1/6084)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ ذلك . . } [ الحج : 61 ] يعني ما قُلْته لك سابقاً له دليل ، فما هو؟ أن الله يأخذ من القوي ويعطي للضعيف ، ويأخذ من الطويل ويعطي للقصير ، فالمسألة ليست ثابتة ( أو مكانيكا ) وإنما خلقها الله بقدر . والليل والنهار هما ظرفا الأحداث التي تفعلونها ، والحق سبحانه { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل . . } [ الحج : 61 ] .
يولج الليل يعني : يُدخِل الليل على النهار ، فيأخذ منه جزءاً جزءاً فيُطوِّل الليل ويُقصِّر النهار ، ثم يُدخِل النهار على الليل فيأخذ منه جزءاً جزءاً ، فيُطوِّل النهار ويُقصِّر الليل؛ لذلك نراهما لا يتساويان ، فمرة يطول الليل في الشتاء مثلاً ، ويقصر النهار ، ومرة يطول النهار في الصيف ، ويقصر الليل . فزيادة أحدهما ونَقْص الآخر أمر مستمر ، وأغيار متداولة بينهما .
وإذا كانت الأغيار في ظرف الأحداث ، فلا بُدَّ أن تتغير الأحداث نفسها بالتالي ، فعندما يتسع الظرف يتسع كذلك الخير فيه ، فمثلاً عندنا في المكاييل : الكَيْلة والقدح والوَيْبة وعندنا الأردب ، وكل منهما يسَعُ من المحتوى على قدر سعته . وهكذا كما نزيد أن ننقص في ظرف الأحداث نزيد وننقص في الأحداث نفسها .
ثم تُذيَّل الآية بقوله سبحانه : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ الحج : 61 ] سميعٌ لما يقال ، بصيرٌ بما يفعل ، فالقول يقابله الفعل ، وكلاهما عمل ، والبعض يظن أن العمل شيء والقول شيء آخر ، لا؛ لأن العمل وظيفة الجارحة ، فكل جارحة تؤدي مهمتها فهي تعمل ، عمل العَيْن أن ترى ، وعمل الأذن أنْ تسمع ، وعمل اليد أن تلمس ، وعمل الأنف أن يشُم ، وكذلك عمل اللسان القول ، فالقول للسان وحده ، والعمل لباقي الجوارح وكلاهما عمل ، فدائماً نضع القول مقابل الفعل ، كما في قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] .
والسمع والبصر هما الجارحتان الرئيسيتان في الإنسان ، وهما عمدة الحواس كلها ، حيث تعملان باستمرار على خلاف الشَّم مثلاً ، أو التذوق الذي لا يعمل إلا عدة مرات في اليوم كله .
(1/6085)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
{ ذلك . . } [ الحج : 62 ] أي الكلام السابق أمر معلوم انتهينا منه { بِأَنَّ الله هُوَ الحق . . } [ الحج : 62 ] والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً ، فكُلُّ ما سِوى الله - عز وجل - يتغير ، وهو سبحانه الذي يُغيِّر ولا يتغير؛ ولذلك أهل المعرفة يقولون : إن الله تعالى لا يتغير من أجلكم ، لكن يجب عليكم أنْ تتغيروا أنتم من أجل الله .
وما دام أن ربك - عز وجل - هو الحق الثابت الذي لا يتغير ، وما عداه يتغير ، فلا تحزن ، ويا غضبان ارْضَ ، ويا مَنْ تبكي اضحك واطمئن؛ لأنك ابن أغيار ، وفي دنيا أغيار لا تثبت على شيء؛ لذلك فالإنسان يغضب إذا أُصيب بعقبة في حياته يقول : لو لم تكُنْ هذه!! نقول له : وهل تريدها كاملة؟ لا بُدَّ أنْ يصيبك شيء؛ لأنك ابن أغيار ، فماذا تنتظر إنْ وصلْت القمة لا بُدَّ أنْ تتراجع؛ لأنك ابن أغيار دائم التقلُّب في الأحوال ، وربك وحده هو الثابت الذي لا يتغير .
ثم يقول سبحانه : { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل . . } [ الحج : 62 ] كل مَا تدعيه أو تعبده من دون الله هو الباطل ، يعني الذي يَبْطُل ، كما جاء في قوله تعالى : { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء : 81 ] يعني : يزول ولا يثبت أبداً { وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير } [ الحج : 62 ] العلي يعني : كل خَلْقه دونه . وكبير يعني : كل خَلْقه صغير .
ومن أسمائه تعالى { الكبير } [ الحج : 62 ] ولا نقول أكبر إلا في الأذان ، وفي افتتاح الصلاة ، والبعض يظن أن أكبر أبلغ في الوصف من كبير ، لكن هذا غير صحيح؛ لأن أكبر مضمونه كبير ، إنما كبير مقابله صغير ، فهو سبحانه الكبير؛ لأن ما دونه وما عداه صغير .
أما حين يناديك ويستدعيك لأداء فريضة الله يقول : الله أكبر؛ لأن حركة الحياة وضروريات العيش عند الله أمر كبير وأمر هام لا يغفل ، لكن إنْ كانت حركة الحياة والسعي فيها أمر كبيراً فالله أكبر ، فربُّك يُخرجك للصلاة من عمل ، ويدعوك بعدها إلى العمل : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله . . } [ الجمعة : 10 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً . . }
.
(1/6086)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{ أَلَمْ تَرَ . . } [ الحج : 63 ] إنْ كانت للأمر الحِسِّي الذي تراه العين ، فأنت لم تَرَهُ ونُنبهك إليه ، وإنْ كانت للأمر الذي لا يُدرَك بالعين فهي بمعنى : ألم تعلم . وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي يُعلِّمك الله به أوثق مما تهديك إليه عَيْنك .
فالمعنى : ألم تعلم وألم تنظر؟ . المعنيان معاً .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً . . } [ الحج : 63 ] فهذه آية تراها ، لكن ترى منها الظاهر فقط ، فترى الماء ينهمر من السماء ، إنما كيف تكَّون هذا الماء في طبقات الجو؟ ولماذا نزل في هذا المكان بالذات؟ هذه عمليات لم تَرَها ، وقدرة الله تعالى واسعة ، ولك أن تتأمل لو أردتَ أنْ تجمع كوب ماء واحد من ماء البخار ، وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف ، فهل رأيتَ هذه العمليات في تكوين المطر؟
إذن : رأيت من المطر ظاهرة ، لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله .
لذلك؛ جعل الخالق - عز وجل - مسطح الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، فاتساع مُسطَّح الماء يزيد من البَخْر الذي ينشره الله تعالى على اليابس ، كما لو وضعتَ مثلاً كوبَ ماء في غرفتك ، وتركتَه مدة شهر أو شهرين ، ستجد أنه ينقص مثلاً سنتيمتراً ، أما لو نثرتَ الكوب على أرض الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق .
إذن : فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها ، ونحن على اليابس نحتاج كمية كبيرة من الماء العَذْب الصالح للزراعة وللشرب . . الخ ، ولا يتوفر هذا إلا بكثرة كمية الأمطار .
ثم يُبيِّن سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء : { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً . . } [ الحج : 63 ] يعني : تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية . دون أن يذكر شيئاً عن تدخُّل الإنسان في هذه العملية ، فالإنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو ، إنما المسألة كلها بقدرة الله ، لكن من أين أتت البذور التي كوَّنَتْ هذا النبات؟ ومَنْ بذرها ووزَّعها؟ البُذور كانت موجودة في التربة حيَّة كامنة لم يُصِبْها شيء ، وإنْ مَرَّ عليها الزمن؛ لأن الله تعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفَّر لها عوامل الإنبات فتنبت؛ لذلك نُسمِّي هذا النبات ( العِذْى ) ؛ لأنه خرج بقدرة الله لا دَخْل لأحد فيه .
وتولَّتْ الرياح نَقْل هذه البذور من مكان لآخر ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ . . } [ الحجر : 22 ] ولو سلسلْتَ هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أُمٍّ ، خلقها الخالق سبحانه لا شجرةَ قبلها ولا بذرة . لذلك يُرْوى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها السلام ويشرف عليها ، ويقال كان خطيبها - لما رآها حاملاً وليس لها زوج سألها بأدب : يا مريم ، أتوجد شجرة بلا بذرة؟ قالت : نعم الشجرة التي أنبتتْ أول بذرة .
(1/6087)

ثم يقول سبحانه : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] اللطْف هو دِقَّة التناول للأشياء ، فمثلاً حين تريد أن تدخل خيطاً في إبرة ، تجد الخيط لا ينفذ من ثقبها لأول مرة ، فتحاول أنْ تُرفِّق من طرف الخيط وتبرمه حتى يدِقّ فينفذ من الثقب ، فالخيط بعد أنْ كان غليظاً أصبح لطيفاً دقيقاً .
ويقولون : الشيء كلما لَطُف عَنُف ، في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي ، لكن هذا غير صحيح ، فكلما كان الشيء لطيفاً دقيقاً كان خطره أعظم ، أَلاَ ترى الميكروب كيف يصيب الإنسان وكيف لا نشعر به ولا نجد له ألماً؟ ذلك لأنه دقيق لطيف ، وكذلك له مدخل لطيف لا تشعر به؛ لأنه من الصِّغَر بحيث لا تراه بالعين المجردة .
والبعوضة كم هي هيِّنة صغيرة؛ لذلك تُؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي لا تكاد تراه ، وكلما دَقَّ الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره ، فمثلاً إنْ أردتَ بناء بيت في الخلاء أو منطقة نائية ، فإنك ستضطر أنْ تضع حديداً على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة كالذئاب مثلاً ، ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران ، فإن أردْتَ أن تحمي نفسك من الذباب والبعوض احتجت إلى سِلْك أدق ، وهكذا كلما صَغُر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر .
فاللطيف هو الذي يدخل في الأشياء بلطف؛ لذلك يقولون : فلان لطيف المدخل يعني : يعني : يدخل لكل إنسان بما يناسبه ، ويعرف لكل إنسان نقطة ضَعْف يدخل إليه منها ، كأن معه ( طفاشة ) للرجال ، يستطيع أن يفتح بها أي شخصية .
لكن ، ما علاقة قوله تعالى { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] بعد قوله : { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً . . } [ الحج : 63 ] ؟ قالوا : لأن عملية الإنبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من البذرة بعد الإنبات ، وتمتصّ الغذاء من التربة ، هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى لُطْف ، وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة ، كما قال تعالى : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل . . } [ الرعد : 4 ] .
فالأرض تصبح مُخضَرَّة من لُطْف الحق سبحانه ، ومن خبرته في مداخل الأشياء ، لذلك قال بعدها : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ الحج : 63 ] .
ولدِقّة الشعيرات الجذرية نحرص ألاَّ تعلو المياه الجوفية في التربة؛ لأنها تفسد هذه الشعيرات فتتعطن وتموت فيصفرُّ النبات ويموت .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِنَّ الله . . }
.
(1/6088)

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
فما في السموات وما في الأرض مِلْك لله تعالى ، ومع ذلك لا ينتفع منها الحق سبحانه بشيء ، إنما خلقها لمنفعة خَلْقه ، وهو سبحانه غنيٌّ عنها وغنيٌّ عنهم ، وبصفات الكمال فيه سبحانه خلق ما في السماوات وما في الأرض؛ لذلك قال بعدها : { وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد } [ الحج : 64 ] .
وصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أنْ يخلق الخَلْق ، وبصفات الكمال خلق ، وملكيته تعالى للسماوات وللأرض ، ولما فيهما ملكية للظرف وللمظروف ، ونحن لا نملك السماوات ، ولا نملك الأرض ، إنما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع مما ملّكنا الله له ، فهو الغني سبحانه ، المالك لكل شيء ، وما ملَّكنا الله له ، فهو الغني سبحانه ، المالك لكل شيء ، وما ملَّكنا إلا من باطن مُلْكه .
والحميد : يعني المحمود ، فهو غني محمود؛ لأن غنَاه لا يعود عليه سبحانه ، إنما يعود على خَلْقه ، فيحمدونه لغنَاه ، لا يحقدون عليه ، ومن العجيب أن الحق سبحانه يُملِّك خَلْقَه من مُلْكه ، فمَن استخدم النعمة فيما جُعلتْ له ، ومَنْ أعطى غير القادر من نعمة الله عليه يشكر الله له ، وهي في الأصل نعمته . ذلك لأنك أنت عبده ، وقد استدعاك للوجود ، وعليه سبحانه أنْ يتولاّك ويرعاك .
فإن احتاج غير القادر منك شيئاً ، قال تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً . . } [ البقرة : 245 ] .
فاعتبره قرضاً ، وهو ماله ، لكنه ملّكك إياه؛ لذلك لا يسلبه منك إنما يأخذه قرضاً حسناً ويضاعفه لك؛ لأنه غنيٌّ حميد أي : محمود ، ولا يكون الغنى محموداً إلا إذا كان غير الغني مستفيداً من غِنَاه .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ . . }
.
(1/6089)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
هذه الآية امتداد للآية السابقة ، فما في السماء وما في الأرض مِلْك له سبحانه لكنه سخَّره لمنفعة خَلْقه ، فإنْ سأل سائل : فلماذا لا يجعلها الله لنا ويُملكنا إياها؟ نقول : لأن ربك يريد أنْ يُطمئِنك أنه لن يعطيها لأحد أبداً ، وستظل مِلْكاً لله وأنت تنتفع بها ، وهل تأمن إنْ ملّكها الله لغيره أنْ يتغيّر لك ويحرمك منها؟ فأمْنُك في أن يظل الملْك لله وحده؛ لأنه ربك ومُتولّيك ، ولن يتغير لك ، ولن يتنكّر في منفعتك .
وقوله تعالى : { والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ . . } [ الحج : 65 ] الفُلْك : السفن ، تُطلق على المفرد وعلى الجمع ، تجري في البحر بأمره تعالى ، فتسير السفن بالريح حيث أمرها الله ، كما قال سبحانه : { وَتَصْرِيفِ الرياح . . } [ البقرة : 164 ] وهذه لا يملكها ولا يقدر عليها إلا الله ، وقال في آية أخرى : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ . . } [ الشورى : 33 ] .
وتأمَّل دِقَّة الأداء القرآني من الله الذي يعلم ما كان ، ويعلم ما يكون ، ويعلم ما سيكون ، فلقائل الآن أنْ يقول : لم نَعُد في حاجة إلى الريح تُسيِّر السفن ، أو توجهها؛ لأنها أصبحت تسير الآن بآلات ومحركات ، نعم السفن الآن تسير بالمحركات ، لكن للريح معنى أوسع من ذلك ، فالريح ليست هذه القوة الذاتية التي تدفع السفن على صفحة الماء ، إنما الريح تعني القوة في ذاتها ، أياً كانت ريحاً أم بُخَاراً أم كهرباء أم ذرة . . إلخ .
بدليل قوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ . . } [ الأنفال : 46 ] يعني : تذهب قوتكم أيًا كانت هذه القوة حتى الصياد الذي يركب البحر بقارب صغير يُسيِّره بالمجاديف بقوة يده وعضلاته هي أيضاً قوة ، لا تخرج عن هذا المعنى .
وهكذا يظل معنى الآية صالحاً لكل زمان ولكل مكان ، وإلى أن تقوم الساعة .
والريح إنْ أُفردَتْ دلَّتْ على حدوث شَرٍّ وضرر ، كما في قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] .
وقوله : { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ . . } [ الأنفال : 46 ]
وقوله : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأحقاف : 24 ]
وإنْ جاءت بصيغة الجمع دلَّت على الخير ، كما في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ . . } [ الحجر : 22 ] .
وسبق أنْ تحدثنا عن مهمة الريح في تماسك الأشياء وقيامها بذاتها ، فالجبل الأشمّ الذي تراه ثابتاً راسخاً إنما ثبتَ بأثر الريح عليه ، وإحاطته به من كل جانب ، بحيث لو فُرِّغ الهواء من أحد جوانب الجبل لانهار ، وهذه هي الفكرة التي قامت عليها القنبلة ، فالهواء هو الذي يقيم المباني والعمارات ويثبتها؛ لأنه يحيطها من كل جانب ، فيُحدِث لها هذا التوازن ، فإنْ فُرِّغ من أحد الجوانب ينهار المبنى .
ثم يقول سبحانه : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ . . } [ الحج : 65 ] فالسماء مرفوعة فوقنا بلا عَمَد ، لا يمسكها فوقنا إلا الله بقدرته وقيوميته أنْ تقع على الأرض إلا بإذنه تعالى ، كما قال في آية أخرى :
(1/6090)

{ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ . . } [ فاطر : 41 ] .
{ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحج : 65 ] فمن صفاته تعالى الرأفة والرحمة ، والفَهْم السطحي لهاتين الصفتين يرى أنهما واحد ، لكن هما صفتان مختلفتان ، فالرأفة تزيل الآلام ، والرحمة تزيد الإنعام ، والقاعدة أن درْء المفسدة مُقدَّم دائماً على جَلْب المصلحة ، فربك يرأف بك فيزيل عنك أسباب الألم قبل أن يجلب لك نفعاً برحمته .
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل : قلنا هَبْ أن واحداً يرميك بحجر ، وآخر يرمي لك تفاحة ، فأيُّهما يشغلك أولاً؟ لا شكَّ ستُشغل بالحجر ، كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال هذه التفاحة؟
لذلك قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى . . } [ النحل : 61 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ . . }
.
(1/6091)

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
الحق - تبارك وتعالى - يُذكّرنا ببعض نعمه وببعض العمليات التي لو تتبعناها لوقفنا بمقتضاها على نِعَم الله علينا ، ولم نَنْسها أبداً .
أولها : { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ . . } [ الحج : 66 ] والإحياء : أن يعطي المحيي ما يُحييه قوة يؤدي بها المهمة المخلوق لها . والإحياء الأول في آدم - عليه السلام - حين خلقه ربه وسوّاه ونفخ فيه من روحه ، ثم أوجدنا نحن من ذريته .
{ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ . . } [ الحج : 66 ] وكما أن الخَلْق آية من آيات الله ، فكذلك الموت آية من آيات الله ، نراها ونلمسها ، وما دُمْتَ تُصدِّق بآية الخَلْق وآية الموت ، وتراهما ، ولا تشك فيهما ، فحين نقول لك إن بعد هذا حياة أخرى فصدِّق؛ لأن صاحب هذه الآيات واحد ، والمقدمات التي تحكم أنت بصدقها يجب أنْ تؤدي إلى نتيجة تحكم أيضاً بصدقها ، وها هي المقدمات بين يديك صادقة .
لذلك يقول تعالى بعدها : { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ . . } [ الحج : 66 ] والإحياء يُطلَق في القرآن على معانٍ متعددة ، منها الحياة المادية التي تتمثل في الحركة والأكل والشرب ، ومنها الحياة في الآخرة التي قال الله عنها : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ . . } [ العنكبوت : 64 ] .
وهذه الحياة الحقيقية؛ لأن حياة الدنيا تعتريها الأغيار ، ويتقلَّب فيها الإنسان بين القوة والضعف ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والصِّغَر والكِبَر ، وبعد ذلك يعتريها الزوال ، أما حياة الآخرة التي وصفها الله بأنها الحيوان يعني : مبالغة في الحياة ، فهي حياة لا أغيار فيها ولا زوالَ لها .
إذن : لديك حياتان : حياة لِبنْية المادة وبها تتحرك وتُحِس وتعيش ، وحياة أخرى باقية لا زوالَ لها .
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ . . } [ الأنفال : 24 ] كيف - إذن - ونحن أحياء؟ قالوا : لما يحييكم ليست حياة الدنيا المادية التي تعتريها الأغيار ، إنما يحييكم الحياةَ الحقيقية في الآخرة ، الحياة الباقية التي لا تزول ، التي قال الله عنها : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] يعني : العلم الحقيقي الذي يهدي صاحبه .
فإن كانت الحياة المادية الدنيوية بنفْخ الروح في الإنسان ، فبِمَ تكون الحياة الثانية { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ . . } [ الأنفال : 24 ] .
قالوا : هذه الحياة تكون بروح أيضاً ، لكن غير الروح الأولى ، إنها بروح القرآن الذي قال الله فيه : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا . . } [ الشورى : 52 ] وسمَّى المَلك الذي ينزل به روحاً : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
فالروح الثانية التي تُحييك الحياة الحقيقية الخالدة هي منهج الله في كتابه الكريم ، إن اتبعته نِلْتَ هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتعتَ فيها بما لا عَيْن رأت ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر ، وهي لا مقطوعة ولا ممنوعة .
ثم يقول سبحانه : { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } [ الحج : 66 ] كفور : صيغة مبالغة من كافر ، والكفور الذي لم يعرف للمنعِم حَقّ النعمة ، مع أنه لو تبيَّنها لما انفكَّ أبداً عن شكر المنعم سبحانه .
(1/6092)

والإنسان يمرُّ بمراحل مختلفة بين الحياة والموت ، كما جاء في قوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 11 ] ، فمتى سيقولون هذا الكلام؟
قالوا : هذا يوم القيامة ، وقد أحياهم الله من موت العدم ، فأحياهم في الدنيا ثم أماتهم ، ثم أحياهم في الآخرة ، فهناك موت قبل إيجاد ، وموت بعد إيجاد ، ثم يأتي البعث في القيامة . وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ . . } [ الحج : 66 ] قضية قالها الخالق - عز وجل - ولم يدعها أحد لنفسه مع كثرة الكفار والملاحدة والأفاقين في كل زمان ومكان ، لم نسمع مَنِ ادَّعَى مسألة الخَلْق ، وهذه قضية يجب أن نقف عندها وأن نبحث : لماذا لم يظهر مَنْ يدَّعي ذلك؟ وإذا لم يَدَّع الخَلْق أحدٌ ، ولم يدَّع الإحياء أحد ، فمَنْ - إذن - صاحب الخَلْق والإحياء والإماتة؟
إذا كان الناس يهتمون ويؤرخون لأيِّ مخترع آلة مثلاً ، فيقولون : مخترع الكهرباء فلان وعاش في بلدة كذا ، وكان من أمره كذا وكذا ، وتعلم في كذا ، وحصل على كذا . . الخ فكيف بمَنْ خلقكم وأحياكم من عدم؟ خاصة وهذه المسألة لم يتبجح بادعائها أحد فثبتت القضية له سبحانه وتعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ . . }
.
(1/6093)

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
الحق - سبحانه وتعالى - خلق آدم عليه السلام خليفة له في الأرض ، وأجرى له تدريباً على مهمته بالأمر الإلهي والنهي الإلهي ، وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته ، وحذَّره أن يتبع خطواته ، وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الأرض ليباشر مهمته كخليفة لله في أرضه على أنْ يظلَّ على ذِكْر من تجربته مع الشيطان . وقد سخَّر الله له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل من أجله .
ثم أنزل الله عليه منهجاً ، يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته ، وذكَّره بالمنهج التدريبي السابق الذي كلَّفه به في الجنة ، وما حدث له لما خالف منهج ربه ، حيث ظهرت عورته : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة . . } [ الأعراف : 22 ] .
كذلك إنْ خالفت هذا المنهج الإلهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في المجتمع في أيّ ناحية : في الاجتماع ، في الاقتصاد ، في التربية ، فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عُطِّل ، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لأن منهج الله هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة .
كما لو دخلتَ بيتك فوجدتَ آلة من آلات البيت لا تؤدي مهمتها ، فتعلم أن بها عطلاً فتذهب بها إلى المهندس المختص بصيانتها ، كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردُّوه إلى صاحب صيانته إلى الله وإلى الرسول ، وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن ترد الصنعة إلى صانعها ، وإلى العالِم بقانون صيانتها ، وأنت لم يدّع أحد أنه خلقك ، فحين يحدث فيك خَلَل ، فعليك أنْ تذهبَ إلى ربك وخالقك .
لذلك " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة " ، ومعنى " حزبه أمر " يعني : شيء فوق طاقته وأسبابه ، يُهرَع إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه عز وجل ، فإنْ وجدتَ في نفسك خللاً في أي ناحية ، فما عليك إلا أنْ تتوضأ ، وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك .
وإن كان المهندس يُصلح لك الآلة بشيء مادي ، ولو قطعة صغيرة من السلك ، فإن ربك عز وجل غَيْب ، وعلاجه أيضاً غَيْب يأتيك من حيث لا تدري .
ومنهج الله الذي وضعه لصيانة خَلْقه فيه أصول وفيه فروع ، الأصول : أن تؤمن بالإله الواحد الفاعل المختار ، وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيٌّ من رسالات السماء أبداً ، كما يقول تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ . . } [ الشورى : 13 ] .
فهذه أصول لا يختلف عليها دين من الأديان ، لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الأرض ، تعيش كل جماعة منهم منعزلةً عن الأخرى لبُعْد المسافات وانعدام وسائل الاتصال والالتقاء التي نراها اليوم ، والتي جعلتْ العالم كله قرية واحدة ، ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في أقصى الغرب ، وفي نفس الوقت .
(1/6094)

لما عاش الناس هذه العزلة لا يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات جديدة .
وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعددت الداءات بتعدد الجماعات ، فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج الداءات في جماعة بعينها يُبعَث إلى قومه خاصة ، فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان ، وهذا ليعالج طغيان المال ، وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها ، وهذا ليعالج التعصب القبلي .
أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك ، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم عامة للناس كافة ، وتجد أصول الرسالات عند موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أصولاً واحدة ، أمّا الفروع فتختلف باختلاف البيئات .
لكن ، لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي ، وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر واحد وستتحد فيها الداءات؛ لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعاً على امتداد الزمان والمكان .
وفي هذه الآية : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ . . } [ الحج : 67 ] أي : أن الحق سبحانه جعل لكل أمة من الأمم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لأنهم كانوا في عزلة بعضهم عن بعض ، كما جاء في قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً . . } [ المائدة : 48 ] فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة ، أما الأخلاق والعقائد فهي واحدة ، فالله عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء ، والكذب مُحرَّم في كل ديانات السماء لم يأْتِ نبي من الأنبياء ليبيح لقومه الكذب .
والمنسك : المنهج التعبدي ، ومنه قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الأنعام : 162 ] .
{ هُمْ نَاسِكُوهُ . . } [ الحج : 67 ] يعني : فاعلوه .
ثم يقول سبحانه : { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر . . } [ الحج : 67 ] كأنْ يقولوا : أنت رسول ونحن أيضاً نتبع رسولاً ، له منهج وله شريعة ، نعم : لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع قبلها ، ومناسبة لمستجدّات الأمور .
لذلك يُطمئن الحق - تبارك وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم - بعدها : { وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } [ الحج : 67 ] يعني : أطمئن ، فأنت على الحق وادْعُ إلى ربك؛ لأنك على هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيماناً فسيكون إصلاحاً وتقنيناً بشرياً تلجئهم إليه أحداث الحياة ومشاكلها ، فلن يجدوا أفضل من شرع الله يحكمون به ، وإنْ لم يؤمنوا .
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : لا تنازعهم ولا ينازعونك ، وخُذ ما أمرك الله به : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } [ الحجر : 94 ] الذين يجادلونك وينازعونك في الرسالة ، وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك ليحلوا به مشاكلهم .
والهدى وُصِف بأنه مستقيم ، لأنه هدى من الله صنعه لك ، هدى الخالق الذي يعلم ملَكات النفس الإنسانية كلها ، وشرع لكل ملكة ما يناسبها ، وأحداث الحياة ستضطرهم إلى ما قنن الله لخلافته في الأرض .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ . . }
.
(1/6095)

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
الجدل : مأخوذ من جَدْل الحبل بعضه على بعض لتقويته ، وإنْ كانت خيطاً رفيعاً نبرمه فنعطيه سُمْكاً وقوة؛ لذلك الخيط حين نبرمه يقلّ في الطول؛ لأن أجزاءه تتداخل فيكون أقوى ، فالجدْل من تمتين الشيء وتقويته ، وكذلك الجدال؛ فهو محاولة تقوية الحجة أمام الخَصْم .
وفي آية أخرى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ النحل : 125 ] فالمعنى : إنْ جادلوك بعد التي هي أحسن فقُلْ { الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ الحج : 68 ] يعني : ردهم إلى الله واحتكم إليه؛ لذلك جاء بعدها : { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة . . }
.
(1/6096)

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
لاحظ أن الحق سبحانه لم يقُلْ : يحكم بيننا وبينكم كما يقتضي المعنى؛ لأنكما طرفان تتجادلان . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : أتركهم فسوف يختلفون هم فيما بينهم ، ولن يظل الخلاف معك؛ لأن الخلاف في شيء واحد ينشأ عن هوى النفس ، وهوى النفس ينشأ من الحرص على السلطة الزمنية ، يعني : أرحْ نفسك ، فربُّك سيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض . . }
.
(1/6097)

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه ، ولم يدَّعِها أحد ، فلا يعلم ما في السماء والأرض إلا الله ، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال : ما دام الأمر من الله أحكاماً تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها ، فما ضرورة أنْ يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كافة .
وقلنا : إن الدين نوعان : نوع لا يختلف باختلاف الرسل والأمم والعصور ، وهذا في القضايا العامة الشاملة التي لا تتغير ، وهي العقائد والأصول والأخلاق ، ونوع آخر يختلف باختلاف العصور والأمم ، فيأتي الحكم مناسباً لكل عصر ، ولكل أمة .
وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض . . } [ الحج : 70 ] أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه ، فأنا أحكُم عن علم وعن خبرة .
{ إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ . . } [ الحج : 70 ] والعلم شيء ، والكتاب شيء آخر ، فما دام الله تعالى يعلم كل شيء ، وما دام سبحانه لا يضل ولا ينسى ، فما ضرورة الكتاب؟
قالوا : الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء .
وفي آية أخرى قال : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } [ عبس : 11 - 15 ] .
حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 - 22 ] .
وقال تعالى : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] ويقول تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملائكة المطَّلعين على أن الأشياء التي تحدث مستقبلاً كتبها الله أزلاً ، فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون ، ثم جاء الشيء موافقاً لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته .
إذن : مجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء ، إنما ليكون حُجَّة عليك ، فيقال لك : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] ها هو تاريخك ، وها هي قصتك ، ليس كلاماً من عندنا ، وإنما فعلْك والحجة عليك .
وعِلْم الله تعالى في قوله : { يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض . . } [ الحج : 70 ] يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد ، وهذا من عجائب الأداء القرآني ، أنْ يعطي الشيء ونقيضه ، كيف؟ هَبْ أن عندك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر في غَيبتك ، فلما عُدْتَ أسرعا بالشكوى ، كل من صاحبه ، فقلتَ لهما : اسكتا لا أسمع لكما صوتاً . وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه على وَفْق ما علمت ، لا شكَّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر ، وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه .
إذن : فعلم الله بكل شيء في السماء والأرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق ، ووعيد للمبطل .
ثم يقول سبحانه : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً . . }
.
(1/6098)

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
كأن العبادة - وهي : طاعة أمر واجتناب نهي - يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعاً ، فليس لأحد منا أن يُشرِّع للآخر ، فيأمره أو ينهاه؛ لأن الأمر من المساوى لك لا مُرجح له ، وله أنْ يقول لك : لماذا أنت تأمر وأنا أطيع؟ أما إنْ جاء الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض ، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض ، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى ، تقول : أبي أمرني بكذا وكذا ، أو ربي أمرني بكذا وكذا ، أو نهاني عن كذا وكذا .
إذن : كل دليل على حكم الفعل أو الترك لا بُدَّ أنْ يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى ، فهو الأعلى مني ومنك ، وإذا انصعْتَ لأمره ونهيه فلا حرجَ عليَّ ولا ضرر؛ لأنني ما انصعت لمساوٍ إنما انصعت لله الذي أنا وأنت عبيد له ، ولا غضاضةَ في أن نتبع حكمه .
لذلك في حِكَم أهل الريف يقولون : ( اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم ) لماذا؟ لأنك ما قطعته أنت إنما قطعه الله ، فليس الأمر تسلط أو جبروت من أحد ، وليس فيه مذلّة ولا استكانة لأحد .
ومعنى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله . . } [ الحج : 71 ] يعني : يعبدون غيره تعالى { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً . . } [ الحج : 71 ] السلطان : إما سلطان قَهْر ، أو سلطان حجة ، سلطان القهر أن يقهرك ويجبرك على ما لم تُرِدْ فِعْله ، أما سلطان الحجة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجة أن تفعل باختيارك ، وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله ليس لها سلطان ، لا قَهْر ولا حُجّة .
لذلك؛ في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهم : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي . . } [ إبراهيم : 22 ] يعني : كنتم على إشارة فاستجبتم لي ، وليس لي عليكم سلطان ، لا قوة أقهركم بها على المعصية ، ولا حجة أقنعكم بها .
ثم يقول تعالى : { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ . . } [ الحج : 71 ] يعني : علم الاجتهاد الذي يستنبط الأحكام من الحكم المُجْمل الذي يُنزله الحق تبارك وتعالى ، وهذه هي حجة العلم التي قال الله تعالى عنها : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . } [ النساء : 83 ] يعني : أهل العلم .
إذن : العبادة لا بُدَّ أن تكون بسلطان من الله نصاً قاطعاً وصريحاً لا يحتمل الجدل ، وإما أنْ تكونَ باجتهاد أُولِي العلم .
وقوله تعالى : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [ الحج : 71 ] لم يقُلْ سبحانه : لن ينتصر الظالمون ، ولم ينْفِ عنهم النصر؛ لأن هذه مسألة مُسلمة إنما لا يفزع لنصرتهم أحد ، فلن ينتصروا ولن ينصرهم أحد ، ولا يفزع أحد لينصر أحداً إلا إذا كان المنصور ضعيفاً .
ثم يقول سبحانه : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر . . }
.
(1/6099)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
تصور هذه الآية حال الكفار عند سماعهم لكتاب الله وآياته من رسول الله أو صحابته ، فإذا سمعوها { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر . . } [ الحج : 72 ] أي : الكراهية تراها وتقرؤها في وجوههم عُبُوساً وتقطيباً وغضباً وانفعالاً ، ينكر ما يسمعون ، ويكاد أن يتحول الانفعال إلى نزوع غضبي يفتك بمَنْ يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم .
لذلك قال تعالى بعدها : { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا . . } [ الحج : 72 ] والسَّطْو : الفَتْك والبطش؛ لأن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولاً على وجوههم انفعالاً يُنبيء بشيء يريدون إيقاعه بالمؤمنين ، ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش .
( قُلْ ) في الرد عليهم : ماذا يُغضِبكم حتى تسطوا علينا وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب الله . والغيظ والكراهية عند سماعهم القرآن دليل على عدم قدرتهم على الرد بالحجة ، وعدم قدرتهم أيضاً على الإيمان؛ لذلك يتقلَّبون بين غيظ وكراهية .
لذلك يخاطبهم بقوله : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ . . } [ الحج : 72 ] يعني : مالي أراكم مغتاظين من آيات الله كارهين لها الآن ، والأمر ما يزال هيِّناً؟ أمجرد سماع الآيات يفعل بكم هذا كلّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الآخرة ، الغيظ الذي تظنونه شرّاً فتسطُون علينا بسببه أمر بسيط ، وهناك أشرّ منه ينتظركم { النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ . . } [ الحج : 72 ]
وما أشبه هذا بموقف الصِّدِّيق أبي بكر حينما أوقف صناديد قريش بالباب ، وقدّم عليهم المستضعفين من المؤمنين ، فغضبوا لذلك وورِمَتْ أنوفهم ، فقال لهم : أَوَرِمتْ أنوفكم أنْ قدمتهم عليكم الآن ، فكيف بكم حين يُقدمهم الله عليكم في دخول الجنة؟
وكلمة { وَعَدَهَا . . } [ الحج : 72 ] الوعد دائماً يكون بالخير ، أما هنا فاستُعملَتْ على سبيل الاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم ، كما قال في آية أخرى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الانشقاق : 24 ] فساعةَ أن يسمع البُشْرى يستشرف للخير ، فيفاجئه العذاب ، فيكون أنكَى له .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه . . } [ الكهف : 29 ] لأن انقباض النفس ويأسها بعد بوادر الانبساط أشدّ من العذاب ذاته .
وقوله : { وَبِئْسَ المصير } [ الحج : 72 ] أي : ساءت نهايتكم ومرجعكم .
.
(1/6100)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
قُلنْا : الضرب إيقاع شيء على شيء بقوة ، ومنه نقول : ضربنا الدينار يعني : بعد أن كان قطعة من الذهب أو الفضة مثلاً أصبح عملةً معروفة متداولة .
والمثل : تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم وعجيب وبديع يَعْلَق في الذهن ، كما نصف لك إنساناً لم تَرَهُ بإنسان تعرفه . نقول هو مثل فلان . وهكذا كل التشبيهات : شيء تريد أن تعلمه للمخاطب وهو لا يعلمه .
ومنه قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ]
وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ]
وقوله تعالى : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] .
إذن : الأمثال : إعلام بشيء معلوم ليصل العلم فيه إلى شيء مجهول ، وكلمة ( مثَل ) استقلَّتْ بأن يكون المثَل بديعاً في النسج ، بليغاً موجزاً ، بحيث تتناقله الألسنة بسرعة في كلمات معدودة .
فلو وجدَت مثلاً تلميذاً مُهملاً تكاسل طوال العام ، ولم يذاكر ، فلما حضر الامتحان راح يجتهد في المذاكرة ، فتقول له : ( قبل الرماء تملأ الكنائن ) يعني : قبل أنْ تصطاد بالسهام يجب أنْ تُعِدّها أولاً وتملأ بها كنانتك ، فهذا مثَلٌ يُضرَب للاستعداد للأمر قبل حلوله .
ومن أمثلة أهل الريف يقولون : ( أعْطِ العيش لخبازه ولو يأكل نصفه ) ويُضرب لمن يجعل الصنعة عند غير صانعها والمتخصص فيها .
ويقولون فيمَنْ يُقصِّر في الأمر المنوط به : ( باب النجار مخلع ) .
وحين ترسل مَنْ يقضي لك حاجة فيفلح فيها ويأتي بالنتيجة المرجوة يقول لك : ( أبدى المخْضُ عن الزبد ) والمخضُ عملية خَضِّ اللبن في القِرْبة لفَصْل الزُّبْد عن اللبن .
وهكذا ، المثل قَوْل موجز بليغ قيل في مناسبته ، ثم استعمله الناس لخِفَّته وجماله وبلاغته في المواقف المشابهة ، والمثَل يظل على حالة الأول لا يغير ، ويجب الالتزام بنصِّه مع المفرد والمثنى والجمع ، ومع المذكر والمؤنث ، فمثلاً إنْ أرسلتَ رسولاً يقضي لك حاجة ، فعندما يعود تقول له : ( ما وراءك يا عصام ) هكذا بالكسر في خطاب المؤنث مع أنه رجل ، لماذا؟ لأن المثَل قيل أول ما قيل لمؤنث ، فظلَّ على هذه الصيغة من التأنيث حتى ولو كان المخاطَبُ مذكَّراً .
وقصة هذا المثَل أن الحارث ملك كندة أراد أن يتزوج أم إياس ، وبعثَ مَنْ تخطبها له ، وكان اسمها عصام ، فلما ذهبت إليها قالت لها أمها : إن فلانة جاءت تخطبك لفلان ، فلا تخفي عنها شيئاً ، ودعيها تشمُّك إنْ أرادت ، وناطقيها فيما استنطقتْك به ، فلما دخلتْ على الفتاة وأرادت أن ترى جسمها خلعتْ ثوبها ، وكشفتْ عن جسمها ، فقالت المرأة : ( ترك الخداع من كشف القناع ) فسارت مثلاً ، ثم عادت إلى الحارث فاستقبلها متعجلاً ردَّها فقال : ( ما وراءكِ يا عصام ) يعني : ما الخبر؟ فظلَّ المثل هكذا للمؤنث ، وإن خُوطِب به المذكر .
(1/6101)

والحق - تبارك وتعالى - يضرب لكم هذا المثل ويقول : خذوه في بالكم ، وانتبهوا له ، وافتحوا له آذانكم جيداً واعقلوه؛ لأنه سينفعكم في علاقتكم برسول الله وبالمؤمنين .
والخطاب هنا مُوجَّه للناس كافّة ، لم يخُصّ أحداً دون أحد : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ . . } [ الحج : 73 ] فلم يقُل يا أيها المؤمنون؛ لأن هذا المثَلَ مُوجَّه إلى الكفار ، فالمؤمنون ليسوا في حاجة إليه { فاستمعوا لَهُ . . } [ الحج : 73 ] يعني : انصتوا وتفهَّموا مراده ومرماه ، لتسيروا في حركتكم على وَفْق ما جاء فيه ، وعلى وَفْق ما فهمتم من مغزاه .
فما هو هذا المثَل؟
{ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ . . } [ الحج : 73 ] .
أي : الذين تعبدونهم وتتجهون إليهم من دون الله { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً . . } [ الحج : 73 ] وهو أصغر المخلوقات { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ . . } [ الحج : 73 ] يعني : تضافرَتْ جهودهم ، واجتمع أمرهم جميعاً لا واحداً واحداً ، وهذا ترقٍّ في التحدي ، حيث زاد في قوة المعاند .
كما ترقَّى القرآن في تحدِّي العرب ، فتحداهم أولاً بأنْ يأتوا بمثل القرآن ، ولأن القرآن كثير تحدّاهم بعشر سور فما استطاعوا ، فتحدَّاهم بسورة واحدة فلم يستطيعوا .
ثم يترقى في التحدي فيقول : اجمعوا كل فصحائكم وبلغائكم ، بل والجن أيضاً يساعدونكم ولن تستطيعوا : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ . . } [ الإسراء : 88 ] .
وقوله تعالى : { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً . . } [ الحج : 73 ] جاءت بنفي المستقبل فلم يقُلْ مثلاً : لم يخلقوا ، فالنفي هنا للتأبيد ، فهم ما استطاعوا في الماضي ، ولن يستطيعوا أيضاً فيما بعد حتى لا يظن أحد أنهم ربما تمكّنوا من ذلك في مستقبل الأيام ، ونفي الفعل هكذا على وجه التأبيد؛ لأنك قد تترك الفعل مع قدرتك عليه ، إنما حين تتحدَّى به تفعل لتردّ على هذا التحدِّي ، فأوضح لهم الحق سبحانه أنهم لم يستطيعوا قبل التحدي ، ولن يستطيعوا بعد التحدي .
ثم يقول تعالى : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ . . } [ الحج : 73 ] فقد تقول : إن عملية الخَلْق هذه عملية صعبة لا يُتحدَّى بها ، لذلك تحداهم بما هو أسهل من الخَلْق { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ . . } [ الحج : 73 ] وهل يستطيع أحد أن يُعيد ما أخذه الذباب من طعامه على جناحيه أو رجله أو خرطومه؟
وكانوا يذبحون القرابين عند الأصنام ، ويضعون أمامها الطعام ليباركوه ، فكانت الدماء تسيل عندها وتتناثر عليها ، فيحطّ عليها الذباب ، ويأخذ من هذه الدماء على أَرْجُله النحيفة هذه أو على أجنحته أو على خرطومه ، فتحدَّاهم أن يعيدوا من الذباب ما أخذه ، وهذه مسألة أسهل من مسألة الخَلْق .
(1/6102)

ولك أنْ تُجرِّب أنت هذه العملية ، إذا وقع ذباب على العسل الذي أمامك ، فلا بُدَّ أن يأخذ منه شيئاً ولو كان ضئيلاً لا يُدرَك ولا يُوزَن ولا تكاد تراه ، لكن أتستطيع أنْ تُمسِك الذبابة وتردّ ما أخذتْ منك؟
لذلك يقول تعالى بعدها : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] يعني : كلاهما ضعيف ، فالذباب في ذاته ضعيف وهم كذلك ضعفاء ، بدليل أنهم لن يقدروا على هذه المسألة ، لكن هناك ضعيف يدَّعي القوة ، وضعيف قوته في أنه مُقِرٌّ بضعفه ، فالذباب وإنْ كان ضعيفاً إلا أن الله تعالى قال فيه : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . } [ البقرة : 26 ] يعني : ما فوقها في الصِّغر ، ليس المراد ما فوقها في الكبر كالعصفور مثلاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ . . }
.
(1/6103)

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
يعني : هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله آلهة لا تستطيع أن تخلق ذباباً ، ولا تستطيع حتى أنْ تردَّ من الذباب ما أخذه ، هؤلاء ما عرفوا لله قدره ، ولو عرفوا قَدْر الله ما عبدوا غيره .
والقَدْر : يعني مقدار الشيء ، وقلنا : إن مقادير الأشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير ، فالطول مثلاً له مقياس يُقَاس به مقدار الطول ، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف المقيس ، فإنْ أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين القاهرة والأسكندرية مثلاً لا تستخدم المللي أو السنتيمتر ولا حتى المتر ، إنما تستخدم الكيلومتر ، فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر ، أما إنْ أردتَ صورة شخصية تقول سنتيمتر .
إذن : لكل شيء مقدار يُقدَّر به ، ومعيار يُقاس به ، فإنْ أردتَ المسافة تقيس الطول ، فإنْ أردت المساحة تقيس الطول في العرض ، فإنْ أردتَ الحجم تقيس الطول في العرض في الارتفاع ، الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع ، والحجم بالمتر المكعب . كذلك في الوزن تُقدِّره بالكيلو أو الرطل أو الجرام . . إلخ .
وقدر تأتي بمعنى : ضيَّق ، كما جاء في قوله تعالى : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ . . } [ الفجر : 16 ] .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله . . } [ الطلاق : 7 ] .
والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضاً في المعنويات ، فمثلاً تعبر عن الزيادة المادية تقول : فلان كبر يعني شَبَّ وزاد ، أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه : كَبُر { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ . . } [ الكهف : 5 ] يعني : عَظُمتْ .
والحق - تبارك وتعالى - ليس مادة؛ لأنه سبحانه فوق المادة ، فمعنى المقدار في حقه تعالى عظمته في صفات الكمال فيه { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ . . } [ الحج : 74 ] ما عظّموه حَقَّ التعظيم الذي ينبغي له ، وما عرفوا قَدْره ، ولو عرفوا ما عبدوا غيره ، ولا عبدوا أحداً معه من هذه الآلهة التي لا تخلق ذباباً ، ولا حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب ، فكيف يُسَوُّون هؤلاء بالله ويقارنونهم به عز وجل؟ إنهم لو عرفوا لله تعالى قَدْره لاستحيوا من ذلك كله .
ثم تُذيَّل الآية بقوله تعالى : { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 74 ] فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق الذي نحن بصدده؟
قالوا : لأن الحق - سبحانه وتعالى - تكلَّم في المثَل السابق عَمَّنْ انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى عبادة الأصنام وقال : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] فقال في مقابل هذا الضعف إن الله لقويُّ ، قوة عن العابد؛ لأنه ليس في حاجة إلى عبادته ، وقوة عن المعبود لأنه لو شاء حَطَّمه ، وما دُمْتم انصرفتم عن الله وعبدتم غيره ، فهذا فيه مُضارَّة ، وكأن هناك معركة ، فإنْ كان كذلك فالله عزيز لا يغالب .
والآية : { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ . . } [ الحج : 74 ] وردتْ في عدة مواضع في كتاب الله ، منها :
(1/6104)

{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 91 ] فلم يعرفوا لله تعالى قَدْره لأنهم اتهموه ، وله سبحانه كمال العدل ، فكيف يُكلف عباده بعبادته ، ولا يبلغهم برسول؟ وهو سبحانه القائل : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
فحين يقولون : { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 91 ] كأنهم يصِفُون الحق سبحانه بأنه يُعذِّب الناس دون أنْ يُبلِّغهم بشيء . ويردّ عليهم في هذه المسألة : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى . . } [ الأنعام : 91 ] .
وفي موضع آخر : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ . . } [ الزمر : 67 ] .
ونقول : قَدّرَه حَقَّ قدره ، وقَدَره قَدْره ، كأن الأمور تختلف في تقدير الأشياء ، فمثلاً تنظر إلى حجرة فتقول : هذه تقريباً 5×4هذا تقدير إجمالي تقريبي ، إنما إنْ أخذت المقياس وقدَّرْتَ تقديراً حقيقياً ، فقد تزيد أو تنقص ، فالأول تقول : قدَّرْت الحجرة قَدْرها . والآخر تقول : قدرت الحجرة حَقَّ قَدرها .
وعليه فإنك إنْ أردت أنْ تُقدِّر الله تعالى حَقَّ قَدْره فإنك تقدِّره على قَدْر استيعاب العقل البشري ، إنما قَدْره تعالى حقيقة فلا تحيط به؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى ولا تُدرَك إدراكاً تاماً .
ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن علم اليقين وعين اليقين وحقِّ اليقين . ولما نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ . . } [ آل عمران : 102 ] قال بعض الصحابة : ومَنْ يقدر على ذلك إنها مسألة صعبة أن نتقي الله التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل ، فأنزل الله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم . . } [ التغابن : 16 ] ونزلت : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . } [ البقرة : 286 ] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أثنى على الله تعالى يقول : " سبحانك ، لا نحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " .
لماذا؟ لأنه لا يملك أحد مهما أُوتِي من بلاغة الأسلوب أنْ يُثني على الله الثناء المناسب الذي يليق به سبحانه ، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على نفسه ، وعلَّمنا كيف نثني عليه سبحانه ، فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على الله بفنون القول والثناء ، فإن العييَّ الذي لا يجيد الكلام يطمئن حيث يُثِني على ربه بما علمه من الثناء ، وما وضعه من صيغ يقولها الفيلسوف ، ويقولها راعي الشاة .
ولولا أن الله تعالى علَّمنا صيغة الحمد في سورة الفاتحة فقال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ما تعلمنا هذه الصيغة ، فتعليم الله لعباده صيغة الحمد في ذاتها نعمة تستحق الحمد ، والحمد يستحق الحمد ، وهكذا في سلسلة لا تنتهي ، ليظل الحق - تبارك وتعالى - محموداً دائماً ، ويظل العبد حاملاً دائماً .
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مسألة الألوهية وما ينبغي لها من صفات الكمال المطلق ، وحذر أنْ نُدخِل عليها ما ليس منها وما لا يستحقها ، وهذه قمة العقائد ، وبعد أن نؤمن بالإلهيات بهذا الصفاء ونُخلِّص إيماننا من كل ما يشوبه لا بُدَّ من البلاغ عن هذه القوة الإلهية التي آمنا بها ، والبلاغ يكون بإرسال الرسل .
لذلك قال سبحانه : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس . . }
.
(1/6105)

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
إذن : المرحلة الثانية في الإيمان بعد الإيمان بالقمة الإلهية الإيمان بالرسل { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس . . } [ الحج : 75 ] .
والاصطفاء : اختيار نخبة من كثير ، واختيار القليل من الكثير دليل على أنها الخلاصة والصفوة ، كما يختلف الاصطفاء باختلاف المصطفي ، فإنْ كان المصطفِي هو الله تعالى فلا بُدَّ أنْ يختار خلاصة الخلاصة .
والاصطفاء سائر في الكون كله ، يصطفي من الملائكة رسلاً ، ومن الناس رسلاً ، ويصطفي من الزمان ، ويصطفي من المكان ، كما اصطفى رمضان من الزمان ، والكعبة من المكان . ولم يجعل الحق سبحانه الاصطفاء لتدليل المصطفى على غيره ، إنما ليُشيع اصطفاءَه على خَلْق الله ، فما اصطفى رمضان على سائر الزمن - لا ليدلل رمضان - إنما لتأخذ منه شحنة تُقوِّي روحك ، وتُصفِّيها بقية الأيام ، لتستفيد من صالح عملك فيها .
وقد يتكرر الاصطفاء مع اختلاف متعلق الاصطفاء؛ لذلك وقف المستشرقون عند قول الله تعالى : { يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } [ آل عمران : 42 ] .
يقولون : ما فائدة تكرار الاصطفاء هنا؟ ولو تأملنا الآية لوجدنا فَرْقاً بين الاصطفاء الأول والآخر : الاصطفاء الأول اصطفاء؛ لأنْ تكوني عابدة تقية متبتلة منقطعة في محرابك لله ، أما الاصطفاء الآخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعاً ، بأن تكوني أماً لمولود بلا أب ، فمُتعلِّق الاصطفاء - إذن - مختلف .
وتنقسم الملائكة في مسألة الاصطفاء إلى ملائكة مُصْطفاة ، وملائكة مُصْطَفًى منها . وفي آية أخرى يقول تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً . . } [ فاطر : 1 ] يعني : كلهم لهم رسالة مع عوالم أخرى غيرنا .
أما في الآية التي معنا ، فالكلام عن الملائكة الذين لهم صلة بالإنسان أمثال جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، والحفظة الكاتبين والمكلفين بحفظ الإنسان ، فالله تعالى يصطفي هؤلاء ، أما الباقون منهم فالله مصطفيهم لعبادته فهم مُهيِّمون لا يدرون عن هذا الخلق شيئاً ، وهم الملائكة العالون الذين قال الله عنهم في الحديث عن إبليس : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] يعني : الذين لم يشملهم الأمر بالسجود؛ لأن لهم مهمة أخرى .
ثم يقول تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ الحج : 75 ] السمع يتعلق بالأصوات ، والبصر يتعلق بالأفعال ، وهما كما قلنا عُمْدة الحواسِّ كلها ، والحق سبحانه في قوله : { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ الحج : 75 ] يُبيّن لنا أن رسله سيُوَاجَهُون بأقوال تؤذيهم واستهزاء ، وسيُقَابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم ، فليكُنْ هذا معلوماً حتى لا يفُتّ في عَضُدهم ، وأنا معهم سميع لما يُقال ، بَصير بما يفعل ، فهُمْ تحت سمعي وبصري وكلاءتي .
(1/6106)

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [ الحج : 76 ] ما أمامهم ، ويعلم أيضاً ما خلفهم ، فليعمل الإنسان ما يشاء ، فعِلْم الله محيط به .
{ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } [ الحج : 76 ] فالمرجع في النهاية إليه سبحانه ، فالحق - تبارك وتعالى - لم يخلق خَلْقه ليتركهم هَمَلاً ، إنما خلقهم لحكمة ، وجعل لهم نهاية يُجازَي فيها كُلٌّ بعمله ، فمَن تعب ونصب في سبيل دعوة الله وتحمّل المشاقّ في مساندة رسل الله فله جزاؤه ، ومَنْ جابههم وعاندهم سواء بالأقوال السَّابّة الشاتمة المستهزئة ، أو بالأفعال التي تعوق دعوتهم ، فله أيضاً ما يستحق من العقاب .
وبعد أن حدَّثنا ربنا عز وجل عن الإلهيات وعن الرسل التي تُبلِّغ عنه سبحانه ، يُحدثنا عن المنهج الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا ، هذا المنهج موجز في افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، وهو لا يشمل في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة . فالأوامر والنواهي محصورة في عِدَّة أمور ، والباقي مباح؛ لأن الله تعالى وضع الأوامر والنواهي في الأصول التي تعصم حركة الحياة من الأهواء والنزوات ، وترك الباقي لاختيارك تفعله على أيِّ وجه تريد .
لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه الأمور التي تركها الله لنا ، ولو أراد سبحانه لأنزل فيها حكماً محكماً ، لا يختلف عليه أحد . ولك أن تقول : ولماذا ترك الحق سبحانه هذه الأمور تتضارب فيها الأقوال ، وتختلف فيها الآراء ، وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟
قالوا : هذا مراد الله؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان مُسخَّراً في أشياء ، ومختاراً في أشياء أخرى ، فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الاجتهاد ، ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق ، وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل؛ لأن الله لو أراده على لون واحد لقاله ، إنما تركه محتملاً للآراء .
إذن : أراد سبحانه أن تكون هذه الآراء لأن الإنسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات وله اختيار في بعض الأمور ، كذلك الحال في التكليف ، فهو مقهور في الأصول التي لو حاد عنها يفسد العالم ، ومختار في أمور أخرى يصحّ فِعْلها ويصحّ تَرْكها .
يقول تعالى في هذا المنهج : { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ . . }
.
(1/6107)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
النداء في ضَرْب المثل السابق كان للناس كافَّة؛ لأنه يريد أنْ يَلفِت عُبَّاد الأصنام إلى هذا المثَل ، ويُسْمعهم إياه ، أمَّا هنا فالكلام عن منهج ودستور مُوجَّه ، خاصّة إلى الذين آمنوا ، لأنه لا يُكلَّف بالحكم إلا مَنْ آمن به ، أما مَنْ كفر فليس أَهْلاً لحمل هذه الأمانة؛ لذلك تركه ولم ينظم له حركة حياته . وكما قلنا في رجل المرور أنه يساعد مَن استعان به ووثق فيه ، فيدلّه ويرشده ، أما مَنْ شكَّ في كلامه وقلّلَ من شأنه يتركه يضل في مفترق الطرق .
فإذا ناداك ربك بما يكلفك به ، فاعلم أن الجهة مُنفكّة ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ . . } [ النساء : 136 ] .
وقد اعترض على أسلوب القرآن في هذه الآية بعض الذين يأخذون الآيات على ظاهرها ، يقولون : كيف يخاطبهم بيا أيها الذين آمنوا ثم يقول : آمِنوا ، كيف وهم يؤمنون بالفعل؟
قالوا : المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظَلُّوا على إيمانكم في الحكم الجديد ، واستمِرّوا على إيمانكم؛ لذلك إذا طلبتَ شيئاً ممَّنْ هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه .
كما أن هناك فَرْقاً بين الإيمان بالحكم وبين تنفيذ الحكم ، فقد تؤمن بالحكم أنه من الله ولا تشكّ فيه ولا تعترض عليه ، لكنك لا تنفذه وتعصاه ، فمثلاً في الحج يقول تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت . . } [ آل عمران : 97 ] الذي لله تعالى على عباده أنْ يحجوا البيت { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً . . } [ آل عمران : 97 ] وهذا شرط ضروري ، فلا تكليفَ بلا استطاعة ، ثم يقول : { وَمَن كَفَرَ } [ آل عمران : 97 ] .
فهل يعني هذا أن مَنْ لم يحج فهو كافر؟
قالوا : لا ، لأن المراد : لله على الناس حكم يعتقده المؤمن ، بأن لله على الناس حج البيت ، فمن اعتقد هذا الاعتقاد فهو مؤمن ، أما كونه ينفذه أو لا ينفذه هذه مسألة أخرى .
ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلاة : { اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ . . } [ الحج : 77 ] لقد جاء الرسل من عند الله بتكاليف كثيرة ، لكن خَصَّ هنا الصلاة لأنها التكليف الذي يتكرر كل يوم خمس مرات ، أما بقية التكاليف فهي موسمية : فالصوم شهر في العام كله ، والحج مرة في العمر كله لمن استطاع ، والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول الحَوْل .
إذن : تختلف فريضة الصلاة عن باقي الفرائض؛ لذلك خَصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمَنْ تركها فقد كفر " .
ويقول : " الصلاة عماد الدين " .
وخصَّها الحق - تبارك وتعالى - بظرف تشريعي خاص ، حيث فُرِضت الصلاة بالمباشرة ، وفُرِضت باقي الفرائض بالوحي .
وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - قلنا : إن رئيس العمل يمكن أن يرسل لك ورقة يقول : افعل كذا وكذا ، فإنْ كان أمراً هاماً اتصل بك تليفونياً ، وأخبرك بما يريد لأهميته ، فإنْ كان الأمر أهم من ذلك وجاء من جهة أعلى يقول لك : تعال عندي لأمر هام ، ويُكلِّفك به مباشرة ، وكذلك على حسب الأهمية يوجد ظرف التشريع .
(1/6108)

فالصلاة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض ، إنما جاءت مباشرة من المُوحِي سبحانه وتعالى؛ لأنها ستكون صلة بين العبد وربه ، فشاء أن يُنزّهَها حتى من هذه الواسطة ، ثم ميَّزها على غيرها من التكاليف ، فجعلها الفريضة التي لا تسقط عن المسلم بحال أبداً . فقد تكون فقيراً فلا تلزمك الزكاة ، وغير مستطيع فلا يلزمك حج ، ومريض أو مسافر فلا يلزمك صوم .
أما الصلاة فلا يُسقِطها عنك شيء من هذا كله ، فإنْ كنت غير قادر على القيام فلك أنْ تُصلِّي قاعداً أو مضطجعاً أو راقداً ، تشير بطرفك لركوعك وسجودك ، ولو حتى تجري أفعال الصلاة على قلبك ، المهم أن تظلّ ذاكراً لربك متصلاً به ، لا يمر عليك وقت إلا وهو سبحانه في بالك .
وقلنا : إن ذكر الله في الأذان والإقامة والصلاة ذِكْر دائم في كل الوقت لا ينقطع أبداً ، فحين تصلي أنت الصبح مثلاً غيرك يصلي الظهر ، وحين تركع غيرك يسجد ، وحين تقول : بسم الله الرحمن الرحيم . غيرك يقول : الحمد لله رب العالمين . . الخ .
فهي عبادة متداخلة دائمة لا تنقطع أبداً؛ لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطباً الزمن : يا زمن فيك كل الزمن . يعني : في كل جزئية من الزمن الزمن كله ، كأنه قال : يا ظُهْر ، وفيك العصر ، وفيك المغرب ، وفيك العشاء ، وهكذا العالم كله يدور بعبادة لله لا تنتهي .
وذكر من الصلاة الركوع والسجود؛ لأنهما أظهر أعمال الصلاة ، لكن الركوع والسجود حركات يؤديها المؤمن المخلص ، ويؤديها المنافق ، وقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى؛ لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُميِّز هذا من هذا ، فقال : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ . . } [ الحج : 77 ] .
فليست العبرة في حركات الركوع والسجود ، إنما العبرة في التوجّه بها إلى الله ، وإخلاص النية فيها لله ، وإلا أصبحت الصلاة مجرد حركات لا تعدو أن تكون تمارين رياضية كما يحلو للبعض أن يقول : الصلاة فيها تمارين رياضية تُحرِّك كل أجزاء الجسم ، نعم هي كما تقولون رياضة ، لكنها ليست عبادة ، العبادة أن تؤديها لأن الله تعالى أمرك بها .
ثم يقول تعالى : { وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] .
والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف ، لكن جاءت مع الصلاة على سبيل الإجمال ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالخير - إذن - كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من خير المجتمع؛ لأن المنهج ما جاء إلا لينظم حركة الحياة تنظيماً يتعاون ويتساند لا يتعاند ، فإنْ جاء الأمر على هذه الصورة سَعِد المجتمع بأَسْره .
(1/6109)

ولا تنْسَ أن المنهج حين يُضيِّق عليك ويُقيِّد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت ، وأنت المستفيد من تقييد الحركة؛ لأن ربك قيّد حركتك وضيَّق عليك حتى تُلحِق الشر بالآخرين ، وفي الوقت نفسه ضيّق على الآخرين جميعاً أن يتحركوا بالشر ناحيتك ، وأنت واحد وهم كثير ، فمن أجل تقييد حركتك قيّد لك حركة الناس جميعاً ، فمَنِ الكاسب في هذه المسألة .
الشرع قال لك : لا تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعاً : لا تسرقوا منه ، وقال لك : غُضّ بصرك عن محارم الغير وأنت واحد . وقال لكل غير : غُضُّوا أبصاركم عن محارم فلان ، فكل تكليف من الله للخَلْق يعود عليك .
فالمعنى : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] أي : الذي لا يأتي منه فساد أبداً ، وما دامت الحركات صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون ، فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ الأهواء وتعاندت ، والخير : كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى .
ثم يقول سبحانه : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] لكن ، أين سيكون هذا الفَلاَح : في الدنيا أم في الآخرة؟
الفلاَح يكون في الدنيا لمن قام بشرع الله والتزم منهجه وفعل الخير ، فالفَلاح ثمرة طبيعية لمنهج الله في أيِّ مجتمع يتحرك أفرادُه في اتجاه الخير لهم وللغير ، مجتمع يعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وعندها لن ترى في المجتمع تزاحماً ولا تنافراً ولا ظلماً ولا رشوة . . الخ هذا الفلاح في الدنيا ، ثم يأتي زيادة على فلاح الدنيا فلاح الآخرة .
إذن : لا تظنوا التكاليف الشرعية عِبْئاً عليكم؛ لأنها في صالحكم في الدنيا ، وبها فلاح دنياكم ، ثم يكون ثوابها في الآخرة مَحْض الفضل من الله .
وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة فقال : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته " ذلك لأن الإنسان يفعل الخير في الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها ، ثم ينال الثواب عليها في الآخرة من فضل الله كما قال تعالى : { وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ . . } [ النساء : 173 ] .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] نعرف أن لعل أداة للترجي ، وهو درجات بعضها أرْجى من بعض ، فمثلاً حين تقول : لعل فلاناً يعطيك ، فأنت ترجو غيرك ولا تضمن عطاءه ، فإنْ قلت : لعلِّي أعطيك . فالرجاء - إذن - في يدك ، فهذه أرجى من سابقتها ، لكن ما زلنا أنا وأنت متساويين ، وربما أعطيك أولاً ، إنما حين تقول : لعل الله يعطيك فقد رجوْتَ الله ، فهذه أرجى من سابقتها ، فإذا قال الله تعالى بذاته : لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها؛ لأن الوعد من الله والرجاء فيه سبحانه لا يخيب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ . . }
.
(1/6110)

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
معنى { حَقَّ جِهَادِهِ . . } [ الحج : 78 ] كالذي قلناه في { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 74 ] لأن الجهاد أيضاً يحتاج إلى إخلاص ، وأنْ تجعل الله في بالك ، فربما خرجتَ لمجرد أن تدفع اللوم عن نفسك وحملتَ السلاح فعلاً ودخلت المعركة ، لكن ما في بالك أنها لله وما في بالك إعلاء كلمة الله ، كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته ، أو يقاتل طمعاً في الغنائم ، أو لأنه مغتاظ من العدو وبينه وبينه ثأر ، ويريد أن ينتقم منه ، هذه وغيرها أمور تُخرِج القتال عن هدفه وتُفرغه من محتواه .
لذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليُرى مكانه ، فمَنْ في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " " وهذا هو حق الجهاد ، وأنت فيه حكَم على نفسك ، لأن ميزان ذلك في يدك
. وقد تسأل : ولماذا الجهاد؟ قالوا : لأنك إذا انتفعتَ بالمنهج تطبيقاً له بعد التحقيق الذي أتى به الرسل تنفع نفسك ، لكن ربك - عز وجل - يريد أنْ يُشيع النفع لمن معك أيضاً ، وهذا لا يتأتّى إلا بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب ، وإلا فكيف ستربح الصفقة التي قال الله تعالى عنها : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة . . } [ التوبة : 111 ] .
وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة ، كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة : الجندي حين يقتحم الأهوال والمخاطر ويُعرِّض نفسه للموت ، فهذا يعني أنه دخل المعركة وما عرَّض نفسه للموت ، فهذا يعني أنه ما دخل المعركة وما عرَّض نفسه للقتل إلا وهو واثق تمام الثقة ، أن ما يذهب إليه بالقتل خير مما يناله بالجُبْن ، وهذا يشجع الآخرين ويحثّهم على القتال .
لذلك ، في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد وكان في فمه تمرة يمصُّها ، فقال : يا رسول الله ، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله؟ قال : نعم ، فألقى التمرة من فيه وخرج لتوِّه إلى الجهاد لأنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه بالشهادة خير مما ترك .
أما الذين بَقَوْا ولم يخرجوا ، فمهمتهم أن يحملوا المنهج ، وأنْ يحققوه ، وإلا لو خرج الجميع إلى القتال واستشهدوا جميعاً ، فمَنْ يحمل منهج الله وينشره؟
وجاءءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد ، فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتعلبنا على الكفر فلم يَعُدْ هناك كفار ، أو خَلَّوْا طريق دعوتنا وتركونا ، وأحبوا أنْ يعيشوا في بلادنا أهل ذمة ، فلا داعي - إذن - للقتال ، ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس .
(1/6111)

لذلك قال تعالى بعدها : { هُوَ اجتباكم . . } [ الحج : 78 ] يعني : اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة أُخرجت للناس ، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلاً له ، وعلى مستوى مسئوليته ، وأنْ نحقق ما أراده الله منّا .
كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها ، نقول لهم : لقد اختاركم الله ، فكونوا أَهْلاً لهذا الاختيار ، واجعلوا كلامه تعالى في محلّه .
ثم يقول سبحانه : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ . . } [ الحج : 78 ] يعني : ما اجتباكم ليُعنتكم ، أو ليُضيِّق عليكم ، أو ليُعسِّر عليكم الأمور ، إنما جعَل الأمر كله يُسْر ، وشرعه على قَدْر الاستطاعة ، ورخَّص لكم ما يُخفِّف عنكم ، ويُذهِب عنكم الحرج والضيق ، فمَنْ لم يستطع القيام صلى قاعداً ، ومَنْ كان مريضاً أفطر ، والفقير لا زكاة عليه ولا حج . . الخ .
كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ . . } [ البقرة : 220 ] لكنه سبحانه ما أعنتكم ولا ضَيَّق عليكم ، وما كلَّفكم إلا ما تستطيعون القيام به .
وقوله تعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] كلمة ( ملة ) جاءت هكذا بالنصب ، لأنها مفعول به لفعل تقديره : ( الزموا ) مِلة أبيكم إبراهيم؛ لأنكم دعوته حين قال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ . . } [ البقرة : 128 ]
ومن دعوة إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ . . } [ البقرة : 129 ] لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرى عيسى " .
يعني : من ذريته وذرية ولده إسماعيل { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا . . } [ البقرة : 128 ] أعطنا التكاليف ، وكأنه مُتشوِّق إلى تكاليف الله ، وهل يشتاق الإنسان للتكليف إنْ كان فيه ضيق أو مشقة؟
وكذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعشقون تكاليف الإسلام ، ويسألون عنها رسول الله رغم قوله لهم : " ذروني ما تركتكم " إلا أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة ، لا على ما كانت الجاهلية تفعله ، بل على ما أمر به الإسلام .
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ . . } [ الحج : 78 ] .
نقول : الإسلام انقياد عَقَديٌّ للجميع ، وفي أمة الإسلام مَنْ ليس من ذرية إبراهيم ، لكن إبراهيم عليه السلام أبٌ لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، والرسول أب لكل مَنْ آمن به؛ لأن أبوة الرسول أبوة عمل واتباع ، كما جاء في قول الله تعالى في قصة نوح عن ابنه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ . . } [ هود : 46 ] .
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً لكل مَنْ آمن به سَمَّى الله زوجاته أمهات للمؤمنين ، فقال سبحانه : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ . . } [ الأحزاب : 6 ] .
وما دامت الأزواج أمهات ، فالزوج أب ، وبناءً على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلام أباً لأمة الإسلام ، وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سلالته .
ونجد البعض ممَّنْ يحبون الاعتراض على كلام الله يقولون في مسألة أبوة الرسول لأمته : لكن القرآن قال غير ذلك ، قال في قصة زيد بن حارثة :
(1/6112)

{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ . . } [ الأحزاب : 40 ] فنفى أن يكون محمد أباً لأحد ، وفي هذا ما يناقض كلامكم .
نقول : لو فهمتم عن الله ما اعترضتُم على كلامه ، فالله يقول : ما كان محمد أباً لأحدكم ، بل هو أب للجميع ، فالمنفيّ أن يكون رسول الله أباً لواحد ، لا أن يكون أباً لجميع أمته . وقال بعدها : { ولكن رَّسُولَ الله . . } [ الأحزاب : 40 ] وما دام رسول الله ، فهو أب للكل .
ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ . . } [ الحج : 78 ] يعني : إبراهيم عليه السلام سماكم المسلمين ، فكأن هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السلام : { وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس . . } [ الحج : 78 ] .
وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير ، فيقول سبحانه : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] .
لماذا؟ قالوا : لأن رسول الله بلَّغ رسالة الله ، وأشهد الله على ذلك حين قال : " اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد " أشهد أنِّي بلغتُ ، وهو صلى الله عليه وسلم يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملاً لهذه الرسالة ، مُبلِّغاً لها حتى يسمع كلام الرسول مَنْ لم يحضره ولم يَرَهُ ، وهكذا يكون الرسول شهيداً على مَنْ آمن به ، ومَنْ آمن شهيداً على مَنْْ بلّغه .
لذلك من شرف أمة محمد أولاً أنه لا يأتي بعده رسول؛ لأنهم مأمونون على منهج الله ، وكأن الخير لا ينطفيء فيهم أبداً . وقلنا : إن الرسل لا يأتون إلا بعد أنْ يعُمَّ الفساد ، ويفقد الناس المناعة الطبيعية التي تحجزهم عن الشر ، وكذلك يفقدها المجتمع كله فلا ينهى أحد أحداً عن شر؛ عندها يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد .
فختام الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم شهادة أن الخير لا ينقطع من أمته أبداً ، ومهما انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم . لذلك حدَّد رسول الله هذه المسألة فقال : " الخير فيَّ حصراً ، وفي أمتي نثراً " فالخير كله والكمال كله في شخص رسول الله ، ومنثور في أمته .
ثم يعود السياق إلى الأمر بالصلاة : { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة . . } [ الحج : 78 ] لأنها الفريضة الملازمة للمؤمن ، وفيها إعلاء الولاء المكرر في اليوم خمس مرات ، وبها يستمر ذِكْر الله على مدى الزمن كله لا ينقطع أبداً في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله ، وتضم بعضه إلى بعض .
والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق - تبارك وتعالى - يجده دائماً لا ينقطع ، فاليوم مثلاً عندنا أربع وعشرون ساعة ، واليوم عند الله ألف سنة مما تعدُّون ، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة ، وهناك يوم اسمه يوم الآن أي : اللحظة التي نحن فيها ، وهو يوم الله الذي قال عنه :
(1/6113)

{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] لذلك يقول : ما شغل ربك الآن وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ؟ قال : " أمور يبديها ولا يبتديها ، يرفع أقواماً ، ويضع آخرين " .
فيوم الآن يوم عام ، لا هو يوم مصر ، ولا يوم سوريا ، ولا يوم اليابان إذن : في كل لحظة يبدأ لله يوم ينتهي يوم ، فيومه تعالى مستمر لا ينقطع .
ونقرأ في الحديث النبوي الشريف : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسِيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل " .
نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم لا ينقطع ، وفي كل لحظة من لحظات الزمن ينتهي يوم ويبدأ يوم ، وينتهي ليل ويبدأ ليل . إذن : فالله تعالى يده مبسوطة دائماً لا يقبضها أبداً ، كما قال سبحانه : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ . . } [ المائدة : 64 ]
ثم يقول سبحانه : { واعتصموا بالله } [ الحج : 78 ] الجئوا إليه في الشدائد ، وهذا يعني أنكم ستُواجهون وتُضطهدون ، فما من حامل منهج لله إلا اضُطهد ، فلا يؤثر فيكم هذا ولا يفُتُّ في عَضُدكم ، واجعلوا الله ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم ، كما قال سبحانه : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] .
واعتصامكم بالله أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنما { هُوَ مَوْلاَكُمْ } [ الحج : 78 ] يعني : المتولّي لشأنكم ، وما دام هو سبحانه مولاكم { فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير }
.
(1/6114)

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
لما قال الحق - تبارك وتعالى - في الآية قبل السابقة من سورة الحج { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . . } [ الحج : 77 ] ولعلَّ تفيد الرجاء ، أراد سبحانه أن يؤكد هنا على فلاح المؤمنين فقال : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وأن الرجاء من الله واقع ومؤكد ، لذلك جاء بأداة التحقيق { قَدْ } التي تفيد تحقُّق وقوع الفعل ، وهكذا تنسجم بداية سورة ( المؤمنون ) مع نهاية سورة ( الحج ) .
وقوله تعالى هناك { تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] وهنا { أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 1 ] مادة ( فلح ) مأخوذة من فلاحة الأرض ، والفَلْح هو الشق؛ لذلك قالوا : إن الحديد بالحديد يفلح ، وشَقُّ الأرض : إهاجتها وإثارتها بالحرث ، وهذه العملية هي أساس الزرع ، ومن هنا سُمِّي الزرع حَرْثاً في قوله سبحانه : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام * وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } [ البقرة : 204 - 205 ] .
ومعنى أفلح : فاز بأقصى ما تتطلع إليه النفس من خير .
والأرض حين تحرثها تكون خالية ليس فيها شيء يُهْلَك ، إذن : المراد بالحرث هنا الزرع الناتج عن عملية الحرث ، والتي لا بُدَّ منها كي تتم عملية الزراعة؛ لأنك بالحرث تثير التربة ليتخللها الهواء ، فيزيد من خصوبتها وصلاحها لاستقبال البذرة ، وسبق أن تحدثنا عن عملية الإنبات ، وكيف تتم ، وأن النبات يتغذى على فَلْقتي البذرة إلى أن يصبح له جذر قوي يستطيع أن يمتصّ من التربة ، فإن ألقيتَ البذرة في أرض صماء غير مثارة فإن الجذر يجد صعوبة في اختراق التربة والامتصاص منها .
فالحق - تبارك وتعالى - يعطينا صورة من واقعنا المشاهد ، ويستعير من فلاحة الأرض ليعبر عن فلاح المؤمن وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة ، فالفلاح يحرث أرضه ويسقيها ويرعاها فتعطيه الحبة بسبعمائة حبة ، وهكذا سيكون الجزاء في الآخرة : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
فإذا كانت الأرض المخلوقة لله عز وجل تعطي كل هذا العطاء ، فما بالك بعطاء مباشر من خالقك وخالق الأرض التي تعطيك؟ وكما أن الفلاح إذا تعب واجتهد زاد محصوله ، كذلك المؤمن كلما تعب في العبادة واجتهد زاد ثوابه وتضاعف جزاؤه في الآخرة
.
(1/6115)

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
كان أول ظاهرية الفلاح في الصلاة ، وما يزال الحديث عنها موصولاً بما قاله ربنا في الآيات السابقة : { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ . . } [ الحج : 77 ] وقال بعدها : { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة . . } [ الحج : 78 ] .
وهنا جعل أول وصف للمؤمنين الذين أفلحوا { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 2 ] فلم يقل مثلاً : مؤدون؛ لأن أمر أداء الصلاة في حق المؤمنين مفروغ منه ، العبرة هنا بالهيئة والكيفية ، العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار الله الذي تقف بين يديه .
كما تقول لولدك : اجلس أمام المعلم باهتمام ، واستمع إليه بإنصات ، فأنت لا توصيه بالذهاب إلى المدرسة أو حضور الدرس ، فهذا أمر مفروغ منه؛ لذلك تهتم بجوهر الموضوع والحالة التي ينبغي أن يكون عليها .
والخشوع أن يكون القلب مطمئناً ساكناً في مهمته هذه ، فلا ينشغل بشيء آخر غير الصلاة؛ لأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه ، وما دام في حضرة ربه عز وجل فلا ينبغي أن ينشغل بسواه ، حتى إن بعض العارفين لمعنى الخشوع يقول : إن الذي يتعمد معرفة مَنْ على يمينه أو مَنْ على يساره في الصف تبطل صلاته .
ولما دخل سيدنا عمر - رضي الله عنه - على رجل يصلي ويعبث بلحيته ، فضربه على يده وقال : لو خشع قلبك لخشعتْ جوارحك .
ذلك لأن الجوارح تستمد طاقتها من القلب ومن الدم الذي يضخه فيها ، فلو شغل القلب عن الجوارح ما تحركت .
لذلك لما سأل أحد الفقهاء صوفياً : ما حكم مَنْ سها في صلاته؟ قال : حكمه عندنا أم عندكم؟ قال : ألنا عند ولكم عند؟ قال : نعم ، عند الفقهاء مَنْ يسهو في الصلاة يجبره سجود السهو ، أما عندنا فمَنْ يسهو في الصلاة نقتله . يعني مسألة كبيرة .
ثم ألاَ يستحق منك ربك وخالقك أن تتفرغ له سبحانه على الأقل وقت صلاتك ، وهي خمس دقائق في كل وقت من الأوقات الخمسة ، وقد تركك باقي الوقت تفعل ما تشاء؟ اتستكثر على ربك أن تُفرِّغ له قلبك ، وأن تستحضره سبحانه ، وهذه العملية في صالحك أنت قبل كل شيء ، في صالحك أن تكون في جلوة مع ربك تستمد منه سبحانه الطاقة والمعونة ، وتتعرض لنفحاته وإشراقاته وتقتبس من أنواره وأسراره؟
ومن حرص أهل التقوى على سلامة الصلاة وتمامها قال أحدهم لصاحبه الذي يحرص على أنْ يؤم الناس : لماذا تحرص على الإمامة وأنت تعرف أن طالب الولاية لا يُولَّى؟ قال : نعم أحرص عليها لأخرج من الخلاف بين الشافعي الذي قال بقراءة الفاتحة خلف الإمام ، وأبي حنيفة الذي قال بأن قراءة الإمام قراءة للمأموم ، فأحرص على الإمامة حتى أقرأ أنا ، ولا أنشغل بهذا الخلاف .
(1/6116)

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
اللغو : الكلام الذي لا فائدة منه ، ويُطلق أيضاً على كل فعل لا جدوى منه ، وفي موضع آخر يقول تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] لا يشغلون به ولا يأبهون له ، وحكى القرآن عن الكفار عند سماعهم القرآن قولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ . . } [ فصلت : 26 ] .
لذلك جعل الحق - تبارك وتعالى - من نعيم الجنة : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25 - 26 ] كأن من المعايب في الدنيا ومن مصائبها أن نسمع فيها لغواً كثيراً لا فائدة منه ، وفي آية أخرى يقول عن خمر الآخرة التي لا تُذهب العقل ، ولا تجعل صاحبها يهذي بلغو الكلام : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [ الطور : 23 ] .
و { مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 3 ] الإعراض في الأصل تجنّب الشيء ، وهو صورة لحركة إباء النفس لشيء ما . وأهل المعرفة يضعون للغو مقياساً ، فيقولون : كل عمل لا تنال عليه ثواباً من الله فهو لغو .
لذلك احرص دائماً أن تكون حركتك كلها لله حتى تُثَابَ عليها ، كصاحبنا الذي دخل عليه رجل وقصده في قضاء أمر من الأمور وهو لا يملك هذا الأمر ، لكن أراد أنْ يستغل فرصة الخير هذه ، وأن يكون له ثواب حتى في حركة الامتناع عنه ، فرفع يده : اللهم إنه عبد قصد عبداً وأنا آخذ بيده وأقصد رباً ، فاجعل تصويب خطئه في قصدي تصويباً لقصدك . يعني : أنا وإنْ كنتُ لا أقدر على قضائها إلا أنني أدخل بها على الله من هذه الناحية .
(1/6117)

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
الزكاة أولاً تطلق على معنى التطهير ، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] لأن الغفلة قد تصيب الإنسان حال جمع المال ، فيخالط ماله ما فيه شبهة مثلاً ، فيحتاج إلى تطهير ، وتطهير المال يكون بالصدقة منه .
والزكاة بمعنى النماء ، فبعد أن تُطهر المال تُنمِّيه وتزيده ، كما جاء في قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] يعني : نمِّى ملَكة الخير فيها ، ورقَّاها وصعَّدها بأن ينظر إلى العمل إنْ كان سينقص منك في الظاهر ، إلا أنه سيجلب لك الخير فيما بعد ، فترتقي بذلك ملكَات الخير في نفسك .
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن الربا ، وهو الزيادة جمع المتناقضات في آية واحدة ، فالربا يزيد المال ويأخذ المرابي المائة مائة وعشراً ، في حين تنقص الزكاة من المال في الظاهر ، فالمائة بعد الزكاة تصبح سبعة وتسعين ونصفاً ، ثم تأتي الآية لتضع أمامك المقياس الحقيقي : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } [ البقرة : 276 ] ، فالربا الذي تظنه زيادة هو مَحْقٌ ، والذي تظنه نقصاً هو بركة وزيادة ونماء .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ] أي : الذين يضاعف الله لهم ويزيدهم .
وكما أمرنا ربنا - تبارك وتعالى - بالخشوع في الصلاة أمرنا كذلك في الزكاة ، فلم يقل : مؤدون . ولكن { فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 4 ] وهذه من تربية مقامات العبادة في الإنسان ، فأنت حين تصلي ينبغي أن تخشع وتخضع في صلاتك لله ، وكذلك حين تُزكّي تُرقِّي ملكَة الخير في نفسك ، فحين تعمل وتسعى لا تعمل على قَدْر حاجتك ، وإنما على قَدْر طاقتك ، فتأخذ من ثمرة سَعْيك حاجتك ، وفي نيتك أن تُخرِج من الباقي زكاة مالك وصدقتك ، فالزكاة - إذن - في بالك وفي نيتك بدايةً .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ . . }
.
(1/6118)

وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
الفروج : جمع فَرْج ، والمقصود سَوْءَتَا كُلٍّ من الرجل والمرأة ، وقد أمر الله تعالى بحفظها على المهمة التي خُلقت من أجلها ، ومهمة هذه الأعضاء إما إخراج عادم الجسم من بول أو غائط ، أو العملية الجنسية وهدفها حِفْظ النسل ، وعلى الإنسان أن يحفظ فرجه على ما أحلّه له في قوله تعالى : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ . . }
.
(1/6119)

إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
أي : يحفظون فروجهم إلا على أزواجهم؛ لأن الله أحلها { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ . . } [ المؤمنون : 6 ] ومِلْك اليمين حلال لم يَعُد له موضع ، ولم يَعُد له وجود الآن ، وقد حرم هذا القانون البشري الدولي ، فلم يعد هناك إماء كما كان قبل الإسلام ، فهذا حكم مُعطّل لم يَعُدْ له مدلول ، وفرق بين أن يُعطّل الحكم لعدم وجود موضوعه وبين أن يُلْغى الحكم ، فمِلْك اليمين حكم لم يُلْغ ، الحكم قائم إنما لا يوجد له موضوع .
ولتوضيح هذه المسألة : هَبْ أنك في مجتمع كله أغنياء ، ليس فيهم فقير ولا مستحق للزكاة عندها تقول : حكم الزكاة مُعطّل ، فهي كفريضة موجودة ، لكن ليس لها موضوع .
وبعض السطحيين يقولون : لقد ألغى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سهام المؤلفة قلوبهم ، والحقيقة أنه ما ألغى ولا يملك أن يُلغي حكماً من أحكام الله ، إنما لم يجد أحداً من المؤلّفة قلوبهم ليعطيه ، فالحكم قائم لكن ليس له موضوع ، بدليل أن حكم تأليف القلوب قائم ومعمول به حتى الآن في بلاد المسلمين ، وكثيراً ما نحاول تأليف قلوب بعض الكُتّاب وبعض الجماعات لنعطفها نحو الإسلام ، خاصة وغيرنا يبذلون قصارى جهودهم في ذلك . إذن : فسَهْم المؤلفة قلوبهم ما زال موجوداً ويُعمل به .
كما نسمع مَنْ يقول : إن عمر - رضي الله عنه - عطَّل حَدَّ السرقة في عام الرمادة ، وهذا ادعاء مخالف للحقيقة؛ لأنه ما عطّل هذا الحد إنما عطَّل نصاً وأحيا نصاً؛ لأن القاعدة الشرعية تقول : ادرأوا الحدود بالشبهات . وما دام قد سرق ليسُدَّ جَوْعته فلم يصل إلى نصاب السرقة ، فالسرقة تكون بعد قدر يكفي الضرورة .
ولقائل أن يقول : إذا دارت حرب بين المؤمنين والكافرين وأسروا منا وأسرنا منهم ، ألا يوجد حينئذ مِلْك اليمينِ؟ نقول : نعم يوجد مِلْك اليمين ، لكن ستواجهك قوانين دولية ألزمتَ نفسك بها وارتضيتها تقول بمنع الرقِّ وعليك الالتزام بها ، لكن إنْ وُجِد الرقُّ فمِلْك اليمين قائم وموجود . وهذه المسألة يأخونها سُبّة في الإسلام ، وكيف أنه يبيح للسيد كذا وكذا من مِلْك يمينه .
وهذا المأخذ ناشيء عن عدم فهم هؤلاء للحكمة من مِلْك اليمين ، وأن كرامة المملوكة ارتفعت بهذه الإباحة ، فالمملوكة أُخِذت في حرب أو خلافه ، وكان في إمكان مَنْ يأخذها أن يقتلها ، لكن الحق سبحانه حمى دمها ، ونمَّى في النفس مسألة النفعية ، فأباح لمَنْ يأسرها أن ينتفع بها وأحلّها له أيضاً .
ولك أن تتصور هذه الأَمَة أو الأسيرة في بيت سيدها ومعه زوجة أو أكثر وهي تشاهد هذه العلاقات الزوجية في المجتمع من حولها ، إن من حكمة الله أن أباح لسيدها معاشرتها؛ لأنها لن ترى لربة البيت بعد ذلك مزيّة عليها؛ لأنهما أصبحا سواء ، فإذا ما حملتْ من سيدها فقد أصبحتْ حُرَّة بولدها ، وكأن الحق سبحانه يُسيِّر الأمور تجاه العِتْق والحرية . ألاَ تراه بعد هذا يفتح باب العتق ويُعدِّد أسبابه ، فجعله أحد مصارف الزكاة وباباً من أبواب الصدقة وكفَّارة لبعض التجاوزات التي يرتكبها الإنسان .
ثم يقول سبحانه : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المؤمنون : 6 ] يعني : لا نمدحهم ولا نذمُّهم ، وكأن المسألة هذه في أضيق نطاق .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك . . }
.
(1/6120)

فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{ ابتغى } : طلب ، { وَرَآءَ ذلك } : غير ما ذكرناه من الأزواج ومِلْك اليمين .
وسبق أن ذكرنا أن كلمة { وَرَآءَ } استُعمْلت في القرآن لمعَان عدة ، فهي هنا بمعنى غير الأزواج ومِلْك اليمين . ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه : { . . وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم } [ النساء : 24 ] يعني : حرَّمْت عليكم كذا وكذا ، وأحلَلْتُ لكم غير ما ذُكِر .
وتُستعمل وراء بمعنى بَعْد؛ لأن الغيرية قد تتحد في الزمن ، فيوجد الاثنان في وقت واحد ، أمّا البعدية فزمنها مختلف ، كما قوله تعالى : { وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] يعني : من بعده؛ لأن الزمن مختلف .
وتأتي وراء بمعنى : خلف ، كما في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 187 ] يعني : جعلوه خلف ظهورهم .
وتأتي وراء أيضاً بمعنى أمام ، كما في قوله تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] ومعلوم أن الملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة تمرُّ به فيأخذها غَصْباً .
وقوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ . . } [ ابراهيم : 16 ] وجهنم أمامه ، وستأتي فيما بعد ، ولم تَمْضِ فتكون خلفه .
ومعنى : { فأولئك هُمُ العادون . . } [ المؤمنون : 7 ] أي : المعتدون المتجاوزون لما شُرع لهم ، وربنا - تبارك وتعالى - حينما يُحذِّرنا من التعدي يُفرِّق بين التعدي في الأوامر ، والتعدي في النواهي ، فإنْ كان في الأوامر يقول : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] .
وإن كان في النواهي يقول : { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ . . }
.
(1/6121)

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{ رَاعُونَ } : يعني يحافظون عليها ويراعونها بالتنفيذ ، والأمانة : كل ما استُؤمِنْت عليه ، وأول شيء استؤمِنتَ عليه عهد الإيمان بالله الذي أخذه الله عليك ، وما دُمْت قد آمنت بالإله فعليك أن تُنفِّذ أوامره .
إذن : هناك أمانة للحق وأمانة للخَلْق ، أمانة الحق التي قال الله تعالى عنها : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
فما دُمْتَ قد قبلت تحمُّل الأمانة ، فعليك الأداء .
أما العهد : فكل ما يتعهد به الإنسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به؛ لأنك حين تعاهد إنساناً على شيء فقد ربطْتَ حركته وقيدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد ، فحين تقول لي : سأقابلك غداً في المكان الفلاني في الوقت الفلاني لعمل كذا وكذا ، فإنني سأُرتِّب حركة حياتي بناءً على هذا الوعد ، فإذا أخلفتَ وعدك فقد أطلقتَ نفسك في زمنك وتصرفت حسْب راحتك ، وقيَّدْت حركتي أنا في زمني وضيَّعت مصالحي ، وأربكت حركة يومي؛ لذلك شدَّد الإسلام على مسألة خُلْف الوعد .
(1/6122)

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
في الآيات السابقة تحدِّث عن الصلاة من حيث هيئة الخشوع والخضوع فيها ، وهنا يذكر الصلاة من حيث أدائها والحفاظ عليها؛ لأن الحفظ يعني أن تأخذ كل وقت من أوقات الصلاة بميلاده وميلاد الأوقات بالأذان ، لكن البعض يقولون : إن الوقت مُمْتدُّ ، فالظهر مثلاً مُمْتد من أذان الظهر إلى قبل أذان العصر ، وهكذا في باقي الصلوات .
نقول : نعم هذا صحيح والوقت مُمتد ، لكن مَنْ يضمن لك الحياة إلى آخر الوقت؟ مَنْ يضمن لك أن تصلي العشاء مثلاً قبل أذان الفجر؟ نعم ، تظل غير آثم إلى آخر لحظة إذا تمكنتَ من الصلاة وصلَّيْتَ ، لكن هل تضمن هذا؟ كالذي يستطيع أن يحج ، إلا أنه أخّر الحج إلى آخر أيامه ، فإنْ حج فلا شيء عليه ، لكنه لا يضمن البقاء إلى أنْ يحج؛ لذلك يجب المبادرة بالحج عند أول استطاعة حتى لا تأثم إنْ فاتك وأنت قادر .
(1/6123)

أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{ أولئك } [ المؤمنون : 10 ] يعني : أصحاب الصفات المتقدمة ، وهم ستة أصناف : الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون ، والذين هم لفروجهم حافظون ، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، والذين هم على صلواتهم يحافظون .
هؤلاء هم الوارثون ، والإرْث : أَخْذ حق من غير عقد أو هبة؛ لأن أَخْذ مال الغير لا بُدَّ أن يكون إما ببيع وعقد ، وإما هبة من صاحب المال . لذلك سألوا الوارث : أهذا حقك؟ قال : نعم ، قالوا : فما صكُّك عليه؟ يعني : أين العقد الذي أخذته به؟ قال : عقدي وصَكّي : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] فهو عقد أوثق وأعلى من تعاقد البشر .
وما دام عقدي من الحق - تبارك وتعالى - فلا تقُلْ : إن الميراث مأخوذ بغير عقد؛ لأنه قائم على أوثق العقود ، وهو العقد من الله .
وكثيراً ما يخرج الناس في مسألة الميراث عما شرع الله حُباً في المال واستئثاراً به ، أو بخلاً على مَنْ جعل له الشرع نصيباً ، فمَنْ كان عنده البنون والبنات يعطي البنين ويحرم البنات ، ومَنْ كان عنده بنات يكتب لهُنَّ ما يملك حتى يحرم إخوته وأعمامهم من حقهم في ماله ، وهذا كثيراً ما يحدث في المجتمع .
ويجب عليك أن تتنبه لمسألة الميراث وتحترم شرع الله فيه وتقسيم الله للمال ، فقد وهبك الله المال وتركك تتصرف فيه طوال حياتك ، وليس لك أن تتصرف فيه أيضاً بعد موتك ، عليك أنْ تدعَ المال لصاحبه وواهبه يتصرف فيه؛ لذلك قال الله تعالى عن الإرث : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } [ النساء : 11 ] يعني : ليست من أحد آخر ، وما دامت من الله فعليك أنْ تمتثل لها وتنفذها ، وحين تتأبَّى عليها فإنك تتأبَّى على الله وترفض قِسْمته .
والمتأمل في مسألة الإرث يجد الخير كل الخير فيما شرعه الله ، ومَنْ كان يحب البنين فليُعْط البنات حتى لا يفسد علاقة أولاده من بعده ، ويأتي إلينا بعض الرجال الذين أخذوا كل مال أبيهم وحَرَموا منه البنات ، يقولون : نريد أن نُصحِّح هذا الخطأ ونعيد القسمة على ما شرع الله .
ونجد عند بعض الناس إشراقات إيمانية ، فإنْ رفض بعض الإخوة إعادة التقسيم على شرع الله يقول : أنا أتحمل ميراث أخواتي من مالي الخاص ، ومثل هؤلاء يفتح الله عليهم ويبارك لهم فيما بقي؛ لأنهم جعلوا اعتمادهم على الله فيزيدهم من فضله ويُربي لهم القليل حتى يصير كثيراً ، أما مَنِ اعتمد على ما في يده فإن الله يكِلُه إليه .
ونعجب من الذي يجعل ماله للبنات ليحرم منه إخوته ، نقول له : أنت لستَ عادلاً في هذا التصرف ، يجب أن تعاملهم بالمثل ، فلو تركت بناتك فقراء لا مال لهن ، فمَنْ يعولهُنَّ ويرعاهن من بعدك؟ يعولهن الأعمام .
(1/6124)

إذن : لتكُنْ معاملة بالمثل .
والحق - تبارك وتعالى - حين يُورث هذه الأصناف يورثهم بفضله وكرمه ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
أما قوله تعالى : { ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] فهذا خاص بمجرد دخول الجنة ، أما الزيادة فهي من فضل الله { وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ]
ومن أسمائه تعالى ( الوارث ) وقال : { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] فماذا يرث الحق سبحانه وتعالى مِنَّا؟
لقد خلق الله الخَلْق ، وأعطى للناس أسباب ملكيته ، ووزَّع هذه الملكية بين عباده : هذا يملك كذا ، وهذا يملك كذا من فضل الله تعالى . فإذا كان يوم القيامة عاد الملْك كله إلى صاحبه ، وكان الحق سبحانه وتعالى هو الوارث الوحيد يوم يقول : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
والله خير الوارثين؛ لأن الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به ، لكن الحق سبحانه يرث ما تركه للغير ليعود خَيْره عليهم ويزيدهم ، ويعطيهم أضعافاً مضاعفة ، وإذا كان يعطيهم في الدنيا بأسباب فإنه في الآخرة يرث هذه الأسباب ، ويعطيهم من فضله بلا أسباب ، حيث تعيش في الجنة مستريحاً لا تعبَ ولا نصبَ ولا سَعْيَ ، وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أنْ تُحرِّك ساكناً .
إذن : البشر يرثون ليأخذوا ، أمّا الحق سبحانه فيرث ليعطي؛ لذلك فهو خير الوارثين .
فأيُّ شيء يرثه المؤمنون الذين توفرت فيهم هذه الصفات؟ يجيب الحق سبحانه : { الذين يَرِثُونَ الفردوس . . }
.
(1/6125)

الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
إذن : الحق سبحانه ورَّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة ، والفردوس أعلى الجنة ، فورث الحق لينفع عباده ويُصعِّد النفع لهم ، ففي الدنيا كنا ننتفع بالأسباب ، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب ، الحق ورث ليعطي ، لا مِثْل ما أخذ إنما فوق ما أخذ؛ لأننا نأخذ في الميراث ما يفنى ، ولله تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى .
لكن مِمَّنْ يرثون الفردوس؟
قالوا : الحق - تبارك وتعالى - عندما خلق الخَلْق ، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر ، وبين الطاعة والمعصية رتَّبَ على ذلك أموراً ، فجعل الجنة على فرض أن الخَلْق كلهم مؤمنون ، بحيث لو دخلوا الجنة جميعاً ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام ، وكذلك جعل النار على فرض أن الخَلْق كلهم كافرون ، فلو كفر الناس جميعاً لكان لكل منهم مكانه في النار .
وعليه فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ يتركون أماكنهم في النار ، وحين يدخل أهل النارِ النارَ يتركّون أماكنهم في الجنة ، فيرث أهل النار الأماكن الشاغرة فيها ، ويرث أهل الجنة الأماكن الشاغرة فيها .
والفردوس أعلى مكان في الجنة ، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة " ذلك؛ لأن الفردوس جنة على أعلى رَبْوة في الجنة . يعني : في مكان مُميّز منها ، والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا ، الناس يُحبون السُّكْنى في الأماكن العالية ، حيث نقاء الهواء ونقاء الماء ، أَلاَ تراهم يزرعون في المرتفعات ، وإنْ كانت الأرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتصُّ الماء الزائد الذي يفسد الزرع؛ لذلك يقول سبحانه : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } [ البقرة : 265 ] .
كذلك الأرض المرتفعة لا تُسْقَى بالماء الغمر ، إنما تُسْقَى من ماء السماء الذي يغسل الأوراق قبل أن يروي الجذور ، فيكون النبات على أفضل ما يكون؛ لذلك يقول عنها رب العزة : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } [ البقرة : 265 ] .
ومعلوم أن الأوراق هي رئة النبات ، وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات غذاءه ، فإذا ما سُدَّت مسام الأوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يُقلِّل من قدرة النبات على التنفس ، مثل الإنسان حينما يُصَاب بشيء في رئته تزعجه وتُقلِّل من كفاءته .
وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده ، كما كرَّم آدم عليه السلام فخلقه بيده تعالى ، فقال : { ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ . . } [ ص : 75 ] .
ويُروى أن الحق - تبارك وتعالى - لما خلق الفردوس ، وغرس أشجارها بيده قال للفردوس : تكلمي ، فلما تكلمت الفردوس قالت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] .
ثم يقول تعالى : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 11 ] لأن نعيم الجنة باقٍ ودائم لا ينقطع ، وقد عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أُوتِي الإنسان منه ، فإنه منقطع زائل ، إما أنْ يتركك بالفقر والحاجة ، وإما أنْ تتركه أنت بالموت ، لذلك يقول تعالى في نعيم الآخرة :
(1/6126)

{ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] .
وهكذا نلحظ على استهلال هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلام عن الفلاح في الآخرة كأنه قدَّم ثمرة الإيمان أولاً ، ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك : هذا جزاء مَنْ آمن بي واتبع منهجي . كما جاء في قوله تعالى في استهلال سورة ( الرحمن ) : { الرحمن * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان } [ الرحمن : 1 - 4 ] كيف وقد خلق الله الإنسان أولاً ، ثم علَّمه القرآن؟
قالوا : لأن الذي يصنع صنعة يضع لها قانونها ، ويُحدِّد لها مهمتها أولاً قبل أن يشرع في صناعتها ، فمثلاً - ولله المثل الأعلى - الذي يصنع الثلاجة ، قبل أن يصنعها حدد عملها ومهمتها وقانون صيانتها والغاية منها .
والقرآن هو منهج الإنسان ، وقانون صيانته في حركة الحياة؛ لذلك خلق الله المنهج ووضع قانون الصيانة قبل أن يخلق الإنسان .
(1/6127)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
سبق أن تكلمنا عن خَلْق الإنسان ، وعرفنا أن الخالق - عز وجل - خلق الإنسان الأول ، وهو آدم عليه السلام من طين ، ومن أبعاضه خلق زوجه ، ثم بالتزاوج جاء عامة البشر كما قال تعالى : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] .
ومسألة خَلْق السماء والأرض والناس مسألة احتفظ الله بها ، ولم يطلع عليها أحد ، كما قال سبحانه : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] .
فلا تُصْغ إلى هؤلاء المضلين في كل زمان ومكان ، الذين يدَّعون العلم والمعرفة ، ونسمعهم يقولون : إن العالم كان كتلة واحدة تدور بسرعة فانفصل عنها أجزاء كوَّنَت الأرض . . الخ وعن الإنسان يقولون : كان أصله قرداً ، إلى آخر هذه الخرافات التي لا أساس لها من الصحة .
لذلك أعطانا الله تعالى المناعة الإيمانية التي تحمينا أنْ ننساق خلف هذه النظريات ، فأخبرنا سبحانه خبر هؤلاء وحذرنا منهم؛ لأنهم ما شهدوا شيئاً من الخَلْق ، ولم يتخذهم الله أعواناً فيقولون مثل هذا الكلام . إذن : هذا أمر استأثر الله بعلمه ، فلا تأخذوا علمه إلاَّ مما أخبركم الله به .
وكلمة الإنسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث ، فكل واحد منا إنسان ، بدليل أن الله تعالى استثنى من المفرد اللفظ جمعاً في قوله تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ . . } [ العصر : 1 - 3 ] فاستثنى من المفرد الجماعة .
ومعنى { خَلَقْنَا } [ المؤمنون : 12 ] أوجدنا من عدم ، وسبق أن قلنا : إن الله تعالى أثبت للبشر صفة الخَلْق أيضاً مع الفارق بين خَلْق الله من عدم وخَلْق البشر من موجود ، وخَلْق الله فيه حركة وحياة فينمو ويتكاثر ، أما ما يخلق البشر فيجمد على حاله لا يتغير؛ لذلك وصف الحق سبحانه ذاته فقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
أما قَوْل القرآن حكايةً عن عيسى عليه السلام : { أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير . . } [ آل عمران : 49 ] فهذه من خاصياته عليه السلام ، والإيجاد فيها بأمر من الله يُجريه على يد نبيه .
فالمعنى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان . . } [ المؤمنون : 12 ] أي : الإنسان الأول ، وهو آدم عليه السلام { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ . . } [ المؤمنون : 12 ] والسلالة : خلاصة الشيء تُسَلُّ منه كما يُسَلُّ السيف من غِمْده أي : الجراب الذي يُوضَع فيه ، فالسيف هو الأداة الفتاكة الفاعلة ، أما الغِمْد فهو مجرد حافظ وحامل لهذا الشيء الهام .
فالسلالة - إذن - هي أجود ما في الشيء ، وقد خلق الله الإنسان الأول من أجود عناصر الطين وأنواعه ، وهي زُبْد الطين ، فلو أخذتَ قبضة من الطين وضغطتَ عليها بين أصابعك يتفلَّتْ منها الزبد ، وهو أجود ما في الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة .
" ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أنْ يهجوَ قريشاً لمعاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إئذن لي يا رسول الله أنْ أَهْجُوهم من على المنبر فقال صلى الله عليه وسلم : أتهجوهم وأنا منهم؟ فقال حسان : أسلُّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين " .
(1/6128)

وتُطلَق السلالة على الشيء الجيد فيقولون : فلان من سلالة كذا ، وفلان سليل المجد . يعني : في مقام المدح ، حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويُسجِّلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها ، ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربية الأصيلة .
وقد أثبت العلم الحديث صِدْق هذه الآية ، فبالتحليل المعمليّ التجريبي أثبتوا أن العناصر المكوِّنة للإنسان هي نفسها عناصر الطين ، وهي ستة عشر عنصراً ، تبدأ بالأكسوجين ، وتنتهي بالمنجنيز ، والمراد هنا التربة الطينية الخصْبة الصالحة للرزاعة؛ لأن الأرض عامة بها عناصر كثيرة قالوا : مائة وثلاثة عشر عنصراً .
(1/6129)

ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
يعني : بعد أن جعلناه بشراً مُسْتوياً فيه روح جعلناه يتكاثر من نفسه ، وكما خلقناه من خلاصة الطين في الإنسان الأول نخلقه في النسْل من خلاصة الماء وأصفى شيء فيه ، وهي النطفة؛ لأن الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس ، والدم يمتص خلاصة الغذاء ، والباقي يخرج على هيئة فضلات ، ثم يُصفَّى الدم ويرشح في الرئة وفي الكلى ، ومن خلاصة الدم تكون طاقة الإنسان وتكون النطفة التي يخلق منها الإنسان . إذن : فهو حتى في النطفة من سلالة مُنْتقاة .
والنطفة التي هي أساس خَلْق الإنسان تعيش في وسط مناسب هو السائل المنوي ، لذلك قال سبحانه : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى } [ القيامة : 37 ] ثم جعلنا هذه النطفة { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [ المؤمنون : 13 ] قرار : يعني مُستقر تستقر فيه النطفة ، والقرار المكين هو الرحم خلقه الله على هذه الهيئة ، فحصّنه بعظام الحوض ، وجعله مُعدّاً لاستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها .
(1/6130)

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
يقول العلماء : بعد أربعين يوماً تتحول هذه النطفة إلى علقة ، وسُمِّيَتْ كذلك لأنها تعلَق بجدار الرحم ، والعلماء يسمونها الزيجوت ، وهي عبارة عن بويضة مُخصَّبة ، وتبدأ في أخذ غذائها منه .
ومن عجائب قدرة الله في تكوين الإنسان أن المرأة إذا لم تحمل ينزل عليها دم الحيض ، فإذا ما حملتْ لا ترى الحيض أبداً ، لماذا؟ لأن هذا الدم ينزل حين لم تكُنْ له مهمة ولا تستفيد به الأم ، أمَا وقد حدث الحمل فإنه يتحول بقدرة الله إلى غذاء لهذا الجنين الجديد .
ثم يقول سبحانه : { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً . . } [ المؤمنون : 14 ] وهي قطعة صغيرة من اللحم على قَدْر ما يُمضَغ ، وسبق أن قلنا : إن المضغة تنقسم بعد ذلك إلى مُخلَّقة وغير مُخلَّقة ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ . . } [ الحج : 5 ] هذا على وجه التفصيل ، أما في الآية التي معنا فيُحدِّثنا عن أطوار الخلق عامة ، حتى لا نظن أن القرآن فيه تكرار كما يدَّعِي البعض .
المضْغة المخلَّقة هي التي يتكّون منها جوارح الإنسان وأعضاؤه ، وغير المخلَّقة تظل كما قلنا : احتياطياً لصيانة ما يتلف من الجسم ، كما يحدث مثلاً في الجروح وما شابه ذلك من عطب يصيب الإنسان ، فتقوم غير المخلَّقة بدورها الاحتياطي .
ثم يقول تعالى : { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ . . } [ المؤمنون : 14 ] لأنه كان في كل هذه الأطوار : النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم العظام واللحم ما يزال تابعاً لأمة متصلاً بها ويتغذّى منها ، فلما شاء الله له أنْ يُولَد ينفصل عن أمه ليباشر حياته بذاته؛ ولذلك نجد لحظة انفصال الجنين عن أمه في عملية الولادة مسألة صعبة؛ لأنه سيستقبل حياة ذاتية تستلزم أن تعمل أجهزته لأول مرة ، وأول هذه الأجهزة جهاز التنفس .
ومن رحمة الله بالجنين أن ينزل برأسه أولاً ليستطيع التنفس ، ثم يخرج باقي جسمه بعد ذلك ، فإن حدث العكس ونزل برجليه فربما يموت؛ لأنه انفصل عن تبعيته لأمه ، وليس له قدرة على التنفس ليحتفظ بحياته الذاتية الجديدة؛ لذلك في هذه الحالة يلجأ الطبيب إلى إجراء عملية قيصرية لإنقاذ الجنين من هذا الوضع ، وقبل أن يختنق .
ولما كانت مسألة خَلْق الإنسان فيها كثير من العِبَر والآيات ودلائل القدرة طوال هذه المراحل التي يتقلّب فيها الإنسان ، ناسب أنْ تختم الآية بقوله تعالى : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] لأنك حين تقف وتتأمل قدرة الله في خَلْق الإنسان لا تملك إلا أنْ تقول : سبحان الله ، تبارك الله الخالق .
" لذلك يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قرأ هذه الآية سبق عمر فقال ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) فقال صلى الله عليه وسلم للكاتب : اكتبها فقد نزلتْ "
(1/6131)

، لأنها انفعال طبيعي لقدرة الله ، وعجيب صُنْعه ، وبديع خلقه ، وهذا نوع من التجاوب بين السليقة العربية واللسان العربي وبين أسلوب القرآن الذي جاء بلسان القوم .
ويقال : إن سيدنا معاذ بن جبل نطق بها أيضاً ، وكذلك نطق بها رجل آخر هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح ، مع اختلاف في نتيجة هذا النطق : لما نطق بها عمر ومعاذ رضي الله عنهما كان استحساناً وتعجباً ينتهي إلى الله ، ويُقِرّ له سبحانه بالقدرة وبديع الصُّنْع .
أما ابن أبي السرح فقد قالها كذلك تعجباً ، لكن لما وافق قولُه قولَ القرآن أُعْجِب بنفسه ، وادعى أنه يُوحَى إليه كما يُوحَى إلى محمد ، ولم لا وهو يقول كما يقول القرآن ، ومع ذلك هو ما يزال مؤدباً يدَّعي مجرد أنه يوحى إليه ، لكن زاد تعاليه وجَرَّه غرور إلى أنْ قال : سأنزل مثلما أنزل الله ، فليس ضرورياً وجود الله في هذه المسألة ، فارتدّ والعياذ بالله بسببها ، وفيه نزل قول الله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله . . } [ الأنعام : 93 ] .
" وظل ابن أبي السرح إلى فتح مكة حيث شفع فيه عثمان رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى رسول الله حِرْص عثمان عليه سكت ، ولم يقُلْ فيه شيئاً ، وعندها أخذه عثمان رضي الله عنه وانصرف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته : " أما كان فيكم مَنْ يُجهز عليه؟ " فقالوا : يا رسول الله لو أومأتَ لنا برأسك؟ يعني : أشرْتَ إلينا بهذا ، انظر هنا إلى منطق النبوة ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين " يعني : هذا تصرُّف لا يليق بالأنبياء ، فلو فعلتموها من أنفسكم كان لا بأس .
ثم بعد ذلك تحل بركة عثمان على ابن أبي السرح فيُؤمن ويَحْسُن إسلامه ، ثم يُولِّي مصر ، ويقود الفتوحات في إفريقيا ، ويتغلب على الضجة التي أثاروها في بلاد النوبة ، وكأن الله تعالى كان يدخره لهذا الأمر الهام .
وبعد هذه العجائب التي رأيناها في مراحل خَلْق الإنسان وخروجه إلى الحياة والإقرار لله تعالى بأنه أحسن الخالقين ، يُذكِّرنا سبحانه بأن هذه الحياة لن تدوم ، فيقول تبارك وتعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ }
.
(1/6132)

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
ولك أنْ تسأل : كيف يُحدِّثنا الحق - تبارك وتعالى - عن مراحل الخَلْق ، ثم يُحدِّثنا مباشرة عن مراحل الموت والبعث؟
نقول : جعلهما الله تعالى معاً لتستقبل الحياة وفي الذِّهْن وفي الذاكرة ما ينقض هذه الحياة ، حتى لا تتعالى ولا تغفل عن هذه النهاية ولتكُنْ على بالك ، فتُرتِّب حركة حياتك على هذا الأساس .
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى : { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً . . } [ الملك : 1 - 2 ] كأنه سبحانه ينعى إلينا أنفسنا قبل أنْ يخلق فينا الحياة ، وقدَّم الموت على الحياة حتى الحياة وتستقبل قبلها الموت الذي ينقضها فلا تغتر بالحياة ، وتعمل لما بعد الموت .
وقد خاطب الحق - سبحانه وتعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] البعض يظن أن ميَّت بالتشديد يعني مَنْ مات بالفعل ، وهذا غير صحيح ، فالميِّت بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت ، وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة ، فكلنا بهذا المعنى ميِّتون ، أمّا الذي مات بالفعل فهو ميْت بسكون الياء ، ومنه قول الشاعر :
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميِّتُ الأحْياءِ
ومعنى : { بَعْدَ ذلك } [ المؤمنون : 15 ] يعني : بعد أطوار الخَلْق التي تقدمت من خَلْق الإنسان الأول من الطين إلى أنْ قال سبحانه : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
والمتأمل في هذه الآية وهي تُحدِّثنا عن الموت الذي لا ينكره أحد ولا يشكّ فيه أحد ، ومع ذلك أكدها الحق - تبارك وتعالى - بأداتين من أدوات التوكيد : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ } [ المؤمنون : 15 ] فأكّدها بإنّ وباللام ، ومعلوم أننا لا نلجأ إلى التوكيد إلا حين يواجهنا منكر ، فيأتي التأكيد على قَدْر ما يواجهك من إنكار ، أما خالي الذهن فلا يحتاج إلى توكيد .
تقول مثلاً لخالي الذهن الذي لا يشك في كلامك : يجتهد محمد ، فإنْ شك تؤكد له بالجملة الاسمية التي تفيد ثبوت واستقرار الصفة : محمد مجتهد ، وتزيد من تأكيد الكلام على قدر الإنكار ، فتقول : إن محمداً مجتهد ، أو إن محمداً لمجتهد ، أو والله إن محمداً لمجتهد . هذه درجات للتأكيد على حسْب حال مَنْ تخاطبه .
إذن : أكّد الكلام عن الموت الذي لا يشكّ فيه أحد ، فقال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ } [ المؤمنون : 15 ] ومع ذلك لما تكلَّم عن البعث وهو محلّ الشك والإنكار قال سبحانه : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ }
.
(1/6133)

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
ولم يقُلْ : لتبعثون كما قال { لَمَيِّتُونَ } [ المؤمنون : 15 ] فكيف يؤكد ما فيه تصديق وتسليم ، ولا يؤكد ما فيه إنكار؟
قالوا : نعم؛ لأن المتكلم هو الله تعالى ، الذي يرى غفلتكم عن الموت رغم وضوحه ، فلما غفلتم عنه كنتم كالمكذِّبين به المنكرين له ، لذلك أكد عليه ، لذلك يقال : " ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت " فالكل يعلم الموت ويعاينه ، لكن يبعده عن نفسه ، ولا يتصوّره في حقه .
أما البعث والقيامة فأدلتها واضحة لا يصح لأحد أنْ ينكرها؛ لذلك جاءت دون توكيد : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 16 ] فأدلة البعث أوضح من أن يقف العقل فيها أو ينكرها؛ لذلك سأطلقها إطلاقاً دون مبالغة في التوكيد ، أمّا مَنْ يتشكك فيه أو ينكره ، فهذا نؤكد له الكلام ، فانظر إلى بصر الحق - سبحانه وتعالى - بعقليات خَلْقه وبنفوسهم ومَلَكَاتهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ . . }
.
(1/6134)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
نلحظ أن للعدد سبعة مواقف في هذه السورة وأسراراً يجب أن نتأملها ، ففي استهلال السورة ذكر سبحانه سبعة أصناف : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ . . } [ المؤمنون : 1 - 2 ] .
وفي مراحل خَلْق الإنسان نجده مَرَّ بسبعة أطوار : سلالة من طين ، ثم نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً ، ثم لحماً ، ثم أنشأناه خَلْقاً آخر .
وهنا يقول : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ . . } [ المؤمنون : 17 ] .
وفي موضع آخر قال : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ . . } [ الطلاق : 12 ] .
فهذه سبعة للغاية ، وسبعة للمغيَّا له ، وهو الإنسان ، وسبعة للسماوات والأرض المخلوقة للإنسان .
وطرائق : جمع طريقة أي : مطروقة للملائكة ، والشيء المطروق ما له حجم يتسع بالطَّرْق ، كما تطرق قطعة من الحديد مثلاً ، فانظر إلى السماء واتساعها . وقُلْ : سبحان مَنْ طرقها .
وتلحظ أن الحق سبحانه لم يذكر هنا الأرض ، لماذا؟ قالوا : لأن الأرض نقف عليها ثابتين لا نخاف من شيء ، إنما الخوف من السماء أنْ تندكّ فوقنا؛ لذلك يقول سبحانه بعدها : { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ } [ المؤمنون : 17 ] فلن نغفل عن السماء من فوقكم ، وسوف نُمسكها بأيدينا ، كما قال سبحانه : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ . . } [ فاطر : 41 ] .
ثم يعطينا الحق - تبارك وتعالى - الدليل الحسيّ على هذه الآية ، وكيف أن الله تعالى رفع السماء فوقنا بلا عَمَد ، ومثال ذلك الطير يُمسكه الله في السماء : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن . . } [ الملك : 19 ] .
نعلم أن الطير يطير في السماء بحركة الجناحين التي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبية فلا يسقط ، كالسباح الذي يدفع بذراعيه الماء ليسبح ، فإذا ما قبض الطائر جناحيه ومع ذلك يظل مُعلّقاً في السماء لا يسقط فمَنْ يُمسِكه في هذه الحالة؟ هذه صورة تشاهدونها لا يشكّ فيها أحد ، فإذا قلت لكم أني أمسك السماء أن تقع على الأرض فصدّقوا وآمنوا ، واستدلوا على الغيب بالمشاهد .
وكأن الحق سبحانه في قوله : { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ } [ المؤمنون : 17 ] يقول : اطمئنوا إلى السماء من فوقكم ، فقد جعلتُ لها التأمينات اللازمة التي تُؤمِّن معيشتكم تحت سقفها ، اطمئنوا لأنها بأيدينا وفي رعايتنا .
لكن ، ما المراد بقوله { عَنِ الخلق } [ المؤمنون : 17 ] أهو الإنسان أم خَلْق السماء؟ المراد : ما كُنَّا غافلين عن خَلْق السماء ، فبنيناها على ترتيبات ونظم تحميكم وتضمن سلامتكم .
والغفلة : تَرْك شيء لأنه غاب عن البال ، وهذه مسألة لا تكون أبداً في حق الله - عز وجل - لأنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض . . }
.
(1/6135)

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
يقول تعالى عن الماء : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ . . } [ المؤمنون : 18 ] فهل الماء مَقرُّه السماء؟ لا ، الماء مقرُّه الأرض ، كما جاء في قول الله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ . . } [ فصلت : 9 - 10 ] .
لما يستدعي الخالق - عز وجل - الإنسان إلى هذا الوجود جعل له في الأرض مُقوِّمات استبقاء حياته من الهواء والقوت والماء ، والإنسان كما قلنا يستطيع أن يصبر على الطعام ، وصبره أقل على الماء ، لكن لا صبرَ له على الهواء؛ لذلك شاءت قدرة الله ألاّ يُملّكه لأحد؛ لأنه مُقوِّم الحياة الأول ، فالغلاف الجوي والهواء المحيط بالأرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا . . } [ فصلت : 10 ] بدليل أنهم حينما يخرجون عن نطاق الأرض يمتنع الهواء .
ومن حكمة الخالق - عز وجل - وقدرته أنْ جعل الماء على الأرض مالحاً؛ لأن الملح أساس في صلاح الأشياء التي يطرأ عليها الفساد ، فالماء العذب عُرضة للتغيُّر والعطن ، وبالملح نصلح ما نخشى تغيُّره فنضعه على الطعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود . . الخ
لذلك قال الشاعر :
يَا رِجَالَ الدينِ يا مِلْحَ البَلَدِ ... مَنْ يُصلح الملحَ إذَا المِلْحُ فَسَد
إذن : أصل الماء في الأرض ، لكن ينزل من السماء بعد عملية البَخْر التي تُصفيه فينزل عَذْباً صالحاً للشرب وللري ، وقلنا : إن الخالق سبحانه جعل رقعة الماء على الأرض أكبر من رقعة اليابسة حتى تتسع رقعة البَخْر ، ويتكون المطر الذي يكفي حاجة أهل الأرض .
ومن رحمة الله بنا أن ينزل الماء من السماء { بِقَدَرٍ } [ المؤمنون : 18 ] يعني : بحساب وعلى قَدْر الحاجة ، فلو نزل هكذا مرة واحدة لأصبح طوفاناً مُدمّراً ، كما حدث لقوم نوح ولأهل مأرب . وفي موضع آخر يقول سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] .
ثم يقول سبحانه : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض . . } [ المؤمنون : 18 ] لأننا نأخذ حاجتنا من ماء المطر ، والباقي يتسرب في باطن الأرض ، كما قال سبحانه : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض } [ الزمر : 21 ] ومن عجيب قدرة الله في المياه الجوفية أنها تسير في مسارب مختلفة ، بحيث لا يختلط الماء العَذْب بالماء المالح مع ما يتميز به الماء من خاصية الاستطراق ، والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب ، فقد يجدون الماء العَذْب بجوار المالح ، بل وفي وسط البحر لأنها ليست مستطرقة ، إنما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض .
والمياه الجوفية مخزون طبيعي من الماء نُخرجه عند الحاجة ، ويُسعِفنا إذا نَضُبَ الماء العَذْب الموجود على السطح { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض .
(1/6136)

. } [ المؤمنون : 18 ] ليكون احتياطياً لحين الحاجة إليه ، فإذا جَفَّ المطر تستطيعون أن تستنبطوه .
ثم يُذكِّرنا الحق سبحانه بقدرته على سَلْب هذه النعمة { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] يعني : سيروا في هذه النعمة سَيْراً لا يُعرِّضها للزوال ، وقال في موضع آخر : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ]
وحين تَعُدّ نِعَم الله التي أمتنّ علينا بها بداية من نعمة الماء : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ } [ المؤمنون : 18 ] تجدها أيضاً سبعة .
ويبدو أن لهذا العدد أسراراً في هذه السورة ، فقد ذكر من أوصاف المؤمنين سبعة ، ومن مراحل خَلْق الإنسان سبعاً ، ومن السماء والأرض سبعة ، وهنا يذكر من نعمه علينا سبعة؛ لذلك كان للعلماء وقفات عند هذا العدد بالذات .
وأذكر ونحن في المملكة السعودية وكنت أستاذاً في كلية الشريعة ومعي بعض الأساتذة ورئيس بعثتنا الشيخ زكي غيث - رحمه الله وغفر الله له - ورئيس بعثة المعارف الأستاذ صلاح بك الباقر ، وكان دائماً ما يجلس معنا شيخ علماء المملكة في هذا الوقت السيد إسحق عزوز ، وكان يجمعنا كل ليلة الفندق الذي نقيم فيه ، وكنا نتدارس بعض قضايا العلم .
وقد أثار الشيخ إبراهيم عطية قضية هذا العدد في القرآن الكريم ، وكان يقرأ في تفسير القرطبي فوجد فيه : قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا ابن عباس أتعرف متى ليلة القدر؟ فقال ابن عباس : أغلب الظن أنها ليلة السابع والعشرين ، فلما سمعنا هذا الكلام قلنا : هذه سبعة ، وهذه سبع وعشرون ، فلما اختلفنا اقترح علينا الشيخ محمد أبو علي - أطال الله عمره - أن نذهب لنصلي في الحرم بدل أن نصلي في الفندق عملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة ، وقلنا : ربما يفتح الله علينا في هذه المسألة .
وبعد أن صلينا جلسنا نناقش هذه المسألة ، فإذا برجل لا نعرفه على سمة المجاذيب غير مهتم بنفسه ، يجلس بجوارنا ويُنصت لما نقول ، ثم شاركنا الكلام وقال : ألم يقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان " إذن : فدعكم من العشرين يوماً ، واحسبوا في العشر الأواخر ، ثم نظرنا فلم نجده ، كأن وحدة الزمن التي توجد بها ليلة القدر هي هذه العشر ، وكأنها بهذا المعنى ليلة السابع ، وهذه أيضاً من أسرار هذا العدد { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .
أطال الله في عمر مَنْ بقي من هؤلاء ، وغفر الله لمن ذهب .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ . . }
.
(1/6137)

فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
الجنة : المكان المليء بالأشجار العالية والمزروعات التي تستر مَنْ يسير فيها ، أو تستره عن الخارج ، فلا يحتاج في متطلبات حياته إلى غيرها ، فهي من الكمال بحيث تكفيه ، فلا يخرج عنها . واختار هذه الأنواع { نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } [ المؤمنون : 19 ] لما لها من منزلة عند العرب ، وقال { فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } [ المؤمنون : 19 ] لأنه لم يحصر جميع الأنواع .
(1/6138)

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
الطور : جبل منسوب إلى سيناء ، وسيناء مكان حسن؛ لأن الله بارك فيها ، والطور كلَّم الله عليه موسى ، فهو مكان مبارك ، كما بارك الله أرض بيت المقدس فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] .
ومعنى { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] الدهن هو الدَّسَم ، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] الدهن هو الدَّسَم ، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } [ المؤمنون : 20 ] يعني : يتخذونه إداماً يغمسون فيه الخبز ويأكلونه ، وهو من أشْهَى الأكلات وألذّها عند مَنْ يزرعون الزيتون في سيناء وفي بلاد الشام ، وقد ذُقْنا هذه الأكْلة الشهيرة في لبنان ، عندما ذهبنا إليها في موسم حصاد الزيتون .
(1/6139)

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
الأنعام : يُراد بها الإبل والبقر ، وألحق بالبقر الجاموس ، ولم يُذكَر لأنه لم يكُنْ موجوداً بالبيئة العربية ، والغنم وتشمل الضأن والماعز ، وفي سورة الأنعام يقول تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين . . } [ الأنعام : 143 ] .
ويقال فيها : أنعام ونَعَم ( بفتح النون والعين )
والعبرة : شيء تعتبرون به وتستدلُّون به على قدرة الله وبديع صُنْعه في خَلْق الأنعام .
لكن ، ما العبرة في خَلْق هذه الأنعام؟ الحق - سبحانه وتعالى - تكلَّم عن خَلْق الإنسان ، وأنه تعالى خلقه من صفوة وخلاصة وسلالة من الطين ومن النطفة ، وهكذا في جميع أطوار خَلْقه . وفي الأنعام ترى شيئاً من هذا الاصطفاء والاختيار ، فالأنعام تأكل من هنا وهناك وتجمع شتى الأنواع من المأكولات ، ومن هذا الخليط يخرج الفَرْث ، وهو مُنتِن لا تطيق رائحته ويتكون دم الحيوان ، ومن بين الفَرْث والدم يُصفِّي لك الخالق - عز وجل - لبناً خالصاً ، وهذه سلالة أيضاً وتصفية .
قال تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] .
ونلحظ أن الآية التي معنا تقول : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] وفي آية النحل : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ذلك لأننا نأخذ اللبن من إناث الأنعام ليس من كل الأنعام ، فالمعنى { مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] أي : الإناث منها و { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] أي : بطون البعض؛ ولذا عاد الضمير مذكراً . { نُّسْقِيكُمْ } [ المؤمنون : 21 ] من سقى ، وفي موضع آخر { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } [ الحجر : 22 ] من الفعل أسقى . البعض يقول إنهما مترادفان ، وهما ليسا كذلك لأن لكل منهما معنى ، فسقى يعني : أعطاه الشراب ، أمَّا أسقى فيعني جهز له ما يشربه لحين يحب أن يشرب .
لذلك لما تكلَّم الحق سبحانه عن شراب الجنة ، قال : { وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] .
ولما تكلم عن ماء المطر قال سبحانه : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] يعني : جعله في مستودع لحين الحاجة إليه .
كما قلنا في ( مُرضِع ) بالكسر ، و ( مُرضَع ) بالفتح ، فمرضع بالكسر للتي ترضع بالفعل ، ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] .
أما مرضَع بالفتح ، فهي الصالحة للرضاعة .
ثم يقول تعالى : { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ المؤمنون : 21 ] نلحظ أن آية النحل ركزت على مسألة تصفية اللبن من بين فَرْث ودم ، أما هنا فقد ركزت على منافع أخرى للأنعام ، فكل آية تأخذ جانباً من الموضوع ، وتتناوله من زاوية خاصة ، نوضح ذلك لمن يقولون بالتكرار في القرآن الكريم ، فالآيات في الموضوع الواحد ليست تكراراً ، إنما هو تأسيس بلقطات مختلفة ، كل لقطة تؤدي في مكانها موقعاً من العِظَة والعبرة ، بحيث إذا جمعتَ كل هذه المكررات الظاهرة تعطيك الصورة الكاملة للشيء .
(1/6140)

والمنافع في الأنعام كثيرة : منها نأخذ الصوف والوبر ، وكانوا يصنعون منه الملابس والفرش والخيام ، قبل أن تُعرف الملابس والمنسوجات الحديثة ، ومن ملابس الصوف سُميت الصوفية لمَنْ يلبسون الثياب الخشنة ، وهم الآن يصنعون من الصوف ملابس ناعمة كالحرير يرتديها المترفون .
ومن منافع الأنعام أيضاً الجلود والعظام وغيرها ، يقول تعالى : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
{ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ المؤمنون : 21 ] أي : لحماً ، وذكر اللحم في آخر هذه المنافع؛ لأنه آخر ما يمكن الانتفاع به من الحيوان ، وسبق أنْ ذكرنا أن الحيوان الذي أحلّه الله لنا إذا تعرض لما يزهق روحه ، فإنه يرفع لك رقبته ، ويكشف لك عن موضع ذَبْحه كأنه يقول لك : أسرع واستفد مني قبل أنْ أموت .
وفي لقطة أخرى لمنافع الأنعام يقول سبحانه : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس } [ النحل : 7 ] إذن : كل آية تحدثت عن الأنعام تعطينا فائدة لتظل مربوطاً بالقرآن كله .
(1/6141)

وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{ وَعَلَيْهَا } [ المؤمنون : 22 ] أي : على الدواب تُحملون ، فنركب الدواب ، ونحمل عليها متاعنا ، لكن لما كانت الأرض ثلاثة أرباعها ماء ، فإن الحق - سبحانه وتعالى - ما تركنا في البحر ، إنما حملنا فيه أيضاً { وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } [ المؤمنون : 22 ] فكما أعددتُ لكم المطايا على اليابسة الضيقة أعددتُ لكم كذلك ما تركبونه في هذه المساحة الواسعة من الماء .
ولما كان الكلام هنا عن الفُلْك فقد ناسب ذلك الحديث عَمَّنْ له صلة بالفُلْك ، وهو نوح عليه السلام : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله . . }
.
(1/6142)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
بعد أنْ حدَّثنا القرآن الكريم عن خَلْق الإنسان وخَلْق الحيوان ، وحدثنا عن بعض نعمه التي امتنّ بها علينا تدرج بنا إلى صناعة الفُلْك؛ لأنه قد يسأل سائل : وكيف تكون هذه الفُلْك أي : تخلق كالإنسان والحيوان بالتوالد ، أم تنبت كالزرع؟ فأوضح الخالق سبحانه لأنه وُجدت بالوحي في قوله تعالى : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } [ المؤمنون : 27 ] .
ومعنى { بِأَعْيُنِنَا } [ المؤمنون : 27 ] أنها صنعة دقيقة ، لم يترك فيها الحق سبحانه نبيَّه يفعل ما يشاء ، إنما تابعه ولاحظه ووجَّهه إلى كيفية صناعتها والمواد المستخدمة فيها ، كما قال سبحانه : { وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر : 13 ] وهي الحبال ، كانوا يربطون بها ألواح الخشب ، ويضمون بعضها إلى بعض ، أو المسامير تُشَدُّ بها الألواح بعضها إلى بعض .
لكن ، مهما أُحكِمَتْ ألواح الخشب بعضها إلى بعض ، فلا بُدَّ أنْ يظل بينها مسامّ يتسرب منها الماء ، فكيف نتفادى ذلك في صناعة الفُلْك خاصة في مراحلها البدائية؟ يقولون : لا بُدَّ لصانع الفُلْك أنْ يجفف الخشب جيداً قبل تصنيعه فإذا ما نزل الخشبُ الماءَ يتشرب منه ، فيزيد حجمه فيسدّ هذه المسام تماماً ، ولا يتسرب منها الماء .
ومن عجائب القرآن ومعجزاته في مسألة الفُلْك قوله تعالى : { وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام } [ الرحمن : 24 ] يعني : كالجبال العالية . وهذه الفُلْك لم تكُنْ موجودة وقت نزول القرآن إنما أخبر الله بها ، مما يدل على أنه تعالى الذي امتنّ علينا بهذه النعمة ، علم ما يمكن أن يتوصل إليه الإنسان من تطور في صناعة الفلك ، وأنها ستكون عالية شاهقة كالجبال .
وطالما أن الكلام معنا عن الفُلْك ، فطبيعي ومن المناسب أن نذكر نوحاً عليه السلام؛ لأنه أول من اهتدى بالوحي إليه إلى صناعة الفُلْك ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ . . } [ المؤمنون : 23 ] لما تكلم الحق سبحانه عما في الأنعام من نِعَم وفوائد ، لكنها تؤول كلها - بل والدنيا معها - إلى زوال ، أراد سبحانه أن يعطينا طرفاً من الحياة الباقية والنعيم الدائم الذي لا يزول فذكر منهج الله الذي أُرسِل به نوح ، وهو واحد من أولى العَزْم من الرسل .
والإرسال : هو أنْ يكلِّف مُرسِل مُرْسَلاً إلى مُرْسَل إليه ، فالمكلف هو الحق سبحانه ، والمكلف بالرسالة نوح عليه السلام ، والمرسل إليهم هم قومه ، والله لا يرسل إلى قوم إلا كانوا يهمونه ، وكيف لا وهم عباده وخَلْقه ، وقد جعلهم خلفاء له في الأرض؟
والذي خلق خَلْقاً ، أو صنع صَنْعة لا بُدَّ أنْ يضع لها قانون صيانتها ، لتؤدي مهمتها في الحياة ، وتقوم بدورها على الوجه الأكمل ، كما مثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - بصانع الثلاجة أو التلفزيون حين يضع معه كتالوجاً يحوي تعليمات التشغيل وطريقة الصيانة وكيفية إصلاح الأعطال .
(1/6143)

فالذي خلق الإنسان وجعله خليفة له في الأرض أَوْلَى بهذا القانون وأَوْلَى بصيانة خَلْقه؛ لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، خلقت الأشياء كلها من أجلك ، وخلقتُك من أجلي ، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له " يعني : ما دام كل شيء من أجلك يعمل لك ويُؤدِّي مهمته ، فعليك أيضاً أن تؤدي مهمتك التي خلقتُك من أجلها .
لذلك وضع لك ربُّك قانون صيانتك بافعل كذا ولا تفعل كذا ، فعليك أن تلتزم الأمر فتؤديه فهو سِرُّ الجمال في الكون ، وسِرُّ السعادة والتوافق في حركة الحياة ، وعليك أن تجتنب النهي فلا تقربه؛ لأنه سيؤدي إلى قُبْح ، وسيكشف عورة من عورات المجتمع ، أما الأمور التي سكت عنها فأنت حُرٌّ فيها تفعل أو لا تفعل؛ لأن ذلك لا يأتي بقبيح في المجتمع ، وهذه المسائل تُسمَّى المباحات ، وقد تركها الله لحريتك واختيارك .
والحق - تبارك وتعالى - لما استدعى الإنسان إلى هذا الكون خلق له مقومات حياته من مُقوِّمات استبقاء الحياة من طعام وشراب وهواء واستبقاء النوع بالتناسل ، وقد شمل قانون الصيانة كل هذه المقومات ، فنظمها وحدد ما يحل وما يحرم . فقال : كُلْ هذه ولا تأكل هذه ، واشرب هذا ولا تشرب ذاك ، ولو شاهدنا المخترعين في مسائل المادة نجد الصانع يحدد مقومات صنعته ، فمثلاً هذا الجهاز يعمل على 110 فولت ، وهذا يعمل 220 فولت ، وهذه الآلة تعمل بالبنزين ، وهذه بالسولار ، فلو غيَّرت في هذه المقومات تفسد الآلة ولا تؤدي مهمتها .
كذلك - ولله المثل الأعلى - عليك أن تلتزم بقانون ومنهج خالقك عز وجل ، ولا تَحِدْ عنه ، وإلا فسد حالك وعجزتَ عن أداء مهمتك في الحياة . فإن أردنا أن تستقيم لنا الخلافة التي خلقنا الله لها وهي خلافة مُصلحة لا مُفسدة ، فعلينا بقانون الصيانة الذي وضعه لنا خالقنا عز وجل .
لذلك ، إنْ رأيت في المجتمع عورة ظاهرة في أي ناحية من نواحي الحياة فاعلم أنها نتيجة طبيعية للخروج عن منهج الله ، وتعطيل حكم من أحكامه ، فمثلاً حين ترى الفقراء والجوْعى والمحاويج فاعلم أن في الأمر تعطيلاً لحكم من أحكام الله ، فهم إما كسالى لا يحاولون السَّعْي في مناكب الأرض ، وإما غير قادرين حرمهم القادرون واستأثروا بالثروة دونهم .
البعض يقول : إذا كان الحق سبحانه قد حرَّم علينا بعض الأشياء ، فلماذا خلقها؟ ويُمثِّلون لذلك بالخنزير مثلاً وبالخمر . وخطأ هؤلاء أنهم يظنون أن كل شيء خُلِق ليُؤكل ، وهذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء لمهمة تؤديها في الحياة ، وليس بالضرورة أنْ تُؤكل ، فالخنزير خلقه الله لينظف البيئة من القاذورات ، لذلك لا تراه يأكل غيرها .
أما الخمر فلم تُخلق خمراً ، إنما هي ثمرة العنب الحلوة التي تؤكل طازجة ، أخذها الإنسان وتدخّل في هذه الطبيعة وأفسدها بتخميره ، فصار الحلال بذلك محرماً .
(1/6144)

نعود إلى قول الله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } [ المؤمنون : 23 ] القوم : هم الرجال ، خاصة من المجتمع ، وليس الرجال والنساء ، بدليل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ . . } [ الحجرات : 11 ] فالنساء في مقابل القوم أي : الرجال .
ومن ذلك قول الشاعر :
وَمَا أََدْرِي وسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصنٍ أَمْ نِسَاءُ
لكْن هل أُرسِل نوح عليه السلام إلى الرجال دون النساء؟ أُرسِل نوح إلى الجميع ، لكن ذُكِر القوم لأنهم هم الذين سيحملون معه أمر الدعوة ويسيحون بها ، ويُبلّغونها لمن لهم ولاية عليهم من النساء ، والرجال مَنُوط بهم القيام بمهام الأمور في عمارة الكون وصلاحه .
والإضافة في { قَوْمِهِ . . } [ المؤمنون : 23 ] بمعنى اللام يعني : قوم له؛ لأن الإضافة تأتي بمعنى من مثل : أردب قمح يعني من قمح ، وبمعنى في مثل : مكر الليل يعني في الليل ، وبمعنىللام مثل : قلم زيد يعني لزيد .
فالمعنى هنا : قوم له؛ لأنه منهم ومأمون عليهم ومعروف لهم سيرته الأولى ، فإذا قال لهم لا يتهمونه ، إذن : فمن رحمة الله بالخَلْق أن يرسل إليهم واحداً منهم ، كما قال سبحانه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . . } [ التوبة : 128 ] ففي هذا إيناس وإلْفٌ للقوم على خلاف ما إنْ كان الرسول مَلَكَاً مثلاً ، فإن القوم يستوحشونه ولا يأنسون إليه .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمَّى بين قومه وقبل بعثته بالصادق الأمين؛ لأنه معروف لهم ماضيه وسيرته ومُقوِّمات حياته تُشجِّع على أنْ يُصدِّقوه فيما جاء به ، وكيف يصدقونه في أمر الدنيا ، ولا يُصدقونه في البلاغ عن الله؟
إذن : { إلى قَوْمِهِ } [ المؤمنون : 23 ] أننا لم نأْتِ لكم برسول من جنس آخر ، ولا من قبيلة أخرى ، بل منكم ، وتعرفون ماضيه وتاريخه ، فتأنسون بما يجيء به ، ولا تقفون منه موقف العداء .
أو يكون المعنى : إلى قوم منه؛ لأنهم لا يكونون قوماً قوّامين على شئون إصلاح الحياة ، إلا إذا استمعوا منهجه ، فهم منه؛ لأنهم سيأخذون منه منهج الله .
ثم يقول سبحانه : { فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . } [ المؤمنون : 23 ] ( يا قوم ) استمالة وتحنين لهم { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . } [ المؤمنون : 23 ] والعبادة طاعة عابد لأمر معبود ، والعبادة تقتضي تكليفاً بأمر ونهي . فالألوهية تكليف وعبادة ، أما الربوبية فعطاء وتربية؛ لذلك قال سبحانه { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 34 ] أي : ربكم جميعاً : ربّ المؤمن ، وربّ الكافر ، ربّ الطائع ، ورب العاصي .
وكما قلنا : الشمس والقمر والأرض والمطر . . الخ كلها تخدم الجميع ، لا فرْقَ بين مؤمن وكافر؛ لأن ذلك عطاء الربوبية ، وإنْ سألت الكافر الجاحد : من خلقك؟ من رزقك؟ فلن يملك إلا أن يقول : الله ، إذن : فليخْزَ هؤلاء على أعراضهم ، وليعلموا أنه تعالى وحدة المستحق للطاعة وللعبادة .
(1/6145)

فمقتضيات الربوبية والإيمان بها تقتضي أن نؤمن بالألوهية .
كما أن الطفل الصغير ينشأ بين أبيه وأمه ويشبّ ، فلا يجد غيرهما يخدمه ويقضي حاجته ويُوفِّر متطلباته ، بل ويزيل عنه الأذى ويسهر على راحته . كل ذلك بروح سعيدة ونفس راضية مطمئنة ، ربما يجوعان لتشبع ، ويعريان لتكسى ، ويحرمان نفسيهما ليوفرا لك الحياة الكريمة ، فإذا ما كبر الصغير وبلغ الحُلُم ومبلغ الرجال نجده يعقُّهما ، ويخرج عن طاعتهما ، ويأخذه من أحضانهما أصدقاء السوء ، ويُزيّنون له التمرد على أبيه وأمه .
ونقول لمثل هذا العاق : اخْزَ على عِرْضك واسْتَحِ ، فليس هكذا يكون رد الجميل ، وأين كان هؤلاء الأصدقاء يوم أنْ كنتَ صغيراً تحتاج إلى من يعولك ويميط عنك الأذى ، ويسهر على راحتك؟ قد كان ينبغي عليك ألاَّ تسمع إلا لمن أحسن إليك .
وهذا مثال لتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - ولله المثل الأعلى - فكيف تأخذ من ربك عطاء الربوبية ، ثم تتمرد عليه سبحانه في الألوهية ، فتعصي أمره وتكفر بنعمه؟ كان من الواجب عليك الوفاء للنعمة .
ولا بد أن تعلم أن ربك - عز وجل - مأمون عليك في التكليف بالأمر والنهي ، لأنك عبده وصنعته ، وأنك حين تُؤدِّي ما عليك تجاه الألوهية لا ينتفع الله سبحانه من ذلك بشيء ، إنما تعود منفعتها عليك ، وهكذا إذا ما رددت أمور الطاعة والعبادة والتكاليف لوجدتها تعود في النهاية أيضاً إلى عطاء الربوبية؛ لأنها تعود عليك أنت بالنفع .
فنحن نأخذ الأوامر والنواهي على أنها تكاليف وأعباء يقتضيها الإيمان بالألوهية ، نقول : نعم هي تكاليف من الله لكن لصالحك ، فلو أنصفتَ لوجدتَ الألوهية من الربوبية ، فحين يُحرِّم مثلاً عليك شرب الخمر ويحميك من فساد العقل ، هل ينتفع سبحانه من ذلك بشيء؟
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . } [ لقمان : 25 ] .
ويقول : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله . . } [ الزخرف : 87 ] .
فما دام هو سبحانه خالقكم ورازقكم وخالق السموات والأرض ، فلماذا تعصونه؟ وهل نقص عصيانكم من مُلْكه شيئاً؟ وهل زاد في مُلْكه شيء بطاعة مَنْ أطاع؟ هل زاد في مُلْك الله بطاعة الطائعين أرض أو سماء ، أو شمس أو قمر؟
إن الحق سبحانه قبل أن يخلقكم خلق لكم بصفات الكمال فيه كل مُقوِّمات حياتكم واستدعاكم إلى كون مُعَدٍّ لاستقبالكم ولمعيشتكم . إذن : فربُّكَ - عز وجل - لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية .
لذلك يقول في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا في صعيد واحد ، وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر ، وذلك أنِّي جواد واجد ماجد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له : كن فيكون " .
(1/6146)

إذن : حين تطيعني فالخير لك؛ لأنك ضمنتَ بهذه الطاعة حياة أخرى خالدة باقية بعد هذه الحياة الفانية التي مهما أترفت فيها فهي إلى زوال ، فإما أنْ تفوت نعيمها بالموت ، وإما أنْ يفوتك بالحاجة والفقر ، أما في الآخرة فالنعيم دائم بَاقٍ لا يفوتك ولا تفوته؛ لأنها نعمة لا مقطوعة ولا ممنوعة .
لذلك قال سبحانه : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] فكأن عطاء الألوهية ربوبية متعدية إلى زمن آخر غير زمن الدنيا ، فلا تظن أن طاعتك ستفيدني في شيء ، أو أن معصيتك ستضرني بشيء ، ومن هنا قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] .
وقوله تعالى : { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] أي : معبود غيره { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 23 ] هذا استفهام يحمل معنى التهديد والتوبيخ ، لكن كيف يُوبِّخهم وهو لم يَزَلْ في مرحلة الأمر بعبادة الله ، ولم يسمع منهم بعد بوادر الطاعة أو العصيان؟ قالوا : يبدو أنه رأى منهم إعراضاً فأمرهم بتقوى الله .
والتقوى معناها أنْ تجعل بينك وبين ربك وقاية تقيك صفات جبروته وقَهْره وتحميك من أسباب بَطْشه وانتقامه ، فلست مطيقاً لهذه الصفات . والوقاية التي تجعلها بينك وبين هذه الصفات هي أن تنفذ منهج الله بطاعة الأوامر واجتناب النواهي .
ومن عجيب تركيبات التقوى في القرآن الكريم أنْ يقول سبحانه : { واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] ويقول : { فاتقوا النار . . } [ البقرة : 24 ] قالوا : نعم اتق الله ، واتق النار؛ لأنك تتقي الله من متعلقات صفات قهره وغضبه ومنها النار ، فحين تتقي الله بالمنهج فقد اتقيْتَ النار أيضاً .
ثم يقول سبحانه : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ . . }
.
(1/6147)

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
الملأ : من الملء يعني : الشيء الذي يملأ الشيء ، فالملأ يعني الذين يملأون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم ، ومن ذلك قولهم : فلان مِلءُ العين ، أو مِلْءُ السمع والبصر ، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغاً : فلان قَيْد العيون يعني : حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شِدَّة حسنه كأنه قيَّد بصرك نحوه . أما في المقابل فيقولون : فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود .
إذن : الملأ : هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبَّهة وفخامة ووجاهة وسيادة ، لكن ، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصَّبوا ضده وواجهوه؟
قالوا : لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر ، فالحق - تبارك وتعالى - يُنزِل منهجاً على لسان رسول أول ، ويطلب من قومه أن يُبلِّغوا منهج رسولهم من بعده ، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عِدَّة صور :
فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب ، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم ، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله ، وهؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجاً لا رجعةَ له ولا زاجر ، وهذا نسميه بلغتنا ( فاقد ) يعني : لم يَعُدْ له زاجر من شرع ولا من ضمير . ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدَّى لهم ، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم ، وإلا لو ظَلَّ المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم ، ولو ظلَّ على مكانته في المجتمع لتمادى في غَيِّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع ، ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى .
ألاَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني : عائلة القاتل ، لا على القاتل وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدَتْ عنده بوادر الاعتداء؛ لأنهم جميعاً سيحملون هذه التبعة .
ونقول : خُصَّ الملأ بالذات؛ لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع ، ومن مصلحتهم أنْ يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم؛ لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالات بالجحود والنكران . ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا . . } [ هود : 27 ] .
فهؤلاء الذين يُسمُّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق والدين والقيم ، فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهَّفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم؛ لذلك يكونون أول مَنْ يؤمن . وإنْ جاء المنهج لإنصاف هؤلاء ، فقد جاء أيضاً لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم ، فلا بُدَّ أن يواجهوه ويعاندوه .
(1/6148)

ومعنى : { الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ . . } [ المؤمنون : 24 ] كفروا : يعني جحدوا وجود الله { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] فأول شيء صَدَّهم عن الرسول كونه بشراً ، إذن : فماذا كنتم تنتظرون؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] .
ولا بُدَّ في الرسول أن يكون من جنس المرسَل إليهم؛ ليصح أن يكون لهم أُسْوة ، فيقلدوه ويهتدوا به ، وإلا لو جاء الرسول مَلكاً فكيف تتحقق فيه القدوة؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه مَلَكٌ لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل ، وليست لديه شهوة ، ولا مُقوِّمات المعصية؟
ولنفرض أن الله نزَّل عليكم ملَكاً ، فكيف ستشاهدونه وتتلقوْن عنه؟ لا بُدَّ - إذن - أن يأتيكم في صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقِّي عنه ، وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل؛ لذلك قال سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] وتظل الشبهة باقية .
إذن : من الحُمْق أن نقول بأن يكون الرسول مَلَكاً .
أما قولهم : { بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] نعم ، هو بشر ، لكن ليس كمثلكم ، فأنتم كاذبون في هذه المثلية ، لأنه بشر اصطفاه الله بالوحي؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم ، وأُعْطَى من الله فأقول : أنا لست كأحدكم " .
ويقول تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } [ فصلت : 6 ] ومن هنا كانت الأفضلية في أنه بَشر يُوحَى إليه ، وما بشريته إلا للإيناس والإلْف .
ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلاء الكافرين من قوم نوح : { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] يتفضّل : يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعاً وهم تابعون { وَلَوْ شَآءَ الله } [ المؤمنون : 24 ] يعني : لو شاء أنْ يرسل رسولاً { لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [ المؤمنون : 24 ] أي : رسلاً ، وقد رَدَّ الله تعالى عليهم هذا القول ، فقال تبارك وتعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
ثم يقولون : { مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } [ المؤمنون : 24 ] المراد بهذا : يعني أن يأتي مَنْ يقول اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، لأن آباءنا الأولين كانوا يعبدون الأصنام ، ولم يأْتِ مَنْ يقول لنا هذا الكلام مثل نوح .
وهذا دليل على أنهم مُقلِّدون للآباء ، ليس لديهم تفكير واستقلال في الرأي ينظرون به إلى الأشياء نظرة الحق والعدالة ، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
ولو تأملنا حال المجتمعات ، ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلاء في ادعائهم التقليد للآباء ، كيف؟ تأمل حال الأجيال المختلفة تجد كل جيل له راية وتطلعاته ورغباته التي ربما اختلف فيها الأبن عن أبيه ، فالأبناء الآن لهم رأي مستقل ، فالولد يختار مثلاً الكلية التي يرغبها ، الملابس التي يحبها ، وإنْ خالفتْ رأي أبيه ، بل ويصل الأمر إلى اتهام الآباء بالجمود والتخلف إنْ لزم الأمر ، وهذا موجود في كل الأجيال .
(1/6149)

إذن : لماذا لم تقولوا في مثل هذه الأمور : إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ لماذا كانت لكم ذاتية ورأْيٌ مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يُلبِّي رغباتكم وشهواتكم وانحرافاتكم ، وتتخذون التقليد فيما يُقلِّل تكليفكم؛ لأن التكليف سيُقيِّد هذه الرغبات والشهوات ويقضي على هذه الانحرفات؛ لذلك يتمرد هؤلاء على منهج الله .
لذلك ، نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبنائنا اليوم ، وكيف أفلتَ الزمام من الآباء والأمهات ، فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية ، فإن وجَّهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم وقد ذهب زمانه بلا رجعة ، وقد تعدى الأمر من الأولاد إلى البنات ، فصِرْن أيضاً يتمردْنَ على هذه القيم ولا يهتممن بها .
فقولهم : { مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } [ المؤمنون : 24 ] .
فقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] هم كاذبون أيضاً في هذه المقولة؛ لأنهم لو صَدَقوا لقلَّدوهم في كل شيء وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والأخلاق .
لذلك الحق - تبارك وتعالى - يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم ، وبأساليب مختلفة ، منها قوله سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ . . } [ البقرة : 170 ] .
لأن هذا يريحهم من مشقة التكاليف ، وإنْ كانت العبادة : طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه ، فما أسهلَ عبادة الأصنام؛ لأنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج ، وليس معها تكاليف ، فبأيِّ شيء أمرك الصنم؟ وعن أيِّ شيء نهاك؟ وماذا أعدَّ من جزاء لمن أطاعه؟ وماذا أعدَّ من عقاب لمن عصاه ، إذن : معبود بلا منهج وبلا تكاليف ، وهذا دليل كذبهم في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم .
الم يقولوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فهذا حُمْق وسَفَه وجهل؛ لأن الكلام منطقياً لا يستقيم ، كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج ، وليس لهم تكاليف ، والعبادة طاعة عابد لمعبود؟
إذن : ما هو إلا خِوَاء وإفلاس عقديّ؛ لذلك يردُّ الحق - تبارك وتعالى - عليهم فيقول سبحانه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] .
وفي موضع آخر يقول - سبحانه وتعالى - عنهم : { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ . . } [ المائدة : 104 ] وهذه أبلغ من سابقتها ، لأنهم يُصعِّدون كفرهم ويُصِرون عليه ، فقولهم : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ . . } [ البقرة : 170 ] فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق ، ويخالفون الآباء .
لكن هنا :
(1/6150)

{ حَسْبُنَا . . } [ المائدة : 104 ] يعني : كافينا ، ولن نغيره ولن نحيد عنه؛ لذلك يأتي كل آية بما يناسبها : ففي الأولى قال تعالى رداً عليهم : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } [ البقرة : 170 ] وفي الأُخْرى قال رداً عليهم : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً . . } [ المائدة : 104 ] .
فذكر العقل في الأولى؛ لأن الإنسان يأتمر فيه بنفسه ، وذكر في الأخرى العلم؛ لأن الإنسان في العلم يأتمر بعقله ، وعقل العلم أيضاً ، فالعلم - إذن - أوسع من العقل؛ لذلك ذكره مع قولهم { حَسْبُنَا . . } [ المائدة : 104 ] الدالة على المبالغة والإصرار على الكفر .
كما نلحظ عليهم في قولهم : { مَّا سَمِعْنَا بهذا . . } [ المؤمنون : 24 ] أن الغفلة قد استحكمت فيهم؛ لأن نوحاً عليه السلام يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلام ، فبينهما فترة طويلة ، فكيف ما سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي ، يقول : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره؟
(1/6151)

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{ إِنْ هُوَ . . } [ المؤمنون : 25 ] يعني : ماهو و { جِنَّةٌ } : يعني جنون ، وهو ستر العقل الذي ستر العقل الذي يسيطر على حركة الإنسان في الحياة فيسير حسب تقنيناتها ( افعل كذا ) و ( لا تفعل كذا ) ، أما المجنون فيعمل ما يخطر له دون أنْ يعرض الأعمال على العقل أو التفكير؛ لذلك من عدالة الله في خَلْقه أننا لا نؤاخذ المجنون على تصرُّفاته حين يعتدى على أحد منا بالسبِّ أو الضرب مثلاً ، ولا نملك إلا أن نبتسم له ، وندعو الله أن يعافينا مما ابتلاه به .
فإنْ كان هذا الحال المجنون في حركة حياته ، فهل يكون ذو الخلق الذي يسير وَفْق قوانين الحياة ومحكوماً بنظم وقيم خلقية ، هل يكون مجنوناً؟ ومن العجيب أن تهمة الجنون هذه سائرة على لسان المكذِّبين للرسل في كل زمان ومكان ، وقد اتُّهِم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردَّ الله عليهم ونفى عن رسوله هذه الصفة في قوله : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] .
فكيف يكون ذو الخلق مجنوناً؟ ولو كان صلى الله عليه وسلم مجنوناً ، فلماذا استأمنوه على ودائعهم ونفائسهم ، واطمأنوا إليه ، وسمَّوْه الصادق الأمين؟ إنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم يعلمون خُلقه ، وأنه محكوم بقيم من الحق والخير لا تتزحزح .
وما دام الأمر لا يعدو أن يكون رجلاً به جِنَّة { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } [ المؤمنون : 25 ] أي : انتظروا واتركوه وشأنه ، فربما عاد إلى صوابه ، وترك هذه المسألة من تلقاء نفسه حين يرانا منصرفين عنه غير مُهتمين به ، أو دَعُوه فإنْ كان على حق ونصرة الله وأظهر أمره عندها نتبعه ، وإنْ كانت الأخرى فها نحن مُعرِضون عنه من بداية الأمر .
(1/6152)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
بعد أنْ كذَّبه قومه دعا الله ان ينصره { بِمَا كَذَّبُونِ } [ المؤمنون : 26 ] يعني : انصرني بسبب تكذيبهم ، واجعل تكذيبهم لا مدلولَ له فينتصر عليهم رغم تكذيبهم ، أو : يا رب عوِّضني بتكذيبهم نصراً ، يعني : أبْدِلني من كذبهم نصراً ، كما تقول : اشتريت كذا بكذا ، فأخذت هذا بدل هذا .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا . . }
.
(1/6153)

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح - عليه السلام - في النُّصْرة على قومه ، فأمره بأن يصنع الفلك . والفُلْك هي السفينة ، وتُطلق على المفرد والجمع ، قال تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون } [ الشعراء : 119 ] وقال : { وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فاطر : 12 ] فدلَّتْ مرة على المفرد ، ومرة على الجمع .
وقوله تعالى : { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا . . } [ المؤمنون : 27 ] دليل على أن نوحاً - عليه السلام - لم يكن نجاراً كما يقول البعض ، فلو كان نجاراً لهداه عقله إلى صناعتها ، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته ، كما قال سبحانه : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] فالمعنى : اصنع الفُلْك ، وسوف أوفقك إلى صناعتها ، وأهديك إلى ما يجب أن يكون ، وأُصحِّح لك إنْ أخطأت في وضع شيء في غيرموضعه ، إذن : أَمَرْتُ وأَعَنْتُ وتابعتُ . والوحي : هو خطاب الله لرسوله بخفاء .
ثم يقول تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور } [ المؤمنون : 27 ] .
وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة ، والتي جاءت في قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] ذلك لأنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب صناعتها .
وفي موضع آخر يُعْلِمنا - سبحانه وتعالى - عن كيفية صُنْعها فيقول : { وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر : 13 ] وقلنا : إن الدُّسُر : الحبال التي تُضَمُّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض شريطة أن تكون جافة ، وتُضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرَّبت منه يزيد حجمها فتسدُّ المسام بين الألواح ، كما نراهم مثلاً يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب .
وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة ، وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلاً من المسامير .
ثم يقول سبحانه : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا . . } [ المؤمنون : 27 ] يعني : بإنجاء المؤمنين بك ، وإهلاك المكذبين { وَفَارَ التنور . . } [ المؤمنون : 27 ] والتنور : هو الفرن الذي يخبزون فيه الخبز ، ويقال : إنه كان موروثاً لنوح من أيام آدم ، يفور بالماء يعني : يخرج منه الماء ، وهو في الأصل محلٌّ للنار ، فيخرج منه الماء وكأنه يغلي . لكن هل كل الماء سيخرج من التنور؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الأرض وسينزل من السماء ، وفوران التنور هو إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها .
إذا حدث هذا { فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين . . } [ المؤمنون : 27 ] يعني : احمل وأدخل فيها زوجين ذكراً وأنثى من كل نوع من المخلوقات ، كما في قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] يعني : أدخلكم ، وقال سبحانه : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ . . } [ القصص : 32 ] يعني : أدخلها ، وقال سبحانه : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } [ الحجر : 12 ] .
ومن مادة ( سلك ) أخذنا في أعرافنا اللغوية .
(1/6154)

نقول : سلَّك الماسورة أو العين يعني : أدخل فيها ما يزيل سدَّتها .
والتنوين في { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين . . } [ المؤمنون : 27 ] يعني : من كل شيء نريد حِفْظ نوعه واستمراره؛ لأن الطوفان سيُغرق كل شيء ، والحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ لعباده المؤمنين مُقوِّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والأنعام وجميع أنواع المخلوقات الأخرى من كل ما يلِدُ أو يبيض .
ومعنى { زَوْجَيْنِ } [ المؤمنون : 27 ] ليس كما يظنُّ البعض أن زوج يعني : اثنين ، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله ، ومنه قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين . . } [ الأنعام : 143 - 144 ] .
فسمَّى كلَّ فرد من هذه الثمانية زوجاً؛ لأن معه مثله .
هذا في جميع المخلوقات ، أما في البشر فلم يقُلْ زوجين ، إنما قال { وَأَهْلَكَ } [ المؤمنون : 27 ] أياً كان نوعهم وعددهم ، لكن الأهلية هنا أهلية نسب ، أم أهلية إيمانية؟
الأهلية هنا يُراد بها أهلية الإيمان والاتباع ، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى ، فقال على لسان نوح عليه السلام : { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي . . } [ هود : 45 ] .
فقال له ربه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ]
فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع ، فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلاً وسهلاً ، وإنْ جاءت من الغير فأهلاً وسهلاً . " لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي : " سلمان منا آل البيت " " فقد تعدى أن يكون مسلماً إلى أن صار واحداً من آل البيت .
وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } [ المؤمنون : 27 ] وكان له امرأتان ، واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان ، والتي ذُكرت في قول الله تعالى في سورة التحريم : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا . . } [ التحريم : 10 ] .
وكنعان هو الذي قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا؛ لأن أحداث القصة جاءت مُفرَّقة في عِدَّة مواضع ، بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة ، فإنْ قُلْتَ : فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلام؟
نقول : جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق - سبحانه وتعالى - نموذجاً للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على الإتيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك ، فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك ، وها هي قصة يوسف ، إنما الهدف من القصص في القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }
(1/6155)

[ الفرقان : 32 ] ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه ، وسيتعرض لأزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلِّيه ويُثبِّته أمام هذه الأحداث .
لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول الله ، والتخفيف عنه كلما تعرَّض لموقف من هذه المواقف ، وبجَمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة المستوية .
وقد أدخل نوح معه زوجته الأخرى المؤمنة وأولاده : سام وحام ويافث وزوجاتهم ، فهؤلاء ستة ونوح وزوجه فهم ثمانية ، ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول الإيمان الباقي مع نوح عليه السلام .
ولما كان الحكم بغرق مَنْ كفر من أهله أمراً لا استئناف فيه ، قال تعالى بعدها : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [ هود : 37 ] لكن ظلموا مَنْ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله ، والحق سبحانه يقول : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقَّ الله في أنه واحد أحد موجود ، وإله لا معبود غيره ، وأعطيتَه لغيره ، لكن هذا الظلم لم يضر الله تعالى في شيء إنما أضرَّ بك وظلمتَ به نفسك ، ومنتهى الحُمْق والسفه أن يظلم الإنسان نفسه .
ثم يقول سبحانة : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ . . }
.
(1/6156)

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{ استويت } [ المؤمنون : 28 ] يعني : استعليتَ وركبتَ أنت ومَنْ معك على الفُلْك واطمأنّ قلبك إلى نجاة المؤمنين معك { فَقُلِ الحمد للَّهِ } [ المؤمنون : 28 ] فلا بد للمؤمن أن يستقبل نِعَم الله عليه بالحمد ، وبألاَّ تُنسيه النعمةُ جلالَ المنعِم ، فساعةَ أنْ يستتب لك الأمر على الفُلْك وتطمئن بادر بحمد الله .
وفي موضع آخر يقول سبحانه : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ يونس : 12 ] .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا حصانة ، ويجعل لنا أسوة بذاته سبحانه ، حتى إذا ما تعرضنا لنكران الجميل ممَّنْ أحسنَّا إليه لا نغضب؛ لأن الناس ينكرون الجميل حتى مع الله عز وجل .
لذلك لما قال موسى - عليه السلام - يا ربّ أسألك أَلاّ يُقال فيَّ ما ليس فيَّ . يعني : لا يتهمني الناس ظلماً ، فردَّ عليه ربه عز وجل : " يا موسى ، كيف ولم أصنع ذلك لنفسي " .
إذن : فهذه مسألة لا يطمع فيها أحد ، ولو أن كل فاعل للجميل يضِنُّ به على الناس لأنهم ينكرونه لَفَسد الحال ، وتوقفت المصالح بين الخَلْق ، وضَنَّ أهل الخير بخيرهم؛ لذلك وضع لنا ربنا - عز وجل - الأُسْوة بنفسه سبحانه .
والإنسان إنْ كان حسيساً لا يقف عند إنكار الجميل ، إنما يتعدّى ذلك فيكره مَنْ أحسن إليه ويحقد عليه ، ذلك لأن الإنسان مجبول على حب النفس والتعالي والغطرسة ، فإذا ما رأى مَنْ أحسن إليه كرهه؛ لأنه يدكُّ فيه كبرياء نفسه ، ويَحدُّ من تعاليه .
ومن هنا قالوا : " اتق شرَّ من أحسنت إليه " لماذا؟ لأنه يخزَى ساعة يراك ، وهو يريد أنْ يتعالى ، ووجودك يكسر عنده هذا التعالي .
إذن : وطِّنْ نفسك على أن الجميل قد يُنكَر حتى لو كان فاعله رب العزة سبحانه ، فلا يحزنك أنْ يُنكَر جميلك أنت .
وعن ذلك قال الشاعر :
يَسِير ذَوُو الحاجَاتِ خلفَكَ خُضَّعاً ... فَإنْ أدركُوهَا خلَّفوكَ وهَرْوَلُوا
وأفضلُهم مَنْ إنْ ذُكِرْت بسيءٍ ... توقَّفَ لا ينفي وقد يتقوّل
فَلا تَدعِ المعْروفَ مهما تنكَّروا ... فَإنَّ ثوابَ اللهِ أرْبَى وأجزَلُ
فالمعنى : إذا استويتَ أنت ومَنْ معك ، واستتبَّ لك الأمر على الفُلْك ، فإياك أنْ تغتَرّ أو تنأى بجانبك فتنسى حَمْد الله على هذه النعمة؛ لذلك أمرنا حين نركب أي مركب أن نقول : " بسم الله مجريها ومرساها " لأنك ما أجريتها بمهارتك وقوتك ، إنما باسم الله الذي ألهم ، وباسم الله الذي أعان ، وباسم الله الذي تابعني ، ورعاني بعينه ، وما دُمْتَ تذكر المنعم عند النعمة وتعترف لصاحب الفضل بفضله يحفظها لك .
أما أنْ تنكرها على صاحبها ، وتنسبها لنفسك ، كالذي قال : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي . . } [ القصص : 78 ] فيقول : ما دام الأمر كذلك ، فحافظ أنت عليه .
حتى في ركوب الدَّابّة يُعلِّمنا صلى الله عليه وسلم أنْ نقول : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون " .
وقوله تعالى : { الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } [ المؤمنون : 28 ] وذكر النجاة لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المنفعة .
ثم يُعلِّمه ربه دعاءً آخر يدعو به حين تستقر به السفينة على الجُودي ، وعندما ينزل منها ليباشر حياته الجديدة على الأرض : { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ . . }
.
(1/6157)

وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
وفي موضع آخر قال سبحانه : { قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ . . } [ هود : 48 ] لأنك ستنزل منها وليست هي مكان معيشتك .
وكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال كما حكى القرآن : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ . . } [ الإسراء : 80 ] .
فلا بُدَّ أن تذكر في النعمة المنعِمَ بها ، لذلك فالذين يُصابون في نعم الله عليهم بأعين الحاسدين ، ثِقْ تمام الثقة أنهم حين رأوْا نعمة الله عليهم لم يذكروا المنعِم بها ، ولو أن الإنسان حين يرى نعمة من نعم الله عليه في ماله أو ولده فيقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، ووضع النعمة في حماية المنعم لضمِن دوام نعمته وسلامتها من أعين الحاسدين؛ لأنه وضعها تحت قانون الصيانة الإلهية .
ومعنى : { مُنزَلاً مُّبَارَكاً . . } [ المؤمنون : 29 ] الشيء المبارك : الذي يعطي فوق ما يتصور من حجمه ، كأن يعيش شخص براتب بسيط عيشة كريمة ويُربِّي أولاده أفضل تربية ، فيتساءل الناس : من أين ذلك؟ ونقول : إنها البركة التي تحلّ في القليل فيصير كثيراً ، صحيح أن الوارد قليل لكن يُكثِّره قلة المنصرف منه .
وقد مثّلنا لذلك بواحد يرتزق من الحلال ، فيُيسِّر الله أمره ، ويقضي مصالحه بأيسر تكلفه ، فإذا مرض ولده مثلاً يشفيه الله بقرص أسبرين وكوب من الشاي ، ولا يفزع لمرضه؛ لأنه مطمئن القلب ، راضي النفس ، واثق في معونة الله . أما الذي يتكسب من الحرام ويأكل الرشوة . . الخ إنْ مرض ولده يُهرع به إلى الأطباء ويتوقع في ولده أخطر الأمراض ، فإنِ ارتشى بعشرة صرف عليها مائة .
وسبق أن قلنا : إن هذه البركة هي رزق السَّلْب الذي لا يزيد من دخلك ، إنما يُقلِّل من مصروفاتك .
وكلمة { وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين } [ المؤمنون : 29 ] أم أنه سبحانه المُنزِل الوحيد؟ الله خير المنزلين يعني : أباح أن يقال للعبد أيضاً مُنزِل حين يُنزل شخصاً في مكان مريح ، كأن يُسكنه مثلاً في شقة مريحة ، أو يستقبله ضيفاً عليه . . الخ . وإنْ كنتَ منزِلاً بهذا المعنى ، فالله عز وجل هو خير المنزلين؛ لأنه سبحانه حين يُنزلك ينزل على قَدْره تعالى ، وعلى قَدْر كرمه وعطائه .
إذن : الحق - تبارك وتعالى - لم يضِنّ عليه خَلْقه أنْ يصفهم بما وصف به نفسه ، فلم يضنّ عليك أنْ يصفك بالخَلْق فقال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين . . } [ المؤمنون : 14 ] فأثبت لك صفة الخَلْق ، لأنك توجد معدوماً مع أنك تُوجده من موجود الله ، كأنْ تصنع من الرمل والنار كوباً من الزجاج مثلاً ، لكن ما توجده يظل جامداً على حالته لا ينمو ولا يتناسل ، وليست فيه حياة ، ومع ذلك سماك ربك خالقاً ، وكذلك قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] وقال : { خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
وكما أن الله عز وجل لم يضنّ عليك بهذه الصفات ، فلا تضنّ عليه سبحانه بأنه خير المنزلين ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، وأحسن الخالقين .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }
.
(1/6158)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{ فِي ذلك . . } [ المؤمنون : 30 ] يعني : فيما تقدم { لآيَاتٍ . . } [ المؤمنون : 30 ] عبر وعظات وعجائب ، لو فكّر فيها المرء بعقل محايد لانتهى إلى الخير { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [ المؤمنون : 30 ] فلا تظن أن الابتلاء مقصور على الظلمة والكافرين الذين أخذهم الله وأهلكهم ، فقد يقع الابتلاء بمَنْ لا يستحق الابتلاء ، وحين يبتلي اللهُ أهلَ الخير والصلاح فما ذلك إلا ليزداد أجرهم وتُرفع مكانتهم ويُمَحّص إيمانهم .
ومن ذلك الابتلاءات التي وقعت بالمسلمين الأوائل ، فإنها لم تكُنْ كراهية لهم أو انتقاماً منهم ، إنما كانت تصفية لمعدنهم وإظهاراً لإيمانهم الراسخ الذي لا يتزعزع؛ لأنهم سيحملون دعوة الله إلى أنْ تقوم الساعة ، فلا بُدَّ من تمحيصهم وتصفيتهم .
كما قال سبحانه : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] لا ، لابُدَّ من الابتلاء الذي يُميِّز الصادقين ممَّنْ يعبد الله على حَرْف ، لا بُدَّ أن يتساقط هؤلاء من موكب الدعوة ، ولا يبقى إلا المؤمنين الراسخون على إيمانهم الذين لا تزعزعهم الأحداث .
إذن : المعنى { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [ المؤمنون : 30 ] يعني : أهل الإيمان الذين لا يستحقون العذاب؛ لأننا نحب أن نرفع درجاتهم ونُمحِّص إيمانهم ليكونوا أَهْلاً لدعوة الله؛ لذلك يقول الحق - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي : " وعزتي وجلالي ، لا أُخرج عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الخير حتى أوفيه ما عمله من السيئات ، من مرض في جسمه وخسارة في ماله ، وفقد في ولده ، فإذا بقيتْ عليه سيئة ثقَّلت عليه سكرات الموت حتى يأتيني كيوم ولدته أمه . . وعزتي وجلالي ، لا أخرج عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الشر حتى أوفيه ما عمله من الحسنات ، صحةً في جسمه ، وبركة في ماله وولده ، فإذا بقيتْ له حسنة خففتُ عليه سكرات الموت حتى يأتيني وليست له حسنة " .
إذن : فالابتلاء كما يكون انتقاماً من الكفرة والظلمة يكون كذلك تربيباً للنفع ، وتمحيصاً للإيمان ، وإرادة للثواب .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }
.
(1/6159)

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
أي : من بعد قوم نوح عليه السلام ، وقلنا : إن القرن : الزمن الذي يجمع أُنَاساً متقاربين في مسائل الحياة ، وانتهى العلماء إلى أن القرن مائة عام ، أو إلى ملك مهما طال ، أو رسالة مهما طالتْ ، كلها تسمى قَرْناً .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعبدوا الله . . }
.
(1/6160)

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
جاء بعد قوم نوح عليه السلام قوم عاد ، وقد أرسل الله إليهم سيدنا هوداً عليه السلام ، كما جاء في قوله تعالى : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً . . } [ الأعراف : 65 ] وقد دعاهم بنفس دعوة نوح : { أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . } [ المؤمنون : 32 ] وقال لهم أيضاً : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 32 ] .
إذن : هو منهج مُوحَّد عند جميع الرسالات ، كما قال سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ . . } [ الشورى : 13 ] .
فدين الله واحد ، نزل به جميع الرسل والأنبياء ، فإنْ قلتَ : فما بال قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً . . } [ المائدة : 48 ] .
نقول : نعم ، لأن العقائد والأصول هي الثابتة التي لا تتغير : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، أمّا المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محلُّ التغيير بين الرسل؛ لأنها أمور تتعلق بحركة الحياة ، والحق - تبارك وتعالى - يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها وداءاتها .
والشِّرْعة : هي القانون الذي يحكم حركة حياتك ، أمّا الدين فهو الأمر الثابت والموحّد من قبل الله - عز وجل - والذي لا يملك أحد أنْ يُغيِّر فيه حرفاً واحداً .
لذلك ، كانت آفة الأمم أنْ يجعلوا أنفسهم فِرَقاً مختلفة وأحزاباً متباينة ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 159 ] .
وتأمل : { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ . . } [ الأنعام : 159 ] ولم يقُلْ : فرّقوا شريعتهم ولا منهجهم ، ذلك لأن الدين واحد عند الله ، أمّا المناهج والشرائع فهي مجال الاختلاف على حَسْب ما في الأمة من داءات ، فهؤلاء كانوا يعبدون الأوثان ، وهؤلاء كانوا يُطفِّفون الكيل والميزان ، وهؤلاء كانوا يجحدون نِعَم الله . . الخ .
وسبق أنْ أوضحنا أن اختلاف الداءات في هذه الأمم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم ، فلا يدري هذا بهذا ، وهم في زمن واحد . أمّا في رسالة الإسلام - هذه الرسالة العامة الخاتمة - فقد جاءت على موعد من التقاء الأمم وتواصل الحضارات ، فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه مَنْ في أقصى الجنوب؛ لذلك توحدت الداءات ، فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان ولجميع المكان ، وإلى قيام الساعة .
وآفة المسلمين في التعصُّب الأعمى الذي يُنزِل الأمور الاجتهادية التي ترك الله لعباده فيه حريةً واختياراً منزلةَ الأصول والعقائد التي لا اجتهادَ فيها ، فيتسرَّعون في الحكم على الناس واتهامهم بالكفر لمجرد الاختلاف في وجهات النظر الاجتهادية .
نقول : من رحمة الله بنا أنْ جعل الأصول واحدة لا خلافَ عليها ، أما الفروع والأمور الاجتهادية التي تتأتّى بالفهم من المجتهد فقد تركها الله لأصحاب الفهم ، { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . }
(1/6161)

[ النساء : 83 ] .
وإلا لو أراد الحق سبحانه لَمَا جعل لنا اجتهاداً في شيء ، ولجاءتْ كل مسائل الدين قهرية ، لا رَأْيَ فيها لأحد ولا اجتهاد ، أمّا الحق - سبحانه وتعالى - فقد شاءت حكمته أن يجمعنا جَمْعاً قهرياً على الأمور التي إنْ لم نجمع عليها تفسد ، أما الأمور التي تصلح على أي وجه فتركها لاجتهاد خَلْقه .
فعلينا - إذن - أنْ نحترم رأي الآخرين ، وألاَّ نتجرأ عليهم بل لنحترم ما اختاره الله لنا من حرية الفكر والاجتهاد .
وأُسْوتنا في هذه المسألة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلف هذه الأمة في غزوة الأحزاب ، فلما هَبَّتْ الريح على معسكر الكفار فاقتلعت خيامهم وشتتت شملهم وفَرُّوا من الميدان انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لكن سرعان ما أمره ربه بالتوجه إلى بني قريظة لتأديبهم ، وأخبره - سبحانه وتعالى - أن الملائكة ما زالت على حال استعدادها ، ولم يضعوا عنهم أداة الحرب ، فجمع رسول الله الصحابة وقال لهم : " مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " .
وفعلاً ، سار الصحابة نحو بني قريظة فيما بين العصر والمغرب ، فمنهم مَنْ خاف أنْ يدركه المغرب قبل أنْ يصلي العصر ، فصلى في الطريق ومنهم مَن التزم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بألاَّ يصلي إلا في بني قريظة ، حتى وإن أدركه المغرب ، حدث هذا الخلاف إذن بين صحابة رسول الله وفي وجوده ، لكنه خلاف فرعي ، لَمَّا رفعوه إلى رسول الله وافق هؤلاء ، ووافق هؤلاء ، ولم ينكر على أحد منهم ما اجتهد .
إذن : في المسائل الاجتهادية ينبغي أن نحترم رأي الآخرين؛ لذلك فالعلماء - رضي الله عنهم - وأصحاب الفكر المتزن يقولون : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأْي غيري خطأ يحتمل الصواب . فليت المسلمين يتخلصون من هذه الآفة التي فرَّقتهم ، وأضعفتْ شوكتهم بين الأمم . ليتهم يذكرون دائماً قول الله تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 159 ] .
ولما تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن مسألة الوضوء ، قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين . . } [ المائدة : 6 ] .
نلحظ أنه تعالى عند الوجه قال { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ . . } [ المائدة : 6 ] دون أن يحدد للوجه حدوداً ، لماذا؟ لأن الوجه لا خلافَ عليه بين الناس ، لكن في الأيدي قال : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق . . } [ المائدة : 6 ] فحدد اليد إلى المرفق؛ لأنها محل خلاف ، فمن الناس مَنْ يقول : الأيدي إلى الكتف . ومنهم مَنْ يقول : إلى المرفق . ومنهم مَنْ يقول : هي كف اليد .
لذلك حدَّدها ربنا - عز وجل - ليُخرِجنا من دائرة الخلاف في غَسْل هذا العضو ، ولو تركها - سبحانه وتعالى - دون هذا التحديد لكانَ الأمر فيها مباحاً : يغسل كل واحد يده كما يرى ، كذلك في الرأس قال سبحانه : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ . . } [ المائدة : 6 ] وتركها لاحتمالات الباء التي يراها البعض للإلصاق ، أو للتعدية ، أو للتبعيض .
إذن : حين ترى مخالفاً لك في مثل هذه الأمور لا تتهمه؛ لأن النص أجاز له هذا الاختلاف ، وأعطاه كما أعطاك حقَّ الاجتهاد .
ثم قال الحق سبحانه : { َوَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا . . }
.
(1/6162)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
تكلمنا عن معنى { الملأ } [ المؤمنون : 33 ] وهم عَيْن الأعيان وأصحاب السلطة والنفوذ في القوم ، والذين يضايقهم المنهج الإيماني ، ويقضي على مكانتهم ، ويقف في وجه طغيانهم وسيطرتهم واستضعافهم للخلق .
{ َوَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ . . } [ المؤمنون : 33 ] تماماً كما حدث مع سابقيهم من قوم نوح { َوَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا . . } [ المؤمنون : 33 ] مادة : ترف مثل فرح ، نقول : ترف الرجل يترف إذا تنعّم ، فإذا زِدْتَ عليها الهمزة ( أترف ) نقول : أترفته النعمة ، أترفه الله ، يعني : كانت النعمة سبب طغيان ، ووسَّع الله عليه في النعمة ليتسع في الطغيان .
وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ . . } [ الأنعام : 44 ] يعني من منهج الحق { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] .
ذلك ، ليكون الأَخْذ أقوى وأعنف وأبلغ في الإيلام والحسرة ، وسبق أن ذكرنا تشبيهاً أضحك الحاضرين كثيراً ، ولله تعالى - المثل الأعلى - ، قلنا : إن الله تعالى إذا أراد أنْ يُوقع معانداً لا يُوقعه من فوق الحصيرة ، إنما يوقعه من فوق كرسي عالٍ ومكانة رفيعة ، ليكون ( الهُدْر ) أقوى وأشدّ .
فإن أخذ الإنسان العادي الذي لا يملك ما يتحسرعليه من مال أو جاه أو منصب ، فالأمر هيِّن ، أمّا حين يُرقِّيه ويُعِلي منزلته ويُترِفه في النعيم ، ثم يأخذه على هذه الحال فلا شكَّ أنه أخْذ عزيز مقتدر ، وهذا أشدُّ وأنكَى .
إذن : أترفناهم يعني : وسَّعنا عليهم وأمددناهم بالنعم المختلفة ليزدادوا في كفرهم وطغيانهم ، على حَدِّ قوله تعالى : { َفَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 54 - 56 ] .
إن الله تعالى يمدُّ لهؤلاء في وسائل الغيّ والانحراف ليزدادوا منها ، ويتعمقوا في آثامها لنتعمق نحن في عذابهم والانتقام منهم .
ثم يحكي القرآن عنهم هذه المقولة التي سارت على ألسنتهم جميعاً في كل الرسالات : { َمَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . } [ المؤمنون : 33 ] وكأن هذه الكلمة أصبحتْ لازمة من لوازم المكذِّبين للرسل المعاندين لمنهج الله ، ثم يؤكدون على بشرية الرسول فيقولون : { َيَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [ المؤمنون : 33 ] ألم يقُل كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق . . } [ الفرقان : 7 ] .
سبحان الله ، كأنهم يتكلمون بلسان واحد مع اختلاف الأمم وتباعد الأزمان ، لكن كما يقولون : الكفر ملة واحدة .
(1/6163)

وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
خاسرون إنْ أطعتم بشراً مثلكم ، لكنه بشر ليس مثلكم ، إنه بشر يُوحَى إليه ، فأنا لا أتبع فيه بشريته ، إنما أتبع ما ينزل عليه من الوحي .
.
(1/6164)

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
إنهم ينكرون البعث بعد الموت الذي يعدهم به نبيهم ، لكن ما الإشكال في مسألة البعث؟ أليست الإعادة أهونَ من البَدْء؟ وإذا كان الخالق - عز وجل - قد خلقكم من لا شيء فلأنْ يُعيدكم من الرفات أهون ، وإن كانت كلمة أهون لا تليق في حق الله تعالى؛ لأنه سبحانه لا يفعل أموره عن علاج ومزاولة ، إنما عن كلمة " كُنْ " لكن الحديث في هذه المسألة يأتي بما تعارفتْ عليه العقول ، وبما يُقرِّب القضية إلى الأذهان .
(1/6165)

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{ هَيْهَاتَ . . } [ المؤمنون : 36 ] اسم فعل بمعنى بَعُد ، يعني بَعُد هذا الأمر ، وهو أن نرجع بعد الموت ، وبعد أن صِرْنا عظاماً ورُفَاتاً .
والكلمة في اللغة إما اسم أو فعل أو حرف : الاسم ما دَلَّ على معنى مستقل بالفهم غير مرتبط بزمن ، فحين تقول : سماء نفهم أنها كل مّا علاك فأظلَّك . والفعل كلمة تدل أيضاً على معنى مستقل بالفهم لكنه مرتبط بزمن ، فحين نقول : أكل نفهم المقصود منها ، وهي متعلقة بالزمن الماضي ، أما الحرف فكلمة تدل على معنى غير مستقل بذاته ، فالحرف ( على ) يدل على معنى الاستعلاء ، لكن استعلاء أي شيء؟
فالمعنى - إذن - لا يستقل بذاته ، إنما يحتاج إلى مَا يوضحه ، كذلك ( في ) تدل على الظرفية ، لكن لا تُحدد بذاتها هذه الظرفية ، كذلك من للابتداء وإلى للغاية ، ولكل من الاسم والفعل والحرف علامات خاصة يُعرف بها .
وغير هذه الثلاثة قسم رابع جاء مخالفاً لهذه القاعدة؛ لذلك يسمونه الخالفة وهو اسم الفعل مثل ( هيهات ) أي بَعُد ، فهو اسم يدل على معنى الفعل دون أن يقبل علامات الفعل ، ومثله شتان بمعنى تفرق ، أف بمعنى أتضجّر . . الخ .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا . . }
.
(1/6166)

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
لقد استبعد هؤلاء أمر البعث؛ لأنهم لا يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا ، فالأمر عندهم محصور فيها { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا . . } [ المؤمنون : 37 ] إن : حرف نفي يعني . ما هي ، كما جاء في قوله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ . . } [ المجادلة : 2 ] يعني : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدْنَهم .
وقوله : { نَمُوتُ وَنَحْيَا . . } [ المؤمنون : 37 ] قد يظن البعض أنهم بهذا القول يؤمنون بالبعث ، لأنهم قالوا : ( نموت ونحيا ) فكيف يُنكرونه؟
والمراد : نموت نحن ، ويحيا من خلف بعدنا من أولادنا ، بدليل قولهم بعدها : { إِوَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } .
(1/6167)

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
يعني : الرجل الذي أخبركم بمسألة البعث { افترى على الله كَذِباً . . } [ المؤمنون : 38 ] وعجيب منهم هذا القول ، فهم يعرفون الله ويعترفون { افترى على الله . . } [ المؤمنون : 38 ] فكيف يكون إلهاً دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلاَّ ، فكيف يكون إلهاً دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلاَّ ، فكيف ستعرفون منهج الله؟ قالوا : بالعقل ، لكن العقل في هذه المسألة لا يصح .
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى : هَبْ أننا نجلس في حجرة مغلقة ودَقَّ جرس الباب ، لا شكَّ أننا سنتفق جميعاً على أن طارقاً بالباب ، وهذا يسمى " تعقل " ، لكنا سنختلف في التصوُّر : أهو رجل؟ أم امرأة؟ أم طفل ، أهو بشير أم نذير؟ . . . . الخ .
إذن : نتفق حين نقف عند التعقُّل ، لكن كيف نعرف مَنْ بالباب؟ نجعله هو يخبر عن نفسه حين نقول : مَنِ الطارق؟ يقول : أنا فلان ، وجئتُ لكذا وكذا . فمَنِ الذي يبلغ عن التعقل؟ صاحبه .
وكذلك عقلك يؤمن بأن الكون له خالق واحد تدلُّ عليه آيات الكون ، فأنتَ لو نظرتَ إلى لمبة الكهرباء هذه التي تنير غرفة واحدة ، وتأملَ لوجدتَ وراءها مصانع وعدداً وآلات وعمالاً ومهندسين ومخترعين ، ومع ذلك لها قدرة محدودة ، ولهّا عمر افتراضي وربما كسرت لأيِّ سبب وطفئتْ .
أفلا تنظر كذلك إلى الشمس وتتأمل ما فيها من آيات وعجائب ، وكيف أنها تنير نصف الكرة الأرضية في وقت واحد دون أنْ تتعطلَ ودون أنْ تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار ، ومع ذلك لم يدَّعها أحد لنفسه ، أفلاَ يدل ذلك على أن وراء هذا الخَلْق العظيم خالقاً أعظم؟
إذا كنا نُؤرِّخ لمكتشف الكهرباء ومخترع المصباح الكهربائي ، ونذكر ماذا صنع؟ وكيف توصّل إلى ما توصّل إليه ، أليس يجدر بنا أنْ نبحث في خالق هذا الكون العجيب؟
إنك لو حاولتَ أنْ تنظر إلى قرص الشمس أثناء النهار ، فإنَّ نظرك يكلُّ ولا تستطيع ، وإذا اشتدت حرارتها لا يطيقها أحد ، مع أن بينك وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية ، كل ثانية فيها ثلاثمائة ألف كيلومتر ، فأيّ طاقة هذه التي تنبعث من الشمس؟
ومن عجائبها أيضاً أنك تشعر بحرارتها على الأرض المنبسطة فإذا ما ارتفعت فوق جبل مثلاً أو منطقة عالية تقلّ درجة الحرارة مع أنك تقترب من الشمس ، على خلاف ما لو أوقدتَ ناراً مثلاً فتجد أن حرارتها تنخفض كلما ابتعدت عنها ، أما الشمس فكلما اقتربت منها قلَّتْ درجة الحرارة ، فمَنْ يقدر على هذه الظاهرة؟
فإذا جاء مَنْ يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له : إذن هي لك ، إلى أن يأتي منازع يدَّعيها لنفسه ، ولم يأت منازع يدَّعيها إلى الآن .
وقولهم : { افترى . . } [ المؤمنون : 38 ] مبالغة منهم في حقِّ رسولهم؛ لأن الافتراء : تعمُّد الكذب ، والكذب كما قلنا : أن يأتي الكلام مخالفاً للواقع ، وقد يأتي الكلام مخالفاً للواقع لكن حسب علم صاحبه ، فهو في ذاته صادق .
(1/6168)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
سبحان الله ، كأن تاريخ الرسالات يعيد نفسه مع المكذِّبين ، وكأنه ( أكلشيه ) ثابت على ألسنة الرسل : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فيتهمونه ويُكذِّبونه ويقولون : ما أنت إلا بشر مثلنا ، فتأتي النهاية واحدة : ربِّ انصرني بما كذَّبون ، يعني : أبدلني بتكذيبهم نَصْراً .
هذه قَوْلة هود - عليه السلام - حين كذَّبه قومه ، وقوْلة نوح ، وقوْلة كل نبي كذَّبه القوم؛ لأن الرسول حين يُكذَّب من الرسل إليهم لا يفزع إلا إلى مَنْ أرسله؛ لأن مَنْ أرسله وعده بالنصرة والتأييد : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] .
وقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ . . } [ الحج : 40 ] وقال سبحانه : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171 - 172 ] .
فالمعنى : انصرني لأنك أرسلتني ، وقد كذَّبني القوم بعد أن استنفدتُ في دعوتهم كل أسبابي ، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة ، ولم يَعُد لي إلا معونتك . والإنسان حين يستنفد كل الأسباب التي منحه الله إياها دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطراً داخلاً في قوله سبحانه : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ . . } [ النمل : 62 ] .
إذن : لا تلجأ إلى الله إلا بعد أنْ تؤدي ما عليك أولاً ، وتفرغ كل ما طاقتك في سبيل غايتك ، لكن لا تقعد عن الأسباب وتقول : يا رب فالأرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة ، فاعمل واستنفد أسبابك أولاً حتى تكون في جانب المضطر الذي يُجيب الله دعاءه .
لذلك نسمع كثيراً مَنْ يقول : دعوتُ الله ولم يستجب لي ، ونقول له : أنت لم تَدْعُ بدعاء المضطر ، أنت تدعو بدعاء مَنْ في يده الأسباب ولكنه تكاسل عنها؛ لذلك لا يُستجاب لك .
وهذه نراها حتى مع البشر ، ولله تعالى المثل الأعلى : هَبْ أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك بضاعة من الجمرك مثلاً ، وجلست تراقب العمال وهم يُدخِلونها المخازن ، فليس من مهامك الحمل والتخزين فهذه مهمة العمال ، لكن هَبْ أنك وجدت عاملاً ثقُلَ عليه حِمْله وكاد الصندوق أن يوقعه على الأرض ، ماذا يكون موقفك؟ لا شكَّ أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده؛ لأنه فعل كل ما في وُسْعه ، واستفرغ كل أسبابه وقواه ، فلم تضِنّ أنت عليه بالعون .
كذلك ربك - عز وجل - يريد منك أن تؤدي ما عليك ولا تدعه لشيء قد جعل لك فيه أسباباً؛ لأن الأسباب يد الله الممدودة لخَلْقه ، فلا ترد يد الله بالأسباب لتطلب الذات بلا أسباب .
لذلك جاء قول الرسل الذين كُذبوا : { قَالَ رَبِّ انصرني . . } [ المؤمنون : 39 ] ليس وأنا قاعد متخاذل متهاون ، ولكن { بِمَا كَذَّبُونِ } [ المؤمنون : 39 ] يعني : فعلت كل مَا في وُسْعي ، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة .
فتأتي الإجابة على وجه السرعة : { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } .
(1/6169)

قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{ عَمَّا قَلِيلٍ . . } [ المؤمنون : 40 ] يعني : بعد قليل ، ف ( عن ) هنا بمعنى بعد ، كما جاء في قوله تعالى : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } [ الانشقاق : 19 ] يعني : بعد طبق .
أما { مَّا . . } [ المؤمنون : 40 ] هنا فقد دلَّتْ على الظرف الزمني؛ لأن المراد بعد قليل من الزمن .
{ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] حين يقع بهم ما كانوا به يُكذِّبون ، ويحلّ عليهم العذاب يندمون ، لأنهم لن يستطيعوا تدارك ما فاتهم ، فليس أمامهم إذن إلا الندم ، وهذه المسألة دلَّتْ على أن الفطرة الإنسانية حين لا تختلط عليها الأهواء تنتهي في ذاتها إلى الحق ، وإنْ أخرجها الغضب إلى الباطل ، فإنها تعود إلى توازنها وإلى الجادة حين تهدأ ثورة الغضب .
والحق - تبارك وتعالى - يعطينا أدلةً وإشارات حول هذه القضية في قصة ولدي آدم عليه السلام فيقول : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] .
إلى أنْ قال سبحانه : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ . . } [ المائدة : 30 ] فجاء القتل أثراً من آثار الغضب ، والمفروض أنه بعد أن قتله شفى نفسه ، وينبغي له أن يُسَرَّ لأنه حقق ما يريد ، لكن { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } [ المائدة : 31 ] .
أي : بعد أن هدأتْ ثورة الغضب بداخله ندم على ما فعل ، لماذا؟ لأن هذه طبيعة النفس البشرية التي لا يُطغيها ولا يُخرجها عن توازنها إلا الهوى ، فإنْ خرج الهوى عادت إلى الاستقامة وإلى الحق ، وكأن الله تعالى خلق في الإنسان مقاييس يجب ألاَّ تُفسدها الأهواء ولا يُخرِجها الغضب عن حَدِّ الاعتدال ، لذلك يقولون : آفة الرأي الهوى .
لقد استيقظ قابيل ، لكن بعد أنْ رأى عاقبة السوء التي وصل إليها بتسرُّعه ، لكن الذكي يستيقظ قبل رَدِّ الفعل .
لكن ، لماذا اختار لهم وقت الصباح بالذات : { لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] المتتبع لما حاق بالأمم المكذِّبة من العذاب والانتقام يجد أنه غالباً ما يكون في الصباح ، كما قال تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } [ الصافات : 176 - 177 ] .
وقال سبحانه : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } [ القمر : 38 ] .
وقال سبحانه : { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } [ القلم : 21 ] .
ذلك ، لأن الصباح يعقب فترة النوم والخمول الحركي ، فيقومون من نومهم فيفاجئهم العذاب ، ويأخذهم على حين غفلة وعدم استعداد للمواجهة ، على خلاف إنْ جاءهم العذاب أثناء النهار وهم مستعدون .
وندمهم على أنهم كذَّبوا أمراً ما كان ينبغي أن يُكذِّب وقد جَرَّ عليهم الوَيْلات ، والندم على خير فات من طبيعة النفس البشرية التي عادةً ما تغلبها الشهوة ويُغريها الحمق بردِّ الحق ، ويمنعها الكِبْر من الانصياع للرسول خاصة وهو بشر مثلهم ، ويريد في ظنهم أنْ يستعلي عليهم ، لكن حين يواجهون عاقبة هذا التكذيب ونتيجة هذا الحمق يندمون ، ولاتَ ساعة مَنْدم .
(1/6170)

إذن : فشهوة النفس تجعل الإنسان يقف موقفاً ، إذا ما جُوزي عليه بالشدة يندم أنه لم يُنفذ ولم يطع ، يندم على غطرسته في موقف كان ينبَغي عليه أنْ يتنازل عن كبريائه؛ لذلك يقولون : من الشجاعة أنْ تجبن ساعة .
ويحسن ذلك إذا كنت أمام عدو لا تقدر على مجابهته ، ونذكر للرئيس الراحل السادات مثل هذا الموقف حين قال : لا أستطيع أن أحارب أمريكا ، فالبعض فهم هذا القول على أنه ضَعْف وجُبْن ، وهو ليس كذلك ، إنما هو شجاعة من الرجل ، شجاعة من نوع راقٍ؛ لأن من الشجاعة أيضاً أن تشجع على نفسك ، وهذه شجاعة أعلى من الشجاعة على عدوك ، وتصور لو دخل السادات مثل هذه الحرب فهُزِم كيف سيكون ندمه على شجاعة متهورة لا تحسب العواقب . وقد رأينا عاقبة الجرأة على دخول حرب غير متكافئة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً . . } .
(1/6171)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
ما دام الحق - تبارك وتعالى - توعّدهم وحدَّد لهم موعداً ، فلا بُدَّ أن يقع بهم هذا الوعيد في الوقت ذاته ، وإلاَّ لو مَرَّ دون أن يصيبهم ما يندمون لأجله لانهدم المبدأ من أساسه ، ما دام أن الله تعالى قالها وسجَّلها على نفسه سبحانه في قرآن يحفظه هو .
{ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [ المؤمنون : 40 ] فلا بُدَّ أن ينزل بهم العذاب في الصباح .
لذلك { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق . . } [ المؤمنون : 41 ] لا بالظلم والعدوان ، وفي موضع آخر قال سبحانه عنهم : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] والمعنيان يلتقيان ، لأن الريح الصرصر لها صوت مزمجر كأنه الصيحة والصراخ .
{ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً . . } [ المؤمنون : 41 ] الغثاء : ما يحمله السيل من قش وأوراق وبقايا النبات ، فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الريح في إحدى الجوانب ، والغثاء هو الزَّبَد الذي قال الحق سبحانه وتعالى عنه : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض . . } [ الرعد : 17 ] .
وفي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " يوشك أن تتداعَى عليكم الأمم كما تتداعَى الأكلة إلى قصعتها - يعني : يدعو بعضهم بعضاً لمحاربتكم كأنكم غنيمة يريدون اقتسامها - فقالوا : أمِنْ قِلَّة نحن يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل " يعني : شيئاً هيِّناً لا قيمةَ له يذهب سريعاً .
وقوله تعالى : { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } [ المؤمنون : 41 ] أي : بُعداً لهم عن رحمتنا ونعيمنا الذي كُنَّا نُمنِّيهم به ونَعِدهم به لو آمنوا ، وليس البُعد عن العذاب؛ لأن البعد مسافة زمنية أو مكانية ، نقول : هذا بعيد ، أي : زمنه أو مكانه ، المراد هنا البُعْد عن النعيم الذي كان ينتظرهم إنْ آمنوا .
والظلم : كما قلنا أخذْ حَقِّ الغير ، والشرك هو الظلم الأعظم؛ لأنه ظلم في مسألة القمة ، والبعض من السطحيين يظن أن الشرك ظلم عظيم؛ لأنك ظلمتَ الله سبحانه وتعالى ، لأنك أنكرتَ وجوده وهو موجود ، وأشركتَ معه غيره وهو واحد لا شريك له ، نعم أنت ظلمتَ ، لكن ما ظلمتَ الله؛ لأنه سبحانه لا يظلمه أحد ، وإنْ كان الظلم - كما نقول - أَخْذ حَقِّ الغير ، فحقُّ الله محفوظ وثابت له سبحانه قبل أن يُوجَد مَنْ يعترف له بهذا الحق ، حقُّ الله ثابت مهما علاَ الباطل وتبجَّح أهل الضلال .
لذلك يقول عز وجل : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى . . } [ التوبة : 40 ] وفي المقابل : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا . . } [ التوبة : 40 ] ولم يقُل قياساً على الأولى : وكلمةَ الله العليا؛ لن معنى ذلك أن كلمة الله مرفوعةً على صورة الجملة الاسمية الدالّة على الثبوت { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا . . } [ التوبة : 40 ] أي : دائماً ومهما عَلَتِ كلمة الكافرين . لماذا؟
قالوا : لأن عُلُو كلمة الكافرين في ذَاته عُلُوٌّ لكلمة الله ، فإذا علا الكفر واستشرى شرُّه وفساده يعض الناس ويُوقِظ غفلتهم ويُنبههم إلى خِسَّة الكفر ودناءته وما جرّه عليهم من ظلم وفساد فينكروه ويعودوا إلى جادة الطريق ، وإلى الحق الثابت لله عز وجل .
إذن : فكلمة الله هي العليا مهما كانت الجولة لكلمة الذين كفروا ، وكما يقولون : والضد يُظهر حُسْنه الضدّ . والله عز وجل لا يُسْلِم الحق ، ولكن يتركه ليبلو غَيْره الناس عليه ، فإنْ لم يغاروا عليه غار هو عليه .
وما داموا ما ظلموا الله ، ولا يستطيعون ذلك ، فما ظلموا إلا أنفسهم ، وإنْ عُقل ظلمك لغيرك وأخذك لحقه فلا يُعقَل ظلمك لنفسك؛ لأنه أبشع أنواع الظلم وأبلغها .
(1/6172)

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
قبل عدة آيات قال الحق تبارك وتعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } [ المؤمنون : 31 ] فجاءتْ قرناً بصيغة المفرد؛ لأن الحديث مقصور على عاد قوم هود ، أما هنا فقال تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً . . } [ المؤمنون : 42 ] لأن الكلام سيأتي عن أمم ورسالات مختلفة ومتعددة ، فجاءت ( قروناً ) بصيغة الجمع ، متتابعة أو متعاصرة ، كما تعاصر إبراهيم ولوط ، وكما تعاصر موسى وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } .
(1/6173)

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
تأملوا هذه الآية جيداً وارْعَوْها انتباهكم ، فلكل أمة أجلٌ تنتهي عنده تماماً ، مثل أجَل الأفراد الذي لا يتقدّم ولا يتأخّر ، فقرْن بعد قَرْن ، وأمة بعد أمة ، تمرُّ بأطوار شتى كأطوار حياة الإنسان ، ثم تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها .
فلكل أمة رسول يحمل إليها دعوة الله ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أنْ ينصره الله وتنتشر دعوته ويتمسَّك الناس بها ، ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج الله ، فينصرفون عنه ويختلفون ويتفرقون ، فيكون ذلك إيذاناً بزوالها ثم يخلفها غيرها؟
كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحلَّ محلَّها حضارات أخرى أقوى ، نسمع عن حضارة قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن ، نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية . . الخ حضارات تتوالى وتأخذ حظها من الرُّقيِّ والرفاهية ، وتُورِث أصحابها رخاوة وطراوة ، وتبدلهم بالجَلَد والقوة لِيناً وضَعْفاً ، فيغفلوا عن أسباب رُقيِّهم وتقدُّمهم ، فتنهدم حضارتهم ويحلُّ محلَّها أقوى منها وأصلب .
وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 6 - 10 ] .
وإلى الآن ، ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية ، وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات الحديثة وتنال إعجابهم ، فيأتون إليها من كل أنحاء العالم ، مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها؛ لأن الله تعالى قال في حقها : { التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 8 ] .
ومع ذلك لا نرى لهم أثراً يدل على عِظَم حضارتهم ، ولم يكُنْ لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها ، أو تحتفظ لها بشيء ، فانهارت وبادتْ ولم يَبْقَ منها حتى أثر .
كذلك أتباع الرسل يمرُّون بمثل هذه الدورة ، فبعد قوة الإيمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم الضعف وسوء الحال ، إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولاً جديداً .
{ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [ المؤمنون : 43 ] .
المعنى في الجملة الأولى واضح ، فأيُّ أمة لا يمكن أنْ تسبق أجلها الذي حدَّده الله لها ، ولا يمكنْ أن تنتهي أو تقوَّص قبل أنْ يحلَّ هذا الأجل .
لكن ما المراد بقوله سبحانه : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [ المؤمنون : 43 ] كيف يتأتَّى ذلك؟ فهمنا : لا تسبق أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة ، فلا يمكن أن تُقوَّض قبل خمس عشرة ، أما كونها تستأخر بعد أن بلغتْ العشرين إلى عشرة ، فكيف يتم ذلك؟
نقول : لا تستأخر يعني : من حيث الحكم هي لا تسبق الأجل وهي محكوم عليها بأنها لا تستأخر؛ لأن الاستئخار بعد بلوغ الأجل مستحيل ، كما لو قلنا : شخص بلغ سِنَّ العشرين لا يقدر أن يموت في العاشرة . فالمعنى : الأصل فيه أنه لا يستأخر .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً . . } .
(1/6174)

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ تَتْرَا . . } [ المؤمنون : 44 ] يعني : متوالين يتبع بعضهم بعضاَ؛ لذلك ظنَّها البعض فعلاً وهي ليست بفعل ، بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى ( تتراً ) بالتنوين والفعل لا يُنوَّن ، إذن : هي اسم ، والألف فيها للتأنيث مثل حُبْلى .
أضِفْ إلى ذلك أن التاء الأولى تأتي في اللغة بدلاً من الواو ، كما جاء في الحديث الشريف من نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجدْه تجاهك - أو وجاهك " يعني : مواجهك .
فإذا أُبدلَتْ التاء الأولى في ( تتراً ) واواً تقول ( وتراً ) يعني : متتابعين فَرَْداً ، والوتر هو الفَرْد .
ثم يقول سبحانه : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ . . } [ المؤمنون : 44 ] فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم ، وما من رسول أُرسل إلى قوم إلا كذّبوه ، ثم يلجأ إلى ربه : { قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } [ المؤمنون : 39 ] .
ولو لم يُكذَّب الرسول ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم ، وما جاء الرسول إلا بعد أن استشرى الباطل ، وعَمَّ الطغيان ، فطبيعي أنْ يُكذِّب من هؤلاء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين يدافعون عنه بكل قواهم ، وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل ، وإلا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة .
وقوله تعالى : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً . . } [ المؤمنون : 44 ] يعني : يمضي واحد ويأتي غيره من الرسل ، أو نهلك المكذِّبين ثم يأتي بعدهم آخرون ، فيكذبون فنهلكهم أيضاً .
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ . . } [ المؤمنون : 44 ] أحاديث : إما جَمْعاً لحديث كما نقول : أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جمع : أحدوثة . وهي المقولة التي يتشدَّق بها الجميع ، وتلوكُها كل الألسنة ، ومن ذلك قول الإنسان إذا كثُر كلام الناس حوله : ( جعلوني حدوتة ) يعني على سبيل التوبيخ والتقريع لهم .
فقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ . . } [ المؤمنون : 44 ] كأنه لم يبْقَ منهم أثر إلا أنْ نتكلم عنهم ، ونذكرهم كتاريخ يُحْكَى ، وفي موضع آخر قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ . . } [ سبأ : 19 ] .
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم : { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 44 ] يعني : بُعْداً لهم عن رحمة الله ، وبُعْداً لهم عن نعيم الله الذي كان ينتظرهم ، ولو أنهم آمنوا لنالوه .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا . . } .
(1/6175)

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
تكررت قصة موسى - عليه السلام - كثيراً ومعه أخوه هارون ، كما قال : { اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي } [ طه : 31 - 32 ] والبعض يظن أن موسى جاء برسالة واحدة ، لكنه جاء برسالتين : رسالة خاصة إلى فرعون ملخّصها : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ . . } [ طه : 47 ] .
وجاء له بمعجزات تثبت صِدْق رسالته من الله ، ولم يكن جدال موسى لفرعون في مسألة الإيمان جزءاً من هذه الرسالة ، إنما جاء هكذا عرضاً في المناقشة التي دارتْ بينهما .
والرسالة الأخرى هي رسالته إلى بني إسرائيل متمثلة في التوراة .
وقوله : { بِآيَاتِنَا . . } [ المؤمنون : 45 ] قلنا : إن الآيات جمع آية ، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الفائق على نظرائه وأقرانه ، والذي يكرم ويفتخر به . والآيات إما كونية دالّة على قدرة الله في الخَلْق كالشمس والقمر . . إلخ كما قال سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار . . } [ فصلت : 37 ] .
ومهمة هذه الآيات الكونية أنْ تلفت نظر المخلوق إلى بديع صنع الخالق وضرورة الإيمان به ، فمنها نعلم أن وراء الكون البديع خالقاً وقوة تمده وتديره ، فَمنْ يمدُّ هذه الشمس بهذه القوة الهائلة؟ إن التيار الكهربائي إذا أنقطع تُطْفأ هذه اللمبة ، فمَنْ خلق الشمس من عدم ، وأمدِّها بالطاقة من عدم؟
إذن : وراء هذا الكون قوة ما هي؟ وماذا تطلب منا؟ وهذه مهمة الرسول أنْ يُبلغنا ، ويُجيب لنا عن هذه الأسئلة .
وتُطلق الآية أيضاً على المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله .
وتُطلق الآية على آيات القرآن الحاملة للأحكام والحاوية لمنهج الله إلى خَلْقه .
ثم يقول تعالى : { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ المؤمنون : 45 ] فعطف { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ المؤمنون : 45 ] على { بِآيَاتِنَا } [ المؤمنون : 45 ] وهذا من عطف الصفة على الموصوف لمزيد اختصاص؛ لأن الآيات هي السلطان ، فالسلطان : الحجة . والحجة على الموجود الأعلى آيات الكون ، والحجة على صِدْق الرسول المعجزات ، والحجة على الأحكام الآيات الحاملة لها .
وسَمَّى معجزة موسى عليه السلام ( العصا ) سلطاناً مبيناً أي : محيطاً؛ لأنها معجزة متكررة رأينا لها عدة حالات : فهذه العصا الجافة مرة تنقلب إلى حيّة تلقَفُ الحيّات ، ومرة يضرب بها البحر فينفلق ، ومرة يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء ، وفوق ذلك قال عنها : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] .
ومن معاني السلطان : القَهْر على عمل شيء أو الإقناع بالحجة لعمل هذا الشيء ، لذلك كانت حجة إبليس الوحيدة يوم القيامة أن يقول لأتباعه : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي . . } [ إبراهيم : 22 ] يعني : كنتم رَهْن الإشارة ، إنما أنا لا سلطان لي عليكم ، لا سلطانَ قهر ، ولا سلطان حجة .
لذلك قال في النهاية : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ . . } [ إبراهيم : 22 ] والإنسان يصرخ إذا فزَّعه أمر لا حيلة له به ، فيصرخ استنفاراً لمعين يُعينه ، فمَنْ أسرع إليه وأعانه يقال : أصرخه . يعني : أزال سبب صراخه .
(1/6176)

إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{ فِرْعَوْنَ . . } [ المؤمنون : 46 ] لقب لكل مَنْ كان يحكم مصر ، مثل كِسْرى في الفرس ، وقيصر في الروم ، وتكلَّمنا عن معنى ( الملأ ) وهي من الامتلاء ، والمراد القوم الذين يملؤون العيون مهابةً ومنزلةً ، وهم أشراف القوم وصدور المجالس ، ومنه قولهم : فلان قَيْد النواظر يعني : مَنْ ينظر إليه لا ينصرف عنه إلى غيره .
وقوله تعالى : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] والاستكبار غير التعالي ، فالمستكبر يعلم الحكم ويعترف به ، لكن يأبى أنْ يطيعه ، ويأنف أن يصنع ما أمر به ، أما العالي فهو الذي يظن أنه لم يدخل في الأمر من البداية .
ومن هنا جاء قوله تعالى لإبليس لما أبى السجود لآدم : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ]
والعالون هم الملائكة المهيّمون في الله ، والذين لا يدرون شيئاً عن آدم وذريته .
(1/6177)

فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
اعترضوا أيضاً هنا على بشرية موسى وهارون كما حدث من الأمم السابقة ، إنهم يريدون الرسول مَلَكَاً ، كما جاء في موضع آخر : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] .
ومن الغباء أن يطلبوا ملَكاً رسولاً ، فلو جاءهم الرسول ملكاً ، فكيف سيكون أسْوة للبشر؟ وكيف سيروْنَه ويتلقّوْن عنه؟ إذن : لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر؛ لذلك يقول تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ]
وستظل الشبهة قائمة ، فما الذي يجعلك تُصدِّق أنه مَلَك؟
وقوله تعالى : { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] يعني : كيف نؤمن لموسى وهارون وقومهما - أي : بني إسرائيل - خدم لنا ، يأتمرون بأمرنا ، بل ونُذلّهم ونُذبِّح أولادهم ، ونستحيي نساءهم ، ونسومهم سوء العذاب؟
وسمّى ذلك عبادة ، لأن مَنْ يخضع لإنسان ، ويطيع أمره كأنه عبده .
(1/6178)

فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
أي : بالغرق ، وهذه قصة مشهورة معروفة ، وجعلها الله مُثْلة وعِبرةً .
(1/6179)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{ الكتاب . . } [ المؤمنون : 49 ] أي : التوراة ، وفيه منهج الهداية { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ المؤمنون : 49 ] أي : يأخذون الطريق الموصّل للغاية الشريفة المفيدة من أقصر طريق .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً . . } .
(1/6180)

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم ، والقرآن في حديثه عن عيسى عليه السلام مرة يقول : ابن مريم ، ومرة يقول : عيسى بن مريم . وتسمية عيسى عليه السلام بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشَّر بغلام تستنكر ذلك ، وتقول : كيف ولم يمسسني بشر؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب ، لماذا؟ لأن الله سماه ابن مريم ، وما دام سماه بأمه ، إذن : فلن يكون له أب .
وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملاً ولم يمسسها رجل؛ لأن عِرْض الفتاة أغلى وأعزّ ما تملك ، لذلك مهّد الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة ، وأعدَّ مريم لاستقبالها ، وأعطاها المناعة اللازمة لمواجهة هذا الأمر العجيب ، كما نفعل الآن في التطعيم ضد الأمراض ، وإعطاء المناعة التي تمنع المرض .
فلما دخل زكريا - عليه السلام - على مريم فوجد عندها رزقاً لم يأْتِ به ، وهو كفيلها والمسئول عنها ، سألها : { أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله . . } [ آل عمران : 37 ] وكان هذا الردّ من مريم عن فَهْم تام لقضية الرزق ، ولم يكُنْ كلام دراويش ، بدليل أنها قالت بعدها : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] .
وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه في بيته ولم يأْتِ هو به ، حتى لا يدعَ لأولاده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم .
لقد انتفع زكريا - عليه السلام - بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة ، نعم زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب ، لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور ، فلما سمعها من مريم خرجتْ إلى بُؤرة شعوره ، وعند ذلك دعا الله أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتياً ، وامرأته عاقر .
وكذلك انتفعت بها مريم حين أحسَّتْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ . . } [ المؤمنون : 50 ] فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد { آيَةً . . } [ المؤمنون : 50 ] لأنهما مشتركان فيها : مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج ، وعيسى آية لأنه وُلِد من غير أب ، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر ، وهما فيها سواء .
لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيُقَدِّم عيسى في آية : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً . . } [ المؤمنون : 50 ] ويقدم مريم في آية أخرى : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخيرية لا يتميز أحدهما على الآخر .
والآية هي الأمر العجيب الذي يُثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخَلْق ، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخَلْق مسألة ( ميكانيكية ) من أب وأم ، لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلاً على قدرته تعالى ، فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم ، أو من أب فقط ، أو من أم فقط ، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم ، لكن لا يوجد الإنجاب ، إذن : المسألة إرادة لله عز وجل ، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدودَ لها .
(1/6181)

يقول سبحانه : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً . . } [ الشورى : 50 ] .
والآن نلاحظ أن البعض يحاول منع الإنجاب بشتى الوسائل ، لكن إنْ قُدِّر له مولود جاء رغم أنف الجميع ، ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها .
ثم يقول سبحانه : { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ . . } [ المؤمنون : 50 ] من الطبيعي بعد أن حملتْ مريم بهذه الطريقة أنْ تُضطهد من قومها وتُطارد ، بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى أن يراها أحد ، ألا ترى قوله تعالى عن ابنة شعيب : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء . . } [ القصص : 25 ] على استحياء ، لأنها ذهبت لاستدعاء فتىً غريب عنها ، فما بالك بمريم حين يراها القوم حاملاً وليس لها زوج؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة .
لذلك لما سئل الإمام محمد عبده وهو في باريس : بأيِّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حادثة الإفك؟ فألهمه الله الجواب وهداه إلى الصواب ، فقال : بالوجه الذي قابلتْ به مريمُ قومَها وقد جاءتْ تحمل ولدها؛ ذلك لأنهم أرادوا أنْ يأخذوها سُبة ومطعناً في جبين الإسلام .
ولما كانت مريم بهذه الصفة تولاها الله ودافع عنها ، فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين يرى مسألة حَمْلها ، وهو أَغْير الناس عليها بدل أنْ يتشكك فيها ويتهمها يتحوّل قلبه عليها بالعطف ، كما قال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ . . } [ الأنفال : 24 ] .
فإذا به يخدمها ويحنُو عليها؛ لأن الله أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا ، وكل ما قاله في مجادلة مريم وفي الاستفسار عَمَّا حدث بطريقة مهذبة : يا مريمُ أرأيتِ شجرة بدون بذرة؟ فضحكتْ مريم وقد فهمت ما يريد وقالت : نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة إنه كلام أهل الإيمان والفهم عن الله .
لذلك آواها الله وولدها { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ المؤمنون : 50 ] وساعةَ تسمع كلمة الإيواء تفهم أن شخصاً اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه ، وكذلك كانت مريمُ مضطرة تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها . ولا بُدَّ في مكان الإيواء هذا أنْ تتوفر فيه مُقوِّمات الحياة ، خاصة لمثل مريم التي تستعد لاستقبال وليدها ، ومقومات الحياة : هواء وماء وطعام .
فانظر كيف أعدَّ الحق - سبحانه وتعالى - لمريم مكان الإيواء : { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ .
(1/6182)

. } [ المؤمنون : 50 ] وهي المكان العالي عن الأرض المنخفض عن الجبل ، فهو معتدل الجو؛ لأنه بين الحرارة في الأرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل .
{ ذَاتِ قَرَارٍ . . } [ المؤمنون : 50 ] يعني : توفرتْ لها أسباب الاستقرار من ماء وطعام ، فالماء يأتيها من أعلى الجبال ويمرُّ عليها ماءً معيناً ، يعني : تراه بعينك ، والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي نزلت يجوارها .
ومعلوم أن الربوة هي أنسب الأماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى ، ولا يتبقى فيها مياه جوفية تضرُّ بمزروعاتها؛ لأنها تتصرف في الأرض المنخفضة عنها .
لذلك ضرب لنا الحق - تبارك وتعالى - المثل للأرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر ، فقال : { وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ . . } [ البقرة : 265 ] .
إذن : اختار الله تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث لا تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره .
وبعد ذلك يتكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن قضية عامة بعد أن تكلَّم عن القرار ومُقوِّمات الحياة ، وهي الطعام والشراب والهواء ، فناسب ذلك أن يتكلم سبحانه عن المطعم : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً . . } .
(1/6183)

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
لكن ، كيف يخاطب الحق - تبارك وتعالى - الرسل جميعاً في وقت واحد؟ نقول : لأن القرآن الكريم هو كلام الله القديم ، لم يأْتِ خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأنْ نزل عليه فهو إذن خطاب لكل رسول جاء .
وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالأكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح : { واعملوا صَالِحاً . . } [ المؤمنون : 51 ] ثم يقول سبحانه : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] كأن الحق سبحانه يقول : اسمعوا كلامي فيما آمركم به ، فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لأنني الخالق الذي أعلم كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير ، ولا تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إلا إذا أخذتم المطعم من الحلال الطيب .
وكما قلنا : إن صانع الآلة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها ، وإلاّ تعطلتْ عن أداء مهمتها .
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالمطْعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلال ، فيحدث انسجاماً بين هذه الذرات ، وتعمل معاً متعاونة غير متعاندة ، وإن انسجمتْ ذراتُك وتوافقتْ أعانتك على الصالح .
فإنْ دخل الحرام إلى طعامك وتلوثتْ به ذراتُك تنافرتْ وتعاندت ، كما لو وضعتَ للآلة وقوداً غير ما جُعِل لها ، فافهموا هذه القضية؛ لأنني أنا الخالق فآمِنُوا لي كما تؤمنون بقدرة الصانع حين يصنع لكم صناعة ، ويضع لكم قانون صيانتها .
إذن : أمر الحق سبحانه أولاً رسله بالأكل من الطيبات؛ لأن العمل الصالح يحتاج إلى جهاز سليم متوافق من داخله؛ لذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس ، أرسلت إلى النبي في يوم صامه وهو حارّ شيئاً من اللبن يفطر عليه ، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أنها فقيرة لا تَملك شيئاً فأرسل إليها : من أين لك هذا اللبن؟ فأرسلت إليه : من شاة عندي ، فبعث إليها : ومن أين لك بالشاة؟ قالت : اشتريتها بمال دبّرته . فشرب رسول الله من اللبن .
وإنْ كنا نحن لا نتحرى في مَطْعمنا كُلَّ هذا التحري ، لكن هذا رسول الله الذي يُنفذ منهج الله كما جاءه ، وعلى أكمل وجه . وفي الحديث الشريف : " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . } [ البقرة : 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، فأنَّى يُستجاب لذلك؟ " .
نعم ، كيف يُستجاب له وهو يدعو الله بجهاز إرسال فاسد مُشوّش دَنَّسه وخالطه الحرام؟
وفي حديث سيدنا سعد رضي الله عنه لما قال لرسول الله : يا رسول الله ادْعُ الله لي أنْ أكون مُستجاب الدعوة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا سعد أطِبْ مطعمك تكُنْ مُستجاب الدعوة " .
ثم يُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] يعني : أعلم ما يُصلحكم ، وما يجلب لكم الخير .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً . . } .
(1/6184)

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
بعد أن تكلَّم الحق - سبحانه وتعالى - عن المعركة بين الإيمان والكفر أراد هنا أن يتكلم عن معركة أخرى لا تقلّ خطورة عن الأولى ، وهي معركة الفُرْقة والاختلاف بين صفوف المؤمنين ، ليحذرنا من الخلافات التي تشقُّ عصانا ، وتفُتُّ في عَضُد الأمة وتُضِعفها أمام أعدائها ، ونسمعهم الآن يقولون عنَّا بعدما وصلنا إليه من شيع وأحزاب - ليتفقوا أولاً فيما بينهم ، ثم يُبشِّروا بالإسلام .
الأمة : الجماعة يجمعهم زمن واحد أو دين واحد ، وتُطلَق على الفرد الواحد حين تجتمع فيه خصال الخير التي لا تجتمع إلا في أمة ، لذلك سمَّى الله تعالى نبيه إبراهيم أمة في قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] .
أما قوله سبحانه : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً . . } [ المائدة : 48 ] فكيف نقول : إنها أمة واحدة؟
قالوا : لأن الدين يتكّون من أصول وعقائد ، وهذه واحدة لا تختلف باختلاف الأديان ، وأخلاق وفروع . وهذه تختلف من دين لآخر باختلاف البيئة؛ لأنها تأتي بما يناسب حركة الحياة في كل عصر .
يقول تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ . . } [ الشورى : 13 ]
إذن : فالأمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفتْ في الشريعة والمنهج ، والأحكام الجزئية التي تتعرض لأقضية الحياة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ . . } [ آل عمران : 50 ] .
وكانوا في الأمم السابقة إذا وقعت نجاسة على ثوب يقطعون الموضع الذي وقعت عليه ، فلما جاء الإسلام خفَّف عن الناس هذا العَنت ، وشرع لهم أنْ يغسلوه فيطهر .
وما دام أن أمتكم أمة واحدة { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] يعني : اتقوا الله في هذه الأمة الواحدة وأبقوا على وحدتها ، واحذروا ما يُفرِّقها من خلافات حول فروع إن اختلف البعض عليها اتهموا الآخرين بالكفر؛ لأنهم يريدون أنْ يَنْهبوا من الدين الجامع سلطة زمنية لأنفسهم .
والحق - تبارك وتعالى - يقول : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 159 ] .
فالأمور التي أحكمها الله باللفظ الصريح المُحْكَم أصول لا خلافَ عليها ولا اجتهادَ فيها ، وأما الأمور التي تركها سبحانه للاجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الآخرين ، وإلا لو أراد الحق سبحانه لجعل الأمر كله مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي أو اجتهاد .
ومعنى { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ . . } [ المؤمنون : 52 ] أن من عطاء ربوبيتي أنْ جعلْتُ لكم أموراً محكمة وعقائد ثابتة؛ لأن الاختلاف فيها يفسد المجتمع ، وتركتُ لكم أموراً أخرى تأتون بها أو تتركونها ، كُلٌّ حسب اجتهاده؛ لأن الاختلاف فيها لا يترتب عليه فساد في المجتمع ، وسبق أن مثَّلنا لهذه الأمور .
وقوله : { فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] يعني : بطاعة الأمر ، فما أحكمتُه فأَحْكِموه ، وما جعلتُ لكم فيه اجتهاداً فاقبلوا فيه اجتهاد الآخرين .
لكن ، هل سمعنا قوْل الله وأطعْنَا؟ يقول سبحانه : { فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً . . } .
(1/6185)

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{ زُبُراً } [ المؤمنون : 53 ] يعني : قطعاً متفرقة ، ومنه { آتُونِي زُبَرَ الحديد . . } [ الكهف : 96 ] .
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] يعني : كل جماعة تتعصب لرأيها وتفرح به ، وكأنها على الحق وغيرها على الباطل ، يريدون أن تكون لهم سلطة زمنية بين الناس ، ويُصوِّرون لهم أنهم أتوْا بما لم يأت به أحد من قبلهم ، وتنبّهوا إلى ما غفل عنه الآخرون .
{ بِمَا لَدَيْهِمْ . . } [ المؤمنون : 53 ] بالرأي الذي يريدونه ، لا بالحكم الذي يرتضيه الحق سبحانه وتعالى .
من ذلك قولهم : إن الصلاة في مسجد به قبر أو ضريح باطلة ، وأن ذلك شرك في العبادة . . إلخ ولو أن الأمر كما يقولون فليهدموا القبر في المدينة .
إن على هؤلاء الذين يثيرون مثل هذه الخلافات أنْ يتفهموا الأمور على وجهها الصحيح ، حتى لا نكون من الذين قال الله عنهم : { فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] .
وما أفسد استقبال الأديان السابقة على الإسلام إلا مثل هذه الخلافات ، وإلاّ فكل دين سبق الإسلام وخصوصاً الموسوية والعيسوية قد بشَّرَتْ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا وهم أهل كتاب ورسالة وعلى صلة بالسماء - يجادلون أهل الكفر من عبدة الأصنام يقولون : لقد أطلَّ زمان نبي يظهر فيكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم .
ومع ذلك : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ . . } [ البقرة : 89 ] لماذا؟ لأنهم يريدون أن يحتفظوا بسلطتهم الزمنية .
كيف لا ينكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أحدهم يستعد لتنصيب نفسه ملكاً على المدينة يوم أنْ دخلها رسول الله ، فأفسد عليه ما أراد؟
(1/6186)

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{ فَذَرْهُمْ . . } [ المؤمنون : 54 ] يعني : دَعْهم ، والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين ، فورد فيهما يدع ويذر . وقد ورد هذا الفعل أيضاً في قوله تعالى : { وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة . . } [ المزمل : 11 ] .
وفي قوله تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث . . } [ القلم : 44 ] .
والمعنى : ذرهم لي أنا أتولى عقابهم ، وأفعل بهم ما أشاء ، أو : ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا العقاب ، وينزل بهم العذاب .
والغمرة : جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس ، فلا يبقى له من أمل في الحياة إلا بمقدار ما في رئته لأكبر قدر من الهواء؛ لذلك يحرص الإنسان على أنْ يُمرِّن نفسه على أن تتسع رئته لأكبر قدر من الهواء .
ومن ذلك أخذت كلمة المنافسة ، وأصلها أن يغطس اثنان تحت الماء ليختبر كل منهما الآخر : أيّهما يبقى فترة أطول تحت الماء ودون تنفس .
ويقول تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وتستطيع أن تُجري مع نفسك هذه المنافسة ، بأن تأخذ نفساً عميقاً ثم تعد : واحد ، اثنان وسوف ترى مقدار ما في رئتك من الهواء .
فالمعنى : ذَرْهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت؛ لأنهم كمن غمره الماء ، وسرعان ما تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة؛ لذلك قال تعالى بعدها : { حتى حِينٍ } [ المؤمنون : 54 ] والحين مدة من الزمن قد تطول ، كما في قوله تعالى : { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا . . } [ إبراهيم : 25 ] .
وقد تقتصر كما في قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وكأن الله تعالى عَبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول .
ثم ينتقل السياق ليعالج قضية قد تشغل حتى كثيراً من المؤمنين : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ . . } .
(1/6187)

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
هذه قضية شغلت كثيراً من المؤمنين حين يروْنَ الكافرين بالله مُرفَّهين مُنعّمين ، في يدهم المال والنفوذ ، في حين أن المؤمنين فقراء ، وربما تشكّك البعض واهتزَّ إيمانه لهذه المتناقضات .
ونقول لهؤلاء : لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي ، إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم وازدهرتْ حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان ، فلما تخلَّوْا عن دينهم وقِيَمهم حَلَّ بهم ما هم فيه الآن .
لقد تقدم علينا الآخرون؛ لأنهم أخذوا بأسباب الدنيا ، وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضاً بهذه الأسباب؛ لأنها من عطاء الربوبية الذي لا يُحرم منه لا مؤمن ولا كافر ، فَمنْ أحسنه نال ثمرته وأخذ خيره .
قال سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] والأسباب يد الله الممدودة لخَلْقه ، فَمنْ ردَّ يد الله إليه فلا بُدَّ أن يشْقى في رحلة الحياة .
وقد يكون تنعُّم هؤلاء مجرد ترف يجرُّهم إلى الطغيان ، كما جاء في قوله تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] .
لذلك فالحق - تبارك وتعالى - يعالج هنا هذه المسألة : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات . . } [ المؤمنون : 55 - 56 ] أيظنون أن هذا خير لهم؟ لا ، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغياناً .
وفي موضع آخر يقول سبحانه : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا } [ التوبة : 85 ] .
وقوله تعالى : { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 56 ] ( بل ) : تفيد الإضراب عما قبلها وإثبات ما بعدها ، إضراب عن مسألة تنعُّم هؤلاء؛ لأنها نعمة موقوته وزائلة ، وهي في الحقيقة عليهم نقمة ، لأنهم لا يشعرون ، لا يشعرون أن هذه النعمة لا تعني محبتهم ورضانا عنهم ، ولا يشعرون بالمكيدة وبالفخ الذي يُدبَّر لهم .
وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى حين يريد الانتقام من عدوه يُمدّه أولاً ، ويُوسِّع عليه ويُعلي مكانته ، حتى إذا أخذه كان أَخْذه مؤلماً وشديداً .
وقوله تعالى : { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات . . } [ المؤمنون : 56 ] المسارعة ترد في كتاب الله على مَعَانٍ : مرة يتعدَّى الفعل بإلى ، مثل : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ . . } [ آل عمران : 133 ] ومرة يتعدى بفي ، مثل : { يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } [ المؤمنون : 61 ] فما الفرق بين المعنيين؟
سارع إلى كذا : إذا كنتَ خارجاً عنه ، وتريد أن تخطو إليه خُطّىً عاجلة ، لكن إنْ كنتَ في الخير أصلاً وتريد أنْ ترتقي فيه تقول : سارع في الخيرات . فالأولى يخاطب بها مَنْ لم يدخل في حيِّز الخير ، والأخرى لمنْ كان مظروفاً في الخير ، ويريد الارتقاء .
(1/6188)

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
الخشية : هي أشد الخوف ، والإنسان قد يخاف من شيء ، لكن يبقى عنده أمل في النجاة ، ويتوقّع من الأسباب ما ينقذه ويُؤمِّن خوفه ، لكن حين تخاف من الله فهو خوف لا منفذَ للأمل فيه ، ولا تهبُّ فيه هَبّة تُشعرك بلطف .
ومعنى { مُّشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] الإشفاق أيضاً الخوف ، وهو خوف يُمدَح ولا يُذم؛ لأنه خوف يحمل صاحبه ويحثّه على تجنُّب أسباب الخشية بالعمل الصالح ، إنه إشفاق من الذنب الذي يستوجب العقوبة ، كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفاً من الرسوب ، وهكذا حال المؤمن يخاف هذا الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة ، وهذا دليل الإيمان .
أمّا الإشفاق بعد فوات الأوان ، والذي حكاه القرآن عن المجرمين : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا . . } [ الكهف : 49 ] فهذا إشفاق لا فائدة منه؛ لأنه جاء بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل ، فقد قامت القيامة ونُشِرت الكتب ولا أملَ في النجاة إذن .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * والذين هُم بِرَبِّهِمْ . . } .
(1/6189)

وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
نلحظ في هذه الآيات أن الحق سبحانه حدثنا عن الإشفاق والخشية ، ثم عن الإيمان بآيات الله ، ثم في النهاية عن مسألة الشرك . وقد تسأل : لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك؟
نقول : لأن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن ، والذي قال الله فيه : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] فلا تظن أن الشرك فقط أن تجعل لله شريكاً ، أو أن تسجد لصنم ، فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان صاحبه مؤمناً .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الأدب في هذه المسألة ، فيقول في دعائه : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " .
فالإنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية لله ، ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين الشيطان؛ لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء .
كما أن الشرك الأكبر لا يتصور مِمَّن هذه الصفات المتقدمة صفاته .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ . . } .
(1/6190)

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{ يُؤْتُونَ . . } [ المؤمنون : 60 ] يعني المال ، وقال بعدها : { مَآ آتَواْ . . } [ المؤمنون : 60 ] حتى لا يجعل لها حداً ، لا العُشْر ولا نصف العُشر ، يريد سبحانه أن يفسح لأريحية العطاء وسخاء النفس ، لذلك جاءت { مَآ آتَواْ . . } [ المؤمنون : 60 ] هكذا مُبْهمة حتى لا نظن أنها الزكاة ، ونعرف أن الله تعالى يفتح المجال للإحسانية والتفضُّل ، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله تعالى عنه : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15 - 16 ] .
والمحسن : الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه الله ، لكن من جنس ما فرض الله عليه ، فإن كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه؛ لذلك تجد الدقة في الأداء القرآني ، حيث يقول بعدها : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] .
وهذه أمور فوق ما فرض الله عليهم ، ولم يطلب منك أن تقوم الليل لا تنام ، لكن صَلِّ العشاء ونَمْ حتى الفجر ، وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدها : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذرايات : 19 ] ولم يقل ( معلوم ) لأن الآية لا تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة ، إنما عن الصدقة والتطوع فوق ما فرض الله .
والإبهام في { مَآ . . } [ المؤمنون : 60 ] جاء أيضاً في قول الله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم ، وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ ، ولتذهب الظنون في هَوْلها كل مذهب .
لكن؛ ما داموا قد أعْطوا ومدُّوا أيديهم للآخرين بالعطاء ، فلماذا يقول تعالى : { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ . . } [ المؤمنون : 60 ] .
نقول : لأن العبرة ليست بمجرد العمل ، إنما العبرة بقبول العمل ، والعمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله لا يخالطه رياء ولا سمعة ، فهم إذن يعملون ويتحرَّوْن الإخلاص وأسباب القبول ويتصدّق أحدهم بالصدقة ، بحيث لا تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه ، ومع ذلك يخاف عدم القبول ، وهذه أيضاً من علامات الإيمان .
وكأن ربك عز وجل يَغَار عليك أنْ تعمل عملاً لا تأخذ عليه أجراً؛ لأنك إنْ رأيت الناس في شيء من العمل تركك الله وإياهم تأخذ منهم الجزاء ، فهذا إذن جَهْد مُهْدر لا فائدة منه ، وهذه المسألة لا يرضاها لك ربك .
وفي الحديث القدسي : " الإخلاص سِرٌّ من أسراري أودعته قلب مَنْ أحببت من عبادي ، لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده " .
والوجل : انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية ، والخوف شيء يخيفك أنت ، أما الخشية فهي أعلى من الخوف ، وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه .
ومن أهل التفسير مَنْ يرى أن الآية { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ .
(1/6191)

. } [ المؤمنون : 60 ] جاءت في الرجل الذي يسرق ، والذي يزني ، والذي يشرب الخمر ، لكن قلبه وَجلٌ من لقاء الله وخشيته ، فما يزال فيه بقية من بقايا الإيمان والحياء من الله تعالى . وقالوا : إن عائشة رضي الله عنها فهمت هذا من الآية .
لكن هذا الفهم لا يستقيم مع قوله تعالى { يُؤْتُونَ . . } [ المؤمنون : 60 ] أي : يؤتون غيرهم ، فهناك إذن مُؤتٍ ومُؤْتىً له ، ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال : يَأْتُون .
فالمراد : يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق ، سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى كالزكاة والكفارات والنذور والحدود ، أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والأمانات والعدالة في الحكم بينهم . . الخ فيؤدي المؤمن ما عليه من هذه الحقوق ، وقلبه وَجِلٌ أَلاَّ يصاحب الإخلاص عمله فلا يقبل .
ثم يقول تعالى : { أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [ المؤمنون : 60 ] فالمؤمن يؤدي ما عليه ، ومع ذلك تراه خائفاً وَجِلاً؛ لأنه يثق في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه ، وهو ربه الذي يُجازيه على قّدْر إخلاصه ، ويخاف أيضاً أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لأن ربه غيور لا يرضى معه شريكاً في العمل ، وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى ذرات الشر .
وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين ، لكن في طيها شيء من الرياء ، وإنْ لم يَدْرِ الإنسان به ، ومن ذلك قولهم : أفعل هذا لله ثم لك ، أو : توكلت على الله وعليك . . الخ ، فهذه العبارات وأمثالها تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن نُنزِّه الله منها ، فلا نعطف على الله تعالى أحداً حتى لا نشركه مع الله ، ولو عن غيرقصد .
لذلك يقول تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] ويوم القيامة يطمئن أهل الإخلاص إلى الجزاء ، ويُفَاجأ أهل الشرك والرياء بوجود الله تعالى ، ولم يكن على بالهم حين عملوا : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ . . } [ النور : 39 ] إذن : ما دُمْنَا سنفاجأ بوجود الحق ، ولا شيء غير الحق ، فليكُنْ عملنا للحق ، ولا شيء لغير الحق .
{ أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } .
(1/6192)

أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{ أولئك . . } [ المؤمنون : 61 ] أي : أصحاب الصفات المتقدمة { يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } [ المؤمنون : 61 ] وفرْق بين أسرع وسارع : أسرع يُسرع يعني : بذاته ، إنما سارع يسارع أي : يرى غيره يسرع ، فيحاول أنْ يتفوق عليه ، ففيه مبالغة وحافز على المنافسة .
وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين سارع إلى وسارع في ، فمعنى { يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } [ المؤمنون : 61 ] أنهم كانوا في حيِّز الخيرات ومظروفين فيه ، لكن يحاولون الارتقاء والازدياد من الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى .
وقوله تعالى : { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ المؤمنون : 61 ] هل المسارعة هي عِلَّة أنهم سبقوا إلى الخيرات ، أم أنْ سَبْقهم إلى الخيرات عِلّة المسارعة؟
في اللغة يقولون : سبب ومُسبب ، وشرط وجزاء ، وعلة ومعلول . فحين تقول : إنْ تذاكر تنجح ، فالمذاكرة سبب النجاح ، لكن هل سبقت المذاكرةُ النجاح؟ لا ، بل وُجد النجاح أولاً في بالك ، واستحضرت مميزاته وكيف ستكون منزلتك في المجتمع وبين الناس ، وبذلك وجد عندك دافع وخاطر ، ثم أردت أنْ تحققه واقعاً ، فذاكرت للوصول إلى هذا الهدف .
إذن : فكل شرط وجواب : الجواب سبب في الشرط ، والشرط سبب في الجواب ، الجواب سبب في الشرط دافعاً له ، والشرط سبب في الجواب واقعاً وتنفيذاً ، فالنجاح وُجد دافعاً على المذاكرة ، والمذاكرة جاءت واقعاً ليتحقق النجاح .
وكذلك في { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ المؤمنون : 61 ] فالمعنى : القصد أنْ يسبق فسارع ، سارع في الواقع ليسبق بالفعل ، لكن السبْق قبل المسارعة؛ لأن الذهن متهيء له أولاً وحقائقه واضحة .
إذن : الشرط والجزاء ، والسبب والمسبب ، والعلة والمعلول تدور بين دافع هو الجواب ، وواقع هو الشرط .
ومعنى : { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [ المؤمنون : 61 ] يعني : هم أهل لهذا العمل وقادرون عليه ، كما لو طلبتُ منك شيئاً فتقول لي : هذا شيء صعب فأقول لك : وأنت لها .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق . . } .
(1/6193)

وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيَّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة ، وأنه سبحانه ما كلّفك إلا بعد عِلْمه بقدرتك ، وأنك تسع هذا التكليف ، فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول : أنا أسعه أو لا أسعه ، لكن أنظر إلى التكليف : ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك ، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يُخفِّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك . والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج . . الخ .
والآن نسمع مَنْ يقول : لم تَعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف ، فالزمن تغيّر ، والأعمال والمسئوليات كثرت ، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله . ونقول ما دام التكليف باقياً فالوُسْع بَاقٍ ، والحق - سبحانه وتعالى - أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم .
إذن : أنا أنظر أولاً إلى التكليف ، ثم أحكم على الوُسْع من التكليف ، ولا أحكم على التكليف من الوُسْع .
ثم يقول سبحانه : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ المؤمنون : 62 ] المراد هنا كتاب أعمالنا الذي سجّل فيه كل شيء قدّمته الأيدي ، لكن : ما الحكمة من تسجيل الأعمال؟ وهل يُكذِّب العباد ربهم عز وجل فيما سُجِّل عليهم؟
قالوا : الحكمة من تسجيل الأعمال أن تكون حجة على صاحبها ، وليعلم أن الله ما ظلمه شيئاً؛ لذلك سيقول له ربه : { اقرأ كتابك . . } [ الإسراء : 14 ] يعني : بنفسك حتى تُقام عليك الحجة ، ولا يكون عندك اعتراض .
ثم قال بعدها : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ المؤمنون : 62 ] لأن الظلم لا يُتصوّر من الحق - سبحانه وتعالى - فالظلم نتيجة الحاجة ، وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة عَمَّا عندك ، فالظلم إذن نتيجة الحاجة ، والحق سبحانه هو المعطي ، وهو الغني الذي لا حاجةَ له إلى أحد ، فلماذا يظلم؟
كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره ليسُدّ حاجته أو شهوته ، ولو كان قوياً لكفى نفسه بمجهوده .
ثم يقول الحق سبحانه : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ . . } .
(1/6194)

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{ بَلْ . . } [ المؤمنون : 63 ] حرف يدل على الإضراب عن الكلام السابق ، وإثبات الحكم للكلام بعدها . والغَمْرة كما قلنا : هي جملة الماء الذي يعلو قامة الإنسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه الهواء ، وهو أول مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة .
فالإنسان يصبر على الطعام شهراً ، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام لعشرة ، إنما لا يصبر على النَّفَس إلا بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء ، فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لأكبر كمية من الهواء ، وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول ، أما إن كانت الرئة مُعتَلّة ، فإنها لا تتسع لكمية كبيرة ، وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت الإنسان .
ومن التنفس جاءت المنافسة ، كما في قوله تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } [ المطففين : 26 ] ثم استُعمِلَتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة .
لذلك الخالق - عز وجل - حينما خلق هذه البِنْية الإنسانية جعل لها نظاماً فريداً في وقودها وغذائها على خلاف صَنْعة البشر ، فلو منعتَ البنزين مثلاً عن السيارة توقفتْ ، أمّا صنعة الخالق - عز وجل - فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء ، ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة ، وقد علم الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب ، وأخذْك منهما فوق حاجتك ، فإنْ غاب عنك الطعام تغذَّى جسمك من هذا المخزن الرباني .
لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول : نفس انصدت عن الأكل ، والحقيقة أنه أكل فعلاً ، وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه .
ومن حكمة الله أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم ، الذي يتحول تلقائياً إلى أيِّ عنصر آخر يحتاجه الجسم ، فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلات ، ثم على العظام ، وهي آخر مخزن للقوت في جسم الإنسان؛ لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلام : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] .
أما الهواء فليس له مخزن إلا بقدْر ما تتسع له الرئة ، فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فلا حيلة فيه ، ومن رحمة الله بعباده ألاّ يُملِّك الهواء لأحد ، فقد يملك الطعام وربما يملك الماء ، أمّا الهواء الذي يحتاجه في كل نفَس ، فقد جعله الله مِلْكاً للجميع ، حتى لا يمنعه أحد عن أحد؛ لأنك لا تستطيع أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب ، ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أنْ يرضى عنك .
ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم ، إنما تحتوي القلوب : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ . . } [ المؤمنون : 63 ] وهذه بلوى أعظم؛ لأن القلب محلٌّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل ، ويُميِّز بينها ويختار منها ويُرجّح ، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هَدْيها تسير في حركة الحياة .
(1/6195)

لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلاء أعظم؛ لأنه مُسْتودع العقائد والمبادئ التي تُنير لك الطريق .
والقلب هو محلُّ نظر الله إلى عباده ، لذلك يقول سبحانه : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا . . } [ الأعراف : 179 ] .
وقال سبحانه : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ . . } [ البقرة : 7 ] لأنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه ، ولأنه سبحانه ربٌّ متولٍّ ربوبية الخلق ، يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفراً؛ لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر؛ لأنهم عشقوا الكفر وأحبّوه .
لذلك نقول لأهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه ، ويبالغون بإقامة المآتم والسرادقات ، ويقيمون ذكرى الخميس والأربعين وغيرها ، وربما كان الابن عاقاً لوالديه في حياتهما ، فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس ، وهو كما قال الشاعر :
لاَ أَعْرِفنَّك بعْد الموتِ تَنْدِبني ... وفِي حََيَاتي مَا بَلَّغْتَني زَادَا
أو الأم التي فقدت وحيدها مثلاً ، فتعيش حزينة مُكدّرة ، وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته ، نحذر هؤلاء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم ، فالحزن إنْ رأى بابه مُوارباً دخل وظَلّ معك ولازمك .
وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه لا يرفع بلاءً عن عبده حتى يرضى به ، ولنا القدوة في هذه المسألة بأبينا إبراهيم - عليه السلام - حين ابتلاه ربه بذبح ولده في رؤيا رآها ، واعتبرها هو تكليفاً ، ورضي بقدر الله وسلم لأمره ، ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى لا يحرمه هذا الأجر ولا يأخذه على غِرّة ، فيتغير قلبه عليه : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 103 - 107 ] .
فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء الله رفع عنهما البلاء ، وجاءهما الفداء من الله لإسماعيل ، بل وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، أجيال متعاقبة جاءتْ فضلاً من الله وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره ، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف :
سَلِّمْ لربك حُكْمه فَلحكْمةٍ ... يَقْضِيِه حتّى تسْتريح وتَغْنَما
واذكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْح ابنهِ ... إذْ قالَ خالقُه فَلمّا أسْلَما
إذن : إذا كانت القلوب نفسها في غمرة ، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك . وقد أخذ القلب هذه الأهمية؛ لأنه معمل الدم ، ومصدر سائل الحياة ، فإنْ فسدَ لا بُدَّ أنْ ينضح على باقي الجوارح ، فتفسد هي الأخرى ، ولو كان القلب صالحاً فلا بُدّ أ نْ ينضحَ صلاحه على الجوارح كلها فتصلح ، كما جاء في الحديث الشريف : " ألا إن في الجسد مُضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " .
(1/6196)

ثم يقول سبحانه : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 63 ] يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد ، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها ، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها ، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا ، وإنْ كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم - عز وجل - يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون .
ومن عجائب قدرة الله أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا ، ومع ذلك لم يعاند أحد الكفار ، فيقول : إن الله حكم عليَّ بكذا ، ولكني لن أفعل فيكون حكم الله عليه غير صحيح؛ لأن الحق سبحانه لا يتحكم فيما يجريه علينا فحسب ، وإنما في اختيار العبد ومراده ، مع أن العبد حُرٌّ في أن يفعل أو لا يفعل .
وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سيصلى نَاراً . . } [ المسد : 1 - 3 ] تفيد المستقبل ، فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه سيكون في النار ، وكان أبو لهب في أمة ومَجْمع من القوم الكافرين ، ومنهم مَنْ آمن فمن يضمن أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك لا يؤمن ويموت كافراً؟
ثم ألم يَكُنْ بإمكان هذا ( المغفل ) أن يقف على ملأ ويقول : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ويدخل في الإسلام ، فيكون الحكم فيه غير صحيح؟ لكن هذا كلام الله وحكمه القديم لا يُردّ ولا يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الاختيار ، هذا من طلاقة قدرة الله في فِعْله وعلى خَلْقه في أفعالهم .
فالمعنى : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 63 ] حكم لا يُرد ولا يُكذَّب ، حتى وإنْ أخبر به صاحبه؛ لأن علم الله تعالى مستوعبٌ لما كان ولما سيكون ، وكأن الحق سبحانه يقول : إن طلاقة القدرة ليست فيما أفعله فحسب ، إنما يفعله غيري مِمَّنْ أعطيتُه حرية الاختيار .
ثم يقول الحق سبحانه : { حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب . . } .
(1/6197)

حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
يعني : بعد أن أشركوا بالله وكفروا به ، وبعد أنْ أصبحتْ قلوبهم في غمرة وعمىً إذا مسَّهم شيء من العذاب يجأرون ويصرخون ، ومَنْ ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب الله؟
ومعنى { أَخَذْنَا . . } [ المؤمنون : 64 ] كلمة الأخذ لها مجال واسع في كتاب الله ، والأَخْذ : هو الاستيلاء بعنف على شيء هو لا يحبّ أنْ تستولي عليه ، والأَخْذ يُوحي بالعنف والشدة ، بحيث لا يستطيع المأخوذ الإفلات مهما حاول .
ومن ذلك قوله تعالى : { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] يعني : أخذاً شديداً يتململ منه فلا يستطيع الفكاك .
وقوله : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة . . } [ هود : 67 ] .
ويقول : { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
ومعنى : { مُتْرَفِيهِمْ . . } [ المؤمنون : 64 ] من الترف وهو التنعُّم؛ لأن الحياة تقوم على ضروريات تستبقي الحياة وكماليات تُسعدِها وتُرفِّهها وتُثريها ، فالمتْرَف مَنْ عنده من النعيم فوق الضروريات ، يقال : ترِف الرجل يتَرف من باب فَرِح يفرح ، وأترفته النعمة إذا أطغته ، وأترفه الله يعني : وسّع عليه النعمة وزاده منها . وعلى قدر الإتراف يكون الأخذ أبلغَ والألم أشدَّ .
وسبق أن ذكرنا قول الله عز وجل : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ . . } [ الأنعام : 44 ] يعني : من منهج الله ، لم نُضيِّق عليهم إنما : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ . . } [ الأنعام : 44 - 45 ] .
فهنا تكون النكاية أشدّ ، والحسرة أعظم .
والكلام هنا عن كفار قريش ، فكيف أخذهم الله وهم في ترف من العيش ، حيث تصبُّ عندهم كل خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم؟
أخذهم الله حال ترفهم بالقَحْط والسنين؛ لذلك لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أُترفوا بالنعمة وطغَوْا بها قال : " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " .
واستجاب الله تعالى دعاء نبيه ، فأصابهم الجدب والقَحْط حتى أكلوا الجيف و ( العِلْهز ) وهو شعر الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أنْ جَفَّ وتجمد تحت حرارة الشمس ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب . . } [ المؤمنون : 64 ] .
وقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ . . } [ المؤمنون : 64 ] .
يصرخون ويضجّون ، فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلات يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ألستَ رحمةً للعالمين؟ إذن : فادْعُ الله أنْ يُفرِّج عنا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه حتى فرج عنهم .
أو : يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر ، حيث أذلَّهم الله ، فقتل منهم مَنْ قتل ، وأسر مَنْ أسر ، وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم ، وقد كانوا يُعذِّبون المؤمنين ويقتلونهم ، ويقيمونهم في حَرِّ الشمس ويضعون الأحجار الكبيرة فوق بطونهم ، حتى أنزل الله تعالى في هذه الحالة القاسية التي يعانيها المؤمنون : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر }
(1/6198)

[ القمر : 45 ] .
فيستقبلون الآية بتعجُّب : حتى يقول عمر : أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ، فليس هناك أيّ بادرة لنصر المؤمنين ، فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه : صدق الله ، سيُهزم الجمع وقد هُزِم .
وقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } [ المؤمنون : 64 ] يجأر : يصرخ بصوت عالٍ ، والإنسان لا يصرخ إلا إذا كان في محنة لا تقدر أسبابه على دفعها ، فيصرخ طلباً لمن ينجده ، ويرفع صوته ليُسمِع كل مَنْ حوله ، كما يقولون ( يجعر ) .
والجؤار مثل الخوار يعني : يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالاً وسادة وطغاة ، فلماذا لم تظلّوا سادة ، لماذا تصرخون الآن؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أنْ يتماسكوا ، وأن يتجلّدوا حتى لا يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا ، كما يقول الشاعر :
وتجلُّدِي للِشَّامِتينَ أُرِيهُمو ... أَنِّي لريْبِ الدهْرِ لا أتضعْضَعُ
لكن ، هيهات فقد حاق بهم العذاب ، ولن يخدعوا أنفسهم الآن ، فليس أمامهم إلا الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك .
ثم يقول الحق سبحانه : { لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } .
(1/6199)

لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
يرد عليهم الحق سبحانه : { لاَ تَجْأَرُواْ اليوم . . } [ المؤمنون : 65 ] لأن مَنْ يجأر ينادي مَنْ ينصره وأنتم لن تُنصروا { إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } [ المؤمنون : 65 ] لا تُنصرون من جهتنا؛ لأني أنصر أوليائي ، وأنصر رسلي ، وأنصر مَنْ ينصرني ، فاقطعوا الظن في نصري لكم؛ لأنني أنا الذي أنزلتُ بكم ما جعلكم تجأرون بسببه ، فكيف أزيله عنكم؟
وفي موضع آخر يتكلم الحق سبحانه عن أهل الكفر الذين تمالئوا عليه ، وشجّع بعضهم بعضاً على التجرّؤ على القرآن وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُصفِّقون لمن يخوض في حقهما : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 22 - 26 ] .
إذن : لا تجأروا لأنكم لن تُنصروا مِنّا ، وكيف ننصركم بجؤاركم هذا ، وقد انصرفتم عن آياتي؟
(1/6200)

قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
كيف تستغيثون بالله وتجأرون إليه وأنتم تُلْقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود الله بالآيات الكونية ، وتثبت لكم صِدْق الرسول بالمعجزات ، وتحمل لكم منهج الله في الآيات حاملة الأحكام ، ولكنكم عميتم عن ذلك كله .
ومعنى { فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } [ المؤمنون : 66 ] العقب : مؤخرة القدم ، فبدل أن يمشي إلى الأمام كما خلقه الله وجعل له كشافات يُبصر بها الطريق ، ويهتدي إلى موضع قدميْه ، إذا به يمشي للخلف على عَقبه ، وكأنهم أُخِذوا أَخْذاً غَيَّر عندهم دولاب السير ، لماذا؟ لأنهم عَمُوا عن أسباب الهداية ، فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى ، كمَنْ يسير بظهره لا يعرف مواقع قدميْه ، وهكذا فعلوا هم بأنفسهم .
وهذا التراجع يسمونه في قيادة السيارات ( مارشادير ) ، ويحتاج فيه الإنسان لمن يُوجِّهه ويرشد حركته يميناً أو شمالاً؛ لأنه لا يرى .
فالمعنى : لا تَلُمْ إلا نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية ، فبعد أنْ جاءتك وأصبحت بين يديك أغمضتَ عنها عينيك .
وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان : { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ . . } [ الأنفال : 48 ] .
(1/6201)

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
مادة : كبر تأتي بكسر الباء للدلالة على العمر تقول : كَبِر فلان . يعني : كان صغيراً ثم كبر ، وبضم الباء للشيء المعنوي وللقيم ، كما في قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ . . } [ الكهف : 5 ] يعني : عظمت .
ومعنى الاستكبار افتعال الكِبر وطلبه ، مثل : استفهم يعني : طلب الفَهْم ، في حين هو ليس كبيراً في ذاته ، فهو محتاج إلى غيره . فالكبير في ذاته مَنْ تكون عنده وتتوفر له في ذاته مُقوِّمات الحياة وضرورياتها وترفها ، لا يستمدها من أحد .
لكن الإنسان ضروريات حياته ، وأسباب ترفه موهوبة له من غيره ، فلا يصح له أنْ يتكبّر ، فمَنْ أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان . . . الخ ، وهذه كلها أمور موهوبة لك ، فالصحيح قد يصبح سقيماً ، والغني قد يصبح فقيراً .
لذلك ، فالكبرياء لله تعالى وحده؛ لأنه الواهب للغير ، والمتفضِّل على الخَلْق بما يمكن أنْ يتكبروا به ، ومن صفات جلاله وكماله سبحانه ( المتكبر ) ؛ لأنه سبحانه رب الخَلْق أجمعين ، ومن مصلحة الخلق أن يكون المتكبر هو الله وحده ، حتى لا يرفع أحد رأسه على خَلْقه ويتكّبر عليهم .
وهكذا يحمي الحق سبحانه خَلْقه من خَلْقه ، فإنْ تكبّر عليك ربك ، وأجري عليك قدراً؛ لأنك فعلت شيئاً وأنت واحد ، فاعلم أنه يتكبر على الآخرين جميعاً وهم كثيرون ، إنْ فعلوا بك هذا الشيء ، إذن : فصفة الكبرياء لله عز وجل في صالحك .
ومثَّلْنا لذلك ، ولله المثل الأعلى : من مصلحة الأسرة ألاّ يكون لها إلا كبير واحد يُرجَع إليه ، ومن أقوال العامة ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) لأنه الميزان الذي تستقيم به الأمور ويُسيِّر دفّة الحياة .
وقلنا : إن من أسمائه تعالى ( الكبير ) ولا نقول : الأكبر مع أنها صيغة مبالغة ، لماذا؟ لأن أكبر صيغة مبالغة عندنا نحن البشر ، نقول : هذا كبير وذاك أكبر ، وهذا قويٌّ وذاك أقوَى ، ولا يقال هذا في صفته تعالى لأنك لو قُلْت : الله أكبر لكان المعنى أنك شرَكت معه غيره ، فهو سبحانه أكبر وغيره كبير ، لذلك لا تُقال : الله أكبر إلا في النداء للصلاة .
إذن : المستكبر : الذي يطلب مؤهلات كبْر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلات ، والإنسان لا ينبغي له أن يتكبر إلا إذا ملك ذاتيات كبره ، والمخلوق لا يملك شيئاً من ذلك .
ومعنى { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ . . } [ المؤمنون : 67 ] الهاء في ( به ) ضمير مُبْهم ، يُعرَّف بمرجعه ، كما تقول : جاءني رجل فأكرمته ، فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل . وفي الآية لم يتقدم اسم يعود عليه الضمير ، لكن الكلام هنا عن الرسول الذي أُرسل إليهم ، والقرآن الذي أُنزل عليهم معجزة ومنهاجاً ، إذن : لا يعود الضمير إلا إلى واحد منهما .
أو : أن الضمير في ( به ) يعود إلى بيت الله الحرام ، وقد كان سبباً لمكانة قريش ومنزلتهم بين العرب ، وأعطاهم وَضْعاً من السيادة والشرف ، فكانوا يسيرون في رحلات التجارة إلى اليمن وإلى الشام دون أن يتعرض لهم أحد ، في وقت انتشر فيه بين القبائل السَّلْب والنهب والغارة وقطع الطريق .
(1/6202)

وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لولا بيت الله الحرام الذي يحجُّه العرب كل عام ، وخدمته وسدانته في أيدي قريش؛ لذلك استكبروا به على الأمة كلها ، ليس هذا فقط ، إنما تجرأوا أيضاً على البيت .
ويقول تعالى بعدها : { سَامِراً تَهْجُرُونَ } [ المؤمنون : 67 ] السامر : الجماعة يسْمُرون ليلاً ، وكانوا يجتمعون حول بيت الله ليلاً يتحدثون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، يشتمونه ويخوضون في حقه ، وفي حق القرآن الذي نزل عليه .
وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر ، والهُجْر هو فُحْش الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم وفي القرآن .
فأمر هؤلاء عجيب : كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت الله الذي جعل لهم السيادة والمنزلة؟ كيف يخوضون في رسول الله الذي جاء ليطهر هذا البيت من الأصنام ورجسها؟ إنه سوء أدب مع الله ، ومع رسوله ، ومع القرآن ، يصدق فيه قول الشاعر :
أُعلِّمهُ الرمايةَ كُلَّ يوْمٍ ... فَلَمّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي
وكَمْ علِّمتُه نَظْمَ القَوافِي ... فَلَمَّا قَالَ قَافِية هَجَانِي
لقد استكبر هؤلاء على الأمة كلها بالبيت ، ومع ذلك ما حفظوا حُرْمته ، وجعلوه مكاناً للسَّمَر وللهُجْر وللسَّفَه وللطيْش ، ولكل مَا لا يليق به ، فالقرآن عندهم أساطير الأولين ، ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون . . وهكذا .
والحق - سبحانه وتعالى - يُنبِّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضُّل ، فحينما جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق ، وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة ، ولم يكن لكم طاقة لردِّه ولا قدرةَ على حماية البيت ، فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم وسيادتكم بين القبائل ، ولتجرأوا عليكم كما تجرأوا على غيركم ، لكن حمى الله بيته ، ودافع عن حرماته ، حتى إن الفيل نفسه وعى هذا الدرس ، ووقف مكانه لا يتحرك نحو البيت خاصة ، ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير .
ويُرْوَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه : ابْرك محمود وارجع راشداً - يعني : انفد بجلدك؛ لأنك في بلد الله الحرام ، وكما قال الشاعر :
حُبِسَ الفِيلُ بالمغَمَّس حَتَّى ... صَارَ يحبُو كَأنَّهُ مَعْقُورُ
وهكذا ردّهم الله مقهورين مدحورين ، وحفظ لكم البيت ، وأبقى لكم السيادة .
لذلك لاحظ الانتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش ، يقول تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 1 - 5 ] يعني : مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح .
ثم يقول في أول قريش : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] يعني ما حَلَّ بأصحاب الفيل ، فاللام في ( لإِيلاَف ) لام التعليل ، يعني : حَلَّ ما حَلَّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء والصيف { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف . . } [ قريش : 2 ] وما دام أن الله تعالى قد حماكم وحمى لكم البيت ، وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده لا شريك له { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ . . } .
(1/6203)

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
في هذه الآية والآيات بعدها يريد - سبحانه وتعالى - أن يُوبّخهم بعدة أمور واحد بعد واحد بعد الآخر .
أولها : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول . . } [ المؤمنون : 68 ] فالاستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع : ماذا جرى لهؤلاء؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن ، وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان ، وأمة القول بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلَّقوه على الجدار؟
لذلك لا يُعقل ألاَّ تفهموا القرآن ، وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلاغة والفصاحة ، لا بُدَّ أنكم فهمتموه ووعيْتُم ما فيه ، بدليل قولكم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
وهكذا الكذاب يسرقه طبعه ، وينمّ منطقه عما في ضميره ، فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على محمد؛ لأنه فقير من أوسط القوم ، فالمسألة - إذن - منازعة سيادة وسلطة زمنية ، لكن ألم يَدْرِ هؤلاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء ليسلبهم سلطتهم ، أو يعلو هو عليهم ، إنما جاء ليحكمهم بمنهج الله ، ويتحمل هو الأذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم؟
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ الحكم ويحمل منهج الله تكليفاً لا تشريفاً ، بدليل أنه عاش في مستوى أقلّ منكم ، فلا ترى رسول الله إلا أقلهم طعاماً وأقلهم شراباً ، أقلهم لباساً وأثاثاً ، حتى أقاربه كانوا فقراء ، ومع ذلك حرَّم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء ، كذلك يرث الناس وهم لا يرثون .
وبعد ذلك كله تقولون : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يبدو أنكم ألِفْتم العبودية للعظماء وللجبابرة ، ألِفتم العبودية لغير الله ، وعَزَّ عليكم أن يحرركم الله من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم ، جاء ليصلحكم ويخرجكم من العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق عز وجل .
ألم يقُلْ أحد رؤوس الكفر عن القرآن : " والله إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعْلى عليه " .
إذن : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول . . } [ المؤمنون : 68 ] توبيخ ، لأنهم فهموا القرآن ، لكن حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه ، وأن ينال دونهم هذه المكانة ، كما قال سبحانه : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ . . } [ النساء : 54 ] .
الأمر الثاني : { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين } [ المؤمنون : 68 ] يعني : جاءهم أمر غريب لا عهدَ لهم به ، وهو أن يأتي رسول من عند الله ، وهذه المسألة معروفة لهم ، فمنهم إبراهيم عليه السلام ، ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما ، إذن : ليست مسألة عجيبة ، بل يعرفونها جيداً ، لكن ما منعهم في الأولى منعهم في هذه ، إنه الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك يقول تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله . . }
(1/6204)

[ الزخرف : 87 ] .
الأمر الثالث : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [ المؤمنون : 69 ] .
يعني : أنزَلَ عليهم رسولٌ من السماء لا يعرفون سيرته وخُلقه ونسبه ومسلكه قبل أنْ يُبعث؟ إنهم يعرفونه جيداً ، وقبل بعثته سَمَّوْه " الصادق الأمين " وارتضَوْا حكومته بينهم في مسألة الحجر الأسود ، وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم ، ولم يجربوا عليه كذباً أوخيانة أو سَقْطة من سقطات الجاهلية .
وقد شرحت هذه المسألة في قول الله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . . } [ التوبة : 128 ] يعني : من جنسكم ، ومن نوعكم ، ومن قبيلتكم ، ليس غريباً عنكم وهو معروف لكم : سلوكه وسيرته وخُلقه ، وإذا لم تُجرِّبوا عليه الكذب مع الخَلْق ، أتتصورون منه أنْ يكذب على الخالق؟
وهل رسول الله في أول بعثته لَمَّا أخبر الناس أنه رسول الله جاء القرآن ليحمل الناس على الإيمان به؟ لا ، إنما جاء ليتحدى مَنْ لم يؤمن ، أما مَنْ آمن بداية ، بمجرد أنْ قال محمد : أنا رسول الله قال : صدقت ، وأنه لم يكذب أبداً؛ لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول الله ، فإنْ قال فالمسألة منتهية لأنه صادق لا يشكّ أحد منهم في صِدْقه .
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو بكر في مسالة الإسراء والمعراج : إنْ كان قال فقد صدق ، يحملها رسول الله تقديراً لأبي بكر ويقول : " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسَىْ رهان " يعني : في الخُلُق الطيب والسلوك السَّويِّ " فسبقتُه للنبوة فاتبعني ، ولو سبقني هو لاتبعتُه " .
" ولما نزل جبريل - عليه السلام - على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي فأجهده ، فذهب إلى السيدة خديجة - رضي الله عنها - وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها عَمَّا حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند الله ، ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل ، وكان على علم بالكتب السابقة ، فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال : إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى وليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أَوَمُخرجِيّ هم؟ " قال : " ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عُودِي ، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً " .
ومع ذلك يظل رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً قلقاً أن يكون هذا شيئاَ من الشيطان ، فتُطمئِنه السيدة خديجة ، فهذا لا يعقل مع رسول الله ، لذلك تقول له : " إنك لتصلُ الرحم ، وتُكسِب المعدوم ، وتحمل الكَلَّ ، وتعين على نوائب الدهر ، والله لن يخذلك الله أبداً " .
ومن هنا أعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في الإسلام؛ لأنها اجتهدتْ واستنبطتْ من مقدمات رسول الله قبل البعثة دليلاً على صِدْقه بعد البعثة؛ لذلك كانت أول مَنْ سُمِّيت بأم المؤمنين ، حتى قال بعض العارفين : خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه في هذه السِّن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تُدلِّله ، وقد قامت خديجة - رضي الله عنها - فعلاً بدور الأم لرسول الله فاحتضنته ، وطمأنته ووقفت إلى جواره في أشدِّ الأوقات وأحرجها .
كما نلحظ في الآية : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ . . } [ المؤمنون : 69 ] فأضاف الرسول إليهم يعني : رسول لهم ، أما في الإضافة إلى الله تعالى : رسول الله ، فالمعنى رسول منه ، وهكذا يختلف المعنى باختلاف الإضافة .
(1/6205)

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
والمسألة الرابعة في توبيخ الله لهم : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ . . } [ المؤمنون : 70 ] يعني : جنون ، والجنون أنْ تتعطل الآلة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر ، فتفعل الخير النافع ، وتترك الشر الضارّ . ولننظر : أيّ خصلة من خصال الجنون في محمد صلى الله عليه وسلم .
ودَعْكَ من قضية الدين والإله إنما خُذْ خُلقه ، والخلُق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه ، حتى وإنْ كانوا ضد صفته ، فالكذاب يحب الصادق ، ويعترف أن الصدق شرف وكرامة ، والبخيل يحب الكريم ، والغضوب يحب الحليم ، أَلاَ ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس ، لكن لا يحب مَنْ يكذب عليه؟
أَلاَ ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته ، ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره ، حتى إن أهل الحكمة ليقولون : إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته ، وتدوس قدمك على كرامته ، ومَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره ، وإنْ أعنْتَه على أمره .
إذن : فالأخلاق مقاييسها واحدة ، فقيسوا محمداً بأخلاقه ، لا بالدين والرسالة التي جاء بها ، انظروا إلى خُلقه فيكم ، ولن يستطيع واحد منكم أنْ يتهمه في خُلقه بشيء ، وما دام لا يُتَّهم في خُلقه فلا يُتهم كذلك في عقله؛ لأن العقل هو ميزان الخُلق وأساسه .
لذلك يقول ربه - عز وجل - في حقِّه : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] فخلُقك العظيم أكبر دليل على أنك لستَ مجنوناً .
إذن : محمد بريء من هذه التهمة ، والمسألة كلها كما قال تعالى : { بَلْ جَآءَهُمْ بالحق . . } [ المؤمنون : 70 ] فهذا عيبه في نظرهم؛ لأن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه ، والبعض يرى الحق في الخير الذي يأتيه ، فإنْ كان في شيء لا ينتفع منه فهو شَرٌّ؛ لذلك إنْ أردتَ أنْ تحكم على خَصْلة فاحكم عليها وهي عليك ، لا وهي لك ، فمثلاً أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب عليك ، إذن : فخُذْ المسائل على أنها لك وعليك .
والحق - سبحانه وتعالى - حينما قيّد حركتك في النظر إلى محارم الآخرين ، لا تتبرم ولا تقُلْ : منعني متعة النظر . . الخ ، لكن انظر إلى أنه قيّد عينيك وأنت واحد ، وقيَّد عيون الآخرين عن محارمك وهم كثيرون .
ويقول تعالى بعدها : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ المؤمنون : 70 ] وطبيعي أن يكره أهل الباطل الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم ، يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان ، ويُقوِّم المعْوج في حركة الحياة ، وكراهية أهل الباطل لرسول الله كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له لا تكذيب به ، ينبغي أن نقول : طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فلا بُدَّ أنه الحق وإلاّ ما كرهوه .
(1/6206)

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
إذن : فالمسائل لا تسير على هَوَى المخلوق ، إنما على مرادات الخالق؛ لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون ، وكلُّ صانع يغَارُ على صَنْعته ، وهذا مُشَاهد حتى في صنعة البشر ، ولك أنْ تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صانعٍ ما صنعَه .
وعدالة الأشياء أن تسير على وَفْق مرادات الصانع ، لا هوى المصنوع؛ لأن الأهواء تملكها الأغيار ، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وَفْق هواه لأخذ مَا ليس له ، ولَقبل الرشوة ، ومال إلى الفِسْق والانحراف؛ لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر العاقبة والمحصلة النهائية ، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته ، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد .
لذلك يقول الحق سبحانه : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ . . } [ المؤمنون : 71 ] ولك أن تقول : نعم ، اتباع الأهواء يُفسِد الأرض ، ويُفسِد حركة الحياة فيها ، لكن كيف يُفسِد السماء؟ وهل لأحد قدرة عليها؟
ونقول : ألم يكُنْ من أمنيات هؤلاء : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً . . } [ الإسراء : 90 - 92 ] .
إذن : من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء ، ولو حتى على رؤوسهم ، وأي فساد بعد هذا ، وهكذا لو اتبعتَ أهواءهم لفسدَتْ السموات والأرض ، ليس هذا وفقط بل { وَمَن فِيهِنَّ . . } [ المؤمنون : 71 ] حيث سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود .
لذلك يقيد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأهواء في قوله : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " لأنه صلى الله عليه وسلم : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3 - 4 ] .
وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضاً على هذه الآية { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ] يقولون : يعني كلامه كله صحيح ، فلماذا يُعدِّل له ربه بعض الأحكام؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين نطق به كان ينطق عن هوى .
ولو فهم هؤلاء معنى الهوى ما كان منهم هذا الاعتراض ، فالهوَى أن تعرف الحق ، لكن هواك يصرفك عنه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل حُكْماً وانصرف عنه ، إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من الله شيء ، ثم نزل الحكم من الله ليُعدِّل اجتهاد رسوله .
إذن : لم يكُنْ لرسول الله هَوَىً ينطق بمقتضاه ، وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله ، وتبليغ الرسول لأمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صلى الله عليه وسلم وأمانته في البلاغ عن ربه ، وإلاَّ فلم يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل ، لو أخفاه رسول الله تعصّباً لنفسه ، أو لدفْع الخطأ عنه .
(1/6207)

ومن ذلك قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ . . } [ التحريم : 1 ] ويقول سبحانه : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . } [ التوبة : 43 ] .
وكان بوسع رسول الله أن يكتم هذه الآيات التي تعاتبه وتُعَدُّ مأخذاً عليه ، لكنه صلى الله عليه وسلم كان أميناً يقول ما له وما عليه ، لذلك يقول عن ربه : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44 - 46 ] .
ثم يقول تعالى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] و ( بل ) تفيد الإضراب عن الكلام السابق ، وإثبات كلام جديد بعدها ، والذكْر هنا يعني : الشرف والصِّيت والمكانة العالية ، كما جاء في قوله تعالى عن القرآن : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ . . } [ الزخرف : 44 ] .
وقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنبياء : 10 ] فكان يجب عليهم أن يحتضنوا هذا القرآن ، ويرفعوه فوق رؤوسهم ، ففيه مجدهم وشرفهم وعِزَّتهم ، والعرب بدون القرآن لا ذِكْرَ لهم ، فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل ، ولا تستقر إلا على منابع الماء ومواضع الكلأ ، كانوا بَدْواً تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقَطْع الطريق ، كان الواحد منهم يسرق ليُكرم ضيفه بما سرق .
وهذه من الأمور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية ، فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم ، عجيب أنْ ترى حب الغارة والاعتداء مع الشهامة والكرام في طبيعة واحدة ، فهو يفعل ما يعِنُّ له ، وما يخطر بباله ، فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون ، حتى قال فيهم الشاعر :
لا تمدحَنَّ ابْنَ عبَّادٍ وإنْ هطلَتْ ... كَفَّاهُ بالجُود حتَّى أشبَه الدِّيَمَا
فَإنَّها خطرَاتٌ من وَسَاوِسِهِ ... يُعْطي ويمنَع لاَ بُخْلاً ولاَ كرَمَا
ومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصَّل فيها هذا الخُلق حتى عند الأطفال ، وحتى أن الأب يهِمُّ بذبح ولده للضيف ، لأنه لم يجد ما يذبحه لِقرَاه .
ويقول فيها الشاعر :
وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصِبِ البطن مُرْملٍ ... ببيداءَ لم يَعْرف بها ساكنٌ رَسْما
أَخِي جَفْوةٍ فيه من الأُنْسِ وَحْشةٌ ... يرى البُؤْس فِيَها مِنْ شراسته نُعْمي
رَأَى شبحاً وِسْط الظّلام فَرَاعَه ... فَلما رأَى ضَيْفاً تشمَّر واهْتما
وقَالَ هَيَّا ربّاه ضَيْف ولا قِرَى!! ... بحقِّك لاَ تحرمْه تالليلةَ اللّحْمَا
وأفرد في شِعْب عَجُوزاً إزَاءَهَا ... ثَلاثَة أَشْباحٍ تَخَالهموا بُهْمَا
حُفاةً عُراةً مَا اغتذَوْا خُبْز مَلَّة ... ولاَ عَرفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقوا طعْما
فَقالَ ابنُه لَمَّا رآهُ بحيْرةٍ ... أيَا أبْتِ اذْبحْني ويسِّر لَهُم طُعْما
ولاَ تَعتذِرْ بالعُدم على الذِي طَرَا ... يظنُّ لَنَا مَالاً فيُسِعُنا ذمّا
فروَّى قليلاً ثُمَّ أحجمَ بُرْهةً ... وَإنْ هُوَ لم يذبح فَتَاهُ فَقَد همَّا
فبَيْنَا هُمَا عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ ... قَد انتظمتْ من خَلْف مِسْحلها نَظْما
عطَاشاً تريد الماءَ فانْسَابَ نحوهَا ... علَى أنَّه مِنْها إلىَ دَمِها أَظْما
فَأَمهلَها حتَّى تروَّتْ عِطاشُها ... وأرسَل فيها من كِنَانتِه سَهمْا
فَخَرَّت نَحُوصٌ ذَات جحش قَدْ ... اكتنزَتْ لَحْماً وقد طُبِّقَتْ شحْما
فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّها نَحْو قومهِ ... ويَا بشْرهُم لما رأوا كَلْمها يَدْمَى
وباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً ... لَضَيْفِهموا والأمم مِنْ بِشْرها أُمَّا
(1/6208)

لقد تأصلتْ خَصْلة الكرم في العربي ، حتى في الأطفال الصغار ، فهو وإنْ كان فقيراً لكن لا يحب أن يُعرف عنه الفقر ، يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء ، وإنْ ناقض ذلك صفات أخرى ذميمة فيه .
والشاهد أنهم جماعة تناقضتْ خصالهم ، وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة ، وهذه حُسِبت لهم بعد ظهور الإسلام وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم ، فكيف لمثل هؤلاء أنْ يأتوا بهذه المعاني والأساليب العالية التي تحكم العالم كله؟ ولو كانوا أهلَ علم وحضارة لقالوا عنهم وعن الإسلام : إنه قفزة حضارية .
ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئاً لقالوا : قرأ لفلان وفلان ، كما حكى عنهم الحق سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ . . } [ النحل : 103 ] .
إذن : فذِكْر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن ، ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم ، ولم يهتموا بهذا القرآن ، إنما أعرضوا عنه { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] .
أي : عن القرآن ، وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين ، لا يعرفون حتى مصلحتهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ . . } .
(1/6209)

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
( الخَرْج ) : ما يخرج منك طواعية ، أما الخراج فهو ما يخرج منك رغماً عنك ، والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى ، فالخراج أبلغ من الخَرْج . والمراد بقوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ . . } [ المؤمنون : 72 ] إنْ كنتَ تريد خَرْجاً فلا تأخذه من أيديهم ، إنما خُذْه من ربك ، فما عندهم ليس خَرْجاً بل خراج { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ . . } [ المؤمنون : 72 ] .
فلا تأخذ الرزق إلا من يد الخير والبركة؛ لأن الحق سبحانه لا يمنُّ على خَلْقه برزق يرزقهم به ، فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة؛ لذلك تكفّل سبحانه بأرزاقهم ، كما لو دعوتَ صديقاً إلى طعام فإنك تُعِدُّ له ما يكفي عشرة ، فما بالك حينما يُعِدُّ لك ربك عز وجل؟
ثم يُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله تعالى { وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ المؤمنون : 72 ] وهذه أحدثتْ إشكالاً عند البعض؛ لأن الحق سبحانه جعل لخَلْقه شراكة في صفة الرزق ، فغيره سبحانه يرزق أيضاً ، لكن هو خير الرازقين؛ لأنه يرزق الخَلْق بأصول الأشياء التي يرزقون منها غيرهم ، فإنْ كنتَ ترزق غيرك مثلاً طعاماً فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره .
هو سبحانه خالق التربة ، وخالق الماء ، وخالق الهواء ، وخالق البذرة ، وما عليك إلا أنْ أعملتَ عقلك ، واستخدمتَ الطاقات التي منحك الله إياها ، فأخرجتَ هذا الطعام ، فلو أنك جِئْتَ لأهلك بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر . . إلخ وقامت زوجتُك وقامت زوجتُك بإعداد الطعام أتقول : إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام؟
لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة : نَزِّهوا ألسنتكم عن قول : فلان رازق ، ودَعُوها لقول الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو خالق الرزق ، وواجد أصوله ، وما أنت إلا مُنَاول للغير .
وتلحظ أنه تعالى أضاف الخَراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية ، فما دام الخراجُ خراجَ ربك يا محمد ، فهو خراج كثير وعطاء لا ينفد .
(1/6210)

وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
الصراط المستقيم : الطريق المعتدل الذي لا عوجَ فيه ولا أمتاً ، فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم؟ وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع بالصراط المستقيم الملايين .
ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أنْ تنظر إلى ما أخذه منك ، فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير ، ويأمرك برعاية اليتيم ليرعى أولادك من بعدك إنْ تركتَهم وهم صغار .
فالشرع - إذن - يُؤمن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير الله بالرضا؛ لأنك في مجتمع إيماني لن يتخلى عنك إن افتقرت ، ولن يترك أولادك إنْ تيتَّموا ، فالمجتمع الإيماني إنْ مات فيه الأب كان الجميع لليتيم آباء . أما إنْ ضاع اليتيم في مجتمع الإيمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر الله ، ويُغري ضعاف الإيمان أنْ يقولوا : ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة لا يتكفل بهم أحد؟
(1/6211)

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{ الصراط . . } [ المؤمنون : 74 ] هو الطريق المستقيم الذي يُؤدِّي إلى الغاية بأقلّ مجهود ، وفي أقل وقت ويوصلك إلى أفضل غاية . والطريق يأخذ حظه من العناية والاهتمام بقدر الغاية الموصِّل إليها ، فالطريق من القاهرة إلى الإسكندرية غير الطريق بين القرى والنُّجوع .
ومعنى : { لَنَاكِبُونَ } [ المؤمنون : 74 ] يعني : منحرفون عن الطريق ، ولهم حَظٌّ في الاعوجاج وعدم الاستقامة؛ لذلك مَنْ يريد الصدق ( تعال دوغري ) يعني : من الطريق الذي لا اعوجاجَ فيه ولا مراوغةَ .
لكن ، ما الذي جعلهم يتنكّبون الطريق المستقيم الذي يُنظِّم لهم حركة الحياة ، ويجعلها تتساند لا تتعاند ، ويعود مجهود الفرد على الباقين؟ لماذا يحرِمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق؟
قالوا : لأنهم مكذبون بالآخرة ، ولو لم يكونوا مكذبين بالآخرة لآمنوا واتبعوا منهج الله؛ لأنهم سيئولون إلى الله أيلولةً ، تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه . فالذي أفسد هؤلاء أنهم اتبعوا أهواءهم ، وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف ، وغفلوا عن الآخرة ، وأنها دار النعيم الحقيقي الذي لا يفوتُك ولا تفوته .
كما قال عنها الحق سبحانه وتعالى : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] يعني : الحياة الحقيقية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ . . } .
(1/6212)

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
يعني : لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . } [ يونس : 12 ] .
وليْتَه اكتفى عند هذا الحدِّ ، إنما يتعدّى هذا ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً . . } [ الزمر : 8 ] يقول كما قال قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي . . } [ القصص : 78 ] يعني : هذا بمجهودي وتعبي ، وقد كلمت فلاناً ، وفعلت كذا وكذا .
لذلك كان طبيعياً أن يقول له ربه : ما دُمْتَ قد أوتيتَهُ على علم عندك ، فاحفظه بعلم عندك قال تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض . . } [ القصص : 81 ] .
فأين الآن عِلْمك؟ وأيُّ علم هذا الذي لا يستطيع أن يحتفظ بما أتى به؟ ومعلوم أن استنباط الشيء أصعب من حفْظه وصيانته .
ومعنى { لَّلَجُّواْ . . } [ المؤمنون : 75 ] تمادوا { فِي طُغْيَانِهِمْ . . } [ المؤمنون : 75 ] والطغيان : مجاوزة الحدِّ؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء في الوجود حَدَّاً مرسوماً لا ينقص ولا يزيد ، فإن اتبعتَ هذا الحدّ الذي رسمه الله لك استقمتَ واستقامتْ حركة حياتك بلا منازع ، ولو طغى الشيء أفسد حركة الحياة ، حتى لو كان الماء الذي جعل الله منه كل شيء حيٍّ ، لو طغى يُغرق ويُدمّر بعد أنْ كان سر الحياة حال اعتداله . ومنه قوله سبحانه : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] .
ويقال لمن جاوز الحدَّ : طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة ، فإنْ تجاوز هذه أيضاً نقول : طاغوت .
ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان { يَعْمَهُونَ } [ المؤمنون : 75 ] يعني : يتحيرون ويَعْمَوْن عن الرُّشْد والصواب ، فلا يُميّزون بين خير وشر .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ . . } .
(1/6213)

وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
استكان فلان لا تقال إلا لمَنْ كان مُتحركاً حركةً شريرة ، ثم هدأ وسكن ، نقول : فلان ( انكَنّ ) أو استكان وأصلها ( كوْن ) فالمعنى : طلب وجوداً جديداً غير الوجود الذي كان عليه ، أو حالاً غير الحال الذي كان عليه أولاً ، فقبل أنْ يستكين ويخضع كان لا بُدَّ مُتمرِّداً على ربه .
والوجود نوعان : وجود أولي مطلق ، ووجود ثَانٍ بعد الوجود الأولي ، كما نقول مثلاً : وُلِد زيد يعني وُجِد زيد وجوداً أولياً ، إنما على أيِّ هيئة وُجد؟ جميلاً ، قبيحاً . . هذه تحتاج إلى وجود آخر ، تقول : كان زيدٌّ هكذا فعل وفاعل لا يحتاج إلى إخبار آخر لأنها للوجود الأول ، لكن حين نقول : كان زيد مجتهداً ، فهذا هو الوجود الثاني وهو الاجتهاد ، وهو وجود ناتج عن الوجود الأول .
فكان الأولى هي كان التامة التي وردتْ في قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ . . } [ البقرة : 280 ] أي : وُجِد ذو عُسْرة ، ولا تحتاج في هذه الحالة إلى خبر .
ونقول : تمنّى فلان على الله أنْ يُوجَد له ولد ، فكان محمد ، يعني : وُجِد . أما كان الناقصة فتحتاج إلى خبر؛ لأن ( كان ) فِعْل يدل على زمان الماضي ، والفعل لا بُدَّ أنْ يدل على زمن وحدث؛ لذلك لا بُدَّ لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول : كان زيد مجتهداً ، فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص ، فكأنك قلتَ : زيد مجتهد .
ومعنى { فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ . . } [ المؤمنون : 76 ] أن خضوعهم واستكانتهم لم تكُنْ لأنفسهم ولا للناس ، إنما استكانة لله بأخْذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة ، لكنهم ما فعلوا وما استكانوا ، لا في حال الرحمة وكَشْف الضر ، ولا في حال الأَخْذ والعذاب ، وكان عليهم أن يعلموا أن الله غيَّر حاله معهم ، ومقتضى ذلك أن يُغيِّروا هم أيضاً حالهم مع الله ، فيستكينوا لربهم ويخضعوا لأوامره .
{ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون : 76 ] الضراعة : هي الدعاء والذلّة والخضوع لمن أخذ بيدك في شيء ، كما جاء في قوله تعالى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ . . } [ الأنعام : 43 ] يعني : لجئوا إلى الله وتوجَهوا إليه بالدعاء والاستغاثة .
(1/6214)

حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
لقد فشلتْ معهم كل المحاولات ، فما أجدَتْ معهم الرحمة واستمروا على غَلْوائهم ، وما أجدى معهم العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم الله به ، إذن : لم يَبْقَ لهم حجة ولا أملٌ في النجاة ، ففتح الله عليهم { بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ . . } [ المؤمنون : 77 ] يعني : أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب مُغْلق تفاجئهم { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ المؤمنون : 77 ] آيسون من النجاة مُتحسِّرون على ما فاتهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة . . } .
(1/6215)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
الحق - سبحانه وتعالى - يقول : خلقتُ عبادي من عدم ، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم ، ثم جعلتُ لهم منهجاً ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم ، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته ، وأعلم يما يصلحها ، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها ، فالذي صنع الثلاجة مثلاً هل صنعها أولاً ثم قال لنا : انظروا في أيِّ شيء تفيدكم هذه الآلة؟ لا ، إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها ، والغاية منها ، وكذلك خلق الله ، ولله المثل الأعلى .
والذي خلق وحَدَّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد ، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه ، فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن أداء مهمتك التي خلقت لها ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى الله وإلى الرسول ، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها ، ونستنبط من هذه المسألة : إذا رأيتَ خللاً في الكون أو فساداً في ناحية من نواحيه ، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن حُكْماً لله قد عُطِّل .
فمثلاً إنْ رأيتَ فقيراً جائعاً عارياً فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور } [ الملك : 15 ] أو : أن القادرين العاملين حرموه حقّه الذي جعله الله له في أموالهم ، وخالفوا قوله تعالى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ] .
لذلك ، فالحق - سبحانه وتعالى - يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسُدُّ حاجة المحتاجين ، كما نرى مثلاً أحد الأثرياء يترك بلده ، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته ، وليس هناك لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلَّطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع ، ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين ، فانتقل إلى بلد آخر قلَّت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين .
وبعد ذلك لم يتركك ربك ، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه ، وتُحنِّنك إلى التعرُّف عليه ، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى ، أو معجزات تثبت صِدْق الأنبياء في البلاغ عن الله؛ لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده ، إنما يرسل رسولاً ليُبلِّغهم ثم يُؤيِّده بالمعجزة الدالة على صِدْقه في البلاغ .
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف مَنْ هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك : إنه الله ، وقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى : هَبْ أن أحداً دَقَّ الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟ نتفق نحن جميعاً على أن طارقاً بالباب .
(1/6216)

لكن مَنْ هو؟ لا أحد يعلم .
فالاتفاق هنا في التعقُّل ، وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه ، لكن مَنْ هو؟ وماذا يريد؟ لا بُدَّ لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة ، وإياك أنْ تقول بالظن : هذا فلان وأنا أقول هذا فلان ، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف مَنْ هو ، وما عليك إلا أنْ تقول : مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه ، وعن سبب مجيئه ، وماذا يريد . ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله ، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا .
الشاهد : أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها ، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها ، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه : { وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة . . } [ المؤمنون : 78 ] .
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطاً الحواس الخمس الظاهرة أي : أن هناك حواسَّ أخرى لم يكتشفوها ، وفعلاً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل ، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلاً ، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرّف عليها بالحواسِّ الخمس المعروفة .
وعُمْدة الحواس : السمع والبصر؛ لأنه إذا جاءني رسول يُبلِّغني عن الله لا بُدَّ أن أسمع منه ، فإنْ كنتَ مؤمناً بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع ، وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته ، وتستدل بالصَّنْعة على الصانع ، وبالخِلْقة على الخالق ، وتقف على ما في كوْن الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع .
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك ، كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوَّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك ، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلاً فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه .
فإن رآه بعد ذلك يقول ( أوف ) ، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوَّنَتْ لديه نتيجة تجربة استقرتْ في فؤاده ، وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته ، وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة تتكوَّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد .
إذن : من وسائل الإدراك تتكوَّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل ، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمِّيها عقيدة يعني : شيء معقود عليه لا ينحلّ .
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتِّبها دائماً هذا الترتيب : السمع والبصر والفؤاد لأنها عُمْدة الحواس ، فالشمُّ مثلاً والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلاً ، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة : السمع لسماع البلاغ ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى .
وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلُّ على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة ، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر ، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صِدْق هذا الترتيب ، فأوّل أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين ، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة ، ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل .
(1/6217)

إذن : فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني . كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضاً الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره ، فالأذن تسمع مثلاً حتى في حالة النوم على خلاف العين؛ ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء ، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم .
كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية ، وليست الأذن كذلك ، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان ، أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك ، إذن : فالمسموع واحد والمرائي متعددة ، لذلك قال سبحانه : { السمع والأبصار . . } [ المؤمنون : 78 ] .
فليس لك خيار في السمع ، لكن لك خيار في الرؤية ، فالمبصرات تتعدد بتعدُّد الأبصار ، لكن السمع لا يتعدد بتعدُّد الأسماع .
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدويّة ، ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق جميعاً لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة ، ولأفزعتهم الأصوات .
يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] .
كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا الترتيب : السمع والأبصار ، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . } [ السجدة : 12 ] .
فقدَّم البصر على السمع؛ لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولاً قبل أنْ تفجأهم الأصوات ، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز .
وكأن الحق سبحانه يقول : لا عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعاً لتسمع البلاغ عني من الرسول ، وأعطيتُك عَيْناً لتلتفت إلى آيات الكون ، وأعطيتُك فؤاداً تفكر به ، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلُّك على وجود الخالق عز وجل .
إذن : ما أخذتُك على غِرَّة ، ولا خدعتُك في شيء ، إنما خلقتُك من عدم ، وأمددتُك من عُدم ، ورتبتُ لك منافذ الإدراك ترتيباً منطقياً تكوينياً ، فأيُّ عذر لك بعد ذلك . . وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم الأهواء ، وتصْرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا .
والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق - عز وجل - ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدُّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها .
ثم يقول سبحانه في ختام الآية : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ المؤمنون : 78 ] لأن هذه نِعَم وآلاء وآيات لله ، كان ينبغي أن تشكر حَقَّ الشكر .
(1/6218)

البعض يقول في معنى { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ المؤمنون : 78 ] أنه تعالى عبَّر عن عدم الشُّكْر بالقلة ، وهذا الفهم لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى أثبت لعباده شكراً لكنه قليل ، وربك - عز وجل - يريد شكراً دائماً يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك ، فساعة ترى الأعمى الذي حُرِم نعمة البصر يتخبَّط في الطريق تقول الحمد لله ، تقولها هكذا بالفطرة؛ لأنك تعيش وتتقلب في نعَم الله ، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى مَنْ حُرِم منها .
لذلك ، إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر الله المنعم قُلْ عند النعمة ، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أَلاّ ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا : إنْ أردتَ صيانة النعمة فلا تنسَ المنعِمَ؛ لأنه وحده القادر على حِفْظها وصيانتها ، وجعلتَ حفظها إلى مَنْ صنعها . ولا يُصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعم وترك الشُّكْر عليها .
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله ، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية ، وفي أحد الأعوام زرعه قطناً ، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه ، فكلَّمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له : يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني : أُخرِج منها الزكاة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض . . } .
(1/6219)

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{ ذَرَأَكُمْ . . } [ المؤمنون : 79 ] بثكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمر كلها ، وتعجب حين ترى أناساً متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء ، ولا يرضون بها بديلاً ، ويتحملون في سبيل البقاء بها العَنَت والمشقة ، حتى إنك لتقول : لماذا لا يتركون هذا المكان إلى مكان خصب .
وقد رأينا مثل هؤلاء الذين صبروا على أقدار الله في بلادهم ، رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها سيل العرم ، وكانت تُسمَّى " اليمن السعيد " ورأيناهم في السعودية وفي الكويت ، وحكى لنا أهل هذه البلاد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة ، ثم جاءتهم عاقبة صبرهم ، وجعل الله - سبحانه وتعالى - هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلاد الدنيا؛ لأنهم رَضُوا في الأولى بقضاء الله ، فأبدلهم بصبرهم على لأواء الصحراء نعيماً ، لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد .
ذلك لأن الخالق - عز وجل - نثر خيراته في كل أنحاء الأرض بالتساوي ، فكل قطعة طولية من الأرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الأخرى ، وفي يوم من الأيام كان أصحاب الزرع هم أصحاب المال وأصحاب السيادة ، ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة ، فالخيرات - إذن - مطمورة في أنحاء الأرض لكن لها أوان تظهر فيه .
إذن : فبَثُّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الأرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ المؤمنون : 79 ] يعني : لا تفهموا أنكم بنشركم في الأرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا ، أو أننا لا نقدر على جمعكم مرة أخرى ، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة لا يخرج من أيدينا أحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف . . } .
(1/6220)

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{ يُحْيِي وَيُمِيتُ . . } [ المؤمنون : 80 ] فِعْلان لا بُدَّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت ، فالخالق - عز وجل - يُوجِد الحياة أولاً ، ويوجد الموت ، ثم يجري حدثاً منهما على ما يريده .
والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات ، إلا في آية واحدة في سورة تبارك : { الذي خَلَقَ الموت والحياة . . } [ الملك : 2 ] وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِيء الحركة في كل أجهزته ، ولك أن تتأمل : ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات ، ودون أن تباشر أي شيء .
إذن : بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك ، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة ، فكيف نستبعد هذا في حقِّه - سبحانه وتعالى - ونكذب أنه يقول للشيء : كُنْ فيكون ، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة ، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئاً ، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء : كُنْ فيكون ، وأنت تفعل دون أن تقول .
وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية : { الذي خَلَقَ الموت والحياة . . } [ الملك : 2 ] ؛ لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غروراً في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى ، فأراد ربه - عز وجل - أن يُنبهه : تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها ، فيستقيم في حركة الحياة .
وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئاً أو يميت شيئاً؛ لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا ، ولله المثل الأعلى : الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول : إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة ، فلولا صفة الشعر فيه ما قال .
وكما أن الحياة مخلوقة ، فالموت كذلك مخلوق ، وقد يقول قائل : إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلاً فقد خلقتَ الموت .
نقول : الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت ، لكن فَرْق بين الموت والقتل ، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح ، أما الموت فتخرج الروح أولاً دون نَقْض للبنية .
لذلك يقول سبحانه : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ . . } [ آل عمران : 144 ] .
والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم - عليه السلام - في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر ، وادَّعى أنه أحيا هذا ، وأمات هذا ، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها ، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم- عليه السلام - هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه .
إذن : هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لأن للروح مواصفات خاصة ، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة ، وقد أوضحنا هذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بلمبة الكهرباء ، فقوة الكهرباء كامنة في الإسلاك لا نرى نورها إلا وضعنا اللمبة مكانها ، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات ، فإنْ كُسِرَت ينطفيء نورها .
(1/6221)

ثم يقول تعالى : { وَلَهُ اختلاف الليل والنهار . . } [ المؤمنون : 80 ] الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظُّلْمة التي تمنع رؤية الأشياء ، وقديماً كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي ، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ، فأثبت خطأ هذه النظرية ، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه ، بدليل أنك لا ترى الشيء إنْ كان في الظلام .
وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لا بُدَّ منه لنهتدي إلى حركة الحياة ، والإنسان يواجه خطورة إنْ سار في الظلام؛ لأنه إمِّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه ، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه .
إذن : لا بُدَّ من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسَّعْي في مناكب الأرض ، وكذلك لا بُدَّ من الظُّلْمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم ، فيستريح من عناء العمل ، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان .
لذلك يقول تعالى : { وَلَهُ اختلاف الليل والنهار . . } [ المؤمنون : 80 ] فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون ، يقول تعالى : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1 - 2 ] وطالما أن لكل منهما مهمته ، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار ، أو النهار إلى ليل؛ لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها ، وانظر إلى هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر ، وينامون النهار حتى المغرب ، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة ، فالتلميذ ينام في الدرس ، والعامل ينام ويُقصِّر في أداء عمله .
والنبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله : " . . . أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " لأن الجسم لا يأخذ راحته ، ولا يهدأ إلا في الظلمة ، فيصبح الإنسان قوياً مستريحاً نشيطاً ، واقرأ قول الله تعالى : { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10 - 11 ] .
ومن دِقَّة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلاً ، وتقتضي طبيعة أعمالهم السَّهَر ، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم ، فيقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار . . } [ الروم : 23 ] فالليل هو الأصل ، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلاً؛ لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلاً صناعياً ، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء .
إذن : الليل والنهار ليسا ضِدّيْن ، إنما هما خَلْقان متكاملان لا متعاندان ، وهما كالذكَر والأنثى ، يُكمل كل منها الآخر ، لا كما يدَّعي البعض أنهما ضدان متقابلان؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى ، وبالنهار إذا تجلَّى ، قال :
(1/6222)

{ وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 3 - 4 ] فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة .
واختلاف الليل والنهار من حيث الضوء والظُّلْمة والطول والقِصَر وفي اختلاف الأماكن ، فالليل لا ينتظم الكون كله ، وكذلك النهار ، فحين يكون عندك لَيْل فهو عند غيرك نهار ، يقول تعالى : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل . . } [ فاطر : 13 ] .
وينتج عن هذا تعدُّد المشارق والمغارب بتعدُّد الأماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب ، وكل مغرب يقابله مَشْرق ، لدرجة أنهم قالوا : ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية .
وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ذِكْر الله على مدى الوقت كله ، بحيث لا ينتهي الأذان ، ولا تنتهي الصلاة في الكون لحظة واحدة ، فأنت تصلي المغرب ، وغيرك يصلي العشاء . . وهكذا . إذن : فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكوراً في كل الكون بجيمع أوقات الصلاة في كل وقت .
حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطباً الزمن : يا زمن وفيك كل الزمن . يعني : يا ظهر وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر ، لكن عند غيري .
ومن اختلاف الليل والنهار ينشأ أيضاً الصيف الحار والشتاء البارد ، والحق سبحانه وتعالى كلف العبيد كلهم تكليفاً واحداً كالحج مثلاً ، وربط العبادات كلها بالزمن الهجري ، فالصيف والشتاء يدوران في الزمن ، ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلادي ، وبذلك مَنْ لم يناسبه الحج في الصيف حَجَّ في الشتاء؛ لأن اختلاف التوقيت القمري يُلون السنة كلها بكل الأجواء .
لذلك قالوا : إن ليلة القدر تدور في العام كله؛ لأن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول يناير ، ومرة يوافق الثاني ، ومرة يوافق الثالث ، وهكذا .
ومن اختلاف الليل والنهار أنهما خِلْفة ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] .
فنحن نرى الليل يخلُف النهار ، والنهار يخلُف الليل ، لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها ، فما دام الحق - سبحانه وتعالى - جعل الليل والنهار خِلْفة ، فلا بُدَّ أن يكون ذلك من بداية خلقهما ، فلو وُجِد الليل أولاً ثم وُجِد النهار ، فلا يكون الليل خِلْفة؛ لأنه لم يسبقه شيء ، فهذا يعني أنهما خُلقا معاً ، فلما دار الزمن خلف بعضهما الآخر ، وهذا لا ينشأ إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة ، بحيث يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد ، فالذي واجه الشمس كان نهاراً ، والذي واجه الظلمة كان ليلاً .
ثم يقول سبحانه : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ المؤمنون : 80 ] لأن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة ، وقد كانت اختلافات الأوقات مَبْنية على التعقل ، أما الآن فهي مَبْنية على النقل ، حيث تقاربت المسافات ، وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد .
كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الأرض ، حتى بعد أن التقطوا لها صوراً أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك .
(1/6223)

ونقول : لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول؟ ولماذا نعطي الآخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل ، مع أنه قد سبق كل هذه الاكتشافات؟
ولو تأملتَ قوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض . . } [ الرعد : 3 ] لوجدت فيه الدليل القاطع على صِدْق هذه النظرية؛ لأن الأرض الممدودة هي التي لا تنتهي إلى حافة ، وهذا لا يتأتّى إلا إذا كانت الأرض كروية بحيث تسير فيها ، لا تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت ، ولو كانت الأرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية . لكن لم تتوفر لنا في الماضي الآلات التي تُوضِّح هذه الحقيقة وتُظهرها .
إذن : الحق سبحانه في قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ المؤمنون : 80 ] ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول في المسائل الكونية؛ لأنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى الله عز وجل ، ولماذا يُعمِل الإنسان عقله ويتفنّن مثلاً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط؟ لكن الله تعالى يكون له بالمرصاد فيُوقِعه في مَزْلَق ، فيترك وراءه منفذاً لإثبات جريمته ، وثغرة تُوصِّل إليه؛ لذلك يقول رجال القضاء : ليست هناك جريمة كاملة ، وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى هذه الثغرة .
وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول : لقد استخدمتَ عقلك فيما لا ينبغي ، وسخَّرْته لشهوات نفسك ، فلا بُدَّ أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك ، فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى ، أو تظنّ أنك أفلتَّ بعقلك وترتيبك وإلاَّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها؛ لأنك لا تستطيع أن تُرتِّب بعقلك على الله ، وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب .
كما لو فُضِح إنسان بأمر هو منه بريء ، ولحقه الأذى والضرر بسبب هذه الإدانة الكاذبة ، فتأتي عدالة السماء فيستر الله عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الأولى ، وهذه مسألة لا يفعلها إلا رب .
والحق - سبحانه وتعالى - حينما يُنبِّه العقل ويثيره : تفكّر ، تدبّر ، تعقّل ، ليدرك الأشياء الكونية من حوله ، فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه؛ لذلك يثير العقول للبحث وللتأمل في هذه الصنعة .
وهذه المسألة نلاحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر ، فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى اختبارها والتأكد من جودتها على خلاف الصنعة الرديئة التي يلّفها لك صانعها ، ويصرفك عن تأملها حتى لا تكتشف عيبها .
فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الإثارة لتصل إلى مراده تعالى لك .
ثم يقول الحق سبحانه : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } .
(1/6224)

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
أي : لم يتعظوا بكل هذه الآيات ، بل قالوا مثلما قال الألون : { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً . . } .
(1/6225)

قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
وسواء أكان هذا قولهم أو قول سابقيهم من الأولين ، فقد كان الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية في مسألة البعث من الموت ، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك ، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر .
ولذلك قال قائلهم : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78 - 97 ] .
(1/6226)

لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
أتظنون أن الله تعالى إذا وعدكم بالموت ثم بالبعث أن هذا سيكون في الدنيا؟ لذلك تقولون : وُعِدْنا بهذا من قبل ولم يحدث ، وقد مات مِنّا كثيرون ولم يعودوا ولم يُبعَثُوا ، فَمَنْ قال لكم إنكم ستموتون اليوم وتُبعثون غداً؟
البعث لا يكون إلا بعد أن يموت جميع الخَلْق ، ثم يُبعثوا كلهم مرة واحدة .
إذن : هذا الكلام منهم مجرد سفسطة وجدل لا معنى له .
وكلمة { وُعِدْنَا . . } [ المؤمنون : 83 ] يعني بالبعث ، والوعد عادة يكون بالخير ، كما أن الوعيد يكون بالشر ، كما جاء في قول الشاعر :
وإنِّي إذَا أَوْعدتُه أَوْ وَعدتُه ... لَمخِلفُ إيعَادِي ومُنجِزُ موْعِدي
يعني : هو رجل كريم يترك الشر الذي توعّد به ، ويفعل الخير الذي وعد به ، وإن قال العلماء : قد يستعمل هذا مكان هذا .
لكن ، هل الوعد للكفار بالبعث وما يتبعه من عذاب وعقاب يُعَدُّ وَعْداً؟ قالوا : نعم يعد هذا الشر وهذا العذاب الذي ينتظر وَعْداً بالخير لأنه يُنبههم ويَلفتهم إلى خطورته حتى لا يقعوا فيه إذن : هو خير لهم الآن حيث يُحذِّرهم كما تحذر ولدك من الرسوب إنْ أهمل في دروسه .
ومن ذلك أيضاً في هذه المسألة ما أشرنا إليه من تكرار قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] في سورة الرحمن ، وأنها جاءت بعد ذِكْر نعم الله على سبيل التوبيخ لمَنْ أنكر هذه النعم أو كذَّب بها ، وتكررت مع كل نعمة تأكيداً لهذا التوبيخ ، لكن العجيب أن تذكر هذه الآية حتى بعد النقم أيضاً ، كما في قوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . . } [ الرحمن : 35 - 36 ] .
وهل في النار والشُّواظ نعمة؟ نقول : نعم فيها نعمة؛ لأنها نصيحة لك قبل أن تقع في هذا المصير وتحذير لك في وقت التدارك حتى تراجع نفسك .
وقولهم : { إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } [ المؤمنون : 83 ] { إِنْ هاذآ . . } [ المؤمنون : 83 ] يعني : ما هذا . وأساطير جمع أسطورة مثل : أعاجيب وأعجوبة ، هناك مَنْ يقول : إن أساطير جمع سطر أسطار أساطير مثل شكل وأشكال ، فهي جَمْع للجمع . وسواء أكانت جَمْع أسطورة أو جمع سطر ، فالمعنى لا يختلف؛ لأن الشيء المسطور قد يعتبره الناس خرافة وكلاماً لا معنى له .
والأساطير هي الكلام المكذوب الذي لا أصلَ له ، فلا يُسمَّى الكلام أسطورة إلا إذا جاء وقته ولم يحدث ، فلَكَ أن تقول أساطير إنما البعث الذي تقولون عنه { أَسَاطِيرُ الأولين } [ المؤمنون : 83 ] لم يأت وقته بعد ، فلم يمت جميع الخَلْق حتى يُبعثوا ، فقد أخطأتم التوقيت وظننتم أنكم في الدنيا تموتون وتبعثون هكذا على رؤوس الأشهاد ، والناس ما زالت في سعة الدنيا .
إذن : ليس البعث كما تقولون ، بل هو حق ، ولكنكم لم تضعوا له الكلمة المناسبة؛ لذلك يوجه إليهم هذه الأسئلة التقريرية التي تقيم عليهم الحجة : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ . . } .
(1/6227)

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
ويأتي في السؤال بإن الشرطية الدالة على الشك في كونهم يعلمون .
(1/6228)

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
فما دُمْتم أقررتم بأن الأرض ومَنْ فيها لله { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ المؤمنون : 85 ] يعني : ما الذي صرفكم عن مالك الأرض وخالقها؟
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع . . } .
(1/6229)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
نلحظ أنهم لم يجادلوا في هذه المسألة ، ولم يقولوا مثلاً إنها سماء واحدة هي التي نراها ، مما يدل على أنها أمر غير منكور عندهم ، ولا بُدَّ أن الأنبياء السابقين قد أخبروهم خبر السماء ، وأنها سبع سموات ، وأصبحت عندهم قضية عقلية يعرفونها ، وإلا كان بوُسْعهم الاعتراض ، حيث لا يرون إلا سماءً واحدة . إذن : لم يجادلوا في هذا الموضوع .
وقوله تعالى : { وَرَبُّ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] العرش مخلوق عظيم لا يعلم كُنْهه إلا الله الذي قال فيه { ثُمَّ استوى عَلَى العرش . . } [ الأعراف : 54 ] وقال { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء . . } [ هود : 7 ] .
والعرش لم يَرَهُ أحد ، إنما أخبر عنه ربه الذي خلقه ، فقال : لي كذا ولي كذا ، ويكفي أن الله تعالى وصفه بأنه عظيم . وفي هذه أيضاً لم يجادلوا رسول الله ولم يقولوا إننا لم نَرَ العرش ، مما يدل على أن عندهم حصيلة من تراث الأنبياء السابقين انتقلت إليهم فطرة من فطر التكوين البشري في السماع من الموجودين .
وقد وصف العرش بأنه عظيم عند البشر أيضاً ، ففي قصة سليمان وملكة سبأ قال الهدهد : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] لأن العرش رمزية لاستقرار الملْك واستتباب الأمر لِلْمَلك الذي لا ينازعه في مُلْكه أحد ، ولا يناوشه عليه عدو؛ لذلك أول ما قال سليمان - عليه السلام - في أمرها قال : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا . . } [ النمل : 38 ] وكأنه يريد أن يسلب منها أولاً رمز العظمة والأمن والأمان والاستقرار في الملك .
ثم يقول الحق سبحانه : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } .
(1/6230)

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
فما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تعترفون بأن لله مُلْكَ السموات والأرض ، وله العرش العظيم ، فلماذا لا تتقون هذا الإله؟ لماذا تتمردون على منهجه؟ إن هذا الكون كله بما فيه خُلِق لخدمتك ، أفلا يلفتك هذا إلى الصانع المنعم .
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي : " يا ابْن آدم ، خلقت الأشياء كلها من أجلك ، وخلقتُك من أجلي ، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له " يعني : لا تُلْهِك النعمة عن المنعم . وعلى العبد أن ينظر أولاً إلى خالقه ومالكه ، فيؤدي حقه ، ثم ينظر إلى ما يملك هو .
ومعنى : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 87 ] الاتقاء : أن تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية ، وسبق أن قُلْنا : من عجيب آيات القرآن أن تقول مرة ( اتقوا الله ) ومرة ( اتقوا النار ) ، والمعنى لا تعارضَ فيه كما يظنه البعض ، بل المعنى واحد؛ لأن النار جُنْد من جنود الله ومن صفات جلاله ، فالمراد : اتقوا عذاب الله ، واتقوا صفات القهر والجبروت بأن تجعل بينك وبينها وقاية .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ . . } .
(1/6231)

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
معنى : { بِيَدِهِ . . } [ المؤمنون : 88 ] تدل على التمكّن من الشيء ، كما تقول : هذا الأمر في يدي يعني في مُكْنتي وتصرفي ، أقلبه كيف أشاء { مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ . . } [ المؤمنون : 88 ] مادة ملك منها مِلْك ، ومنها مُلْك ، ومنها ملكوت .
المِلْك ما تملكه أنت ، حتى لو لم يكن عندك إلا ثوب واحد فهو مِلْك ، أمّا مُلْك فيعني أنْ تملك مَنْ يملك ، وهذا يكون ظاهراً . أما الملكوت فالأشياء المخلوقة التي لا تقع عليها حواسُّك ، ولا يمكن أن تعلم عنها شيئاً إلا بإخبار خالقها ، والإنسان لا يرى كل ما في الكون ، بل إن في نفسه وذاته أشياءً لا يعرفها ، فهذا كله من عالم الملكوت .
بل إن الإنسان لا يرى حتى المُلْك الظاهر المحسّ؛ لأنه لا يرى منه إلا على قَدْر مَدِّ بصره ، وما خرج عن هذا النطاق لا يراه ، وإن كان يراه غيره ، ويمكن أن يدخل هذا المُلك الذي لا تراه في دائرة الملكوت بمعناه الواسع .
إذن : الملكوت يُطلق على الأشياء المحجوبة التي لا يراها أحد ، أو على الأشياء التي يراه واحد دون الآخر .
والإنسان إذا تعمَّق في عبادة الله وفي طاعته يفيض عليه من التجليات ، ويعطيه من هذا الملكوت عطاءً مباشراً ، كما قال : { مِّن لَّدُنَّآ . . } [ النساء : 67 ] .
ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال عنه ربه { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] وقال عنه : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ . . } [ البقرة : 124 ] يعني : يؤدي ما لله بدقة وعلى الوجهِ الأكمل؛ لذلك يأتمنه ربه على أن يكون إماماً للناس { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً . . } [ البقرة : 124 ]
فلما أحسن إبراهيمُ ما بينه وبين ربه وبلغ هذه المنزلة قال عنه ربه : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض . . } [ الأنعام : 75 ] .
لأنه أحسن في الأولى فرقى إلى أعلى منه . كما لو دخل رجل بيتك وشاهد ما عندك من نعيم ، ففرح لما أنت فيه ، وقال : ما شاء الله تبارك الله ، ودعا لك بالزيادة ، فلما رأيت منه ذلك قلت له إذن : تعالى أريك ما هو أعظم .
كذلك العبد الصالح الذي عبد الله وتقرَّب إليه بمنهج موسى عليهما السلام ، فلما استقام على هذا المنهج وتعمَّق في عبادة الله وطاعته أعطاه الله من علمه اللدنيّ دون واسطة ودون رسول ، حتى كان هو مُعلِّماً لموسى عليه السلام .
ثم يقول سبحانه : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ . . } [ المؤمنون : 88 ] يجير : تقول : استجار بفلان فأجاره يعني : استغاث به فأغاثه ، ومنه قوله تعالى : { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ . . } [ الأنفال : 48 ] والإنسان لا يستجير بغيره إلا إذا ضعُفَتْ قوته عن حمايته ، فيلجأ إلى قوي يحميه ويدافع عنه .
إذن : هذه المسألة لها ثلاثة عناصر : مجير ، وهو الذي يقبل أن يغيثك ويحتضنك ويدافع عنك .
(1/6232)

ومُجَار : وهو الضعيف الذي يطلب الحماية . ومُجَار عليه : وهو القوي الذي يريد أن يبطش . ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف وبعد أنْ فعلوا به صلى الله عليه وسلم ما فعلوا استجار ، ودخل في حمى كافر .
فالحق - سبحانه وتعالى - يجير مَنِ استجار به ، ويغيث مَن استغاثة لكن { وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ . . } [ المؤمنون : 88 ] لأن الذي يجيرك إنما يجيرك من مساوٍ له في القوة ، فيستطيع أن يمنعك منه ، ويحميك من بطشه ، فَمنْ ذا الذي يحميك من الله؟ ومَنْ يجيرك إنْ كان الله هو طالبك؟!
لذلك يقول سبحانه في مسألة ابن نوح : { قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ . . } [ هود : 43 ] فالله - عز وجل - يجير على كل شيء ، ومن أصبح وأمسى في جوار ربه فلا خوف عليه .
وتلحظ هنا العلاقة بين صَدْر هذه الآية وعَجُزها : فالله تعالى بيده وفي قبضته سبحانه كل شيء ، والأمر كله إليه ، فإياك أنْ تظن أنك تلفت من قبضته بالنعمة التي أعطاك؛ لأنه سبحانه قادر أن يسلبك إياها ، وساعتها لن يجيرك أحد ، ولن يغيثك من الله مغيث ، ولن يعصمك من الله عاصم .
ثم قرأ قوله تعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] .
وهنا أيضاً يقول سبحانه : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 88 ] إنْ كان عندكم علم بهذه المسألة ووصلت إليكم وعاينتموها .
ثم يقول الحق سبحانه عنهم : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } .
(1/6233)

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
ففي هذه أيضاً يقولون " لله "؛ لأنه واقع ملموس لا يُنكَر ، وطالما أن الأمر كذلك { فأنى تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 89 ] كيف تسحرون أو أسُحِرتم عن هذا الواقع وصُرِفتم عنه إلى هذا الكلام الباطل؟
هذه قضايا ثلاث جاءت على صورة سؤال لتدينهم بوضوح العقيدة في الوجود الأعلى ، وبوضوح البينات في إعجاز البلاغ عن الله ، وبوضوح الآيات في آيات المنهج ، وقد أراد الحق سبحانه أن يأتي الكلام منهم وبإقرارهم هم على أنفسهم؛ ليكون حجة وشهادة حَقٍّ عليهم .
ومعلوم أن الإقرار سيد الأدلة؛ لذلك سألهم : { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ . . } [ المؤمنون : 84 ] .
{ قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم } [ المؤمنون : 86 ] .
{ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ . . } [ المؤمنون : 88 ] .
وهم يقولون في هذا كله ( لله ) إذن : فماذا بقي لكم؟ ما الذي منعكم أن تتقوا الذي تؤمنون بأنه المالك للأرض وللسماء وبيده كل شيء؟ إنه مجرد استكبار وعناد وغطرسة ، وإلا فماذا تعني كلمة ( الله ) التي تنطقون بها؟
إنكم تعرفون الله ، وتعرفون مدلول هذه الكلمة؛ لأن مدلول الكلمة سابق على وجودها في لغة البشر ، فاللغة عادة ألفاظ توضع لمعانٍ تدل عليها ، فالمعنى يوُجدَ أولاً ، ثم نضع له اللفظ الدالّ عليه ، وما دام أن لفظ ( الله ) يدور على ألسنتكم ولا بُدَّ أنكم تعرفون مدلولة ، وهو قضية لغوية انتهيتم منها ، وإلا فالأمر العدمي لا اسم له . فالتليفزيون مثلاً : ما اسمه قبل أن يخترع؟ لم يكن له اسم؛ لأنه لم يكُنْ له معنى ، فلما وُجِد وُضِع له الاسم .
وحيث دارت الألسنة بكلمة الله فمعنى ذلك أنه تعالى موجود قبل وجود الاسم ، فالمسألة - إذن - حجة عليكم .
لذلك عرض الحق - سبحانه وتعالى - هذه القضايا في صورة سؤال لينتزع منهم الإقرار بها ، كما لو أنكر شخص جميلك فيه ، فإنْ قلتَ له على سبيل الإخبار : لقد قدمتُ لك كذا وكذا ، والخبر يحتمل الصِّدْق ويحتمل الكذب وله أن يعترف أو ينكر .
أما حين تقول له : ألم أُقدِّم لك كذا وكذا؟ على سبيل الاستفهام ، فإنه لا يملك إلا الاعتراف ، وينطق لك بالحق وبالواقع ، وتصل بإقراره إلى مَا لا تؤديه الشهادة أو البينة عليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ . . } .
(1/6234)

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
يعني : دعوني أخبركم عن أمرهم ، ولماذا أنكروا الحق ولم ينطقوا به ، إنهم ينكرون الحق لأنهم كاذبون ويريدون أنْ يُثبتوا أن ما هم عليه أمر طبيعي ، لماذا؟ لأنهم مستفيدون من الانحراف ومن الباطل؛ لذلك يقفون في وجه الرسالة التي جاءت لتعديل الميزان والقضاء على الانحراف والباطل ، ويلجئون إلى تكذيبها وصَرْف الناس عنها ليظلوا ينتفعون هم بالباطل .
لذلك تأمل : لماذا يُكذِّب الناس؟ يُكذِّبون لأنهم ينتفعون من الكذب ، ويتعبهم الصدق ، ويَضيِّق عليهم الخناق .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ . . } .
(1/6235)

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
يا ليت الأمر وقف بهم عند مجرد عدم الإيمان بالله ، إنما تعداه إلى أن وصفوا الله تعالى بما لا يليق من الصفات ، وما دام أن الله تعالى ينفي عن نفسه تعالى اتخاذ الولد { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] فلا بد أنهم قالوا : اتخذ الله ولداً ، فترقوا في فجورهم وطغيانهم ، وتجرأوا حتى على مقام العزة .
ونقول أولاً : ما الولد؟ الولد ما ينجبه الإنسان من ذكر أو أنثى ، وقد سمعنا هؤلاء يقولون : عيسى ابن الله ، والعزير ابن الله ، وقالوا عن الملائكة : بنات الله ، وقد قال تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] ليشمل البنين والبنات .
ومعنى { اتخذ الله مِن وَلَدٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] أن الله تعالى كان موجوداً ، ثم اتخذ له ولداً ، فاتخاذ الولد إذن حادث ، وهذا يعني أنه قد مرت فترة لم يتخذ الله له فيها ولداً ، لذلك نسأل : ما الذي زاد في مُلْك الله بوجود الولد؟ هل أصبحت السموات ثمانية؟ هل زاد في الكون شمس أخرى أو قمر؟ الكون كما خلقه الله تعالى ، وجعل فيه ضرورياته وأصوله وفروعه لم يزد فيه شيء . إذن فاتخاذ الولد عَبَثٌ لم يحدث منه شيء .
ويقولون : اتخذ الله الولد ليُؤْنس خَلْقه بوجود ولده وشيء من رائحته بين الخلق ، قالوا هذا في مؤتمر ( نيقية ) ، كأنه عندهم يقوم مقام الألوهية . لكن كم كانت مدة بقائه بينكم؟ لقد أقام المسيح في الأرض بضعاً وثلاثين سنة قبل أن يُرْفع ، فكيف يحرم من هذا الأنس مَنْ سبقوا ميلاده عليه السلام؟ وكيف يُحْرم منه مَنْ أتوا بعده؟
أليس في هذا ما يتعارض وعدالة الربوبية؛ لأن الخَلْق جميعاً خَلْق الله ، وهم عنده سواء؟
ومنهم مَنْ يقول : إنه جاء ليرفع الخطيئة ، لكن الخطيئة ما زالت في الأرض بعدما فعل ما فعل . إذن : فكلها حَجَج واهية .
ولو ناقشنا هذه المسألة مناقشةً منطقيةً فلسفيةً : لماذا يتخذ الإنسانُ الولدَ؟ يتخذ الإنسانُ الولدَ لأنه يحب الحياة ، وموته يختصر هذه الحياة ، فيريد الولد ليكون امتداداً لحياته ، ويضمن به بقاء الذكْر جيلاً من بعده ، فإنْ جاء للولد ولد ضمن جيلين؛ لذلك يقولون " أعزّ من الوِلْد وِلْد الولد " . لكن أي ذِكْر هذا الذي يتمسَّكون به؟ إن الذكر الحقيقي ما تخلفه من بعدك من عمل صالح يسبقك عند الله .
والحق - سبحانه وتعالى - لا يحتاج إلى ذِكْر من بعده تعالى؛ لأنه باقٍ لا يموت ، فهذه المسألة إذن ممنوعة في حقِّه تَعالى .
وقد يتخذ الولد ليكون سنداً وعَوْناً لأبيه حين يكبر وتضعف قواه؛ لذلك يقولون : خير الزواج الزواج المبكر؛ لأنه يساعدك على إنجاب أب يعولك في طفولة شيخوختك؛ لأنك تنجب طفلاً وأنت صغير ، فيعاصرك أكبر مدة من الزمن ، وتطول به قُرّة عينك في خلاف مَنْ ينجب على كِبَر؛ لذلك قال : أب يعولك في طفولة شيخوختك ولم يقل ابناً لأنك في هذه الحال تحتاج إلى حنان الأب .
(1/6236)

وهذه أيضاً ممتنعة في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه القوي ، الذي لا يحتاج إلى معين ، ولا إلى عزوة .
مسألة أخرى : أن الإنسان يحب الولد؛ لأنه بَعْضٌ منه ، وهو سبب في وجوده ، فيحب أن يكون له ولد من صُلْبه ، وهذا فرع من حُبِّه للتملُّك ، فالإنسان أول ما يحب يحب أن تكون له أرض ، ثم يحب أن يزرعها ويأكل من خيراتها ، ثم يحب أن تكون له حيوانات يشرب لبنها ويستفيد منها ، ثم إنْ تَمَّ له هذا كله يتطلع إلى الولد ، وكأنه تدرَّج من حب الجماد إلى النبات ، إلى الحيوان ، إلى الإنسان .
وهذه المسألة أيضاً لا تجوز في حقه تعالى ، فإنْ أحببتَ الولد ليكون جزءاً منك ومن صُلْبك تعتز به وببُنوته ، فالخَلْق جميعاً عيال الله وأولاده ، فكيف يحتاج إلى الولد بعد ذلك؟
إذن : كلها حجج ومسائل باطلة؛ لذلك رَدَّ الله عليهم { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] وأتى بِمِنْ الدالة على العموم ، يعني : ما اتخذ الله شيئاً من بداية مَا يُقال له ولد ، ولو كان حتى مُتبنَّى ، كما تقول : ليس عندي مال ، فتنفي أن يكون عندك مال يُعْتد به أو ذو قيمة ، لكن هذا لا يمنع أن يكون عندك عدة جنيهات أو قروش . فإنْ قلت : ما عندي من مال ، فقد نفيتَ أنْ يكون عندك أقلّ ما يُقَال له مال .
ونردّ بهذه المسألة على مَنْ يقول أن ( من ) هنا زائدة؛ لأن كلام الله دقيق لا زيادة فيه ، الزيادة في كلام البشر ، والحق سبحانه مُنزَّه عن هذه المسألة .
ثم يرتقي بنا الحق سبحانه في الردِّ عليهم فيقول : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] يعني : معبود بحق أو بغير حق؛ لذلك سمّى الأصنام آلهة ، لكن كلمة الله انصرفت إلى المعبود بحق سبحانه وتعالى ، فنفى الحق سبحانه الشركاء معه في العبادة ، كما جاء في موضع آخر : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا . . } [ الأنبياء : 22 ] .
يعني : لو كان فيهما آلهة الله خارج منها لَفَسدت السماء والأرض ، وكذلك لو كان فيهما آلهة مع الله لَفسدتَا أيضاً؛ لأن إلا هنا ليست استثنائية ، إنما هي اسم بمعنى غير ، وقد ظهر إعرابها على لفظ الجلالة بعدها ( الله ) .
ومسألة تعدُّد الآلهة لو تأملتها لَبانَ لك بطلانها ، فإنْ كان مع الله آلهة لاقتسموا هذا الكون فيما بينهم ، وجعلوه قطاعات ، يأخذ كل منهم قطاعاً فيه ، فواحد للأرض ، وآخر للسماء ، وثالث لما بين الأرض والسماء وهكذا .
ولكن ، هل يستغني قطاع من الكون عن الآخر؟ اتستغني الأرض عن السماء؟ إذن : سيحدث تضارب لا يستقيم معه حال الكون .
(1/6237)

كذلك نقول : الإله الذي أخذ الأرض مثلاً ، لماذا لم يأخذ السماء؟ لا بُدَّ أنه أخذ الأرض بقُوَّته ، وترك السماء لعجزه ، ولا يصلح إلهاً مَنْ وُصِف بهذه الصفة ، فإن قالوا : إنهم جميعاً أقوياء يستطيع كل واحد منهم أن يخلق الخَلْق بمفرده نقول : إذن ما فائدة الآخرين؟
ثم يقول سبحانه : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] يعني : لو استقل كل منهم بقطاع من الكون دون الآخر لَفَسدتْ الأمور ، كما رأينا في دنيا البشر أن يحاول أحد الملوك أنْ يستقلّ بقطاع من الأرض لا حَقَّ له فيه ، ورأينا ما أحدثه من فساد في الأرض ، هذا مثال لقوله تعالى : { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . } [ المؤمنون : 91 ] وهي صورة من صور الفساد .
لذلك يعالج الحق سبحانه هذه القضية ويعلنها على الملأ : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم . . } [ آل عمران : 18 ] .
فليس هذا كلامنا ، وليست هذه شهادتنا ، بل كلام الله وشهادته سبحانه لنفسه ، لكن هل علم هؤلاء الآلهة بهذه الشهادة؟ إنْ علموا بهذه الشهادة فسكوتهم عليها وعدم اعتراضهم عَجْز ، وإن لم يدروا فَهُم غافلون نائمون ، ففي كلتا الحالتين لا يصحّ أن يكونوا آلهة .
وفي موضع آخر يردّ عليهم الحق سبحانه : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً . . } [ الإسراء : 42 ] يعني في هذه الحالة { لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] يعني : ذهبوا يبحثون عن الإله الذي أخذ منهم الكون ، وتعدَّى على سلطانهم ، إما ليجابهوه ويحاكموه ، وإما ليتقربوا إليه .
لذلك سيقول عن الذين تدَّعون أنهم آلهة من دون الله : { يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة . . } [ الإسراء : 57 ] يعني : عيسى والعزير والملائكة الذين قلتم إنهم بنات الله ، هؤلاء جميعاً يتوسلون إلى الله ويتقربون إليه { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ . . } [ الإسراء : 57 ] .
وفي موضع آخر يقول تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون . . } [ النساء : 172 ] .
إنهم لا يستنكفون عن عبوديتهم لله ، بل يعتزون بهذه العبودية ، ويُغضبهم ويسوؤهم أن نقول عنهم آلهة ، أو نعطيهم من التقديس أكبر مما يستحقون؛ ذلك لأن ولاءهم وعصبيتهم لله تعالى أكبر من ولائهم وعصبيتهم لأنفسهم .
لذلك ، فإن هذه الأشياء التي يتخذونها آلهة من دون الله هي أول مَنْ يلعنهم ، فالأحجار التي عبدوها من دون الله - مع أن كلمة العبادة هنا خطأ ونقولها تجاوزاً؛ لأن العبادة طاعة العابد لأمر المعبود ، وانتهاؤه ينهيه ، والأحجار ليس لها أوامر وليس لها نَوَاهٍ - هذه الأحجار أعبد منهم لله ، وأعرف منهم بالله؛ لذلك تكرههم الحجارة وتلعنهم ، وتتحول عليهم في القيامة ناراً تَحْرقهم .
اقرأ هذا الحوار الذي يتنافس فيه غار حراء الذي شهد بداية الوحي وأَنِس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول آيات القرآن ، وغار ثور الذي احتمى فيه رسول الله عند الهجرة ، وكلاهما أحجار ، يقول الشاعر :
(1/6238)

كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرى ... الرُّوحَ أميناً يغْذُوكَ بالأنْوارِ
فَحِراءُ وثَوْرُ صَارَا سَوَاءً ... بهما اشْفع لدولةِ الأحجارِ
عَبدُونا ونَحْن أَعْبَدُ لله ... مِنَ القائمين بالأسْحَارِ
تَخِذُوا صَمْتنَا علينا دليلاً ... فغدَوْنا لهم وَقُودَ النارِ
قد تجنَّوا جَهْلاً كما قد تجنَّوْه ... علَى ابْن مريم والحَوارِى
للمُغَالِى جزاؤه والمغَالَى ... فيه تُنجيهِ رحمةُ الغَفارِ
لذلك يقول تعالى لعيسى عليه السلام : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله . . } [ المائدة : 116 ] .
فيقول عيسى : { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } [ المائدة : 116 ] .
نعم ، الله تعالى يعلم ما قال عبده ونبيه عيسى ، لكن يريد أنْ يقر عليهم بأنه كاره لقولهم هذه الكلمة .
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما هُزِم الرومان من الفرس حزن لهزيمة الرومان ، لماذا؟ لأنهم أهل كتاب يعرفون الله ، ويعرفون البلاغ عن الله ، وإنْ كانوا كافرين به ، أما الفُرْس فكانوا مَجُوساً يعبدون النار؛ لذلك يُطمئنه ربه بقوله : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله . . } [ الروم : 1 - 5 ] .
فإنْ كانوا لا يؤمنون بمحمد ، فهم يؤمنون بربِّ محمد ، فالعصبية - إذن - لله أكبر من العصبية للرسول المبلّغ عن الله .
ثم يقول سبحانه : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91 ] .
يصفون بمعنى : يكذبون ، لكن عبَّر عنه بالوصف كأن المعنى : إنْ أردت أنْ تعرف الكذب فاسمع إلى كلامهم فهو الوصف الدقيق له ، وقال في موضع آخر : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب . . } [ النحل : 62 ] فكلامهم هو الكذب بعينه ، وهو أصدق وَصْف له؛ لأن الكذب ما خالف الواقع ، وهم لا يقولون إلا ما خالف الواقع .
كما لو سألت : ما الحماقة؟ فأقول لك : انظر إلى تصرفات فلان ، يعني : هي الوصف الصادق للحماقة ، والترجمة الواضحة لها ، وكأنه بلغ من الوصف مَبْلَغاً يُجسِّم لك المعنى الذي تريده .
ومعنى : { سُبْحَانَ الله . . } [ المؤمنون : 91 ] تنزه ، وهي مصدر وُجِد قبل أنْ يُوجَد المسيح ، فهي صفة لله تعالى أزلية ، حيث ثبت تنزيه الله قبل أن يخلق الخَلْق ، فلما خلق الله السماء والأرض سبَّحت لله : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض . . } [ الحديد : 1 ] ولم ينقطع التسبيح بعد ذلك ، قال الحق سبحانه : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . } [ الجمعة : 1 ] .
وما دام الكل يُسبّح لله ، وما زال مُسبِّحاً ، فسبِّح أنت يا محمد : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] .
فكيف يكون الكون كله مُسبِّحاً ، ولا تُسبِّح أنت ، وأنت سيد هذا الكون؟
ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته العلية : { عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى . . } .
(1/6239)

عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
العلم : إدراك قضية أو نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل ، ولا يصل إلى العلم إلا بهذه الشروط ، فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وواقعة ، لكن لا تستطيع أن تُدلِّل عليها كالطفل حين يقول : الله أحد ، فهذا تقليد كما يُقلِّد الولدُ أباه أو معلمه ، فهو يُقلِّد غيره في هذا المسألة إلى أنْ يوجد عنده اجتهاد فيها ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها .
فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وليست واقعة ، فهذا هو الجهل ، فليس الجهل كما يظن البعض الاَّ تعلم ، إنما الجهل أن تجزم بقضية مناقضة للواقع .
لذلك تجد الجاهل أشقّ وأتعب لأهل الدعوة وللمعلمين من الخالي الذهن الذي لا يعرف شيئاً ، ليست لديه قضية بدايةً ، فهذا ينتظر منك أن تُعلِّمه ، أمّا الجاهل فيحتاج إلى أن تُخرِج من ذِهْنه القضية الخاطئة أولاً ، ثم تضع مكانها الصواب .
والغيب : المراد به الغيب المطلق يعني : ما غاب عنك وعن غيرك ، فنحن الآن مشهد لمن حضر مجلسنا هذا ، إنما نحن غيب لمن غاب عنه ، وهذا غيْب مُقيد ، ومنه الكهرباء والجاذبية وغيرهما؛ لأن هذه الأشياء كانت غَيْباً عَمَّنْ قبلنا مع أنها كانت موجودة ، فلما توصلنا إلى مقدماتها ظهرت لنَا وصارت مشهداً؛ لذلك قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ . . } [ البقرة : 255 ] .
فأثبت الإحاطة للناس لكن بشرط مشيئته تعالى ، فإنْ شاء أطلعهم على الغيب ، وأوصلهم إلى معرفته حين يأتي أجل ميلاده وظهوره .
إذن : المعلوم لغيرك وغَيْب عنك ليس غيباً ، وكذلك الغيب عنك وله مقدمات تُوصِّل إليه ليس غيباً ، إنما الغيب هو الغيب المطلق الذي غاب عنك وعن غيرك ، والذي قال الله تعالى عنه : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ . . } [ الجن : 27 ] .
والشهادة : يعني المشهود ، لكن ما دام الحق سبحانه يعلم الغيب ، فمِنْ باب أَوْلَى يعلم المشهود ، فلماذا ذكر الشهادة هنا؟ قالوا : المعنى : يعلم الغيب الذي غيِّب عني ، ويعلم الشهادة لغيري .
ومن ناحية أخرى : ما دام أن الله تعالى غيْب مستتر عنا ، وهناك كوْن ظاهر ، فربما ظن البعض أن المستتر الغيب لا يعلم إلا الغيب ، فأراد - سبحانه وتعالى - أن يؤكد على هذه المسألة ، فهو سبحانه غيب ، لكن يعلم الغيب والشهادة .
ونرى من الناس مَنْ يحاول أن يهتك ستار الغيب ، ويجتهد في أن يكشف ما استتر عنه ، فيذهب إلى العرافين والمنجِّمين وأمثالهم ، وهو لا يدري أن الغيب من أعظم نِعَم الله على خَلْقه ، فالغيب هو علة إعمار الكون ، وبه يتم التعامل بين الناس ، ذلك لأن الإنسان ابن أغيار ، كثير التقلُّب ، ولو علم كل منا وكُشِف له ما عند أخيه لتقاطع الناس ، وما انتفع بعضهم ببعض .
لذلك يقولون : لو تكاشفتم ما تدافنتم .
(1/6240)

يعني : لو كُشِف لك عما في قلب أخيك لَضننْتَ عليه حتى بدفنه بعد موته .
إذن : فجَعْل هذه المسائل غَيْباً مستوراً يُحنِّن القلوب ، ويثري الخير بين الناس ، فينتفع كل منهم بالآخر ، وإلا لو عَلِمتَ لواحد سيئة ، وعرفتَ موقفه العدائي منك لكرهتَ حتى الخير الذي يأتيك من ناحيته ، ولتحرك قلبك نحوه بالحقد والغل ، وما انتفعتَ بما فيه من حسنات .
لذلك ، نقول لمن يبحث عن غيْب الآخرين : إنْ أردتَ أن تعرف غَيْب غيرك ، فاسمح له أن يعرف غَيْبك ، ولن تسمح له بذلك ، إذن : فدَعْ الأمر كما أراده الله ، ولا تبحث عن غَيْب الآخرين حتى تستقيمَ دفّة الحياة .
وربك دائماً يلفتك إلى النظر إلى المقابل ، ففي الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، دعوت على مَنْ ظلمك ، ودعا عليك مَنْ ظلمته ، فإنْ شئت أجبناك وأجبنا عليك ، وإن شئت تركتكما إلى الآخرة فيسعكما عفوي " .
فالحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يُصفِّي نفوس الخَلْق ، وأن يقف الناس عند حدود ما أطلعك الله عليه ، ولا تبحث عن المستور حتى لا تتعب نفسك ، حتى تواجه مشاكل الحياة بنفسٍ صافية راضية عنك وعن الناس .
ثم يقول الحق تعالى : { فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ المؤمنون : 92 ] لأن ما تشركونهم مع الله لا يعلمون شيئاً من هذا كله ، لا غَيْباً ولا شهادة؛ لذلك لا ينفعك إنْ عبدتْه ، ولا يضرك إنْ لم تعبده .
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي . . } .
(1/6241)

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{ قُل . . } [ المؤمنون : 93 ] أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { رَّبِّ . . } [ المؤمنون : 93 ] منادى حُذِفَتْ منه أداة النداء يعني : يا رب { إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } [ المؤمنون : 93 ] يعني : من العذاب { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين } [ المؤمنون : 94 ] أي : إن قدَّرتَ أن تعذبهم في حياتي فلا تُعذِّبهم وأنا فيهم .
وهذا من رقة قلبه صلى الله عليه وسلم ، وحين اشتد به إيذاء الكفار وعنادهم في أوَل الدعوة أرسل الله إليه الملائكة تعرض عليه الانتقام من قومه المكذِّبين به ، لكنه يأبى ذلك ويقول : " اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون " ويقول : " لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم مَنْ يقول : لا إله إلا الله " .
كما أن موقفه يوم فتح مكة واضح ومعروف؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسِل رحمة للعالمين .
لكن ، هل قال الرسول ودعا بهذا الدعاء لأنه يعتقد أن الله يجعله معهم حين ينزل بهم العذاب؟ نقول : لا؛ لأنه لم يقُلْ هذه الجملة من نفسه ، إنما أمره الله بها ، ولم يكُنْ رسول الله ليعتقد هذا الاعتقاد ، إذن : المسألة وَحْي من الله لا بُدَّ أن يُبلِّغه ، وأن يقولها كما قالها الله؛ لأن مدلولها رحمة به في ألاَّ يرى مَنْ يعذب ، أو من باب قوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً . . } [ الأنفال : 25 ] .
وهذا الدعاء الذي دعا به رسول الله يدفع عنه أيَّ خاطر يطرأ عليه ، ويطمئنه أن هذا الأمر لن يحدث .
وقوله : { إِمَّا تُرِيَنِّي . . } [ المؤمنون : 93 ] عبارة عن ( إنْ ) و ( مَا ) وهما يدلان على معنى الشرطية والزمنية ، فكأنه قال : قُلْ ساعةَ أن ينزل بهم العذاب : ربِّ لا تجعلني في القوم الظالمين .
(1/6242)

وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
أي : أننا قادرون على أن نُريك شيئاً مما وعدناهم به من العذاب ، لكنه ليس عذاب الاستئصال؛ لأن الله تعالى أكرم أمتك - حتى الكافر منها - بأن عافاها من هذا العذاب ، لأنه يأتي على الكافرين فلا يُبقِي منهم أحداً ، ويمنع أن يكون من ذريتهم مؤمن بالله . فهَبْ أن عذاب الاستئصال نزل بهم في بدر مثلاً ، أكُنَّا نرى المؤمنين منهم ومن ذرياتهم بعد بدر؟
إذن : لا يكون عذاب الاستئصال إلا إذا عَلِم الله تعالى أنه لا فائدة منهم ، ولا حتى من ذريتهم من بعدهم ، كما حدث مع قوم نوح ، أَلاَ ترى نوحاً عليه السلام يقول عنهم : { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] .
ولا يمكن أن يقول نوح هذا الكلام ، أو يحكم على قومه هذا الحكم إلا بوحْيٍ من الله؛ لأنه لا يستطيع أن يحكم على هذه القضية الكونية التي لا يعلمها إلا المكِّون الأعلى سبحانه ، فنحن نرى عُتَاة الكفر ورؤوس الضلال ، ثم يؤمنون بعد ذلك كله ويبْلُون في الإسلام بلاءً حَسَناً .
وانظر إلى عكرمة وخالد وعمرو بن العاص ، وكم تألَّم المؤمنون وحَزِنوا لأنهم أفلتوا من القتل ، لكن لله تعالى تدبير آخر ، وكأنه يدخرهم لخدمة الإسلام وحماية الدعوة .
فعكرمة بن أبي جهل يُظهِر شجاعة نادرة في موقعه اليرموك حتى يُطعَن طعنةَ الموت ، ويستند إلى عمر ويقول وهو يجود بروحه في سبيل الله : أهذه ميتة تُرضِي عني الله ورسوله؟ هذا في يوم الخندمة الذي قال فيه الشاعر :
إنَّك لَوْ شَاهَدت يَوْمَ الخنْدَمه ... إذْ فَرَّ صَفْوانُ وفَرَّ عِكْرمَه ... ولحقتْنَا بالسُّيوفِ المسْلمه ... يَفْلِقْنَ كُلَّ سَاعِد وجُمْجُمْه ... ضَرْباً فَلاَ تُسْمَعُ إلاّ غَمْغَمَه ... لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَهُ وحَمْحَمَه ... لَمْ تنْطِقي باللَّوْمِ أدْنى كِلمَه ... أما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد كان من أمرهما ما نعرف جميعاً .
(1/6243)

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ ادفع . . } [ المؤمنون : 96 ] تدل على المدافعة يعني : أمامك خصم يهاجمك ، يريد أن يؤذيك ، وعليك أن تدفعه عنك ، لكن دَفْع بالتي هي أحسن أي : بالطريقة أو الحال التي هي أحسن ، فإنْ أخذك بالشدة فقابِلْه باللين ، فهذه هي الطريقة التي تجمع الناس على دعوتك وتؤلِّفهم من حولك .
كما جاء في قوله تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ . . } [ آل عمران : 159 ] .
فإنْ أردتَ أن تعطفهم نحوك فادفع بالتي هي أحسن ، ومن ذلك الموقف الذي حدث من رسول الله يوم الفتح ، يوم أنْ مكّنه ربه من رقاب أعدائه ، ووقف أمامهم يقول : " يا معشر قريش ، ما تظنون أنَّي فاعل بكم؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
ونلحظ أنهم كلموه بما يستميل قلبه ويعطفه نحوهم ، وذكَّروه بأواصر القرابة والرحم ، وحدَّثوه بما يُحنِّن قلبه ، ولقّنوه ما ينتفعون هم به : أخ كريم وابن أخ كريم ، ولم يقولوا مثلاً : أنت قائد منتصر تستطيع أن تفعل بنا ما تشاء .
وفعلاً كان من هؤلاء ومن ذرياتهم نصراء للإسلام وأعوان لدعوة رسول الله .
وقصة فضالة الذي كان يبغض رسول الله ، حتى قال قبل الفتح : والله ما أحد أبغض إلىَّ من محمد ، وقد زاد غيظه من رسول الله حينما رآه يدخل مكة ويُحطِّم الأصنام ، فأراد أنْ يشقَّ الصفوف إليه ليقتله ، وبعدها قال : " فو الله ، ما وضعتُ يدي عليه حتى كان أحب خَلْق الله إلىَّ " .
لكن ماذا ندفع؟ ندفع ( السيئة ) . ونلحظ هنا أن ربنا - تبارك وتعالى - يدعونا أن ندفع السيئة بالتي هي أحسن ، لا بالحسن؛ لأن السيئة يقابلها الحسنة ، إنما ربك يريد أن يرتقي بك في هذا المجال ، فيقول لك : ادفع السيئة بالأحسن .
وفي موضع آخر يعطينا ثمرة هذا التصرُّف الإيماني : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ولو تأملتَ معنى هذه الآية لوجدتَ أن المجازاة من الله ، وليست ممّنْ عاملْتَه هذه المعاملة؛ لأن الله تعالى يقول : { كَأَنَّهُ . . } [ فصلت : 34 ] ولم يقل : يصبح لك ولياً حميماً .
ذلك لأنك حين تدفع بالتي هي أحسن يخجل منك صاحبك ، ويندم على إساءته لك ، ويحاول أنْ يُعوِّضك عنها فيما بعد ، وألاَّ يعود إلى مثلها مرة أخرى ، لكنه مع كل هذا لا يُسمَّى ولياً حميماً ، إنما هو ولي وحميم؛ لأنه كان سبباً في أنْ يأخذك ربك إلى جانبه ، ويتولاك ويدافع عنك .
لذلك لما شتم أحدهم الحسن البصري وسبَّه في أحد المجالس ، وكان في وقت رُطَب البلح أرسل الحسن إليه طبقاً من الرُّطَب وقال لخادمه : اذهب به إلى فلان وقُلْ له : لم يجد سيدي أثمن من هذا يهديه إليك ، وقد بلغه أنك أهديت إليه حسناتك بالأمس ، وهي بلا شك أعظم من هديتي تلك .
(1/6244)

إذن : من الغباء أن نتناول الآخرين بالهَمْز واللمز والطعن والغيبة؛ فإنك بهذا الفعل كأنك أهديتَ لعدوك حسناتك ، وأعطيتَ أعظم ما تملك لأبغض الناس إليك .
ألاَ ترى موقف الأب حين يقسو على ولده ، فيستسلم له الولد ويخضع ، أو يظلمه أخوه فيتحمل ظُلْمه ولا يقابله بالمثل ، ساعتها يحنو الأب على ولده ، ويزداد عطفاً عليه ، ويحرص على ترضيته ، كذلك يعامل الحق - تبارك وتعالى - العباد فيما بينهم من معاملات - ولله المثل الأعلى . لذلك قلنا : لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الجزاء لَضنَّ عليه بالظلم؛ لأنه سيظلمه من ناحية ، ويُرضيه الله من ناحية أخرى .
ويقال : إنه كان عند أحد الملوك رجل يُنفِّس فيه الملك عن نفسه ، فإنْ غضب استدعى هذا الرجل وراح يشتم فيه ويسبُّه أمام الناس حتى يهدأ ، فإذا أراد أن ينصرف الرجل أخذه على انفراد وأعطاه كيساً من المال ، وفي أحد الأيام احتاج هذا الرجل إلى مال ليقضي أمراً عنده ، فحاول أنْ يتمحّك ليصل إلى الملك ، ثم قال له : ألستَ في حاجة لأنْ تشتمني اليوم؟
فمسألتنا بهذا الشكل ، إذن : ما عليك إلا أنْ تدفع بالتي هي أحسن ، فإنْ صادفتَ من صاحبك مودة وصفاءً ، وإلا فجزاءُ الله لك أوسع ، وعطاؤه أعظم ، وما أجمل قول الشاعر حين عبَّر عن هذا المعنى :
يا مَنْ تُضَايِقه الفِعَال مِنَ التي ومِنَ الذيِ ... ادْفَعْ فدَيْتُكَ بالتي حَتَّى تَرَى فَإذَا الذِي
يعني : إن أردتَ الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؛ فاعمل بالتي هي أحسن .
ثم يقول سبحانه : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 96 ] معناه : أنت يا محمد تأخذ بحقك من هؤلاء إذا كنا نحن لا نعرف ما يفعلونه بك ، لكن الحال أننا نعرفه جيداً ونحصيه عليهم ، وقد أعددنا لهم الجزاء المناسب ، فدَعْ هذه المسألة لنا ولا تشغل نفسك بها .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أن يُنزِّه ذات رسوله صلى الله عليه وسلم من انفعالات الغضب ، وألاّ ينشغل حتى بمجرد الانفعال؛ لأنه حين يتعرّض لك شخص بسيئة تريد أن تجمع نفسك لترد عليه ، وخصوصاً إذا كان هذا الرد مخالفاً لطبْعِك الحسن وخُلُقك الجميل ، فكأنه يكلفك شيئاً فوق طاقتك .
فالله تعالى يريد أن يرحم نبيه وأن يريحه : دَعْكَ منهم ، وفوِّض أمرهم إلينا ، فنحن أعلم بما يصفون أي : بما يكذبون في حقك .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } .
(1/6245)

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
لماذا جاءتْ الاستعاذة من همزات الشياطين بعد هذه المسألة؟ قالوا : لأن الشيطان يريد أن يتدخل ، ويُظهِر لك أنه معك ، وأنه يَغَار عليك ، فيحرضك عليهم ويُغريك بهم ، ويدفعك إلى الانتقام منهم والتسلُّط عليهم .
وهمزات : جمع هَمْزة ، وهي النزْعة أو النخسة يثير بها الشيطان الإنسان ، ومنه قوله تعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله . . } [ الأعراف : 200 ] .
(1/6246)

وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
يعني : إنْ دخل عليك الشيطان بهَمْزه ووسوسته فقل : أعوذ بالله من همزات الشياطين ، بل وأزيد من ذلك الزم جانب الحَيْطة معه ، فقُلْ : أعوذ بالله أن يحضرون مجرد حضور ، وإن لم يهمزوا لي ، فأنا لا أريدهم في مَحْضري ، ولا أريد أن أجالسهم .
(1/6247)

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
ذلك لمجرد أن تحضره سكرات الموت ويُوقِن أنه ميّت تتكشف له الحقائق ويرى ما لا نراه نحن ، كما جاء في قوله تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] .
فيتمنى الإنسان أن يرجع إلى الدنيا وهو ما يزال يحتضر ، لماذا؟ لأنه رأى الحقيقة التي كان ينكرها ويُكذِّب بها ، والذين يشاهدون حال الموتى ساعة الاحتضار يروْنَ منهم إشارات تدلّ على أنهم يروْنَ أشياء لا نراها نحن ، كُلٌّ حَسْب حالة وخاتمته .
وأذكر حين مات أبي ، وكان على صدري ساعتها أنه قال لي : يا أمين - وهذا اسمي في بلدي - كيف تبني كل هذه القصور ولا تخبرني بها؟
والجنود الذين صاحوا في المعركة : هُبِّي يا رياح الجنة . لا بُد أنهم رأوها وشَمُّوا رائحتها ، وإلا ما الذي جعلهم يتلهفّون للموت ، ويشتاقون للشهادة إلا أنهم يرون حالاً ينتظرهم أفضل مما هم فيه .
ومن هؤلاء الصحابي الجليل الذي حدثَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهداء عند الله ، وكان في يده تمرات أو في فمه يمضغها ، فقال : يا رسول الله ، أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فأُقتل في سبيل الله؟ قال : نعم ، فألقى التمرة من فمه ومضى إلى المعركة .
كأنه استكثر أن يقعد عن طلب الجنة مدة مَضْغ التمرات . فإلى هذه الدرجة بلغ يقينُ هؤلاء الرجال في الله وفي رسول الله .
ونلحظ في هذه الآية : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت . . } [ المؤمنون : 99 ] هكذا بصيغة المفرد { قَالَ رَبِّ ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] جاء بالجمع على سبيل التعظيم ، ولم يقل : ربِّ ارجعني ، كما جاء في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
فهنا الحق - تبارك وتعالى - يُعظِّم ذاته ، لكن هذا يُعظِّم الله الآن ، وهو في حال الاحتضار ، وقد كان كافراً به ، وهو في سَعَة الدنيا وبحبوحة العيش .
أو : أنه كرر الطلب : أرجعني أرجعني أرجعني ، فجمعها الله تعالى . أو : أنه استغاث بالله فقال : ربّ ثم خاطب الملائكة : ارجعون إلى الدنيا .
لكن ، لماذا الرجوع؟
{ لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : أنني تركتُ كثيراً من أعمال الخير ، فلعلِّي إنْ رجعتُ بعد أنْ عاينتُ الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصالحات ، أو لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركتُ ، لأنني ضننْتُ بمالي وبمجهودي وفَضْلي على الناس ، وكنْزتُ المال الكثير ، وتركتُه خلفي ثم أُحاسب أنا عليه ، فإنْ عُدت قدمته وأنفقته فيما يدخر لي ليوم القيامة .
ثم تأتي الإجابة : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا . . } [ المؤمنون : 100 ] أي : قوله : ارجعون لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركت ، إنها مجرد كلمة لا واقع لها ، كلمة يقولها وقت الضيق والشدة ، فالله تعالى لن يرجعهم ، ولو أرجعهم ما فعلوا؛ لذلك نفاها بقوله ( كلا ) التي ترد على قضايا تريد إثباتها ، ويريد الله تعالى نفيها كما ورد في سورة الفجر :
(1/6248)

{ فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] .
فيرد الحق سبحانه : ( كلا ) لا أنت صادق ولا هو ، فليس المال والغِنَى وكثرة العَرض دليل إهانة ، ولا الفقر دليل إهانة ، فكلتا القضيتين خطأ ، بدليل أنك إذا أعطاك الله المال ، ثم لا تؤدي فيه حَقَّ الله وحَقَّ العباد ، ولا يعينك على أداء ما فُرِض عليك صار المال وبالاً عليك وإهانة لا كرامة . ما جدوى المال إنْ دخلتَ في قوله تعالى : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم } [ الفجر : 17 ] ؟ ساعتها سيكون مالك حُجَّة عليك .
كذلك الحال مع مَنْ يظن أن الفقر إهانةٌ ، فإنْ سلب الله منك المال الذي يُطغيك فقد أكرمك ، وإنْ كنت لا تدري بهذا الإكرام .
ثم يقول سبحانه : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] أي : كيف يتمنوْنَ الرجوع وبينهم وبينه برزَخ يمنعهم العودة إلى الدنيا؛ لذلك تُسمَّى الفترة بين الحياة الدنيا والآخرة بالحياة البرزخية ، فليست من الدنيا ، وليست من الآخرة .
وفي موضع آخر يُصوِّر الحق سبحانه هذا الموقف بقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ . . } [ الأنعام : 28 ] أي : لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله ، وإنْ كانت هذه قضية عقلية ففي واقعهم ما يثبت صِدْق هذه القضية ، واقرأ فيهم قول الله تعالى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ . . } [ الإسراء : 83 ] فأخذ نعمة الله وتقلَّب فيها ، ثم تنصَّل من طاعة الله .
ويقول تعالى في هذا المعنى أيضاً : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . } [ يونس : 12 ] .
إذن : المسألة اضطرارات ، كلما اضطروا دَعَوا الله ولجئوا إليه ، وتوسَّلوا ، فخذوا من واقع حياتهم ما يدل على صِدْق حكمي عليهم لو عادوا من الآخرة .
والبرزخ : هو الحاجز بين شيئين ، وهذا الحاجز يأخذ قوته من صاحب بنائه ، فإنْ كان هذا الحاجز من صناعته - سبحانه وتعالى - فلن ينفذ منه أحد .
ومن ذلك قوله تعالى : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19 - 20 ] وما داما يلتقيان ، فما فائدة البرزخ هنا؟
قالوا : نعم يلتقيان ، ولا يبغي أحدهما على الآخر؛ لأن المسألة ليست سَدَّاً أو بناءً هندسياً ، إنما برزخ خاصٌّ لا يقدر عليه إلا طلاقة القدرة الإلهية التي خرقتْ النواميس ، فجعلتْ الماءَ السائلَ جبلاً ، بعد أن ضربه موسى بعصاه ، فصار كل فِرْق كالطود العظيم ، طلاقة القدرة التي فجرت الحجر عيوناً .
إذن : المسألة ليست ( ميكانيكا ) كما يظن البعض .
(1/6249)

والبرزخ بين الماء المالح والماء العَذْب آية من آيات الله شاخصة أمامنا ، يمكننا جميعاً أنْ نتأكد من صحة هذه الظاهرة .
لكن هذا البرزخ من أمامهم ، فلماذا قال تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] .
قالوا : لأن اللفظ الواحد يُطلق في اللغة وله معَانٍ عدَّة واللفظ واحد؛ لذلك يُسمُّونه المشترك ، فمثلاً كلمة عَيْن تطلق على العين الباصرة ، وعلى عين الماء ، وعلى الجاسوس ، وتُقال للذهب وللفضة ، وللرجل البارز في قومه ، والسياق هو الذي يُحدِّد المعنى المراد؛ لذلك على السامع أن تكون عنده يقظة ليردّ اللفظ إلى المعنى المناسب لسياقه .
وكذلك كلمة ( النجم ) فتعني الكوكب في السماء ، وتعني كذلك مَا لا ساقَ له من النبات ، وهو العُشْب الذي ترعاه البهائم ، ومنه قول الشاعر :
أُرَاعي النجْمَ في سَيْري إليكُمُ ... ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوَادِيَ
فكلمة ( وراء ) تُطلَق ويُراد بها معانٍ عدة ، قد تكون متقابلة يُعيِّنها السياق ، فتأتي وراء بمعنى ( بَعْد ) كما في قوله تعالى : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وتأتي بمعنى ( غَيْر ) كما في قوله تعالى : { فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون } [ المؤمنون : 7 ] .
وتأتي بمعنى ( أمام ) كما قوله تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] فالملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة قادمة . وكذلك في قوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] .
فقوله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] أي : أمامهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ . . } .
(1/6250)

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
الصُّور : البُوق الذي ينفخ فيه إسرافيل ، والمراد هنا النفخة الثانية للبعث .
والأنساب : جمع نَسَب ، وهو الالتقاء في أصل مباشر ، كالتقاء الابن بالأب ، أو الأب بالابن ، أو التقاء بواسطة كالعمومة والخؤولة .
والنسب هو أول لُحمة في الكون تربط بين الناس في مصالح مشتركة ، وهو الالتقاء الضروري الذي يوجد لكل الناس ، فقد لا يكون لك أصدقاء ولا أصحاب ولا زملاء عمل ، لكن لا بُدَّ أن يكون لك نَسَب وقرابة وأهل .
فحين ينفي الحق - سبحانه وتعالى - النسب يقول : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ . . } [ المؤمنون : 101 ] فليس النفي لوجود النسب ، فإذا نُفِخ في الصور منعت البُنوَّة من الأبوة ، أو الأبوة من البنوة . إنما النسب موجود حقيقة ، لكن لأن النسب المعروف فيه التعاون على الخير والتآزر في دفع الشر ، فالنفي هنا لهذه المنفعة في هذا اليوم بالذات حيث لا ينفع أحد أحداً ، فالنسب موجود لكن دون نفع ، فالنفع من أمور الدنيا أن يُوجد قوي وضعيف ، فالقوي يُعين الضعيف ، ويفيض عليه ، أمّا في هذا الموقف فالكل ضعيف .
كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 - 37 ] .
ويقول : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] .
لذلك حينما حدَّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سنُحشر يوم القيامة حُفَاة عُراة تعجبت السيدة عائشة ، واستحيتْ من هذا الموقف ، فأخبرها رسول الله أن الأمر ليس كذلك ، فهذا موقف ينشغل كُلٌّ بنفسه ، والحال أصعب من أن ينظر أحد لأحد .
إذن : النفي لنفع الأنساب ، لا للأنساب نفسها .
وإنْ كان نفع الأنساب يمتنع لهول الآخرة فقد يتسامى الإنسان فيمنع نفعه حتى في الدنيا عن ذوي قرابته إنْ كانوا غير مؤمنين ، وقد ضربها الله مثلاً في قصة نوح - عليه السلام - وولده ، وخاطبه ربه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ . . } [ هود : 46 ] فامتنع النسب حتى في الدنيا ، فالنبوة ليست بُنوة الدم واللحم ، البنوة - خاصة عند الأنبياء - بنوة عمل واتباع .
وإذا تأملتَ تاريخ المسلمين الأوائل لوجدتهم يعتزُّون بالإسلام ، لا بالأنساب ، فالدين والعقيدة هما اللُّحمْة ، وهما الرابطة القوية التي تربط الإنسان بغيره ، وإنْ كان أدنى منه في مقاييس الحياة .
قرأنا في قصة بدر أن مصعب بن عمير - رضوان الله عليه - وكان فتى قريش المدلل ، وأغنى أغنيائها ، يلبس أفخر الثياب ويعيش ألين عيشة ، فلما أُشرِب قلبه الإيمان زهد في كل هذا النعيم ، وحُرِم من خير أهله ، ثم هاجر إلى المدينة ، وهناك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس جلد شاة فقال : " انظروا ماذا فعل الإيمان بأخيكم " .
وفي المعركة ، رأى مصعب أخاه أبا عزيز أسيراً في يد واحد من الأنصار هو الصحابي أبو اليَسَر فقال له مصعب : اشدد على أسيرك - يعني : إياك أن يفلت منك - فإن أُمَّه غنية ، وستفديه بمال كثير ، فنظر أو عزيز إلى مصعب وقال : أهذا وصاتك بأخيك؟ فقال : هذا أخي دونك .
(1/6251)

إذن : فلا أنسابَ بينهم ، حتى في الدنيا قبل الآخرة .
وفي غزوة أحد استُشهد مصعب بن عمير ، ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا ثوباً قَصيراً ، إنْ غطى رأسه انكشفتْ رِجْلاه ، وإنْ غطّى رِجْلَيْه انكشفت رأسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غطوا رأسه ، واجعلوا على رِجْلَيْه من الإذخر " .
والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لما أسلمتْ وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ، لكن اتهمها البعض بأنها هاجرت لا من إجل دينها ، ولكن من أجل زوجها ، فيشاء الله تعالى أن يُظهِر براءتها ، فينتصَّر زوجها عبيد الله بن جحش هناك وتظل هي على الإيمان ، ولَما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرها أراد أن يعوضها فخطبها لنفسه ، ولم ينتظر إلى أن تجيء ليعقد عليها ، فوكّل النجاشي ملك الحبشة ليعقد له عليها .
وبعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أبوها سفيان زيارتها ، وكانت تمهِّد فراش رسول الله ، فلما أراد أبو سفيان أن يجلس عليه نَحَّتْهُ جانباً ، ومنعتْه أن يجلس - وهو كافر - على فراش رسول الله ، فقال : أضنَاً بالفراش عليَّ؟ فقالت : نعم .
إذن : نَفْع الأنساب يمتنع في الدنيا قبل امتناعه في الآخرة ، لكن الحق - سبحانه وتعالى - تفضّل بأن أبقى مطلوبات النسب في الدنيا ودعانا إلى الحفاظ عليها حتى مع الكافرين؛ لأنه سبحانه وَسِع الكافر ، فعلى المؤمن أن يسعه من باب أَوْلَى ، فإنْ رأيت الكافر في شدة وقدرت أن تُعينه فَاعِنْه .
واقرأ في هذا قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً . . } [ لقمان : 15 ] .
فهما كافران ، بل ويريدانك كافراً ، ومع ذلك احفظ لهما حَقَّ النسب ، ولا تقطع الصلة بهما .
ويُرْوَى أن إبراهيم - عليه السلام - وقد أعطاه الله الخُلَّة ، وقال عنه : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] وابتلاه بكلمات فأتمهُنَّ ، مرَّ عليه عابر سبيل بليل ، فقبل أن يُدخِله ويُضيفه سأله عن ديانته ، فأخبره أنه غير مؤمن ، فأعرض عنه إبراهيم - عليه السلام - وتركه ينصرف ، فأوحى الله إليه : يا إبراهيم وسعْتُ عبدي وهو كافر بي ، وتريده أن يغير دينه لضيافة ليلة؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به ، وأخبره بما كان من عتاب ربه له في شأنه ، فقال الرجل : نِعْم الرب الذي يعاتب أحبابه في أمر أعدائه ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله .
ويرتقي أهل المعرفة بالنسب ، فيروْنَ أنه يتعدَّى الارتباط بسبب وجودك ، وهو الأب أو الأم ، فالنسب وإن كان ميلاد شيء من شيء ، أو تفرُّع شيء من شيء ، فهناك نسب أعلى ، لا لمن أوجدك بسبب ، وإنما لمن أوجدك بلا سبب الوجود الأول ، فكان عليك أن تراعي هذا النسب أولاً الذي أوجدك من عدم ، وإنْ أثبت حقاً للوالدين؛ لأنهما سبب وجودك .
(1/6252)

فكيف بالموجد الأعلى؟
وقوله تعالى : { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] سأل : تقتضي سائلاً ومسئولاً ، أمّا الفعل ( تساءل ) فيدل على المفاعلة يعني : كل منهما سائل مرة ، ومسئول أخرى ، كما تقول : شارك محمد عمرًا ، وقاتل . . الخ .
وقد اعترض على هذه الآية بعض المستشرقين الذين يحبون أن يتوركوا على كتاب الله ، قائلين : إن المسلمين ينظرون إلى كتاب الله بمهابة وتقديس يمنعهم ويحجب عقولهم عن تعقُّل ما فيه ، لماذا وقد قال تعالى عن القرآن : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ؟
يقول هؤلاء : إن القرآن نفى التساؤل في هذه الآية ، وأثبته في قوله تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الطور : 25 ] في الحوار بين الكفار .
وهناك تساؤل بين المؤمنين والكافرين : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين } [ المدثر : 38 - 46 ] .
ومرة يكون التساؤل بين المؤمنين بعضهم وبعض : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم } [ الطور : 25 - 28 ] .
إذن : كيف بعد ذلك ينفي التساؤل؟ ويقول : { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] .
وهذا التضارب الذي يروْنَه تضارب ظاهري؛ لأنه هناك فرقاً بين أن تسمع عن شيء وبين أن تُفاجأ به وأنت غير مؤمن ، لقد قالوا : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ المؤمنون : 37 ] .
فحين فُوجئوا بالنفخ في الصُّور ، وداهمتهم القيامة التي كانوا يُكذِّبون بها بُهِتوا ودُهِشُوا ، وخرست ألسنتهم عن الكلام من شدة دهشتهم ، وكيف وما كانوا ينكرونه ماثل أمامهم فجأة ، ثم يتدرجون من هذه الحالة إلى أن يأخذوه أمراً واقعاً لا مَفرَّ منه ، فيبدأون بالكلام ويسأل بعضهم بعضاً عَمَّا هم فيه وعَمَّا نزل بهم .
إذن : فالسؤال له زمن ، ونَفْي السؤال له زمن؛ لذلك يقولون في مثل هذه المسألة أن الجهة مُنفكَّة ، فإذا رأيتَ شيئاً واحداً أُثبتَ مرة ، ونُفِي أخرى من قائل واحد منسوب إلى الحكمة وعدم التضارب ، فاعلم أن الجهة مُنفكّة .
ومثل هذا الموقف من أهل الاستشراق وقفوه أيضاً في سؤال أهل المعاصي ، حيث يقول تعالى في إثبات سؤالهم : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ويقول في نفي سؤالهم { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }
(1/6253)

[ الرحمن : 39 ] فكيف يثبت الفعل وينفيه ، والفاعل واحد؟
وهذا الاعتراض منهم ناشيء عن عدم فَهْم للغة القرآن والمَلَكة العربية ، أو لأنهم يريدون مجرد الاستدراك على كتاب الله وإثارة الشكوك حوله . لكن رُبَّ ضارَّة نافعة ، فقد حرّكت شكوكهم ومآخذهم علماء المسلمين للتصدِّي لهم ، وللرد على أباطيلهم وكشف نواياهم ، فمثلنا كمثل الذي يستعد لملاقاة المرض بالطُّعْم المناسب الذي يعطي للجسم مناعة وحصانة ضد هذا المرض .
وسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان القرآن ينطق على وَفْق ما يريد ، يرى الناس يُقبِّلون الحجر الأسود ، فتوقع أن يتكلم الناس في هذه المسألة ، وكيف أن الدين ينهاهم عن عبادة الأصنام وهي حجارة ويأمرهم بتقبيل الحجر ، وكان رضي الله عنه يُقبّله ويقول : " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبّلك ما قبَّلتك " .
فلفت الناس إلى أصل التشريع وأن الحجرية لا عبادةَ لها عندنا ، لكن عندنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُشرِّع لنا وواجب علينا اتباعه ، وهكذا كان ردّ عمر على مَنْ أثاروا هذه الفتنة .
ولما تكلم عمر في غلاء المهور وكان مُلْهماً يوافق قولُه قولَ القرآن الكريم ، وقفتْ له امرأة وراجعته وقالت له : اخطأتَ يا عمر ، كيف تنهى عن الغلاء في المهور ، والله تعالى يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً . . } [ النساء : 20 ] .
فأجار أن يكون المهر قنطاراً من ذهب ، عندها قال عمربجلالة قدره : " أصابت امرأة وأخطأ عمر " ليبين أنه لا كبيرَ أمام شرع الله .
إذن : هذه مسائل مرسومة ولها أصل ، يجب أن تُعلم لنردّ بها حين نسأل في أمور ديننا .
نعود إلى مسألة سؤال أهل المعصية ، حيث نفاه القرآن مرة وأثبته أخرى . ونقول : جاء القرآن بأسلوب العرب وطريقتهم ، والسؤال في الأسلوب العربي إما سؤال مِمَّنْ يجهل ويريد المعرفة ، كما يسأل التلميذ مُعلِّمه ، أو يسأل العالم الجاهل لا ليعلم منه ، ولكن ليقرره بما يريد .
فإذا نفى الله تعالى السؤال ، فلا تظنوا أنه يسألكم ليعرف منكم ، إنما يسألكم لتقروا؛ لذلك قال سبحانه : { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] .
إذن : إثبات السؤال له معنى ، ونَفْيه له معنى ، فإذا نفى فقد نفى سؤال العلم من جهتهم ، وإذا أثبت فقد أثبت سؤال الإقرار من جهتهم؛ لتكون الحجة ألزم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة .
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال : التلميذ المهمل الذي يتظاهر أمام أبيه بالمذاكرة ، فيفتح كتابه ويهزّ رأسه كأنه يقرأ ، فإذا ما سأله والده لم يجده حصَّل شيئاً ، فيقول له : ذاكرت وما ذاكرت .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] هكذا نَفْي وإثبات في آية واحدة لفاعل واحد ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ فعلاً حَفْنة من الحصى ورَمَى بها نحو الأعداء ، لكن هل في قدرته أن يُوصّل هذه الحفنة إلى أعين الأعداء جميعاً؟ فالعمل والرمي للرسول ، والنتيجة والغاية لله عز وجل .
ثم يقول الحق سبحانة : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ . . } .
(1/6254)

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
ثقُلَتْ وخفَّتْ هنا للحسنات . يعني : كانت حسناته كثيرة أو كانت قليلة .
ويمكن أن نقول : ثقلت موازينه بالسيئات يعني : كثُرَتْ الحسنات ، لكن القرآن تكلم من ناحية أن العمدة في الأمر الحسنات .
والميزان يقوم على كِفَّتين في أحدهما الموزون ، وفي الأخرى الموزون به ، وللوزن ثلاث صور عقلية : أن يخفّ الموزون ، أو يخف الموزون به ، أو يستويا ، وقد ذكرت الآية حالتين : خفت موازينه ، وثقلت موازينه ، كما جاء في قوله تعالى : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 6 - 11 ] .
أما حالة التساوي فقد جاءت لها إشارة رمزية في سورة الأعراف : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } [ الأعراف : 46 - 47 ] .
فمَنْ غلبت حسناته ذهب إلى الجنة ، ومَنْ غلبت سيئاته ذهب إلى النار؛ وبقي أهل الأعراف بين الجنة والنار؛ لأنهم تساوت عندهم كِفَّتا الميزان ، فلا هو من أهل الجنة ، ولا هو من أهل النار ، فهم على الأعراف ، وهو السُّور بين الجنة والنار ينظرون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء .
ثم يقول تعالى في شأنهم : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ الأعراف : 46 ] ؛ لأن رحمة الله سبقتْ غضبه ، وعفوه سبق عقابه .
ومعنى ثقلت موازينه وخفت موازينه يدل على أن الأعمال تصبح ولها كثافة وجِرْم يعطي ثقلاً ، أو أن الله تعالى يخلق في كل عمل له كتلة ، فحسنةُ كذا بكذا ، والمراد من الميزان دِقَّة الفَصْل والحساب .
ونلحظ في الآية : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . . } [ المؤمنون : 102 ] بالجمع ولم يقل : ميزانه ، لماذا؟ قالوا : لأنه يمكن أن يكون لكل جهة عمل ميزان خاص ، فللصلاة ميزان ، وللمال ميزان ، وللحج ميزان . . إلخ ثم تُجمع له كل هذه الموازين .
وقوله : { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ . . } [ المؤمنون : 103 ] لأنهم أخذوا لها القليل العاجل ، وفوَّتوا عليها الكثير الآجل ، وسارعوا إلى متعة فانية ، وتركوا متعة باقية؛ لأن الدنيا أجلها محدود؛ والزمن فيها مظنون ، والخير فيها على قَدْر إمكانات أهلها .
أما الآخرة فزمنها مُتيقّن ، وأجلها ممدود خالد ، والخير فيها على قَدْر إمكانات المنعِم عَزَّ وجَلَّ ، فلو قارنتَ هذا بذاك لتبيّن لك مدى ما خَسِروا ، لذلك تكون النتيجة أنهم { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 103 ] .
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة تُبشِّع الجزاء في جهنم ، وتُصوِّر أهوالها ، وذلك رحمة بنا لنرتدع من قريب ، ونعمل جاهدين على أن ننجي أنفسنا من هذا المصير ، وننفر من هذه العاقبة البشعة ، كما يقول الشرع بداية : سنقطع يد السارق ، فهو لا يريد أن يقطع أيدي الناس ، إنما يريد أن يمنعهم ويحذرهم هذه العاقبة .
ومن ذلك قوله تعالى في مسألة القصاص : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب . . } [ البقرة : 179 ] .
وقد هُوجم القِصَاص كثيراً من أعداء الإسلام ، إذ يقولون : يكفي أن قُتِل واحد من المجتمع ، فكيف نقتل الآخر؟ والقرآن لم يضع القصاص ليقتل الاثنين ، إنما وضعه ليمنع القتل ، وليستبقي القاتل والقتيل أحياء ، فحين يعرف القاتل أنه سيُقتل قصاصاً يمتنع ويرتدع ، فإن امتنع عن القتل فقد أحيينا القاتل والقتيل ، وقد عبَّروا عن هذا المعنى فقالوا : القتل أنفى للقتل .
يقول تعالى في تبشيع جهنم : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ . . } .
(1/6255)

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
اللفْح : أن تمسَّ النار بحرارتها الشيء فتشويه ، ومثله النَّفْح { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] كلمة " كالح " نقولها حتى في العامية : فلان كالح الوجه . يعني تغيّر وجهه تغيُّراً ينكر لا تستريح له ، وضربوا للوجه الكالح مثلاً برأس الخروف المشوية التي غيَّرت النار ملامحها ، فأصبحت مُشوَّهة كالحة تلتصق الشَّفَة العليا بجبهته ، والسفلى بصدره ، فتظهر أسنانه في شكل منفر .
بعد ذلك يخاطبهم الحق سبحانه خطاباً يُلقي اللوم عليه ويُحملهم مسئولية ما وصلوا إليه ، فلم يعذبهم ربهم ابتداءً ، إنما عذبهم بعد أن أنذرهم ، وأرسل إليهم رسولاً يحمل منهجاً يبين ثواب الطائع وعقاب العاصي ، ونبَّههم إلى كل شيء ، ومع ذلك عصَوْا وكذَّبوا ، ولم يستأنفوا عملاً جديداً على وَفْق ما أمر الله . إذن : فهُم المقصرون .
(1/6256)

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
يعني : أنتم السبب فيما أنتم فيه من العذاب ، فليس للناس على الله حجة بعد الرسل ، وليس لأحد عذر بعد البلاغ ، لذلك حينما يدخل أهل النار النارَ يخاطبهم ربهم : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ . . } [ الزمر : 71 ] .
فالآية تثبت أنهم هم المذنبون أمام نفوسهم : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] فلم نفاجئهم بعقوبة على شيء لم نُبصِّرهم به ، إنما أرسلنا إليهم رسولاً يأمرهم وينهاهم ويُبشِّرهم وينذرهم .
والإنذار بالشر قبل أن يقع نعمة من النعم ، كما قلنا في سورة الرحمن عن قوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] وهل النار والشواظ نعمة؟ نعم نعمة؛ لأننا نحذرك منها قبل وقوعها ، وأنت ما زِلْتَ في سعة الدنيا ، وأمامك فرصة الاستدراك .
والآيات - كما قلنا - تُطلَق على الآيات الكونية التي تلفت الناس إلى وجود الخالق الأعلى الذي أنشأ هذا الكون بهذه الهندسة البديعة ، وتُطلَق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله ، وتُطلَق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن .
وقد جئناكم بكل هذه الآيات تُتْلَى عليكم وتسمعونها وترونها ، ومع ذلك كذَّبْتم ، ومعنى { تتلى عَلَيْكُمْ . . } [ المؤمنون : 105 ] أننا نبهناكم إليها ، ولفتْنَا أنظاركم إلى تأملها ، حتى لا تقولوا : غفلنا عنها .
(1/6257)

قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{ شِقْوَتُنَا . . } [ المؤمنون : 106 ] أي : الشقاوة وهي الألم الذي يملك كل ملكات النفس لا يترك منها جانباً ، يقولون : فلان شقي يعني مُضيَّق عليه ومُتعَب في كل أمور حياته ، لا يرى راحة في شيء منها .
وكأنهم بقولهم : { غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا . . } [ المؤمنون : 106 ] يريدون أن يُبِعِدوا المسألة عن أنفسهم ويُلْقون بها عند الله تعالى ، يقولون : يا رب لقد كتبتَ علينا الشقوة من الأزل ، فلا ذنبَ لنا ، وكيف نسعد نحن أنفسنا؟ يقولون : لو شاء ربنا ما فعلنا ذلك .
ونقول لهم : لقد كتب الله عليكم أزلاً؛ لأنه سبحانة علم أنكم ستختارون هذا .
(1/6258)

رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
فوصفوا أنفسهم بالظلم ، كما قال سبحانه عنهم في آية أخرى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] .
فيقول الحق سبحانه : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } .
(1/6259)

قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{ اخسئوا } [ المؤمنون : 108 ] كلمة بليغة في الزجر تعني : السكوت مع الذّلة والهوان؛ لذلك يقولونها للكلاب ، وقد تقول لصاحبك : اسكت على سبيل التكريم له ، كما لو حدَّثك عن فضلك عليه ، وأنك قدَّمْتَ له كذا وكذا فتقول له : اسكت اسكت ، تريد له العزة ، وألاَّ يقف أمامك موقف الضعف والذلة .
والخسوء من معانيها أنك تضعف عن تحمُّل الشيء ، كما في قوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] يعني : ضعيف عن تحمُّل الضوء .
وفي قوله سبحانه : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] يعني : مطرودون مُبْعدون عن سُمو الإنسانية وعِزّتها؛ لذلك نرى القردة مفضوحي السَّوْءة ، خفيفي الحركة بما لا يتناسب وكرامة الإنسان .
إذن : ليس المراد أنهم أصبحوا قردة ، إنما كونوا على هيئة القردة؛ لذلك نراهم حتى الآن لا يهتمون بمسألة العِرْض وانكشاف العورة .
إذن : المعنى { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] اسكتوا سكوتاً بذلّة وهَوَان ، ويكفي ما صنعتموه بالمؤمنين بي؛ فيقول الحق سبحانه : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا . . } .
(1/6260)

إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
والمراد هنا الضعاف من المؤمنين أمثال عمار وبلال وخباب بن الأرت ، وكانوا يقولون هذا الكلام ، وهو كلام طيب لا يرد ، بل يجب أن يُسمع ، وأن يُحتذَى به ، ويُؤخَذ قدوة .
(1/6261)

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
تكلمنا عن هذه المسألة في قوله تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29 - 36 ] .
إذن : اتخذ الكفار ضعاف المؤمنين محلَّ سخرية واستهزاء ، وبالغوا في ذلك ، حتى لم يَعُدْ لهم شُغل غير هذا ، وحتى شغلهم الاستهزاء والسخرية عن التفكّر والتأمل فلم يَبْقَ عندهم طاقة فكرية تفكر فيما آمن به هؤلاء ، وهذا معنى : { حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي . . } [ المؤمنون : 110 ] أي : شغلكم الاستهزاء بالمؤمنين عن الإيمان بمَنْ خلقكم وخلقهم .
ويا ليت الأمر توقّف عند هذا الحد من السخرية ، إنما تعداه إلى أن يضحكوا من أهل الإيمان ، ويُضِحكوا أهلهم { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ المؤمنون : 110 ] وفي الآية الأخرى : { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] وسخرية أهل الباطل من أهل الحق موجودة في كل زمان ، وحتى الآن نرى مَنْ يسخرون من أهل الاستقامة والدين والورع ويتندَّرون بهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ . . } .
(1/6262)

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
لما صبر أهل الإيمان على الاستهزاء والسخرية عوَّضهم الله تكريماً ونعيماً ، وهذه مسألة يجب ألاَّ يغفل عنها المؤمن حين يسخر منه أعداؤه ، عليه أن يتذكر عطاء ربه وجزاء صبره ، وإنْ كان الساخر منك عبداً له قدرته المحدودة ، فالمكرِّم لك ربك بقدرة لا حدودَ لها ، ولك أن تقارن إذن بين مشقة الصبر على أذاهم ، ولذة النعيم الذي تجده بعد ذلك جزاء صبرك .
(1/6263)

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
لبث : مكث وأقام ، فالمعنى : ما عدد السنين التي ظللتموها في الأرض ، لكن لماذا هذا السؤال؟
قالوا : لأن الذي شغلكم عن دين يضمن لكم ميعاداً خالداً ، ونعيماً باقياً هو الدنيا التي صرفتكم بزينتها وزخرفها وشهواتها - وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا - وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا - فهل يُقارن بما أُعِدَّ للمؤمنين في الآخرة من النعيم المقيم الذي لا يفوتهم ولا يفوتونه؟
والقيامة حين تقوم ستقوم على قوم ماتوا في ساعتها ، فيكون لبثهم قريباً ، وعلى أناس ماتوا من أيام آدم فيكون لبثهم طويلاً ، إذن : فاللبث في الأرض مقول بالتشكيك كما يقولون ، لكن هل يدرك الأموات المدة التي لبثوها في الأرض؟ معلوم أنهم لا يدركون الزمن؛ لأن إدراك الزمن إنما يتأتَّى بمشاهدة الأحداث ، فالميت لا يشعر بالزمن؛ لأنه لا يعيش أحداثاً ، كالنائم لا يدري المدة التي نامها ، وكُلُّ مَنْ سُئِلَ هذا السؤال قال { يَوْماً أَوْ بَعْضَ . . } [ البقرة : 259 ] .
قالها العُزَير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ، وقالها أهل الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسعاً؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن يتخيلها الإنسان لنومه ، ولا يستطيع النائم تحديد ذلك بدقة؛ لأن الزمن ابْنُ الحدث ، فإن انعدم الحدث إنعدم الزمن .
لذلك يقول تعالى عَمَّنْ ماتوا حتى من أيام آدم عليه السلام : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .
وكذلك يقول هؤلاء أيضاً في الإجابة على هذا السؤال : { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ . . } .
(1/6264)

قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
أي : أصحاب العدِّ الذين يمكنهم العدُّ والحساب؛ لأننا لم نكن في وعينا لنعُد كما لبثنا ، والمراد بالعادِّين هم الملائكة الذين يعدُّون الأيام ويحسبونها .
(1/6265)

قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
إنْ : بمعنى ما ، يعني : ما لبثتم إلا قليلاً ، فمهما قدَّرْتم من طول الحياة حتى مَنْ مات منذ أيام آدم عليه السلام ، فسيكون قليلاً بالمقارنة بالزمن الذي ينتظركم في الجزاء الأخروي ، فما لبثتموه في الدنيا لا يُقَاس بعذاب الآخرة الممتد الباقي ، هذا { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 114 ] تعلمون طول ما تصيرون إليه من العذاب الخالد المقيم .
(1/6266)

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
( حسبتم ) ظننتم يعني : ماذا كنتم تظنون في خَلْقنا لكم؟ كما قال في موضع آخر : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وكلمة { عَبَثاً . . } [ المؤمنون : 115 ] العَبَث هو الفعل الذي لا غايةَ له ولا فائدةَ منه ، كما تقول : فيم تعبث؟ لمن يفعل فِعْلاً لا جدوى منه ، وغير العبث نقول : الجد ونقول : اللعب واللهو ، كلها أفعال في حركات الحياة . لكن الجد : هو أن تعمل العمل لغاية مرسومة .
أما اللعب فهو أن تعمل عملاً هو في واقع الأمر لا غاية له الآن إلا دُرْبتك أنت على الحركة وشُغْل ملكاتك حتى لا تتوجه إلى فساد شيء أو الإضرار بشيء ، كما تشتري لولدك لعبة يلهو بها ، وينشغل بها عن الأشياء القيِّمة في المنزل ، والتي إنْ لعب بها حطّمها ، فأنت تصرف حركاته إلى شيء لتمنعه عن أشياء ضارة ، أو تُعلِّمه باللعب شيئاً يفيده فيما بعد ، كالسباحة أو ركوب الخيل .
واللهو كاللعب في أنه يكون لغاية قد تأتي بعد ، أو لغاية تنفي ضرراً ، إلا أن اللعب حين تزاوله لا يشغلك عن مطلوب ، أما اللهو فهو الذي يشغلك عن مطلوب ، فمثلاً الطفل دون السابعة يلعب في أوقات الصلاة ، فيُسمّى فعله لعباً ، فإنْ كان في العاشرة يُسمَّي فِعْله لَهْواً؛ لأنه شغله عن الصلاة ، وهي واجبة عليه .
واللعب يُدربك على أشياء قد تحتاجها وقت الجد فتكون سهلة عليك ، أما العبث فلا فائدةَ منه ، لذلك قال سبحانه : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً . . } [ المؤمنون : 115 ] فنفي أن يكون الخَلْق عبثاً بلا غاية؛ لأن الله تعالى خلق الخَلْق لغاية مرسومة ، ووضع لها منهجاً يحدد هذه الغاية ، ولا يضع المنهج للخَلْق إلا الخالق .
كما قلنا سابقاً : إن الصانع الذي صنع هذا الميكروفون لم يصنعه ثم طلب منا أن نبحث له عن مهمة ، إنما قبْل أنْ يصنعه حدد له مهمته والغاية منه ، وهي أن ينقل الصوت لمسافات بعيدة ، إذن : فالغاية مرسومة بدايةً وقبل العمل .
فالذي يحدد الغاية هو الصانع المبدع للشيء ، وهو أيضاً الذي يحدد صلاح الصنعة لغايتها ، ويحدد قانون صيانتها لتؤدي مهمتها على أكمل وجه ، وأنت أيها الإنسان صنعة الله فَدَعْهُ يحدد لك غايتك ، ويضع لك منهج حياتك وقانون صيانتك ، بافعل كذا ولا تفعل كذا .
إذن : فساد الدنيا يأتي من ان الصنعة تريد أن تأخذ حق الصانع في تحديد الغاية ، وفي تحديد المنهج ، وقانون الصيانة ، وليس من مهمتها ذلك ، والخالق حينما يحدد لك المنهج الذي يُعينك على غايتك ، إنما أنت : متى تستطيع أن تدرك الأشياء لتضع غاية أو تضع قانون الصيانة؟
إنك لا يمكن أن تبلغ هذا المبلغ قبل سِنِّ العشرين على أحسن تقدير ، فمَنْ - إذن - يضع لك غايتك وقانون صيانتك قبل هذه السنِّ؟ لا أحدَ غير خالقك عز وجل ، ولن يستقيم الحال إلا إذا تركنا الصَّنْعة للصانع غايةً ومنهجاً وصيانة .
(1/6267)

وكيف تظن أن الله تعالى خلقك عَبثاً ، وهو الذي استدعاك للوجود وأعدَّ لك مُقوِّمات حياتك وضرورياتها ، وحثَّك بإعمال عقلك في هذه المقومات لتستطيع أن تُرفِّه بالطاقة والقدرة المخلوقة لله تعالى لتُسعِدَ نفسك وتُرفِّه حياتك .
وقد كنا في الماضي نجلس على ضوء المسرجة ، والآن على أضواء النيون والكريستال ، ومهما ترفهت حياتك وتوفرت لك وسائل الراحة فلا تنْسَ أنها عطَاء من الله في المادة وفي الطاقة وفي العقل المفكر ، كلها مخلوقة لله عزَ وجل ، لا تملك أنت منها شيئاً ، بدليل أن الله إذا سلبك العقل لَصِرت مجنوناً ، ولو سلبك الطاقة والقدرة لصرتَ ضَعيفاً لا تستطيع مجرد التنفس ، فهذه نِعَمٌ موهوبة لك ليست ذاتية فيك .
إذن : عليك أن تتأمل في خالقك عز وجل ، وما وهبك من مقومات الحياة ، لتعلم أن هذا الخَلْق لا يمكن أن يكون عبثاً ، ولا بد أن له غاية رسمها الخالق سبحانه ، وأنت في ذاتك تحاول أن تضع لك غاية في جزئية ما من الغاية الكبرى التي خلقك الله لها .
أَلاَ ترى الولد الصغير كيف تعتني به وتُعلِّمه وتنفق عليه مرحلة بعد الأخرى ، حتى يصل إلى الجامعة ، وتتعلق أنت بأمل كبير في أن يكون لولدك هذا مكانة في المجتمع ومنزلة بين الناس؟ هذه العملية في حد ذاتها غاية ، لكن بعد أن يحصل على الوظيفة المرموقة والمكانة والمنزلة ينتهي الأمر بالموت .
إذن : لا بُدَّ من وجود غاية أخرى أعظم من هذه ، غاية لا يدركها الفناء ، وليس لها بعد ، هذه الغاية الكبرى هي لقاء الله وملاقاة الجزاء ، إما إلى الجنة وإما إلى النار .
وعلينا أن نأخذ كل مسائل الحياة وجزئياتها في ضوء هذه الحقيقة ، أننا لم نُخلَق عَبثاً ، بل لغاية مراده لله ، ولها أسباب توصل إليها .
ثم يقول سبحانه : { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ( تُرجَعون ) يعني : رَغْماً عنكم ، ودون إرادتكم ، كأن شيئاً ما يسوقهم ، كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] يعني : يُدفعون إليها ، ويُضربون على أقفائِهم ، ويُسَاقون سَوْقَ الدواب .
(1/6268)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{ فَتَعَالَى . . } [ المؤمنون : 116 ] تنزَّه وتقدَّس ، وكلمة العلو تعني علو المنزلة . نقول : علا فلان على فلان ، أما حين نقول : تعالى الله ، فالمراد العلو الأعلى ، وإن وهب علواً للغير فهو عُلو الداني ، وعلو المتغير ، بدليل أنه تعالى يُعليك ، وإنْ شاء سلبك ، فالعلو ليس ذاتياً فيك .
وكلمة المِلك نعرفها فيمَنْ يملك قطعة من الأرض بمَنْ فيها ويحكم وله رعية ، ومن هذه المادة : المالك . ويُطلَق على أيِّ مالك لأيِّ شيء ، ولو لم يكن لديه إلا الثوب الذي يلبسه فهو مالك ، أما : المَلِك فهو مَنْ يملك الذين يملكون ، فله ملك على المالكين ، وهذا المَلِك لم يأخذ مُلْكه بذاته ، إنما بإيتاء الله له .
لذلك يقول تعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ . . } [ آل عمران : 26 ] .
فلو كان مُلْك هؤلاء الملوك ذاتياً ما نُزِع منهم ، أَلاَ ترى الملِك من ملوك الدنيا يقوي ويستتب له الأمر ، ويكون له صولجان وبَطْش وفَتْك . . إلخ ، ومع كل هذا لا يستطيع الاحتفاظ بملكه؟ وفي لحظة ينهار هذا الملْك ولو على يد جندي من جنوده ، بل وربما تلفظه بلاده ، ولا تقبل حتى أنْ يُدفن بها ، وتتطوع له بعض الدول ، وتقبل أنْ تُواري رفاته بأرضها ، فأيُّ ملك هذا؟
وهذه آية من الآيات نراها في كل عصر - وكأنها قائمة - دليلاً على صدق الآية : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ . . } [ آل عمران : 26 ] إذن : إنْ ملكك الله فاعلم أنه مُلْك موهوب ، مهما استتب لك فلا تضمن بقاءه؛ لأن الله تعالى ملَّكك لغاية ، ولا يملك الغاية إلا هو سبحانه .
لذلك كان الحق - سبحانه وتعالى - { الملك الحق . . } [ المؤمنون : 116 ] يعني : الذي لا يزحزحه أحد عن مُلْكه ، أو يسلبه منه ، وهو الذي يتصرّف في مُلْكه كيف يشاء لا ينازعه فيه أحد ، وإنْ أعطى من باطن مُلْكه تعالى مُلْكاً لأحد ، فيظل في يده سبحانه زمام هذا الملْك ، إنْ شاء بسطه ، وإنْ شاء سلبه ونزعه . فهو وحده الملك الحق ، أما غيره فمُلْكهم موهوب مسلوب ، وإنْ مَلَّك سبحانه أناساً . أَمْرَ أناس في الدنيا يأتي يوم القيامة فيقول : { لِّمَنِ الملك اليوم . . } [ غافر : 16 ] .
وتلحظ أن كلمة { تُؤْتِي الملك . . } [ آل عمران : 26 ] سهلة على خلاف { وَتَنزِعُ الملك . . } [ آل عمران : 26 ] ، ففي النزع دليل على المشقة والمعاناة؛ لأن صاحب الملْك يحاول أن يتمسك به ويتشبَّث وينازع ، لكن أينازع الله؟
فقوله سبحانه : { فَتَعَالَى الله الملك الحق . . } [ المؤمنون : 116 ] المراد : تعالى عن أن يكون خَلْقكم عَبثاً ، وتعالى عن أنْ تشردوا من قبضته ، أو تخرجوا عن نفوذه ، أو تستقِلُّوا بخَلْقكم عن سيطرته ، وتعالى أن تُفلتوا من عقابة أو تمتنعوا عنه؛ لأنه لا إله غيره : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم } [ المؤمنون : 116 ] .
(1/6269)

فالحق تبارك وتعالى يحكم في إطار : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 - 4 ] .
فإذا قال لك شيئاً فاعلم أنه لا إله غيره يعارضه .
والعرش : رمز لاستتباب الأمر للمالك؛ لأنه ينشغل بتدبير مُلْكه والقَضاء على المناوئين له وتأديب أعدائه ، فإذا ما استتبّ له ذلك جلس على عرشه ، إذن : الجلوس على العرش يعني استقرارَ الأمور واستتباب أمر الملك؛ لذلك فإن الحق سبحانه بعد أن خلق الخَلْق استوى على العرش .
والعرش يفيد أيضاً السيطرة والتحكم ، وعَرْش الله عرش كريم؛ لأنه تعالى عليك لا ليُذلّك ويهنيك ، وإنما تعالى عليك ليعاليك إليه ويعطيك من فضله . كما سبق أنْ قُلْنا : إن من مصلحتنا أن يكون الله تعالى مُتكبِّراً ، ومن عظمة الحق سبحانه أن يكون له الكبرياء ، فساعة يعلم الجميع أن الكبرياء لله وحدة لا يتكبر أحد على أحد .
يقول الحق سبحانه : { وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } [ الجاثية : 37 ] .
لذلك يقولون في الأمثال : ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) يعني : ليعيش في ظله ، فالحق - تبارك وتعالى - يتعالى لصالح خَلْقه .
ومن ذلك ما قُلْناه في مسألة العبودية ، وأنها مكروهه ثقيلة إنْ كانت للبشر؛ لأن السيد يأخذ خير عبده ، إنما هي محبوبة إنْ كانت لله تعالى؛ لأن العبودية لله يأخذ العبد خير ربه .
فإنْ كانت عروش الدنيا للسيطرة والتحكُّم في مصائر الناس وامتصاص دمائهم وأَخْذ خيراتهم ، فعرش ربك عَرْش كريم ، والكريم في كل شيء أشرف غاياته ، اقرأ قوله تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الدخان : 25 - 26 ] .
وحين يوصينا بالوالدين ، يقول سبحانه : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ] .
فالعرش الكريم أشرف غايات الملْك؛ لأن الملْك ليس تسلُّطاً وقَهْراً ، إنما هو مَلْك لصالح الناس ، والحق - تبارك وتعالى - حينما خلق الحياة وزَّع فيها أسباب الفضل ، ولكنه جعل فيها القويّ القادر ، وجعل فيها الضعيف العاجز ، ثم أمر القوي أنْ يأخذ بيد الضعيف ، وأنْ يعوله ، فالكرم استطراق نفع القوى للضعيف ، فكل خَصلْة من خصال الخير توصف بالكرم .
إذن : إياك أن تفهم أن عرش ربك للسيطرة والعُلو والجبروت؛ لأنه عرش كريم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ . . } .
(1/6270)

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{ يَدْعُ مَعَ الله . . } [ المؤمنون : 117 ] يعني : يعبد مع الله ، والعبادة طاعة المعبود في أمره ونَهْيه ، لكن كيف تدعو إلهاً ، لا ينفعك ولا يضرُّك ، ولا برهانَ عندك على ألوهيته؟ لذلك هدده سبحانه وتوعّده بقوله : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ . . } [ المؤمنون : 117 ] أي : ربه الحق { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } [ المؤمنون : 117 ] .
وعجيبٌ أن تبدأ السورة بقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } [ المؤمنون : 117 ] أي : بنقيض ما بدأتْ به ، وعليك أنت أنْ تتأمل ما بين هذين القوسين ، وما دامت المسألة مسألة إيمان يفلح أهله ، وكفر لا يفلح أهله ، فتمسَّكوا بربكم ، والتزموا منهجه في ( افعل ) و ( لا تفعل ) .
وإنْ غلبتكم النفس على شيء من الذنوب فتذكَّروا : { وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم . . } .
(1/6271)

وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
إنْ هفوتم هفوة فإياكم أن تنسُوا هذه الحقيقة ، والجئوا إلى ربكم فإنه غفار شرع لكم التوبة لتتوبوا ، والاستغفار لتستغفروا ، وهو سبحانه أرحم بكم من الوالدة بولدها ، وهو خير الراحمين .
والمعنى { اغفر . . } [ المؤمنون : 118 ] أي : الذنوب السابقة الماضية { وارحم . . } [ المؤمنون : 118 ] أي : ارحمنا أن نقع في الذنوب فيما بعد ، واعصمنا في مستقبل حياتنا من الزلل . إذن : تمسَّك بربك وبمنهج ربك في كل حال ، لا يصرفك عنه صارف .
(1/6272)

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
اسمها سورة ( النور ) ، وإذا استقرأنا موضوع المُسمَّى أو المُعْنون له بسورة ( النور ) تجد النور شائعاً في كل أعطافها - لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها - ولكن النور شائع في كل حروفها ، لماذا؟
قالوا : لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها ويعرفها أكثر من أيّ تعريف آخر ، فالناس تعرف النور بمجرد نُطْق هذه الكلمة ، والنور لا يُعرَّف إلا بحقيقة ما يؤديه ، وهو ما تتضح به المرئيات ، وتتجلى به الكائنات ، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئاً .
إذن : يُعرف النور بخاصيته ، وهو الذي يجعل لك قدرة على أن ترى المرئيات ، بدليل أنها إنْ كانت في ظلمة لا تراها . إذن : فالنور لا يُرَى ، ولكن نرى به الأشياء ، فالله تعالى نور السموات والأرض يُنوِّرهما لنا ، لكن لا نراه سبحانه .
لكن ، هل كل الأشياء مرائي؟ أليس منها المسموع والمشموم والمتذوّق؟ قالوا : نعم ، لكن الدليل الأول على كل هذه وفعل الحوادث هي المرئيات؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولاً ، ثم حين تسمع ، وحين تشم ، وحين تلمس ، وحين تميز الثقيل من الخفيف ، أو القريب من البعيد . فهذا كله فرع ما يوجد فيك ، بعد ما تؤمن أن الله الذي أوجدك هو الذي أوجد لك كل شيء ، فإذا ما نظرت إلى النور وجدتَ النور أمراً حسياً ترى به الأشياء .
وكانوا في الماضي يعتقدون أن الإنسان يبصر الأشياء بشعاع يخرج من العين ، فيسقط على الشيء فتراه ، إلى أن جاء العالم الإسلامي الحسن بن الهيثم ، وأبطل هذه النظرية وقال : إن الشعاع يأتي من المرئي إلى العين فتراه ، وليس العكس ، واستدل على ذلك بأن الشيء إنْ كان في الظلام لا نراه ، ونحن في النور ، فلو أن الشعاع يخرج منك لرأيته .
وفي ضوء هذه النظرية فهمنا قوله تعالى : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً . . } [ الإسراء : 12 ] فهي مُبْصِرة؛ لأن الشعاع يأتي من هناك ، فكأنها هي التي ترى .
لكن ، ما نَفْع هذا النور الحسيّ للإنسان الخليفة في الأرض؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملاً يعطيك خيرها ويكفّ عنك شرها ، ولو لم تَرَ الأشياء ما أمكنك التعامل معها ، وإلا فكيف تسير في مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر؟
إذن : لا تستطيع أن تهتدي إلى مواضع قدمك ، وتأخذ خير الأشياء ، وتتجنب شرها إلا بالنور الحسيِّ ، كذلك إنْ سِرْت في ظُلْمة وعلى غير هُدىً ، فلا بُدَّ أن تصطدم بأقوى منك فيحطمك ، أو بأضعف منك فتحطمه .
لذلك سمَّى الحق - تبارك وتعالى - المنهج الذي يهديك في دروب الحياة نوراً .
والناس حين لا يوجد النور الرباني الإلهي يصنعون لأنفسهم أنواراً على قَدْر إمكاناتهم وبيئاتهم بداية من المسرجة ولمبة الجاز ، وكان الناس يتفاوتون حتى في هذه - حتى عصر الكهرباء والفلوروسنت والنيون وخلافة من وسائل الإضاءة التي يتفاوت فيها الناس تفاوتاً كبيراً ، هذا في الليل ، فإذا ما أشرقتْ الشمس أطفأ الجميع أنوارهم ومصابيحهم ، لماذا؟ لأن مصباح الله قد ظهر واستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد .
(1/6273)

وكذلك النور المعنوي نور المنهج الذي يهديك إنْ كان لله فيه توجيه ، فأطفيء مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضيء بنور ونورُ ربك موجود ، بل عليك أن تبادر وتأخذ ما تقدر عليه من نور ربك ، فكما أخذتَ نور الله الحسيّ فألغيتَ به كل الأنوار ، فخُذْ نور الله في القيم ، خُذْ نُور الله في الأخلاق وفي المعاملات وفي السلوك يغنيك هذا عن أيِّ نور من أنوار البشر ومناهجهم .
أَلاَ ترى النمرود كيف بُهِتَ حينما قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - جدله وألجأه إلى الحجة التي لا يستطيع الفكاك منها ، حين قال له : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب . . } [ البقرة : 258 ] .
والحق - تبارك وتعالى - يفيض من أنواره وصفات كماله على خَلْقه الذين جعلهم خلفاء له سبحانه في الأرض ، فقال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً . . } [ البقرة : 30 ] والخليفة في الأرض ليس جيلاً واحداً خلقه الله واستخلفه في الأرض إلى قيام الساعة ، إنما الخليفة أجيال وأنسال تتوالى ، يموت واحد ويُولَد آخر في حلقات موصولة الأنسال لا الذوات .
والخليفة لا ينجح في خلافته إلا إذا سار فيها على وَفْق مراد مَن استخلفه ، وآفة الناس في خلافتهم لله في الأرض أنْ يعتبروا أنفسهم أُصَلاء لا خلفاء ، فالخليفة في ذِهْنه دائماً هذه الخلافة؛ لذلك يلتفت إلى الأصل ، وينظر ماذا يريد منه مَن استخلفه .
والحق - تبارك وتعالى - جعل له خليفة في الأرض لتظهر عليه سمات قدرته تعالى وصفات كماله ، فالله تعالى قادر ، الله عالم ، الله حكيم ، الله غنيّ ، الله رحيم ، الله غفور . . الخ وهو سبحانه يعطي من صفاته ويفيض منها على خَلْقه وخليفته في أرضه بعضاً من هذه الصفات ، فيعطيك من قدرته قدرة ، ومن رحمته رحمةً ، ومن غنائه غِنىً ، لكن تظل الصفة في يده تعالى أنْ شاء سلبها ، أَلاَ ترى القوي قد يصير ضعيفاً ، والغني قد يصير فقيراً؟
ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا ، وأن هذه الهبات ليست أصلاً عندنا ، إنما هي فيْض من فيض الله وهبةٌ من هباته سبحانه ، لذلك علينا أن نستعملها وَفْق مراده تعالى ، فإنْ أعطاك ربُّك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك ، أعطاك العلم لتنثره على الناس ، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير .
إذن : ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ هو سبحانه بملكية هذه الصفات ، فإنْ شاء سلبها منك ، فعليك أن تستغل الفرصة وتنتهز وجود هذه الخَصْلة عندك ، فتُثمِّرها فيما أراده الله منك قبل أنْ تُسلَب ، حتى إذا سُلِبَتْ منك نالتك من غيرك .
(1/6274)

فتصدَّق وأنت غني لتنال صدقة الآخرين إنْ أصابك الفقر ، وأكرم اليتيم لتجد مَنْ يُكرم يتيمك من بعدك ، فإنْ قابلتَ أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأنَّ قلبك ، وأمِنْتَ من حوادث الزمن ، واستقبلتَ الأحداث بالرضا ، وكيف تهتم وأنت في مجتمع يرعاك كما رعيته ، ويحملك كما حملته ، ويتعاون معك كما تعاونتَ معه؟
وصدق الله تعالى حين قال : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] .
إذن : الحق - تبارك وتعالى - يريد من خليفته في أرضه أن يكون جِماعاً لصفات الكمال التي تسعد الخَلْقَ بآثار الخالق فيهم ، وهذه هي الخلافة الحقة .
وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات ، نور القيم ، نور التعامل ، نور الأخلاق ، نور الإدارة والتصرف ، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أنْ يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنه كما قال سبحانه : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] فلو لم تكُنْ هذه الشمس ما استطاع أحد أنْ يصنع لنفسه نوراً أبداً .
فالحق - تبارك وتعالى - يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهراً شريفاً كريماً عزيزاً؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية ، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليماً في وضح النهار؛ لينتج عن هذا اللقاء نَسْل طاهر جدير بخلافة الله في أرضه؛ لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه في هذه السورة تكلَّم عن مسألة الزنى .
والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة ( المؤمنون ) التي قال الله في أولها { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } [ المؤمنون : 5 ] وهنا قال : { الزانية والزاني . . } [ النور : 2 ] فجاء بالمقابل للذين هم لفروجهم حافظون .
نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنه عز وجلَّ هو خالق الإنسان ، وهو أعلم بما يُصلحه ، وهو خالق ذرّاته ، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض ، وهو سبحانه خالق مَلَكات النفس ، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر .
إذن : طبيعي أنْ أردتَ أن تنشيء خليفة في الكون على غير مراد الله وعلى غير مواصفات الحق ، لا بُدَّ أنْ يضطرب الكون وتتصارع فيه مَلكات النفس ، وماذا تنتظر من هذا الخليفة إنْ جاء في الظلام؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وَأْد الأولاد وقتلهم حتى في بطون الأمهات ، وقد يتشكّك الرجل في ولده ، فيبغضه ويهمله ويتركه للتشرد .
إذن : لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتي الخليفة وَفْق مواصفات ربه ، وأنْ يلتقي الزوجان على ما شرع الله في وضح النهار ، لا أن يندس كل منهما على الآخر في ظلمة الإثم ، فيحدث المحظور الذي تختلط به الأنساب ، ويتفكك رباط المجتمع .
(1/6275)

إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشكَّ في نِسْبة ولده إليه ، وأن تعتصره هذه الفكرة ، فيهمل ولده وفلذة كبده ، وينفق هنا وهناك ويحرمه على خلاف النسْل الطاهر ، حيث يتلهف الأب لولده ، ويجوع ليشبع ، ويتعرّى ليلبس .
فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين في أُبوة صحيحة شرعية وأمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله .
ولك أنْ تُجري مقارنة بين امرأة حملتْ سفاحاً وأخرى حملتْ حَمْلاً شرعياً طاهراً ، ستجد الأولى تحمله على مضض وكُرْه ، وتودّ أنْ تتخلَّص منه وهو جنين في بطنها ، فإنْ تحاملتْ على نفسها إلى حين ولادته تخلَّصتْ منه في ليلتها ولو بإلقائه على قارعة الطريق .
أما صاحبة الحمل الشرعي فتتلهف على الولد ، وإنْ تأخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء ، فإنْ أكرمها الله بالحمل طارت به فرحاً وفخراً ، وحافظت عليه في مَشْيها وحركاتها ونومها وقيامها إلى حين الوضع ، فتتحمل آلامه راضيةً ثم تحتضنه وتُرضِعه وتعيش حياتها في خدمته ورعايته .
فالله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصاب طاهر على اعْيُنِ الناس جميعاً وفي نور الله المعنوي ، يريد للزوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النور ، لا أن يتلصص في الظلام من باب الخدم .
لذلك يتوعد الحق - سبحانه وتعالى - مَنْ يخالف هذا المنهج ويريد أن يُفسِد شرف الخلافة التي يريدها الله طاهرة ، ويُدنِّس النسل ، ويُوغِر الصدور بالأحقاد والعداوات ، ويزرع الشك في نفوس الخَلْق ، وجرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله .
وانظر إلى الإيدز الذي يهدد المجتمعات الآن ، وهو ناتج عن الالتقاء غير الشرعي ، وخطر الإيدز لا يقتصر على طرفيه إنما يتعدّاها إلى الغير ، إذن : من صالح المجتمع كله أن نقيم حدَّ الزنا حتى لا يستشري هذا الداء .
ونعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شَرْع الله في مسألة الحدود حين تقضي برَجْم الزاني المحْصَن حتى الموت ، أَلاَ يعلم هؤلاء أننا نُضحِّي بواحد لنحفظ سلامة الملايين في صحة وعافية؟ أَلاً يروْنَ ما يحدث مثلاً في وباء الطاعون الذي أعجز العلماء حتى الآن ، ولم يجدوا له علاجاً ، وكيف أن الشرع أمرنا إنْ نزل الطاعون بأرض ألاَّ نذهب إليها ، وأمر مَنْ فيها ألاَّ يخرجوا منها ، لماذا؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشري بين الناس .
كذلك الحال في مسألة الزنا؛ لأن الزاني لا يقتصر شرُّه عليه وحده ، إنما يتعدّى شرُّه إلى المجتمع كله ، مع مراعاة أن الشرع فرَّق بين الزاني المحصن وغير المحصن ، وكذلك الزانية ، ففي حالة الإحصان تتعدد الماءات في المكان الواحد ، لذلك سُئلنا في سان فرانسيسكو : لماذا أبحتم تعدُّد الزوجات ، ولم تبيحوا تعدُّد الأزواج؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة : لماذا لا تتزوج المرأة وتجمع بين أربعة رجال؟
قلت : اسألوهم ، أليس عندهم أماكن يستريح فيها الشباب جنسياً - يعني بيوت للدعارة - قالوا : نعم في بعض الولايات ، قلت : فبماذا احتطتم لصحة المجتمع وسلامته؟ قالوا : نُجرِي عليهم كشفاً دورياً كل أسبوع ، قلت : وهل هذا الكشف الدوري يستوعب الجميع؟ أم أنه مجرد ( ششن ) وعينات عشوائية .
(1/6276)

إذن : من الممكن أن يتسرّب المرض بين هؤلاء الشباب ، وهَبْ أنك أجريتَ على إحداهن الكشف يوم الأحد مثلاً ، وفي يوم الاثنين جاءها المرض ، فإلى كم واحد سينتقل المرض إلى أنْ يأتي الأحد القادم؟ فهذه مسألة لا تستطيع السيطرة فيها على الداء .
ثم أتُجرون هذه الفحوصات على المتزوجين والمتزوجات؟ وهل اكتشفتم بينهم مثل هذه الأمراض؟ قالوا : لا لم يحدث أن اكتشفنا هذا بين المتزوجين . قلت : إذن كان عليكم أنْ تنتبهوا إلى سبب هذه الداءات ، وأنها تأتي من تعدُّد ماءات الرجال في المكان الواحد؛ لأن كل ماء سياله وله ميكروبات تتصارع ، إن اجتمعت في المكان الواحد فينشأ منها المرض .
لكن حين يكون للزوجة زوج واحد ، فلن نرى مثل هذه الداءات في المجتمع ، ومن هنا يأتي دور الوازع الديني ، فإن فُقِد الوازع الديني فلا بُدَّ من الوازع الحسيّ ليزجر مثل هؤلاء ويُوقِفهم عند حدود الله رَغْماً عنهم ، حتى وإنْ لم يكونوا يؤمنون بها .
إذن : هذه أقضية ومشاكل وداءات حدثتْ للناس بقدر ما أحدثوا من الفجور ، وبقدر ما انتهكوا من حُرُمات الله ، وانظر مثلاً لمن يُضطرّ للسفر إلى مثل هذه البلاد ، كم يكون حَذراً مُفزَّعاً حين يقيم مثلاً في فندق ، فيأخذ أدواته الشخصية ، ويخاف أن يستعمل أشياء غيره ، ويحرص على نظافة المكان وتغيير الفراش قبل أن ينام عليه . . الخ كل هذه الاحتياطات .
فالشرع حين يأمر بقتل الزاني أو الزانية إنما فعل ذلك ليسْلَمَ المجتمع بأسْره ، وكثيراً ما نواجه مثل هذه الاعتراضات من أصحاب الرحمة الحمقاء والشعارات الجوفاء ، أهُم أرحم بالخَلْق من الخالق؟
أَلاَ يروْن للزلزال أو لحوادث السيارات والطائرات التي تحصد الآلاف من الأرواح؟ فلماذا هي الضجة حين نبتر العضو المريض من المجتمع؟
قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . } [ النور : 1 ] السورة : مأخوذة من سور البيت ، وهي طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية ونهاية ، تحمل أحكاماً وقد تكون طويلة كسورة البقرة ، أو قصيرة كالإخلاص والكوثر ، فليس للسورة كمية مخصوصة؛ لأنها توقيفية .
{ أَنزَلْنَاهَا . . } [ النور : 1 ] نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى مَنْ هو أدنى منه ، كما يكتب الموظف مثلاً يريد التظلُّم لرئيسه : أرفع إليك كذا وكذا ، فيقول الأعلى : وأنا أنزلت القرار الفلاني ، فالأدنى يرفع للأعلى ، والأعلى يُنزِل للأدنى .
لذلك يقول تعالى : ( أنزلنا ) حتى للشيء الذي لا ينزل من السماء ، كما قال سبحانه :
(1/6277)

{ وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . . } [ الحديد : 25 ] فالحديد وإنْ كان مصدره الأرض ، إلا أنه لا يكون إلا بقدرة الأعلى سبحانه .
{ وَفَرَضْنَاهَا . . } [ النور : 1 ] الشيء المفروض يعني الواجب أن يُعمل؛ لأن المشرِّع قاله وحكم به وقدَّره ، ومنه قوله سبحانه : { فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ . . } [ البقرة : 237 ] أي : نصف ما قدَّرتم ، إذن : كل شيء له حُكْم في الشرع ، فإن الله تعالى مُقدِّره تقديراً حكيماً على قَدْره .
وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . } [ النور : 1 ] الآيات الواضحات ، وتُطلق الآيات - كما قلنا - على الآيات الكونية التي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله وبديع صُنْعه ، وتُطلق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسل ، وتُطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام .
وفي هذه السورة كثير من الأحكام إلى أن قال فيها الحق سبحانه : { الله نُورُ السماوات والأرض . . } [ النور : 35 ] وقال : { نُّورٌ على نُورٍ . . } [ النور : 35 ] فطالما أنكم أخذتُم نور الدنيا ، وأقررتُم أنه الأحسن ، وأنه إذا ظهر ألغى جميع أنواركم ، فكذلك خذوا نور التشريع واعملوا به واعلموا أنه نور على نور . إذن : لديكم من الله نوران : نور حسي ونور معنوي .
{ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النور : 1 ] بعد أنْ قال سبحانه أنزلت كذا وكذا أراد أنْ يُلهب المشاعر لتُستقبل آياته الاستقبال الحسن ، وتُطبِّق أحكامه التطبيق الأمثل يقول : أنزلتُ إليكم كذا لعلكم تذكرون ، ففيها حَثٌّ وإلهابٌ لنستفيد بتشريع الحق للخَلْق .
ثم يتحدث الحق سبحانه عن أول قضية فيما فرضه على عبادة : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ . . } .
(1/6278)

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قلنا : إن الحق سبحانه تناول هذه المسألة حرصاً على سلامة النشء ، وطهارة هذا الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض ، وحين نتأمل السياق القرآني في هذه الآية نجد أن كلمة الزاني تدل على كُلٍّ من الأنثى والذكر ، ففي اللغة الاسم الموصول : الذي للمفرد المذكر ، والتي للمفردة المؤنثة ، واللذان للمثنى المذكر ، واللتان للمثنى المؤنث ، والذين لجمع الذكور ، واللائي لجمع الإناث .
لكن هناك أسماء تدل على كل هذه الصيغ مثل : مَنْ ، ما ، ال .
تقول : جاء مَنْ أكرمني ، وجاءت من أكرمتني ، وجاء من أكرموني .
فكذلك ( ال ) في ( الزاني ) تدل على المؤنث وعلى المذكر ، لكن الحق سبحانه ذكرهما صراحةً ليُزيلَ ما قد يحدث عند البعض من خلاف : أيهما السبب في هذه الجريمة ، هذا الخلاف الذي وقع فيه حتى الأئمة والفقهاء ، فهناك مَنْ يقول : الزاني واطئ وفاعل ، والمرأة موطوءة ، فالفعل للرجل لا للمرأة ، فهو وحده الذي يتحمل هذه التبعة .
لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه يحكي " أن رجلاً ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله وطئت امرأتي في رمضان . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " كَفِّر " " .
وأخذ الشافعي من هذا الحديث أن الكفارة إنما تكون على الرجل دون المرأة ، وإلا لقال له الرسول : كَفِّرا .
لكن يجب أن نفرق بين وطِئ وجامع : الوَطْءُ فعل الرجل حتى وإن كانت الزوجة كارهة رافضة ، أمَّا الجماع فهو حال الرضا والقبول من الطرفين ، وفي هذه الحالة تكون الكفارة عليهما معاً؛ لذلك صرَّح الحق تبارك وتعالى بالزاني والزانية ليزيل هذه الشُّبهة وهذا الخلاف .
وأرى في هذه المسألة أن الذي استفتى رسولَ الله هو الرجلُ ، ولو كانت المرأة لقال لها أيضاً : كفِّري ، فالحكم خاصٌّ بمن استفتى .
والمتأَمل في آيات الحدود يجد مثلاً في حَدِّ السرقة قوله تعالى { والسارق والسارقة . . } [ المائدة : 38 ] فبدَأ بالمذكر ، أما في حَدِّ الزنا فقال : { الزانية والزاني . . } [ النور : 2 ] فبدأ بالمؤنث ، لماذا الاختلاف في التعبير القرآني؟
قالوا : لأن دور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع ، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه؛ لذلك أمر الحق - تبارك وتعالى - الرجال بغَضِّ البصر وأمر النساء بعدم إبداء الزينة ، ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها .
أما في حالة السرقة فعادةً يكون عِبْءُ النفقة ومُؤْنة الحياة على كاهل الرجل ، فهو المكلف بها؛ لذلك يسرق الرجل ، أمَّا المرأة فالعادة أنها في البيت تستقبل ، وليس من مهمتها توفير تكاليف الحياة ، لكن لا مانعَ مع ذلك أن تسرق المرأة أيضاً؛ لذلك بدأ في السرقة بالرجل .
إذن : بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزوناً دقيقاً غاية الدقة ، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه ، فهو كلام رب حكيم ، ولو كانت المسألة مجرد تقنين عادي ما التفتَ إلى مثل هذه المسائل .
(1/6279)

ثم يأتي الحد الرادع لهذه الجريمة { فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ . . } [ النور : 2 ] اجلدوا : أمر ، لكن لمن؟ لم يقُل أيها الحاكم أو القاضي؛ لأن الأمر هنا للأمة كلها ، فأمر إقامة الحدود منوط بالأمة كلها ، لكن أتنهض الأمة بأَسْرها وتعدّدها بفعل واحد في كل مكان؟
قالوا : الأمة مثل النائب العام للوالي ، عليه أن يختار مَنْ يراه أهلاً للولاية لينفذ له ما يريد ، ومَنْ ولَّى قاضياً فقد قضى ، وما دام الأمر كذلك فإياك أنْ تُولِّي القضاء مَنْ لا يصلح للقضاء؛ لأن التبعة - إذن - ستكون عليك إنْ ظلم أو جار ، فالواو والألف في { فاجلدوا . . } [ النور : 2 ] تدل على معانٍ كبيرة ، فالأمة في مجموعها لا تستيطع أن تجلد كل زانٍ أو زانية ، لكن حين تولي إمامها بالبيعة ، وحين تختاره ليقيم حدود الله ، فكأنها هي التي أقامتْ الحدود وهي التي نفذت .
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ ولّى أحداً أمراً وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة " " .
لماذا؟ لأنك حين تُولِّي أمور الناس مَنْ لا يصلح لها في وجود مَنْ يصلح إنما تُشيع الفساد في المجتمع ، ولا تظن أنك تستطيع أن تخفي شيئاً عن أعيُن الناس ، فلهم من الوعي والانتباه ما يُفرِّقون به بين الكفء وغيره ، وإنْ سكتوا وتغافلوا فإنهم يتساءلون من ورائك : لماذا ولّى هذا ، وترك مَنْ هو أكفأ منه ، لا بُدَّ أن له مؤهلات أخرى ، دخل بها من الباب الخلفي ، ولماذا لا نفعل مثله؟ عندها تسود الفوضى وتضيع الحقوق وينتشر الإحباط والتكاسل والخمول ، ويحدث خلل في المجتمع وتتعطل المصالح .
ومع هذا كله لا نستطيع أن نلوم الوالي حين يختار مَنْ لا يصلح قبل أن نلوم أنفسنا أولاً ، فنحن الذين اخترناه ودلَّسْنَا في البيعة له ، فسلّطه الله علينا ليُدلِّس هو أيضاً في اختياره ، أمّا لو أدى كل منا واجبه في اختيار مَنْ يصلح ما وصل إلى مراتب القيادة مَنْ يدلس على الناس ، وبذلك تستقيم الأمور ، ويتقرب الإنسان للولاية بالعمل وبالجد والإخلاص والأمانة والصدق والتفاني في خدمة المجتمع .
ومن رحمة الله تعالى بالخَلْق أنْ يقذف الإخلاص وحُبّ العمل ويزرع الرحمة بالخلق في بعض القلوب؛ لذلك ترى في كل مصلحة أو في كل مكتب موظفاً متواضعاً يحب الناس ويحرص على قضاء مصالحهم ، تراه يرتدي نظارة سميكة يرى من خلالها بصعوبة ، وهو دائماً مُنكبٌّ على الأوراق والملفات ، ويقصده الخَلْق لقضاء مصالحهم : يا فلان أفندي ، أعطني كذا ، واكتب لي كذا ، وقد وسَّع الله صَدْره للناس فلا يرد أحداً .
هذه المسائل كلها نفهمها من الواو والألف في { فاجلدوا . . } [ النور : 2 ] أما الجَلْد فهو الضرب ، نقول : جلَده : يعني ضرب جِلْدَه ، ورأسه : يعني ضرب رِأسه ، وظهَره : ضرب ظهره .
(1/6280)

والجلد ضَرْبٌ بكيفية خاصة ، بحيث لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً؛ لأن الضربة حسب قوتها وحسب الآلة المستخدمة في الضرب ، فمن الضرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد ، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم ، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . } [ النور : 2 ] تحذير من الرحمة الحمقاء ، الرحمة في غير محلها ، وعلى حَدِّ قول الشاعر :
فَقَسَا لِيزدْجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً ... فَلْيَقْسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرحَمُ
فالرأفة لا تكون في حدود الله ، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصة فيما بينكم ، وعجيب أن تدعوا الرأفة في مسائل الحدود وأنتم من ناحية أخرى تضربون وتسرقون أموال الناس ، وتنتهكون حرماتهم ، وتثيرون بينهم الفتنة والحروب ، فأين الرأفة إذن؟
إذن : لا مجالَ للرحمة وللرأفَة في حدود الله ، فلسنا أرحم بالخَلْق من الخالق ، وما وُضِعَتْ الحدود حباً في تعذيب الناس ، إنما وُضِعت وشُدِّد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة التي تستوجب الحد ، فقَطْع يد واحدة تمنع قَطْع آلاف الأيدي .
والذين يتهمون الإسلام بالقسوة والبشاعة في تطبيق الحدود أنَسُوا ما فعلوه في هيروشيما ، وما زالت آثاره حتى الآن؟ أنسوا الحروب التي يشعلونها في أنحاء العالم ، والتي تحصد آلاف الأرواح؟ أهي الرحمة الحمقاء التي لا معنى لها؟ أم هي الكراهية لحدود الله؟
ونذكر في الماضي أنه كان يخرج مع فوج الحجيج قوة حماية وحراسة من الجيش ، تحمي الحجيج من قطاع الطرق ، وكانوا يُسَمُّون بعثة الحج هذه ( المحمل ) ، فلما أقامت السعودية حكم الله وطبَّقَتْ الحدود أمَّنَتْ الطرق ، واستغنى الناس عن هذه الحراسات مع اتساعها وتشعُّب طرقها ووعورتها بين الجبال والوديان والصحاري الشاسعة التي لا يمكن أن تحكمها أو تحرسها عَيْن بشر ، لا بُدَّ لها من تقنين الخالق عز وجل .
ومع ذلك حين أحْصَوا الأيدي التي قُطِعَتْ وجدوها قليلة جداً ، وأغلبها من خارج المملكة - وأذكر أنني قلت مرة في خطبة عرفة : ارجعوا إلى حكامكم وقولوا لهم : اقطعوا يد السارق ، فالذي لا يقطع يد السارق في نيته أن يسرق؛ لذلك يخاف على يده ، فحين تذكر له مسألة قَطْع يد السارق ترتجف يده . والذين يعارضون حدود الله هم أنفسهم يسيرون على مبدأ أن هلاك الثُلث جائز لإصلاح الثلثين ، لكن تقف حدود الله غُصَّة في حلوقهم .
والجلْد مائة جلدة يخصّ الزاني غير المحْصَن يعني غير المتزوج ، أمَّا المتزوج فله حكم آخر لم يأْت في كتاب الله ، إنما أتى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك لأن القرآن الكريم ليس كتابَ منهج فقط ، إنما كتابَ منهج ومعجزة ومعه أصول ، من هذه الأصول أنه قال في آية من آياته : إننا وكلنا رسول الله في أن يُشرِّع للناس .
(1/6281)

والحكم الذي يؤخذ من القول عُرْضة لأن نتمحك فيه ونقف أمامه نُقلّب ألفاظه أو نؤوله ، أمّا إنْ أُخِذ الحكم من فعل المشرع ، فليس فيه شكٌّ أو تمحُّك ، وليس قابلاً للتأويل لأنه فعل ، وقد فعل الرسول ورجم الزاني والزانية المحصنين في قصة ماعز والغامدية ، لأنه مفوض من الله .
ولا بد أن نفرق بين الحدَّيْن ، ففي حَدِّ الأمة إنْ زنت يقول تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب . . } [ النساء : 25 ] البعض فَهِم من الآية أنها تشمل حدَّيْ الرَّجْم والجَلْد ، فقالوا : في الجلد يمكن أن تجلد خمسين جلده ، لكن كيف نجزيء الرجم؟ وما دام الرجم لا يُجَزَّأ فليس عليها رجم .
ولو تأمل هؤلاء نصَّ الآية لخرجوا من هذا الخلاف ، فالحق سبحانه وتعالى لم يقل { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات . . } [ النساء : 25 ] وسكت ، إنما قال { مِنَ العذاب . . } [ النساء : 25 ] فخصَّ بذلك حدَّ الجلد؛ لأن العذاب إيلام حَيٍّ ، أمَّا الرجم فهو إزهاق حياة ، فهما متقابلان .
أَلاَ ترى قول القرآن في قصة سليمان عليه السلام والهدهد : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ . . } [ النمل : 21 ] فالعذاب غير الذبح .
إذن : تجزئة الحد في الجَلْد فقط ، أمّا الرَّجم فلا يُجزَّأ ، فإنْ زنتِ الأَمَة المحصنة رُجِمَتْ .
وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر . . } [ النور : 2 ] هذا كلام مُوجِع ، وإهاجة لجماعة المؤمنين ، فهذا هو الحكم ، وهذا هو الحدُّ قد شرعه الله ، فإن كنتم مؤمنين بالله وبالحساب والعقاب فطبِّقوا شَرْع الله ، وإلاَّ فراجعوا إيمانكم بالله وباليوم الآخر لأننا نشكُّ في صِدْق هذا الإيمان .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يهيجنا ويثيرنا على أهل هذه الجريمة ، لنأخذ على أيديهم ونُخوِّفهم بما شرع الله من الحدود .
فالمعنى : أنْ كنتم تؤمنون بالله إلهاً حكيماً مشرعاً ، خلق خَلْقاً ، ويريد أن يحمي خَلْقه ويُطهره ليكون أهلاً لخلافته في الأرض الخلافة الحقة ، فاتركوا الخالق يتصرف في كونه وفي خَلْقه على مراده عَزَّ وجَلَّ ، فالخَلْق ليس خَلْقكم لتتدخلوا فيه .
ثم يقول تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] فالأمر لا يقف عند حدِّ التعذيب والجَلْد ، إنما لا بُدَّ أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين ، والطائفة هم الجماعة وأقلها أربعة لماذا؟ قالوا : لأن النفس قد تتحمّل الإهانة إنْ كانت سِراً لا يطَّلع عليها أحد ، فلا يؤلمه أنْ تُعذِّبه أشدَّ العذاب بينك وبينه ، إنما لا يتحمل أن تشتمه أمام الناس . إذن : فمشاهدة الحدِّ إهانة لصاحبه ، وهي أيضاً زَجْر للمشاهد ، ونموذج عمليٌّ رادع .
لذلك يقولون : الحدود زواجر وجوابر ، زواجر لمن شاهدها أي : تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحدَّ ، وجوابر لصاحب الحد تجبر ذنبه وتُسقط عنه عقوبة الآخرة ، فلا يمكن أن يستوي مَنْ أقر وأقيم عليه الحد بمَنْ لم يقر ، ولأن الزنا لم يثبت بشهود أبداً ، وإنما بإقرار ، وهذا دليل على أن الحكم صحيح في ذِهْنه ، ويرى أن فضوح الدنيا وعذابها أهونُ من فضوح الآخرة وعذابها ، إلا لما أقر على نفسه .
(1/6282)

فالمسألة يقين وإيمان ثابت بالقيامة وبالبعث والحساب ، والعقوبة اليوم أهون ، وإنْ كان الزنا يثبت بالشهود فلربما دلَّسُوا ، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل مُقرّاً بالزنا فيقول له : " لعلك قبَّلْتَ ، لعلك غمزْتَ ، لعلك لمسْت " يعني : لم تصل إلى الحد الذي يسمى زنا ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدرأ الحدَّ بالشبهة .
ولهذا المبدأ الإسلامي السمح إنْ أخذتَ الزاني وذهبت ترجمه فآلمه الحجر فحاول الفرار يأمرنا الشرع ألاَّ نتبعه وألاَّ نلاحقه ، لماذا؟ لأنه اعتبر أن فراره من الحد كأنه رجوع عن الإقرار .
يقول الحق سبحانه : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . . } .
(1/6283)

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً . . } [ النور : 3 ] لأن الزواج يقوم على التكافؤ ، حتى لا يستعلي أحد الزوجين على الآخر ، والزاني فيه خِسَّة ، فلا يليق به إلا خسيسة مثله يعني : زانية ، أو أخس وهي المشركة؛ لأن الشرك أخسُّ من الزنا ، لأن الزنا مخالفة أمر توجيهي من الله ، أمّا الشرك فهو كفر بالله؛ لذلك فالمشركة أخبث من الزانية . وما نقوله في زواج الزاني نقوله في زواج الزانية { والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . . } [ النور : 3 ] .
وهنا يعترض البعض : كيف إنْ كانت الزانية مسلمة : أينكحها مشرك؟ قالوا : التقابل هنا غرضه التهويل والتفظيع فقط لا الإباحة؛ لأن المسلمة لا يجوز أن تتزوج مشركاً أبداً ، فالآية توبيخ لها : يا خسيسة ، لا يليق بك إلا خسيس مثلك أو أخسّ .
وأرى أن النص محتمل لانفكاك الجهة؛ لأن التي زنتْ تدور بين أمرين : إما أنها أقبلتْ على الزنا وهي تعلم أنه مُحرَّم ، فتكون عاصية باقية على إسلامها ، أو أنها ردَّت حكم الزنا واعترضت عليه فتكون مشركة ، وفي هذه الحالة يستقيم لنا فهم الآية .
ثم يقول تعالى : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } [ النور : 3 ] فهذا سبب طُهْر الأنسال أن يُحرِّم الله تعالى الزنا ، فيأتي الخليفة طاهر النسل والعنصر ، محضوناً بأب وأم ، مضموماً بدفء العائلة ، لا يتحملون عليه نسمة الهواء؛ لأنه جاء من وعاء طيب طاهر نظيف .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم . . } .
(1/6284)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
الرمي : قذف شيء بشيء ، والمحصنات : جمع مُحْصنة من الإحصان ، وهو الحفظ ، ومنه قولنا : فلان عنده حصانة برلمانية مثلاً . يعني : تكفّل القانون بحفظه؛ لذلك إنْ أرادوا محاسبته أو مقاضاته يرفعون عنه الحصانة أولاً ، ومنه أيضاً كلمة الحصن وهو الشيء المنيع الذي يحمي مَنْ بداخله .
يقول تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ . . } [ الأنبياء : 80 ] يعني : الدروع التي تحمي الإنسان وتحفظه في الحرب .
والمحصنات : تُطلَق على المتزوجة ، لأنها حصَّنَتْ نفسها بالزواج أن تميل إلى الفاحشة ، وتطلق أيضاً على الحرة ، لأنهم في الماضي كانت الإماء هُنَّ اللائي يدعين لمسألة البغاء ، إنما لا تقدم عليها الحرائر أبداً .
لذلك فإن السيدة هنداً التي نُسيِّدها الآن بعد إسلامها ، وهي التي لاكتْ كبد سيدنا حمزة في غزوة أحد ، لكن لا عليها الآن؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله . لما سمعت السيدة هند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي النساء عن الزنا قالت : أو تزني حُرَّة؟ لأن الزنا انتشر قبل الإسلام بين البغايا من الإماء ، حتى كانت لهن رايات يرفعْنها على بيوتهن ليُعرفْنَ بها .
والمعنى : يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان ، والمراد الزنا { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً . . } [ النور : 4 ] وهذا يُسمَّى حدَّ القذف ، أن ترمي حُرّة بالزنا وتتهمها بها ، ففي هذه الحالة عليك أنْ تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميْتها به ، فإن لم تفعل يُقام عليك أنت حَدُّ القذف ثمانين جلدة ، ثم لا ينتهي الأمر عند الجَلْد ، إنما تُقبل منك شهادة بعد ذلك أبداً .
{ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً . . } [ النور : 4 ] لماذا؟ لأنه لم يَعُدْ أهلاً لها؛ لأنه فاسق { وأولئك هُمُ الفاسقون } [ النور : 4 ] والفاسق لا شهادةَ له ، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حَدَّ الجلْد ، ثم أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته ، ثم وصفه بعد ذلك بالفسق ، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة .
هذا كله ليزجر كل مَنْ تسوِّل له نفسه الخوْضَ في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات؛ لذلك عبَّر عن القَذْف بالرمي؛ لأنه غالباً ما يكون عن عجلة وعدم بينة ، فالحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة ، أو مجرد ذكرها والحديث عنها .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ . . } .
(1/6285)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
اختلف العلماء في معنى الاستثناء هنا : أهو استثناء من الفِسْق؟ أم استثناء من عدم قبول الشهادة؟
ذكرنا أن مشروعية التوبة مِنَّة وتكرُّم من الحق - تبارك وتعالى - لأنه لو لم تشرع التوبة كان مَنْ يقع في معصية مرة ، ولا تُقبل منه توبه يتجرأ على المعصية ويكثر منها ، ولم لا؟ فلا دافعَ له للإقلاع .
إذن : حين يشرع الله التوبة إنما يحمي المجتمع من الفاقدين الذين باعوا أنفسهم ، وفقدوا الأمل في النجاة . فمشروعية التوبة كَرَم ، وقبولها كرم آخر ، لذلك يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا . . } [ التوبة : 118 ] أي : شرع لهم التوبة ليتوبوا فيقبل منهم .
وقوله تعالى : { وَأَصْلَحُواْ . . } [ النور : 5 ] تدل على أن مَنْ وقعتْ منه سيئة عليه أن يتبعها بحسنة ، وقد ورد في الحديث الشريف : " وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها . . . . " لذلك تجد الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية ما ، حينما يكبرون ويُحبّون التوبة تراهم شغوفين بحُبِّ الخير وعمل الطاعات ، يريدون أن يُكفِّروا بها ما سبق من السيئات ، على خلاف مَنْ حافظ على نفسه ، ونأى بها عن المعاصي ، فتراه بارداً من ناحيتها يفعل الخير على قَدْر طاقته .
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُحذِّر عباده : يا عبادي احذروا : مَنْ أخذ مني شيئاً خِلْسة أو ترك لي حكماً ، أو تجرأ عليَّ بمعصية سيتعب فيما بعد ، ويلاقي الأمَّريْن؛ لأن السيئة ستظل وراءه تطارده وتُجهده لأغفرها له ، وسيحتاج لكثير من الحسنات وأفعال الخير ليجبر بها تقصيره في حَقِّ ربه .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين * والخامسة أَنَّ . . } .
(1/6286)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
بعد أن تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن الذين يرمون المحصنات ، وبيّن حكم القذف ، أراد أنْ يُبيِّن حكم الرمي إنْ كان من الزوج لزوجته؛ لأن الأمر هنا مختلف ، وربما يكون بينهما أولاد منه أو من غيره ، فعليه أن يكون مُؤدباً بأدب الشرع ، ولا يجرح الأولاد برمي أمهم ولا ذنب لهم .
لذلك شرع الحق - سبحانه وتعالى - في هذه الحالة حكماً خاصاً بها هو الملاعنة ، وقد سُمِّيت هذه الآية آية اللعان .
ويُرْوَى أن هلال بن أمية ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله إني رأيتُ فلاناً على بطن زوجتي ، فإنْ تركتُه لآتي بأربعة شهداء لقضي حاجته وانصرف ، وإنْ قتلتُه فقد اعتديْتُ عليه .
إذن : ما حَلّ هذا اللغز؟
وينبغي أن نعلم أن الله تعالى لا ينزل التشريع والحكم بدايةً ، إنما يترك في الكون من أقضية الحياة واحداثها ما يحتاج لهذا الحكم ، بحيث ينزل الحكم فيصادف الحاجة إليه ، كما يقولون : موقع الماء من ذي الغُلَّة الصَّادي ، يعني : حين ينزل الحكم يكون له موضع فيتلقفه الناس ، ويشعرون أنه نزل من أجلهم بعد أنْ كانوا يستشرفون لحكم في مسألة لم يأت فيها حكم .
وقد شرع الله تعالى حكم الملاعنة أو اللعان خاصة ، لهذه الحالة التي يلاحظ فيها الزوج شيئاً على أهله ، وقد يضع يده عليه ، لكن لا يستطيع أنْ يأتي عليه بشهود ليثبت هذه الحالة؛ لذلك جعله الشارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشهادة ، ويكررها أربع مرات بدل الشهداء الأربع .
يقول : أشهد الله أنني صادق فيما رميتُ به امرأتي ، يقولها أربع مرات ، وفي الخامسة يقول : ولعنة الله عليَّ إنْ كنتُ كاذباً ، وهكذا ينتهي دور الزوج في الملاعنة .
(1/6287)

وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
( يَدْرَأ ) أي : يدفع العذاب عن الزوجة أن تشهد هي الأخرى أربع شهادات بالله ، تقول : أشهد الله أنه كاذب فيما رماني به ، وفي الخامسة تقول : غضب الله عليَّ إنْ كان هو من الصادقين . فإن امتنعت الزوجة عن هذه الشهادة فقد ثبت عليها الزنا ، وإنْ حلفتْ فقد تعادلا ، ولم يَعُدْ كل منهما صالحاً للآخر ، وعندها يُفرِّق الشرع بينهما تفريقاً نهائياً لا عودةَ بعده ، ولا تحل له أبداً .
هذا التشريع فَضْل من الله؛ لأنه أنهى هذه المسألة على خير ما تنهي عليه؛ لذلك يقول الحق سبحانه بعدها : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ . . } .
(1/6288)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
أي : لولا هذا لَفُضحتم ولتفاقمت بينكم العداوة ، لكن عصمكم فضل الله في هذا التشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة .
والقذف جريمة بشعة في حَقِّ المجتمع كله ، تشيع فيه الفاحشة وتتقطع الأواصر ، هذا إنْ كان للمحصنات البعيدات ، وهو أعظم إنْ كان للزوجة ، لكن ما بالك إنْ وقع مثل هذا القول على أم ليست أماً لواحد ، إنما هي أم لجميع المؤمنين ، هي أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها وأرضاها - فكانت مناسبة أن يذكر السياق ما كان من قَذْف السيدة عائشة ، والذي سُمِّي بحادثة الإفك؛ لماذا؟
لأن الله تعالى يريد أن يُعطينا الأُسْوة في النبوة نفسها ، ويريد أنْ يُسلِِّي عائشة صاحبة النسب العريق وأم المؤمنين ، وقد قيل فيها ما قيل؛ لذلك ستظل السيدة عائشة أُسْوة لكل شريفة تُرْمَى في عِرْضها ، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها ، نقول لها : لا عليك ، فقد قالوا مثل هذا في عائشة .
وتقوم آيات الإفك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم - في البلاغ عن ربه ، فذكر أنهم يرمون المحصنات ، ويرمون زوجاتهم ، والأفظع من ذلك أنْ يرموا زوجة النبي وأم المؤمنين ، فيقول سبحانه : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ . . } .
(1/6289)

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
الإفك : لدينا نِسَب ثلاث للأحداث : نسبة ذهنية ، ونسبة كلامية حين تتكلم ، ونسبة خارجية . فحين أقول : محمد مجتهد . هذه قضية ذهنية ، فإن نطقتَ بها فهي نسبة كلامية ، فهل هناك شخص اسمه محمد ومجتهد ، هذه نسبة خارجية ، فإنْ وافقت النسبةُ الكلامية النسبةَ الخارجية ، فالكلام صِدْق ، وإنْ خالفت فالكلام كذب .
فالصدق أنْ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ ، والكذب أَلاَّ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ ، والكذب قد يكون غير متعمد ، وقد يكون مُتعمداً ، فإنْ كان مُتعمداً فهو الإفك ، وإن كان غير متعمد كأنْ أخبره شخص أن محمداً مجتهد وهو غير ذلك ، فالخبر كاذب ، لكن المخبر ليس كاذباً .
فالإفك - إذن - تعمُّد الكذب ، ويعطي ضد الحكم ، كأن تقول : محمد مجتهد . وأنت تعلم أنه مهمل؛ لذلك كان الإفكُ أفظعَ أنواع الكذب؛ لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعاً مضاداً لما لم يحدث .
يقول تعالى : { والمؤتفكة أهوى } [ النجم : 53 ] وهي القُرَى التي جعل الله عاليها سافلها ، وكذلك الإفك يُغيِّر الواقع ، ويقلبه رَأْساً على عَقِب .
والعصبة : الجماعة التي تربتط حركتها لتحقيق غاية متحدة ، ومن ذلك نقول : عصابة مخدرات ، عصابة سرقات ، يعني : جماعة اتفقوا على تنفيذ حَدَث لغاية واحدة ، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف : { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ . . } [ يوسف : 14 ] .
وما دام أهلُ الإفْك عصبةً فلا بُدَّ أن لهم غاية واحدة في التشويه والتبشيع ، وكان رئيسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، وهو شيخ المنافقين ، ومعذور في أن يكون كذلك ، ففي اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبيٍّ تاجاً ليُنصِّبوه مَلِكاً على المدينة ، فلما فُوجِيء برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه .
لذلك فهو القائل : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل . . } [ المنافقون : 8 ] يقصد أنه الأعزُّ ، فردَّ عليه الحق - تبارك وتعالى - صدقت ، لكن العزة ستكون لله وللرسول وللمؤمنين ، وعليه فالخارج منها أنت .
وهو أيضاً القائل : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ . . } [ المنافقون : 7 ] والعجيب أنه يعترف أن محمداً رسول الله ، ويقولها علانية ، ومع ذلك ينكرها بأعماله وتصرفاته ، ويحدث تشويشاً في الفكر وفي أداء العبارة .
وما دام أن الحق سبحانه سمَّى هذه الحادثة في حَقِّ أم المؤمنين عائشة إفكاً فلا بُدَّ أنهم قَلَبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع .
والقصة حدثت في غزوة بن المصطلق ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته : مَنْ تخرج منهن معه . وهذا ما تقتضيه عدالته صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجتْ معه ، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة : ذهبت لأقضي حاجتي في الخلاء ، ثم رجعت إلى هَوْدَجِي ألتمس عِقْداً لي من ( جَزْع ظَفَار ) وهو نوع نفيس .
(1/6290)

فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا ، ولم تجد هَوْدجها فقالت في نفسها لا بُدَّ أنهم سيفتقدونني وسيعودون . لكن كيف حمل القوم هودج عائشة ولم تكُنْ فيه؟ قالوا : لأن النساء كُنَّ خِفَافاً لم يثقلن ، وكانت عائشة نحيفة ، لذلك حمل الرجال هَودْجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله . ثم نامت السيدة عائشة في موضع هودجها تنتظر مَنْ يأتيها ، وكان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان ويُعقب عليه ، عَلَّه يجد شيئاً نسيه القوم أو شخصاً تخلَّف عن الرَّكْب .
وكان هذا المعقِّب هو صفوان بن المعطل ، فلما رأى شبحَ إنسان نائم فاقترب منه ، فإذا هي عائشة رضي الله عنها ، فأناخ ناقته بجوارها ، وأدار وجهه حتى ركبتْ وسار بها دون أن ينظر إليها وعَفَّ نفسه ، بدليل أن القرآن سمَّى ما قالوه إفْكاً يعني : مناقضاً للواقع ، فصفوان لم يفعل إلا نقيض ما قالوا .
ولما قَدِم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموهما ، وقالوا في حقهما مَا لا يليق بأم المؤمنين ، وقد تولّى هذه الحملة رَأْسُ النفاق في المدينة عبد الله بن أُبيٍّ ومِسْطح بن أُثَاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش ، فروَّجوا هذا الاتهام وأذاعوه بين الناس .
ثم يقول سبحانه : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ . . } [ النور : 11 ] لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته؟ قالوا : لأن القرآن حين تُتَّهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة ، وحين يُفضَح قوم على لسان القرآن ، لا بُدَّ أن يعتبر الآخرون ، ويخافوا إنْ فعلوا مخالفة أنْ يفتضح أمرهم؛ لذلك جاء هذا الموقف درساً عملياً لمجتمع الإيمان .
نعم ، أصبحت الحادثة خيراً؛ لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته ، فالحق - تبارك وتعالى - يُؤيِّد رسوله في الأشياء المسرَّة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه ، ولو بالتدليس ، وبالمكر ولو بالإسرار والكَيْد الخفي ، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان إيمان الناس به يزداد يوماً بعد يوم .
وقد ائتمروا عليه وكادوا له ليلاً ليلة الهجرة ، فلم يفلحوا ، فحاولوا أن يسحروه ، وفعلاً صنعوا له سحراً ، ووضعوه في بئر ذروان في مُشْط ومشاطة ، فأخبره بذلك جبريل عليه السلام ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فجاء به .
إذن : عجزوا في المواجهة ، وعجزوا في التبييت والكيد ، وعجزوا حتى في استخدام الجن والاستعانة به ، وهنا أيضاً عجزوا في تشويه صورة النبوة والنَّيْل من سمعتها ، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه : اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبداً ، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيراً لجماعة المؤمنين .
ومع ذلك ،
(1/6291)

" لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقها ، لكن تغيَّر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يَعُدْ يداعبها كعادته ، وكان يدخل عليها فيقول : " كيف تيكم " وقد لاحظت عائشة هذا التغيُّر لكن لا تعرف له سبباً إلى أنْ تصادف أنْ سارت هي وأم مِسْطح أحد هؤلاء المنافقين ، فعثرتْ فقالت : تعس مِسْطح فنهرتها عائشة : كيف تدعو على ابنها ، فقالت : إنك لا تدرين ما يقول؟ عندها ذهبتْ السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عَمَّا يقوله الناس فأخبرتها .
لذلك لما نزلت براءة عائشة في القرآن قال لها أبو بكر : قومي فاشكري رسول الله ، فقالت : بل أشكر الله الذي بَرّأني " .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم . . } [ النور : 11 ] .
عادةً ما يستخدم الفعل ( كَسَبَ ) المجرد في الخير ، والفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال في الشر ، لماذا؟ قالوا : لأن فِعْل الخير يتمشى وطبيعة النفس ، وينسجم مع ذراتها وتكوينها ، فالذي يُقدِم على عمل الخير لا يقاوم شيئاً في نفسه ، ولا يعارض ملكَة من مَلَكَاته ، أو عادة من العادات .
وهذه نلاحظها حتى في الحيوانات ، أَلاَ ترى القطة : إنْ وضعتَ لها قطعة لحم تجلس بجوارك وتأكلها ، وإنْ أخذتْها منك خَطْفاً تفرّ بها هاربة وتأكلها بعيداً عنك . إذن : في ذاتية الإنسان وفي تكوينه - وحتى في الحيوان - ما يُعرف به الخير والشر ، والصواب والخطأ .
وأنت إذا نظرتَ إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعياً مطمئناً؛ لأن مَلكَات نفسك معك موافقة لك لا تعارضك في هذا الفعل ، فإنْ حاولتَ النظر إلى ما لا يحلّ لك تختلس النظرة وتسرقها ، وتحاول سترها حتى لا يلحظها أحد ، وقد ترتبك ويتغير لونك ، لماذا؟ لأنك تفعل شيئاً غير طبيعي ، لا حَقَّ لك فيه ، فتعارضك ملكَاتُ نفسك ، وذراتُ تكوينك . فالأمر الطبيعي تستجيب له النفس تلقائياً ، أمّا الخطأ والشر فيحتاج إلى افتعال ، لذلك عبَّر عن المكر والتبييت والكيد ب ( اكتسب ) الدال على الافتعال .
وقوله تبارك تعالى : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] .
تولَّى كبر الشيء : يعني قام به وله حَظٌّ وافر فيه ، أو نقول : هو ضالع فيه ، والمقصود هنا عبد الله بن أُبيّ الذي قاد هذه الحملة ، وتولّى القيام بها وترويجها { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 11 ] أي : يناسب هذه الجريمة .
(1/6292)

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
يُوجِّهنا الحق - تبارك وتعالى - إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم بإيمانهم ، وأنْ يظنوا بأنفسهم خيراً وينأَوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات التي لا تليق بمجتمع المؤمنين ، فكان على أول أُذن تسمع هذا الكلام على أول لسان ينطق به أن يرفضه؛ لأن الله تعالى ما كان ليُدلس على رسوله وصَفْوته من خَلْقه ، فيجعل زوجته محلَّ شكٍّ واتهام فضلاً عن رَمْيها بهذه الجريمة البشعة .
{ لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [ النور : 12 ] كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم ، فيردون هذا الكلام .
و ( لولا ) أداة للخصِّ والحثِّ ، وقال : { المؤمنون والمؤمنات . . } [ النور : 12 ] لأنه جال في هذه الفتنة رجال ونساء ، والقرآن لا يحثهم على ظنِّ الخير برسول الله أو زوجته ، وإنما ظن الخير بأنفسهم هم؛ لأن هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين ، فما بالك بزوجة نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟
{ وَقَالُواْ . . } [ النور : 12 ] أي : قبل أن ينزل القرآن ببراءتها { هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [ النور : 12 ] يعني : كذب متعمد واضح بيِّن لأنه في حق مَنْ؟ في حق أم المؤمنين التي طهَّرها الله واختارها زوجة لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ . . } .
(1/6293)

لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
وسبق أنْ ذكرت الآيات حُكْم القذف ، وأن على مَنْ يرمي المحصنة بهذه التهمة عليه أن يأتي بأربعة شهداء ليثبت صِدْق ما قال ، فإنْ لم يأْتِ بهم فهو كاذب عند الله ، ويجب أنْ يُقام عليه حَدُّ القذف .
ثم يقول تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ . . } .
(1/6294)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{ أَفَضْتُمْ . . } [ النور : 14 ] أن تندفع إلى الشيء اندفاعاً تقصد فيه السرعة ، ومعنى السرعة أن يأخذ الحدث الكبير زمناً أقلَّ مما يتصوّر له ، كالمسافة تمشيها في دقيقتين ، فتسرع لتقطعها في دقيقة واحدة ، فكأنهم أسرعوا في هذا الكلام لما سمعوه ، كما يقولون : خبَّ فيها ووضع .
لكن ، لماذا تفضَّل الله عليهم ورحمهم ، فلم يمسَّهم العذاب ، ولم يُجازهم على افترائهم على أم المؤمنين؟
قالوا : لأن الحق - تبارك وتعالى - أراد من هذه المسألة العبرة والعظة ، وجعلها للمؤمنين وسيلةَ إيضاح ، فليس المراد أن يُنزل الله بهم العذاب ، إنما أن يُعلمهم ويعطيهم درساً في حِفْظ أعراض المؤمنين .
(1/6295)

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
انظر إلى بلاغة الأداء القرآني في التعبير عن السرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وَعْي ودون تفكير ، فمعلوم أن تلقِّي الأخبار يكون بألأُذن لا بالألسنة ، لكن من سرعة تناقل هذا الكلام فكأنهم يتلقونه بألسنتهم ، كأن مرحلة السماع بالأذن قد ألغيت ، فبمجرد أن سمعوا قالوا .
{ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [ النور : 15 ] .
{ بِأَفْوَاهِكُمْ } [ النور : 15 ] يعني : مجرد كلام تتناقله الأفواه ، دون أنْ يُدقِّقوا فيه؛ لذلك قال بعدها { مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ . . } [ النور : 15 ] وهذا الكلام ليس هيناً كما تظنون ، إنما هو عظيم عند الله؛ لأنه تناول عِرْض مؤمن ، وللمؤمن حُرْمته ، فما بالك إنْ كان ذلك في حَقِّ رسول الله؟
ثم يقول الحق سبحانه : { ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ . . } .
(1/6296)

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
هذا ما كان ما يجب أن تقابلوا به هذا الخبر ، أنْ تقولوا لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نتناقل مثل هذا الكلام . وكلمة { سُبْحَانَكَ . . } [ النور : 16 ] تقال عند التعجُّب من حدوث شيء . والمعنى : سبحان الله نُنزِّهه ونُجِله ونُعليه أن يسمح بمثل الكذب الشنيع في حقِّ رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا كلام لا يصح أن نتكلم به ولو حتى بالنفي ، فإنْ كان الكلام بالإثبات جريمة فالكلام بالنفي فيه مَظنة أن هذا قد يحدث .
كما لو قلت : الوَرِع فلان ، أو الشيخ فلان لا يشرب الخمر ، فكأنه رغم النفي جعلته مظنة ذلك ، فلا يصح أن ينسب إليه السوء ولو بالنفي ، فذلك ذَمٌّ في حقِّه لا مدح .
كذلك التحدث بهذه التهمة لا يليق بأم المؤمنين ، ولو حتى بالنفي ، ومعنى { بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] كذب يبهت سامعه ، ويُدهِشه لفظاعته ، وشناعته . فنحن نأنف أن نقول هذا الكلام ، ولو كنا منكرين له .
(1/6297)

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
الوعظ : أن تأتي لِقمة الأشياء فتعِظ بها ، كالرجل حينما يشعر بنهايته يحاول أنْ يعِظَ أولاده ويُوصيهم ، لكن لا يُوصيهم بكُلِّ أمور الحياة ، إنما بالأمور الهامة التي تمثل القمة في أمور الحياة . ووعظ الحق - تبارك وتعالى - لعبادة من لُطفه تعالى ورحمته ، يعظكم؛ لأنه عزيز عليه أنْ يؤاخذكم بذنوبكم .
وتذييل الآية بهذا الشرط : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ النور : 17 ] حثٌّ وإهاجة لجماعة المؤمنين ، لينتهوا عن مثل هذا الكلام ، وألاَّ يقعوا فيه مرة أخرى ، وكأنه تعالى يقول لهم : إنْ عُدْتُم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم؛ لأن إيمانكم ساعتها سيكون إيماناً ناقصاً مشكوكاً فيه .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ . . } .
(1/6298)

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{ يُحِبُّونَ . . } [ النور : 19 ] الحب عمل قلبي ، والكلام عمل لساني ، وترجمة عملية لما في القلب ، فالمعنى : الذين يحبون هذا ولو لم يتكلَّموا به؛ لأن لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحب وهو عمل القلب ، ثم التحدث ، ثم السماع دون إنكار .
ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها ، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن : المسألة خطيرة .
والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده ، نعم هي للمتهم ، لكن قد تنتهي بحياته ، وقد تنتهي ببراءته ، لكن المصيبة أنها ستكون أُسْوة سيئة في المجتمع .
وهذا توجيه من الحق - سبحانه وتعالى - إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تُرَاعى ، وهي : حين تسمع خبراً يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض أو يخدش حكماً من أحكام الله ، فإياك أنْ تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة إيجاد أُسْوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل ، فيقول في نفسه : فلان فعل كذا ، وفلان فعل كذا ، ويتجرأ هو أيضاً على مثل هذا الفعل ، لذلك توعد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة . . } [ النور : 19 ] .
والحق - تبارك وتعالى - لم يعصم أحداً من المعصية وعمل السيئة ، لكن الأَسْوء من السيئة إشاعتها بين الناس ، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة ، فإنْ سمعت في حَقِّه مَا لا يليق فلربما زهّدك ما سمعتَ في هذا الشخص ، وزهَّدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمتَ المجتمع من حسنات هذا الرجل .
وهذه المسألة هي التعليل الذي يستر الله به غَيْب الخَلْق عن الخَلْق ، إذن : سَتْر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه ، ويجعلك تتعامل مع الآخرين ، وتنتفع بهم على عِلاَّتهم ، وصدق الشاعر الذي قال :
فَخُذْ بِعلْمي ولاَ تركَنْ إلىَ عَمِلي ... وَاجْنِ الثمارَ وخَلِّ العُودَ للنَّارِ
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ . . } .
(1/6299)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
انظر كم فضل من الله تعالى تفضّل به على عباده في هذه الحادثة ، ففي كل مرحلة من مراحل هذه القضية يقول سبحانه : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ . . } [ النور : 20 ] وهذا دليل على أن ما حدث كان للمؤمنين نعمة وخير ، وإنْ ظنوه غير ذلك .
لكن أين جواب لولا؟ الجواب يُفهَم من السياق وتقديره : لَفُضحْتُم ولَهلكتم ، وحصل لكم كذا وكذا ، ولك أنْ تُقدِّره كما تشاء .
وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته .
وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] .
فالحق - سبحانه وتعالى - شرع منهجاً ويحب مَنْ يعمل به ، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل ، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبُّل هذا العمل . إذن : ففضْل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخَلْق في منهج الخالق عز وجل .
وبعد هذه الحادثة كان لا بُدَّ أنْ يقول تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان . . } .
(1/6300)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة ، وقد أثبت الله عداوته لبني آدم ، وهي عداوة مُسبِّبة ليست كلاماً نظرياً ، إنما هو عدو بواقعة ثابتة ، حيث امتنع عن السجود لآدم ، وعصى أمر الله له ، بل وأبدى ما في نفسه وقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] .
وقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] وهكذا علّلَ امتناعه بأنه خير ، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه .
والحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود ، إنما يحذرنا منه ، ويُنبِّهنا إلى خطره ويُربِّي فينا المناعة من الشيطان؛ لأن عداوته لنا عداوة مركزة ، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق ، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة .
فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم ، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خَلْقه ، فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] .
فلو أرادنا ربنا - عز وجل - مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل ، إنما تركنا سبحانه للاختيار ، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب؛ لذلك قال بعدها : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 ] فمَنِ اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل .
إذن : مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان ، إنما بين الشيطان وبني آدم .
فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . } [ النور : 21 ] نداء : يا من آمنتم بإله كأنه يقول : تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به ، وابتعدوا عما يُضعِف هذا الإيمان ، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة ، وتأكّدوا أن الشيطان له خطوات متعددة .
{ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان . . } [ النور : 21 ] فإنْ وسوس لك من جهة ، فتأبَّيْتَ عليه ووجد عندك صلابةً في هذه الناحية وجَّهك إلى ناحية أخرى ، وزيّن لك من باب آخر ، وهكذا يظل بك عدوك إلى أنْ يُوقِعك ، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضَعْف في تكوينه ، فيظل يحاوره إلى أنْ يصل إلى هذه النقطة .
والشيطان : هو المتمرد العاصي من الجن ، فالجن مقابل الإنس ، فمنهم الطائع والعاصي ، والعاصي منهم هو الشيطان ، وعلى قِمتهم إبليس؛ لذلك يقول تعالى في سورة الكهف : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . } [ الكهف : 50 ] .
وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين المعصية من قِبل النفس والمعصية من قِبل الشيطان ، فالنفس تُلِح عليك في معصية بعينها لا تتعدّاها إلى غيرها ، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً على أيِّ : وجه من الوجوه ، فإن امتنعت عليه في معصية جَرَّك إلى معصية أخرى أياً كانت .
ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر . . } [ النور : 21 ] ولك أنْ تسأل : أين جواب ( مَنْ ) الشرطية هنا؟ قالوا : حُذِف الجواب لأنه يُفهم من السياق ، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه ، وتستطيع أن تُقدِّر الجواب : مَنْ يتبع خطوات الشيطان بُذِقْه ربه عذاب السعير؛ لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر ، فَمَنْ يتبع خطواته ، فليس له إلا العذاب ، فقام المسبّب مقام جواب الشرط .
(1/6301)

والكلام ليس كلام بشر ، إنما هو كلام رَبِّ العالمين . وأسلوب القرآن أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني ، وليس مجرد كلام وحَشْو .
أَلاَ ترى بلاغة الإيجاز في قوله تعالى من سورة النمل : { اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ] .
ثم يقول تعالى بعدها : { قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] .
وتأمل ما بين هذيْن الحدثيْن من أحداث حُذِفت للعلم بها ، فوعي القاريء ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد . . وو إلخ فهذه أحداث يُرتِّبها العقل تلقائياً .
وقد أوضح الشيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها ، وبيَّن طرقه في الإغواء ، ألم يقل : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] فلا حاجةَ للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه ، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً ، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلين صلاتهم ، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته ، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان ، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك .
لكن مصيبتنا أن الشيطان فقط طرف الخيط ، فنسير نحن خَلْفه ( نكُرّ في الخيط كَرّاً ) ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذْنا بالله من الشيطان الرجيم ، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله . . } [ الأعراف : 200 ] .
إذن : إياك أنْ تقبل منه طرف الخيط؛ لأنك لو قَبِلْته فلن تقدر عليه بعد ذلك .
ومن خطوات الشيطان أيضاً قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ . . } [ الأعراف : 17 ] .
إذن : للشيطان في إغواء الإنسان منهج وخُطّة مرسومة ، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع : من أمامه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله . لكن لم يذكر شيئاً عن أعلى وأسفل؛ لأن الأولى تشير إلى عُلُوِّ الربوبية ، والأخرى إلى ذُلِّ العبودية ، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء ، وحين تضع جبتهك على الأرض في سجودك؛ لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين .
ثم يقول تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ . . } [ النور : 21 ] .
قلنا : إن فضل الجزاء يتناوبه أمران : جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه ، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق؛ لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء : اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ وبالإحسان لا بالميزان ، وبالجبر لا بالحساب . فإنْ عاملنا ربنا - عز وجل - بالعدل لَضِعْنا جميعاً .
لكن ، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال ، كما أخذ الأمم السابقة ، وظهر فَضْل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرَّض للحَدث ، وحذرنا قديماً من الشيطان قبل أن نقع في المعصية ، وقبل أن تفاجئنا الأحداث ، فقال سبحانه :
(1/6302)

{ فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ . . } [ طه : 117 ] وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي .
لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يُربِّي المناعة في النفس ، فلم يتركنا ربنا - عز وجل - في غفلة إلى أنْ تقعَ في المعصية ، كما نُحصِّن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها .
وقوله تعالى : { مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً . . } [ النور : 21 ] ( زكَى ) تطهَّر وتنقّى وصُفِّيِ { ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 21 ] وقال : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 21 ] لأنه تعالى سبق أنْ قال : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ . . } [ النور : 19 ] ذلك في ختام حادثة الإفك التي هزَّتْ المجتمع الإسلامي في قمته ، فمسَّتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِّدِّيق وزوجته أم المؤمنين عائشة وجماعة من الصحابة .
لذلك قال تعالى ( والله سَمِيعٌ ) لما قيل ( عَلِيمٌ ) [ النور : 21 ] بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى . . } .
(1/6303)

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
تورط في حادثه الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير ، لكنه فُتِن بما قيل وانساقَ خلف مَنْ روَّجوا لهذه الإشاعة ، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق ، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره ، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها اقسم أبو بكر ألاّ ينفق عليه ، وقد كان يعيش وأهله في سَعَة أبي بكر وفضله؛ لأن هذه الفتنة جعلتْ بعض أهل الخير يضِنُّ به .
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف ، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير ، ويصرفهم عن عمل المعروف ، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة ، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان؛ لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه .
وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت ، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى؛ لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك ، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته .
إذن : العافي أقسى قَلْباً من المنتقم ، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر ، فيأتي الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً ، فيأخذه في حضنه ، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه ، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى .
ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك ، وتُحسن إليه ، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها .
إذن : نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله ، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه ، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس .
فقال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة . . } [ النور : 22 ] .
{ يَأْتَلِ . . } [ النور : 22 ] ائتلى مثل اعتلى تماماً ، ومنها تألّى يعني : حلف وأقسم ، يوجه الحق - تبارك وتعالى - الصِّديق أبا بكر ، ويذكر لفظ { أُوْلُواْ . . } [ النور : 22 ] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام ، ففي كل ناحية له فضل؛ لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال للصِّديق : { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا . . } [ النور : 22 ] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { فاعف عَنْهُمْ واصفح . . } [ المائدة : 13 ] .
كذلك ، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار ، وثاني اثنين في أمور كثيرة ، فهو ثاني اثنين في الهجرة ، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن الصِّديق : " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان " . يعني : في التسابق في الخير " فسبقته إلى النبوة فاتبعني ، ولو سبقني إليها لاتبعته " " .
(1/6304)

ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد ، إنما بصيغة الجمع تكريماً وتعظيماً .
أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول : " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف ، لو لم أجد إلا الذر " .
هذا موقف الصِّديق رقيق القلب ، ليِّن الجانب ، صاحب الرحمة والحنان ، الذي تقول عنه ابنته " إنه رجل بكّاء " يعني : كثير البكاء . في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار . لكن هذا التناقض في موقف كل منها يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعاً غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه ، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسداً شجاعاً قاسيَ القلب ، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا : شِدّة أَلِفها الناس من عمر .
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه ، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانياً ، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ . . } [ الفتح : 29 ] .
فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها ، ولا على الرحمة وحدها ، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله .
فقوله تعالى : { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة . . } [ النور : 22 ] يقول للصِّديق : أنت رجل فاضل صِدِّيق ، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر على نفسك من ضيق ، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مِسْطح ، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله ، وعُوقِبَ بحدِّ القذف ثمانين جَلْدة ، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك .
ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه؛ لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ ، وانتهت المسألة ، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه .
فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول : ارجع إلى فضلك يا أبا بكر ، وعُدْ أنت إلى سعتك ، وكُنْ موصولَ المروءة ، ولا تقطع رحمك ، يريد - سبحانه وتعالى - أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة .
ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل ، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان ، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة .
ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون ، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة ، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون : أعطوا مَنْ آمن ، واتركوا مَنْ كفر؟ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مَثَلاً في ذاته عز وجل ، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه ، بل ربما كان أحسن حالاً مِمَّنْ آمن ، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك .
(1/6305)

لذلك يقول سبحانه في آية أخرى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 224 ] .
فإنْ كنت بارّاً بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبرُّه ، فقد تهدأ ثورتك عليه ، وتريد أنْ تبرَّه ، وتتحجج بحلفك ، إذن : لا تجعلوا الله عُرْضة لحلف يمنعكم من المعروف .
ثم يقول سبحانه : { أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله . . } [ النور : 22 ] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين ، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر ، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر ، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم .
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة ، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها ، كما قال عز وجل : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات . . } [ هود : 114 ] .
فرغم ما وقع فيه مِسْطح ، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر ، وتحنين قلبه ، وأبقاه في المهاجرين .
{ وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا . . } [ النور : 22 ] العفو : ترك العقوبة على الذنب ، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه ، وتمنّ عليه بعفوْك ، وتُذكِّره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو؛ لذلك يحثنا ربنا - تبارك وتعالى - على الصفح بعد العفو ، والصفح : تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه .
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس ، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب ، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً ، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه .
وفي ذلك يقول سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] .
لو تأملنا حقيقة المثْلية في رَدِّ الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها ، فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة ، أعندك القدرة التي تردُّ بها هذه الضربة بمثلها تماماً بنفس الطريقة ، وبنفس القوة ، ونبفس الألم ، بحيث لا تكون أنت مُعْتدياً؟ إنك لو تأملتَ هذه المثلية لفضَّلْتَ العفو بدل الدخول في متاهات أخرى .
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلاً من لحمه ، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي ، وأخبره بما كان بينهما من شرط ، وكان القاضي ذكياً فقال للمرابي : خُذ السكين واقطع رطلاً من لحمه ، لكن إنْ زاد أخذناه منك ، وإنْ نقص أخذناه منك ، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة .
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو ، وانتهت المسألة على خير ما يكون .
(1/6306)

وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] .
فالحق - تبارك وتعالى - يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة ، فالعقاب بالمثل مرتبة ، وكَظْم الغيظ مرتبه ، والعفو مرتبة ، والصفح مرتبة ، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك { والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] .
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ . . } [ النور : 22 ] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك ، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك؟ وكأن ربنا - عز وجل - يريد أن يُصلح ما بيننا؛ لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر قال : أحب يا رب ، أحب يا رب ، أحب يا رب .
ومعنى { أَلاَ . . } [ النور : 22 ] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 22 ] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران ، وليكن لديه رحمة ، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله ، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات . . } .
(1/6307)

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
نلحظ أن الآيات تحدثتْ عن حَدِّ القذف وما كان من حادثة الإفك ، ثم ذكرت آية العتاب لأبي بكر في مسألة الرزق ، ثم عاد السياق إلى القضية الأساسية : قضية القذف ، فلماذا دخلتْ مسألة الرزق في هذا الموضوع؟
قالوا : لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون آثار تتعلق بالرزق ، والرزق تكفَّل الله به لعباده؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود ، سواء المؤمن أو الكافر ، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله ، ويد الله الممدودة بأسباب الله .
والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه ومعطيه ، لكن طالما أعطاه صار العطاء مِلْكاً له ، فإنْ حَثَّه على النفقة بعد ذلك يأخذها منه قَرْضاً؛ لذلك يقول سبحانه : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً . . } [ البقرة : 245 ] .
فإنْ أنفق الموسر على المعسر جعله الله قَرْضاً ، وتولّى سداده بنفسه؛ ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هِبَته ، فطالما أعطاك الرزق ، فلا يأخذه منك إلا قَرْضاً .
لذلك يقول تعالى : { هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ . . } [ محمد : 38 ] .
وفي موضع آخر يقول عن الأموال : { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 38 ] لأن الإنسان تعب في جمع المال وعَرق في سبيله ، وأصبح عزيزاً عليه؛ لذلك يبخل به ، فأخذه الله منه قَرْضاً مردوداً بزيادة ، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مَنَاط لعمارة الخليفة في الأرض؛ لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا ، وذكر هذه الآية التي تتعلَّق بالرزق .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى . . } [ البقرة : 238 ] وقد ذُكِرَتْ وسط مسائل تتعلق بالعِدَّة والكفارة ، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها ، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل؟
قالوا : لأن النزاعات التي تحدث غالباً ما تُغيِّر النفس البشرية وتثير حفيظتها ، فإذا ما قمتَ للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن . وتستقبل مسائل الخلاف هذه بشيء من القبول والرضا .
نعود إلى قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات . . } [ النور : 23 ] المحصنة : لها إطلاقات ثلاث ، فهي المتزوجة لأن الإحصان : الحِفْظ وكأنها حفظتْ نفسها بالزواج ، أو هي العفيفة ، وإنْ لم تتزوج فهي مُحْصَنة في ذاتها ، والمحصنة هي أيضاً الحرة؛ لأن عملية البِغَاء والزنا كانت خاصة بالإماء .
و { الغافلات . . } [ النور : 23 ] جمع غافلة ، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل ، وليس في بالها شيء عن هذه العملية ، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل بريرة خادمة السيدة عائشة : ما تقولين في عائشة يا بريرة؟ فقالت : تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري " وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نُضْج المراهقة ومع نُضْج المراهقة نُضْج اليقين والإيمان .
(1/6308)

وتلحظ هذه الغفلة في البنت الصغيرة حين تقول لها : أتتزوجين فلاناً؟ تقول : لا أنا أتزوج فلاناً ، ذلك لأنها لا تدري معنى العلاقة الزوجية ، إنما حينما تكبر وتفهم مثل هذه الأمور فإنْ ذكرتَ لها الزواج تستحي وتخزى أن تتحدث فيه؛ لأنها عرفتْ ما معنى الزواج .
لذلك لما أمرنا الشرع باستئذان البنت للزواج جعل إذنها سكوتها ، فإن سكتتْ فهذا إذْن منها ، ودليل على فهمها لهذه العلاقة ، إنما إنْ قالت : نعم أتزوجه لأنه جميل و . . و . . ، فهذا يعني أنها لم تفهم بعد معنى الزواج .
إذن : الغافلة حتى عن مسائل الزواج والعلاقات الزوجية ، ولا تدري شيئاً عن مثل هذه الأمور كيف تفكر في الزنا؟
ثم يذكر ربنا - تبارك وتعالى - جزاء هذه الجريمة : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 23 ] .
وإن كانت الغافلة هي التي ليس في بالها مثل هذه الأمور ، ولا تدري شيئاً حتى عن الزواج والعلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة ، فيكيف نقول : إنها تفكر في هذه الجريمة؟
واللعْن : هو الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وأيضاً الطرد والإبعاد عن حظيرة المؤمنين؛ لأن القاذف حكمه أنْ يُقام عليه الحدُّ ، ثم تسقط شهادته ، ويسقط اعتباره في المجتمع الذي يعيش فيه ، فجمع الله عليه الخزي في الدنيا بالحدِّ وإسقاط الاعتبار ، إلى جانب عذاب الآخرة ، فاللعن في الدنيا لا يعقبه من عذاب الآخرة .
وقلنا : إن العذاب : إيلام حَيٍّ ، وقد يُوصَف العذاب مرة بأليم ، ومرة بمهين ، ومرة بعظيم ، هذه الأوصاف تدور بين العذاب والمعذّب ، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الجَلْد ، لكن يهينه ، فهو في حقه عذاب مهين لكرامته ، أما العذاب العظيم فهو ما فوق ما يتصوَّره المتصوِّر؛ لأن العذاب إيلام من مُعذِّب لمعذِّب ، والمعذَّب في الدنيا يُعذَّب بأيدي البشر وعلى قَدْر طاقته ، أمّا العذاب في الآخرة فهو بجبروت الله وقَهْر الله؛ لذلك يُوصَف بأنه عظيم .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ . . } .
(1/6309)

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
نعلم جميعاً أن اللسان هو الذي يتكلم ، فماذا أضافت الآية : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ . . } [ النور : 24 ] .
قالوا : في الدنيا يتكلم اللسان وينطق ، لكن المتكلم في الحقيقة أنت؛ لأنه مَا تحرَّك إلا بمرادك له ، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك ، إذن : فهو مجرد آلة ، أمَّا في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه؛ لأن صاحبه ليس له مراد الآن .
ولتقريب هذه المسألة : أَلاَ ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم ، ويُمسك لسانه بعد طلاقته ، بسبب مرض أو نحوه ، فلا يستطيع بعدها الكلام ، وهو ما يزال في سَعَة الدنيا . فما الذي حدث؟ مجرد أن تعطلتْ عنده آلة الكلام ، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها ، فتنطق وتتحرك ، لا بإرادتك ، إنما بإرادة الله وقدرته .
فالمعنى { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ . . } [ النور : 24 ] أي : شهادة ونطقاً على مراد الله ، لا على مراد أصحابها .
ولمَ نستبعد نُطْق اللسان على هذه الصورة ، وقد قال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وقد جعل فيك أنت أيها الإنسان نموذجاً يؤكد صِدْق هذه القضية . فَقُلْ لي : ماذا تفعل إنْ أردتَ أن تقوم الآن من مكان؟ مجرد إرادة القيام ترى نفسك قد قُمْتَ دون أن تفكر في شيء ، ودون أن تستجمع قواك وفكرك وعضلاتك ، إنما تقوم تلقائياً دون أن تدري حتى كيفية هذا القيام ، وأيّ عضلات تحركت لآدائه .
ولك أنْ تقارن هذه الحركة التلقائية السَّلسِة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة ، وكيف أن السائق أمامه عدد كبير من العِصيِّ والأذرع ، لكل حركة في الآلة ذراع معينة .
فإذا كان لك هذه السيطرة وهذا التحكم في نفسك وفي أعضائك ، فكيف تستبعد أن يكون لربك - عز وجل - هذه السيطرة على خَلْقه في الآخرة؟
إذن : فاللسان محلّ القول ، وهو طَوْع إرادتك في الدنيا ، أما في الآخرة فقد شُلَّتْ هذه الإرادة ودخلتْ في قوله تعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
ثم يقول سبحانه : { وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] وهذه جوارح لم يكُنْ لها نُطْق في الدنيا ، لكنها ستنطق اليوم . ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون : إن الجارحة حين تعمل أيَّ عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملتْ ، فنُطْقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت .
والأقرب من هذا كله أن نقول : إنها تنطق حقيقة ، كما قال تعالى حكايةً عن الجوارح : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ فصلت : 21 ] .
ومعنى : { الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أن لكل شيء في الكون نُطْقاً يناسبه ، كما نطقت النملة وقالت : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ . . }
(1/6310)

[ النمل : 18 ] ونطق الهدهد ، فقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] .
وقد قال تعالى عن نُطْق هذه الأشياء : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } [ الإسراء : 44 ] .
لكن ، إنْ أراد الله لك أن تفقه نُطْقهم فقَّهك كما فقَّه سليمان عليه السلام ، حين فهم عن النملة : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا . . } [ النمل : 19 ] كما فَهِم عن الهدهد ، وخاطبه في قضية العقيدة .
وإنْ كان النطق عادةً يفهم عن طريق الصوت ، فلكل خَلْق نُطْقه الذي يفهمه جنسه؛ لذلك نسمع الآن مع تقدُّم العلوم عن لُغة للأسماك ، ولغة للنحل . . . إلخ .
وسبق أنْ قلنا : إن الذين قالوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن الحصى سبّح في يده ، نقول : عليكم أن تُعدِّلوا هذه العبارة ، قولوا : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يده ، وإلاَّ فالحصى مُسبِّح في يده صلى الله عليه وسلم ، كما هو مُسبِّح في يد أبي جهل .
ولو سألتَ هذه الجوارح : لم شهدتِ عليَّ وأنت التي فعلت؟ لقالت لك : فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك ، إنما يوم ننحلّ عن إرادتك ونخرج عن قهرك ، فلن نقول إلا الحق .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق . . } .
(1/6311)

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قوله : { يَوْمَئِذٍ . . } [ النور : 25 ] أي : يوم أنْ تحدث هذه الشهادة ، وهو يوم القيامة { يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق . . } [ النور : 25 ] الدين : يُطلَق على منهج الله لهداية الخَلْق ، ويُطلق على يوم القيامة ، ويُطلَق على الجزاء .
فالمعنى : يوفيهم الجزاء الذي يستحقونه { الحق . . } [ النور : 25 ] أي : العدل الذي لا ظلمَ فيه ولا تغيير ، فليس الجزاء جُزَافاً ، إنما جزاء بالحق؛ لأنه لم يحدث منهم توبة ، ولا تجديد إيمان؛ لذلك لا بُدَّ أنْ يقع بهم ما حذرناهم منه وأخبرناهم به من العقاب ، وليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الحكم أو يؤخره عنهم .
لذلك بعد أنْ قال تعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وامرأته حَمَّالَةَ الحطب * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [ المسد : 1 - 5 ] .
قال بعدها : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 - 4 ] .
يعني : ليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الكلام ، فما قُلْته سيحدث لا محالةَ .
ثم يقول تعالى : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، فكلُّ ما عدا الله تعالى مُتغير ، إذن : فالله بكل صفات الكمال فيه سبحانه لا تغييرَ فيه ، لذلك يقولون : إن الله تعالى لا يتغير من أجلنا ، ولكن يجب أنْ نتغير نحن من أجل الله ، كما قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ . . } [ الرعد : 11 ] .
فالله هو الحقُّ الثابت ، هذا بالبراهين العقلية وبالواقع ، وقد عرفنا الكثير من البراهين العقلية ، أما الواقع فإلى الآن لم يظهر مَنْ يقول أنا الله ويدَّعي هذا الكون لنفسه ، وصاحب الدعوى تثبت له إنْ لم يَقُمْ عليها معارض ومعنى { المبين } [ النور : 25 ] الواضح الظاهر الذي تشمل أحقيتُه الوجودَ كله .
ثم يقول الحق سبحانه : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ . . } .
(1/6312)

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قلنا في تفسير { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . . } [ النور : 3 ] أن الزواج يقوم على التكافؤ ، حتى لا يستعلي طرف على الآخر ، ومن هذا التكافؤ قوله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ . . } [ النور : 26 ] .
ثم يقول سبحانه : { أولئك . . } [ النور : 26 ] أي : الذين دارتْ عليهم حادثة الإفك ، وخاض الناس في حقهم ، وهما عائشة وصفوان { مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ . . } [ النور : 26 ] أي : مما يُقَال عنهم ، بدليل هذا التكافؤ الذي ذكرتْه الآية ، فمن أطيبُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكما ذكرنا أن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على رسوله صلى الله عليه وسلم ويجعل من زوجاته مَنْ تحوم حولها الشبهات .
إذن : فلا بُدَّ أن تكون عائشة طَيّبةً طِيبةً تكافي وتناسب طِيبة رسول الله؛ لذلك برَّأها الله مما يقول المفترون .
وقوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ النور : 26 ] مغفرة نزلتْ من السماء قبل القيامة ، ورزق كريم ، صحيح أن الرزق كله من الله بكرم ، لكن هنا يراد الرزق المعنوي للكرامة وللمنزلة وللسمو ، لا الرزق الحسيّ الذي يقيم قِوام البدن من أكل وشرب وخلافه .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ . . } .
(1/6313)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
كلمة بيت : نفهم منها أنه ما أعِدّ للبيتوتة ، حيث يأوي إليه الإنسان آخر النهار ويرتاح فيه من عناء اليوم ، ويُسمَّى أيضاً الدار؛ لأنها تدور على مكان خاص بك؛ لذلك كانوا في الماضي لا يسكنون إلا في بيوت خاصة مستقلة لا شركة فيها مثل العمارات الآن ، يقولون : بيت من بابه . حيث لا يدخل ولا يخرج عليك أحد ، وكان السَّكَن بهذه الطريقة عِصْمةً من الريبة؛ لأنه بيتك الخاص بأهلك وحدهم لا يشاركهم فيه أحد .
لكن هناك أمور تقتضي أنْ يدخل الناس على الناس؛ لذلك تكلم الحق - تبارك وتعالى - هنا عن آداب الاستئذان وعن المبادئ والنظم التي تنظم هذه المسألة؛ لأن ولوج البيوت بغير هذه الآداب ، ودون مراعاة لهذه النظم يُسبِّب أموراً تدعو إلى الرِّيبة والشك؛ لذلك في الفلاحين حتى الآن : إذا رأوا شخصاً غريباً يدخل حارة لا علاقة له بها لا بُدَّ أن يسأل : لماذا دخل هنا؟
إذن : فشرْع الله لا يحرم المجتمع من التلاقي ، إنما يضع لهذا التلاقي حدوداً وآداباً تنفي الرّيْب والشبهة التي يمكن أنْ تأتي في مثل هذه المسائل .
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آداب الاستئذان : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا . . } [ النور : 27 ] .
{ حتى تَسْتَأْنِسُواْ . . } [ النور : 27 ] من الأُنْس والاطمئنان ، فحين تجلس وأهلك في بيتك ، وأقبل عليك غريب لا تعرفه ، إذا لم يُقدِّم لك ما تأنس به من الحديث أو الاستئذان لا بُدَّ أن تحدث منه وَحشة ونفور إذن : على المستأذن أن يحدث من الصوت ما يأنس به صاحب الدار ، كما نقول : يا أهل الله ، أو نطرق الباب ، أو نتحدث مع الولد الصغير ليخبر مَنْ بالبيت .
ذلك لأن للبيوت حرمتها ، وكل بيت له خصوصياته التي لا يحب صاحب البيت أن يطّلع عليها أحد ، إما كرامةً لصاحب البيت ، وإما كرامة للزائر نفسه ، فالاستئذان يجعل الجميع يتحاشى ما يؤذيه .
لذلك قال تعالى بعدها : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ . . } [ النور : 27 ] .
أي : خير للجميع ، للزائر وللمزور ، فالاستئذان يمنع أن يتجسس أحد على أحد ، يمنع أن ينظر أحد إلى شيء يؤذيه ، وهَبْ أن أبا الزوجة أراد زيارتها ودخل عليها فجأة فوجدها في شجار مع زوجها ، فلربما اطلع على أمور لا ترضيه ، فيتفاقم الخلاف .
ثم تختم الآية بقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النور : 27 ] يعني : احذروا أن تغفلوا هذه الآداب ، أو تتهاونوا فيها ، كمَنْ يقولون : نحن أهلٌ أو أقارب لا تكليفَ بيننا؛ لأن الله تعالى الذي شرع لكم هذه الآداب أعلَمُ بما في نفوسكم ، وأعلم بما يُصلِحكم .
بل ويتعدى هذا الأدب الإسلامي من الغريب إلى صاحب البيت نفسه ، ففي الحديث الشريف " " نهى أن يطرق المسافر أهله بليل " إنما عليه أن يخبرهم بقدومه حتى لا يفاجئهم وحتى يستعد كل منهما لملاقاة الآخر .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ . . } .
(1/6314)

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
فإذا استأذنتَ على بيت ليس فيه أحد ، فلا تدخل؛ لأنك جئتَ للمكين لا للمكان ، إلا إذا كنتَ تريد الدخول لتتلصص على الناس وتتجسَّس عليهم .
وقوله تعالى : { حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ . . } [ النور : 28 ] كيف والدار ليس فيها أحد؟
ربما كان صاحب الدار خارجها ، فلما رآك تستأذن نادى عليك من بعيد : تفضل . فلا بُدَّ أنْ يأذن لك صاحب الدار أو مَنْ ينوب عنه في الإذن؛ لأنه لا يأذن إلا وقد أمِن خُلو الطريق مما يؤذيك ، أو مما يؤذي أهل البيت .
ثم يقول سبحانه : { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ . . } [ النور : 28 ] .
لأنك إنْ تمسكت بالدخول بعد أنْ قال لك : ارجع فقد أثرت الريبة في نفسه ، فعليك أن تمتثل وتحترم رغبة صاحب الشأن ، فهذا هو الأزكى والأفضل ، أَلاَ ترى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ النور : 28 ] أي : عالم سبحانه بدخائل النفوس ووساوس الصدور ، فإنْ قال لك صاحب الدار ارجع فوقفتَ أمام الباب ولم تنصرف ، فإنك تثير حولك الظنون والأوهام ، وربك - عز وجل - يريد أنْ يحميك من الظنون ودخائل النفوس .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ . . } .
(1/6315)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
سأل الصِّديق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله نحن قوم أهل تجارة ، نذهب إلى بلاد ليس لنا فيها بيوت ولا أهل ، ونضطر لأن ننزل في أماكن ( عامة كالفنادق ) نضع فيها متاعنا ونبيت بها ، فنزلت هذه الآية .
و { جُنَاحٌ . . } [ النور : 29 ] يعني : إثم أو حرج ، وهذه خاصة بالأماكن العامة التي لا يسكنها أحد بعينه ، والمكان العام له قوانين في الدخول غير قوانين البيوت والأماكن الخاصة ، فهل تستأذن في دخول الفندق أو المحل التجاري أو الحمام . . . إلخ ، هذه أماكن لا حرجَ عليك في دخولها دون استئذان .
فمعنى { غَيْرَ مَسْكُونَةٍ . . } [ النور : 29 ] أي : لقوم مخصوصين { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ . . } [ النور : 29 ] كأن تنام فيها وتأكل وتشرب وتضع حاجياتك ، فالمتاع هنا ليس على إطلاقه إنما مقيد بما أحلَّه الله وأمر به ، فلا يدخل في المتاع المحرمات .
لذل قال بعدها : { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ النور : 29 ] يعني : في تحديد الاستمتاع ، فلا تأخذه على إطلاقه فتُدخل فيه الحرامَ ، وإلا فالبغايا كثيراً ما يرتادون مثل هذه الأماكن؛ لذلك يُحصِّنك ربك ، ويعطيك المناعة اللازمة لحمايتك .
ثم يقول رب العزة سبحانه : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ . . } .
(1/6316)

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا والقذف والإحصان ، وحذرتْ من اتباع خطوات الشيطان التي تؤدي إلى هذه الجريمة ، وتحدثت عن التكافؤ في الزواج ، وأن الزاني للزانية ، والزانية للزاني ، والخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات .
وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه ، فالله تعالى يريد مجتمعاً تضيء فيه القيم السامية ، مجتمعاً يخلو من وسائل ( العكننة ) والمخالفة والشَّحْناء والبغضاء ، فلو أننا طبَّقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله .
ومسألة غَضِّ البصر التي يأمرنا بها ربنا - عز وجل - في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة ، ويسد الطريق دونها؛ لذلك قال تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . . } [ النور : 30 ] .
وقلنا : إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة ، وكل جهاز إدراك له مناط : فالأذن تسمع الصوت ، والأنف يشم الرائحة ، واللسان للكلام ، ولذوْق المطعومات ، والعين لرؤية المرئيات ، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسَّة البصر؛ لذلك وضع الشارع الحكيم المناعة اللازمة في طرفي الرؤية في العين الباصرة وفي الشيء المبصر ، فأمر المؤمنين بغضِّ أبصارهم ، وأمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة ، وهكذا جعل المناعة في كلا الطرفين .
وحين تتأمل مسألة غَضِّ البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات : الأولى : أن يغضَّ هو بصره ولا تبدي هي زينتها ، فخطّ الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل ، الثانية : أن يغضَّ هو بصره وأن تبدي هي زينتها ، الثالثة : أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها . وليس هناك خطر على المجتمع إو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر . إنما الخطر في القسمة الرابعة : وهي أن ينظر هو ولا يغضّ بصره ، وأنْ تتزين هي وتُبدي زينتها ، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر .
إذن : فالحق - تبارك وتعالى - حرَّم حالة من أربع حالات؛ ذلك لأن المحرّمات هي الأقل دائماً ، وهذا من رحمة الله بنا ، بدليل قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . . } [ الأنعام : 151 ] فالمحرمات هي المحصورة المعدودة ، أمّا المحللات فهي فوق الحصر والعَدِّ ، فالأصل في الأشياء أنها حلال ، وإذا أراد الحق سبحانه تحريم شيء نَصَّ عليه ، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عز وجل .
وكما أمر الرجل بغضِّ بصره ، كذلك أُمِرَتْ المرأة بغضِّ بصرها ، لأن اللَّفْتة قد تكون أيضاً للرجل ذي الوسامة و . . و فإنْ كان حظ المرأة في رجل تتقحمه العين ، فلربما نظرتْ إلى غيره ، فكما يُقال في الرجال يُقال في النساء .
هذا الاحتياط وهذه الحدود التي وضعها الله عز وجل وألزمنا بها إنما هي لمنع هذه الجريمة البشعة التي بُدِئَتْ بها هذه السورة؛ لأن النظر أول وسائل الزنا ، وهو البريد لما بعده ، أَلاَ ترى شوقي رحمه الله حين تكلم عن مراحل الغَزَل يقول :
(1/6317)

نَظْرَةٌ فابتسَامَةٌ فسَلاَمٌ ... فكَلامٌ فموعِدٌ فَلِقَاءٌ
فالأمر بغَضِّ البصر لِيسدَّ منافذ فساد الأعراض ، ومَنْع أسباب تلوث النسل؛ ليأتي الخليفة لله في الأرض طاهراً في مجتمع طاهر نظيف شريف لا يتعالى فيه أحد على أحد ، بأن له نسباً وشرفاً ، والآخر لا نسبَ له .
ذلك ليطمئن كل إنسان على أن مَنْ يليه في الخلافة من أبناء أو أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعيٍّ شريف ، فيجتهد كل إنسان في أن يُنشِّيء أطفاله تنشئةً فيها شفقة ، فيها حنان ورحمة؛ لأنه واثق أنه ولده ، ليس مدسوساً علي ، وأغلب الظن أن الذين يُهملون أطفالهم ولا يُراعون مصالحهم يشكُّون في نسبهم إليهم .
ولا يصل المجتمع إلى هذا الطُّهْر إلا إذا ضمنتَ له الصيانة الكافية ، لئلا تشرد منه غرائز الجنس ، فيعتدي كل نظر على مَا لا يحلّ له؛ لأن النظر بريد إلى القلوب ، والقلوب بريد إلى الجنس ، فلا يعفّ الفرج إلا بعفاف النظر .
ونلحظ في قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . . } [ النور : 30 ] دقة بلاغ الرسول عن ربه - عز وجل - وأمانته في نقل العبارة كما أُنزِلَتْ عليه ، ففي هذه الآية كان يكفي أن يقول رسول الله : غُضُّوا أبصاركم ، لكنه التزم بنص ما أُنزِل عليه؛ لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط ، وإنما القرآن هو كلام الله المنزّل على رسوله والذي يُتعبَّد بتلاوته ، فلا بُدَّ أنْ يُبلّغه الرسول كما جاءه من ربه .
لذلك قال في البلاغ عن الله ( قُلْ ) وفي الفعل ( يَغضُّوا ) دلالةً على ملحظية ( قل ) ، فالفعل ( يغضوا ) مضارع لم تسبقه أداة جزم ، ومع ذلك حُذِفت منه النون ، ذلك لأنه جعل ( قُلْ ) ملحظية في الأسلوب .
والمعنى : إنْ تقُل لهم غُضُّوا أبصاركم يغضُّوا ، فالفعل - إذن - مجزوم في جواب الأمر ( قُلْ ) .
إذن { قُلْ . . } [ النور : 30 ] تدل على أمانة الرسول في البلاغ ، وعلى أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب ، إنما هو أيضاً كلام الله المعجز؛ لذلك نحافظ عليه وعلى كل لفظة فيه ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أتيتُ لكم بشيء من عندي ، ومهمتي أن أبلغكم ما قاله الله لي .
وقوله : { لِّلْمُؤْمِنِينَ . . } [ النور : 30 ] فما داموا مؤمنين بإله حكيم ، وقد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يُرغمهم عليه أحد ، فلا بُدَّ أنْ يلتزموا بما أمرهم ربهم به وينفذوه بمجرد سماعه .
والغَضُّ : النقصان ، يقال : فلان يغُضُّ من قَدْر فلان يعني : ينقصه ، فكيف يكون النقصان في البصر؟ أينظر بعين واحدة؟ قالوا : البصر له مهمة ، وبه تتجلى المرائي ، والعين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالاً لها أو مُحرّماً عليها .
فنقص البصر يعني : قَصْره على ما أحل ، وكفّه عما حُرم ، فالنقص نقص في المرائي وفي مجال البصر ، فلا تعطي له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شيء ، إنما تُوقِفه عند أوامر الله فيما يُرى وفيما لا يُرى .
(1/6318)

و { مِنْ . . } [ النور : 30 ] في قوله تعالى : { مِنْ أَبْصَارِهِمْ . . } [ النور : 30 ] البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول : كُلْ من هذا الطعام يعني : بعضاً منه ، فالمعنى : يغضُّوا بعض البصر؛ لأن بَعضه حلال لا أغض عنه بصري ، وبعضه محرم لا أنظر إليه .
أو : أن { مِنْ . . } [ النور : 30 ] هنا لتأكيد العموم في أدنى مراحله ، وسبق أن تكلمنا عن ( مِنْ ) بهذا المعنى ، ونحن كلما توغلنا في التفسير لا بُدّ أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقاً ، ونحيل القارئ عليها .
قلنا : فرق بين قولك : ما عندي مال ، وقولك : ما عندي من مال . ما عندي مال ، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعْتدّ به ، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قَلَّ ، فمِنْ تعني بدايةَ ما يقال له مال .
فالمعنى هنا : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . . } [ النور : 30 ] يعني : بداية مَا يُقال له بصر ، ولو لمحة خاطفة ، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر .
وقلنا : إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس ، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل ، قلنا : لو مررتَ ببستان فرأيتَ به ورده جميلة ، فأعجبت بها وسُرِرْت وانبسطتْ لها أسارير نفسك ، كل هذا مباح لك لا حرجَ عليك فيه ، فإنْ تعدَّى الأمر ذلك فمددتَ إليها يدك لتقطفها ، هنا يتدخل الشرع يقول لك : قِفْ ، فليس هذا من حقك لأنها ليستْ لك .
هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثني منها إلا النظر وحده ، وكأن ربنا - عز وجل - يستسمحنا فيه ، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا ، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يُخلِّفه في النفس من عذابات ومواجيد .
ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له : انظر كما تحب واعشق كما شئت ، فإن نزعْتَ إلى ضمة أو قبلة قلنا لك : حرام . لماذا؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً ، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً .
فساعة تنظر إلى المرأة هذا إدراك ، فإنْ أعجتبْك وانبسطتْ لها أساريرك ، فهذا وجدان ، لا بُدَّ أن يترك في تكوينك تفاعلاً كيماوياً لا يهدأ ، إلا بأن تنزع فإنْ طاوعْتَ نفسك في النزوع فقد اعتديتَ ، وإنْ كبتَّ في داخلك هذه المشاعر أصابتْك بعُقد نفسية ودعتْك إلى أن تبحث عن وسيلة أخرى للنزوع؛ لذلك رحمك ربك من بداية الأمر ودعاك إلى مَنْع الإدراك بغضِّ البصر .
لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بعضِّ البصر قال : { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ . . } [ النور : 30 ] لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان ، ولا الوجدان عن الإدراك ، وإنْ أمكن ذلك في الأمور الأخرى ، فحين نمنعك عن قطف الوردة التي أعجبتْك لا يترك هذا المنع في نفسك أثراً ولا وَجْداً ، على خلاف ما يحدث إنْ مُنعتَ عن امرأة أعجبتك ، وهيَّجك الوجدان إليها .
(1/6319)

وحِفْظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحلَّه الله وشرعه فلا أنيله لغير مُحلَّل له ، سواء كان من الرجل أو من المرأة ، أو : أحفظه وأصونه أن يُرى؛ لأن رؤيته تهيج إلى الشر وإلى الفتنة .
{ ذلك أزكى لَهُمْ . . } [ النور : 30 ] يعني : أطهر وأسلم وأدْعَى لراحة النفس؛ لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرماً ، ويلج في أعراض الناس ، وإما ألا ينزع فيُكدِّر نفسه ويُؤلمها بالصبر على مَا لا تطيق .
ثم يقول سبحانه : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ] فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية ، وواضع مسألة الشهوة والغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل والمرأة ، وليحقق بها عملية النسل وبقاء الاستخلاف في الأرض ، ولو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملّحة لزهَدَ الكثيرون في الزواج وفي الإنجاب وما يترتب عليه من تبعات .
أَلاَ ترى المرأة وما تعانيه من آلام ومتاعب في مرحلة الحمل ، وأنها ترى الموت عند الولادة ، حتى إنها لتقسم أنها لا تعود ، لكن بعد أن ترى وليدها وتنسى آلامها سرعان ما يعاودها الحنين للإنجاب مرة أخرى ، إنها الغريزة التي زرعها الله في النفس البشرية لدوام بقائها .
وللبعض نظرة فلسفية للغرائز ، خاصة غريزة الجنس ، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز ، وربطها بلذة أكثر أثراً من لذة الطعام والشراب والشَّمِّ والسماع . . إلخ فهي لذة تستوعب كل جوارح الإنسان وملكاته ، وما ذلك إلا حِرْصاً على بقاء النوع ودواماً للخلافة في الأرض .
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا . . } .
(1/6320)

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
ذكر هنا المقابل ، فأمر النساء بما أمر به الرجال ، ثم زاد هنا مسألة الزينة . والزينة : هي الأمر الزائد عن الحد في الفطرية؛ لذلك يقولون للمرأة الجميلة بطبيعتها والتي لا تحتاج إلى أن تتزين : غانِية يعني : غنيت بجمالها عن التزيُّن فلا تحتاج إلى كحل في عينيها ، ولا أحمر في خدَّيْها ، لا تحتاج أن تستر قُلْبها بأسورة ، ولا صدرها بعقد . . إلخ .
فإنْ كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجتْ لشيء من الزينة ، لكن العجيب أنهن يُبالِغْنَ في هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبي مائل ، فترى مُسِنَّات يضعْنَ هذا الألوان وهذه المساحيق ، فيَظْهَرن في صورة لا تليق؛ لأنه جمال مُصْطنع وزينة متكلفة يسمونها تطرية ، وفيها قال المتنبي ، وهو يصف جمال المرأة البدوية وجمال الحضرية :
حُسْن الحِضارة مَجلْوبٌ بتطْرِيةٍ ... وفِي البَدَاوة حُسْنٌ غير مَجْلُوب
ومن رحمة الله بالنساء أن قال بعد { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ . . } [ النور : 31 ] قال : { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا . . } [ النور : 31 ] يعني : الأشياء الضرورية ، فالمرأة تحتاج لأنْ تمشي في الشارع ، فتظهر عينيها وربما فيها كحل مثلاً ، وتظهر يدها وفيها خاتم أو حناء ، فلا مانع أن تُظهر مثل هذه الزينة الضرورية .
لكن لا يظهر منها القُرْط مثلاً؛ لأن الخمار يستره ولا ( الديكولتيه ) أو العقد أو الأسورة أو الدُّمْلُك ولا الخلخال ، فهذه زينة لا ينبغي أن تظهر . إذن : فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطةَ أن تكون في حدود ، وأن تقصر على مَنْ جُعِلَتْ من أجله .
ونلحظ في قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا . . } [ النور : 31 ] المراد تغطية الزينة ، فالجارحة التي تحتها من باب أوْلَى ، فالزينة تُغطِّي الجارحة ، وقد أمر الله بسَتْر الزينة ، فالجارحة من باب أَوْلَى .
وقوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] .
الخُمر : جمع خِمّار ، وهو غطاء الرأس الذي يُسْدل ليستر الرقبة والصدر . الجيوب : جميع جيب ، وهو الفتحة العليا للثوب ويسمونها ( القَبَّة ) والمراد أن يستر الخمارُ فتحةَ الثوب ومنطقة الصدر ، فلا يظهر منها شيء .
والعجيب أن النساء تركْنَ هذا الواجب ، بل ومن المفارقات أنهن يلبسْنَ القلادة ويُعلِّقن بها المصحف الشريف ، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعي وعدم الدراية بشرع الله مُنزِل هذا المصحف .
وتأمل دقة التعبير القرآني في قوله تعالى { وَلْيَضْرِبْنَ . . } [ النور : 31 ] والضرب هو : الوَقْع بشدة ، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها وتتركها هكذا للهواء ، إنما عليها أنْ تُحكِمها على رأسها وصدرها وتربطها بإحكام .
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة : رحم الله نساء المهاجرات ، لما نزلت الآية لم يكُنْ عندهم خُمر ، فعمدْن إلى المروط فشقوها وصنعوا منها الخُمُر .
إذن : راعَى الشارع الحكيم زِيَّ المرأة من أعلى ، فقال : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ .
(1/6321)

. } [ النور : 31 ] ومن الأدنى فقال : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ . . } [ الأحزاب : 59 ] .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] أي : أزواجهن؛ لأن الزينة جُعِلَتْ من أجلهم { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] أبو الزوج ، إلا أنْ يخاف منه الفتنة ، فلا تبدي الزوجة زينتها أمامه .
ومعنى { أَوْ نِسَآئِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] أي : النساء اللائي يعملْنَ معها في البيت كالوصيفات والخادمات { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ . . } [ النور : 31 ] والمراد هنا أيضاً ملْك اليمين من النساء دون الرجال .
ويشترط في هؤلاء النساء أن يكُنَّ مسلمات ، فإنْ كُنَّ كافرات كهؤلاء اللائي يستقدمونهن من دول أخرى ، فلا يجوز للمرأة أن تُبدي زينتها أمامهن ، وأن تعتبرهن في هذه المسألة كالرجال ، لأنهن غير مسلمات وغير مؤتمنات على المسلمة ، وربما ذهبت فوصفتْ ما رأتْ من سيدتها للرجل الكافر فينشغل بها .
ومن العلماء مَنْ يرى أن مِلْك اليمين لا يخصُّ النساء فقط ، إنما الرجال أيضاً ، فللمرأة أنْ تُبدي زينتها أمامهم ، قالوا : لأن هناك استقبالاً عاطفياً وامتناعاً عاطفياً في النفس البشرية ، فالخادم في القَصْر لا ينظر إلى سيدته ولا إلى بناتها؛ لأنه لا يتسامى إلى هذه المرتبة ، إلا إذا شجَّعْنَهُ ، وفتحْنَ له الباب ، وهذه مسألة أخرى .
وقوله تعالى : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال . . } [ النور : 31 ] أي : التابعين للبيت ، والذين يعيشون على فضلاته ، فتكون حياة التابع من حياة متبوعه ، فليس عنده بيت يأويه؛ لذلك ينام في أيِّ مكان ، وليس عنده طعام؛ لذلك يُطعمه الناس وهكذا ، فهو ضائع لا هدفَ له ولا استقلاليةَ لحياته ، وترى مثل هؤلاء يأكلون فضلات الموائد ويلبسون الخِرَق وينامون ولو على الأرصفة .
مثل ( الأهبل ) أو المعتوه الذي يعطف الناس عليه ، وليس له مطمع في النساء ، ولا يفهم هذه المسألة ، فلا يُخاف منه على النساء؛ لأنه لا حاجةَ له فيهن؛ ولا يتسامى لأنْ ينظر إلى أهل البيت .
ومعنى : { غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال . . } [ النور : 31 ] يعني : كأن يكون كبير السِّنِّ واهن القوى ، لا قدرةَ له على هذه المسائل ، أو يكون مجبوباً ، مقطوع المتاع ، ولا خطرَ من مثل هؤلاء على النساء .
وقوله تعالى : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء . . } [ النور : 31 ] .
نلحظ هنا أن الطفل مفرد ، لكن وُصِف بالجمع { الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء . . } [ النور : 31 ] لماذا؟ قالوا : هذه سِمَة من سمات اللغة ، وهي الدقة في التعبير ، حيث تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى وعلى الجمع .
كما نقول : هذا قاضٍ عَدْلٌ ، وهذان قاضيان عَدْل ، وهؤلاء قضاة عَدْل ، ولم نقل : عدلان وعدول ، فإذا وحِّد الوصف في الجميع بدون هوى كان الوصف كالشيء الواحد ، فالقاضي لا يحكم بمزاجه وهواه ، والآخر بمزاجه وهواه ، إنما الجميع يصدرون عن قانون واحد وميزان واحد . إذن : فالعدل واحد لا يُقَال بالتشكيك ، وليس لكل واحد منهم عدل خاص به ، العّدْل واحد .
(1/6322)

كذلك الحال في { الطفل . . } [ النور : 31 ] مع أن المراد الأطفال ، لكن قال ( الطفل ) لأن غرائزه مشتركة مع الكل ، وليس له هَوىً ، فكل الأطفال - إذن - كأنهم طفل واحد حيث لم يتكوّن لكل منهم فِكْره الخاص به ، الجميع يحب اللهو واللعب ، ولا شيءَ وراء ذلك ، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد في الغرائز وفي الميول .
بدليل أنه إذا كَبِر الأطفال وانتقلوا إلى مرحلة البلوغ وتكوَّن لديهم هَوىً وفِكْر وميْل يقول القرآن عنهم : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم . . } [ النور : 59 ] فنظر هنا إلى الجمع لعدم التوحُّد في مرحلة الطفولة المبكرة .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } [ الذاريات : 24 ] فوصف ضيف وهي مفرد بالجمع ( مكرمين ) ؛ ذلك لأن ضَيْف تدل أيضاً على الجمع ، فالضيف من انضاف على البيت وله حَقٌّ والتزامات لا بُدَّ أن يقدمها المضيف ، مما يزيد على حاجة البيت ، والضيف في هذه الالتزامات واحد ، سواء كان مفرداً أو جماعة؛ لذلك دَلَّ بالمفرد على الجميع .
وقوله تعالى : { الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء . . } [ النور : 31 ] يظهر على كذا : لها معنيان في اللغة : الأول : بمعنى يعلم كما في قوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ . . } [ الكهف : 20 ] يعني : إنْ عَلِموا بكم وعرفوا مكانكم .
والثاني : بمعنى يعلو ويغلب ويقهر ، كما في قوله تعالى : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] أي : السد الذي بناه ذو القرنين ، فالمعنى : ما استطاعوا أنْ يعلوه ويرتفعوا عليه .
وهنا { لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء . . } [ النور : 31 ] يعني : يعرفونها ويستبينونها ، أو يقدرون على مطلوباتها ، فليس لهم عِلْم أو دراية بهذه المسائل .
ثم يقول سبحانه : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ . . } [ النور : 31 ] .
الحق - تبارك وتعالى - يكشف ألاعيب النساء وحِيَلهنّ في جَذْب الأنظار ، فإذا لم يلفتْك إليها النظر لفتَك الصوت الذي تحدثه بمشيتها كأنها تقول لك : يا بجم اسمع ، يا للي ما نتاش شايف اسمع ، وفي الماضي كُنَّ يلبسْنَ الخلخال الذي يُحدِث مثل هذا الصوت أثناء المشي ، وأول مَنِ استخدم هذه الحيل الراقصات ليجذبن إليهن الأنظار .
ومعلوم أن طريقة مَشْي المرأة تُبدِي الكثير من زينتها التي لا يراها الناس ، وتُسبِّب كثيراً من الفتنة؛ لذلك يقول تعالى بعدها وفي ختام هذه المسائل : { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] .
لم يَقُل الحق تبارك وتعالى : يا مَنْ أذنبتم بهذه الذنوب التي سبق الحديث عنها ، إنما قال { جَمِيعاً . . } [ النور : 31 ] فحثَّ الجميع على التوبة؛ ليدل على أن كل ابن آدم خطاء ، ومهما كان المسلم مُتمسِّكاً ملتزماً فلا يأمن أنْ تفوته هفوة هنا أو هناك ، والله - عز وجل - الخالق والأعلم بمَنْ خلق؛ لذلك فتح لهم باب التوبة وحثَّهم عليها ، وقال لهم : ما عليكم إلا أنْ تتوبوا ، وعليَّ أنا الباقي .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ . . } .
(1/6323)