الكتاب : تفسير الشعراوي
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : قل للذين يُعارضونك في الوحدانية إذا مسَّكم ضُرٌ فلا تلجأوا إلى مَنْ تكفرون به ، بل الجأوا إلى مَنْ زعمتم أنهم شركاء وآمنتم بهم . فإنهم لن يستمعوا إليك؛ لأن الإنسان بطبعه لا يخدع نفسه ، ولو علموا أن الذين يتخذونهم آلهة من دون الله ينفعونهم في شيء لما دَعَوْا ربهم الذين يكفرون به وتركوا الذين يؤمنون بهم ، لماذا؟
لأن الإنسان لا يتمرد ولا يطغى إلا إذا كان مُسْتغنياً بكل ملكاته ، بمعنى أن تكون ملكاته كلها على هيئة الاستقامة والانسجام ، فإذا اختلتْ له ملكة من الملكات ضَعُفَ طغيانه ، وحاول أن يستكمل هذا النقص ، وحينئذ لن يخدع نفسه بأن يطلب الاستكمال مِمَّن لا يملكه ، بل يطلبه ممَّنْ يعتقد أنه يملكه .
لذلك يقول تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 67 ]
وقال : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ . . } [ الزمر : 8 ]
لماذا؟ لأن ما أصابه من ضُرٍّ أضعفه ، وكسر عنده غريزة الاستعلاء والاستكبار ، لقد كفر بالله من قبل حينما حمله التكاليف ، ولكن الآن وبعد أن نزل به الضُّر وأحاط به البلاء فلا بُدَّ أن يكون صريحاً مع نفسه لا يخدعها .
وضربنا لهذه المسألة مثلاً بحلاق الصحة عند أهل الريف في الماضي وكان مسئولاً عن صِحَّة الناس ، ويقوم مقام الطبيب في هذا الوقت ، فإذا ما عُيِّن بالقرية طبيب هاجمه الحلاق وأفسد ما بينه وبين الناس ، وأشاع عنه عدم العلم وقِلَّة الخبرة ليخلوَ له وجه الناس ، ولا يشاركه أحد في رزقه ، ومرَّت الأيام وأصيب الحلاق بضُرٍّ ، حيث مرض ولد له ، فإذا به يحمله خُفْيةً بليْل ، ويتسلل به إلى الطبيب ، ولكن سرعان ما ينكشف أمره ويُفتضح بين الناس .
إذن : الإنسان في ساعة الضر لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها ، فقل لهم : إذا مسكم الضر فاذهبوا إلى مَن ادعيتم أنهم آلهة وأدعوهم ، فإنهم لن يستجيبوا ولن يدعوهم ، ولو دَعَوْهم فلن يكشفوا عنهم ضرهم : { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ . . } [ الإسراء : 56 ]
وقوله تعالى : { وَلاَ تَحْوِيلاً } [ الإسراء : 56 ] أي : ولا يملكون تحويل حالكم من الضر إلى النفع أو النعمة أو الرحمة ، أو : لا يملكون تحويل هذا الضر إلى أعدائكم ، فهم إذن لا يملكون هذه ولا هذه .
فالحق سبحانه يُلقِّن رسوله صلى الله عليه وسلم الحجة ، ليوضح لهم أنهم يغالطون أنفسهم ، ويعارضون مواجيدهم وفطرتهم ، فإن أصابهم الضر في ذواتهم لا يلجأون إلى آلهتهم؛ لأنهم يعلمون أنها لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً ، ولن تسمعهم ، وإن سمعتهم فرضاً ما استجابوا لهم ، ويوم القيامة يكفرون بشركهم ، بل يلجأون إلى الله الذي يملك وحده كَشْف الضُّر عنهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة . . . } .
(1/5240)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
فهؤلاء الذين تعتبرونهم آلهة وتتخذونهم شركاء لله ، هؤلاء أيضاً عبيد لله ، يتقربون إليه ويتوسَّلون إليه ، فالمسيح الذي أشركتموه مع الله ، وكذلك الملائكة هم عباد لله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ]
هؤلاء لا يرفضون ولا يتأبَّوْن أن يكونوا عباداً لله ، ويريدون التقرُّب إليه سبحانه ، فكيف إذن تتوجهون إليهم بالعبادة وهم عباد؟
وقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة . . } [ الإسراء : 57 ] أي : يطلبون الغاية والقربى إليه تعالى { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } أي : كلما تقر ّب واحد منهم إلى الله ابتغى اللهَ أكثرَ من غيره وأقبل عليه ، فإذا كان الأقرب إلى الله منهم يبتغي القُرْبى ، فما بال الأبعد؟
وقوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ]
أي : يجب الحذر منه وتجنُّب أسبابه؛ لأن العذاب إذا كان من الله فلا فِكاكَ منه ولا مهرب ، وأيضاً فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذِّب ضعفاً وشدة ، فإذا نُسِب العذاب إلى الله فلا شكَّ أنه أليم شديد ، لا طاقة لأحد به ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ]
والحق سبحانه قد أوضح لنا مسألة الوحدانية في آيات كثيرة ، ولم يطلب منا الاعتراف بها إلا بعد أنْ شهد بها لنفسه سبحانه ، وبعد أن شهد بها الملائكة وأولو العلم ، قال تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ]
فشهد الله سبحانه شهادة الذات للذات ، وشهدتْ الملائكة شهادة المشهد والمعاينة ، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال ، فهذه شهادات ثلاث قبل أنْ يطلب مِنّا الشهادة .
وبهذه الشهادة أقبل الحق سبحانه على مزاولة سلطانه وقدرته في الكون ، وما دام { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يقول للشيء : كُنْ فيكون ، قالها لأنه يعلم أنه لا إله إلا هو ، وبها يحكم على الأشياء ويُغيِّر من وضع إلى وضع ، فإنْ صحَّتْ هذه الشهادة الثلاثة فقد انتهت المسألة . وإنْ لم تصح وهناك إله آخر فأين هو؟! إنْ كان لا يدري فهو إله نائم لا يصلح لهذه المكانة ، وإن كان يدري فلماذا لم يطالب بحقه .
إذن : فهذه الدَّعْوى قد سلمتْ للحق سبحانه لأنه لم يدَّعها أحد لنفسه ، فهي للحق تبارك وتعالى حتى يقوم مَنْ يدعيها لنفسه .
قال تعالى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ]
أي : لو كان للكون إله آخر لطلبوا هذا الإله الذي استقرتْ له الأمور واستتبّ له الحال ، ليُجادلوه في هذه المسألة ، أو لطلبوه ليتقربوا إليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً . . . } .
(1/5241)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
ساعةَ أنْ تسمعَ { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ } فاعلم أن الأسلوب قائم على نفي وإثبات ، فالمعنى : لا توجد قرية إلا والله مُهلِكها قبل يوم القيامة ، أو مُعذِّبها عذاباً شديداً ، لكن هل كل القرى ينسحب عليها هذا الحكم؟
نقول : لا ، لأن هذا حكم مطلق والإطلاقات في القرآن تُقيّدها قرآنيات أخرى ، وسوف نجد مع هذه الآية قول الحق سبحانه : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ الأنعام : 131 ]
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ]
فهذه آيات مُخصِّصة تُوضِّح الاستثناء من القاعدة السابقة ، وتُقيِّد المبدأ السابق والسور العام الذي جاءت به الآية ، فيكون المعنى إذن وإنْ من قرية غير غافلة وغير مُصلِحة إلا والله مُهلكها أو مُعذِّبها .
وقوله : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا } [ الإسراء : 58 ]
{ مُهْلِكُوهَا } أي : بعذاب الاستئصال الذي لا يُبقِى منهم أحداً .
{ مُعَذِّبُوهَا } أي : عذاباً دون استئصال .
لأن التعذيب مرحلة أولى ، فإنْ أتى بالنتيجة المطلوبة وأعاد الناس إلى الصواب فبها ونِعْمتْ وتنتهي المسألة ، فإنْ لم يقتنعوا وأصرُّوا ولم يرتدعوا وعاندوا يأتي الإهلاك ، وهذا واضح في قول الحق سبحانه : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ]
والواقع أن في حاضرنا شواهدَ عدة على هذه المسألة ، فلا بُدَّ لأيِّ قرية طغتْ وبغَتْ أن ينالها شيء من العذاب ، والأمثلة أمامنا واضحة ، ولا داعيَ لذكرها حتى لا ننكأ جراحنا .
وطبيعي أن يأتي العذاب قبل الإهلاك؛ لأن العذاب إيلام حيّ يشعر بالعذاب ويُحِسّ به ، والإهلاك إذهاب للحياة ، وهذا يمنع الإحساس بالعذاب .
وباستقراء تاريخ الأمم السابقة نلاحظ ما حاق بهم من سُنّة إهلاك الظالمين ، فقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط نزل بهم عذاب الله الذي لا يُرَدُّ عن القوم الكافرين ، ولكنه كان عذاب استئصال؛ لأن الأنبياء في هذا الوقت لم يكونوا مُطَالَبين بحمل السلاح لنشر دعوتهم ، فكان عليهم البلاغ ، والحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى تأديب المخالفين . إلا إذا طلب أتباع النبي الجهاد معه لنشر دعوته ، كما حدث من أتباع موسى عليه السلام : { إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 246 ]
وهكذا طلب بنو إسرائيل القتال وحَمْل السلاح ، ولكن حذّرهم نبيهم ، وخشي أنْ يفرضَ عليهم ثم يتقاعسوا عنه ، وهذا ما حدث فعلاً ولم يَبْق معه إلا قليل منهم ، وهذا القليل سرعان ما تراجع هو أيضاً واحداً بعد الآخر .
(1/5242)
إذن : الهِمَّة الإنسانية في هذا الوقت لم يكُنْ عندها استعداد ونضج لأنْ تحملَ سلاحاً في سبيل الله ، فكان على الرسول أنْ يُبلِّغ ، وعلى السماء أنْ تُؤدِّب بهذا اللون من العذاب الذي يستأصلهم فلا يُبقى منهم أحداً .
أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد رحمنا ربنا تبارك وتعالى من هذا العذاب ، فقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ]
وهذه هي كرامات الله تعالى لرسوله ، فلم يأخذ قومه بعذاب الاستئصال ، لماذا؟ لأن رسولهم آخر الرسل وخاتم الأنبياء ، وسوف يُنَاطُ بهم حَملُ رسالته ونَشْر دعوته ، والانسياح بمنهج الله في شتى بقاع الأرض .
ذلك لأن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل منهجه إلى الأرض يُقدِّر غفلة الناس عن المنهج ، ويُقدِّر فكرة التأسِّي بالجيل السابق ، فهذان مُعوِّقان في طريق منهج الله ، يقول تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } [ الأعراف : 172-173 ]
فأوضح لنا الحق سبحانه أن الإنسان يتخبّط أو ينحرف عن المنهج ، إما بسبب تقليد أعمى لأُسْوة سيئة ، فأول مَنْ تلقى عن الله آدم ، ثم بلّغ ذريته منهج الله ، وبمرور الأجيال حدثتْ الغفلة عن بعض المنهج نتيجة ما رُكِّب في الإنسان من حُبٍّ للشهوات ، وهذه الشهوات هي التي تصرفه عن منهج ربه ، فإنْ حدثت غفلة في جيل فإنها سوف تزداد في الجيل التالي ، وهكذا؛ لأن الجيل سيقع تحت مُؤثِّرين : الغفلة الذاتية فيه ، والتأسي بالجيل السابق .
إذن : بتوالي الأجيال وازدياد الغفلة عن المنهج لا بُدَّ أن الحق سبحانه سيبعث في مواكب الرسل مَنْ يُنبّه الناس .
ومن هنا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خَيْر أمة أُخرِجَتْ للناس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . . } [ آل عمران : 110 ] لماذا؟ { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } [ آل عمران : 110 ] فخيرية هذه الأمة ناشئة من حَمْل رسالة الدعوة ، وقد كرَّم الله أمة محمد بأنْ جعل كل مَنْ آمن به يحمل دعوته إلى يوم القيامة ، لقد بلّغ الرسول من عاصروه مَنْ أمته ، وعلى أمته أن تُبلّغ مَنْ بعده؛ لذلك يشهد علينا رسول الله ، ونشهد نحن على الناس .
وفي الحديث الشريف " نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها ، فَرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع " .
وهكذا تظل في الأمة هذه الخيرية وتحمل دعوة رسولها حيث لا رسول من بعده إلى يوم القيامة ، ولأهمية هذا الدور الذي يقوم به المسلمون في كل زمان ومكان يُنبِّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسألة هامة في مجال حَمْل الدعوة ونَشْرها ، فيقول :
(1/5243)
" إن كل واحد منكم يقف على ثغرة من ثغرات هذا الدين ، فإياكم أن يؤتى الدين من ثغرة أحدكم " أو كما قال .
فليعلم كل مسلم أنه محسوب للدين أو عليه ، فالعيون تتطلع إليه وتَرْصُد تصرفاته في مجتمعه ، فهو صورة للدين وسفير له ، وعليه أن يراعي هذه المسئولية ويقوم بها على أكمل وجه ليكون أداة جَذْب ، وليكون وجهاً مشرقاً لتعاليم هذا الدين .
فأنت حارس على باب من الأبواب ، وعليك أنْ تسدَّه بصدق انطباعك عن الإيمان ، وبصدق انقيادك لقضايا الإسلام ، وبهذا السلوك تكون وسيلة إغراء للآخرين الذين يراودهم الايمان ، ويتراءى لهم منهج الله من بعيد .
ويحلو للبعض أن يأخذوا الإسلام بجريرة أهله ، ويحكموا عليه بناءً على تصرفات المنتسبين إليه ، وهذا خطأ ، فَمنْ أراد الصورة الحقيقية للإسلام فليأخذْها من منابع الدين في كتاب الله وسنة رسوله ، فإنْ رأيتَ بين المنتسبين للإسلام سارقاً فلا تقُلْ : هذا هو الإسلام؛ لأن الإسلام حرَّم السرقة ، وجعل لها عقوبة وحَدّاً يُقَام على السارق ، وليس لأحد أن يكون حجة على دين الله .
لذلك فإن كبار العلماء والمفكرين الذين درسوا في الدين الإسلامي لم ينظروا إلى تصرُّفات المسلمين وحاضرهم ، بل أخذوه من منابعه الأصلية . ومنهم " جينو " الفرنسي الذي قال : الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين . لأنه في الحقيقة لو اطلع على أحوالنا الآن لَكَان في المسألة كلام آخر .
إذن : الذين نظروا إلى قضايا الإسلام نظرة عَدْل وإنصاف لا بُدَّ أن يهتدوا إلى الإسلام ، لكن منهم مَنْ نظر إليه نظرة عَدْل وإنصاف إلا أنهم أبعدوا قضية التديّن من قلوبهم ، وإن اقتنعتْ بها عقولهم ، وفَرْق كبير بين القضية العقلية والقضية القلبية .
ومن هؤلاء الكاتب الذي ألَّفَ كتاباً عن العظماء في التاريخ وأسماه : " العظماء مائة أعظمهم محمد بن عبد الله " وهو كاتب غير مؤمن ، لكنه أخذ يستقرئ صفحة التاريخ ، ويسجِّل أصحاب الأعمال الجلية التي أثَّرت في تاريخ البشرية ، فوجدهم مائة ، وبالمقارنة بينهم وجد أن أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم يتربَّ محمد في مدرسة ، ولم يتخرج في جامعة ، ولم يجلس إلى مُعلم .
ألم تسأل نفسك أيها المؤلف : من أين أتى محمد بهذه الأوليّة؟ ولماذا استحق أن يكون في المقدمة؟ لقد ذكرتَ حيثيات النبوغ في جميع شخصياتك ، من تربية ودراسة في جامعات وعلى أساتذة وإطلاع وأبحاث ، فلماذا لم تذكر حيثيات النبوغ في رسول الله؟ ألم تعلم أنه أُميّ في أمة أُميّة؟ مما يدل على أن هذا الباحث تناول هذه القضية بعقله لا بقلبه .
نعود إلى مسألة الإهلاك والعذاب؛ لأنها أثارتْ خلافاً بين رجال القانون في موضوع إقامة حَدِّ الرجْم على الزاني المحصن والجَلْد للزاني غير المحصن ، فقد رأى جماعة منهم أن الجلد ثابت بالقرآن ، أما الرجم فثابت بالسنة ، لذلك قال بعضهم بأن رجم الزاني المحصَن سنة .
(1/5244)
وهذا قول خاطئ وبعيد عن الصواب ، لأن هناك فرقاً بين سُنية الدليل وسُنية الحكم ، فسُنية الدليل أن يكون الأمر فَرْضاً ، لكن دليله من السنة كهذه المسألة التي معنا . وكصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات وهي فَرْض لكن دليلها من السنة ، أما سُنية الحكم فيكون الحكم نفسه سُنة يُثَاب فاعله ، ولا يُعَاقب تاركه كالتسبيح ثلاثاً في الركوع مثلاً .
إذن : فرجْم الزاني المحصَن فَرْض ، لكن دليله من السنة ، فالسُّنة هنا سُنية دليل ، لا سنية حكم .
فمَنْ يقول : إن الرجْم لم يَرِدْ به نصٌّ في كتاب الله ، تقول : الدليل عليه جاء في السنة ، وهي المصدر الثاني للتشريع ، حتى على قول مَنْ قال بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع ، ففي القرآن : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ]
إذن : ففِعْل الرسول صلى الله عليه وسلم كنصِّ القرآن سواء بسواء ، وهل رجم في عهد رسول الله أو لم يرجم؟ رجم فعلاً في عهد رسول الله ، فإنْ قال قائل : فهذا ليس نصّاً في الرجْم . نقول : بل الفعل أقوى من النص قد تتأول فيه ، أما الفعل فهو صريح لا يحتمل تأويلاً .
ودليل آخر على فرضية الرجم ، وهو الشاهد في هذه الآية ، في قوله تعالى عن إقامة الحد على الأمة : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب . . } [ النساء : 25 ]
فيقولون : الرجْم لا يُنصَّف . إذن : ليس هناك رَجْم . نقول : أنتم لم تُفرِّقوا بين الرجم وبين العذاب ، فالرجم إماتة ، والعذاب إيلام لحيٍّ يشعر ويُحِسُّ بهذا الإيلام ، والمقصود به ( الجَلْد ) .
إذن : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب . . } [ النساء : 25 ] أي : من الجَلْد ، وهو الذي يُنصَّف ، ولو كان الحكم عاماً لَقَال : فعليهن نصف ما على المحصنات . فقوله : { مِنَ العذاب . . } [ النساء : 25 ] دليل على وجود الرَّجْم الذي لا فَرْق فيه بين حُرة وأمة .
وكذلك نلحظ التدرج من العذاب إلى الإهلاك في قول سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما تفقّد الطير ، واكتشف غياب الهدهد : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ . . } [ النمل : 21 ]
ولسائل أنْ يسأل : هل لا بُدَّ للقرى الظالمة أن ينالها الإهلاك أو العذاب قبل يوم القيامة؟
نعم لا بُدَّ أن يمسَّهم شيء من هذا؛ لأن الله تعالى لو أخَّر كل العذاب لهؤلاء إلى يوم القيامة لاستشرى الظلم وعمَّ الفساد في الكون ، وحين يرى الناس الظالم يرتع في الحياة ، وينعم بها مع ظلمه لأغراهم ذلك بالظلم ، أما إذا رأوه وقد حاق به سوء عمله ، ونزلت به النوازل لارتدعوا عن الظلم ، ولَعلِموا أن عاقبته وخيمة ، ولن يفلت الظالم من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة . أما لو تأخر عذاب الظالمين إلى الآخرة ، فالوَيْل مِمَّنْ لا يؤمنون بها .
(1/5245)
لذلك لما مات رَأْسٌ من رؤوس الظلم في الشام ، ولم يَرَ الناس أثراً لعذاب أو نقمة ، قال أحدهم : إن وراء هذا الدار داراً يُجَازى فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته؛ لأنه يستحيل أنْ يُفلِتَ الظالم من العذاب .
وفي مناقشتي مع الشيوعيين في بروكسل قلت لهم : لقد قسوتُمْ على المخالفين لكم من الرأسماليين والإقطاعيين عام 1917 وما بعدها ، فقالوا : إنهم يستحقون أكثر من ذلك ، فقد فعلوا كذا وكذا ، قُلْت : منذ متى؟ قالوا : طوال عمرهم وهم يفعلون ذلك ، فقلتُ : إذا كنتم أخذتم المعاصرين لكم بذنوبهم ، فما بال الذين سبقوهم؟ وما حظّهم من العقاب الذي أنزلتموه بإخوانهم؟ قالوا : ما أدركناهم .
قلت : إذن كان من الواجب عليكم أنْ تؤمنوا باليوم الآخر ، حيث سيعذب فيه هؤلاء ، فإنْ أفلتوا من عذاب الدنيا جاءت الآخرة لتُصفّي معهم الحساب ، كما يقول تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ . . } [ الطور : 47 ] وأريد منكم أنْ تطلعوا على تفسير هذه الآية التي نحن بصددها : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } [ الإسراء : 58 ]
راجعوا تفسيرها في كتاب النسفي ، وسوف تجدون به أمثلة تُؤيّد هذه الآية ، يقول : قرية كذا سيحدث لها كذا ، وقرية كذا سيحدث لها كذا . وقد جاء الواقع على وفق ما قال ، إلى أن ذكر مصر وقال عنها كلاماً طويلاً أظن أنه يُمثِّل ما أصاب مصر منذ سنة 1952 ، وكان مما قال عنها : ويدخل مصر رجل من جهينة فويْلٌ لأهلها ، وويل لأهل الشام ، وويل لأهل أفريقيا ، وويل لأهل الرملة ، ولا يدخل بيت المقدس . اقرأوا هذا الكلام عند النسفي .
ثم يقول تعالى : { كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } [ الإسراء : 58 ]
أي : مُسجّل ومُسطّر في اللوح المحفوظ ، ولا يقول الحق سبحانه : { كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } [ الإسراء : 58 ] وتأتي الأحداث بغير ذلك ، بل لا بُدَّ أنْ يؤكد هذه الحقائق القرآنية بأحداث كونية واقعية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون . . . }
(1/5246)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
الآيات : جمع آية ، وهي الأمر العجيب الذي يلفت النظر ويسترعى الانتباه ، وهذه الآيات إما أن تكون آيات كونية نستدل بها على قدرة المدبِّر الأعلى سبحانه مثل المذكورة في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر . . } [ فصلت : 37 ]
وقد تكون الآيات بمعنى المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه تعالى ، وقد تكون الآيات بمعنى آيات القرآن الكريم ، والتي يسمونها حاملة الأحكام .
فالآيات إذن ثلاثة : كونية ، ومعجزات ، وآيات القرآن . فأيها المقصود في الآية : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات } [ الإسراء : 59 ]
الآيات الكونية وهي موجودة لا تحتاج إلى إرسال ، الآيات القرآنية وهي موجودة أيضاً ، بقي المعجزات وهي موجودة ، وقد جاءت معجزة كل نبي على حَسْب نبوغ قومه ، فجاءت معجزة موسى من نوع السحر الذي نبغ فيه بنو إسرائيل ، وكذلك جاءت معجزة عيسى مما نبغ فيه قومه من الطب .
وجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في الفصاحة والبلاغة والبيان؛ لأن العرب لم يُظِهروا نبوغاً في غير هذا المجال ، فتحدّاهم بما يعرفونه ويُجيدونه ليكون ذلك أبلغ في الحجة عليهم .
إذن : فما المقصود بالآيات التي منعها الله عنهم؟
المقصود بها ما طلبوه من معجزات أخرى ، جاءت في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 90-93 ]
والمتأمل في كل هذه الاقتراحات من كفار مكة يجدها بعيدة كل البُعْد عن مجال المعجزة التي يُراد بها في المقام الأول تثبيت الرسول ، وبيان صِدْق رسالته وتبليغه عن الله ، وهذه لا تكون إلا في أمر نبغ فيه قومه ولهم به إلمام ، وهم أمة كلام وفصاحة وبلاغة ، وهل لهم إلمام بتفجير الينابيع من الأرض؟ وهل إسقاط السماء عليهم كِسَفاً يقوم دليلاً على صدْق الرسول؟ أم أنه الجدل العقيم والاستكبار عن قبول الحق؟
إذن : جلس كفار مكة يقترحون الآيات ويطلبون المعجزات ، والحق سبحانه وتعالى يُنزِل من المعجزات ما يشاء ، وليس لأحد أن يقترح على الله أن يُجبره على شيء ، قال تعالى : { قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ . . } [ يونس : 16 ]
فالحق تبارك وتعالى قادر أن يُنزل عليهم ما اقترحوه من الآيات ، فهو سبحانه لا يُعجِزه شيء ، ولا يتعاظمه شيء ، ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات .
والحق سبحانه يقول : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا .
(1/5247)
. } [ الإسراء : 59 ]
مبصرة : أي آية بينة واضحة .
لقد طلب قوم ثمود معجزة بعينها فأجابهم الله وأنزلها لهم ، فما كان منهم إلا أن استكبروا عن الإيمان ، وكفروا بالآية التي طلبوها ، بل وأكثر من ذلك ظلموا بها أي : جاروا على الناقة نفسها ، وتجرّأوا عليها فعقروها .
وهذه السابقة مع ثمود هي التي منعتنا عن إجابة أهل مكة فيما اقترحوه من الآيات ، وليس عَجْزاً مِنَّا عن الإتيان بها .
وقوله تعالى عن الناقة أنها آية { مُبْصِرَةً } لبيان وضوحها كما في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً . . } [ الإسراء : 12 ] فهل آية النهار مُبصِرة ، أم مُبْصِر فيها؟
كانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى الشيء من شعاع ينطلق من عينة إلى الشيء المرئيّ فتحدث الرؤية ، إلى أن جاء ابن الهيثم وأثبت خطأ هذه المقولة ، وبيّن أن الإنسان يرى الشيء إذا خرج من الشيء شعاع إلى العين فتراه ، بدليل أنك ترى الشيء إذا كان في الضوء ، ولا تراه إذا كان في ظلمة ، وبهذا الفهم نستطيع القول بأن آية النهار هي المبصرة؛ لأن أشعتها هي التي تُسبّب الإبصار .
ثم يقول تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } [ الإسراء : 59 ]
أي : نبعث بآيات غير المعجزات لتكون تخويفاً للكفار والمعاندين ، فمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم اضطهده أهل مكة ودبَّروا لقتله جهاراً وعلانية ، فخيّب الله سَعْيهم ورأوا أنهم لو قتلوه لَطالبَ أهله بدمه ، فحاكوا مؤامرة أخرى للفتك به بليل ، واقترحوا أنْ يُؤْتَى من كل قبيلة بفتى جَلْدٍ ، ويضربوه ضَرْبة رجل واحد .
ولكن الحق سبحانه أطلع رسوله على مكيدتهم ، ونجّاه من غدرهم ، فإذا بهم يعملون له السحر لِيُوقِعوا به ، وكان الله لهم بالمرصاد ، فأخبر رسوله بما يدبر له ، وهكذا لم يفلح الجهر ولم يفلح التبييت ، ولم يفلح السحر ، وباءت محاولاتهم كلها بالفشل ، وعلموا أنه لا سبيلَ إلى الوقوف في وجه الدعوة بحال من الأحوال ، وأن السلامة في الإيمان والسير في ركابه من أقصر الطرق .
إذن : للحق سبحانه آيات أخرى تأتي لِرَدْع المكذبين عن كذبهم ، وتُخوّفهم بما حدث لسابقيهم من المُكذِّبين بالرسل ، حيث أخذهم الله أَخْذ عزيز مقتدر ، ومن آيات التخويف هذه ما جاء في قوله تعالى : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ]
فكل هذه آيات بعثها الله على أمم من المكذبين ، كُلّ بما يناسبه .
ثم يقول الحق سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس . . . } .
(1/5248)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
أي : اذكر يا محمد ، وليذكر معك أصحابك إذ قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس ، فلا يمكن أن يتصرفوا تصرُّفاً ، أو يقولوا قولاً يغيب عن عِلْمِه تعالى ، لأن الإحاطة تعني الإلمام بالشيء من كُلّ ناحية .
وما دام الأمر كذلك فاطمئن يا محمد ، كما نقول في المثل ( حُط في بطنك بطيخة صيفي ) ، واعلم أنهم لن ينالوا منك لا جهرة ولا تبيتاً ، ولا استعانة بالجنس الخفي ( الجن ) ؛ لأن الله محيط بهم ، وسيبطل سَعْيَهم ، ويجعل كَيْدهم في نحورهم .
لذلك لما تحدَّى الحق سبحانه وتعالى الكفار بالقرآن تحدَّى الجن أيضاً ، فقال : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ]
ففي هذا الوقت كان يشيع بين العرب أن كل نابغة في أمر من الأمور له شيطان يُلهمه ، وكانوا يدَّعُون أن هذه الشياطين تسكن وادياً يسمى " وادي عبقر " في الجزيرة العربية ، فتحدّاهم القرآن أنْ يأتوا بالشياطين التي تُلهمهم .
وهكذا يُطمئن الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يحيط بالناس جميعاً ، ويعلم كل حركاتهم ظاهرة أو خفيّة من جنس ظاهر أو من جنس خفيّ ، وباطمئنان رسول الله تشيع الطمأنينة في نفوس المؤمنين .
وهذا من قيوميته تعالى في الكون ، وبهذه القيومية نردُّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الخالق سبحانه زاول سلطانه في الكون مرة واحدة ، فخلق النواميس ، وهي التي تعمل في الكون ، وهي التي تُسيّره .
والرد على هذه المقولة بسيط ، فلو كانت النواميس هي التي تُسيِّر في الكون ما رأينا في الكون شذوذاً عن الناموس العام؛ لأن الأمر الميكانيكي لا يحدث خروجاً عن القاعدة ، إذن : فحدوث الشذوذ دليل القدرة التي تتحكم وتستطيع أن تخرق الناموس .
ومثال ذلك : النار التي أشعلوها لحرق نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام فهل كان حظ الإيمان أو الإسلام في أن ينجو إبراهيم من النار؟
لا . . لم يكن الهدف نجاة إبراهيم عليه السلام ، وإلا لما مكَّنهم الله من الإمساك به ، أو سخر سحابة تطفئ النار ، ولكن أراد سبحانه أن يُظهر لهم آية من آياته في خَرْق الناموس ، فمكّنهم من إشعال النار ومكّنَهم من إبراهيم حتى ألقوْه في النار ، ورأَوْهُ في وسطها ، ولم يَعُدْ لهم حجة ، وهنا تدخلت القدرة الإلهية لتسلب النار خاصية الإحراق : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ]
إذن : فالناموس ليس مخلوقاً ليعمل مطلقاً ، وما حدث ليس طلاقة ناموس ، بل طلاقة قدرة للخالق سبحانه وتعالى .
فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُسلِّي رسوله ويُؤْنِسه بمدد الله له دائماً ، ولا يفزعه أن يقوم قومه بمصادمته واضطهاده ، ويريد كذلك أنْ يُطمئن المؤمنين ويُبشِّرهم بأنهم على الحق .
(1/5249)
وقوله تعالى : { أَحَاطَ بالناس . . } [ الإسراء : 60 ]
الإحاطة تقتضي العلم بهم والقدرة عليهم ، فلن يُفلتوا من علم الله ولا من قدرته ، ولا بُدَّ من العلم مع القدرة؛ لأنك قد تعلم شيئاً ضاراً ولكنك لا تقدر على دَفْعه ، فالعلم وحده لا يكفي ، بل لا بُدَّ له من قدرة على التنفيذ ، إذن : فإحاطته سبحانه بالناس تعني أنه سبحانه يُعلِّمهم ويقدر على تنفيذ أمره فيهم .
كلمة ( الناس ) تُطلَق إطلاقاتٍ متعددة ، فقد يراد بها الخلْق جميعاً من آدم إلى قيام الساعة ، كما في قوله الحق تبارك وتعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس * مِن شَرِّ الوسواس الخناس * الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 1-6 ]
وقد يُراد بها بعض الخَلْق دون بعض ، كما في قوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ]
فالمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عنه كفار مكة : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
وكما في قوله تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم . . } [ آل عمران : 173 ] فهؤلاء غير هؤلاء .
وقد وقف العلماء عند كلمة الناس في الآية : { إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس . . } [ الإسراء : 60 ] وقصروها على الكافرين الذين يقفون من رسول الله موقف العداء ، لكن لا مانع أن نأخذ هذه الكلمة على عمومها ، فُيَراد بها أحاط بالمؤمنين ، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحاط بالكافرين وعلى رأسهم صناديد الكفر في مكة .
لذلك فالإحاطة هنا ليست واحدة ، فلكل منهما إحاطة تناسبه ، فإنْ كنتَ تريد الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله فهي إحاطة عناية وحماية حتى لا ينالهم أذى ، وإنْ أردتَ بها الكافرين فهي إحاطة حصار لا يُفلِتون منه ولا ينفكُّون عنه ، وهذه الإحاطة لها نظير ، وهذه لها نظير .
فنظير الإحاطة بالكافرين قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [ يونس : 22 ]
أي : حُوصِروا وضُيِّق عليهم فلا يجدون منفذاً .
ونظير الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171-172 ]
فالحق سبحانه محيط بالمؤمنين وبرسوله صلى الله عليه وسلم إحاطة عناية ، وكأنه يقول له : امْضِ إلى شأنك وإلى مهمتك ، ولن يُضيرك ما يُدبِّرون .
لذلك كان المؤمنون في أَوْج فترات الاضطهاد والقسوة من الكفار في وقت كل المؤمنون غير قادرين حتى على حماية أنفسهم ينزل قول الحق تبارك وتعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ]
حتى أن عمر رضي الله عنه الذي جاء القرآن على وَفْق رأيه يقول : أيّ جَمْع هذا؟! ويتعجب ، كيف سنهزم هؤلاء ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا وهذه تسلية لرسول الله وتبشير للمؤمنين ، فمهما نالوكم بالاضطهاد والأذى فإن الله ناصركم عليهم .
(1/5250)
وكما قال في آية أخرى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
فاذكر جيداً يا محمد حين تنزل بك الأحداث ، ويظن أعداؤك أنهم أحاطوا بك ، وأنهم قادرون عليك ، اذكر أن الله أحاط بالناس ، فأنت في عناية فلن يصيبك شرٌّ من الخارج ، وهم في حصار لن يُفلِتوا منه .
ثم يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ . . } [ الإسراء : 60 ]
كلمة { الرؤيا } مصدر للفعل رأى ، وكذلك ( رؤية ) مصدر للفعل رأى ، فإنْ أردتَ الرؤيا المنامية تقول : رأيتُ رُؤْيا ، وإنْ أردتَ رأى البصرية تقول : رأيتُ رؤية .
ومن ذلك قول يوسف عليه السلام في المنام الذي رآه : { وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ]
ولم يَقُلْ رؤيتي . إذن : فالفعل واحد ، والمصدر مختلف .
وقد اختلف العلماء : ما هي الرؤيا التي جعلها الله فتنة للناس؟
جمهرة العلماء على أنها الرؤيا التي ثبتتْ في أول السورة : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] أي : حادثة الإسراء والمعراج .
وبعضهم رأى أنها الرُّؤْيا التي قال الله فيها : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [ الفتح : 27 ]
فقد وعد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأنهم سيدخلون المسجد الحرام في هذا العام ، ولكن مُنِعوا من الدخول عند الحديبية ، فكانت فتنة بين المسلمين وتعجبوا أنْ يعدهم رسول الله وَعْداً ولا ينجزه لهم .
ثم بيّن الحق تبارك وتعالى لهم الحكمة من عدم دخول مكة هذا العام ، فأنزل على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ]
إذن : الحق سبحانه منعهم تحقيق هذه الرؤيا في الحديبية؛ لأنهم لو دخلوا مكة مُحاربين حاملين السلاح ، وفيها مؤمنون ومؤمنات لا يعلمهم أحد ، وسوف يصيبهم من الأذى وينالهم من هذه الحرب؛ لأنهم لن يُميِّزوا بين مؤمن وكافر ، فقد يقتلون مؤمناً فتصيبهم مَعَرَّةٌ بقتله ، ولو أمكن التمييز بين المؤمنين والكفار لدخول مكة رَغْماً عن أُنُوف أهلها .
لذلك كان من الطبيعي أنْ يتشكَّكَ الناس فيما حدث بالحديبية ، وأن تحدث فتنة تزلزل المسلمين ، حتى إن الفاروق ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألسنا على الحق؟ أليسوا هم على الباطل؟ ألستَ رسول الله؟ فيقول أبو بكر : الزم غَرْزَِه يا عمر ، إنه رسول الله .
(1/5251)
وقد ساهمتْ السيدة أم سلمة أم المؤمنين في حَلِّ هذا الإشكال الذي حدث نتيجة هذه الفتنة ، فلما اعترض الناس على رسول الله في عودته من الحديبية دخل عليها ، فقال : " يا أم سلمة ، هلك المسلمون ، أمرتُهم فلم يمتثلوا " . فقالت : يا رسول الله إنهم مكروبون ، جاءوا على شَوْق للبيت ، ثم مُنِعوا وهم على مَقْرُبة منه ، ولا شكَّ أن هذا يشقّ عليهم ، فَامْضِ يا رسول الله لما أمرك الله ، فإذا رأوك عازماً امتثلوا ، ونجح اقتراح السيدة أم سلمة في حل هذه المسألة .
وقال بعضهم : إن المراد بالرؤيا التي جعلها الله فتنة ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر ، حيث أقسم وقال : " " والله لكأني انظر إلى مصارع القوم " . وأخذ يومِئ إلى الأرض وهو يقول : " هذا مَصْرع فلان ، وهذا مَصْرع فلان ، وهذا مَصْرع فلان " " .
وفعلاً ، جاءت الأحداث موافقة لقوله صلى الله عليه وسلم فَقُلْ لي : بالله عليك ، مَنِ الذي يستطيع أنْ يتحكَّم في معركة كهذه ، الأصل فيها الكَرّ والفَرّ ، والحركة والانتقال لِيُحدد الأماكن التي سيقتل فيها هؤلاء ، اللهم إنه رسول الله .
لكن أهل التحقيق من العلماء قالوا : إن هذه الأحداث سواء ما كان في الحديبية ، أو ما كان من أمر الرسول يوم بدر ، هذه أحداث حدثتْ في المدينة ، والآية المرادة مكية ، مما يجعلنا نستبعد هذين القولين ويؤكد أن القول الأول وهو الإسراء والمعراج هو الصواب .
وقد يقول قائل : وهل كان الإسراء والمعراج رؤيا منامية؟ إنه كان رؤية بصرية ، فما سِرّ عدول الآية عن الرؤية البصرية إلى الرؤيا المنامية؟ وكيف يعطي الحق سبحانه وتعالى للكفار والمشككين فرصة لأن يقول : إن الإسراء والمعراج كان مناماً؟
نقول : ومَنْ قال إن كلمة رؤيا مقصورة على المنامية؟ إنها في لغة العرب تُطلق على المنامية وعلى البصرية ، بدليل قول شاعرهم الذي فرح بصيد ثمين عنَّ له :
فَكَبَّر لِلْرُؤْيَا وهَاش فُؤَادُهُ ... وَبشَّرَ نَفْساً كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا
أي : قال الله اكبر حينما رأى الصيد الثمين يقترب منه ، فعبَّر بالرؤيا عن الرؤية البصرية .
لكن الحق سبحانه اختار كلمة ( رُّؤيَا ) ليدل على أنها شيء عجيب وغريب كما نقول مثلاً : هذا شيء لا يحدث إلا في المنام . وهذا من دِقّة الأداء القرآني ، فالذي يتكلم رَبّ ، فاختار الرؤيا؛ لأنها معجزة الإسراء وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في ليلة .
فَوَجْه الإعجاز هنا ليس في حدث الذهاب إلى بيت المقدس لأن كثيراً من كفار مكة قد ذهب إليها في رحلات التجارة أو غيرها ، بل وَجْه الإعجاز في الزمن الذي اختُصِر لرسول الله ، فذهب وعاد في ليلة واحدة ، بدليل أنهم سألوا رسول الله " صِفْ لنا بيت المقدس " .
(1/5252)
ولو كانوا يشكُّون في الحدث ما سألوا هذا السؤال ، إذن : فاعتراضهم على وقت هذه الرحلة التي كانوا يضربون إليها أكباد الإبل شهراً ، ويخبر محمد أنه أتاها في ليلة واحدة ، ولأن الإسراء حدث في هذا الزمن الضيق المختصر ناسب أن يُطلق عليه رؤيا ، لأن الرؤيا المنامية لا زمنَ لها ، ويختصر فيها الزمن كذلك .
ولقد توصّل العلماء الباحثون في مسألة وعي الإنسان أثناء نومه ، وعن طريق الأجهزة الحديثة إلى أنْ قالوا : إن الذهن الإنساني لا يعمل أثناء النوم أكثر من سبع ثوان ، وهذه هي المدّة التي يستغرقها المنام .
في حين إذا أردتَ أن تحكي ما رأيتَ فسيأخذ منكم وقتاً طويلاً . فأين الزمن إذن في الرؤيا المنامية؟ ولا وجود له؛ لأن وسائل الإدراك في الإنسان والتي تُشعِره بالوقت نائمة فلا يشعر بوقت ، حتى إذا جاءت الرؤيا مرَّتْ سريعة حيث لا يوجد في الذهن غيرها .
لذلك مَنْ يمشي على عجل لا يستغرق زمناً ، كما نقول : ( فلان يفهمها وهي طايرة ) وهذا يدل على السرعة في الفعل؛ لأنه يركز كل إدراكاته لشيء واحد .
ومن ناحية أخرى ، لو أن الإسراء والمعراج رؤيا منامية ، أكانت توجد فتنة بين الناس؟ وهَبْ أن قائلاً قال لنا : رأيت الليلة أنني ذهبتُ من القاهرة إلى نيويورك ، ثم إلى هاواي ، ثم إلى اليابان ، أنُكذِّبه؟!
إذن : قَوْل الله تعالى عن هذه الرؤيا أنها فتنة للناس عَدَّلَتْ المعنى من الرؤيا المنامية إلى الرؤية البصرية ، وكأن الحق سبحانه اختار هذه الكلمة ليجعل من الكافرين بمحمد دليلاً على صدقه ، فيقولون : نحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً وأنت تدعي أنك أتيتها في ليلة؟ فلو كانت هذه الحادثة مناماً ما قالوا هذا الكلام .
لكن ، ما الحكمة من فتنة الناس واختبارهم بمثل هذا الحدث؟
الحكمة تمحيص الناس وصَهْرهم في بوتقة الإيمان لنميز الخبيث من الطيب ، والمؤمن من الكافر ، فلا يبقى في ساحتنا إلا صادق الإيمان قويُّ العقيدة ، لأن الله تعالى لا يريد أن يسلم منهجه الذي سيحكم حركة الحياة في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، إلا إلى قوم موثوق في إيمانهم ليكونوا أهلاً لحمل هذه الرسالة .
فكان الإسراء هو هذه البوتقة التي ميَّزَتْ بين أصالة الصِّدِّيق حينما أخبروه أن صاحبك يُحدِّثنا أنه أتى بيت المقدس ، وأنه عُرِج به إلى السماء وعاد من ليلته ، فقال : " إنْ كان قال فقد صدق " هكذا من أقرب طريق ، فميزان الصدق عنده مجرد أن يقول رسول الله . وكذلك ميزت الزَّبَد الذي زلزلته الحادثة وبلبلته ، فعارض وكذب .
ثم يقول تعالى : { والشجرة الملعونة فِي القرآن } [ الإسراء : 60 ]
أي : وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنةً للناس أيضاً ، وإنْ كانت الفتنة في الإسراء كامنَة في زمن حدوثه ، فهي في الشجرة كامنة في أنها تخرج في أصل الجحيم ، في قَعْر جهنم ، ومعلوم أن الشجرة نبات لا يعيش إلا بالماء والري ، فكيف تكون الشجرة في جهنم؟
ومن هنا كانت الشجرة فتنة تُمحِّص إيمان الناس؛ لذلك لما سمع أبو جهل هذه الآية جعلها مُشكلة ، وخرج على الناس يقول : اسمعوا ما يحدثكم به قرآن محمد ، يقول : إن في الجحيم شجرة تسمى " شجرة الزقوم " ، فكيف يستقيم هذا القول ، والنار تحرق كل شيء حتى الحجارة؟
وهذا الاعتراض مقبول عقلاً ، لكن المؤمن لا يستقبل آيات الله استقبالاً عقلياً ، وإنما يعمل حساباً لقدرته تعالى؛ لأن الأشياء لا تأخذ قوامها بعنصر تكوينها ، وإنما تأخذه بقانون المعنصِر نفسه ، فالخالق سبحانه يقول للشجرة : كوني في أصل الجحيم ، فتكون في أصل الجحيم بطلاقة القدرة الإلهية التي قالت للنار : كُوني بَرْداً وسلاماً على إبراهيم .
(1/5253)
وقد قال ابن الزَّبْعَري حينما سمع قوله تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم } [ الصافات : 62-64 ]
فقال : والله ما عرفنا الزقوم إلا الزُّبْد على التمر ، فقوموا تزقَّموا معي ، أي : استهزاءً بكلام الله ، وتكذيباً لرسوله صلى الله عليه وسلم .
أما المؤمن فيستقبل هذه الآيات استقبالَ الإيمان والتسليم بصدق كلام الله ، وبصدق المبلِّغ عن الله ، ويعلم أن الأشياء لا تأخذ صلاحيتها بعنصر تكوينها ، وإنما بإرادة المعنْصِر أن يكون؛ لأن المسألة ليست ميكانيكا ، وليست نواميس تعمل وتدير الكون ، بل هي قدرة الخالق سبحانه وطلاقة هذه القدرة .
ولسائل أن يقول : كيف يقول الحق سبحانه عن هذه الشجرة أنها ( ملعونة ) ؟ ما ذنب الشجرة حتى تُلْعَن ، وهي آية ومعجزة لله تعالى ، وهي دليل على اقتداره سبحانه ، وعلى أن النواميس لا تحكم الكون ، بل ربّ النواميس سبحانه هو الذي يحكم ويُغيِّر طبائع الأشياء؟ كيف تُلْعَن ، وهي الطعام الذي سيأكله الكافر ويتعذب به؟ إنها أداة من أدوات العقاب ، ووسيلة من وسائل التعذيب لأعداء الله .
نقول : المراد هنا : الشجرة الملعون آكلها ، لأنه لا يأكل منها إلا الأثيم ، كما قال تعالى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 43-44 ] والأثيم لا شَكَّ معلون .
لكن ، لماذا لم يجعل المعلونية للآكل وجعلها للشجرة؟
قالوا : لأن العربي دَرَجَ على أن كل شيء ضار ملعون ، أي : مُبْعَد من رحمة الله ، فكأن الكافر حينما يرى هذه الشجرة هو الذي يلعنها ، فهي ملعونة من آكلها . وقد أكل منها لأنه ملعون ، إذن : نستطيع القول إنها ملعونة ، وملعون آكلها .
من الإشكالات التي أثارتها هذه الآية في العصر الحديث قول المستشرقين الذين يريدون أن يتورّكوا على القرآن ، ويعترضوا على أساليبه ، مثل قوله تعالى عن شجرة الزقوم : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } [ الصافات : 65 ]
ووَجْه اعتراضهم أن التشبيه إنما يأتي عادةً لِيُوضِّح أمراً مجهولاً من مخاطب بأمر معلوم له ، أما في الآية فالمشبَّه مجهول لنا؛ لأنه غَيْب لا نعلم عنه شيئاً ، وكذلك المشبَّه به لم نَرَهُ ، ولم يعرف أحد مِنّا رأس الشيطان ، فكيف يُشبِّه مجهولاً بمجهول؟ لأننا لم نَرَ شجرة الزقوم لنعرف طَلْعها ، ولم نَرَ الشيطان لنعرف رأسه .
(1/5254)
ثم يقولون : الذي جعل المسلمين يمرُّون على هذه الآية أنهم يُعطون للقرآن قداسة ، هذه القداسة تُربّى فيهم التهيُّب أنْ يُقبلوا على القرآن بعقولهم ليفتشوا فيه ، ولو أنهم تخلصوا من هذه المسألة وبدأوا البحث في أسلوب القرآن دون تهيُّب لاستطاعوا الخروج منه بمعطيات جديدة .
وللردِّ على قَوْل المستشرقين السابق نقول لهم : لقد تعلمتم العربية صناعة ، وليس عندكم الملَكَة العربية أو التذوّق الكافي لفهم كتاب الله وتفسير أساليبه ، وفَرْقٌ بين اللغة كملَكَة واللغة كصناعة فقط .
الملَكة اللغوية تفاعل واختمار للغة في الوجدان ، فساعة أنْ يسمعَ التعبير العربي يفهم المقصود منه ، أما اللغة المكتسبة خاصة على كِبَر فهي مجرد دراسة لإمكان التخاطب ، فلو أن عندكم هذه الملكة لما حدث منكم هذا الاعتراض ، ولعلمتم أن العربي قبل نزول القرآن قال :
يَغُطُّ غَطِيطَ البكْر شُدّ خِنَاقُه ... لِيقتُلَنِي والمرْءُ ليسَ بقتَّالِ
أَيقتُلِني وَالمشْرفيُّ مُضَاجِعِي ... وَمسْنُونَةٍ زُرْقٍ كأنْيَابِ أَغْوَالِ
فهل رأيتم الغول؟ وهل له وجود أصلاً؟ لكن الشاعر العربي استساغ أن يُشبّه سلاحه المسنون بأنياب الغول؛ لأن الغول يتصوَّره الناس في صورة بشعة مخيفة ، فهذا التصوّر والتخيُّل للغول أجاز أنْ نُشبّه به .
وكذلك الشيطان ، وإنْ لم يَرَهُ أحد أن الناس تتخيله في صورة بشعة وقبيحة ومخيفة ، فلو كلّفنا جميع رسّامي الكاريكاتير في العالم برسم صورة مُتخيّلة للشيطان لرسم كل واحد منهم صورة تختلف عن الآخر؛ لأن كلاً منهم سيتصوره بصورة خاصة حَسْب تصوره للشيطان وجهة البشاعة فيه .
فلو أن الحق سبحانه شبَّه طَلْع شجرة الزقوم بشيء معلوم لنا لَتصوّرناه على وجه واحد ، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أنْ يُشيعَ بشاعته ، وأنْ تذهب النفس في تصوُّره بشاعته كل مذهب ، وهكذا يؤدي هذا التشبيه في الآية مَا لا يُؤديّه غيره ، ويُحدث من الأثر المطلوب ما لا يُحدِثه تعبير آخر ، فهو إبهام يكشف ويجليِّ .
ثم يقول تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ الإسراء : 60 ]
أي : نُخوّفهم بأنْ يتعرّضوا للعقوبات التي تعرّض لها المكذِّبون للرسل ، فالرسل نهايتهم النصر ، والكافرون بهم نهايتهم الخُذْلان . وأنت حينما تُخوّف إنساناً أو تُحذره من شر سيقع له ، فقد أحسنتَ إليه وأسديتَ إليه جميلاً ومعروفاً ، كالولد الذي يُخوِّف ابنه عاقبة الإهمال ، ويُذكّره بالفشل واحتقار الناس له ، إنه بذلك ينصحه ليلتفت إلى دروسه ويجتهد .
فقوله تعالى : { وَنُخَوِّفُهُمْ . . } [ الإسراء : 60 ] التخويف هنا نعمة من الله عليهم ، لأنه يُبشّع لهم الأمر حتى لا يقعوا فيه ، وسبق أن ذكرنا أن التخويف قد يكون نعمة في قوله تعالى ، في سورة الرحمن :
(1/5255)
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35-36 ]
فجعل النار والشُّوَاظ هنا نعمة؛ لأنها إعلام بشيء سيحدث في المستقبل ، وسيكون عاقبة عمل يجب أن يحذروه الآن .
وقوله تعالى : { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ الإسراء : 60 ]
أي : يزدادون بالتخويف طغياناً ، لماذا؟ لأنهم يفهمون جيداً مطلوبات الإيمان ، وإلا لو جهلوا هذه المطلوبات لقالوا : لا إله إلا الله وآمنوا وانتهت القضية ، لكنهم يعلمون تماماً أن كلمة لا إله إلا الله تعني : لا سيادةَ إلا لهذه الكلمة ، ومحمد رسول الله لا بلاغَ ولا تشريعَ إلا منه ، ومن هنا خافوا على سيادتهم في الجزيرة العربية وعلى مكانتهم بين الناس ، كيف والإسلام يُسوِّي بين السادة والعبيد؟!
إذن : كلما خوَّفْتهم وذكّرتهم بالله ازدادوا طغياناً ونفوراً من دين الله الذي سيهدم عليهم هذه السلطة الزمنية التي يتمتعون بها ، وسيسحب بساط السيادة من تحت أقدامهم؛ لذلك تجد دائماً أن السلطة الزمنية لأعداء الرسل ، وتأتي الرسل لهدم هذه السلطة ، وجَعْل الناس سواسية .
وقد اتضح هدم الإسلام لهذه السلطة الزمنية للكفار عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان أهلها يستعدون لتنصيب عبد الله بن أُبيٍّ ملِكاً عليهم ، فلما جاء رسول الله المدينة انفض الناس عن ابن أُبيٍّ ، وتوجهت الأنظار إليه صلى الله عليه وسلم ، وطبيعي إذن أن يغضب ابن أُبيٍّ ، وأن يزدادَ كُرْهه لرسول الله ، وأن يسعى لمحاربته ومناوأته ، وأنْ يحسده على ما نال من حُبِّ الناس والتفافهم حوله .
ثم أراد الحق سبحانه أن يقول : إن هذه سُنّة من سُنَن المعاندين للحق والكائدين للخير دائماً ، فقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ . . . } .
(1/5256)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
أي : تذكّروا أن الحسد قديم قِدَم وجود الإنسان على هذه الأرض ، تذكّروا ما كان من أمر آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله ، فهي مسألة قديمة ومستمرة في البشر إلى يوم القيامة .
والمعنى : واذكُرْ يا محمد ، وليذكر معك قومك إذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . وسبق أنْ تكلمنا عن السجود ، ونشير هنا إلى أن السجود لا يكون إلا الله تعالى ، لكن إذا كان الأمر بالسجود لغير الله من الله تعالى ، فليس لأحد أن يعترض على هذا السجود؛ لأنه بأمر الله الذي يعلم أن سجودهم لآدم ليس عَيْباً وليس قَدْحاً في دينهم وعبوديتهم للحق سبحانه وتعالى؛ لأن العبودية طاعة أوامر .
والمراد بالملائكة المدبرات أمراً ، الذين قال الله فيهم : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله . . } [ الرعد : 11 ]
وقد أمرهم الله بالسجود لآدم؛ لأنه سيكون أبا البشر ، وسوف يُسخّر له الكون كله ، حتى هؤلاء الملائكة سيكونون في خدمته؛ لذلك أمرهم الله بالسجود له سجودَ طاعة وخضوع لما أريده منكم ، إذن : السجود لآدم ليس خضوعاً لآدم ، بل خضوعاً لأمر الله لهم .
وقوله تعالى : { إَلاَّ إِبْلِيسَ . . } [ الإسراء : 61 ]
فهِم البعض منها أن إبليس كان من الملائكة ، ونحن نعذر أصحاب هذا الفهم لو عزلنا هذه الآية عن بقية الآيات التي تحدثتْ عن هذه القضية ، لكن طالما نتكلم في موضوع عام مثل هذا ، فيجب استحضار جميع الآيات الواردة فيه لتتضح لنا الصورة كاملة .
فإذا كان دليل أصحاب هذا القول : الالتزام بأن الله قال : { فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ . . } [ الإسراء : 61 ]
وقد كان الأمر للملائكة فهو منهم ، سوف نُسلِّم لهم جدلاً بصحة قولهم ، لكن ماذا يقولون في قَوْل الحق سبحانه في القرآن الذي أخذوا منه حجتهم : { فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . } [ الكهف : 50 ]
فإنْ كان دليلكم الالتزام ، فدليلنا نصٌّ صريح في أنه من الجن ، فإنْ قال قائل : كيف يكون من الجن ويُؤاخَذ على أنه لم يسجد؟
نقول : إبليس من الجن بالنصِّ الصريح للقرآن الكريم ، لكن الحق سبحانه وتعالى آخذه على عدم السجود لآدم واعتبره من الملائكة؛ لأنه كان مطيعاً عن اختيار ، والملائكة مطيعون عن جِبلَّة وعن طبيعة .
فبذلك كانت منزلة إبليس أعلى من منزلة الملائكة ، لأنه مختار أن يطيع أو أن يعصي ، لكنه أطاع مع قدرته على العصيان فأصبح جليس الملائكة ، بل طاووس الملائكة الذي يزهو عليهم ويتباهى بأنه صالح للاختيار في العصيان ، ومع ذلك ألزم نفسه منهج الله .
فإذا أصبح في منزلة أعلى من الملائكة وأصبح في حضرتهم ، فإن الأمر إذا توجَّه إلى الأدنى في الطاعة فإن الأعلى أَوْلَى بهذا الأمر ، وكذلك إن اعتبرناه أقلّ منهم منزلة ، وجاء الأمر للملائكة بالسجود فإن الأمر للأعلى أمر كذلك للأدنى ، وهكذا إنْ كان أعلى فعليه أن يسجد ، وإنْ كان أدنى فعليه أنْ يسجدَ .
(1/5257)
وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى إذا دخل رئيس الجمهورية على الوزراء فإنهم يقومون له إجلالاً واحتراماً ، وهَبْ أن معهم وكلاء وزارات فإنهم سوف يقومون أيضاً؛ لأنهم ارتفعوا إلى مكان وجودهم .
ومن الإشكالات التي أثارها المستشرقون حول هذا الموضوع اعتراضهم على قول القرآن عن إبليس مرة { أبى } ومرة أخرى { استكبر } ومرة { أبى واستكبر } ، وكذلك قوله مرة : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ . . } [ ص : 75 ] ومرة أخرى يقول : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ . . } [ الأعراف : 12 ]
وقد سبق أن تحدثنا عن قصور هؤلاء في فَهْم أساليب العربية؛ لأنها ليستْ لديهم ملَكَة ، والمتأمل في هذه الأساليب يجدها منسجمة يُكمل بعضها بعضاً .
فالإباء قد يكون مجرد امتناع لا عن استكبار ، فالحق سبحانه يريد أن يقول : إنه أبى استكباراً ، فتنوّع الأسلوب القرآني ليعطينا هذا المعنى .
أما قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ . . } [ ص : 75 ] و { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ . . } [ الأعراف : 12 ]
صحيح أن في الأولى إثباتاً وفي الأخرى نفياً ، والنظرة العَجْلَى تقول : إن ثمة تعارضاً بين الآيتين ، مما حمل العلماء على القول بأن ( لا ) في الآية الثانية زائدة ، فالأصل { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ . . } [ ص : 75 ]
والقول بوجود حروف زائدة في كتاب الله قول لا يليق ، ونُنزّه المتكلم سبحانه أن يكون في كلامه زيادة ، والمتأدب منهم يقول ( لا ) حرف وَصْل ، كأنه يستنكف أن يقول : زائدة .
والحقيقة أن ( لا ) هنا ليست زائدة ، وليست للوَصْل ، بل هي تأسيس يضيف معنى جديداً ، لأن { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ . . } [ ص : 75 ] كأنه همَّ أن يسجد ، فجاءه مَنْ يمنعه عن السجود ، لأنه لا يقال : ما منع من كذا إلا إذا كان لديك استعداد للفعل ، وإلا من أيّ شيء سيمنعك؟
أما و { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ . . } [ الأعراف : 12 ] تعني : ما منعك بإقناعك بأن لا تسجد ، فالمعنيان مختلفان ، ونحن في حاجة إليهما معاً .
ثم يقول تعالى : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً . . } [ الإسراء : 61 ]
والهمزة للاستفهام الذي يحمل معنى الاعتراض أو الاستنكار ، وقد فُسِّرت هذه الآية بآيات أخرى ، مثل قوله تعالى : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ]
فالمخلوقية لله مُتفق عليها ، إنما الاختلاف في عنصر المخلوقية هذا من نار وهذا من طين ، لكن من قال لك يا إبليس : إن النار فوق الطين ، أو خير منه؟ من أين أتيتَ بهذه المقولة وكلاهما مخلوق لله ، وله مهمة في الكون؟ وهل نستطيع أن نقول : إن العين خير من الأذن مثلاً؟ أم أن لكل منهما مهمتها التي لا تؤديها الأخرى؟
وسبق أنْ قُلْنا مثلاً : إنك تفضل الحديد إنْ كان مستقيماً ، أما إنْ أردتَ خُطَّافاً فالاعوجاج خير من الاستقامة ، أو : أن اعوجاجه هو عين الاستقامة فيه ، فكل شيء في الوجود مخلوق لغاية ولمهمة ولا يكون جميلاً ولا يكون خَيْراً إلا إذا أدى مهمته في الحياة ، فمن أين جاء إبليس بخيرية النار على الطين؟
والنار الأصل فيها الخشب الذي توقد به ، والخشب من الطين ، إذن : فالطين قبل النار وأفضل منه ، فقياس إبليس إذن قياس خاطئ .
(1/5258)
ومعنى : { خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] يعني : خلقته حال كونه من الطين ، أو خلقتَه من طين ، والخَلْق من الطين مرحلة من مراحل الخَلْق؛ لأن الخَلْق المباشر له مراحل سبقته .
فقوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي . . } [ الحجر : 29 ]
سبقتْه مراحل متعددة ، قال عنها الخالق سبحانه مرة : من الماء . ومرة : من التراب . ومرة : من الطين . والماء إذا خُلِط بالتراب صار طيناً ، وبمرور الوقت يسودُّ هذا الطين ، وتتغير رائحته ، فيتحول إلى حمأ مسنون .
وما أشبهَ الحمأ المسنون بما يفعله أهل الريف في صناعة الطوب ، حيث يخلطون الماء بالتراب بالقشِّ ، ويتركونه فترة حتى يختمر ويأكل بعضه بعضاً ، وتتغير رائحته ويعطَن ، ثم يصبُّونه في قوالب . فإذا ما تُرِك الطين حتى يجفّ ، ويتحول إلى الصلابة يصير صَلْصَالاً كالفخَّار ، يعني يُحدث رنّة إذا طرقت عليه .
وبعد كل هذه المراحل يقول تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ]
إذن : لا وَجْه للاعتراض على القرآن في قوله عن خلق الإنسان مرة أنه : من : ماء ، أو من تراب ، أو طين ، أو حمأ مسنون ، فهذه كلها مراحل للمكوّن الواحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ . . } .
(1/5259)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{ قَالَ } أي : إبليس { أَرَأَيْتَكَ } الهمزة للاستفهام ، والتاء للخطاب ، وكذلك الكاف ، وجمع بينهما في الخطاب للتأكيد ، كما تقول : أنت أنت تفعل ذلك . والمعنى : أخبرني ، لأن رأي البصرية تُطلق في القرآن على معنى العلم؛ لأن علم العين علم مُؤكّد لا شكَّ فيه .
لذلك قالوا : ( ليس مع العين أَيْن ) فما تراه أمامك عياناً ، وإنْ كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية؛ لأنها تعطي علماً مؤكداً على خلاف الأذن مثلاً ، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنه كذب .
وقد ورد هذا المعنى في قَوْله الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ]
واستخدم الفعل ترى ، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل وليداً لم يَرَ شيئاً ، فالمعنى : ألم تعلم ، ولكن الحق سبحانه عدل عن " تعلم " إلى " تَرَ " كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرك الله بمعلوم ، فاجعل إخبار الله لك فوق رؤيتك بعينك .
فقوله تعالى : { أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ . . } [ الإسراء : 62 ] أي : أعلمني ، لماذا فضلته عليَّ ، وكأن تفضيل آدم على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير ، وكان على إبليس أن ينتظر إجابة هذا السؤال الذي توجه به لربّه عَزَّ وجل ، ولكنه تعجَّل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ]
وهذا لأن حقده وعداوته لآدم مُسْبقة فلم ينتظر الجواب .
ومعنى : { أَخَّرْتَنِ } أخَّرت أجلي عن موعده ، كأنه يعلم أن الله يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو جنٍّ أجلاً معلوماً ، فطلب أنْ يُؤخِّره الله عن أجله ، وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد ، فلم يتوعدهم ويُهدّدهم مدة حياته هو ، بل إلى يوم القيامة ، فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته أيضاً .
فالعداوة بين إبليس وآدم ، فما ذنب ذريته من بعده؟ لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد ، وهذه العداوة على آدم ، ثم يوصي ذريته بحمل هذا العداء من بعده ، إنه الغيظ الدفين الذي يملأ قلبه .
وقد أمهله الحق سبحانه بقوله : { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 15 ]
ومعنى : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [ الإسراء : 62 ] اللام للقسم ، كما أقسم في آية أخرى : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ]
وعجيب أمر إبليس ، يقسم بالله وهو يعلم أن العمر والأجل بيده سبحانه ، فيسأله أن يُؤخّره ، ومع ذلك لا يطيع أمره .
والاحتناك : يَرِد بمعنيين : الأول : الاستئصال . ومنه قولهم : احتنك الجراد الزرع . أي : أتى عليه كله واستأصله ، والآخر : بمعنى القهر على التصرف ، مأخوذ من اللجام الذي يُوضَع في حنَك الفرس ، ويسمونه ( الحنكة ) وبها تستطيع أن تُوجّه الفرس يميناً أو يساراً أو تُوقِفه ، فهي أداة التحكّم فيه ، والسيطرة عليه قَهْراً .
(1/5260)
فالاحتناك قد يكون استئصالاً للذات ، وقد يكون قهراً لحركتها .
وقوله سبحانه : { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] فيها دليل على عِلْم إبليس ومعرفته بقدرة الله تعالى ، فعرف كيف يقسم به حين قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] والمعنى : بعزتك عن خَلْقك : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
سأدخل من هذا الباب ، أما عبادك الذين هديتهم واصطفيتهم فلا دَخْلَ لي بهم ، وليس لي عليهم سلطان ، لقد تذكر قدرة الله ، وأن الله إذا أراد إخلاص عبده لنفسه لا يستطيع الشيطان أنْ يأخذَه ، فقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 83 ]
فقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] هذا القليل المستثنى هم المؤمنون الذين اختارهم الله وهداهم ، ولم يجعل للشيطان عليهم سبيلاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } .
(1/5261)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
قوله تعالى { اذهب } أمر يحمل معنى الطرد والإبعاد . { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ . . } [ الإسراء : 63 ] أي : الذين اتبعوك وساروا في ركابك فجزاؤهم جهنم .
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال : { جَزَآؤُكُمْ } . ولم يقل ( جزاؤهم ) لأنه معهم وداخل في حكمهم ، وهو سبب غوايتهم وضلالهم ، وكذلك هو المخاطب في الآية الكريمة ، وحتى لا يظن إبليس أن الجزاء مقصور على العاصين من ذرية آدم ، أو يحتج بأنه يُنفّذ أوامر الله الواردة في قوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } [ الإسراء : 64 ]
فليست هذه أوامر يراد تنفيذها؛ لأن هناك فرقاً بين الأمر الذي يُراد منه تنفيذ الفعل ، والأمر الذي لا يُراد منه التنفيذ . فالأول طَلَب أعلى من أَدْنى لكي يفعل : اكتب ، اجلس . لكن إذا اتجه الأمر إلى غير مطلوبٍ عادةً من العقلاء ينصرف عن الأمر إلى معنى آخر .
وهذا كما تقول لولدك مراراً : ذاكر دروسك واجتهد ، وإذا به لا يهتمّ ولا يستجيب فتقول له : العب كما تشاء ، فهل تقصد ظاهر هذا الأمر؟! وهل لو أخفق الولد في الامتحان سيأتي ليقول لك : يا والدي لقد قلت لي العب؟!
إن الأمر هنا لا يُؤخَذ على ظاهره ، بل يُراد منه التهديد ، كما يقولون في المثل ( أعلى ما في خَيْلك اركبه ) .
وقوله : { جَزَاءً مَّوْفُوراً } أي : وافياً مكتملاً لا نقصَ فيه ، لا من العذاب ، ولا من المعذبين .
والحق سبحانه يقول مخاطباً إبليس : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ . . . } .
(1/5262)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
فقوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ]
هذا كما تستنهض ولدك الذي تكاسل ، وتقول له : فِزّ يعني انهض ، وقُمْ من الأرض التي تلازمها كأنها مُمسكة بك ، وكما في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض . . } [ التوبة : 38 ]
فتقول للمتثاقل عن القيام : فِزّ أي : قُمْ وخِفّ للحركة والقيام بإذعان . فالمعنى : استفزز مَنِ استطعت واستخفّهم واخدعهم { بِصَوْتِكَ } بوسوستك أو بصوتك الشرير ، سواء أكان هذا الصوت من جنودك من الأبالسة أمثالك ، أو من جنودك من شياطين الإنس الذين يعاونوك ويساندونك .
ثم يقول تعالى : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ . . } [ الإسراء : 64 ]
أجْلَبَ عليهم : صاح به ، وأجلبَ على الجواد : صاح به راكبه ليسرع والجَلْبة هي : الصوت المزعج الشديد ، وما أشبه الجَلْبة بما نسمعه من صوت جنود الصاعقة مثلاً أثناء الهجوم ، أو من أبطال الكاراتيه .
وهذه الأصوات مقصودة لإرهاب الخصم وإزعاجه ، وأيضاً لأن هذه الصيحات تأخذ شيئاً من انتباه الخصم ، فيضعف تدبيره لحركة مضادة ، فيسل عليك التغلّب عليه .
وقوله تعالى : { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ . . } [ الإسراء : 64 ]
أي : صَوِّتْ وصِحْ بهم راكباً الخيل لتفزعهم ، والعرب تطلق الخيل وتريد بها الفرسان ، كما في الحديث النبوي الشريف : " يا خيل الله اركبي " .
وما أشبه هذا بما كنا نُسمِّيهم : سلاح الفرسان { وَرَجِلِكَ } من قولهم : جاء راجلاً . يعني : ماشياً على رِجْلَيْه و ( رَجِل ) يعني على سبيل الاستمرار ، وكأن هذا عمله وديدنه ، فهي تدل على الصفة الملازمة ، تقول : فلانٌ رَجْل أي : دائماً يسير مُترجّلاً . مثل : حاذر وحَذِرْ ، وهؤلاء يمثلون الآن " سلاح المشاة " .
ثم يقول تعالى : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال . . } [ الإسراء : 64 ] فكيف يشاركهم أموالهم؟ بأن يُزيِّن لهم المال الحرام ، فيكتسبوا من الحرام وينفقوا في الحرام ( والأولاد ) المفروض في الأولاد طهارة الأنساب ، فدَوْر الشيطان أنْ يُفْسِدَ على الناس أنسابهم ، ويُزيِّن لهم الزنا ، فيأتون بأولاد من الحرام . أو : يُزيِّن لهم تهويد الأولاد ، أو تنصيرهم ، أو يُغريهم بقتْلِ الأولاد مخافةَ الفقر أو غيره ، هذا من مشاركة الشيطان في الأولاد .
وقوله تعالى { وَعِدْهُمْ } أي : مَنيِّهم بأمانيك الكاذبة ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 268 ]
وقوله : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } [ الإسراء : 64 ] أي : لا يستطيع أن يَغُرَّ بوعوده إلا صاحب الغِرّة والغفلة ، ومنها الغرور : أي يُزيّن لك الباطل في صورة الحق فيقولون : غَرَّهُ . وأنت لا تستطيع أبداً أن تُصوّر لإنسان الباطل في صورة الحق إلا إذا كان عقله قاصراً غافلاً؛ لأنه لو عقل وانتبه لتبيَّن له الحق من الباطل ، إنما تأخذه على غِرَّة من فكره ، وعلى غَفْلة من عقله .
(1/5263)
لذلك كثيراً ما يُخاطبنا الحق سبحانه بقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ . . } [ القصص : 60 ] { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } [ الأنعام : 50 ] { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ . . } [ النساء : 82 ] وينادينا بقوله : { ياأولي الألباب } [ الطلاق : 10 ]
وهذا كله دليل على أهمية العقل ، وحثٌّ على استعماله في كل أمورنا ، فإذا سمعتم شيئاً فمرِّروه على عقولكم أولاً ، فما معنى أن يطلب الله مِنَّا ذلك؟ ولماذا يُوقِظ فينا دائماً ملكة التفكير والتدبُّر في كل شيء؟
لا شكَّ أن الذي يُوقِظ فيك آلة الفكر والنقد التمييز ، ويدعوك إلى النظر والتدبر واثق من حُسْن بضاعته ، كالتاجر الصدوق الذي يبيع الجيد من القماش مثلاً ، فيعرض عليك بضاعة في ثقة ، ويدعوك إلى فحصها ، وقد يشعل النار لِيُريك جودتها وأصالتها .
ولو أراد الحق سبحانه أن يأخذنا هكذا على جهل وعمى ودون تبصُّر ما دعانا إلى التفكُّر والتدبُّر .
وهكذا الشيطان لا يُمنّيك ولا يُزيّن لك إلا إذا صادف منك غفلة ، إنما لو كنت متيقظاً له ومُسْتصحباً للعقل ، عارفاً بحيله ما استطاع إليك سبيلاً ، ومن حيله أن يُزيِّن الدنيا لأهل الغفلة ويقول لهم : إنها فرصة للمتعة فانتهزها وَخذْ حظك منها فلن تعيش مرتين ، وإياك أن تُصدّق بالبعث أو الحساب أو الجزاء .
وهذه وساوس لا يُصدّقها إلا مَنْ لديه استعداد للعصيان ، وينتظر الإشارة مجرد إشارة فيطيع ويقع فريسة لوعود كاذبة ، فإنْ كان يوم القيامة تبرّأ إبليس من هؤلاء الحمقى ، وقال : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ]
إذن : في الآيتين السابقتين خمسة أوامر لإبليس : اذهب ، استفزز ، وأَجْلب ، وشاركهم ، وعِدْهم . وهذه الأوامر ليست لتنفيذ مضمونها ، بل للتهديد ولإظهار عجزه عن الوقوف في وجه الدعوة ، أو صَدّ الناس عنها ، وكأن الحق سبحانه يقول له : إفعل ما تريد ودبِّر ما تشاء ، فلن توقِف دعوة الله؛ لذلك قال بعدها : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . . . } .
(1/5264)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
سبق أن تحدثنا عن الفرق بين العباد والعبيد ، وقلنا كلاماً نُوجزه في أن العبيد هم المقهورون للسيد في الأمور القَسْرية القهرية ، ومتمردون عليه في الأمور الاختيارية ، أما العباد فهم مقهورون في الأمور القسرية القهرية ، وتنازلوا أيضاً عن مُرادهم في الأمور الاختيارية لمراد ربهم ، فرضوا أنْ يكونوا مقهورين لله في جميع أحوالهم .
وقد تحدّث الحق سبحانه عن عباده وأصفيائه ، كما في قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 63-65 ] .
فعباد الله الذين هم أصفياؤه وأحباؤه الذين خرجوا من مرادهم لمراده ، وفَضلَّوا أن يكونوا مقهورين لربهم حتى في الاختيار ، فاستحقوا هذه الحصانة الإلهية في مواجهة كيد الشيطان ووسوسته وغروره : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . . . } [ الإسراء : 65 ] .
وسبق أنْ تحدَّثنا عن كَيْد الشيطان الذي قال الله عنه : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] ففي مُحاجّته يوم القيامة أمام ضحاياه الذين أغواهم وأضلّهم ، سيقول : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي . . . } [ إبراهيم : 22 ] فليس لي سلطان قَهْر أحملكم به على المعصية ، ولا سلطان حُجَّة وبرهان فأُقنِعكم بها .
ثم يقول تعالى : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ الإسراء : 65 ] .
الوكيل هو المؤيِّد ، وهو الناصر ، تقول : وكلت فلاناً . أي : وثقت به ليؤدي لي كل ما أريد ، فإنْ كان في البشر مَنْ تثق به ، وتأتمنه على مصالحك ، فما بالك إنْ كان وكيلك هو الله عز وجل؟ لا شكَّ إنْ كان وكيلك الله فهو كافيك ومؤيّدك وناصرك ، فلا يُحوجِك لغيره سبحانه .
ثم يقول الحق سبحانه : { رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك . . . } .
(1/5265)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
الربّ هو المتولّي تربيتك : خَلْقاً من عَدم ، وإمداداً من عُدم ، وقيُّوميته تعالى عطاء ينتظم المؤمن والكافر { يُزْجِي } الإزجاء : الإرسال بهوادة شيئاً فشيئاً . و { الفلك } هي السفن وتُطلَق على المفرد وعلى الجمع ، وعلى المذكّر والمؤنث .
ومنها قوله تعالى : { والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس } [ البقرة : 164 ]
ومنها قوله تعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ . . } [ يونس : 22 ]
ثم يقول تعالى : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . } [ الإسراء : 66 ]
الابتغاء هو القصد إلى نافع يطلب من البحر كالقوت أو غيره ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا . . } [ النحل : 14 ]
فالبحر مصدر من مصادر الرزق والقُوت ، ومُسْتودع لثروة عظيمة من فضل الله تعالى؛ لذلك قال بعدها : { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ الإسراء : 66 ]
والرحمة اتساع مَدَد الفضل من الله ، فالذي أعطاكم البَرَّ بما فيه من خيرات أعطاكم البحر أيضاً بما فيه من خيرات .
والأرض التي نعيش عليها إما بَرَّ يسمى يابسة ، أو بحر ، وإنْ كانت نسبة اليابس من الأرض الرُّبْع أو الخُمْس ، فالباقي بحر شاسع واسع يَزْخَر من خَيْرات الله بالكثير .
وطُرُق السير في اليابسة كثيرة متعددة ، تستطيع أن تمشي أو تركب ، وكُلُّ وسيلة من وسائل الركوب حَسْب قدرة الراكب ، فهذا يركب حماراً ، وهذا يركب سيارة ، وتستطيع أن تنتقل فيها من مكان إلى آخر . أما البحر فلا يمكن الانتقال فيه إلا أنْ تُحملَ على شيء ، فمن رحمة الله بنا أنْ جعل لنا السفن آية من آياته تسير بنا على لُجَّة الماء ، ويمسكها بقدرته تعالى فنأمَن الغرق .
وأول مَنْ صنع السفن بوحي من الله نوح عليه السلام ، فلم تكُنْ معروفة قِبله ، بدليل قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] .
فلم يكُنْ للناس عهد بالسفن ، وكانت سفينة نوح بدائية من ألواح الخشب والحبال ، ولولا أن الله تعالى دَلَّه على طريقة بنائها ، وهداه إلى تنظيمها ما كان له عِلْم بهذه المسألة ، فكَوْنُ الحق سبحانه يهدينا بواسطة نبي من أنبيائه إلى مركب من المراكب التي تيسّر لنا الانتفاع بثلاثة أرباع الأرض ، لا شكَّ أنها رحمة بالإنسان وتوسيع عليه .
وكذلك من رحمته بنا أنْ يسّر لنا تطوير هذا المركب على مر العصور ، فبعد أن كان يتحرك على سطح الماء بقوة الهواء باستخدام ما يسمى بالقلع ، والذي يتحكم في المركب من خلاله ، ويستطيع الربان الماهر تسفيح القلع ، يعني توجيهه إلى الناحية التي يريدها .
فكان الريح هو الأصل في سَيْر السفن ، ثم أتى التقدم العلمي الذي اكتشف البخار والآلات ثم الكهرباء ، وبذلك سهّل على الإنسان تحريك السفن على سطح الماء بسهولة ويُسْر ، كما تطورتْ صناعة السفن كذلك على مَرَّ العصور ، حتى أصبحنا نرى الآن البوارج الكبيرة متعددة الأدوار ، والتي تشبه فعلاً الجبال ، مِصْداقاً لقوله الحق سبحانه وتعالى :
(1/5266)
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ]
يعني : كالجبال ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يُعطينا الدليل على عِلْمه تعالى بما سيصل إليه العالم من تقدم ، وما ستصل إليه صناعة السفن من رقيّ يصل بها إلى أنْ تكونَ كالجبال ، وإلاّ ففي زمن نزول القرآن لم يكُنْ هناك بوارج عالية كهذه ، إنها لم توجد إلا بعد قانون أرشميدس الذي تُبْنَى على أساسه هذه البوارج .
لكن مع كل هذا التقدم في مجال الملاحة البحرية لا نغفل أن القدرة الإلهية هي التي تُسيِّر هذه السفن ، وتحملها بأمان على صفحة الماء ، ويجب أَلاّ يغتَرّ الإنسان بما توصّل إليه من العلوم ، ويظن أنه أصبح مالكاً لزمام الأمور في الكون؛ لأن الحق سبحانه يقول : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ } [ الشورى : 33 ]
والريح هي الأصل في تسيير السفن .
فإنْ قال قائل الآن : إنْ توقف الريح استخدمنا القوى الأخرى مثل البخار أو الكهرباء . نقول : لقد أخذت الريح على أنه الهواء فقط ، إنما لو نظرتَ إلى كلمة الريح ، وماذا تعني لوجدتَ أن معنى الريح القوة المطلقة أيّاً كان نوعها ، بدليل قَوْل الحق سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ . . } [ الأنفال : 46 ] إذن : الريح هو القوة المطلقة .
فمعنى : { يُسْكِنِ الريح . . } [ الشورى : 33 ] يُسكِن القوة المحرّكة للسفن أيّاً كانت هذه القوة : قوة الريح أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى ، فإنْ شاء سبحانه تعطَّلَتْ كُلُّ هذه القوى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . . } .
(1/5267)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
البحر هو المزنق والضائقة التي لا يستطيع الخلاص منها إنْ أصابه فيه سوء ، فالبر منافذ النجاة فيه متعددة ، أما البحر فلا نجاة فيه إلا بعناية الله ، يقول تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين . . } [ يونس : 22 ]
وهكذا الإنسان حتى الكافر ، إذا ضاقتْ به الحِيَل ولم يجد مَنْفذاً يلجأ إلى الله المنفذ الحقيقي والمفرِّج للكَرْب ، والإنسان عادة لا يُسلم نفسه ويظلّ مُتعلّقاً بالأمل في النجاة .
فقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 67 ]
أي : أحاط بهم الخطر بالريح العاصف أو الموج العالي ، وأحسُّوا بخطورة الموقف ولا مُنقِذَ لهم إلا الله ، حتى الكفار في هذا الموقف يَصْدُقون مع أنفسهم ، ولا يخدعونها ولا يكذبون عليها ، فإنْ آمنوا بآلهة أخرى وإنْ عبدوا الأصنام والأوثان ، فإنهم في هذا الضيق لا يلجأون إلا إلى الله ، ولا يدعون إلا الله؛ لأنهم يعلمون تماماً أن آلهتهم لا تسمع ولا تجيب ، ولا تملك لهم نفعاً ولا نجاة .
قوله تعالى : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ . . } [ الإسراء : 67 ] أي : ذهب عن بالكم مَن اتخذتموهم آلهة ، وغابوا عن خاطركم ، فلن يقولوا هنا يا هبل؛ لأنهم لن يغشُّوا أنفسهم ، ولن ينساقوا وراء كذبهم في هذا الوقت العصيب .
إنهم في هذا الضيق لن يتذكروا آلهتهم ، ولن تخطرَ لهم ببال أبداً؛ لأن مجرد تذكّرهم يُضعِف ثقتهم في الله الذي يملك وحده النجاة ، والذي يطلبون منه المعونة .
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بقصة حلاق الصحة في الريف الذي يتولى علاج البسطاء ، ويدّعي العلم والخبرة ، فإذا ما مرض ولده فإنه يُسرع به إلى الطبيب ، لأنه إنْ خدع الناس فلن يخدع نفسه ، وإنْ كذب عليهم فلن يكذب على نفسه .
وكذلك الإنسان لا يبيع نفسه رخيصاً ، فإنْ أحاطتْ به الأخطار لا يلجأ إلا إلى الله؛ لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف ، حتى وإنْ كان كافراً؛ لأنه سبحانه هو الذي أمره أنْ يلجأ إليه ، وأنْ يدعوه ، فقال : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ . . } [ الأنعام : 43 ]
فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم؛ لأنهم عباده وخَلْقه وصَنْعته ، فما أرحمه سبحانه حتى بمَنْ كفر به!
لذلك قال رب العزة في الحديث القدسي : " قالت الأرض : يا رب إئذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت السماء : يا رب إئذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أن أَخِرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أُغرِقَ ابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك . فقال تعالى : دعوني وما خلقت ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، فإنهم عبادي ، فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " .
(1/5268)
لقد غفر لهم الحق سبحانه أن يعبدوه غيره ، وأن يؤذوا النبوة ، وأنْ يقفوا في وجه الدعوة ، غفر لهم لأنه ربٌّ ، وما دام رباً فهو رحيم ، فتضرعوا إليه ودَعَوْهُ ، فلمّا نجّاهم إلى البر أعرضوا ، وعادوا لما كانوا عليه وتنكّروا للجميل والمعروف؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } [ الإسراء : 67 ]
وكفور : صيغة مبالغة من الكفر ، أي : كثير الكفر للنعمة ، ولَيْتَه كفر بنعمة الخلق فقال : إنه أتى هكذا من فعل الطبيعة ، إنما كفر بنعمة ملموسة مشاهدة عاش مأزقها ، وقاسى خطرها ، ثم إذا نجَّاه الله أعرض وتمرَّد ، وهذا من طبيعة الإنسان .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً . . . } .
(1/5269)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
فهؤلاء الذين أعرضوا عن الله بعد إذ نجَّاهم في البحر أأَمِنُوا مكْر الله في البر؟ وهل الخطر في البحر فقط؟ وأليس الله تعالى بقادر على أن يُنزِل بهم في البر مثل ما أنزل بهم في البحر؟
يقول تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر . . } [ الإسراء : 68 ]
كما قال تعالى في شأن قارون : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض . . } [ القصص : 81 ] ولستم ببعدين عن هذا إنْ أراده الله لكم ، وإنْ كنا نقول " البر أمان " فهذا فيما بيننا وبين بعضنا ، أما إنْ جاء أمر الله فلن يمنعنا منه مانع .
وقوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً . . } [ الإسراء : 68 ] أي : ريحاً تحمل الحصباء ، وترجمكم بها رَجْماً ، والحصباء الحصى الصغار ، وهي لَوْن من ألوان العذاب الذي لا يُدفَع ولا يُرَدّ؛ لذلك قال بعدها : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } [ الإسراء : 68 ]
أي : لا تجدوا مَنْ ينصركم ، أو يدفع عنكم . إذن : لا تظنوا أن البر أمان لا خطر فيه . . لا ، بل خطري موجود غير بعيد منكم ، سواء أكنتم في البحر أو في البر .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى . . . } .
(1/5270)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
أي : وإنْ نجاكم من خطر البحر ، فلا مجال للأمن في البر؛ لأنه قادر سبحانه أن يُذيقكم بأسه في البر ، أو يُعيدكم في البحر مرة أخرى ، ويُوقعكم فيما أوقعكم فيه من كَرْب في المرة الأولى ، فالمعنى : أنجوتُمْ فأمنتُم .
وقوله تعالى : { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح . . } [ الإسراء : 69 ]
القاصف : هو الذي يقصف بعنف وشدة ، ولا يكون إلا في اليابس { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ . . . } [ الإسراء : 69 ] أي : بسبب كفركم بنعمة الله ، وجحودكم لفضله ، فقد نجاكم في البحر فأعرضتم وتمردتم ، في حين كان عليكم أن تعترفوا لله بالجميل ، وتُقِرُّوا له بالفضل .
ثم يقول تعالى : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } [ الإسراء : 69 ]
عندنا تابع وتبيع ، التابع : هو الذي يتبعك لعمل شيء فيك ، أما التبيع : فهو الذي يُوالِي تتبعك ، ويبحث عنك لأَخْذ ثأره منك . فالمعنى : إنْ فعلنا بكم هذه الأفعال فلن تجدوا لكم تبيعاً يأخذ بثأركم أو ينتقم لكم ، إذن : لا أملَ لكم في ناصر ينصركم ، أو مدافع يحميكم .
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : أنا لا أخاف ردَّ الفعل منكم ، والإنسان يُحجم عن الفعل مخافةَ ردِّ الفعل ، ويجلس يفكر طويلاً : إذا ضربتُ فلاناً فسيأتي أهله ويفعلون بي كذا وكذا ، أما الحق سبحانه وتعالى فلا أحدَ يستطيع ردّاً على انتقامه أو عذابه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر . . . } .
(1/5271)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
وهل هناك تكريم لبني آدم أعظم من أنْ يُعدّ لهم مُقوّمات حياتهم قبل أنْ يخلقهم؟ لقد رتَّب لهم الكون وخلق من أجلهم الأشياء { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً . . } [ البقرة : 29 ]
إذن : فكل ما في الوجود مُسخَّر لكم من قبل أنْ تُوجَدوا؛ لأن خلق الله تعالى إما خادم وإما مخدوم ، وأنت أيُّها الإنسان مخدوم من كل أجناس الكون حتى من الملائكة ، ألم يَقُلْ الحق سبحانه : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله . . } [ الرعد : 11 ]
وقال تعالى : { فالمدبرات أَمْراً } [ النازعات : 5 ]
فالكون كله يدور من أجلك وفي خدمتك ، يعطيك عطاءً دائماً لا ينقطع دون سَعْي منك ، لذلك نقول : كان من الواجب على العقل المجرد أنْ يقفَ وقفه تأمُّل وتفكُّر؛ ليصل إلى حَلٍّ للغز الكون ، وليهتدي إلى أن له خالقاً مُبْدعاً ، يكفي أن أنظر إلى آيات الله التي تخدمني ، وليس له قدرة عليها ، وليست تحت سيطرتي ، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والهواء والماء والمطر والسحاب كلها تعطيني وتُمدّني دون قدرة لي عليها ، أليس من الواجب عليك عدلاً أن تقول : مَنِ الذي أعدّ لي كلَّ هذه الأشياء التي ما ادَّعاهَا أحد لنفسه؟
فإذا ما صاح صائح منك أيُّها الإنسان وقال : أنا رسول من الرب الذي خلق لكم كل هذه المخلوقات ، كان يجب عليكم أنْ تُرهِفُوا له السمع لتسمعوا ما جاء به؛ لأنه سوف يحلُّ لكم هذا اللغز الذي حيّركم .
وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك بالرجل الذي انقطعتْ به السُّبل في الصحراء حتى أشرف على الهلاك ، فإذا هو بمائدة مُعدَّة بأطايب الطعام والشراب ، أليس حَرياً به قبل أنْ تمتد يده إليها أنْ يفكر كيف أتتْه؟
إذن : كان على الإنسان أن يُعمل عقله وفِكْره في معطيات الكون التي تخدمه وتسخر من أجله ، وهي لا تأتمر بأمره ولا تخضع لقدرته .
ولقد اختلف العلماء في بيان أَوْجُه التكريم في الإنسان ، فمنهم مَنْ قال : كُرِّمَ بالعقل ، وآخر قال : كُرِّمَ بالتمييز ، وآخر قال : كُرِّمَ بالاختيار ، ومنهم مَنْ قال : كُرِّمَ الإنسان بأنه يسير مرفوع القامة لا منحنياً إلى الأرض كالبهائم ، ومنهم مَنْ يرى أنه كُرِّمَ بشكل الأصابع وتناسقها في شكل بديع يسمح لها بالحركة السلسة في تناول الأشياء ، ومنهم مَنْ يرى أنه كُرِّم بأن يأكلَ بيده لا بفمه كالحيوان . وهكذا كان لكل واحد منهم مَلْحظ في التكريم .
ولنا في مسألة التكريم هذه ملحظ كنت أودُّ أنْ يلتفت إليه العلماء ، أَلاَ وهو : أن الحق سبحانه خلق الكون كله بكلمة ( كُنْ ) إلا آدم ، فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ، قال تعالى : { ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ]
وقال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ]
فقمة الفضل والتكريم أن خلق الله تعالى أبنا آدم بيده ، بدليل أن الله جعلها حيثية له .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ . . . } .
(1/5272)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
أي : يوم القيامة ، والداعي هو المنادي ، والناس هم المدعوون ، والنداء على الناس في هذا اليوم لا يكون بفلان بن فلان ، بل ينادي القوم بإمامهم أي : برسولهم ، فيقال : يا أمة محمد ، يا أمة عيسى ، يا أمة موسى ، يا أمة إبراهيم .
ثم يُفصّل هذا الإجمال ، فتُنادى كل جماعة بمَنْ بلَّغهم وهداهم ودَلَّهم ليُغري الناس بنقل الفضل العلمي من أنفسهم إلى غيرهم .
وقال بعضهم { بِإِمَامِهِمْ } أي : بأمهاتهم ، وفي دعاء الناس بأمهاتهم في هذا الموقف تكريم لعيسى عليه السلام أولاً ، وسَتْر على أولاد الإثم ثانياً ، حتى لا يُفضحوا على رؤوس الأشهاد في مثل هذا الموقف .
ثم يقول تعالى : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ]
فكوْنه أخذ كتابه بيمينه ، فهذه بشارة الخير وبداية السلامة ، فإذا به يسارع إلى قراءته ، بل ويتباهى به بين الناس قائلاً : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] إنه مسرور بعمله الصالح الذي يحب أنْ يطلع عليه الناس ، وقوله تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ]
الظلم أنْ تأخذ من خير غيرك مما ليس عندك ، إذن : فعندك نقص في شيء تريد أنْ تحصل عليه ظلماً ، إذن : فماذا ينقص الحق سبحانه وتعالى حتى يظلم الخَلْق؟! إن الخلق يتصفون بالظلم؛ لأن الإنسان عادةً لا يرضى بما قسم الله له؛ لذلك يشعر بالنقص فيظلم غيره ، أما الله عز وجل فهو الغني عن الخَلْق ، فكيف يظلمهم؟ وهم جميعاً بما يملكون هِبة منه سبحانه .
ومعنى { فَتِيلاًْ } عادةً يضرب الحق سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن بالمألوف عند العرب وفي بيئتهم ، ومن مألوفات العرب التمر ، وهو غذاؤهم المفضّل والعَلف لماشيتهم ، ومن التمر أخذ القرآن النقير والقطمير والفتيل ، وهي ثلاثة أشياء تجدها في نواة الثمرة ، وقد استخدمها القرآن في تمثيل الشيء الضئيل القليل .
فالنقير : هو تجويف صغير في ظهر النواة مثل النقطة .
والقطمير : هو اللفافة الرقيقة الشفافة بين الثمرة والنواة .
والفتيل : هو غلالة رقيقة تشبه الخيط في بطن النواة .
فمعنى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ] أي : أنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس أبداً ، فهو سبحانه مُنزَّه عن الظلم مهما تناهى في الصِّغَر .
وفي مقابل مَنْ أوتي كتابه بيمينه لم تذكر الآية مَنْ أُوتي كتابه بشماله ، كما جاء في قوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } [ الحاقة : 25 ]
وفي آية أخرى قال : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } [ الانشقاق : 10 ]
أما هنا فقال الحق سبحانه : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى . . . } .
(1/5273)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
وهذا هو المقابل لمن أخذ كتابه بيمينه؛ لأنه عميتْ بصيرته في الدنيا فعمى في الآخرة ، وطالما هو كذلك فلا شَكَّ أنه من أهل الشمال ، فالآيات ذكرتْ مرة السبب ، وذكرتْ مرة المسبّب ، ليلتقي السبب والمسبب ، وهو ما يعرف باسم [ الاحتباك ] البلاغي .
فكأن الحق سبحانه قال : إن مَنْ أُوتِي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكُنْ أعمى في دنياه ، بل كان بصيراً واعياً ، فاهتدى إلى منهج الله وسار عليه ، فكانت هذه نهايته وهذا جزاءه .
أما مَنْ أوتي كتابه بشماله فقد كان أعمى في الدنيا عمى بصيرة لا عمى بصر؛ لأن عمى البصر حجب الأداة الباصرة عن إدراك المرائي ، والكافرون في الدنيا كانوا مُبصرين للمرائي من حولهم . مُدركين لماديات الحياة ، أما بصيرتهم فقد طُمِس عليها فلا ترى خيراً ، ولا تهتدي إلى صلاح .
وسبق أن قلنا : إن الإنسان لكي يسير في رحلة الحياة على هدى لا بُدَّ له من بصر يرى به المرائي المادية ، حتى لا يصطدم بأقوى منه فيتحطم أو بأضعف منه فيحطمه ، والبصر للمؤمن والكافر من عطاء الربوبية للإنسان . لكن إلى جانب البصر هناك عطاء آخر هو ثمرة من ثمار عطاء الألوهية الذي لا يكون إلا للمؤمن ، ألا وهو البصيرة ، بصيرة القيم التي يكتسبها الإنسان من منهج الله الذي آمن به وسار على هَدْيه .
وقوله : { فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلا } [ الإسراء : 72 ]
إنْ كان عماه في الدنيا عمى بصيرة ، فَعَماه في الآخرة عمى بصر؛ لأن البصيرة مطلوبة منه في الدنيا فقط؛ لأن بها سيُعرف الخير من الشر ، وعليها يترتب العمل ، وليست الآخرة مجال عمل ، إذن : العمى في الآخرة عمى البصر ، كما قال تعالى في آية أخرى : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 123-124 ]
وقال عنهم في آية أخرى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا . . } [ الإسراء : 97 ]
لكن قد يقول قائل : هناك آيات أخرى تثبت لهم الرؤية في الآخرة ، مثل قوله تعالى : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ . . } [ مريم : 75 ]
وقوله تعالى : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا . . } [ الكهف : 53 ]
وللجمع بين هذه الآيات وللتوفيق بينها نقول : للكفار يوم القيامة في مجال الرؤية البصرية حالتان : الأولى عند القيام وهَوْل المحشر يكونون عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً لتزداد حَيْرتهم ويشتد بهم الفزع حيث هم في هذا الكرب الشديد ، ولكن لا يعرف ما يحدث ولا أين المهرب ، ولا يستمعون من أحد كلمة ، وهكذا هم في كَرْب وحَيْرة لا يدرون شيئاً . وهذه حالة العمي البصري عندهم .
أما الحالة الثانية وهي الرؤية ، فتكون عندما يتجلى الحق تبارك وتعالى لأهل الموقف ويكشف الغطاء عن نفسه سبحانه ، فهنا يصير الكافر حَادّ البصر ، ليرى مكانه من النار .
(1/5274)
ولا بُدَّ لنا هنا أن نلحظَ أن ألفاظ اللغة قد يكون اللفظ واحداً ولكن يختلف السياق ، ففي قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ]
فلفظ { أعمى } واحد ، لكن في الآخرة قال { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } إذن : لا بُدَّ أن عمى الدنيا أقلّ من عمى الآخرة ، كما تقول : هذا خير . فمقابل خير : شر . أما لو قلت : هذا خَيْر من هذا فقد فضَّلتَ الأول في الخيرية عن الثاني ، إذن : كلمة خير إما أنْ تأتي وَصْفاً ، وإما أن تأتي تفضيلاً .
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خَيْرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كُلٍّ خير " .
فالمراد أن المؤمن القوي أكثر في الخيرية . إذن : فكلمة : { فَهُوَ فِي الآخرة أعمى . . } [ الإسراء : 72 ] ليست وَصْفاً ، وإنما تفضيل لعمى الآخرة على عمى الدنيا ، أي أنه في الآخرة أشدّ عمىً .
وقوله تعالى : { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] ومعلوم أنه كان ضالاً في الدنيا ، فكيف يكون أضلَّ في الآخرة؟
قالوا : لأن ضلاله في الدنيا كان يمكن تداركه بالرجوع إلى المنهج والعودة إلى الطريق السَّويّ ، أما في الآخرة فضلاله لا يمكن تداركه ، فقد انتهى وقت الاختيار ، إذن : فضلالهُ في الآخرة أشدّ وأعظمُ من ضلاله في الدنيا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ . . . } .
(1/5275)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
وهذه خبيثة جديدة من خبائثهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كانوا يحاولون جادِّين أنْ يصرفوا رسول الله عما بعثه الله به ، فمرة يقولون له : دَعْ آلهتنا نتمتع بها سنة ونأخذ الغنائم من ورائها وتحرم لنا بلدنا أي : ثقيف كما حرمت مكة . ومرة يقولون له : لا تستلم الحجر ويمنعونه من استلامه حتى يستلم آلهتهم أولاً .
ومعنى { كَادُواْ } أي قاربوا ، والمقاربة غير الفعل ، فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له ، لكنه لم يحدث ، إنهم قاربوا أنْ يفتنوك عن الذي أُنزِل إليك لكن لم يحدث؛ لأن محاولاتهم كانت من بعيد ، فهي تحوي حول فتنتك عن الدين ، كما قالوا مثلاً : نعبد إلهك سنة ، و تعبد آلهتنا سنة .
ومعنى : { لَيَفْتِنُونَكَ } لَيُحوّلونك ويَصْرِفونك عما أنزل الله إليك ، لماذا؟ { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ . . } [ الإسراء : 73 ] كما حكى القرآن عنهم في آية أخرى : { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ . . } [ يونس : 15 ]
فيكون الجواب من الحق سبحانه : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ]
وقال تعالى : { قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ]
ونلاحظ في مثل هذا الموقف أن الحق سبحانه يتحمل العنت عن رسوله ، وينقل المسألة من ساحة الرسول إلى ساحته تعالى ، لكي لا تكون عداوة بين محمد وقومه ، فالأمر ليس من عند محمد بل من عند الله ، يقول تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ]
فلا تحزن يا محمد ، فأنت مُصَدَّق عندهم ، لكن المسألة عندي أنا ، وهكذا يتحمل الحق سبحانه الموقف عن رسوله حتى لا يحمل القوم ضغينة لرسول الله .
ثم يقول تعالى : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ]
الخليل : هو المخالّ الذي بينك وبينه حُبٌّ ومودّة ، بحيث يتخلل كل منكما الآخر ويتغلغل فيه ، ومنه قوله تعالى في إبراهيم : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ]
ومنه قول الشاعر :
وَلَمَّا التقيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْدَهُ ... خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وَعِتَابَا
كأنَّ خَليِلاً فِي خِلاَلِ خَليِلِه ... تَسَرَّبَ أثناءَ العِنَاقِ وَغَابَا
فإذا ما تقابل الخليلان ذاب كل منهما في صاحبه أو تخلَّله ودخل فيه .
فالمعنى : لو أنك تنازلتَ عن المنهج الذي جاءك من الله لَصِرْتَ خليلاً لهم ، كما كنت خليلاً لهم من قبل ، وكانوا يحبونك ويقولون عنك " الصادق الأمين " . إذن : الذي جعلهم في حالة عداء لك هو منهج الله جئتَ به ، فلو تنازلتَ عنه أو تهاونت فيه فسوف يتخذونك خليلاً ، فلا تكُنْ خليلاً لهم بل خليلاً لربك الذي أرسلك .
ويخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } .
(1/5276)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{ وَلَوْلاَ } أداة شرط إن دخلت على الجملة الاسمية ، وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشرط ، ويسمونها حرف امتناع لوجود ، كما لو قلت : لولا زيدٌ عندك لَزُرْتُكَ ، فقد امتنعت الزيارة لوجود زيد .
فإنْ دخلت ( لولا ) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثَّ والحضَّ ، كما في قوله تعالى : { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ . . } [ النور : 13 ]
و ( لولا ) في الآية دخلتْ على جملة اسمية؛ لأن ( أن ) بعدها مصدرية ، فالمعنى : لولا تثبتنا لك لقاربتَ أن تركنَ إليهم شيئاً قليلاً .
والمتأمل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات ، فلم تقُلْ : لولا تثبتنا لك لَركنتَ إليهم ، لا ، بل لَقاربتَ أنْ تركنَ فمنعتْ مجرد المقاربة ، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائياً وغير مُتصوّر من رسول الله ، ومع ذلك أكّد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله : { شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] أي : ركوناً قليلاً .
مما يدلُّ على أن طبيعته صلى الله عليه وسلم حتى دون الوحي من الله طبيعة سليمة بفطرتها ، فلو تصوَّرنا عدم التثبيت له من الله ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد ( كاد ) أو ( قَرُب ) أنْ يركنَ إليهم شيئاً قليلاً ، وقلنا : إن المقارنة تعني مشروعَ فِعْل ، لكنه لم يحدث ، مِمّا يدلُّ على أن لرسول الله ذاتية مستقلة .
ومعنى { ثَبَّتْنَاكَ . . } [ الإسراء : 74 ] التثبيت هو منع المثبَّت أنْ يتأرجح ، لذلك نقول للمتحرك : اثبت .
ومعنى : { تَرْكَنُ } من ركون الإنسان إلى شيء يعتصم به ويحتمي ، والناس يبنون الحوائط ليحموا بها ممتلكاتهم ، وإذا احتمى الإنسان بجدار فأسند ظهره إليه مَثلاً فقد حَمَى ظهره فقط ، وأمن أنْ يأتيه أحد من ورائه ، فإنْ أراد أنْ يحميَ جميع جهاته الأربع ، فعليه أن يلجأ إلى رُكْن وأنْ يسند ظهره إلى الركن فيأمن من أمامه ، ويحتمي بجدار عن يمينه وجدار عن شماله . إذن : الركون أن تذهب إلى حِرْز يمنعك من جميع جهاتك .
ومن الركون قوله تعالى عن لوط عليه السلام مع قومه : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 80 ] أي : أحتمي به وألجأ إليه .
والحق سبحانه في هذه الآيات يريد أنْ يستلَّ السخيمةَ على محمد صلى الله عليه وسلم من قلوب أعدائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هدايتهم وتأليف قلوبهم ، وقد كان يشقُّ على نفسه ويُحمّلها ما لا يطيق في سبيل هذه الغاية ، ومن ذلك ما حدث من تَرْكه عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءه سائلاً ، وانصرافه عنه إلى صناديد قريش؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لأنه شقَّ على نفسه .
وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يقول : يا قوم إنْ لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون منه الانصراف عَمَّا أُنزِل إليه من ربه ، فاعذروه؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني ، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه ، كما لو كان عندك خادم مثلاً ارتكب خطأ ما ، فأردت أنْ تتحمل عنه المسئولية ، فقلت : أنا الذي كلفتُه بهذا وأمرتُه به ، فالأمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات . . . } .
(1/5277)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{ إِذاً } أي : لو كِدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات ، وبهذا التهديد يرفع الحق سبحانه سخيمة الكُرْه من صدور القوم لمحمد ، وينقلها له سبحانه وتعالى .
ومعنى { ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات . . } [ الإسراء : 75 ] الضعْف : مضاعفة الشيء مرة أخرى . أي : قَدْر الشيء مرتين ، ولا يُذاق في الحياة إلا العذاب ، فالمراد : لأذقناك ضِعْف عذاب الحياة وضِعْف عذاب الممات ، لكن لماذا يُضَاعَف العذاب في حَقِّ محمد صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا : لأنه أُسْوة كبيرة وقُدْوة يقتدي الناس بها ، ويستحيل في حقِّه هذا الفعل ، ولا يتصور منه صلى الله عليه وسلم ، لكن على اعتبار أن ذلك حدث منه فسوف يُضاعَف له العذاب ، كما قال تعالى في نساء النبي : { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } [ الأحزاب : 30 ]
ذلك لأنهن بيت النبوة وأمهات المؤمنين ، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين ، وكلما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة؛ لأنه سيكون أُسْوة فعل ، فإنْ ضَلَّ فلن يضل في ذاته فقط ، بل سيضل معه غيره ، ومن هنا شدَّد الله العقوبة وضاعفها للنبي ولزوجاته .
وقد اختار الحق سبحانه لفظ { لأذَقْنَاكَ } ؛ لأن الإذاقة من الذَّوْق ، وهو أعمّ الملكَات شُيوعاً في النفس ، فأنت ترى بعينك وتسمع بأذنك وتشمُّ بأنفك ، لكن المذاق تشترك فيه كل الملكات .
ثم يقول تعالى : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [ الإسراء : 75 ]
أي : لا تجد مدافعاً يدافع عنك؛ أو ناصراً ينصرك؛ لأن مددَك مني وحدي ، فكيف يكون لك ناصر من دوني؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } .
(1/5278)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
وهنا أيضاً قوله تعالى { كَادُواْ } أي : قاربوا ، فهم لا يجرؤون على الفعل ، ولا يستطيعون ، فالأمر مجرد القُرْب من الفعل ، فإنهم سيحاولون إخراجك ، لكنك لن تخرج إلا بأمري وتقديري .
وقوله تعالى : { لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض . . } [ الإسراء : 76 ] من استفزَّه أي : طلب منه النهوض والخِفّة إلى الفِعْل ، كما تقول لولدك المتثاقل : ( فِز ) أي : قُمْ وانهض ، والمراد : يستحثونك على الخروج { مِنَ الأرض } من مكة بإيذائهم لك ، وعَنَتهم معك ليحملوك على الخروج ، ويُكرِّهوك في الإقامة بها .
وكفار مكة يعلمون أن في خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة راحة لهم ، وحتى لا يكون أُسْوة لعبيدهم ولضعاف القوم الذين أحبوه ، ومالوا لاعتناق دينه والإيمان به .
ثم يقول تعالى : { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 76 ]
أي : لو أخرجوك من مكة فلن يلبثوا فيها بعدك إلا قليلاً ، وقد حدث فعلاً ، فبعد خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعام جاءت بدر ، فقُتِل سبعون من صناديد قريش ، وأُسِرَ سبعون ، وبعد أن خرج الرسول من مكة لم يتمتعوا فيها بالنعيم ولا بالسيادة التي كانوا يَرجُونها بعد خروجه .
ثم يقول الحق سبحانه : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا . . } .
(1/5279)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى أن ما حدث هو سُنة من سُنن الله في الرسل ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ]
فكأن عليهم أنْ يأخذوا عِبْرة من الرسل السابقين ، وبما حلَّ بأعدائهم من عذاب الله ، لقد أرسل الله الرسل فكُذِّبوا وعُودوا واضطهِدُوا ، ومع ذلك نصرهم الله ، وجعل لهم الغَلبة .
والسُّنة : هي العادة والطريقة التي لا تتخلَّف ولا تتبدَّل؛ لذلك يقول بعدها : { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } [ الإسراء : 77 ] ؛ لأن السُّنة لا تتحوّل ولا تتبدّل إلا بالأقوى الذي يأتي ليُغير السنة بأخرى من عنده ، فإذا كانت السُّنة من الله القوي بل الأقوى ، فهو سبحانه وحده الذي يملك هذا التحويل ، ولا يستطيع أحد أبداً تحويل سنة الله ، فإذا قال سبحانه ، فقوله الحق الذي لا يُبدِّله أحد ، ولا يُعارضه أحد .
وبعد أن تكلَّم الحق سبحانه عن الإلهيات إيماناً بها ، وعن النبوات تصديقاً لها ، وعن القيامة ووجوب الإيمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب ، أراد سبحانه أنْ يأتي لنا بثمرة هذا المنهج وحصيلته النهائية ، وهي أنْ يستقيمَ لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها .
هذا المنهج الإلهي جاء في صورة أحكام ، ولهذه الأحكام أركان أساسية جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " بُنِيَ الإسلامُ على خَمْس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً " .
إذن : هذه الأركان التي بُنِي عليها الإسلام ، لكن ما حظ المسلم من هذه الأركان؟ لو تأملت لوجدتنَا نشترك كلنا في شهادة أنْ لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وفي الصلاة لأنها لا تسقط عن أحد لأيّ سبب ، وهي المكرَّرة في اليوم خمس مرات .
أما باقي الأركان وهي : الزكاة ، والصوم ، والحج فقد لا تنطبق شروطها على الجميع ، فالفقير لا تُفرض عليه زكاة أو حج ، والمريض لا يُفرض عليه الصوم . إذن : عندنا أركان للإسلام وأركان للمسلم التي هي : الشهادتان والصلاة ، وقد يدخل فيها الزكاة أو الصوم أو الحج ، فإذا أتى المسلم بجميع الأركان فقد اتفقتْ أركان الإسلام مع أركان المسلم .
وتلاحظ في هذه الأركان أن الشهادتين يكفي أن تقولهما وتشهد بهما ولو مرة واحدة ، والزكاة والصوم والحج قد لا تنطبق عليك شروطها ، فلم يَبْقَ إلا الصلاة؛ لذلك جعلها عماد الدين .
ثم قال تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل . . . } .
(1/5280)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
فالصلاة هي الفريضة الثابتة المتكررة التي لا تسقط عن المسلم بأي حال ، وفيها إعلانُ ولاء للإيمان بالله كل يوم خمس مرات ، وهي أيضاً تنتظم كل أركان الإسلام؛ لأنك في الصلاة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فبدل أنْ كنتَ تقولها مرة واحدة هاأنت تقولها عدة مرات في كل صلاة ، وهذا هو الركن الأول .
كما أنها تشتمل على الصوم؛ لأنك تصوم في أثناء الصلاة فتمتنع عن شهوتَيْ البطن والفرج ، وكذلك عن أيِّ فعل غير أفعال الصلاة ، وعن الكلام في غير ألفاظ الصلاة . إذن : في الصلاة صيام بالمعنى الأوسع للصوم .
وفي الصلاة زكاة؛ لأن المال الذي تكتسبه وتُزكِّيه ناتج عن الحركة ، والحركة فرع الوقت ، وفي الصلاة تُضحّي بالوقت نفسه ، فكأن الزكاة في الصلاة أبلغ .
وكذلك في الصلاة حج؛ لأنك تتوجّه فيها إلى كعبة الله ، وتستحضرها في ذِهْنك وأمام ناظريْكَ .
لذلك استحقت الصلاة أن تكون عماد الدين ، ومَنْ أقامها فقد أقام الدين ، ومَنْ هدمها فقد هدم الدين ، ومن هنا جاءت الصلاة في أول هذه الأحكام ، فقال تعالى : { أَقِمِ الصلاة . . } [ الإسراء : 78 ] أي : أدِّها أداءً كاملاً في أوقاتها .
والصلاة لها مَيْزة عن كل أركان الإسلام؛ لأن كل تكليفات الإسلام جاءت بواسطة الوحي لرسول الله إلا الصلاة ، فقد فُرِضَتْ بالمباشرة مما يدلُّ على أهميتها ، وقد مثَّلنَا لذلك ولله المثل الأعلى بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونياً ليأمره بشيء ، فإذا كان هذا الشيء من الأهمية بمكان استدعاه إليه وأفهمه ما يريد .
وهكذا كانت الصلاة ، فقد فُرِضَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالمباشرة لما لها من أهمية بين فراض الدين ، ثم تولى جبريل عليه السلام تعليم رسول الله الصلاة ، وعَلَّمها رسول الله للناس ، وقال : " صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي " .
وقوله تعالى : { لِدُلُوكِ الشمس . . } [ الإسراء : 78 ]
الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا مواقيت الصلاة . و ( الدلوك ) معناه : الزوال من حركة إلى حركة ، ومنها قولنا : فلان ( المدلكاتي ) أي : الذي يتولّى عملية التدليك ، وتتحرك يده من مكان لمكان .
والمراد بدلوك الشمس : مَيْلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب ، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السماء ، فيراها على شكل قوس ممتدّ وعلى حَسْب نظره وقوته يرى الأفق ، فإنْ كان نظره قوياً رأى الأُفُقْ واسعاً ، وإنْ كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيّقاً؛ لذلك يقولون لقيل التفكير : ضيِّق الأفق .
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة ، وأنت مركزها ، وساعةَ أنْ ترى الشمس عمودية عليك ، فهذا وقت الزوال ، فإذا ما انحرفتْ الشمس ناحية المغرب يُقَال : دلكت الشمس . أي : مالت ناحية المغرب ، وهذا هو وقت الظهر .
(1/5281)
والمتأمل في فَرْض الصلاة على رسول الله يجد أن الظُّهْر هو أول وقت صَلاَّه رسول الله؛ لأن الصلاة فُرِضَتْ عليه في السماء في رحلة المعراج ، وكانت بليل ، فلما عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظهر ، فكانت هي الصلاة الأولى .
ثم يقول تعالى : { إلى غَسَقِ اليل . . } [ الإسراء : 78 ] أي : أقِم الصلاة عند دُلوك الشمس إلى متى؟ إلى غَسَق الليل أي : ظلمته ، وفي الفترة من دُلوك الشمس إلى ظُلمة الليل تقع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ولا يبقى إلى صلاة الصبح ، فقال عنها سبحانه وتعالى : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] ونتساءل هنا : لماذا ذكر قرآن الفجر ولم يَقُلْ صلاة؟
قالوا : لأن القرآن في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النفوس ، فتتلقى القرآن نديّاً طريّاً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ]
أي : تشهده الملائكة . إذن : المشهودية لها دَخْل في العبادة ، فإذا كانت مشهودية مَنْ لا تكليف عليه في الصلاة جعلها الله حيثية ، فكيف بمشهودية مَنْ كُلِّف بالصلاة؟
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلاة الجماعة استطراقاً للعبودية ، ففي صلاة الجماعة يستوي كل الخَلْق حيث يخلعون وجاهتهم ، ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد ، كما يخلعون أحذيتهم ، فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير .
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُوطِّن الإنسان لنفسه مكاناً في المسجد ، يجلس فيه باستمرار؛ لأن الأصل أنْ يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس ، فيجلس الناس بأولوية الحضور كل حَسْب مكانه ومبادرته للصلاة ، فلا يتخطى الرقاب ، ولا يُفرق بين اثنين .
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الصفِّ الأول مثلاً ، ويضع سجادته ليحجزَ بها مكاناً ، ثم ينصرف لحَاجته ، فإذا ما تأخر عن الصلاة أتى ليتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكانه ، فإذا بالناس يضيِقون من هذا التصرُّف ، ويُنحُّون سجادته جانباً ويجلسون مكانها ، إنه تصرُّف لا يليق ببيوت الله التي تُسوِّي بين خَلْق الله جميعاً ، وتحقق استطراق العبودية لله ، فأنت اليوم بجوار فلان ، وغداً بجوار آخر ، الجميع خاضع لله راكع وساجد ، فليس لأحد أن يتعالى على أحد .
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحاً في مناسك الحج ، حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه عند الملتزم خاضعاً ذليلاً باكياً متضرعاً ، وهو مَنْ هو في دُنْيا الناس .
إذن : فوقت الفجر وقت مبارك مشهود ، تشهده ملائكة الليل ، وهم غير مُكلَّفين بالصلاة ، فالأفضل من مَشْهدية الملائكة مَشْهدية المصلِّين الذين كلَّفهم الله بالصلاة ، وجعلهم ينتفعون بها .
ومن هنا كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ، كما جاء في الحديث النبوي الشريف .
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت ، وبآية كونية تدلُّ عليه هي الشمس ، فكيف العمل إذا غابت ، أو حُجِبَتْ عنَّا بغيْم أو نحوه؟
إذن : على الإنسان المؤمن أن يجتهد ويُعمِلَ تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته ، وفعلاً تفتقتْ القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن ، والتي تُيسِّر كثيراً على الناس؛ لذلك كانت الطموحات الإنسانية لأشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين ، على اعتبار أن مَا لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ . . . } .
(1/5282)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
الهجود : هو النوم ، وتهجَّد : أي أزاح النوم والهجود عن نفسه ، وهذه خصوصية لرسول الله وزيادة على ما فرض على أمته ، أنْ يتهجَّد لله في الليل ، كما قال له ربه تعالى : { ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } [ المزمل : 1-4 ]
فهذه الخصوصية لرسول الله وإنْ كانت فَرْضاً عليه ، إلا أنها ليست في قالب من حديد ، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرية في هذه العبادة ، المهم أن يقول لله تعالى جزءاً من الليل ، لكن ما عِلَّة هذه الزيادة في حَقِّ رسول الله؟ العلة في قوله تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ]
وكأن التهجُّد ليلاً ، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه ، ألاَ وهي مسئولية حَمْل المنهج وتبليغه للناس .
وفي الحديث الشريف " أن رسول الله كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة " ، ومعنى حَزَبه أَمْر : أي : ضاقت أسبابه عنه ، ولم يَعُد له فيه منفذ ، فإنْ ضاقت عليه الأسباب فليس أمامه إلا المسبِّب سبحانه يلجأ إليه ويُهْرع إلى نجدته { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المزمل : 6 ]
لأنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة ، تقوم بين يدي ربك مناجياً مُتضرِّعاً ، فتتنزل عليك من الرحمات والفيوضات ، فَمَنْ قام من الناس في هذا الوقت واقتدى بك فَلَهُ نصيب من هذه الرحمات ، وحَظٌّ من هذه الفيوضات . ومَنْ تثاقلتْ رأسه عن القيام فلا حَظَّ له .
إذن : في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية ، ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخَلْق كان حظّه من قيام الليل أزيد من حظهم ، فأعباء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة ، والعِبْءُ الثقيل يحتاج الاتصال بالحق الأحد القيوم ، حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه .
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السُّنة ، ويتغافلون عنها ، فإذا حزبهم أمر لا يُهْرَعون إلى الصلاة ، بل يتعللون ، يقول أحدهم : أنا مشغول . وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه الفريضة؟ ومَنْ يدريك لعلك بالصلاة تُفتح لك الأبواب ، وتقضى في ساعة ما لا تقضيه في عدة أيام .
ونقول لهؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة وتشغلهم الدنيا عنها ، فإنْ صَلُّوا صَلُّوا قضاءً ، فإن سألتَهم قالوا : المشاغل كثيرة والوقت لا يكفي ، فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته ، هل سيجد وقتاً لهذا؟ إنه لا شكَّ واجدٌ الوقت لمثل هذا الأمر ، حتى وإنْ تكالبتْ عليه مشاغل الدنيا ، فلماذا الصلاة هي التي لا تجد لها وقتاً؟!
وقوله تعالى : { نَافِلَةً لَّكَ .
(1/5283)
. } [ الإسراء : 79 ]
النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع ( لك ) أي : خاصة بك دون غيرك ، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله عنه : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15-16 ]
والمحسن هو الذي دخل مقام الإحسان ، بأن يزيد على ما فرضه الله عليه ، ومن جنس ما فرض؛ لذلك جاءت حيثية الإحسان : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17-18 ]
وهذا المقام ليس فرضاً عليك ، فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلاة الفجر ، لكن إنْ أردت أن تتأسَّى برسول الله وتتشبّه به فادخُلْ في مقام الإحسان على قَدْر استطاعتك .
ثم يقول تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ]
تحدثتْ الآية في أولها عن التكليف ، وهذا هو الجزاء ، و { عسى } تدل على رجاء حدوث الفعل ، وفَرْق بين التمني والرجاء ، التمني : أن تعلن أنك تحب شيئاً لكنه غير ممكن الحدوث أو مستحيل ، ومن ذلك قول الشاعر :
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو ليِ فَأنْظِمُهَا ... فالشاعر يتمنى لو أصبحت الكواكب بين يديه فينظمها قصائد مدح فيمن يمدحه ، وهذا أمر مستحيل الحدوث .
وقوله :
أَلاَ لَيْتَ الشَّباب يعُودُ يَوْماً ... فَأُخبرُه بِمَا فَعَلَ المشيِبُ
أما الرجاء فهو طلب فعل ممكن الحدوث .
ويقع تحت الطلب أشياء متعددة؛ فإنْ طلب المتكلم من المخاطب شيئاً غير ممكن الحدوث فهو تمنٍّ ، وإن طلب شيئاً ممكن الحدوث فهو ترجٍّ ، وإنْ طلب صورة الشيء لا حقيقته فهو استفهام كما تقول : أين زيد؟ وفَرْقٌ بين طلب الحقيقة وطلب الصورة .
فإنْ طلبتَ حقيقة الشيء ، فأمامك حالتان : إما أنْ تطلب الحقيقة على أنها تُفعل فهذا أمر ، مثل : قُمْ : فإنْ طلبتها على أنها لا تفعل فهذا نهي : لا تَقُمْ .
إذن : { عسى } تدل على الرجاء ، وهو يختلف باختلاف المرجو منه ، فإنْ رجوت من فلان فقد يعطيك أو يخذلك ، فإنْ قُلْتَ : عسى أنْ أعطيك فقد قربت الرجاء؛ لأنني أرجو من نفسي ، لكن الإنسان بطبعه صاحب أغيار ، ويمكن أن تطرأ عليه ظروف فلا يَفِي بما وعد .
فإنْ قُلْت : عسى الله أن يعطيك ، فهو أقوى الرجاء؛ لأنك رجوتَ مَنْ لا يُعجِزه شيء ، ولا يتعاظمه شيء ، ولا تتناوله الأغيار إذن : فالرجاء فيه مُحقَّق لاَ شَكَّ فيه .
والمقام المحمود ، كلمة محمود : أي الذي يقع عليه الحمد ، والحمد هنا مشاع فلم يَقُلْ : محمود مِمَّنْ؟ فهو محمود مِمَّنْ يمكن أن يتأتّى منه الحمد ، محمود من الكل من لَدُنْ آدم ، وحتى قيام الساعة .
والمراد بالمقام المحمود : هو مقام الشفاعة ، حينما يقف الخَلْق في ساحة الحساب وهَوْل الموقف وشِدّته ، حتى ليتمنى الناس الانصراف ولو أن النار ، ساعتها تستشفع كُلُّ أمة بنبيها ، فيردّها إلى أنْ يذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيد الأنبياء ، فيقول : أنا لها ، أنا لها .
لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء : " وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته " ولا شَكَّ أنه دعاء لصالحنا نحن .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ . . . } .
(1/5284)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
قوله تعالى : { مُدْخَلَ صِدْقٍ . . } [ الإسراء : 80 ] أي : من حيث النظرة العامة؛ لأنك قبل أنْ تدخلَ اطلب الخروج أولاً؛ لأنك لن تدخلَ إلا بعد أنْ تخرجَ . وإنْ كان الترتيب الطبيعي أن تقول : أخرجني مُخْرَج صدق ، وأدخلني مُدْخَل صدق .
نقول : لا ، لأن الدخول هو غاية الخروج ، ولأن الخروج متروك والدخول مستقبل لك ، إذن : الدخول هو الأهمّ فبدأ به . لذلك يقولون : إياك أنْ تخرجَ من أمر إلا إذا عرفتَ كيف تدخل .
ومعنى مخرجَ الصدق ، ومدخل الصدق ، أنك لا تدخل أو تخرج بدون هدف ، فإنْ خرجتَ من مكان فليكُن مخرجك مخرج صدق ، يعني : مطابقاً لواقع مهمتك ، وإنْ دخلتَ مكاناً فليكُنْ دخولك مدخل صدق . أي : لهدف محدد تريد تحقيقه . فإن دخلتَ محلاً مثلاً فادخل لهدف ، كشراء سلعة مثلاً ، فهذا دخول صِدْق ، أما لو دخلتَ دون هدف أو لتؤدي خَلْق الله ، فليس في هذا دخول صدق .
إذن : يكون دخولك لله وخروجك لله ، وهكذا خرج رسول الله من مكة ودخل المدينة ، فكان خروجه لله ودخوله لله ، فخرج مُخْرجَ صِدْق ، ودخل مُدخَل صدق ، لأنه صلى الله عليه وسلم ما خرج من مكة إلا لما آذاه قومه واضطهدوه وحاربوا دعوته حتى لم تعُدْ التربة في مكة صالحة لنمو الدعوة ، وما دخل المدينة إلا لما رأى النُّصْرة والمؤازرة من أهلها .
فالصدق أنْ يطابق الواقع والسلوك ما في نفسك ، فلا يكُنْ لك قصور في نفسك ، ولك حركة مخالفة لهذا القصد .
ثم يقول تعالى : { واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } [ الإسراء : 80 ]
طلب النُّصْرة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أرسله بمنهج الحق ، وسوف يصطدم هذا الحق بأهل الباطل والفساد الذين يحرصون على الباطل ، وينتفعون بالفساد ، وهؤلاء سوف يُعَادُون الدعوة ، ويُجابِهونها؛ لذلك توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه تعالى الذي أرسله واستعان به على مواجهة أعدائه .
وقوله تعالى : { سُلْطَاناً نَّصِيراً } [ الإسراء : 80 ] السلطان : سبق أنْ أوضحنا أنه يُراد به إما حجة تُقنع ، وإما سيف يَرْدَع ، وهذا واضح في قَوْل الحق تبارك وتعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] أي : بالآيات الواضحات ، وهذه أدوات الحجة والإقناع .
ثم يقول تعالى : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] وهذه أدوات القوة والردع .
فالخيِّر من الناس يرتدع بقول الله وبقول الرسول ويستجيب ، أما الشرير فلا تُجدي معه الحجة ، بل لا بُدّ من رَدْعه بالقوة ، فالأول إنْ تعرّض للحلف بالله حلف صادقاً ، أما الآخر فإنْ تعرّض للحلف حلف كاذباً ، ووجدها فُرْصة للنجاة ، ولسان حاله يقول : أتاك الفرج .
وفي الأثر : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل . . . } .
(1/5285)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
هكذا أطلقها الحق سبحانه شعاراً مُدوّياً { جَاءَ الحَقُّ . . } وما دام قال للرسول : { قُلْ } فلا بُدَّ أن الحق قادم لا شَكَّ فيه؛ لذلك أمره بهذه الأمر الصريح ولم يُوسْوسُه له ، وبعد ذلك يقولها رسول الله في عام الفتح ، وعندما دخل مكة فاتحاً وحوْلَ البيت ثلاثمائة وستون صنماً فيُكبكِبُهم جميعاً ، وينادي : " جاء الحق وزهق الباطل ، جاء الحق وزهق الباطل ، وما يبدئ الباطل وما يعيد " .
أي : جاء الحق واندحر الباطل ، ولم يَعُدْ لديْه القوة التي يُبدِئ بها و يُعيد ، فقد خَمدتْ قواه ولم يَبْقَ له صَوْلَة ولا كلمة .
وقوله تعالى : { جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل . . } [ الإسراء : 81 ] يشعرنا بأن الحق أتي بنفسه؛ لأنه نسب المجيء إلى الحق كأنه أمر ذاتيّ فيه ، فلم يأْتِ به أحد ، وكذلك في : { وَزَهَقَ الباطل . . } [ الإسراء : 81 ] فالباطل بطبيعته زاهق مُندحر ضعيف لا بقاءَ له . " ومن العجيب أن الحق الذي جاء على يد رسول الله في فتح مكة انتفع به حتى مَنْ لم يؤمن ، ففي يوم الفتح تتجلى صورة من صور العظمة في دين الإسلام ، حين يجمع رسول الله أهل مكة الذين عاندوا وتكبَّروا وأخرجوا رسول الله من أحب البلاد إليه ، وها هو اليوم يدخلها منتصراً ويُوقِفهم أمامه ويقول : " ما تظنون أني فاعل بكم؟ " قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " " .
إذن : جاء الحق ليس لاستعباد الناس ، ولكن لراحتهم ورَفْع رؤوسهم . ومن الحق الذي أظل مكة بالفتح ما يُرْوَى أن واحداً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وأراد إيذاءه ، وحينما وضع يده على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبدَّل حاله وقال : فوالله لقد أقبلت عليه ، وما في الأرض أبغض إليَّ منه ، فحين وضعت يدي عنده فوالله ما في الأرض أحب إليَّ منه ، وهكذا جاء الحق وزهق الباطل .
وقوله تعالى : { إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء : 81 ]
زَهُوق صيغة مبالغة ، فالباطل نفسه سريعاً ما يذهب ويندثر ، ومن العَجَب أن ترى الباطل نفسه من جنود الله؛ لأن الباطل لو لم يُؤلم الناس ويُزعجهم ما تشوَّقوا للحق وما مالوا إليه ، فإذا ما لدغهم الباطل واكتَووْا بناره عرفوا الحق .
وقد ضرب لنا الحق سبحانه وتعالى مثلاً للحق وللباطل ، فقال : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } [ الرعد : 17 ]
الحق سبحانه يُمثِّل للحق وللباطل بشيء حِسّيٍّ نراه حينما ينهمر المطر على قمم الجبال ، فيسيل الماء على الأودية بين الجبال حاملاً معه صغار الحصى والرمال والقشِّ ، وهذا هو الزَّبَد الذي يطفو على صفحة الماء ولا ينتفع الناس به ، وهذا الماء مثالٌ للحق الذي ينفع الناس ، والزَّبَد مثال للباطل الذي لا خَيْر فيه .
أو : يعطينا المثال في صورة أخرى : صورة الحداد أو الصائغ الذي يُوقِد النار على الذهب ليخرج منه ما علق به من شوائب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . . } .
(1/5286)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
الآية تُعطينا نموذجين لتلقِّي القرآن : إنْ تلقَّاه المؤمن كان له شفاء ورحمة ، وإنْ تلقّاه الظالم كان عليه خَسَار ، والقرآن حَدَّدَ الظالمين لِيُبَيِّن أن ظلمهم هو سبب عدم انتفاعهم بالقرآن؛ لأن القرآن خير في ذاته وليس خساراً .
وقد سبق أن أوضحنا أن الفعل قد يكون واحداً ، لكن يختلف القابل للفعل ، ويختلف الأثر من شخص لآخر ، كما أن الماء الزلال يشربه الصحيح ، فيجد له لذة وحلاوة ويشربه العليل فيجده مُرَّاً مائعاً ، فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف . كذلك أكل الدَّسم ، فإنْ أكله الصحيح نفعه ، وزاد في قوته ونشاطه ، وإنْ أكله السقيم زاده سُقْماً وجَرَّ عليه علة فوق عِلّته .
وقد سبق أن أوضحنا في قصة إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه أنه لما تلقى القرآن بروح الكفر والعناد كَرهه ونَفَر منه ، ولما تلقاه بروح العطف والرِّقّة واللين على أخته التي شجَّ وجهها أعجبه فآمن .
إذن : سلامة الطبع أو فساده لها أثر في تلقِّي القرآن والانفعال به . وما أشبه هذه المسألة بمسألة التفاؤل والتشاؤم ، فلو عندك كوب ماءٍ قد مُلِئ نصفه ، فالمتفائل يُلفِت نظره النصف المملوء ، في حين أن المتشائم يُلفِت نظره النصف الفارع ، فالأول يقول : نصف الكوب ممتلئ . والآخر يقول : نصف الكوب فارع ، وكلاهما صادق لكن طبعهما مختلف .
وقد عالج القرآن مسألة التلقِّي هذه في قوله تعالى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124-125 ]
فالآية واحدة ، لكن الطبع المستقل مختلف ، فالمؤمن يستقبلها بمَلكاتٍ سليمة ، فيزداد بها إيماناً ، والكافر يستقبلها بملكَات فاسدة فيزدادَ بها كفراً ، إذن : المشكلة في تلقّي الحقائق واستقبالها أن تكون ملكاتُ التلقي فاسدة .
ومن هنا نقول : إذا نظرتَ إلى الحق ، فإياك أنْ تنظره وفي جوفك باطل تحرص عليه ، لا بُدَّ أن تُخرِج ما عندك من الباطل أولاً ، ثم قارن وفاضل بين الأمور .
وكذلك جاءت هذه المسألة في قول الله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ * والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 16-17 ]
وقولهم : { مَاذَا قَالَ آنِفاً . . } [ محمد : 16 ] دليل على عدم اهتمامهم بالقرآن ، وأنه شيء لا يُؤْبَهُ له .
وكذلك في قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى . . } [ فصلت : 44 ]
ومثالٌ لسلامة التلقّي من حياتنا المعاصرة إرسال التلفاز مثلاً ، فقد تستقبله أنت في بيتك فتجده واضحاً في حَلْقة من الحلقات أو برنامج من البرامج ، فتتمتع بما شاهدت ، ثم تقابل صديقاً فيشكو لك سوء الإرسال وعدم وضوح الصورة فيؤكد لك سلامة الإرسال ، إلا أن العيب في جهاز الاستقبال عندك ، فعليك أولاً أن تضبط جهاز الاستقبال عندك لتستقبل آيات الله الاستقبال الصحيح .
(1/5287)
إذن : قول الحق تبارك وتعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . } [ الإسراء : 82 ] متوقف على سلامة الطبع ، وسلامة الاستقبال ، والفهم عن الله تعالى .
والشفاء : أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه . والرحمة : أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرة أخرى ، فالرحمة وقاية ، والشفاء علاج .
لكن ، هل شفاءٌ القرآن شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النفوس ، فيُخلِّص المسلم من القلق والحَيْرة والغَيْرة ، ويجتثّ ما في نفسه من الغِلِّ والحقد ، والحسد ، إلى غير هذا من أمراض معنوية ، أم هو شفاء للماديات ، ولأمراض البدن أيضاً؟
والرأي الراجح بل المؤكد الذي لا شَكَّ فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه الكلمة ، فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات ، بدليل ما رُوِي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأنه خرج على رأس سرية وقد مَرُّوا بقوم ، وطلبوا منهم الطعام ، فأبَوْا إطعامهم ، وحدث أنْ لُدِغ كبير القوم ، واحتاجوا إلى مَنْ يداويه فطلبوا مَنْ يرقيه ، فقالوا : لا نرقيه إلا بجُعْلٍ ، وذلك لما رأوه من بُخْلهم وعدم إكرامهم لهم ، على حَدِّ قوله تعالى : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً . . } [ الكهف : 77 ]
ولما اتفقوا معهم على جُعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ ، فأكلوا من الطعام وتركوا الشياه إلى أنْ عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوه عن حِلِّ هذا الجُعْل فقال صلى الله عليه وسلم : " ومَنْ أدراك أنها رقية " أي : أنها رُقْية يرقى بها المريض فيبرأ بإذن الله ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " كلوا منها ، واجعلوا لي سهماً معكم " .
فشفاء أمراض البدن شيء موجود في السُّنة ، وليس عجيبة من العجائب؛ لأنك حين تقرأ كلام الله فاعلم أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه ، وهو رَبّ كل شيء ومليكه ، يتصرّف في كونه بما يشاء ، وبكلمة ( كُنْ ) يفعل ما يريد ، وليس ببعيد أنْ يُؤثّر كلام الله في المريض فيشفى .
ولما تناقش بعض المعترضين على هذه المسألة مع أحد العلماء ، قالوا له : كيف يُشْفَى المريض بكلمة؟ هذا غير معقول ، فقال العالم لصاحبه : اسكت أنت حمار!! فغضب الرجل ، وهَمَّ بترك المكان وقد ثارت ثورته ، فنظر إليه العالم وقال : انظر ماذا فعلتْ بك كلمة ، فما بالُكَ بكلمة ، المتكلّم بها الحق سبحانه وتعالى؟ ثم يقول تعالى : { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] لأنهم بظُلْمهم واستقبالهم فُيوضات السماء بملَكَات سقيمة ، وأجهزة متضاربة متعارضة ، فلم ينتفعوا بالقرآن ، ولم يستفيدوا برحمات الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً } .
(1/5288)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
الله تعالى يريد أن يعطي الإنسان صورة عن نفسه؛ لتكون عنده المناعة الكافية إذا ما أصابه المرض ، كما يعطي الطبيب جَرْعة الطُّعْم أو التحصين الذي يمنع حدوث مرض ما . فهاهي طبيعة الإنسان وسِمَتُه الغالية ، وعليه أنْ يُخفِّف من هذه الطبيعة ، والمراد أن الإنسان إذا أنعم الله عليه استغنى وأعرضَ .
ولكي نُوَضِّح هذه المسألة نُمثِّل لها ولله المثل الأعلى الوالد الذي يعطي للابن مصروفه كل شهر مثلاً ، فترى الولد لا يلتفت إلى أبيه إلا أول كل شهر ، حيث يأتي موعد ما تعوَّد عليه من مصروف ، وتراه طوال الشهر منصرفاً عن أبيه لا يكاد يتذكره ، أما إذا عوَّده على أنْ يُعطيه مصروفه كل يوم ، فترى الولد في الصباح يتعرَّض لأبيه ويُظهِر نفسه أمامه ليُذكِّره بالمعلوم . فالولد حين أعرض عن أبيه وانصرف عنه ، ما الذي دعاه إلى هذا التصرف؟
لأن الوالد أعطاه طاقة الاستغناء عنه طوال الشهر ، فإنْ كان الابن بارّاً مؤمناً فإنه لا ينسى فَضْل والده الذي وَفَّر له طاقة الاستغناء هذه ، فيُذكِر والده بالخير ، ويحمل له هذا الجميل .
فإنْ كان هذا هو الحال مع الرب الأدنى فهو كذلك مع الربِّ الأعلى سبحانه ، فيقول تعالى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ . . } [ الإسراء : 83 ]
أي : أعرض عنا وعن ذِكْرنا وانصرف عن منهجنا ، ومن الناس مَنْ يُعرِض عن ذكر الله ، ولكنه يؤدِّي منهجه ، ولو أدَّى المنهج ذكر صاحب المنهج ما نسى المنعم أبداً .
وإذا شُغِل الإنسان بالنعمة عن المنعم ، فكأنه يُخطّئ المنعم ، كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
فالاستغناء هنا ليس ذاتياً في الإنسان ، بل هو استغناء موهوب ، قد ينتهي في يوم من الأيام ويعود الإنسان من جديد يطلب النعمة من المنعِم سبحانه ، يقول تعالى : { إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى } [ العلق : 8 ]
ثم يتحدث الحق عن صفة أخرى في الإنسان : { وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً } [ الإسراء : 83 ] وهذه صفة مذمومة في الإنسان الذي إذا ما تعرّض لشرٍّ أو مسَّه ضُرٌّ يقنط من رحمة الله ، وكأن الحق سبحانه يخاطب عبده الذي يقنط : لا يليق بك أن تقنط إذا ضاقتْ بك الدنيا ، وأنت مؤمن لا تعيش مع الأسباب وحدها إنما مع المسبِّب سبحانه ، وما دُمْتَ في رحاب مُسبِّب الأسباب فلا تيأس ولا تقنط .
لذلك يقولون : " لا كَرْبَ وأنت ربٌّ " ، فيجوز لك القنوط إن لم يكُنْ لك رَبٌّ يتولاَّك ، أما والرب موجود فلا يليق بك ، كيف ومَنْ له أب لا يُلقي لهموم الدنيا بالاً ، ويستطيع أن يعتمد عليه في قضاء حاجاته ، فما بالك بمَنْ له رَبٌّ يرعاه ويتولاَّه ، ويستطيع أن يتوجه إليه ، ويدعوه في كل وقت؟
والحق سبحانه حينما يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يريد أنْ يُعطينا الأُسْوة به سبحانه وتعالى ، يريد أن يقول للإنسان : لا تحزن إن أدَّيْتَ للناس جميلاً فأنكروه ، أو معروفاً فجحدوه ، وكيف تحزن وهم يفعلون هذا معي ، وأنا ربُّ العالمين ، فكثيراً ما أُنعِم عليهم ، ويُسيئون إليَّ ، ويكفرون بي وبنعمتي .
(1/5289)
وسيدنا موسى عليه السلام حينما طلب من ربه تعالى أَلاَّ يقال فيه ما ليس فيه ، قال له ربه : كيف ، وأنا لم أفعل ذلك لنفسي؟! إنهم يفترون على الله ما ليس فيه ، ويكفرون به سبحانه وينكرون إيجاده ونعمه ، فَمنْ يغضب لقول الكافرين أو إيذائهم له بعد هذا؟
لكن ، لماذا ييأس الإنسان ويقنط؟ لأنه في حال النعمة أعرض عن الله ونأى بجانبه : أي ابتعد عن ربه ، لم يَعُدْ له مَنْ يدعوه ويلجأ إليه أن يُفرِّج عنه ضيق الدنيا .
إذن : لما أعرض في الأولى يَئِس في الثانية . والله تعالى يجيب مَنْ دعاه ولجأ إليه حال الضيق حتى إنْ كان كافراً ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 67 ]
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } .
(1/5290)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
أي : أن كل إنسان يعمل على طريقته ، وعلى طبيعته ، وعلى مقدار ما تكونت به من خلايا الإيمان ، أو من خلايا إيمان اختلطت بخلايا عصيان ، أو بما عنده من خلايا كفر ، فالناس مختلفون وليسوا على طبع واحد ، فلا تحاول إذن أن تجعل الناس على طبع واحد .
وما دام الأمر كذلك ، فليعمل كل واحد على شاكلته ، وحسب طبيعته ، فإنْ أساء إليك إنسان سيئ الطبع فلا تقابله بسوء مثله ، ولتعمل أنت على شاكلتك ، ولتقابله بطبع طيّب؛ لذلك يقولون : لا تُكافئ مَنْ عصى الله فيك بأكثر من أنْ تطيع الله فيه . وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع ، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف .
ثم يقول تعالى : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } [ الإسراء : 84 ] والربُّ : المتولّي للتربية ، والمتولّي للتربية لا شكّ يعلم خبايا المربَّى ، ويعلم أسراره ونواياه ، كما قال تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي . . . } .
(1/5291)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
والسؤال يَرِد في القرآن بمعان متعددة ، ووردتْ هذه الصيغة { وَيَسْأَلُونَكَ } في مواضع عِدّة ، فإنْ كان السؤال عن شيء نافع يضر الجهل به أجابهم القرآن ، كما في قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } [ البقرة : 222 ]
وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ]
فإنْ كان السؤال عن شيء لا يضر الجهل به ، لفت القرآن أنظارهم إلى ناحية أخرى نافعة ، كما في سؤالهم عن الأهِلّة : كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ويكبر إلى أن يصير بدراً ، ثم يأخذ في التناقص ليعود كما بدأ؟
فالحديث مع العرب الذين عاصروا نزول القرآن في هذه الأمور الكونية التي لم نعرفها إلا حديثاً أمر غير ضروري ، وفوق مستوى فهمهم ، ولا تتسع له عقولهم ، ولا يترتب عليه حكم ، ولا ينتج عن الجهل به ضرر ، ولو أخبرهم القرآن في إجابة هذا السؤال بحقيقة دوران القمر بين الأرض والشمس وما يترتب على هذه الدورة الكونية من ليل ونهار ، وهم أمة أمية غير مثقفة لاتهموا القرآن بالتخريف ، ولربما انصرفوا عن أصل الكتاب كله .
لكن يُحوِّلهم القرآن ، ويُلفت أنظارهم إلى ما يمكن الانتفاع به من الأهِلَّة : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج . . } [ البقرة : 189 ]
وقد يأتي السؤال ، ويُرَاد به اختبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك ما حدث من اتفاق كفار مكة واليهود حيث قالوا لهم : اسألوه عن الروح ، وهم يعلمون تماماً أن هذه مسألة لا يعلمها أحد ، لكنهم أرادوا الكيد لرسول الله ، فلعله يقول في الروح كلاماً يأخذونه عليه ويستخدمونه في صَرْف الناس عن دعوته .
ولا شَكَّ أنه سؤال خبيث؛ لأن الإنسان عامة يحب أن يظهر في مظهر العالم ، ولا يحب أن يعجز أمام محاوره فاستغلوا هذه العاطفة ، فالرسول لن يُصَغِّر نفسه أمام سائليه من أهل مكة ، وسوف يحاول الإجابة عن سؤالهم .
ولكن خَيَّب الله سَعْيهم ، فكانت الإجابة : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ]
فعندما سمع أهل الكتاب هذه الإجابة آمن كثيرون منهم؛ لأنها طابقت ما قالته كتبهم عن الروح ، وأنها من عند الله .
و { الروح } لها إطلاقات مُتعدِّدة ، منها : الرُّوح التي تمدُّ الجسم بالحياة إن اتصلت به ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ]
فإذا ما فارقتْ هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة ، وتحوَّل إلى جثة هامدة ، وفيها يقول تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ]
وقد تأتي الروح لتدل على أمين الوحي جبريل عليه السلام ، كما في قوله تعالى :
(1/5292)
{ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ]
وقد تُطلَق الروح على الوحي ذاته ، كما في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ]
وتأتي بمعنى التثبيت والقوة ، كما في قوله تعالى : { أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ]
وأُطلِقَتْ الروح على عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله تعالى : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ]
إذن : لهذه الكلمة إطلاقات مُتعدِّدة ، فما العلاقة بينها؟
قالوا : الروح التي بها حركة الحياة إذا وُجِدَتْ في الإنسان تعطي مادية الحياة ، ومادية الحياة شيء ، وقيَمُ الحياة شيء آخر ، فإذا ما جاءك شيء يعدل لك قيم الحياة فهل تُسمِّيه روحاً؟ لا ، بل هو روح الروح؛ لأن الروح الأُولى قصاراها الدنيا ، لكن روح المنهج النازل من السماء فخالدة في الآخرة ، فأيُّهما حياته أطول؟
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا : إياك أنْ تظنَّ أن الحياة هي حياتك أنت وكونك تُحِسُّ وتتحرك وتعيش طالما فيك روح ، لا بل هناك روح أخرى أعظم في دار أخرى أَبْقى وأَدْوم : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ]
لأن الروح التي تعيش بها في الدنيا عُرْضة لأنْ تُؤخَذ منك ، وتُسلَب في أيّ مرحلة من مراحل حياتك منذ وجودك جنيناً في بطن أمك ، إلى أنْ تصير شيخاً طاعناً في السنِّ . . أما روح الآخرة ، وهي روح القيم وروح المنهج ، فهي الروح الأَقْوى والأَبْقى؛ لأنها لا يعتريها الموت .
إذن : سُمّي القرآن ، وسُمّي المَلك النازل به روحاً؛ لأنه سيعطي حياة أطول هي حياة القيم في الآخرة .
وهنا يقول تعالى : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي . . } [ الإسراء : 85 ]
أي : أن هذا من خصوصياته هو سبحانه ، وطالما هي من خصوصياته هو سبحانه ، فلن يطلع أحداً على سِرِّها . وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت ، أم هي مراد ( بكُنْ ) من الخالق سبحانه ، فإنْ قال لها كُنْ تحيا ، وإنْ قال مِتْ تموت؟
إنّ علم الإنسان سيظل قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة ، وسيظل بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال تعالى بعدها : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ]
وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح؟!
ولما تعرَّض أحد رجال الصوفية للنقد ، واعترض عليه أحد الأشخاص فقال له الصوفي : وهل أَحَطْتَ عِلْماً بكل شيء في الكون؟ قال الرجل : لا ، قال : فأنا من الذي لا تعلم .
والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الأشياء لا يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها؛ لأن أذهاننا قد لا تتسع لفهمها ، وإنما يعطينا بالفائدة منها . فحين حدثنا عن الأهِلّة قال : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج . . } [ البقرة : 189 ]
وهذه هي الفائدة التي تعود علينا والتي تهمنا من الأَهِلّة ، أما حركتها ومنازلها والمراحل التي تمر بها الأَهِلّة فأمور لا يضر الجهل بها؛ ذلك لأن الاستفادة بالشيء ليستْ فرعاً لفهم حقيقته ، فالرجل الأُميّ في ريفنا يقتني الآن التلفاز وربما الفيديو ، ويستطيع استعمالهما وتحويل قنواتهما وضبطهما ، ومع ذلك فهو لا يعرف كيف تعمل هذه الأجهزة؟ وكيف تستقبل؟
إذن : الاستفادة بالشيء لا تحتاج معرفة كل شيء عنها ، فيكفيك إذن أنْ تستفيد بها دون أن تُدخِل نفسك في متاهات البحث عن حقيقتها .
(1/5293)
والحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . } [ الإسراء : 36 ] لأن الخالق سبحانه يريد للإنسان أن يُوفّر طاقاته الفكرية ليستخدمها فيما يُجدي ، وأَلاَّ يُتعِب نفسه ويُجهدها في علم لا ينفع ، وجهل لا يضر .
فعلى المسلم بدل أن يشغل تفكيره في مثل مسألة الروح هذه ، أنْ ينشغل بعمل ذي فائدة له ولمجتمعه . وأيّ فائدة تعود عليك إنْ توصلت إلى سِرٍّ من أسرار الروح؟ وأيّ ضرر سيقع عليك إذا لم تعرف عنها شيئاً؟
إذن : مناط الأشياء أن تفهم لماذا وجدت لك ، وما فائدتها التي تعود عليك .
والحق سبحانه حينما قال : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] كان يخاطب بها المعاصرين لرسول الله منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام ، ومازال يخاطبنا ويخاطب مَنْ بعدنا ، وإلى أن تقوم الساعة بهذه الآية مع ما توصلتْ إليه البشرية من علم وكأنه سبحانه يقول : يا ابن آدم ، الزم غرزك ، فإن وقفت على سِرٍّ فقد غابتْ عنك أسرار .
وقد أوضح الحق سبحانه لنا هذه المسألة في قوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ]
وهاهم العلماء والباحثون يقفون كل يوم على جديد في الكون الفسيح وفي الإنسان ، ولو تابعتَ ما توصّل إليه علماء الفضاء ورجال الطب لَهالكَ ما توصَّلوا إليه من آيات وعجائب في خَلْق الله تعالى ، لكن هل معنى ذلك أننا عرفنا كل شيء؟ إن كلمة { سَنُرِيهِمْ } ستظل تعمل إلى قيام الساعة .
والمتتبع لطموحات العقول وابتكاراتها يجد التطور يسير بخُطىً واسعة ، ففي الماضي كان التقدم يُقَاسُ بالقرون ، أما الآن ففي كل يوم يطلع علينا حديث وجديد ، ونرى الأجهزة تُصنع ولا تُستعمل؛ لأنها قبل أنْ تُبَاع يخرج عليها أحدث منها ، لكن كلها زخارف الحياة وكمالياتها ، كما قال تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت . . } [ يونس : 24 ]
فكلُّ مَا نراه من تقدُّم ليس من ضروريات الحياة ، فقد كُنَّا نعيش بخير قبل أن نعرف الكهرباء ، وكُنَّا نشرب في الفخار والآن في الكريستال ، فابتكارات الإنسان في الكماليات ، أما الضروريات فقد ضمنها الخالق سبحانه قبل أن يوجد الإنسان على هذه الأرض .
فإذا ما استنفدتْ العقول البشرية نشاطاتها ، وبلغتْ مُنتهى مَا لديها من ابتكارات ، حتى ظنَّ الناس أنهم قادرون على التحكم في زمام الكون ، لا يعجزهم فيه شيء ، كما قال تعالى :
(1/5294)
{ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } [ يونس : 24 ]
فبعد ما أخذتم أسرار المنعِم في الكون على قَدْر ما استطعتم ، فاذهبوا الآن إلى المنعِم ذاته لتروا النعيم على حقيقته ، وكلما رأيت في دنيا الناس ابتكارات واختراعات تُسعِد الإنسان ، فهذا ما أعدَّ البشر للبشر ، فكيف بما أعدَّ الله الخالق لخَلْقه؟
فالمفروض أن زخارف الحياة وزينتها وكمالياتها لا تدعونا إلى الحقد والحسد لمن توفرتْ لديه ، بل تدعونا إلى مزيد من الإيمان والشوق إلى النعيم الحقيقي عند المنعِم سبحانه .
ولو تأملتَ هذه الارتقاءات البشرية لوجدتها قائمة على المادة التي خلقها الله والعقل المخلوق الله والطاقة المخلوقة لله ، فَدوْر الإنسان أنه أعمل عقله وفكره في المقوّمات التي خلقها الله ، لكن مهما وصلتْ هذه الارتقاءات ، ومهما تطورتْ هل ستصل إلى درجة : إذا خطر الشيء ببالك تجدْه بين يديك؟
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } .
(1/5295)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
الحق سبحانه في هذه الآية يريد أنْ يُربِّي الكفار ويُؤنّبهم ، ويريد أن يُبَرّئ ساحة رسوله صلى الله عليه وسلم ويتحمل عنه المسئولية ، فهو مجرد مُبلّغ عن الله ، وإياكم أن تقولوا عنه مُفْترٍ ، أو أتى بشيء من عنده ، بدليل أنني لو شِئْتُ لسلبتُ ما أوحيتُه إليه وقرأه عليكم وسمعتموه أنتم وكتبه الصحابة .
فإنْ سأل متسائل : وكيف يذهب الله بوحي مُنزِّل على رسوله ، وحفظه وكتبه الصحابة ، وسمعه الكفار؟
نقول : أولاً : سياق الآية يدلُّنا على أن هذه العملية لم تحدث؛ لأن الحق سبحانه يقول : { وَلَئِن شِئْنَا . . } [ الإسراء : 86 ] بمعنى : لو شِئْنا فعلنا ذلك ، فالفعل لم يحدث ، والمراد بيان إمكانية ذلك ليُبَرِّئ موقف رسول الله ، وأنه ليس له من الأمور شيء .
والغريب أن يفهم البعض من قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ . . } [ آل عمران : 128 ] أنها ضد رسول الله ، وقَدْح في شخصه ، وليس الأمر كذلك؛ لأنه ربه تبارك وتعالى يريد أنْ يتحمّل عنه ما يمكن أن يُفسِد العلاقة بينه وبين قومه ، وكأنه يقول لهم : لا تغضبوا من محمد فالأمر عندي أنا ، وشبَّهنا هذا الموقف بالخادم الذي فعل شيئاً ، فيأتي سيده ليدافع عنه ، فيقول : أنا الذي أمرته .
ثانياً : لماذا نستبعد في قدرة الخالق سبحانه أن يسلب مِنَّا ما أوحاه لرسوله وحفظناه وكتبناه ، ونحن نرى فاقد الذاكرة مثلاً لا يكاد يذكر شيئاً من حياته ، فإذا ما أرادوا إعادة ذاكرته يقومون بإجراء عملية جراحية مثلاً ، فما أشبه هذه بتلك .
ونلاحظ في الآية جملة شرطية ، أداة الشرط فيها " إنْ " ، وهي تستخدم للأمر المشكوك في حدوثه ، على خلاف " إذا " فتأتي للأمر المحقق .
ثم يُوضِّح لنا الحق سبحانه أنه إنْ ذهب بما أوحاه لرسوله ، فلن يستطيع أحد إعادته { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } [ الإسراء : 86 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } .
(1/5296)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
قوله تعالى : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ . . } [ الإسراء : 87 ] أي : أنك لا تجد لك وكيلاً في أيِّ شيء إلا من جانب رحمتنا نحن ، لأن فَضْلنا عليك كبير .
ثم يخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلن تحديه للعالمين : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } .
(1/5297)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
( قُلْ ) لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله ، بل المراد : أعلنها يا محمد على الملأ ، وأسمِعْ بها الناس جميعاً؛ لأن القضية قضية تَحَدٍّ للجميع .
{ لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن . . } [ الإسراء : 88 ] وهما الثَّقَلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو منَاطُ التكليف . وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعاً ، وقد استمعت الجن إلى القرآن كما استمعت إليه البشر : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } [ الجن : 1-2 ]
والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض ، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض ، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به ، ولا خبرة لهم فيه؛ لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه ، كما لو تحدَّيْتَ إنساناً عادياً برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة ، إنما تتحدَّى بها بطلاً معروفاً عنه ممارسة هذه العملية .
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه ، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم ، فكانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد ، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر ، وجاءت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله ، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأن قومه نبغوا في الطب ، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب .
وقد اقترح كفار مكة على رسول الله آيات معينة لإثبات صِدْق رسالته ، لكن الآيات لا تُقترح على الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو الذي يختار الآيات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صِدْق رسوله ، وقد اقترحوا على رسول الله آيات ومعجزاتٍ في مجالات لا عِلْم لهم بها ، فكيف يتحدّاهم الله في مجال لا نبوغَ لهم فيه ، وليس لهم دراية به؟
والحق سبحانه أنزل القرآن ، وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو المعجزة الوحيدة لكل أمة الإسلام من لَدُن رسول الله إلى قيام الساعة . وهذا لا يمنع أن توجد معجزات كونية حدثتْ لرسول الله ليراها القوم الذي عاصروه ، ومِثْل هذه المعجزات لا نطالب بها نحن ، ولا نطالب بالإيمان بها ، إلا إذا وردتْ من صادق معصوم؛ لأن الهدف من هذه المعجزات تثبيت الإيمان برسول الله في نفوس مَنْ شاهدوها ، فنُبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، وكَوْنُ الشجرة تسعى إليه والحيوان يُكلِّمه ، فالمقصود بهذه المعجزات مَنْ شاهدها وعاصرها ، لا مَنْ أتى بعد عصره صلى الله عليه وسلم .
وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة ، حيث نزل جامعاً بين أمرين : أنه منهج سماوي يُنظِّم حركة الحياة ، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة .
(1/5298)
أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط ، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب ، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة ، ومعجزة عيسى إبراء الأكمة والأبرص ، وكتابه الإنجيل ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه .
لذلك لما طلب كفار مكة من رسول الله أنْ يُفسِح لهم جبال مكة ، ويُوسِّع عليهم الأرض ، وأنْ يُحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه ، خاطبهم الحق سبحانه بقوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً . . } [ الرعد : 31 ]
أي : كان في القرآن غَنَاءٌ لكم عن كُلِّ هذه المسائل .
وقد اعترض المستشرقون على هذه القضية ، فقالوا : إنْ كانت الرسالة المحمدية للناس كافة ، وجاءت معجزته في البلاغة والفصاحة ليتحدَّى بها قومه من العرب ، فما لَوْنُ الإعجاز لغير العرب؟
نقول : أولاً : إذا كان العرب ارتاضوا على الملَكَة العربية وأساليبها قد عجزوا أمام هذا التحدي ، فغيرهم مِمَّنْ اتخذ العربية صناعة لا شكَّ أعجز .
ثانياً : مَنْ قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط؟
لقد جاءت بلاغة القرآن وفصاحته للأمة المتلقِّية للدعوة الأولى ، هؤلاء الذين سيحملون عِبْءَ الدعوة ، ويَسِيحُون بها في شتى بقاع الأرض ، فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر .
فالغيبيات التي يخبرنا بها ، والكونيات التي يُحدّثنا عنها ، والتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن ، وهو مُنزِّل على نبي أُميٍّ ، وفي أُمة أُميّة غير مثقفة ، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم ، وما زِلْنا حتى الآن نقف أمام آيات ، وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن معناها .
وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود ، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ]
وبتقدُّم وسائل البحث توصَّلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها ، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة ، فظنّ البعض أن هذه لا ذِكْر لها في القرآن ، وظنوا أنهم تصيَّدوا على القرآن مأخذاً ، ولو أمعنوا النظر في كتاب الله لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيداً في كتاب الله حيث قال تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ]
والقرآن يقول { أَصْغَرَ } لا صغير ، فلو فتَّتْنَا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله ، أَلاَ ترى في ذلك إعجازاً؟
إذن : تحدَّاهم الحق سبحانه بقوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن .
(1/5299)
. } [ الإسراء : 88 ] وأُدخِل الجنّ في مجال التحدي؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ ، أو أديب مُفوِّه ، أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطاناً يلهمه ، وهذه الشياطين تسكن وادياً عندهم يسمونه " وادي عَبْقَر " ، لذلك لم يكتَف القرآن بتحديهم هم ، بل تحدى أيضاً مَنْ يُلهمونهم ، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوة في هذا الأمر .
ثم يقول تعالى : { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن . . } [ الإسراء : 88 ] فالتحدِّي أنْ يأتوا ( بمثله ) لأنه لا يمكن أنْ يأتوا به نفسه؛ لأنه نزل من عند الله وانتهى الأمر ، فمستحيل أنْ يأتُوا به نفسه مرة أخرى؛ لأنْ الواقع لا يقع مرتين .
إذن : المتصوَّر في مجال التحدي أنْ يأتوا بمثله ، فلو قلت : هذا الشيء مثل هذا الشيء ، فلا شَكَّ أن المشبّه به أقوى وأصدق من المشبه ، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله ، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أَوْلَى .
فالحق سبحانه في قوله : { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ . . } [ الإسراء : 88 ] لا ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن ، بل بمثل القرآن ، فإذا كانوا لا يأتون بالصورة ، فهل يقدرون على الأصل؟!
ثم يقول تعالى زيادةً في التحدِّي : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ]
والظهير : هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر ، ومنه قوله تعالى : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] لأنه قد يقول قائل : إن هذه المهمة لا يقوم بها فرد واحد ، فقال لهم سبحانه : بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات إبداعية وعبقريات بيانية ، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن ، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التحدي ، حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر .
لكن ، هل ظَلَّ التحدي قائماً على أنْ يأتُوا بمثل القرآن؟
المتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزل معهم في القدر المطلوب للتحدِّي ، وهذا التنزَّل يدل على ارتقاء التحدِّي ، فبعد أنْ تحدّاهم بأنْ يأتوا بمثل القرآن ، تحدّاهم بعشْر سُور ، ثم تحدّاهم بسورة واحدة ، وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي ، فلا شكَّ أن تحديهم بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن .
وهذا التنزُّيل الذي يفيد الارتقاء كما نجمع مثلاً بين المتناقضات ، فنقول : صعد إلى الهاوية ، وانحدر إلى القمة . ومع هذا التنزُّل لم يستطيعوا الإتيان بمثل آية واحدة من كتاب الله .
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدّي ، فليس الهدف منه تعجيز القوم ، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخَلْق ، فالجميع أمام الإله الواحد سواء ، وهذه هي القضية التي تُزعجهم وتقضّ مضاجعهم ، والقرآن سيثبت لهم صِدْق محمد ، وسيرفع من مكانته بين القوم ، وهم الذين يحاولون إيذاءه ويُدبِّرون لقتله .
(1/5300)
ولذلك من غبائهم أن قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
إذن : فاعتراضهم ليس على القرآن في حَدِّ ذاته ، بل على محمد الذي نزل القرآن عليه ، فهم يحسدونه على هذه المكانة ، كما قال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ . . } [ النساء : 54 ]
وسبحان الله ، إذا كان الخَلْق يختلفون أمام رحمة الله في مسائل الدنيا التي لهم فيها أسباب وسَعْي واجتهاد ، فكيف بالأمر الذي ليس في أيديهم؟ كيف يريدون التدخُّل فيه : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . . } [ الزخرف : 32 ]
ثم يتحدث الحق سبحانه عن طبيعة الأداء القرآني ، فيقول : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ . . } .
(1/5301)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
التصريف : هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان ، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد ، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعددة؛ لأنه يخاطب طباعاً متعددة ، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة ، فلا بُدَّ أن يصرف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه ، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه ، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة .
ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة ، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى ، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا . . } [ الأنبياء : 22 ]
أي : في السماء والأرض .
وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي؛ لأنه يفتقد الملَكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلام الله ، وقد يعترض فيقول : ( إلا ) أداة استثناء . فالمعنى : لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لَفَسدتَا ، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز؛ لأنها مشاركة ، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود ، وإنْ كان معه آخرون ، والمنطق في هذه الحالة يقول : لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد .
لكن الحقيقة أن { إِلاَّ } هنا ليس للاستثناء ، بل هي اسم بمعنى ( غير ) . فالمعنى إذن : لو كان فيهما آلهة غير الله لَفسدَتا .
ثم يعرضها بأسلوب آخر ، فيقول تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . } [ المؤمنون : 91 ]
فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك ، إذ لو كان معه إله آخر لَذهبَ كل إله بما خلق ، واختصّ نفسه بمنطقة معينة ، ولعلا بعضُهم على بعض ، فإن أرادوا إبراز شيء للوجود ، فأيّهما يبرزه؟ إنْ قدر على إبراز واحد فالآخر عاجز ، وإنْ لم يقدر عليه واحد بمفرده ، فهما عاجزان لا يصلحان للألوهية .
ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر ، فيقول : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ]
أي : إنْ كان مع الله آلهة كما يدَّعي المشركون لَذهَب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو يُؤدِّبونه ، أو يُعاقبونه؛ لأنه انفرد بالملْك من دونهم .
وبأسلوب آخر يقول تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ . . } [ آل عمران : 18 ]
ولم يَأْتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة ، أو يدَّعيها لنفسه ، إذن : فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد معارض ، فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض .
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً ، ولله المثل الأعلى : هَبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس ، ثم وجد صاحب البيت حافظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم ، فلم يدَّعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال : هي لي ، أيشكُّ صاحب البيت أنها له؟
نرى هذا التصرف أيضاً في أسلوب القرآن في مسألة ادعاء أن لله تعالى ولداً ، تعالى الله عما يقول المبطلون عُلُواً كبيراً ، فيعرضها القرآن هكذا :
(1/5302)
{ وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ]
فيردُّ القرآن هذا الزعْم بقوله تعالى : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ . . } [ الأنعام : 101 ]
وفي موضع آخر يعرض المسألة هكذا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ]
أي : فإن كنتم تريدون مقاسمة الخالق سبحانه ، فهل يليق أنْ تأخذوا أنتم البنين؛ لأنهم المفضلون حَسْب زعمكم ، وتتركوا له تعالى البنات : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ] أي : قسمة جائرة .
وهكذا يُصرِّف القرآن أسلوبه ، ويُحوّله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع . وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل ، وهو تعبير مُوجَز ، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه ، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته .
فإذا أرسلتَ أحداً في مهمة أو جماعة ، فيمكنك حين عودتهم تقول لهم مستفهماً : ( ماذا وراءكِ يا عصام؟ ) هكذا بصيغة المؤنثة المفردة ، لأن المثل قيل هكذا ، حيث أرسل أحدهم امرأة تسمى عصام لتخطب له إحدى النساء وحينما أقبلت عليه خاطبها بهذه العبارة ، فصارت مثلاً .
وكما تقول لصاحبك الذي يتعالى عليك : ( إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً ) إذن : المثل يمتاز بأنه يثبت على لفظه الأول ولا يتغير عنه .
أما الحكمة فهي : قول شارد يقوله كل واحد ، وهو كلام يقلُّ لفظه ، ويجِلُّ معناه .
كما تقول : " رُبَّ أخ لك لم تَلِدْهُ أمك " .
" لا تُعلِّم العَوانُ الخِمْرة " .
" إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى " أي : أن الذي يُجهِد دابته في السير لن يصل إلى ما يريد؛ لأنها ستنقطع به ولا تُوصِّله .
ومن الحكمة هذه الأبيات الشعرية التي صارت حكمة متداولة :
وَمَنْ يكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ... يَجِدْ مُرّاً بِهِ المَاءَ الزُّلاَلاَ
وقوله :
وَأَتْعَس النَّاسِ حَظَّاً مَنْ تكونُ لَه ... نَفْسُ الملُوكِ وحالاتُ المسَاكين
وهَبْ أن ولدك أهمل دروسه طوال العام وعند الامتحان أخذ يجدّ ويَجْتهد ويُرهِق نفسه ، هنا يمكنك أن تقول له : ( قبل الرماء تُملأُ الكنائن ) والكنانة هي المخلاة التي تُوضَع بها السهام ، وهذه لا بُدَّ أنْ يُعِدّها الصياد قبل صَيْده لا وقت الصيد .
إذن : لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لَوْناً أسلوبياً ، وأداةٍ للإقناعٍ ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . } [ البقرة : 26 ]
لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلاً بما يناسبه .
وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } قد يقول قائل : ولماذا قال { فَمَا فَوْقَهَا } ، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر؟
نقول : المراد بما فوقها .
(1/5303)
أي : في المعنى المراد ، وهو الصِّغر . أي : ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها .
ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ]
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ]
إذن : يُصرِّف الله الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به ، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع . بل يُشخّص الداءات ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً .
وهذه المسألة واضحة في الحديث النبوي الشريف ، حيث كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال الواحد ، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر ، فقد سُئِل صلى الله عليه وسلم كثيراً : ما أفضل الأعمال يا رسول الله؟ فقال للسائل : " الصلاة لوقتها " وقال لآخر : " بر الوالدين " وقال لآخر : " أنْ تلقىَ أخاك بوجه طَلْق " .
وهكذا جاءت الإجابة مختلفة من شخص لآخر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال سائله ، ويحاول أنْ يعالج نقطة الضعف فيه ، فالأمر ليس ( أكلشيه ) ثابتاً يعطيه للجميع ، بل هي مراعاة الأحوال والطباع .
ثم يقول تعالى : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } [ الإسراء : 89 ]
نعرف أن ( إلاّ ) أداة استثناء ، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها ، كما تقول : جاء القوم إلا زيداً ، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها ، كما لو قلت : ضربت إلا زيدا ، والآية أسلوب عربي فصيح .
نقول : لأن معنى أبى : لم يقبل ولم يَرْضَ ، فالمراد : لم يَرْضَ إلا الكفور ، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبق بنفي .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } .
(1/5304)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
( لَنْ ) تفيد تأبيد نَفْي الفعل في المستقبل ، تقول : أنا لم أصنع هذا ، ولن أصنعه . أي : في المستقبل .
ومعلوم أن الإنسان ابن أغيار ، ولا يحكمه حال واحد بل هو مُتقلِّب بين أحوال شتى طوال حياته ، والله تعالى وحده هو الذي لا يتغيّر ، وما دام الإنسان ابنَ أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال ، فليس له أنْ يحكمَ على شيء حُكْماً قاطعاً في مستقبل هو لا يملكه ، فالذي يملك الحكم القاطع هو الحق سبحانه الذي لا تتناوله الأغيار .
لذلك فالإنسان مثلاً إذا صعد حتى القمة نخاف عليه الهبوط؛ لأنه من أهل الأغيار ، ولا يدوم له حال ، إذن : فماذا بعد القمة؟
وقد عَبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله :
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُهُ ... تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيل تَمّ
والعجيب أن الناس يتطلعون في نعمة الله إلى التمام ، فيقول أحدهم : يا حبَّذا ، لو حدث كذا لَتَمتْ هذه النعمة ، وهم لا يدرون أن هذا النقص في النعمة سبب بقائها ، فلو تَمَّتْ لك النعمة وأنت من أهل الأغيار ، فماذا تنتظر إلا زوالها؟
فَلْيَرْضَ كلٌّ صاحب نعمة بما فيها من نقص ، فلعل هذا النقص يردُّ عنه عَيْن حاسد ، أو حقد حاقد .
فبعض الناس يرزقه الله بالأولاد ويُعينه على تربيتهم ، ولحكمة يفشل أحدهم فيحزن لذلك ويألم أشد الألم ، ويقول : لو أن هذا الولد . . وهو لا يدرك حكمة الله من وراء هذا النقص ، وأنه حارسٌ للنعمة في الآخرين ، وأنه التميمة التي تحميه وتردُّ عنه ما يكره .
لذلك لما أراد المتنبي أن يمدح سيف الدولة قال له :
شَخِصَ الأَنامُ إلى كَمَالِكَ فَاسْتَعِذْ ... مِنْ شَرِّ أَعْيُنِهِمْ بعَيْبٍ وَاحِد
أي : نظروا إليك معجبين بما فيك من كمال ، فاعمل عملاً سيئاً واحداً يصد عنك شرَّ أعينهم .
إذن : ( لن ) تفيد تأبيد النفي في المستقبل ، وهذا أمر لا يملكه إلا مالك الأحداث سبحانه وتعالى ، أمّا صاحب الأغيار فليس له ذلك ، والذين آمنوا فيما بعد برسول الله ممَّنْ قالوا هذه المقولة : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ]
نستطيع أن نقول لهم : لقد أوقعتْكم ( لن ) في الكذب؛ لأنكم أبَّدتُم نَفْي الإيمان ، وها أنتم مؤمنون ، ولم يُفجِّر لكم النبي ينبوعاً من الأرض .
وعند فتح مكة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخَنْدَمَة ما قال ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً معتذراً وخرج محارباً مع خالد بن الوليد في اليرموك ، وحين طُعِن الطعنة المميتة ، وحمله خالد ، فإذا به يقول له : أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله؟
إذن : مَنْ يقول كلمة عليه أن يكون قادراً على تنفيذها ، مالكاً لزمامها ، ضامناً لنفسه أَلاَّ يتغير ، وأَلاَّ تتناوله الأغيار ، ولا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى .
(1/5305)
والمتدبّر لأسلوب القرآن في سورة ( الكافرون ) يجد هذه المسألة واضحة ، حيث يقول تعالى : { قُلْ ياأيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } [ الكافرون : 1-4 ]
هكذا نفتْ الآية عبادة كل منهما لإله الآخر في الزمن الحاضر ، ثم يقول تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 4-5 ] لينفي أيضاً احتمال العبادة في المستقبل ، إذن : فليس في الآية تكرار ، كما يرى بعض قِصَار النظر .
ولك الآن أنْ تسألَ : كيف نفى القرآن الحديث في المستقبل؟ نقول : لأن المتكلّم هنا هو الحق سبحانه وتعالى الذي يملك الأحداث ولا تُغيِّره الأغيار ، ولا تتسلط عليه ، فحكم على المستقبل هذا الحكم القاطع وأبَّد النَّفي فيه .
ثم يقول تعالى : { حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ]
وفي آية أخرى قال : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً . . } [ القمر : 12 ]
فالتفجير : أن تعمل في الأرض عملية تُخرِج المستتر في باطنها على ظهرها ، وعين الماء تُخرِج لك الماء من الأرض ، وتأخذ من حاجتك فلا ينقص؛ لأنها تعوض ما أُخِذ منها بقانون الاستطراق ، وقد يحدث أن يغيض الماء فيها قليلاً .
أما الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء ، كما في زمزم مثلاً ، ولا شكَّ أن هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء ، وحاجتهم الشديدة إليه .
ويذكر الحق سبحانه أنهم واصلوا حديثهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً } .
(1/5306)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
سبق أن طلبوا الماء لأنفسهم ، وهنا يطلبون للرسول { جَنَّةٌ } أي : بستان أو حديثة من النخيل والعنب؛ لأنهما الصِّنْفان المشهوران عن العرب { فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً } [ الإسراء : 91 ] أي : خلال هذه الحديقة حتى تستمر ولا تذبل .
ويواصلون تحديهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } .
(1/5307)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
الزَّعْم : هو القبول المخالف للواقع ، ويقولون : الزعم مطّية الكذب ، قال تعالى : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ . . } [ التغابن : 7 ]
وإنْ كانوا اتهموا رسول الله بالزعم ، فما هو إلا مُبلِّغ عن الله ، وناقل إليهم منهج ربه ، فإنْ أرادوا أنْ يتَّهموا فليتهموا الحق سبحانه وتعالى؛ لأن رسوله لا ذنبَ له ، وقد جاءوا بمسألة إسقاط السماء عليهم؛ لأن الحق سبحانه سبق أنْ قال عنهم : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } [ سبأ : 9 ]
ولذلك طلبوا من رسول الله أنْ يُوقِع بهم هذا التهديد .
و { كِسَفاً . . } [ الإسراء : 92 ] أي : قِطَعاً ، ومفردها كسفة كقطعة .
ويقول تعالى : { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] أي : نراهم أمامنا هكذا مُقابلةً عياناً ، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا . . } [ الفرقان : 21 ]
والمتأمل فيما طلبه الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يجده تعجيزاً بعيداً كُلَّ البعد عن الواقع ، مما يدلنا على أنهم ما أرادوا الإيمان والهداية ، بل قصدوا الجدل والعناد؛ لذلك يقول الحق سبحانه رَدّاً على لَجَج هؤلاء وتعنُّتهم : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا } [ الأنعام : 111 ]
ثم يقول تعالى عنهم أنهم قالوا : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ . . } .
(1/5308)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
البيت : هو المكان المعدّ للبيتوتة ، والزخرف : أي المزيِّن ، وكان الذهب وما يزال أجمل أنواع الزينة؛ لأن كل زُخْرف من زخارف الزينة يطرأ عليه ما يُغيِّره فيبهت لونه ، وينطفئ بريقه ، وتضيع ملامحه إلا الذهب ، ونقصد هنا الذهب الخالص غير المخلوط بمعدن آخر ، فالذهب الخالص هو الذي لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره؛ لذلك يظل على بريقه ورَوْنقه ، فإنْ كان البيت نفسه من زخرف ، فماذا سيكون شكله؟
ونرى الذين يُحبُّون أن ينافقوا نفاقَ الحضارات ، ويتبارَوْنَ في زخرفة الصناعات يُلصِقون على المصنوعات الخشبية مثلاً طبقة أو قشرة من الذهب؛ لتظلَّ محتفظة بجمالها ، كما في الأطقم الفرنساوي أو الإنجليزي مثلاً .
ثم يقول تعالى : { أَوْ ترقى فِي السمآء . . } [ الإسراء : 93 ]
أي : يكون لك سُلَّم تصعد به في السماء ، ويظهر أنهم تسرعوا في هذا القول ، ورَأَوْا إمكانية ذلك ، فسارعوا إلى إعلان ما تنطوي عليه نفوسهم من عناد : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ . . } [ الإسراء : 93 ]
وكأنهم يُبيِّتون العناد لرسول الله ، فهم كاذبون في الأولى وكاذبون في الثانية ، ولو نزَّل الله عليهم الكتاب الذي أرادوا ما آمنوا ، وقد رَدَّ عليهم الحق سبحانه بقوله : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ]
وانظر إلى رد القرآن على كل هذا التعنت السابق : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي . . } [ الإسراء : 93 ] وكلمة { سُبْحَانَ } كلمة التنزيه العُلْيا للحق سبحانه وتعالى ، وقد تحدَّى بها الكون كله؛ لأنها كلمة لا تُقَال إلا لله تعالى ، ولم يحدث أبداً بين الناس أنْ قالها أحد لأحد ، مع ما في الكون من جبابرة وعُتَاة ، يحرص الناس على منافقتهم وتملُّقهم ، وهذه كلمة اختيارية يمكن أن يقولها كل إنسان ، لكن لم يجرؤ أحد على قَوْلها لأحد .
والحق سبحانه وتعالى يتحدَّى الكون كله بأمور اختيارية يقدرون عليها ، وتحدى المختار في المثل معناها أنه سبحانه عالم بأن قدرته لن تستطيع أن تفعل ذلك ، ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 1-3 ]
نزلت هذه الآيات في أبي لهب ، وهو كافر ، ويحتمل منه الإيمان كما آمن غيره من الكفرة ، فقد آمن عمر والعباس وغيرهم ، فما كان يُدرِي رسول الله أن أبا لهب لن يؤمن ، لكنه يُبلِّغ قول ربه قرآناً يُتلَى ويُحفظ ويُسجَّل ، وفيه تقرير وشهادة بأن أبا لهب سيموت كافراً ، وأن مصيره النار .
وهنا نقول : أَمَا كان في إمكان أبي لهب أنْ يُكذّب هذا القول ، فيقوم في قومه مُنادياً بلا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ولو نِفَاقاً وله بعد ذلك أن يتهم محمداً وقرآن محمد بالكذب؟
لكن هذا لم يحدث؛ لأن المتكلم هو الله ربُّ العالمين .
(1/5309)
ومن هذا التحدي أن الحق سبحانه له صفات وله أسماء ، الأسماء مأخوذة من الصفات ، إلا اسم واحد مأخوذ للذات ، هو لفظ الجلالة ( الله ) ، فهو عَلَم على الذات الإلهية لم يُؤخَذ من صفة من صفاته تعالى ، فالقادر والغفور والحيّ القيوم وغيرها من الأسماء مأخوذة من صفات ، إنما ( الله ) عَلَم على الذات الجامعة لكُلِّ هذه الصفات .
لذلك تحدَّى الخالق سبحانه جميع الخَلْق ، وقد أعطاهم الحرية في اختيار الأسماء أنْ يُسمُّوا أنفسهم أو أبناءهم بهذا الاسم ( الله ) ، ويعلن هذا التحدي في كتابه الكريم وعلى رؤوس الأشهاد يقول : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] ؟
ومع ذلك لم يجرؤ كافر واحد على أنْ يُسمِّيَ هذا الاسم ليظلَّ هذا التحدي قائماً إلى قيام الساعة؛ لأن الله تعالى حق ، والإيمان به وبوجوده تعالى متغلغل حتى في نفوس الكفار ، فلو كانوا يعلمون أن هذه الكلمة كذب ، أو لا وجودَ لها لأقدموا على التسمية بها دون أن يُبالُوا شيئاً ، أَمَا وهم يعلمون أن الله حق فلن يجرؤ أحد ، ويُجرِّب هذه التسمية في نفسه؛ لأنه يخشى عاقبة وخيمة لا يدري ما هي .
لذلك رَدَّ الحق سبحانه على تعنُّت الكفار فيما طلبوه من رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً : { سُبْحَانَ رَبِّي . . } [ الإسراء : 93 ] لأن الأمور التي طلبوها أمور بلغتْ من العجب حَدَّاً ، ولا يمكن أن يُتعجب منها إلا بسبحان الله؛ لأنها كلمة التعجُّب الوحيدة والتي لا تُطلَق لغير الله ، وكأنه أرجع الأمور كلها لله ، ولقد كان لهم غِنىً عن ذلك في كتاب الله الذي نزل إليهم : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 51 ]
والهمزة هنا للاستفهام المراد به التعجُّب أيضاً : أيطلبون هذه الآيات ، ولم يكْفِهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب ، وقد كان فيه غناءٌ لهم .
ثم يقول تعالى : { هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ]
هل ادعيْتُ لكم أَنِّي إله؟! ما أنا إلا بشر أبلغكم رسالة ربي ، وأفعل ما يأمرني به ، كما في قوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } .
(1/5310)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
أي : ما منعهم من الإيمان إلا هذه المسألة : أن يكون الرسول بشراً ، هذه هي القضية التي وقفت في حلوقهم : { أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ]
والمتأمِّل في مسألة التبليغ عن الله يجد أنها لا يمكن أنْ تتم إلا ببشر ، فكيف يبلغ البشر جنس آخر ، ولا بُدَّ للتلقِّي عن الله من وسائط بين الحق سبحانه وتعالى وبين الناس؛ لأن البشر لا يستطيع أنْ يتلقّى عن القُوة العليا مباشرة ، فإذنْ : هناك مراحل : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ]
لكن الرسول البشري كيف يُكلِّم الله؟ لا بُدَّ أنْ نأتي برسول من الجنس الأعلى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً . . } [ الحج : 75 ] وهذا مرحلة ، ثم يصطفي رسولاً من البشر يتلقّى عن الملَكِ كي يستطيع أنْ يُبلِّغكم؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر يتلقى عن الملك كي يستطيع أن يبلغكم؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر مع الحق سبحانه .
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى : أنت إذا أردتَ إضاءة لمبة صغيرة وعندك تيار كهربائي عالٍ ، هل يمكن أنْ تُوصِّله بهذه اللمبة؟ لا لأنها ستحرق فوراً ، إذن : ما الحل؟ الحل أنْ تأتي بجهاز وسيط يُقلِّل لك هذا التيار القوي ، ويعطي اللمبة على قَدْر حاجتها فتضيء .
كذلك الحق سبحانه يصطفي من الملائكة رسلاً يمكنهم التلقِّي عن الله ويصطفي من البشر رسلاً يمكنهم التلقِّي عن الملائكة ، ثم يُبلّغ الرسول المصطفى من البشر بني جنسه . إذن : فماذا يُزعجكم في أنْ يكون الرسول بشراً؟ ولماذا تعترضون على هذه المسألة وهي أمر طبيعي؟
يقول تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس . . } [ يونس : 2 ]
وفي موضع آخر يقول سبحانه : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } [ يس : 13-15 ]
إذن : فاعتراضهم على بشرية الرسول أمر قديم توارثه أهل الكفر والعناد من أيام نوح عليه السلام ألم يَقُلْ له قومه : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا . . } [ هود : 27 ]
وقالوا : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ المؤمنون : 34 ]
وقالوا : { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 24 ]
لذلك يدعونا الحق سبحانه وتعالى إلى النظر في السُّنة المتبعة في الرسل : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ . . } [ النحل : 43 ]
أي : ليسوا ملائكة ، لا بُدَّ أنْ يكونوا رجالاً لِيتمّ اللقاء بينكم ، وإلاّ فلو جاء الرسول مَلَكاً كما تقولون ، هل ستروْن هذا الملَك؟ قالوا : لا هو مُستتر عنَّا ، لكنه يرانا ، لكن تبليغ الرسالة لا يقوم على مجرد الرؤية ، فتبليغ الرسالة يحتاج إلى مخالطة ومخاطبة ، وهنا لا بُدَّ أنْ يتصوّر لكم الملَك في صورة رجل ليؤدي مهمة البلاغ عن الله ، وهكذا نعود من حيث بدأنا؛ لأنها الطبيعة التي لا يمكن لأحد الخروج عنها .
(1/5311)
لذلك يقول سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] إذن : لا داعي للتمحُّك والعناد ، ومصادمة الفطرة التي خلقها الله ، والطبيعة التي ارتضاها لخَلْقه .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } .
(1/5312)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{ قُلْ } أي : رَدَّاً عليهم : لو أن الملائكة يمشون في الأرض مطمئنين لَنزَّلنا عليهم مَلَكاً رسولاً لكي يكون من طبيعتهم ، فلا بُدَّ أنْ يكون المبلِّغ من جنس المبلَّغ ، وهذا واضح في حديث جبريل الطويل حينما جاء إلى رسول الله يسأله عن بعض أمور الدين لِيُعلم الصحابة : ما الإحسان؟ ما الإيمان؟ ما الإسلام . فيأتي جبريل مجلس رسول الله في صورة رجل من أهل البادية ، وبعد أنْ أدَّى مهمته انصرف دون أنْ يشعر به أحد ، فلما سألوا عنه قال لهم رسول الله : " إنه جبريل ، أتاكم لِيُعلِّمكم أمور دينكم " .
شيء آخر يقتضي بشرية الرسول ، وهو أن الرسول أسوة سلوك لقومه ، كما قال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ . . } [ الأحزاب : 21 ]
وبالله ، كيف تتم هذه الأسوة؟ وكيف يقتدي الناس بها إنْ كان الرسول مَلَكاً؟
فالرسول عندما يُبلِّغ منهج الله عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أولاً ، فلا يأمرهم أمراً ، وهو عنه بِنَجْوَة ، بل هو إمامهم في القول والعمل .
لذلك فالحاكم الحق الناصح يُطبّق القانون عليه أولاً ، فكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يُقنّن قانوناً ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد ، ثم يُحذّرهم من المخالفة : " فو الذي نفسي بيده ، مَنْ خالفني منكم إلى شيء لأجعلنّه نكَالاً للمسلمين ، وأنا أول مَنْ أُطبِّقه على نفسي " .
لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره ، ولما رآه الرجل نائماً مطمئناً تحت شجرة قال قولته المشهورة : " حكمتَ ، فعدلْتَ ، فأمنت ، فنمْتَ يا عمر " وعمر ما حكم الدنيا والبشر ، بل حكم نفسه أولاً فحُكمت له الدنيا؛ لأن الحاكم هو مركز الدائرة ، وحَواليْه دوائر أخرى صغيرة تراه وتقتدي به ، فإنْ رأوه مستقيماً استقاموا ، ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة ، وإنْ رأوْه منحرفاً فاقوه في المخالفة ، وأفسدوا أضعاف ما يُفسد .
لذلك ، لا يمكن أبداً لحاكم أن يحكم إلا إذا حكم نفسه أولاً ، بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعاً لأمره دون جهد منه أو تعب .
ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الأُسْوة على حقيقتها ، فترى الواحد من رعيته يركب أفخم السيارات ، ويسكن أعظم القصور ، حتى إن معظم أدواتها تكون من الذهب ، في حين ترى هذا الحاكم يعيش عيشة متواضعة وربما يعيش في قصر ورثه عن أبيه أو جَدَِّه ، وكأنه يُغلِظ على نفسه ويبغي الرفاهية لرعايته .
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بمنهج ، وهو في الوقت نفسه أُسْوة سلوك وقُدْوة ، فنراه صلى الله عليه وسلم يحثّ الغنيّ على الصدقة للفقير ، ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فلا يقبلها لهم ، وإنْ توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول لا يُوَرَّثُ لأهله من بعده ، بل هو صدقة لفقراء المسلمين ، وهكذا يحرم رسول الله أهل بيته مما أعطاه للآخرين لتكون القدوة صحيحة ، ولا يجد ضعاف النفوس مأخذاً عليه صلى الله عليه وسلم .
(1/5313)
إذن : فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم ، أو يفضل بعض الرعية على بعض ، فإذا ما أحسَّ الناس بالمساواة خضعوا للحاكم ، وأذعنوا له ، وأطاعوا أمره؛ لأنه لا يعمل لمصلحته الشخصية بل لمصلحة رعيته ، بدليل أنه أقلُّ منهم في كُلِّ مستويات الحياة .
فالرسول إنْ جاء مَلَكاً فإن الأُسْوة لا تتمّ به ، فإنْ أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف نحتجّ عليه : كيف وأنت مَلَكٌ لا شهوةَ لك ، لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل ، إن هذه الأوامر تناسبك أنت ، أما نحن فلا نقدر عليها .
ومن هنا لا بُدَّ أن يكون الرسول بشراً فإنْ حمل نفسه على منهج فلا عُذْر لأحد في التخلُّف عنه؛ لأنه يطبق ما جاء به ويدعوكم إلى الاقتداء بسلوكه .
وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً وقُلْنا : هَبْ أنك رأيتَ في الغابة أسداً يصول ويجول ويفتك بفريسته ، بالله هل يراودك أن تكون أسداً؟ إنما لو رأيتَ فارساً على صَهْوة جواده يصول ويجول ويحصد رقاب الأعداء ، ألاَّ تتطلع إلى أن تكون مثله؟
إذن : لا تتمّ القُدْوة ولا تصح إلا إنْ كان الرسول بشراً ، ولا داعي للتمرُّد على الطبيعة التي خلقها الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً . . . } .
(1/5314)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{ قُلْ } أي : رَدّاً على ما اقترحوه من الآيات وعلى اعتراضهم على بشرية الرسول : { كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ . . } [ الإسراء : 96 ]
والشهيد إنما يُطلَب للشهادة في قضية ما ، فما القضية هنا؟ القضية هي قضية تعنُّت الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم طلبوا منه مَا ليس في وُسْعه . والرسول لا يعنيه المتعنتون في شيء؛ لأن أمره مع ربه عز وجل؛ لذلك قال : { كفى بالله شَهِيداً . . } [ الإسراء : 96 ]
فإنْ كانت شهادة الشاهد في حوادث الدنيا تقوم على الإخبار بما حدث ، وعليها يترتب الحكم فإن شهادة الحق سبحانه تعني أنه تعالى الشهيد الذي رأى ، والحاكم الذي يحكم ، والسلطة التنفيذية التي تنفذ .
لذلك قال : { كفى بالله شَهِيداً . . } [ الإسراء : 96 ]
فهو كافيك هذا الأمر؛ لأنه كان بعباده { خَبِيراً } يعلم خفاياهم ويطّلع على نواياهم من وراء هذا التعنُّت { بَصِيراً } لا يخفي عليه شيء من أمرهم .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ . . } .
(1/5315)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
سبق أنْ قُلْنا : إن الهداية نوعان : هداية الدلالة المطلقة والتي تكون لجميع الخلق المؤمن والكافر ، فقد دَلَّ الله المؤمن والكافر على الطريق المستقيم وبيَّنه لهم وأرشدهم إليه .
والأخرى : هداية التوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الذي آمنوا به ، وهذه خاصّة بالمؤمن ، فبعد أنْ دَلَّه الله آمن وصدَّق واعترف لله تعالى بالفضل والجميل ، بأن أنزل له منهجاً ينظم حياته . فأتحفه الله تعالى بهداية التوفيق والمعونة .
وعن الهداية يقول الحق سبحانه : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى . . } [ فصلت : 17 ]
أي : دَلَلْناهم على الطريق المستقيم ، لكنهم استحبُّوا العمى والضلال على الهدى ، فمنع الله عنهم معونته وتوفيقه .
والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بأسلوبين قرآنيين يوضِّحان هذيْن النوعيْن من الهداية ، يقول تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . } [ القصص : 56 ]
فنفى عن رسول الله هداية التوفيق والمعونة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يملكها ، وفي آية أخرى قال تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ]
فأثبتَ له هداية البيان والدلالة؛ لأن هذه هي مهمته كمبلِّغ عن الله ، وهكذا أثبتَ له الحدث ونفاه عنه؛ لأن الجهة مُنفكَّة أي : أن جهة الإثبات غير جهة النفي ، كما في قوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا . . } [ الروم : 6-7 ]
فمرة : نفَى عنهم العلم ، ومرة أخرى : أثبتَ لهم العلم . والمراد أنهم لا يعلمون حقائق الأمور ، ولكنهم يعلمون العلوم السطحية الظاهرة منها . ونحن نكرّر مثل هذه القضايا لكي تستقرّ في النفس الإنسانية ، وفي مواجيد المتدينين فينتفعوا بها .
ومن ذلك أيضاً قول الحق سبحانه : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى . . } [ الأنفال : 17 ]
فأثبت للرسول رَمْياً ، ونفى عنه رَمْياً ، لكن إذا جاء هذا الكلام من بليغ حكيم فاعلم أن الجهة مُنفكّة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أخذ حَفْنة من التراب ورمى بها نحو أعدائه ، وهذا هو الرّمْي الذي أثبتته الآية ، وقد تولَّتْ القدرة الإلهية إيصال ذرات هذه الحفنة إلى عيون الأعداء ، فأصابتهم جميعاً وشغلتْهم عن القتال ، وهذا هو الرَّمْي الذي نفاه الحق عن رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولتقريب هذه المسألة : ابنك الذي تحمله على المذاكرة وتُرغمه عليها يأتي بالكتب ويضعها أمامه ويُقلِّب فيها ليوهمك أنه يذاكر ، فإذا ما راجعت معه ما ذاكر لا تجدْه حصَّل شيئاً فتقول له : ذاكرتَ وما ذاكرت ، فتُثبِت له الحدث مرة ، وتنفيه عنه أخرى؛ لأنه ذاكر شكلاً ، ولم يذاكر موضوعاً .
إذن : فالحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودلالة ، ويختص مَنْ آمن بهداية المعونة والتوفيق للقيام بمقتضيات المنهج ، كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }
(1/5316)
[ محمد : 17 ]
وقال عن الآخرين : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ الصف : 7 ] لكن يهدي العادلين .
وقال : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ الصف : 5 ] . . لكن يهدي الطائعين .
وقال : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ] . . لكن يهدي المؤمنين .
إذن : بيَّن الحق سبحانه في أساليب القرآن مَنْ شاء هدايته ، أما مَنْ آثر الكفر وصمم ألاَّ يؤمن فهو وشأنه ، بل ويزيده الله من الكفر ويختم على قلبه ، كما قال تعالى : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ]
نعود إلى { مَن } في قوله تعالى : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد . . } [ الإسراء : 97 ] قلنا : إن ( مَن ) اسم موصول بمعنى الذي ، واستخدام ( مَن ) كاسم موصول لا يقتصر على ( الذي ) فقط ، بل تستخدم لجميع الأسماء الموصولة : الذي ، التي ، اللذان ، اللتان ، الذين ، اللاتي . فتقول : مَنْ جاءك فأكرِمْه ، ومَنْ جاءتك فأكرمْها ، ومَنْ جاءاك فأكرمهم ، ومَنْ جاءتاك فأكرمهما ، ومَنْ جاءوك فأكرمهم ، ومَنْ جِئْنَكَ فأكرمْهُن .
فهذه ستة أساليب تؤديها ( مَن ) فهي إذن صالحة للمذكّر وللمؤنّث وللمفرد وللمثنى وللجمع ، وعليك أن تلاحظ ( مَنْ ) في الآية : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد . . } [ الإسراء : 97 ] جاءت ( مَنْ ) دالَّة على المفرد المذكر ، وهي في نفس الوقت دالّة على المثنى والجمع المذكر والمؤنث ، فنقول : مَنْ يهدِهَا الله فهي المهتدية ، ومَنْ يهدهم الله فهم المهتدون . وهكذا .
ونسأل : لماذا جاءت ( مَنْ ) دالة على المفرد المذكر بالذات دون غيره في مجال الهدى ، أما في الضلال فجاءتْ ( مَنْ ) دالة على الجمع المذكر؟ نقول : لأنه لاحظ لفظ ( من ) فأفرد الأولى ، ولاحظ ما تطلق عليه ( من ) فجمع الثانية : { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ . . } [ الإسراء : 97 ]
وهنا مَلْحظ دقيق يجب تدبُّره : في الاهتداء جاء الأسلوب بصيغة المفرد : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد . . } [ الإسراء : 97 ] لأن للاهتداء سبيلاً واحداً لا غير ، هو منهج الله تعالى وصراطه المستقيم ، فللهداية طريق واحد أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " .
أما في الضلال ، فجاء الأسلوب بصيغة الجمع : { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ . . } [ الإسراء : 97 ] لأن طرق الضلال متعددة ومناهجه مختلفة ، فللضلال ألف طريق ، وهذا واضح في قول الحق سبحانه : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ . . } [ الأنعام : 153 ]
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ هذه الآية خَطَّ للصحابة خَطّاً مُسْتقيماً ، وخَطَّ حوله خطوطاً مُتعرّجة ، ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال : " هذا ما أنا عليه وأصحابي " .
إذن : الهداية طريق واحد ، وللضلال أَلْف مذهب ، وألف منهج؛ لذلك لو نظرتَ إلى أهل الضلال لوجدتَ لهم في ضلالهم مذاهب ، ولكل واحد منهم هواه الخاص في الضلال . فعليك أنْ تقرأ هذه الآية بوعي وتأمُّل وفَهْم لمراد المتكلّم سبحانه ، فلو قرأها غافل لَقال : فمن تجد له أولياء من دونه ، ولأتبع الثانية الأولى .
(1/5317)
ومن هنا تتضح توقيفية القرآن ، حيث دقة الأداء الإلهي التي وضعتْ كُلَّ حَرْف في موضعه .
وقوله : { أَوْلِيَآءَ } أي : نُصَراء ومعاونين ومُعينين { مِن دُونِه } أي : من بعده { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } [ الإسراء : 97 ]
الحشْر : القيام من القبر والجمع للحساب { على وُجُوهِهِمْ } هنا تعجب بعض الصحابة ، فسألوا رسول الله : وكيف يسير الإنسان على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يُمشيهم على وجوههم " .
وما العجب في ذلك ونحن نرى مخلوقات الله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ . . } [ النور : 45 ]
ألم تَرَ الثعبان ، كيف هو سريع في مِشْيته ، خفيف في حركته ، فالذي خلق قادر أن يُمشِيَ من ضَلَّ في القيامة على بطنه ، لأن المسألة إرادة مريد لِيُوقع بهم غاية الذِّلَّة والهوان ، ويا ليتهم تنتهي بهم المهانة والمذلّة عند هذا الحدِّ ، بل : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً . . } [ الإسراء : 97 ]
هذا استطراق لوسائل الإهانة ، ففضلاً عن مَشْيهم على الوجوه فهم عُمْي لا يروْنَ شيئاً ، ولا يهتدون ، وهم صُمٌّ لا يسمعون نداءً ، وهم بُكْمٌ لا يقدرون على الكلام ، ولك أنْ تتصوَّر إنساناً جمعت عليه كل هذه الوسائل ليس في يوم عادي ، بل في يوم البعث والنشور ، فإذا به يُفَاجأ بهْول البعث ، وقد سُدَّت عليه جميع منافذ الإدراك ، فهو في قلب هذا الهَوْل والضجيج ، ولكنه حائر لا يدري شيئاً ، ولا يدرك ما يحدث من حوله .
ولنا هنا لفتة على هذه الآية ، فقد ورد في القرآن كثيراً : صُمٌّ بُكْم بهذا الترتيب إلا في هذه الآية جاءت هكذا : { وَبُكْماً وَصُمّاً } ومعلوم أن الصَّمَم يسبق البَكَم؛ لأن الإنسان يحكي ما سمعه ، فإذا لم يسمع شيئاً لا يستطيع الكلام ، واللغة بنت السماع ، وهي ظاهرة اجتماعية ليستْ جنساً وليست دَمَاً .
وسبق أنْ قُلْنا : إن الولد الإنجليزي إذا تربَّى في بيئة عربية يتكلم بالعربية والعكس؛ لأن اللغة ليست جنساً ، بل ظاهرة اجتماعية تقوم على السماع ، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان . حتى العربي نفسه الذي يعيش في بيئة عربية ، إلا أنه لم يسمع هذه الألفاظ الغريبة المتقعِّرة لا يستطيع محاكاتها ولا يعرف معناها .
لكن في هذه الآية جاء البكَم أولاً ، لماذا؟ لأنه ساعة يُفاجأ بهوْلِ البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أولاً عَمَّا يحدث ، ثم يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه ، لكنه فُوجئ بالبعث وأهواله ، ولم يستطع حتى الاستفسار عَمَّا حوله ، وهكذا سبق البكَم الصَّمَم في هذا الموقف .
وهنا أيضاً اعتراض لبعض المستشرقين ومَنْ يُجارونهم مِمَّنْ أسلموا بألسنتهم ، ولم تطمئن قلوبهم لنور الله ، يقولون : القرآن يقول : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً .
(1/5318)
. } [ الإسراء : 97 ] فينفي عنهم الرؤية ، وفي آيات أخرى يقول : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ . . } [ مريم : 75 ] { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا . . } [ الكهف : 53 ]
فأثبت لهم الرؤية ، فكيف نجمع بين هذه الآيات؟ والمتأمل في حال هؤلاء المعذَّبين في موقف البعث يجد أن العمى كان ساعة البعث ، حيث قاموا من قبورهم عُمْياً لِيتحققَ لهم الإذلال والحيرة والارتباك ، ثم بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصة بهم ، وهكذا جمع الله عليهم الذل في الحاليْن : حال العمى وحال البصر .
لذلك يقول تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ]
ثم يقول تعالى : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] مأواهم : أي : مصيرهم ونهايتهم . خَبَتْ : خبت النار . أي : ضَعُفَت أو انطفأتْ ، لكن ما دام المراد من النار التعذيب ، فلماذا تخبو النار أو تنطفئ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب؟
المتأمل في الآية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب؛ لأن استدامة الشيء يُوطِّن صاحبه عليه ، واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إِلْف له ، فإنْ خَبتِ النار أو هدأتْ فترةً فإنهم سيظنون أن المسألة انتهت ، ثم يُفاجئهم العذاب من جديد ، فهذا أنكَى لهم وآلم في تعذيبهم .
وهذا يُسمُّونه في البلاغة " اليأس بعد الإطماع " ، كما جاء في قول الشاعر :
فَأصْبَحْتُ مِنْ لَيْلَى الغَداةَ كَقَابِضٍ ... عَلَى المَاء خَانَتْهُ فُرُوجُ الأَصَابِع
في السجون والمعتقلات يحدث مثل هذا ، فترى السجين يشتد به العطش إلى حَدٍّ لا يطيقه ، فيصيح بالحارس ويتحنن إليه ويرجوه كوباً من الماء ، فيأتي له بكوب الماء حتى يكون على شَفَتَيْه ، ويطمع في أنْ يبلّ ريقه ويطفئ غُلَّته ، فإذا بالحارس يسكبه على الأرض ، وهذا أنكى وأشدّ في التعذيب .
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله :
كَمَا أبرقَتْ قَوْمَاً عِطَاشاً غَمَامَةٌ ... فَلَمَّا رَجَوْهَا أقْشَعَتْ وتَجلَّتِ
أي : ساعة أَنْ رأوْهَا ، واستشرفوا فيها الماء إذا بها تنقشع وتتلاشى ، وتُخيِّب رجاءهم فيها .
وكذلك من ألوان العذاب التي قد يظنُّها البعض لَوْناً من الراحة في جهنم والعياذ بالله ، أن الله تعالى يُبَدِّل جلودهم بجلود أخرى جديدة ، لا رحمةً بهم بل نكايةً فيهم ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب . . } [ النساء : 56 ]
لأن الجلود إذا نضجتْ وتفحَّمت امتنع الحِسُّ ، وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب ، إذن : العلة من تبديل الجلود تجديد الحسِّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة . ومنذ عهد قريب كانوا يظنون أن الحسَّ يأتي من المخ ، إلا أنهم لاحظوا على الإنسان إحساساً قبل أن يصل شيء للمخ .
فمثلاً : لو أشرت بأصبعك إلى عين إنسان تراه يُغمِض عينه قبل أنْ تلمسه ، وفسَّروا ذلك بما يسمونه العكس في النخاع الشوكي ، ثم توالت البحوث للتعرف على مناط الحسِّ في الإنسان أيْن هي؟ إلى أن انتهت تلك الأبحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ، من أن الجلد هو مركز الإحساس في الإنسان ، بدليل أنك إذا أخذتَ حقنة مثلاً ، فبمجرد أن تخترق طبقة الجلد لا تشعر بألمها .
فمن أين عرف العرب هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إنه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآني للعرب ولغيرهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا . . . } .
(1/5319)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
{ ذَلِكَ } أي : ما حدث لهم من العذاب الذي تستبشعه أنت { جَزَآؤُهُم } أي : حاق بهم العذاب عَدْلاً لا ظُلْماً ، فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذَك بهم رَأْفة أو رحمة؛ لأنهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم ، والذي يعطف قلوب الناس على أهل الإجرام هو تأخير العقاب .
فهناك فَرْقٌ بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة ، وهي ما تزال بشعةً في نفوس الناس ، وما تزال نارها تشتعل في القلوب ، فإنْ عاقبتَ في هذا الجو كان للعقوبة معنىً ، وأحدثتْ الأثر المرجوّ منها وتعاطفَ الناس مع المظلوم بدلَ أنْ يتعاطفوا مع الظالم .
فحين نُؤخِّر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فلا شَكَّ أن الجريمة ستُنْسَى وتبرد نارها ، وتتلاشى بشاعتها ، ويطويها النسيان ، فإذا ما عاقبتَ المجرم فلن يبدو للناس إلاَّ ما يحدث من عقوبته ، فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه .
إذن : قبل أن تنظر إلى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب . . } [ النساء : 56 ]
وإلى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ]
انظر إلى ما فعلوه ، واعلم أن هذا العذاب بعدل الله ، فأحذر أنْ تأخذك بهم رحمة ، ففي سورة النور يقول تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ]
ثم يوضح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب : { بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا . . } [ الإسراء : 98 ] والآيات تطلق على الآيات الكونية ، أو على آيات المعجزات المؤيّدة لِصِدْق الرسول ، أو آيات القرآن الحاملة للأحكام . . وقد وقع منهم الكفر بكل الآيات ، فكفروا بالآيات الكونية ، ولم يستدلوا بها على الخالق سبحانه ، ولم يتدبّروا الحكمة من خَلْق هذا الكون البديع ، وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم يُؤمنوا بما جاءتْ به .
وهذا كله يدلُّ على نقص في العقيدة ، وخَلَل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم ، وكذلك كذَّبوا بمعجزات الرسول ، فدلَّ ذلك على خَلَل في التصديق .
ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أنْ قالوا : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 98 ] وهذا القول منهم تكذيبٌ لآيات القرآن التي جاءتْ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومُحاسَبُون ، وهم بهذا القَوْل قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو : البعث بعد الموت .
وقوله : { عِظَاماً وَرُفَاتاً . . } [ الإسراء : 98 ] الرفات : هو الفُتَات وَزْناً ومعنىً ، وهو : الشيء الجاف الذي تكسّر؛ لذلك جاءت لترتيب هكذا : عظاماً ورُفَاتاً؛ لأن جسم الإنسان يتحلّل وتمتصُّ الأرض عناصر تكوينه ، ولا يبقى منه إلا العظام ، وبمرور الزمن تتكسّر هذه العظام ، وتتفتتْ وتصير رفاتاً ، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً .
(1/5320)
وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . . } [ الإسراء : 98 ] والهمزة هنا استفهام يفيد الإنكار ، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت؟
نقول : لأن الكافر عنده لَدَدٌ في ذات إيمانه ، ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أنْ ينكر البعث ، وعلى فَرْض أنه سيحدث فإنهم سيكونون في الآخرة سادة ، كما كانوا سادةً في الدنيا . وهؤلاء القوم يفهمون الحياة على ظاهرها ، فالحياة عندهم هي الحركة الحسية التي يمارسونها ، وبها يعيشون حياتهم هذه ، ولا يدركون أن لكل شيء حياةً تناسبه .
فمثلاً : علماء الجيولوجيا والحَفْريات يقولون : إن الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغّير بمرور الزمن ، وتتحول إلى موادّ أخرى ، إذن : ففيها حركة وتفاعل أو قُلْ فيها حياة خاصة بها تناسبها ، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا ، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة التي يفهمها هؤلاء .
فالإنسان الحيّ مثلاً له في مظهرية أموره حالتان : حالة النوم وحالة اليقظة ، فحياته في النوم محكومة بقانون ، وحياته في اليقظة محكومة بقانون ، هذا وهو ما يزال حياً يُرزَق ، إذن : عندما نخبرك أن لك قانوناً في الموت وقانوناً في البعث فعليك أنْ تُصدِّق .
ألم تَرَ النائم وهو مُغْمَض العينين يرى الرؤيا ، ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان ، وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة ، هو أيضاً يرى الرؤيا كما يراها المبصر تماماً ويحكيها لك ، يقول : رأيتُ كذا وكذا ، كيف وهو في اليقظة لا يرى؟
نقول : لأن للنوم قانوناً آخر ، وهو أنك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة ، ولك في النوم حياة مستقلة غير حياة اليقظة . أَلاَ ترى الرجلين ينامان في فراش واحد ، وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة يصحو منها ضاحكاً مسروراً ، والآخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة مُحزِنة يصحو فيها مُكدّراً محزوناً ، ولا يدري الواحد منهم بأخيه ولا يشعر به ، لماذا؟
لأن لكل منهما قانونه الخاص ، وحياته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد .
وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة ، في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما يمكن للذهن متابعته في النوم لا يتجاوز سبع ثوان ، مما يدلُّ على أن الزمن في النوم مُلْغي ، كما أن أدوات الإدراك ملغاة ، إذن : فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة ، وكذلك في الموت لك حياة ، وفي البعث لك حياة ، ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها .
وقد يقول قائل عن الرُّؤَى : إنها مجرد تخيُّلات لا حقيقةَ لها ، لكن يَرُدّ هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرُّؤْيا الذي يحكي لك أنه أكل طعاماً ، أو شرب شراباً ما يزال طَعْمه في فمه ، وآخر ضُرِب ، ويُريك أثر الضرب على ظهره مثلاً ، وآخر يصحو من النوم يتصبَّب عَرقاً ، وكأنه كان في عراك حقيقي لا مجرد منام .
(1/5321)
فالحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُوضّح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص ، لنأخذ من هذا دليلاً على حياة أخرى بعد الموت .
والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات ، والمراد بها : إذا كانت اليقظة لها قانون ، والنوم له قانون ألطف وأخفّ من قانون اليقظة ، فبالتالي للموت قانون أخفّ من قانون النوم ، وللبعث قانون أخف من قانون الموت .
وقد حَسَم القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . } [ القصص : 88 ]
أي : كلُّ ما يُقَال له شيء في الوجود هالك إلا الله تعالى فهو الباقي ، والهلاك ضدّه الحياة ، بدليل قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . } [ الأنفال : 42 ] إذن : لكل شيء مهما صَغُر في كَوْن الله حياة خاصة تناسبه قبل أنْ يعتريه الهلاك .
ولذلك نعجب حينما يطالعنا العلماء بأن في علبة الكبريت هذه التي نضعها في جيوبنا قوة تجاذب بين ذراتها ، تصلح هذه القوةَ لتسيير قطار حول العالم لمدة ست سنوات ، سبحان الله . . أين هذه القوة؟ إنها موجودة لكِنّنا لا نشعر بها ولا ندركها ، إنما الباحثون في معاملهم يمكنهم ملاحظة مثل هذه الحركة وتسجيلها .
وأقرب من ذلك ظاهرة الجاذبية التي تعلَّمناها منذ الصِّغَر والتي تعتمد على ترتيب الذرّات ترتيباً مُعيناً ، ينتج عنه المُوجَب والسالب ، فيتم التجاذب فكانوا يضعون لها بُرادَة الحديد في أنبوبة ، ويُمَرِّرون عليها قضيباً مُمغْنَطاً ، فنرى برادة الحديد تتحرك في نفس اتجاه القضيب .
إذن : في الحديد حركة وحياة بين ذراته ، حياة تناسبه بلغتْ من الدقة مَبْلَغاً فوق مستوى إدراكك .
إذن : نستطيع القول بأن للعظام وللرفات حياةً ، ولك أيها المنكر وجود حتى بعد أنْ صِرْتَ رُفاتاً ، فشيء منك موجود يمكن أن يكون نواةً لخلْقِك من جديد ، وبمنطق هؤلاء المنكرين أيهما أهوَنْ في الخَلْق : الخَلْق من شيء موجود ، أم الخَلْق ابتداءً؟
وقد رد عليهم الحق سبحانه بقوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ]
أي : في علمه سبحانه عدد ذرات كل مِنّا ، وكم في تكوينه من مواد ، لا ينقص من ذلك شيء ، وهو سبحانه قادر على جمع هذه الذرات مرة أخرى ، وليس أمره تعالى متوقفاً على العلم فقط ، بل عنده كتاب دقيق يحفظ كل التفاصيل ، ولا يغيب عنه شيء .
وقال تعالى كذلك في الرد عليهم : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ] أي : في خَلْط وشَكٍّ وتردُّد .
وقد ناقشنا مِنْ منكري البعث الشيوعيين الذي قتَّلوا في أعدائهم ، وأخذوا أموالهم مُعاقبةً لهم على ما اقترفوه من ظلم الناس ، فكنت أقول لهم : فما بال الذين ماتوا من هؤلاء ، ولم يأخذوا حظّهم من العقاب؟ وكيف يذهبون هكذا ويُفلتون بجرائمهم؟ لقد كان الأَوْلَى بكم أنْ تؤمنوا بالآخرة التي يُعاقب فيها هؤلاء الذين أفلتوا من عقاب الدنيا ، حتى تتحقق عدالة الانتقام .
(1/5322)
وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 98 ]
إنهم يستبعدون البعث من جديد؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يجاري هؤلاء ويتسامح معهم ، فيقول : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ . . } [ الروم : 27 ]
فإعادة شيء كان موجوداً أسهلُ وأهونُ من إيجاده مِنْ لا شيء ، والحديث هنا عن بَعْث الإنسان ، هذا المخلوق الذي أبدعه الخالق سبحانه ، وجعله سيد هذا الكون ، وجعل عمره محدوداً ، فما بالكم تنشغلون بإنكار بعث الإنسان عن باقي المخلوقات وهي أعظم الخَلْقِ في الإنسان ، وأطول منه عُمراً ، وأثبت منه وأضخم .
فلا تَنْسىَ أيها الإنسان أن خَلْقك أهونُ وأسهلُ من مخلوقات أخرى كثيرة هي أعظم منك ، ومع ذلك تراها خاضعة لله طائعة ، لم تعترض يوماً ولم تنكر كما أنكرت ، يقول تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس . . } [ غافر : 57 ]
فمَنْ ينكر بَعْث الإنسان بعد أن يصير رفاتاً عليه أن يتأمل مثلاً الشمس كآية من آيات الله في الكون ، وقد خلقها الله قبل خَلْق الإنسان ، وستظل إلى ما شاء الله ، وهي تعطي الضوء والدفء دون أنْ تتوقف أو تتعطّل ، ودون أن تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار ، وهي تسير بقدرة الخالق سبحانه مُسخَّرة لخدمتك ، ما تخلَّفتْ يوما ولا اعترضتْ . فماذا يكون خَلْقك أنت أيها المنكر أمام قدرة الخالق سبحانه؟
والحق سبحانه يقول : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض . . . } .
(1/5323)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ . . } [ الإسراء : 99 ]
إذا جاءت همزة الاستفهام بعدها واو العطف وبعدها نفي ، فاعلم أن الهمزة دخلتْ على شيء محذوف ، إذن : فتقدير الكلام هنا : أيقولون ذلك ويستبعدون البعث ولم يَرَوْا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أنْ يخلق مثلهم .
وقوله تعالى : { مِثْلَهُمْ } أي : يخلقهم هم ويُعيدهم من جديد؛ لأن الخَلْق إنشاء جديد ، فهُمْ خَلْق جديد مُعَادٌ ، فالمثلية هنا في أنهم مُعَادون ، أو يكون المراد { مِثْلَهُمْ } أي : ليسوا هم ، بل خَلْق مختلف عنهم على اعتبار أنهم كانوا في الدنيا مختارين ، ولهم إرادات ، أما الخلق الجديد في الآخرة وإنْ كان مثلهم في التكوين إلا أنه عاد مقهوراً على كل شيء لا إرادةَ له؛ لأنه الآن في الآخرة التي سينادي فيها الخالق سبحانه : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
وقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً } [ الإسراء : 99 ] أي : أن القيامة التي كذَّبوا بها وأنكروها واقعة لا شكّ فيها ، لكن هؤلاء معاندون مُصِرُّون على الكفر مهما أتيتَ لهم بالأدلة ، ومهما ضربتَ لهم الأمثلة ، فإنهم مُصمِّمون على الإنكار؛ لأن الإيمان سيسلبهم ما هم فيه من السيادة وما يدعونه من العظمة ، الإيمان سيُسوّي بينهم وبين العبيد ، وسيُقيّد حريتهم فيما كانوا فيه من ضلال وفساد .
لكن هؤلاء السادة والعظماء الذين تأبَّوْا على الإيمان ، وأنكروا البعث خوفاً على مكانتهم وسيادتهم وما عندهم من سلطة زمنية ، ألم تتعرَّضوا لظلم من أحد في الدنيا؟ ألم يعتَدِ عليكم أحد؟ ألم يسرق منكم أحد ولم تتمكنوا من الإمساك به ومعاقبته؟ لقد كان أَوْلَى بكم الإيمان بالآخرة حيث تتحقق عدالة العقاب وتنالون حقوقكم مِمَّنْ ظلمكم ، أو اعتدى عليكم .
ثم ينتقل السياق القرآني إلى موضوع جديد ، حيث يقول تعالى : { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي . . . } .
(1/5324)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قوله تعالى : { قُل } أمر من الحق سبحانه وتعالى أنْ يقولَ لأمته هذا الكلام ، وكان يكفي في البلاغ أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمته : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي . . لكن النبي هنا يحافظ على أمانة الأداء القرآني ، ولا يحذف منه شيئاً؛ لأن المتكلم هو الله ، وهذا دليلٌ على مدى صدق الرسول في البلاغ عن ربه .
ومعنى { خَزَآئِنَ } هي ما يُحفظ بها الشيء النفيس لوقته ، فالخزائن مثلاً لا نضع بها التراب ، بل الأشياء الثمينة ذات القيمة .
ومعنى : { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي . . } [ الإسراء : 100 ] أي : خَيْرات الدنيا من لَدُن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة ، وإنْ من شيء يحدث إلى قيام الساعة إلا عند الله خزائنه ، فهو موجود بالفعل ، ظهر في عالم الواقع أو لم يظهر : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] أي : أنه موجود في عِلْم الله ، إلى حين الحاجة إليه .
لذلك لما تحدَّث الحق سبحانه عن خلق الآيات الكونية في السماء والأرض قال : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 9-10 ]
نلاحظ أن قوله تعالى { وَبَارَكَ فِيهَا } جاءت بعد ذِكْر الجبال الرواسي ، ثم قال : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا . . } [ فصلت : 10 ] كأن الجبال هي مخازن القوت ، وخزائن رحمة الله لأهل الأرض . والقوت : وهو الذي يتمّ به استبقاء الحياة ، وهذا ناشئ من مزروعات الأرض ، وهذه من تصديقات القرآن لطموحات العلم وأسبقية إخبار بما سيحدث ، فهاهو القرآن يخبر بما اهتدى إليه العلم الحديث من أن العناصر التي تُكوّن الإنسان هي نفس عناصر التربة الزراعية التي نأكل منها .
لكن ، كيف تكون الجبال مخازن القوت الذي جعله الله في الأرض قبل أن يُخْلَق الإنسان؟
نقول : إن الجبال هي أساس التربة التي نزرعها ، فالجبل هذه الكتلة الصخرية التي تراها أمامك جامدة هي في الحقيقة ليست كذلك؛ لأن عوامل التعرية وتقلبات الجو من شمس وحرارة وبرودة ، كل هذه عوامل تُفتِّت الصخر وتُحدِث به شروخاً وتشققات ، ثم يأتي المطر فيحمل هذا الفُتات إلى الوادي ، ولو تأملتَ شكل الجبل وشكل الوادي لوجدتهما عبارة عن مثلثين كل منهما عكس الآخر ، فالجبل مثلث رأسه إلى أعلى ، وقاعدته إلى أسفل ، والوادي مثلث رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى .
وهكذا ، فكُلُّ ما ينقص من الجبل يزيد في الوادي ، ويُكوِّن التربة الصالحة للزراعة ، وهو ما يسمى بالغِرْيَن أو الطمى؛ لذلك حَدَّثونا أن مدينة دمياط قديماً كانت على شاطئ البحر الأبيض ، ولكن بمرور الزمن تكوَّنت مساحات واسعة من هذا الغِرْيَن أو الطمي الذي حمله النيل من إفريقيا ففصل دمياط عن البحر ، والآن وبعد بناء السد وعدم تكوُّن الطمي بدأت المياة تنحت في الشاطئ ، وتنقص فيه من جديد .
(1/5325)
إذن : فقوله تعالى عن بداية خلق الأرض : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا . . } [ فصلت : 10 ] كأنه يعطينا تسلسلاً لخَلْق القُوت في الأرض ، وأن خزائن الله لا حدودَ لها ولا نفادَ لخيراتها .
ثم يقول تعالى : { إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً } [ الإسراء : 100 ]
أي : لو أن الله تعالى ملَّك خزائن خيراته ورحمته للناس ، فأصبح في أيديهم خزائن لا تنفد ، ولا يخشى صاحبها الفقر ، لو حدث ذلك لأمسك الإنسان وبخِلَ وقَتَر خوف الفقر؛ لأنه جُبِل على الإمساك والتقتير حتى على نفسه ، وخوف الإنسان من الفقر ولو أنه يملك خزائن رحمة الله التي لا نفادَ لها ناتج عن عدم مقدرته على تعويض ما أَنفق؛ ولأنه لا يستطيع أنْ يُحدِث شيئاً .
والبخل يكون على الغير ، فإنْ كان على النفس فهو التقتير ، وهو سُبَّة واضحة ومُخزِية ، فقد يقبل أن يُضَيِّق الإنسانُ على الغير ، أما أنْ يُضيق على نفسه فهذا منتهى ما يمكن تصوّره؛ لذلك يقول الشاعر في التندُّر على هؤلاء :
يُقتِّر عِيسَى عَلَى نَفْسِه ... وَلَيْسَ بِبَاقٍ وَلاَ خَالِد
فَلَوْ يستطيعُ لتَقتِيرِه ... تنفَّسَ مِنْ مَنْخرٍ وَاحِدِ
ويقول أيضاً :
لَوْ أنَّ بيتَكَ يَا ابْنَ يوسف كُلُّه ... إبرٌ يَضِيقُ بِهاَ فَضَاءُ المنْزِلِ
وأَتَاكَ يُوسُفُ يَستعِيرُكَ إبْرةً ... لِيَخيطَ قدَّ قميِصِهِ لَمْ تفْعَلِ
فالإنسان يبخل على الناس ويُقتِّر علَى نفسه؛ لأنه جُبِل علَى البخل مخافة الفقر ، وإنْ أُوتِي خزائن السماوات والأرض .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } .
(1/5326)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
وقد سبق أن اقترح كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة آيات ذُكرَتْ في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 90-93 ]
فأراد الحق سبحانه أنْ يُلفِت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أنْ يطلبوها ، ومع ذلك كفروا ، فالمسألة كلها تعنّت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان .
ومعنى { بَيِّنَاتٍ . . } [ الإسراء : 101 ] أي : واضحات مشهورات بَلْقَاء كالصبح ، لأنها حدثت جميعها على مَرْأىً ومشهد من الناس .
والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون؛ لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون ، ومعجزاته إلى بني إسرائيل .
إذن : فقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . } [ الإسراء : 101 ] هي الآيات التي أُرسِل بها إلى فرعون وقومه وهي : العصا التي انقلبتْ حية ، واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء مُنورة ، وأَخْذ آل فرعون بالسنين ونَقْصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ، ثم لما كذَّبوا أنزل الله عليهم الطوفان ، والجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم ، هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى وفرعون .
أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة ، وإنزال المنِّ والسَّلْوى عليهم ، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل .
وقوله تعالى : { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ . . } [ الإسراء : 101 ] والأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى عليه السلام وقد ماتوا ، والموجود الآن ذريتهم؟ نقول : لأن السؤال لذريتهم هو عَيْن سؤالهم ، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلاً بعد جيل؛ لذلك قال تعالى مُخاطباً بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } [ إبراهيم : 6 ]
والنجاة لم تكُنْ لهؤلاء ، بل لأجدادهم المعاصرين لفرعون ، لكن خاطبهم الحق بقوله { أَنجَاكُمْ } لأنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وُجِدُوا هم ، فكأن نجاة السابقين نجاةٌ للاحقين .
ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه ، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزَّلة كالتوراة والإنجيل ، أما مشركو قريش فليس لهم صِلَة سابقة بوَحْي السماء؛ لذلك لما كذَّبوا رسول الله خاطبه بقوله :
(1/5327)
{ قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ]
لأن الذي عنده عِلْم من الكتاب : اليهود أو النصارى عندهم عِلْم في كتابهم وبشارة ببعثة محمد ، وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته ، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، بل وأكثر من معرفتهم لأبنائهم ، كما قال واحد منهم .
وسؤال رسول الله لبني إسرائيل سؤالَ حُجَّةٍ واستشهاد؛ لأن قومه سألوه وطلبوا أنْ يظهر لهم عدة آيات سبق ذِكْرها لكي يؤمنوا به ، فأراد أنْ يُنبّههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مَرِّ العصور ، وقد أنزل الله لهم الآيات الواضحات والمعجزات الباهرات ومع ذلك كفروا ولجُّوا ولم يؤمنوا ، فقوم فرعون رَأَوْا من موسى تسع آيات وكفروا ، وقوم صالح : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا . . } [ الإسراء : 59 ] ولَيْتهم كذَّبوا وكفروا بهذه الآية فحَسْب ، بل واعتدَوْا عليها وعقروها .
لذلك قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات . . } [ الإسراء : 59 ] أي : التي اقترحوها { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون . . } [ الإسراء : 59 ] وما دام كذَّب بها الأولون فسوف يُكذِّب بها هؤلاء؛ لأن الكفر مِلَّة واحدة في كل زمان ومكان .
إذن : مسألة طلب الآيات واقتراح المعجزات ليستْ في الحقيقة رغبة في الإيمان ، بل مجرد عناد ولَجَج ومحاولة للتعنُّت والجدَل العقيم لإضاعة الوقت .
ثم يقول تعالى : { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ } [ الإسراء : 101 ] أي : بعد أنْ رأى الآيات كلها : { إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] فاتهمه بالسحر بعد أنْ أراه كُلَّ هذه الدلائل والمعجزات .
وكلمة { مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] اسم مفعول بمعنى سحره غيره ، وقد يأتي اسم المفعول دالاً على اسم الفاعل لحكمة ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ]
والحجاب يكون ساتراً لا مستوراً ، لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستوراً مبالغة في السَّتْر ، كما نبالغ نحن الآن في استعمال الستائر ، فنجعلها من طبقتين مثلاً .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ]
فالظل نفسه مُظلَّل ، ونستطيع أن نلاحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحرِّ تحت شجرة ، فسوف نجد الهواء تحتها رَطباً بارداً ، لماذا؟ لأن أوراق الشجر مُتراكمة يُظلّل بعضها بعضاً ، فتجد أعلاك طبقات متعددة من الظل ، فتشعر في النهاية بجو لطيف مُكيف تكييفاً ربانياً .
إذن : قوله { مَسْحُوراً } تفيد أنه سحَر غيره ، أو سحره غيره؛ لأن المسحور هو الذي أَلَمَّ به السحر ، إما فاعلاً له ، أو مفعولاً عليه . وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] والمسحور بمعنى المخبول الذي أثّر في السحر ، فصار مخبولاً مجنوناً ، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رَدُّه وضَحْده .
فإنْ كان ساحراً ، فكيف يسحره غيره؟! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به؟ لماذا تأبَّيتم أنتم على سحره فلم تؤمنوا؟ وإنْ كان مسحوراً مَخْبُولاً ، والمخبول تتأتّى منه حركات وأقوال دون أنْ تَمُرّ على العقل الواعي الذي يختار بين البديلات ، فلا يكون له سيطرة على إراداته ولا على خُلقه ، فهل عهدكم بمحمد أنْ كان مَخبولاً؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات؟
لذلك رَدَّ الحق سبحانه عليهم هذا الافتراء بقوله تعالى :
(1/5328)
{ ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1-4 ]
والمجنون لا يكون على خُلُق أبداً .
وسوف يناقض فرعون نفسه ، فبعد أنْ اتهم موسى بالسحر ، ثم كانت الغَلَبة لموسى ، وخَرَّ السحرة ساجدين ، قال : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر . . } [ طه : 71 ] وهذا دليل على التخبُّط والإفلاس .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ . . } .
(1/5329)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
أي : قال موسى لفرعون ، والتاء في { عَلِمْتَ } مفتوحة أي : تاء الخطاب ، فهو يُكلِّمه مباشرة ويُخاطبه : لقد علمتَ يا فرعون عِلْمَ اليقين أنني لستُ مسحوراً ولا مخبولاً ، وأن ما معي من الآيات مما شاهدته وعاينته من الله رب السماوات والأرض ، وأنت تعلم ذلك جيداً إلا أنك تنكره ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً . . } [ النمل : 14 ]
إذن : فعندهم يقينٌ بصدق هذه المعجزات ، ولكنهم يجحدونها؛ لأنها ستزلزل سلطانهم ، وتُقوِّض عروشهم .
وقوله تعالى : { بَصَآئِرَ . . } [ الإسراء : 102 ] أي : أنزل هذه الآيات بصائر تُبصّر الناس ، وتفتح قلوبهم ، فيُقبلوا على ذلك الرسول الذي جاء بآية معجزة من جنس ما نبغَ فيه قومه .
ثم لم يَفُتْ موسى عليه السلام وقد ثبتتْ قدمه ، وأرسى قواعد دعوته أمام الجميع أنْ يُكلِّم فرعونَ من منطلق القوة ، وأن يُجابهه واحدة بواحدة ، فيقول : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً } [ الإسراء : 102 ] فقد سبق أنْ قال فرعون : { إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] فواحدة بواحدة ، والبادي أظلم .
والمثبور : الهالك ، أو الممنوع من كُلِّ خير ، وكأن الله تعالى أطْلعَ موسى على مصير فرعون ، وأنه هالكٌ عن قريب . وعلى هذا يكون المجنون على أية حال أحسن من المثبور ، فالمجنون وإنْ فقد نعمة العقل إلا أنه يعيش كغيره من العقلاء ، بل ربما أفضل منهم ، لأنك لو تأملتَ حال المجنون لوجدته يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء دون أنْ يتعرّض له أحد أو يُحاسبه أحد ، وهذا مُنْتَهى ما يتمناه السلاطين والحكام وأهل الجبروت في الأرض ، فماذا ينتظر القادة والأمر إلاَّ أن تكون كلمتهم نافذة ، وأمرهم مُطَاعاً؟ وهذا كله ينعَم به المجنون .
وهنا يقول قائل : ما الحكمة من بقاء المجنون على قَيْد الحياة ، وقد سلبه الله أعظم ما يملك ، وهو العقل الذي يتميز به؟
نقول : أنت لا تدري أن الخالق سبحانه حينما سلبه العقل ماذا أعطاه؟ لقد أعطاه ما لو عرفته أنت أيُّها العاقل لتمنيتَ أنْ تُجَنَّ!! أَلاَ تراه يسير بين الناس ويفعل ما يحلو له دون أنْ يعترضه أحد ، أو يؤذيه أحد ، الجميع يعطف عليه ويبتسم في وجهه ، ثم بعد ذلك لا يُحاسَب في الآخرة ، فأيُّ عِزٍّ أعظم من هذا؟
إذن : سَلْب أيّ نعمة مساوية لنعم الآخرين فيها عطاء لا يراه ولا يستنبطه إلا اللبيب ، فحين ترى الأعمى مثلاً فإياك أنْ تظنّ أنك أفضل منه عند الله ، لا ليس مِنّا مَنْ هو ابنٌ لله ، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب ، نحن أمام الخالق سبحانه سواء ، فهذا الذي حُرِم نعمة البصر عُوِّض عنها في حواس أخرى ، يفوقك فيها أنت أيها المبصر بحيث تكون الكِفَّة في النهاية مُسْتوية .
(1/5330)
واسمع إلى أحد العِمْيان يقول :
عَمِيتُ جَنِيناً والذكَاءُ مِنَ العَمَى ... فجئتُ عَجِيبَ الظَّنِّ للعِلْم مَوْئِلاً
وَغَاب ضِيَاءُ العَيْن للقلْبِ رافداً ... لِعِلْمٍ إذَا مَا ضيَّع الناسُ حَصّلا
فحدِّث عن ذكاء هؤلاء وفِطْنتهم وقوة تحصيلهم للعلم ولا حرج ، وهذا أمر واضح يُشاهده كُلُّ مَنْ عاشر أعمى . وهكذا تجد كُلَّ أصحاب العاهات الذين ابتلاهم الخالق سبحانه بنقص في تكوينهم يُعوِّضهم عنه في شيء آخر عزاءً لهم عما فَاتهم ، لكن هذا التعويض غالباً ما يكون دقيقاً يحتاج إلى مَنْ يُدرِكه ويستنبطه .
وكذلك نرى كثيرين من هؤلاء الذين ابتلاهم الله بنقْصٍ ما يحاولون تعويضه ويتفوقون في نواحٍ أخرى ، ليثبتوا للمجتمع جدارتهم ويُحدِثوا توازناً في حياتهم ليعيشوا الحياة الكريمة الإيجابية في مجتمعهم .
ومن ذلك مثلاً العالم الألماني ( شاخْت ) وقد أصيب بِقصَرٍ في إحدى ساقيْه أعفاه من الخدمة العسكرية مع رفاقه من الشباب ، فأثَّر ذلك في نفسه فصمَّم أنْ يكون شيئاً ، وأنْ يخدُمَ بلده في ناحية أخرى ، فاختار مجال الاقتصاد ، وأبدع فيه ، ورسم لبلاده الخُطّة التي تعينها في السِّلْم وتعويضها ما فاتها في الحرب ، فكان ( شاخْت ) رجل الاقتصاد الأول في ألمانيا كلها .
ويجب أن نعلم أن التكوين الإنساني وخَلْق البشر ليس عملية ميكانيكية تعطي نماذج متماثلة تماماً ، إبداع الخالق سبحانه ليس ماكينة كالتي تصنع الأكواب مثلاً ، وتعطينا قِطَعاً متساوية ، بل لا بُدَّ من الشذوذ في الخَلْق لحكمة؛ لأن وراء الخلق إرادة عليا للخالق سبحانه ، ألا ترى الأولاد من أب واحد وأم واحدة وتراهم مختلفين في اللون أو الطول أو الذكاء . . الخ؟!
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ . . } [ الروم : 22 ]
إنها قدرةٌ في الخَلْق لا نهاية لها ، وإبداعٌ لا مثيلَ له فيما يفعل البشر .
وهناك ملْمح آخر يجب أن نتنبه إليه ، هو أن الخالق سبحانه وتعالى جعل أصحاب النقص في التكوين وأصحاب العاهات كوسائل إيضاح ، وتذكُّر للإنسان إذا ما نسى فضْل الله عليه ، لأنه كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
فالإنسان كثيراً ما تطغيه النعمة ، ويغفل عن المنعم سبحانه ، فإذا ما رأى أصحاب الابتلاءات انتبه وتذكّر نعمة الله ، وربما تجد المبصر لا يشعر بنعمة البصر ولا يذكرها إلا إذا رأى أعمى يتخبَّط في الطريق ، ساعتها فقط يذكر نعمة البصر فيقول : الحمد لله .
إذن : هذه العاهات ليستْ لأن أصحابها أقلُّ مِنّا ، أو أنهم أهوَنُ على الله . . لا ، بل هي ابتلاء لأصحابها ، ووسيلة إيضاح للآخرين لِتلفِتهم إلى نعمة الله .
لكن الآفة في هذه المسألة أنْ ترى بعض أصحاب العاهات والابتلاءات لا يستر بَلْوَاه على ربه ، بل يُظهِرها للناس ، وكأنه يقول لهم : انظروا ماذا فعل الله بي ، ويتخذ من عَجْزه وعاهته وسيلةً للتكسُّب والترزّق ، بل وابتزاز أموال الناس وأَخْذها دون وَجْه حق .
(1/5331)
وفي الحديث الشريف : " إذَا بُلِيتم فاستتروا " .
والذي يعرض بَلْواه على الناس هكذا كأنه يشكو الخالق للخَلْق ، ووالله لو ستر صاحب العاهة عاهته على ربه وقبلها منه لساقَ له رزقه على باب بيته . والأدْهَى من ذلك أن يتصنّع الناس العاهات ويدَّعوها ويُوهِموا الناس بها لِيُوقِعوهم ، وليبتزّوا أموالهم بسيف الضعف والحاجة .
نعود إلى قصة موسى وفرعون لنستنبط منها بعض الآيات والعجائب ، وأوّل ما يدعونا للعجب أن فرعون هو الذي ربَّى موسى منذ أنْ كان وليداً ، وفي وقت كان يقتل فيه الذكور من أبناء قومه ، لنعلم أن الله يحول بين المرء وقلبه ، وأن إرادته سبحانه نافذة . فقد وضع محبة موسى في قلب فرعون وزوجته فقالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [ القصص : 9 ]
فأين ذهب عداوتُه وبُغْضه للأطفال؟ ولماذا أحبَّ هذا الطفلَ بالذات؟ ألم يكُنْ من البديهي أنْ يطرأ على ذِهْن فرعون أن هذا الطفل ألقاه أهله في اليَمِّ لينجو من القتل؟ ولماذا لم تطرأ هذه الفكرة البديهية على ذِهْنه؟ اللهم إلا قوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ . . } [ الأنفال : 24 ]
لقد طمس الله على قلب فرعون حتى لا يفعل شيئاً من هذا ، وحال بينه وبين قلبه لِيُبيِّن للناس جهل هذا الطاغية ومدى حُمْقه ، وأن وراء العناية والتربية للأهل والأسرة عنايةُ المربّي الأعلى سبحانه .
لذلك قال الشاعر :
إذَا لَمْ تُصَادِفْ مِنْ بَنيكَ عِنَايةً ... فَقدْ كذبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤملُ
فمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كافِرٌ ... وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض . . } .
(1/5332)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{ فَأَرَادَ } أي : فرعون . { أَن يَسْتَفِزَّهُم } كلمة " استفزَّ " سبق الكلام عنها في قوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ . . } [ الإسراء : 64 ] فالاستفزاز هو الإزعاج بالصوت العالي ، يقوم المنَادَى ويخفّ من مكانه ، وهذا الصوت أو هذه الصَّيْحة يُخرجها الفارس أو اللاعب كما نرى في لعبة الكراتيه مثلاً لِيُزعِج الخصم ويُخيفه ، وأيضاً فإن هذه الصيحة تشغَل الخَصْم ، وتأخذ جزءاً من تفكيره ، فيقِلّ تركيزه ، فيمكن التغلُّب عليه . ومن الاستفزاز قَوْل أحدِنا لابنه المتكاسل : فِزْ . أي : انهض وخِفّ للقيام .
إذن : المعنى : فأراد فرعون أنْ يستفزّهم ويخدعهم خديعة تُخرِجهم من الأرض ، فتخلو له من بعدهم ، وهذا دليلٌ على غباء فرعون وتغفيله وحماقته ، فما جاء موسى إلا ليأخذ بني إسرائيل ، كما جاء في قوله تعالى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 16-17 ]
فكأن غباء فرعون أعان القدر الذي جاء به موسى عليه السلام ولكن كان لله تعالى إرادة فوق إرادة فرعون ، فقد أراد أن يُخرج بني إسرائيل وتخلو له الأرض ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يستفزّه هو من الأرض كلها ومن الدنيا ، فأغرقه الله تعالى وأخذه أَخْذَ عزيز مقتدر ، وعاجله قبل أنْ يُنفذ ما أراد .
كما يقولون في الأمثال عند أهل الريف للذي هدَّد جاره بأنْ يحرق غلّته وهي في الجرن ، فإذا بالقدر يعالجه ( والغلة لسه فريك ) أي : يعاجله الموت قبل نُضْج الغلة التي هدد بحرقها ، فأغرقه الله ومَنْ معه جميعاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض . . } .
(1/5333)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قوله تعالى : { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد موسى { اسكنوا الأرض } أغلب العلماء قالوا : أي الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس ، التي قال تعالى عنها : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . . } [ المائدة : 21 ] فكان ردّهم على أمر موسى بدخول بيت المقدس : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا . . } [ المائدة : 22 ]
وقالوا : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]
لكن كلمة { الأرض } هنا جاءت مجرّدة عن الوَصْف { اسكنوا الأرض } دون أنْ يُقيِّدها بوصف ، كما نقول : أرض الحرم ، أرض المدينة ، وإذا أردتَ أنْ تُسكِنَ إنساناً وتُوطّنه تقول : اسكن أي : استقر وتوَطّن في القاهرة أو الإسكندرية مثلاً ، لكن اسكن الأرض ، كيف وأنا موجود في الأرض بالفعل؟! لا بُدَّ أن تُخصِّص لي مكاناً اسكن فيه .
نقول : جاء قوله تعالى { اسكنوا الأرض } هكذا دون تقييد بمكان معين ، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمتْ عليهم بالتفرُّق في جميع أنحاء الأرض ، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه ، كما قال تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً . . } [ الأعراف : 168 ]
والواقع يُؤيد هذا ، حيث نراهم مُتفرقِّين في شتَّى البلاد ، إلا أنهم ينحازون إلى أماكن مُحدَّدة لهم يتجمَّعون فيها ، ولا يذوبون في الشعوب الأخرى ، فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مُستقلة بذاتها لا تختلط بغيرها .
وقوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] والمراد بوَعْد الآخرة : هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل ، حيث قال تعالى عن إفسادهم الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 4-5 ]
فقد جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم في المدينة ، وفي بني قريظة وبني قَيْنُقاع ، وبني النضير ، وأجلاهم إلى أَذْرُعَات بالشام ، ثم انقطعت الصلة بين المسلمين واليهود فترة من الزمن .
ثم يقول تعالى عن الإفسادة الثانية لبني إسرائيل : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [ الإسراء : 7 ]
وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن ، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم ، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لا بُدَّ أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي لهم كما يقولون ، حتى إذا أراد أَخْذهم لم يُفلتوا ، ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر .
وهذا هو المراد من قوله تعالى : { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] أي : مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد ، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين .
ثم يقول الحق سبحانه : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ . . . } .
(1/5334)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
قوله تعالى : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ . . } [ الإسراء : 105 ]
الحق من حقَّ الشيء . أي : ثبت ، فالحقّ هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير أبداً ، أما الباطل فهو مُتغير مُتلوّن لأنه زَهُوق ، والباطل له ألوان متعددة ، والحق ليس له إلا لون واحد .
لذلك لما ضرب الله لنا مثلاً للحق والباطل ، قال سبحانه : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } [ الرعد : 17 ]
فإنْ رأيت في عَصْر من العصور خَوَرَاً يصيب أهل الحق ، وعُلُواً يحالف أهل الباطل فلا تغتر به ، فهو عُلُوّ الزَّبَد يعلو صَفْحة الماء ، ولا ينتفع الناس به ، وسرعان ما تُلقِى به الريح هنا وهناك لتجلوَ صفحة الماء الناصعة المفيدة ، أما الزَّبَد فيذهب جُفَاءً دون فائدة ، ويمكث في الأرض الماء الصافي الذي ينتفع الناس به في الزراعة ونحوها .
وهكذا الباطل مُتغيِّر مُتقلِّب لا ينتفع به ، والحق ثابت لا يتغير لأنه مَظْهرية من مَظْهريات الحق الأعلى سبحانه ، وهو سبحانه الحق الأعلى الذي لا تتناوله الأغيار .
وقوله : { أَنْزَلْنَاهُ . . } [ الإسراء : 105 ]
ونلاحظ هنا أن ضمير الغائب في { أَنْزَلْنَاهُ } لم يتقدَّم عليه شيء يُوضِّح الضمير ويعود إليه ، صحيح أن الضمير أعْرفُ المعارف ، لكن لا بُدَّ له من مرجع يرجع إليه . وهنا لم يُسبق الضمير بشيء ، كما سُبق بمرجع في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ . . } [ الإسراء : 88 ]
فهنا يعود الضمير في { بِمِثْلِهِ } إلى القرآن الذي سبق ذكره .
نقول : إذا لم يسبق ضمير الغائب بشيء يرجع إليه ، فلا بُدَّ أن يكون مرجعه مُتعيّناً لا يختلف فيه اثنانِ ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ]
فهو ضمير للغائب لم يسبق بمرجع له؛ لأنه لا يرجع إلا إلى الله تعالى ، وهذا أمر لا يُختَلفُ عليه .
كذلك في قوله تعالى : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ . . } [ الإسراء : 105 ]
أي : القرآن؛ لأنه شيء ثابت مُتعيّن لا يُختَلف عليه . وجاء الفعل أنزل للتعدية ، فكأن الحق سبحانه كان كلامه وهو القرآن محفوظاً في اللوح المحفوظ ، إلى أنْ يأتيَ زمان مباشرة القرآن لمهمته ، فأنزله الله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ]
وهذا هو المراد من قوله { أَنزَلْنَاهُ } ثم نُنزِّله مُنَجَّماً حَسْب الأحداث في ثلاث وعشرين سنة مُدَّة الدعوة كلها ، فكلما حدث شيء نزل القسط أو النجم الذي يعالج هذه الحالة .
و { أَنْزَلْنَاهُ .
(1/5335)
. } [ الإسراء : 105 ] أي : نحن ، فالمراد الحق سبحانه وتعالى هو الذي حفظه في اللوح المحفوظ ، وهو الذي أنزله ، وأنزله على الأمين من الملائكة الذي اصطفاه لهذه المهمة .
{ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] أي : جبريل عليه السلام الذي كرَّمه الله وجعله روحاً ، كما جعل القرآن روحاً في قوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا . . } [ الشورى : 52 ]
وقال عنه أيضاً : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ التكوير : 19 ]
والكريم لا يكتم شيئاً مِمّا أُوحى إليه : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20-21 ]
هذه صفات جبريل الذي نزل بالوحي من الحق سبحانه ، ثم أوصله لمن؟ أوصله للمصطفى الأمين من البشر : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين * وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [ التكوير : 22-25 ]
إذن : فالقرآن الذي بين أيدينا هو هو الذي نزل من اللوح المحفوظ ، وهو الحق الثابت الذي لا شَكَّ فيه ، والذي لم يتغيّر منه حرفٌ واحدٌ ، ولن يجد فيه أحد ثُغْرة للاتهام إلى أنْ تقومَ الساعة .
ثم يقول تعالى : { وبالحق نَزَلَ . . } [ الإسراء : 105 ] الأولى كانت : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ . . } [ الإسراء : 105 ]
أي : الوسائل التي نزل بها كلمة ثابتة ، وكلها حَقٌّ لا رَيْبَ فيه ولا شَكَّ { وبالحق نَزَلَ . . } [ الإسراء : 105 ] أي : مضمونه ، وما جاء به منهج ، معجزة حقٌّ لأنه تحدّى الفُصَحاء والبلغاء وأهل اللغة فأعجزهم في كل مراحل التحدي ، والقرآن يحتوي على منهج حق .
وأول شيء في منهج القرآن أنّه تكلّم عن العقائد التي هي الأصْل الأصيل لكل دين ، فقبل أنْ أقول لك : قال الله ، وأَمَر الله لا بُدَّ أن تعرف أولاً مَنْ هو الله ، ومَنْ الرسول الذي بلَّغ عن الله ، فالعقائد هي ينبوع السُّلوكيات .
إذن : تعرّض القرآن للإلهيات ، وأوضح أن الله تعالى إله واحد له صفات الكمال المطلق ، وتعرَّض للملائكة وللنبوات والمعجزات والمعاد واليوم الآخر ، كُلُّ هذا في العقائد؛ لأن الإسلام حرصَ أولاً على تربية العقيدة ، فكانت الدعوة في مكة تُركّز على هذا الجانب دون غيره من جوانب الدين لِيُربّيَ في المسلمين هذا الأصل الأصيل ، وهو الاستسلام لله ، وإلقاء الزمام إليه سبحانه وتعالى .
والإنسان لا يُلقي زمام حركته إلا لمَنْ يثق به ، فلا بُدَّ إذنْ من معرفة الله تعالى ، ثم الإيمان به تعالى ، ثم التصديق للمبلّغ عن الله .
وفي القرآن أيضاً أحكامٌ وشرائع ثابتة لا تتغير ، ولن تُنسَخ بشريعة أخرى؛ لأنها الشريعة الخاتمة ، كما قال تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ]
إذن : نزل القرآن بما هو حَقٌّ من : إلهيات وملائكة ونبوّات ومعجزات وأحكام وشرائع ، كلها حَقٌّ ثابت لا شَكَّ فيه ، فنزل الحق الثابت من الله بواسطة مَنِ اصطفاه من الملائكة وهو جبريل على مَنِ اصطفاه من الناس وهو محمد ، وفي طي ما نزل الحق الثابت الذي لا يتغير .
(1/5336)
وصدق الحق سبحانه حين قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
ونسوق هنا دليلاً عصرياً على أن كتاب الله جاء بالحق الثابت الذي لا يتغير على مَرِّ العصور ، ففي ألمانيا استحدث أحد رجال القانون قانوناً للتعسف في استعمال الحق ، وظنّوا أنهم جاءوا بجديد ، واكتشفوا سلاحاً جديداً للقانون ليعاقب مَنْ له حَقّ ويتعسّف في استعمال حقه .
ثم سافر إلى هناك محام من بني سويف للدراسة ، فقرأ عن القانون الجديد الذي ادعَوْا السبق إليه ، فأخبرهم أن هذا القانون الذي تدَّعُونه لأنفسكم قانون إسلامي ثابت وموجود في سُنّة رسول الله ، فعمدوا إلى كتب السيرة ، فوجدوا قصة الرجل الذي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً له نخلة يمتلكها داخل بيته ، أو أنها تميل في بيته ، فأخذها ذريعة وجعل منها مسمار جحا ، وأخذ يقتحم على صاحب البيت بيته بحجة أنه يباشر نخلته ، فماذا كان حكم الرسول في هذه المسألة؟
هذا الرجل له حَقٌّ في النخلة ، فهي مِلْكٌ له لكنه تعسَّف في استعمال حقه ، وأتى بما لا يليق من المعاملة ، فالمفروض ألاَّ يذهب إلى نخلته إلا لحاجة ، مثل : تقليمها ، أو تلقيحها ، أو جمع ثمارها .
لقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل وقال له : " إما أن تهبَ له هذه النخلة ، وإما أنْ تبيعها له ، وإما قطعناها " .
أليس ذلك من الحق الذي سبق به الإسلام؟ وأليس دليلاً على استيعاب شرع الله لكل كبيرة وصغيرة في حياة الناس؟
أَضِفْ إلى ذلك ما قاله بعض العلماء من أهل الإشراقات في معنى : { وبالحق نَزَلَ } أي : وعلى الحق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل القرآن كما تقول : ذهبت إلى القاهرة ونزلت بفلان . أي : نزلت عنده أو عليه .
ثم يقول تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الإسراء : 105 ]
والبشارة تكون بالخير ، والنذارة تكون بالشر ، ويُشترط في التبشير والإنذار أن تُعطَى للمبشَّر أو للمُنْذَر فرصة يراجع فيها نفسه ، ويُعدّل من سلوكه ، وإلا فلا فائدة ، ولا جدوى منهما ، فتُبشّر بالجنة وتُنذَر بالنار في مُتَّسَع من الوقت ليتمكن هذا من العمل للجنة ، ويتمكن هذا من الإقلاع عن سبيل النار .
ومثال ذلك : أنك تُبشِّر ولدك بالنجاح والمستقبل الباهر إن اجتهد ، وتحذره من الفشل إن أهمل ، وهذا بالطبع لا يكون ليلة الامتحان ، بل في مُتَّسَع أمامه من الوقت لينفذ ما تريد .
والحق سبحانه وتعالى هنا يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بحقيقة مهمته كرسول عليه البلاغ بالبشارة والنذارة ، فلا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها؛ لأنه ليس مُلْزَماً بإيمان القوم ، كما قال تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً }
(1/5337)
[ الكهف : 6 ]
أي : مُهلكها حُزْناً على عدم إيمانهم ، وفي آية أخرى قال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ]
فكأنه سبحانه يُخفِّف العِبْءَ عن رسوله ، ويدعوه ألاَّ يُتعِب نفسه في دعوتهم ، فما عليه إلا البلاغ ، وعلى الله تبارك وتعالى الهداية للإيمان .
لكن حِرْص رسول الله على هداية قومه نابع من قضية تحكمه وتستولي عليه لخَّصها في قوله : " والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كامل الإيمان ، ويحب لقومه أن يكونوا كذلك ، حتى أعداؤه الذين وقفوا في وجه دعوته كان إلى آخر لحظة في الصراع يرجو لهم الإيمان والنجاة؛ لذلك لما مُكِّن منهم لم يعالجهم بالعقوبة ، بل قال : " بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يُشرك به شيئاً " .
وفعلاً صدق الله ورسوله ، وجاء من ذريات هؤلاء مَنْ حملوا راية الدين ، وكانوا سيوفاً على أعدائه ، أمثال عكرمة بن أبي جهل ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وكثير من المسلمين كانوا حريصين على قَتْل هؤلاء حال كفرهم في معارك الإسلام الأولى ، وهم لا يعلمون أن الله لم يُمكِّنهم من هؤلاء لحكمة ، إنهم سوف يكونون معك من سيوف الإسلام وقادته .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس . . . } .
(1/5338)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
معنى { فَرَقْنَاهُ } أي : فصّلناه ، أو أنزلناه مُفرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث { على مُكْثٍ } على تمهُّل وتُؤدَة وتأنٍّ .
وقد جاءت هذه الآية للردِّ على الكفار الذين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة ، كما قال تعالى حكاية عنهم : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً . . } [ الفرقان : 32 ]
وأول ما نلحظه عليهم أن أسلوبهم فضحهم ، وأبان ما هُمْ فيه من تناقض ، ألم يسبق لهم أن اتهموا الرسول بافتراء القرآن . وهاهم الآن يُقِرُّون بأنه نزل عليه ، أي : من جهة أعلى ، ولا دَخْلَ له فيه ، وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يتهمون القرآن ، بل يتهمون رسول الله الذي نزل عليه القرآن .
ثم يتولّى الحق سبحانه الردّ عليهم في هذا الاقتراح ، ويُبيِّن أنه اقتراح باطل لا يتناسب وطبيعة القرآن ، فلا يصح أن ينزل جملة واحدة كما اقترحوا للأسباب الآتية :
1 . { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ . . } [ الفرقان : 32 ]
{ كَذَلِكَ } أي : أنزلناه كذلك على الأمر الذي تنتقدونه من أنه نزل مُفرّقاً مُنجّماً حسْب الأحداث { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ . . } [ الفرقان : 32 ] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتعرّض لكثير من تعنّتات الكفار ، وسيقف مواقف مُحرِجة من تعذيب وتنكيل وسخرية واستهزاء ، وهو في كل حالة من هذه يحتاج لتثبيت وتسلية .
وفي نزول الوحي عليه يَوْماً بعد يَوْم ، وحسْب الأحداث ما يُخفّف عنه ، وما يزيل عن كاهله ما يعاني من مصاعب ومَشَاقِّ الدعوة وفي استدامة الوحي ما يصله دائماً بمَنْ بعثه وأرسله ، أما لو نزل القرآن جملةً واحدة لكان التثبيت أيضاً مرة واحدة ، ولَفقد رسول الله جانب الصلة المباشرة بالوحي ، وهذا هو الجانب الذي يتعلق في الآية برسول الله .
2 . { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] أي : نَزَّلْنَاه مُرتّلاً مُفرّقاً آيةً بعد آية ، والرتل : هو المجموعة من الشيء . كما نقول : رتل من السيارات ، وهكذا نزل القرآن مجموعة من الآيات بعد الأخرى ، وهذه الطريقة في التنزيل تُيسِّر للصحابة حِفْظ القرآن وفَهْمه والعمل به ، فكانوا رضوان الله عليهم يخفظون القدر من الآيات ويعملون بها ، وبذلك تيسَّر لهم حفظ القرآن والعمل به ، فكانت هذه الميْزَة خاصة بالصحابة الذي حفظوا القرآن ، وما زلنا حتى الآن نُجِّزئ القرآن للحفظة ، ونجعله ألواحاً ، يحفظ الله تلو الآخر .
3 . { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ]
وهذه للمخالفين لرسول الله ، وللمعاندين لمنهج الله الذين سيعترضون عليه ، ويحاولون أن يستدركوا عليه أموراً ، وإن يتهموا رسول الله ، فلا بُدَّ من الردّ عليهم وإبطال حُجَجهم في وقتها المناسب ، ولا يتأتّى ذلك إذا نزل القرآن جملة واحدة .
{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي : بشيء عجيب يستدركون به عليك { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق } أي : ردّاً عليهم بالحق الثابت الذي لا جدالَ فيه .
(1/5339)
وإليك أمثلة لِردِّ القرآن عليهم رَدّاً حيّاً مباشراً .
فلما اتهموا رسول الله وقالوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] رَدَّ القرآن عليهم بقوله تعالى : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1-4 ]
ولما قالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق . . } [ الفرقان : 7 ] يردُّ القرآن عليهم بقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق . . } [ الفرقان : 20 ]
فليس محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً في هذه المسألة ، فهو كغيره من الرسل الذين عُرِفت عنهم هذه الصفات ، وفي هذا ما يؤكد سلامة الأُسْوة في محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه بشر مثل الذين أرسلنا إليهم من قبله ، إنما لو كانت في محمد خاصية ليست في غيره ربّما اعترضوا عليها واحتجُّوا بها .
لذلك كان من أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه ومع صحابته أنه قال : " إنما أنا بشر يرد عليَّ أي بالوحي فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " .
فانظر إلى أيّ حدٍّ كان تواضعه صلى الله عليه وسلم ؟
ولما اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ . . } [ سبأ : 8 ] فردّ عليهم الحق سبحانه بقوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ]
ثم يتنزّل معهم في هذا التحدي ، ويترأف بهم : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . } [ البقرة : 23 ]
ثم يناقشهم في هذه المسألة بهذا الأدب الرفيع والنموذج العالي للحوار : { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [ هود : 35 ]
وفي آية أخرى يقول : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ]
فانظر إلى هذا الأدب : رسول الله حين يتحدّث عن نفسه يقول { أَجْرَمْنَا } وحين يتحدث عن أعدائه لا ينسب إليهم الإجرام ، بل يقول : { وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
هذا كله من الحق الذي جاء به القرآن ليردّ عن رسول الله اتهامات القوم ، وبالله لو نزل القرآن جملةً واحدة ، أكان من الممكن الردُّ على هذه الاتهامات ومجادلة القوم فيما يُثيرونه من قضايا؟
إنْ كانت هذه الأمثلة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرئة ساحته في مجال الدعوة إلى الله ، فهناك أيضاً ما يتعلق بالأحكام والتشريع ، فالقرآن نزل بالعقائد والأحكام والتشريعات ، ونزل ليكون دائماً ثابتاً لا يتغير إلى يوم القيامة ، ولن يُنسَخ منه حرف واحد كما حدث في الكتب السابقة عليه .
فإن نظرتَ إلى العقائد وجدتَ الكلام فيها قاطعاً لا هوادةَ فيه ، يأتي هكذا قَوْلاً واحداً ، فالله واحد أحد لا شريك له ، له صفات الكمال المطلق ، وكذلك الحديث عن الملائكة والبَعْث والحساب .
(1/5340)
لكن تجد الأمر يختلف في الحديث عن العادات التي أَلِفها الناس في حركة الحياة ، فهذه أمور تحتاج إلى تلطُّف وتدرُّج ، ولا يناسبها القصْر والقَطْع . ألم تَرَ إلى المشرّع سبحانه حينما أراد أنْ يُحرِّم الخمر ، كيف تدرّج في تحريمها على عدة مراحل حتى يجتثّ هذه العادة التي تحكّمتْ في نفوس الناس وتملَّكتهم ، أكان يمكن معالجة هذه المسألة بهذه الطريقة إذا نزل القرآن جملة واحدة؟
انظر كيف لفتَ أنظارَ القوم بلُطْف إلى أن في الخمر شيئاً ، فقال تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً . . } [ النحل : 67 ]
ولما سمع بعض الصحابة هذه الآية قال : والله لكأن الله يُبيِّت للخمر شيئاً ، لقد فهم بملكته العربية أن الله تعالى طالما وصف الرزق بأنه حسن ، وسكت عن السَّكَر فلم يَصِفْه بالحُسْن ، فإن وراء هذا الكلام أمراً في الخمر؛ لأنه يتلف نعمة الله ويُفسِدها على أصحابها .
ثم يُحَوِّل هذه المسألة إلى عِظَة وإرشاد ، فيقول : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا . . } [ البقرة : 219 ]
وهكذا قرَّر لهم الحقيقة بعد أن سألوا هم عنها ، وترك لهم حرية الاختيار ، فالأمر مازال عِظَة ونصيحة لا تشريعاً مُلْزماً ، إلا أنه مهَّد الطريق للقطع بتحريمها بعد ذلك .
ثم حدث من أحدهم أن صلّى وهو مخمور لا يدري ما يقول ، فلما سمعوه يقول : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، فغمزه مَنْ بجواره وعرف أنه مخمور ، ووصل خبره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ . . } [ النساء : 43 ]
وبذلك أطال مدَّة الامتناع عن شُرْب الخمر ، فالصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ، فإذاً لا بُدَّ من الامتناع عن الخمر قبل الصلاة بوقت كافٍ ، وهكذا عوَّدهم الامتناع ودرَّبهم على الصبر عن هذه الآفة التي تمكَّنتْ منهم . ثم يتحيَّن الحق سبحانه فرصة منهم ، حيث اجتمع القوم في مجلس من مجالس الشراب ، ولما لعبتْ الخمر بالعقول تشاجروا حتى سالتْ دماؤهم ، وعندما ذهبوا بأنفسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه : يا رسول الله بيِّن لنا في الخمر رأياً شافياً ، وهنا ينزل الوحي على رسول الله بالحكم القاطع : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ]
فكيف كانت معالجة هذه الآفة التي تمكّنتْ من الناس لو نزل القرآن جملة واحدة؟
إن الحق تبارك وتعالى بنزول القرآن مُفَرّقاً مُنجّماً حَسْب الأحداث ، كأنه يُجري مشاركة بين آيات التنزيل والمنفعلين بها الذين يُصِرّون على تنفيذ مطلوباتها ، حتى إنهم ليبادرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يبدأوه بالسؤال ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ . . } [ المائدة : 101 ]
ولكنهم مع هذا تغمزهم المسألة فيبادرون بها رسول الله ، كما حكى القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . } [ البقرة : 219 ]
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ . . } [ البقرة : 219 ]
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة . . } [ البقرة : 189 ]
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال . . } [ طه : 105 ]
إذن : وراء نزول القرآن مُفرّقاً مُنجّماً حِكَم بالغة يجب تدبُّرها ، هذه الحِكَم ما كانت لتحدث لو نزل القرآن جملةً واحدةً .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا . . . } .
(1/5341)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
قوله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا . . } [ الإسراء : 107 ] آمنوا : أمر ، ولا تؤمنوا : نَهْي . والأمر والنهي نوعان من الطلب ، والطلب أن تطلب من الأدنى أن يفعل ، والنهي أنْ تطلبَ من الأدنى ألاَّ يفعل ، فإنْ كان الطلب من مُساو لك فهو التماس ، وإنْ كان من أعلى منك فهو دعاء .
لذلك حينما نقول للطالب أعرب : ( رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ) يقول : اغفر فعل أمر ، نقول له : أنت سطحيّ العبارة؛ لأن الأمر هنا من الأدنى للأعلى ، من العبد لربه تبارك وتعالى ، فلا يقال : أمر ، إنما يقال : دعاء .
والطاعة أن تمتثل الأمر والنهي ، فهل نقول في قوله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا . . } [ الإسراء : 107 ] أنها للتخيير ، فإنْ آمنوا فقد أطاعوا ، وكذلك إنْ لم يؤمنوا فقد أطاعوا أيضاً؟
نقول : الأمر والنهي هنا لا يُراد منه الطلب ، بل يراد به التهديد أو التسوية كما تقول لابنك حين تلاحظ عليه الإهمال : ذاكر أو لا تذاكر ، أنت حر؛ لاشك أنك لا تقصد النهي عن المذاكرة ، بل تقصد تهديده وحثّه على المذاكرة .
فقوله : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا . . } [ الإسراء : 107 ] للتسوية ، كما قال : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } [ الكهف : 29 ]
فهذا ليس أمراً بحيث أن الذي يفعل الأمر أو النهي يكون طائعاً ، بل المراد هنا التهديد أو التسوية ، فسواء آمنوا أو كفروا؛ لأن الحق سبحانه جعل في ذلك عزاءً لرسوله صلى الله عليه وسلم في إيمان أهل الكتاب .
{ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ . . } [ الإسراء : 107 ] أي : اليهود والنصارى الذين ارتاضوا بالكتب السماوية ، واستمعوا للتوارة والإنجيل ، ونقلوها إلى غيرهم من المعاصرين للقرآن فهؤلاء شاهدون بأن الرسول حَقٌّ بما عندهم من بشارة به في التوراة والإنجيل؛ لذلك يتركون دينهم ويسارعون إلى الإسلام؛ لأنهم يعلمون عِلْم اليقين أنه الدين الحق .
ومن هؤلاء عبد الله بن سلام ، وكان من علماء اليهود ، وكان يعلم أوصاف رسول الله وزمن بَعْثته؛ لذلك قال : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشدّ .
ولما اختمر الإسلام في نفسه ذهب إلى رسول الله وصارحه بما نوى من اعتناق الإسلام ، وقال : " يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ فإن أعلنتُ إسلامي الآن قالوا فيَّ ما ليس فيَّ ، فاسألهم عني وأنا ما زلت على دينهم ، وانظر ما يقولون ، فسألهم رسول الله : ما تقولون في ابن سلام؟ فقالوا : حَبْرنا وابن حَبْرنا ، ووصفوه بخير الصفات ، وأطيب الخصال ، فقال عبد الله : يا رسول الله ، أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا فأشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فإذا بهم يذمونه ويتهمونه بأخسِّ الخصال ، فقال : يا رسول الله ألم أَقُلْ لك إنهم قوم بُهْتٌ " .
(1/5342)
إذن : ففي إيمان عبد الله بن سلام وغيره من اليهود والنصارى الذين عرفوا رسول الله بأوصافه في كتبهم وعرفوا موعد بعثته وأنه حق ، في إيمان هؤلاء عَزَاءٌ لرسول الله حين كفر به قومه وكذّبوه لذلك قال تعالى : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ]
ونحن مُكْتفون بشهادة هؤلاء؛ لأنهم قوم صادقون مع أنفسهم ، صادقون مع أنبيائهم ومع كتبهم التي تلقوْهَا ، فحينما بشَّرت بمحمد ووصفته لم ينكروا هذه الصفات ولم يُحرِّفوها ، بل كانوا يسارعون إلى المدينة انتظاراً لمبعث النبي الجديد الذي سيظهر فيها ، لقد كانوا يقولون لكفار مكة : لقد أظلَّ زمان نبي جديد نتبعه قبلكم ، ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم .
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ] إلا أن الله أبقى للحق خلية ، وجعل له خميرة استجابت لرسول الله ، وتفاعلت مع الدين الجديد .
وقوله تعالى : { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ . . } [ الإسراء : 107 ] أي : القرآن { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } [ الإسراء : 107 ]
كلمة { يَخِرُّونَ } توحي بأنهم يسارعون إلى السجود ، وكأنها عملية انفعالية غير إرادية ليس لهم فيها تصرُّف ، فبمجرد سماع القرآن يرتمون على الأرض ساجدين؛ لأنهم تفاعلوا معه ، واختمر الإيمان في نفوسهم . ليس ذلك وفقط ، بل ويخرون { لِلأَذْقَانِ } جمع ذَقَن ، وهي أسفل الفَكِّ السفلي ، ومعلوم أن السجود يكون على الجبهة ، أما هؤلاء فيسجدون بالوجه كله ، وهذا دليل على الخضوع والاستسلام لله تعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ . . . } .
(1/5343)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
أي : يقولون حال سجودهم : سبحان ربنا الذي وَفّى بوعده في التوراة والإنجيل ، وبعث الرسول الخاتم ومعه القرآن ، سبحانه حقق لنا وَعْده وأدركناه وآمنا به ، وكأن هذه نعمة يحمدون الله عليها .
ويقول الحق سبحانه عنهم : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ . . . } .
(1/5344)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
لقد خَرُّوا ساجدين لله تعالى قبل ذلك لأنهم أدركوا القرآن الذي نزل على محمد ، وتحقَّق لهم وعد الله فعاصروه وآمنوا به . أما هذه المرة فيخرون ساجدين لما سمعوا القرآن تفصيلاً وانفعلوا به ، فيكون له انفعال آخر ، لذلك يزيد هنا الخشوع والخضوع ، فيقول : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ . . . } [ الإسراء : 109 ] فكلما قرأوا آية ازدادوا بها خشوعاً وخضوعاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى . . . } .
(1/5345)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{ ادعوا } اذكروا ، أو نادوا ، أو اطلبوا { الله } عَلَم على واجب الوجود سبحانه ، ومعنى : علم على واجب الوجود أنها إذا أُطْلِقَتْ انصرفتْ للذات الواجبة الوجود وهو الحق سبحانه ، كما نُسمِّي شخصاً ، فإذا أُطْلِق الاسم ينصرف إلى المسمَّى .
والأسماء عندنا أنواع كثيرة : إما اسم ، أو كُنْية ، أو لَقَب .
الاسم : وهو أغلب الأعلام ، ويُطلَق على المولود بعد ولادته ويُعرَف المولود به .
والكُنْية : وتُطلَق على الإنسان ، وتُسبَق بأب أو أم أو ابن أو بنت ، كما نقول : أبو بكر ، وأم المؤمنين .
واللقب : وصف يُشْعِر بالمدح أو الذم ، كما نقول : الصِّديق ، الشاعر ، الفاروق .
فإذا كان الاسم معه شريك غيره لا بُدَّ لتمييزه من وَصْفه وَصْفاً يُعْرف به ، كما يحدث أن يألف شخص أن يسمي أولاده جميعاً : محمد فالتسمية في هذه الحالة لا تُشخِّص ولا تُعيِّن المسمّي؛ لذلك لا بُدَّ أن نصف كل واحد منهم بصفة فنقول : محمد الكبير ، محمد الصغير . محمد المهندس . فإذا أُطلِق الاسم بصفته ينصرف إلى شخص معين .
وإذا كُنّا نحن نُسمِّي أولادنا : فإن الحق سبحانه سَمَّى نفسه بأسمائه التي قال عنها : الأسماء الحُسْنى ، وكلمة ( حُسْنى ) أفعل تفضيل للمؤنث ، مثل : كبرى . والمذكر منها أحسن . لكن لماذا وَصَف أسماءه تعالى بالحسنى؟
الاسم يُبيِّن المسمّي ، لكن الأسماء عند البشر قد لا تنطبق على المسمَّى الذي أُطلقت عليه ، فقد نُسمِّي شخصاً " سعيد " وهو شقي ، أو نسمي شخصاً " ذكي " وهو غبي . وهذا ليس بحَسنٍ في الأسماء ، الحسَن في الاسم أنْ يطابق الاسم المسمَّى ، ويتوفّر في الشخص الصفة التي أُطلِقت عليه ، فيكون الشخص الذي سميناه " سعيد " سعيداً فعلاً .
وهكذا يكون الاسم حسناً ، لكنه لا يأخذ الحُسْن الأعلى؛ لأن الحُسن الأعلى لأسماء الله التي سَمّى بها نفسه ، فله الكمال المطلق .
فهذه إذن لا تتأتَّى في تسمية البشر ، فكثيراً ما تجد " عادل " وهو ظالم ، و " شريف " وليس بشريف؛ لذلك قلنا :
وَأَقْبَحُ الظُّلْمَ بَعْد الشِّرْكِ منزلةً ... أنْ يظلم اسمٌ مُسمّى ضِدّه جُعلاَ
فَشَارِع كعِمَادِ الدين تَسْمِية ... لكِنْه لِعِنَادِ الدِّينِ قَدْ جُعِلاَ
فالاسم قد يظلم المسمَّى كما حدث أنْ سَمَّوْا الشارع ( عماد الدين ) ، وهذا الشارع كان في الماضي بُؤْرَة للفِسْق والفجور ، وما أبعده سابقاً عن هذه التسمية .
فلفظ الجلالة ( الله ) عَلَم على واجب الوجود ، وبعد ذلك جاءت صفات غلبت عليه ، بحيث إذا أُطلِقَتْ لا تنصرف إلا إليه . فإذا قُلْنا : العزيز على إطلاقه فإنها لا تنصرف إلا لله تعالى ، لكن يمكن أن نقول فلان العزيز في قومه ، فلان الرحيم بمَنْ معه ، فلان النافع لمَنْ يتصل به ، إنما لو قُلْت : النافع على إطلاقه فهو الله سبحانه وتعالى .
لذلك؛ حَلَّتْ الصفات محلَّ اسم الذات { الله } ؛ لأنها إذا أُطْلِقَتْ لا تنصرف إلا لله تعالى ، فأسماءُ الله الحُسْنى هي في الأصل صفات له سبحانه .
(1/5346)
ولو تأملنا هذه الأسماء لوجدناها على قسمين : أسماء ذات ، وأسماء صفات فعلية ، اسم الذات لا يتصف الله بمقابله ، فالعزيز مثلاً اسم ذات فلا نقول في مقابله الذليل ، والحيّ اسم ذات فلا نقول : الميت . أما اسم الصفة الفعلية فيكون له مقابل ، فالمعزّ صفة فعل يعني يُعِزّ غيره ، ومقابلها المذلّ ، والضَّارّ مقابلها النافع ، والمحيي مقابلها المميت وهكذا . . إنْ وجدتَ للاسم مقابلاً فاعلم أنه اسمٌ لصفة الفعل من الله تعالى ، وإذا لم يكن له مقابل فهو اسم ذات .
لكن تقف مثلاً عند السَّتَّار وهي صفة فعل لأنه يستر غيره ، لكن ليس لها مقابل فلا نقول الفضَّاح ، لماذا؟ لأنه تبارك وتعالى يريد أنْ يتخلق خَلْقه بهذه الصفة ، وأنْ يُربِّب صفة الستر عند الناس للناس ، فلو علم الناس ، عن أحد أمراً فاضحاً لزهدوا في كل ما يأتي من عنده ولو كان حسنة ، وبذلك يُحرَم المجتمع من طاقات كثيرة من الخير .
لكن حين تستر على صاحب العيب عيبه ، فإنك تعطي للمجتمع فرصة لينتفع بما لديه من صفات الخير؛ لذلك الله تعالى يُعصَى ويحب أن يُستَر على عبده العاصي؛ لكي يستمر دولاب الحياة؛ لأنه لا يوجد أحد له كمال إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق القائل :
مَنْ ذَا الذِي مَا سَاءَ قَطُّ ... وَمَنْ لَهُ الحُسْنى فَقَطْ
إذن : فمن الحكمة أن يأمر الله تعالى بستر غَيْب خَلْقه عن خَلْقه حتى تستمر حركة الحياة؛ لأن الإنسان ابنُ أغيار ، وقلبه سريعاً ما يتقلب ، ولربما لو عرفتُ عنك شيئاً مستوراً لتغيَّرْتُ لك وأنت كذلك ، ولربما تقطعت بيننا حبال المودة ، إنما بالستر ينتفع كُلٌّ مِنّا بالآخر .
ومن هنا قالوا : لو تكاشفتم ما تدافنتم ، أي : لو تكشفتْ الأسرار ، وعرف كُلٌّ منكم عَيْب أخيه ما دفنتم مَنْ يموت منكم ، وهذا منتهى ما يمكن تصوُّره من التقاطع بين الناس .
فقوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله . . } [ الإسراء : 110 ] فاختار هذا الاسم بالذات { الله } العَلَم على واجب الوجود ، وهو اسم ذات لا يدلُ على صفة معينة ، لكنه يحمل في طياته كل صفات الكمال فيه ، فإنْ كانت للأسماء الأخرى مجالات ، فالقادر في القدرة ، والحكيم في الحكمة ، والقابض في القبض ، والعزيز في العِزّة . فإن لكل اسم مجالاً وسيالاً ، فإن { الله } هو الاسم الجامع لكل الصفات .
لذلك في الحديث النبوي الشريف : " كُلُّ شيء لا يُبدأ باسم الله فهو أبتر " .
لماذا؟ لأنك حين تُقدِم على أيِّ فعل تحتاج أولاً إلى حكمة لتعرف من خلالها لماذا تفعل ، وتحتاج إلى قدرة تُعينك على إنجازه ، وتحتاج إلى علم بمصير هذا الفعل وعاقبته ، إذن : تحتاج إلى صفات كثيرة ، فحين تُقبِل على العمل لا تَقُل : يا حكيمُ يا قادرُ يا عليمُ ، إنما الحق سبحانه يُريحك ، ويكفي أن تقولَ في الإقدام على الفعل : باسم الله .
(1/5347)
لأنك ذكرتَ الاسم الجامع لكلِّ صفات الكمال .
{ أَوِ ادعوا الرحمن . . } [ الإسراء : 110 ] واختار الرحمن دون الجبار أو القهار؛ لأن الرحمة صفة التحنين للخلق ، فالحق سبحانه وتعالى يُظهِر هذه الصفة لعباده حتى في أسماء الجبار والقهار؛ لأنها من خَدَم الرحمة ومن أسبابها؛ لأن العبد إذا عرف لله : صفة الجبروت ، وصفة القهر ، وصفة الانتقام انتهى عن أسباب الوقوع تحت طائلة هذه الصفات ، فكأنه يرحم عباده حتى بصفات القهر والانتقام .
ومن هذا قول الحق تبارك وتعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب . . } [ البقرة : 179 ] لأنه إذا علم القاتل أنه سيُقتل انتهى عن القتل . وفي الأثر : " القتل أنْفَى للقتل " .
إذن : فتشريع القصاص وإقامة الحدود والعقوبات لا لتعذيب الخلق ، وإنما رحمة بهم حتى يقفوا بعيداً عن ارتكاب ما يُوجِب القصاص أو الحد أو العقوبة ، حتى الذي يقهره الله مرحوم أيضاً؛ لأنه ما دام قال : أنا قهار . فاحذرني ، فهو بذلك يرحمه لأنه يُحذِّره من أسباب الوقوع فيما يستوجب غضبه وانتقامه .
وكذلك اختار اسم { الرحمن } لأن مجال التكليف كله الرحمة ، وما نزل المنهج من الله إلا لينظم حياة الناس ويُحقِّق لهم السعادة في حركة الحياة ، فيتكامل الخَلْق فيما بينهم ، ويتعاونون ، ويتساندون ولا يتعاندون ، ويكونون جميعاً على قلب رجل واحد ، هذه غاية المنهج الإلهيّ في دنيا الناس أنْ يعيشَ المجتمع المسلم آمناً سالماً .
فالرحمانية الإلهية هي الغالبة في كل التشريع ، وهي السِّمَة العامة ، أَلاَ ترى قوله تعالى : { الرحمن * عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ]
فالقرآن الذي نزل لِيُنظّم حياة الناس ويحكمها ، ويصلح حركة الحياة ، ويضع السلام بينك وبين الله ، وبينك وبين نفسك ، وبينك وبين الناس ، هذا القرآن مظهر من مظاهر هذه الرحمانية الإلهية .
وقد اعترض بعض المستشرقين على قوله تعالى في سورة الرحمن : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] والآلاء هي النعم ، وأنها جاءت تذييلاً لقوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [ الرحمن : 35 ] فالآية تتحدث عن النار والشواظ ، فكيف تُختم هذه الخاتمة التي تدلُّ على النعمة؟
ولو تدبَّر القوم ما اعترضوا؛ لأن في الناس والتحذير منها والتخويف بها نعمة ، كأن القرآن يقول لك : إياك أنْ تفعل ما يُوجِب النار والشُّواظ فتقلع وترتدع من قريب ، أليست هذه من نعم الله على عباده؟ أليست رحمة بهم؟ وماذا كنتم ستقولون إنْ لم يُقدِّم لكم الحق سبحانه تحذيراً وإنذاراً ، ثم فاجأكم بالعذاب؟
ونقف على لطيفة أخرى لاستخدام اسم الله { الرحمن } في قوله تعالى : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ]
أي : بعد أن خلق الخَلْق كل بسمائه وأرضه وما فيهما استوى على العرش؛ لأن الاستواء على العرش يعني أن كل شيء تَمَّ له سبحانه خَلْقاً وإيجاداً ، وانتهى إلى الجلوس على العرش ، وهذا تمثيل بالملوك الذين لا يجلسون على العرش إلا بعد أنْ يستتبّ لهم الأمر ، فجلوس الملك على العرش يعني أنه الأوحد الذي لا يعارضه أحد .
(1/5348)
فالحق سبحانه ينبهنا بقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] واختار صفة الرحمة لِيُوحِي لنا أن قعوده على العرش لا يعني القَهْر والجبروت ، إنما قعد على عرشه رحمةً بكم ، قعد على العرش ليُنظّم حياتكم ، ويرحم بعضكم ببعض ، فتسعدوا بالحياة ، فالاستواء هنا لا استواءَ قهر وغلبة ، بل استواء رحمة لمصلحتكم أنتم .
وفي آية أخرى قال : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ]
وقد ورد استواؤه سبحانه على العرش في سبعة مواضع في كتاب الله ، نظمها الناظم في قوله :
وَذكْرُ اسْتواء الله في كَلماتِهِ ... علَى العَرْشِ فِي سَبْع مَواضِعَ فَاعْدُدِ
فَفِي سُورَة الأعرافِ ثمة يُونُس ... وفي الرعْدِ مع طَه فلْلعَدِّ أكدِ
وَفِي سُورة الفُرْقانِ ثمة سَجْدة ... كَذَا فِي الحديدِ افْهَمُوا فَهْم مؤيَّد
وكل صفة من صفات جلاله سبحانه إنما هي في خدمة رحمانيته ، لأنه يُخَوِّف عباده بصفات الجلال حتى لا يقعوا في المخالفة ، فيأخذوا نعمة الله في الدنيا ، ويسعدوا بها ، ويأخذوا نعيم الآخرة فيسعدوا بها ، فهي إذن الرحمانية المستولية والسمة العامة لمنهج الله في الدنيا والآخرة .
وفي الحديث " في آخر ليلة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة . . " ولم يقُلْ : تجلى الغفار بالمغفرة ، فلماذا آثر صفة الجبار في مجال المغفرة؟
قالوا : لأن المغفرة تُوحِي بوجود ذنب ، والذنب يقتضي العقوبة ، وهذه من اختصاص صفة الجبار ، فهل تغلَّبتْ صفة الغفار على صفة الجبار ، وأخذت اختصاصها؟ لا بل تشفع صفة الغفار عند صفة الجبار : الموقف لكِ أيتها الصفة ، لكن نستسمحك في أن نشفع في هؤلاء ، فكأن صفات الجمال تشفع عند صفات الجلال .
لذلك ، فالذين يُفسِّرون الحديث يقولون : شفع المؤمنون ، وشفع الأنبياء ، وشفعت الملائكة ، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فعند مَنْ سيشفع أرحم الراحمين؟ قالوا : تشفع ذاته عند ذاته ، وهكذا تشفع صفة الجمال ( الغفار ) عند صفة الجلال ( الجبار ) تبارك وتعالى .
ثم يقول تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى . . } [ الإسراء : 110 ] فأيُّ اسم تدعو به لأن أسماءه كلها حُسْنى ، لكن ليكُنْ عندك ذكاء في الدعاء ، فتدعو بما يناسب حاجتك ، فإنْ أردت عِلْماً فقُلْ : يا عالم علِّمني ، وإنْ كنتَ ضعيفاً فقُلْ : يا قوي قَوِّني ، وإنْ أردتَ العزة فَقُلْ : يا عزيز أعِزَّني وهكذا . . فإن أردتَ الاختصار فقُلْ : يا الله . تكفيك كل شيء .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] الصلاة يراد بها كل أعمال الصلاة { وَلاَ تَجْهَرْ } فالجهر منهيٌّ عنه ، وكذلك { وَلاَ تُخَافِتْ } أي : لا تُسِرَّها بحيث لا يَسْمعك من خلفك ، وهذا منهيّ عنه أيضاً .
(1/5349)
فكِلاَ الطرفين مذموم ، وخَيْر الأمور الوسط .
ونُوضِّح هنا : إذا كان الجهر بالصلاة منهيّاً عنه فارتفاع الصوت عالياً من باب أَوْلَى ، فلا يليق أبداً رَفْع الصوت بالصلاة ، ثم استعمال الميكروفونات أيضاً ، وما تُسبِّبه من إزعاج للناس .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ]
فأنت حين ترفع صوتك بالقرآن ، وخاصة في الميكروفون تلزم الناس بالإنصات ، وتُوقِعهم في الإثم والحرج ، أو تعطل مصالحهم ، ولعل غيرك في هذا الوقت يريد أن يقرأ هو الآخر ، أو يستغفر ، أو يُسبِّح أو يصلي ، فكيف تجعل الأمر المندوب عندك حاكماً على غيرك؟ هذا لا يجوز ، بل اترك الناس وشئونهم فكل منهم حُرّ فيما ينتفّل به ، ولا تكُنْ من الذين قال الله في حقهم : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-104 ]
كالذي يُشعِل الميكروفون قبل صلاة الفجر ، ويأخذ في إنشاد كلام ما نزل به الشرع ، يزعج به الناس ، ويُقلق به المريض ، ولا يراعي للناس حُرْمة . فمتى يفيق المسلمون؟ ومتى ينتبهون إلى هذه البدع التي تُشوِّش على الناس وتُفسِد عليهم عبادتهم؟
أما إنْ كان رَفْع الصوت بالقرآن لغرض دنيوي ومكْسَب شخص ، وأن نجعل الأمر مَعْرضاً للأصوات ، ومِضْماراً للسباق ، إنْ كان الأمر استغلالاً للدين لحساب الدنيا والعياذ بالله ، فقد دخل صاحبه في شريحة أخرى من الإثم ، عافانا الله وإياكم .
والحق سبحانه يقول : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ]
أي : بين الجهر والإسرار ، واسلك سبيل الوسطية التي جاء بها الشرع ، وتأسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يتفقد الصحابة ليلاً فوجد أبا بكر رضي الله عنه يقرأ ، ولا يكاد يسمع صوته ، فلما سأله . قال : يا رسول الله ، أناجي ربي وهو عالم بي ، فلما ذهب إلى عمر رضي الله عنه وجده يقرأ بصوت عالٍ ، فلما سأله قال : يا رسول الله أزجر به الشيطان . عندها أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أنْ يرفع صوته قليلاً ، وأمر عمر أن يخفض صوته قليلاً .
وهذا الاعتدال وهذه الوسطية أُمِرْنَا بها حتى في الدعاء ، كما جاء في قوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول } [ الأعراف : 205 ]
فكلمة : { بَيْنَ ذلك . . } [ الإسراء : 110 ] البينية هذه تكاد تشيع في كل أحكام الدين؛ لأن القرآن جاء لأمة وسط بالأمور الوسط في كل شئون الحياة ، ففي قمة المسائل وهي الأمور العَقَدية مثلاً يقف الإسلام موقفَ الوسطية بين مَنْ يُنكِرون وجود الإله ومن يقول بآلهة متعددة ، فينفي هذه وهذه ويقول بوجود إله واحد أحد لا شريكَ له .
وفي الإنفاق يختار الوسط ، فيقول : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
(1/5350)
[ الفرقان : 67 ]
وبذلك ضمن لأهله نظاماً اقتصادياً ناجحاً يُثري حياة الجماعة ، ويَرْقَى بحياة الفرد ، وقد لخّص هذا المنهج الاقتصادي في قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] فالممسك المقتّر الذي يقبض يده على الإنفاق يتسبّب في رُكود البضائع وتوقف حركة الحياة ، وهذا خطر على المجتمع ، وفي التبذير خطر على الفرد حيث ينفق كل مَا معه ، ولا يُبقي على شيء يرتقي به في الحياة ، فإذا لم تتبع هذا المنهج الحكيم فسوف تقعد ملوماً على الإمساك ، محسوراً على التبذير الذي فوّتَ عليك فرصة الترقِّي مثل الآخرين .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } .
(1/5351)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
فما المحمود عليه في الآية؟
الحق سبحانه يقول : { الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً . . } [ الإسراء : 111 ]
فكَوْنه سبحانه لم يتخذ ولداً نعمة كبيرة على العباد يجب أنْ يحمدوه عليها ، فإنْ كان له ولد فسوف يخصُّه برعايته دون باقي الخَلْق ، فقد تنزّه سبحانه عن الولد ، وجعل الخَلْق جميعهم عياله ، وكلُّهم عنده سواء ، فليس من بينهم مَنْ هو ابن لله أو مَنْ بينه وبين الله قرابة ، وأحبّهم إليه تعالى أتقاهم له ، وهكذا ينفرد الخَلْق بكل حنان ربهم وبكل رحمته .
ثم ، ما الحكمة من اتخاذ الولد؟ الناس يتخذون الولد ويحرصون على الذَّكَر ، خاصة لأمرين : أن يكون الولد ذكرى وامتداداً لأبيه بعد موته ، كما قال الشاعر :
أَبُنيّ يَا أنَا بَعْدَمَا أقْضِي ... والحق سبحانه وتعالى باقٍ دائمٌ ، فلا يحتاج لمَنْ يُخلِّد ذكراه ، أو يكون امتداداً له ، تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً ، فالحمد لله أنه لم يتخذ ولداً .
أو يكون الولد للعِزْوة والمكاثرة والتقوّى به من ضعف ، والحق سبحانه وتعالى هو الغالب القهار ، فلا يحتاج إلى عِزْوة أو كثرة ، لذلك يأمرنا سبحانه أن نُمجِّده لأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، والمتأمل في حال الملوك والسلاطين يجد أكثر فسادهم إما من الولد وإما من الصاحبة .
ثم يقول سبحانه : { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك . . } [ الإسراء : 111 ]
وهذا أيضاً من النعم التي تستوجب الحمد ، ولك أنْ تتصوّر لو أن لله تعالى شريكاً في الملْك ، كم تكون حَيْرة العباد ، فأيُّهما تُطيع وأيهما تُرضِي؟
لقد أوضح لنا الحق سبحانه هذه المسألة في هذا المثل الذي ضربه لنا : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً . . } [ الزمر : 29 ]
لذلك ، ففي أعراف الناس وأمثالهم يقولون : ( المركب التي بها ريسين تغرق ) وكَوْنه سبحانه واحداً لا شريك له يجعلك تطمئن إلى أمره ونَهْيه فتُطيعه وأنت مطمئن ، فأوامره سبحانه نافذة لا مُعقِّب لها ، ولا مُعترِض عليها ، فليس هناك إله آخر يأمرك بأمر مخالف ، أليست هذه نعمة تستوجب الحمد؟
وأيضاً فإن الحق سبحانه يقول : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل . . } [ الإسراء : 111 ]
الوليّ : هو الذي يليك ، وأنت لا تجعل أمرك إلا لمن تثق به أنه يجلب لك نَفْعاً ، أو يدفع عنك ضُرّاً ، أو ينصرك أمام عدو ، أو يُقوِّي ضعفك ، فإذا لم يكُنْ لك ذاتية تحقق بها ما تريد تلجأ لمن له ذاتية ، وتحتمي برحابه ، وتجعل ولاءك له .
والحق سبحانه ليس له وليٌّ يلجأ إليه ليعزه؛ لأنه سبحانه العزيز المعِزّ القائم بذاته سبحانه ، ولا حاجة له إلى أحد .
ثم يقول تعالى : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [ الإسراء : 111 ]
لأن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن أكبر من كل شيء ، وأكبر من كل كبير؛ لذلك جُعلتْ ( الله أكبر ) شعار أذانك وصلاتك ، فلا بُدَّ أن تُكبِّر الله ، وتجعله أكبر مِمّا دونه من الأغيار ، فإنْ ناداك وأنت في أيّ عمل فقُلْ : الله أكبر من عملي ، وإنْ ناداك وأنت في حضرة عظيم ، فقل : الله أكبر من أيِّ عظيم ، كبِّره تكبيراً بأن تُقدِّم أوامره ونواهيه على كل أمر ، وعلى كل نهي .
(1/5352)
ولا تنسَ أنك إن كبَّرْتَ الحق سبحانه وتعالى أعززْتَ نفسك بعزة الله التي لا يعطيها إلا لمَنْ يخلص العبودية له سبحانه ، فَضْلاً عن أن العبودية لله شرفٌ للعبد ، وبها يأخذ العبد خَيْر سيده ، أما العبودية للبشر فهي مذمومة مكروهة ، وهي مذلة وهوان ، حيث يأخذ السيد خير عبده .
وصدق الشاعر حين قال :
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ ... يَحْتفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ
هُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ وَلكِنْ ... أَنَا ألْقَي متَى وأَينَ أحِبُّ
فكم تتحمل من المشقة والعنت في مقابلة عظيم من عظماء الدنيا ، أما في مقابلة رب العزة سبحانه ، فبمجرد أنْ آمنتَ به أصبح الزمام في يدك تلقاه متى شئتَ ، وفي أيِّ مكان أردتَ ، وتُحدّثه في أيّ أمر أحببتَ ، فأيُّ عِزَّة بعد هذا؟
ولذلك كانت حيثية الرفعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج أنه عبد لله ، حيث قال تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . } [ الإسراء : 1 ]
فالعزة في العبودية لله ، والعزة في السجود له تعالى ، فعبوديتك لله تعصمك من العبودية لغيره ، وسجودك له تعالى يعصمك من السجود لغيره ، أَلاَ ترى قول الشاعر :
وَالسُّجُودُ الذِي تَجْتَوِيه ... مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةٌ
إذن : فكبِّر الله تكبيراً وعَظِّمه ، والتجئ إليه ، فَمن التجأ إلى الله تعالى كان في معيته ، وأفاض عليه الحق من صفاته ، وعصمه من كَيْد الآخرين وقهرهم . وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالولد الصغير الذي يعتدي عليه أقرانه إنْ سار وحده ، فإنْ كان في يد أبيه فلا يجرؤ أحد على الاعتداء عليه .
فعليك إذن أن تكون دائماً في معيّة ربك تأمن كيد الكائدين ومكْر الماكرين ، ولا ينالك أحدٌ بسوء ، فإن ابتلاه الله بشيء فكأنما يقول له : أبتليك بنعمتي لتأخذ من ذاتي ، لأن الصحيح المعَافَى إنْ كان في معية نعمة الله ، فالمبتلى في معية الله ذاته .
ألم يَقُلْ الحق سبحانه في الحديث القدسي : " يا بن آدم مرضْتُ فلم تَعُدْني ، قال : يا رب وكيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول : أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه ، أما علمتَ أنك لو عُدْتَهُ لوجدتني عنده " .
فالمريض الذي يأنس بزائريه ويسعد بهم ويرى في زيارتهم تخفيفاً من آلامه ومواساة له في شدته ، ما باله إن أنس بالله وكان في جواره وكلاءته ، والله الذي لا إله إلا هو لا يشعر بوخْز المرض أبداً ، ويستحي أن يتأوّه من ألم ، ولا ييأس مهما اشتد عليه البلاء؛ لأنه كيف يتأوه من معية الله؟ وكيف ييأس والله تعالى معه؟
إذن : كبِّره تكبيراً .
(1/5353)
أي : اجعل أمره ونَهْيه فوق كل شيء ، وقُلْ : الله أكبر من كل كبير حتى الجنة قل : الله أكبر من الجنة . أَلاَ ترى قَوْل رابعة العدوية :
كُلُّهُمْ يعبدُونَك من خَوْف نارٍ ... ويَروْن النجاةَ حَظّاً جَزِيلا
أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنَانَ فَيَحْظَوْا ... بقُصُورٍ ويَشْرَبُون سَلْسَبِيلا
لَيْسَ لِي بالجنانِ وَالنَّارِ حَظٌّ ... أنَا لاَ أَبْتغِي بِحُبّي بَدِيلاً
وفي الحديث القدسي : " أَولَوْ لَم أخلق جنة وناراً ، أما كنتُ أهلاً لأنْ أُعبد؟ " .
فالله تعالى بذاته سبحانه أكبر من أيّ شيء ، حتى إن كانت الجنة ، ففي آخر سورة الكهف يقول تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ]
فلم يَقُلْ : مَنْ كان يرجو جزاء ربه ، أو جنة ربه ، أو نعيم ربه ، إن المؤمن الحق لا ينظر إلى النعيم ، بل يطمع في لقاء المنعم سبحانه ، وهذا غاية أمانيه .
وفي حديث آخر يقول الحق سبحانه للملائكة : " أما رأيتم عبادي ، أنعمتُ عليهم بكذا وكذا ، وأسلب عنهم نعمتي ويحبونني " .
وبهذه الآية خُتِمَتْ سورة الإسراء ، فجعلنا الحق سبحانه نختمها بما أنعم علينا من هذه النعم الثلاث ، وليس هذه هي كل نعم الله علينا ، بل لله تعالى علينا نِعَم لا تُعَدّ ولا تُحصَى ، لكن هذه الثلاث هي قِمة النعم التي تستوجب أنْ نحمده عليها .
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً؛ لأنه لم يلد ولم يولد وهو واحد أحد ، والحمد لله الذي لم يتخذ شريكاً لأنه واحد ، والحمد لله الذي لم يكُنْ له وليٌّ من الذل لأنه القاهر العزيز المعز ، ولهذا يجب أن نُكبِّر هذه الإله تكبيراً في كل نعمة نستقبلها منه سبحانه .
(1/5354)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
ختم الحق سبحانه سورة الإسراء بالحمد ، وبدأ سورة الكهف بالحمد ، والحمد لله دائماً هو الشعار الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير الكلمات : " سبحان الله والحمد لله " سبحان الله بُدئتْ بها سورة الإسراء ، والحمد لله بُدئت بها سورة الكهف . سبحان الله تنزيه لذاته سبحانه أن يكون له شريك ، لا في الذات ، ولا في الأفعال ، ولا في الصفات ، والحمد لله كذلك تكبرة للذات ، وبعد ذلك جاء العطاء من الذات فقُلْنا : الحمد لله ، فسبحان الله تنزيه ، والحمد لله شكر على العطاء .
والحمد يشترك معه في المعنى العام : ثناء وشُكْر ومدح ، إلا أن هذه الألفاظ وإنْ تقاربت في المعنى العام فلكُلٍّ منها معناه الخاص ، وكل هذه الألفاظ فيها ثناء ، إلا أن الشكر يكون من مُنعَم عليه بنعمة خاصة به ، كأن يُسدي لك إنسان جميلاً لك وحدك ، فتشكره عليه .
أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك ، فرُقْعة الحمد أوسع من رُقْعة الشكر ، أما المدح فقد تمدح ما لا يعطيك شيئاً ، كأن تمدح مثلاً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك .
فقَوْلُ الحق : { الحمد لِلَّهِ } بالألف واللام الدالة على الحصر ، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله ، الحمد المستوعب لكل شيء ، حتى إنَّ حمدك لأيِّ إنسان قدَّم لك جميلاً فهو إذا سَلْسَلْتَهُ حَمْدٌ لله تعالى الذي أعان هذا الإنسان على أن يحسن إليك ، فالجميل جاء من حركته ، وحركته موهوبة له من خالقه ، والنعمة التي أمدّك بها موهوبة من خالقه تعالى ، وهكذا إذا سلسلتَ الحمد لأيِّ إنسان في الدنيا تجده يصل إلى المنعِم الأول سبحانه وتعالى .
وكلمة { الحمد لِلَّهِ } هذه هي الصيغة التي علمنا الله أنْ نحمدَهُ بها ، وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يُحدِّد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخَلْق في الحمد حَسْب قدراتهم وتمكّنهم من الأداء وحَسْب قدرتهم على استيعاب النعم ، ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح من العيي والأُمّي . فتحمّل الله عنا جميعاً هذه الصيغة ، وجعلها متساوية للجميع ، الكل يقول { الحمد لِلَّهِ } البليغ يقولها ، والعيي يقولها ، والأُمّي يقولها .
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم وهو يحمد الله ويُثنِي عليه : " سبحانك لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك " .
فإنْ أردنا أنْ نُحصي الثناء عليك فلن نستطيع؛ لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت ، ولا يُحصيه غيرك ، ولا نملك إلا أنْ نقولَ ما علَّمتنا من حمدك : الحمد لله .
إذن : فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد ، فنقول : الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله ، والحمْد الأول أيضاً نعمة ، وبذلك نقول : الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله بالحمد لله .
(1/5355)
وهكذا ، لو تتبعتَ الحمدَ لوجدته سلسلةً لا تنتهي ، حَمْد على حَمْد على حَمْد على حَمْد ، فيظل الله محموداً دائماً ، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية .
والحمد لله استهل بها الحق سبحانه خَمْس سور من القرآن :
{ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ]
{ الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب . . } [ الكهف : 1 ] { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } [ سبأ : 1 ] { الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ . . } [ فاطر : 1 ]
ولكن ، لكُلِّ حَمْد في كل سورة حيثية خاصة ، فالحمد في الأولى لأن الله ربُّ العالمين ، وربٌّ يعني الخالق والمتولي للتربية ، خلق من عدم ، وأمدَّ من عُدم ، وتولّى تربية عباده ، فهو رَبٌّ لكل العالمين؛ لذلك يجب أنْ نحمدَ الله على أنه هو الربُّ الذي خلق العالمين ، وأمدَّهم بفضله .
وفي الثانية : نحمده سبحانه الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، وهذه آيات من آيات الله ونِعَم من نِعَمه ، فالسماوات والأرض فيها قيام البشر كله بما يمدُّ حياتهم بالقوت ، ويستبقي نوعهم بالتكاثر .
والظلمات والنور مِنَ نعم الله ، وهما متكاملان لا متضادان ، فَلِلْظُّلمة مهمة ، كما أن للنور مهمة ، الظلمة للسكون والراحة ، والنور للسعي والحركة ، ولا يمكن لسَاعٍ أنْ يسعى ويجدّ في عمل ، إلا إذا ارتاح وسكن وجدَّد نشاطه ، فتقابُل الظلمة والنور للتكامل ، فالحياة لا تستقيم في ظلام دائم ، كما أنها لا تستقيم في نور دائم .
وفي السورة الثالثة من السور التي افتتحها الحق سبحانه ب { الحمد لِلَّهِ } والتي نحن بصددها أراد الحق سبحانه أنْ يُوضّح أنه لم يُربِّ الخلْق تربية مادية فقط ، بل هناك تربية أعلى من المادة تربية روحية قيمية ، فذكر هنا الحيثية الحقيقية لخَلْق الإنسان ، فهو لم يُخلق لمادته فحسْب ، ولكن لرسالة أسمى ، خلق ليعرف القيم والرب والدين ، وأنْ يعملَ لحياة أخرى غير هذه الحياة المادية ، فقال تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب . . } [ الكهف : 1 ]
فحيثية الحمد هنا إنزالُ الكتاب الذي يجمع كل القيم . وقلنا : إن الحق سبحانه محمود برحمانيته قبل أنْ يخلق الخَلْق وضع له النماذج التي تُصلِح حركة الحياة ، كما قال تعالى : { الرحمن * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان } [ الرحمن : 1-4 ]
فتعليم القرآن جاء قبل خَلْق الإنسان ، إذن : وضع الحق سبحانه لعباده المنهج المنظِّم لحياتهم قبل أن يخلقَهم ، لعِلْمه سبحانه بطبيعة خَلْقه ، وبما يصلحهم ، كالمخترع للآلة الذي يعلم مهمتها ويُحدد قانون صيانتها ، فالكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو المهمة الأساسية ، فيجب أنْ تُوطّن عليها نفسك ، وتعلَم أنه المنظِّم لحياتك ، وبه قانون صيانتك .
(1/5356)
وقوله : { على عَبْدِهِ . . } [ الكهف : 1 ] كما قلنا : في سورة الإسراء : إن العبودية كانت حيثية الرِّفْعة في الإسراء والمعراج ، فقال سبحانه : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ . . } [ الإسراء : 1 ]
فالعبودية رفعتْه إلى حضرته تعالى؛ لأنه كان عبداً بحقّ ، وهذا يعني إنزال الكتاب عليه ، فكان عبداً بحق قبل أن يُسرَى به ، وحمل منهج الله أولاً فالتفتَ لربه لَفْتةً أراد أنْ يلفتَ بها سواه ، فأخلص هو أولاً في العبودية ، وتحمَّل ما تحمّل ، فكان من جزائه أن يرتفع إلى مقام الحضرة فَعُرِج به ، وهناك أعطاه الله الصلاة لينزلَ بها إلى الخَلْق ليرفع بها صوته إلى المقام الذي سعى إليه بالمعراج .
إذن : فالنبي تناول ليناوِل ، وتناول لأنه أخلصَ العبودية ، فصعد إلى حضرة ربه ، وأخذ فريضة الصلاة وبلَّغها لقومه ، وكأنه يقول لهم : مَنْ أراد أن يلتقي بالله ، فليدخل في الصلاة .
و { الكتاب . . } [ الكهف : 1 ] هو القرآن الكريم ، لكن سورة الكهف ترتيبها الثامنة عشرة بين سور المصحف من المائة والأربعة عشرة سورة ، أي : أن القرآن لم يكتمل بعد ، فلماذا قال تعالى { الكتاب } وهو لم يكتمل بعد؟
نقول : الكتاب يُطلَق ويُرَادُ به بعضه ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ]
فالآية الواحدة تُسمَّى قرآناً ، والسورة تُسمَّى قرآناً ، والكل نُسمِّيه قرآناً .
أو : يكون المراد أَنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ ، ثم نزَّله بعد ذلك مُنَجَّماً حَسْب الوقائع ، فالمراد هنا الإنزال لا التنزيل .
وقوله تعالى : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] أي : جعله مستقيماً ، لا عِوجَ فيه ، كما قال في آية أخرى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ . . } [ الزمر : 28 ] والاعوجاج ، أن يأخذ الشيءُ امتداداً مُنْحنياً ملتوياً ، أما الاستقامة فهي الامتداد في نفس الاتجاه ، لا يميل يميناً أو شمالاً ، ومعلوم أن الخطَّ المستقيم يمثل أقرب مسافة بين نقطتين ، ولا تستقيم حياة الناس في الدنيا إلا إذا ساروا جميعاً على منهج مستقيم يعصمهم من التصادم في حركة الحياة .
فالحق سبحانه وتعالى خلق الخَلْق متكاملين ، فكُلٌّ منهم لديه موهبة يحتاجها الآخرين ، فهذا طبيب ، وهذا مهندس ، وهذا نجار ، وهذا خياط ، ولا يستطيع أحد أن يقومَ بذاته أو يستغني عن مواهب غيره ، فلا بُدَّ أن يتواجه الناس في الحياة ، وأنْ يتكاملوا .
هذا التواجه إنْ لم يُنظِّم وتوضع له قوانين مرور دقيقة لتصادمت حركات الناس ، كما يحدث على الطريق الملتوي كثير المنحنيات ، فالقادم من هنا لا يرى القادم من هناك ، فيحدث التصادم . إذن : لا بُدَّ من استقامة الطريق ليرى كلٌّ مِنّا الآخر ، فلا يصطدم به . والمنهج الإلهي هو الطريق المستقيم الذي يضمن الحركة في الحياة .
وقد ذُكر الاعوجاج أيضاً في قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 105-107 ]
أي : أرضاً مستوية خالية من أي شيء { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } [ طه : 107 ] أي : مستقيمة { ولا أَمْتاً } [ طه : 107 ] .
أي : مُسْتوية لا يُوجد بها مرتفعات ومنخفضات تعوق الرؤية أيضاً وتسبب التصادم ، وهذا ما يُسمِّيه رجال المرور ( العقبة ) .
ثم يقول الحق سبحانه واصفاً القرآن الكريم : { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين . . . } .
(1/5357)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
قوله : { قَيِّماً } أي : القرآن ، وقالوا : قيِّم يعني مستقيم ، كأنها تأكيد لقوله : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] لأن الاستقامة والعِوَج قد لا يُدرك بالعين المجردة وتحتاج إلى ميزان دقيق يكشف لك مدى العِوَج أو الاستقامة ، وهذه الظاهرة تراها في الطرق المستوية المرصوفة ، والتي تراها للوَهْلة الأولى مستقيمة تماماً ومستوية ، فإذا ما نزل المطر فضح هذا الاستواء وأظهر ما فيه من عيوب؛ لذلك أكّد الاستقامة بقوله : { قَيِّماً } [ الكهف : 2 ]
ومن معاني القَيِّم : المهيمن على ما دونه ، كما تقول : فلان قَيِّم على فلان أي : مُهيمن عليه وقائم على أمره . فالقرآن إذن لاعِوَج فيه ، وهو أيضاً مُهيمن على الكتب السابقة وله الوصاية عليها كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ]
ومنه قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القيم } [ الروم : 43 ] أي : المهيمن على الأديان السابقة .
ثم يقول تعالى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ]
وهذه هي العِلّة في الإنزال .
والإنذار : التخويف بشَرٍّ قادم ، والمنْذَر هنا هم الكفار؛ لأنه لا يُنذَر بالعذاب الشديد إلا الكفار ، لكن سياق الآية لم يذكرها ليترك مجالاً للملَكَة العربية وللذّهْن أنْ يعملَ ، وأنْ يستقبلَ القرآن بفكر مُتفتح وعقل يستنبط ، وليس بالضرورة أن يعطينا القرآنُ كلّ شيء هكذا على طرف الثُّمام أي قريباً سهل التناول .
ثم ضَخّم العذاب بأنه شديد ، ليس ذلك وفقط بل { مِن لَّدُنهُ } ، والعذاب يتناسب مع المعذِّب وقوته ، فإنْ كان العذاب من الله فلا طاقة لأحدٍ به ، ولا مهربَ لأحد منه .
ثم يقول تعالى : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين } [ الكهف : 2 ] والبشارة تكون بالخير المنتظر في المستقبل ، وتلاحظ أنه في البشارة ذكر المبشَّر { المؤمنين } ولم يسكت عنهم كما سكت عن الكفار في الإنذار ، فهذا من رحمة الله بنا حتى في الأسلوب ، والبشارة هنا بالأجر الحسن؛ لأنه أجر من الكريم المتفضّل سبحانه؛ لذلك قال الحق سبحانه بعدها : { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } .
(1/5358)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
أي : باقين فيه بقاءً أبدياً ، وكان لا بُدّ أنْ يوصَف أجر الله الحسن بأنه دائم ، وأنهم ماكثون فيه أبداً؛ لأن هناك فرقاً بين أجر الناس للناس في الدنيا ، وأجر المنعِم سبحانه في الآخرة ، لقد أَلِفَ الناس الأجر على أنه جُعِل على عمل ، فعلى قَدْر ما تعمل يكون أجرك ، فإنْ لم تعمل فلا أجرَ لك .
أما أَجْر الله لعباده في الآخرة فهو أجر عظيم دائم ، فإنْ ظلمك الناس في تقدير أجرك في الدنيا ، فالله تعالى عادل لا يظلم يعطيك بسخاء؛ لأنه المنصِف المتفضّل ، وإنِ انقطع الأجر في الدنيا فإنه دائم في الآخرة؛ لأنك مهما أخذتَ من نعيم الدنيا فهو نعيم زائل ، إما أنْ تتركه ، وإما أنْ يتركك .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } .
(1/5359)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
والإنذار هنا غير الإنذار الأول ، لقد كرّر الإنذار ليكون خاصاً بقمة المعاصي ، إنذار للذين قالوا اتخذ الله ولداً ، أما الإنذار الأول فهو لمطلق الكفر والمعصية ، وأما الثاني فهو لإعادة الخاص مع العام ، كأن لهؤلاء الذين نسبوا لله الولد عذاباً يناسب ما وقعوا فيه من جرأة على الحق سبحانه وتعالى .
وقد أوضح القرآن فظاعة هذه المعصية في قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 88-92 ]
إنها قمة المعاصي أنْ نخوضَ في ذات الله تعالى بمقولة تتفطر لها السماء ، وتنشق لها الأرض ، وتنهدّ لهوْلِها الجبال .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ . . . } .
(1/5360)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
فهذه القضية التي ادَّعَوْها ، وهذه المقولة التي كذبوها على الله من أين أَتَوْا بها؟ الحقيقة أنهم ادعَوْها ولا علمَ لهم بها ، والعلم إما ذاتي ، وإما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم وهم لا يملكون شيئاً من هذا ويقولون بأمر لا واقع له؛ لذلك يقول تعالى : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ . . } [ الكهف : 5 ]
وعدم العلم ينشأ من أمرين : إما أن الشيءَ موجود وأنت لا تعلم به؛ لأنه مستور عنك ، وإما لأن الشيء لا وجودَ له أصلاً ، وأنت لا تعلم أنه غير موجود؛ لأن غير الموجود لا يمكن أن يتعلق به علم .
وقوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ . . } [ الكهف : 5 ]
{ كَبُرَتْ } أي : عَظُمَتْ وتناهتْ في الإثم؛ لأنهم تناولوا مسألة فظيعة ، كَبُرَتْ أنْ تخرجَ هذه الكلمة من أفواههم .
{ كَلِمَةً } الكلمة قول مُفْرد ليس له نسبة كأن تقول : محمد أو ذهب أو في ، فالاسم والفعل والحرف كل منها كلمة مستقلة ، والكلمة تُطلَق ويُراد بها الكلام ، فالآية عَبَّرتْ عن قولهم : { اتخذ الله وَلَداً } [ الكهف : 4 ] بأنها كلمة ، كما تقول : ألقى فلان كلمة . والواقع أنه ألقى خُطْبة .
ومن ذلك قوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } [ المؤمنون : 99-100 ] فسمَّى قولهم هذا { كَلِمَةً } .
ومنها قوله تعالى : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله . . } [ آل عمران : 64 ] فسمَّى كل هذا الكلام كلمة .
وقوله تعالى : { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ . . } [ الكهف : 5 ] أي : أن هذه الكلمة كَبُرت لأنها خرجت منهم وقالوها فعلاً ، ولو أنهم كتموها في نفوسهم ولم يجهروا بها واستعظموا أن تخرجَ منهم لكانوا في عداد المؤمنين ، بدليل أن وفد اليمن حينما أتوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله تدور بأنفسنا أفكار عن الله ، نتعاظم أن نقولها أي : لا نقدر على النطق بها فقال صلى الله عليه وسلم : " ذاك صريح الإيمان " .
إذن : المعيب عليهم أنهم أخرجوا هذه المسألة من أفواههم ، وهذا منتهى القُبْح ، فالأفكار والخواطر مهما بلغتْ من السوء وكتمها صاحبها لا يترتب عليها شيء ، وكأنها لم تكُنْ .
ثم يقول تعالى : { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً . . } [ الكهف : 5 ] أي : ما يقولون إلا كذباً ، والكذب أَلاَّ يطابق الكلام واقع الأمر ، فالعاقل قبل أنْ يتكلم يُدير الكلام على ذِهْنه ويَعْرضه على تفكيره ، فتأتي النسبة في ذِهْنه وينطقها لسانه ، وهذه النسبة قبل أن يفكر فيها وينطق بها لها واقع .
فمثلاً حين تقول : محمد مجتهد . قبل أن تنطق بها جال في خاطرك اجتهاد محمد ، وهذه تُسمّى نسبة ذِهْنية ، فإنْ قلتَ : محمد مجتهد أصبحتْ نسبة كلامية ، فإنْ وُجد شَخص اسمه محمد وهو مجتهد فعلاً ، فإن النسبة الذهنية الكلامية أصبحتْ نسبة واقعية ، والخبر بها خبر صادق .
(1/5361)
فإنْ كانت النسبة الكلامية لا واقعَ لها كأنْ لا يوجد شخص اسمه محمد أو وُجِد ولكنه غير مجتهد ، فالخبر هنا كاذب . وهذا هو الأسلوب الخبري الذي يحتمل الصدق أو الكذب .
وهناك الأسلوب الإنشائي الذي لا يحتمل الصِّدْق ، ولا يحتمل الكذب؛ لأن النسبة الواقعية فيه متأخرة عن النسبة الكلامية كما لو قُلْت : ذاكر دروسك . فواقع هذه العبارة سيحدث في المستقبل؛ لذلك لا يُوصَف الإنشاء بالصدق أو بالكذب .
والتدقيق العلمي يقول : الصدق الحقيقي أنْ تطابقَ النسبة الكلامية الواقع والاعتقاد ، فإن اعتقدتَ شيئاً ولم يحدث ، فالنسبة كاذبة وأنت غير كاذب؛ لأن هناك فرقاً بين الخبر والمخْبِر .
وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ]
فقولهم : إنك لرسول الله نسبة صادقة؛ لأنها تطابق الواقع ، إنما هل وافقتْ معتقدهم؟ لم توافق معتقدهم؛ لذلك شهد الله أنهم كاذبون؛ لأن كلامهم لم يوافق واقعهم الاعتقادي . أو : لأن التكذيب لم يرد به قولهم : إنك لرسول الله وإنما يُراد به قولهم : نشهد ، فالتكذيب للشهادة لأن الشهادة أنْ يُواطِئ القلب اللسان ، وهم شهدوا بألسنتهم ، ولم تؤمن به قلوبهم .
وهنا لَمّا قالوا { اتخذ الله وَلَداً } ، فهذه نسبة كلامية ليس لها واقع ، فهي نسبة كاذبة ، فقال تعالى : { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً . . } [ الكهف : 5 ]
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم لِيُخفِّف عنه ما يلاقي من متاعب وعناد وسَفَه في سبيل الدعوة فيقول تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ . . } .
(1/5362)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
ومعنى : { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ . . } [ الكهف : 6 ] أي : تجهد نفسك في دعوة قومك إجهاداً يُهلكها ، وفي الآية إشفاق على رسول الله؛ لأنه حَمّل نفسه في سبيل هداية قومه ما لا يحمله الله ويلزم ما لا يلزمه ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو قومه فيُعرضوا ويتولَّوْا عنه فيُشيِّع آثارهم بالأسف والحزن ، كما يسافر عنك حبيب أو عزيز ، فتسير على أثره تملؤك مرارة الأسى والفراق ، فكأن رسول الله لحبه لقومه وحِرْصه على هدايتهم يكاد يُهلك نفسه { أَسَفاً } .
والأسف : الحزن العميق ، ومنه قَوْلُ يعقوب عليه السلام : { ياأسفى عَلَى يُوسُفَ . . } [ يوسف : 84 ] وقوله تعالى عن موسى لما رجع إلى قومه غاضباً من عبادتهم العجل : { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً . . } [ طه : 86 ]
وقد حدّد الله تعالى مهمة الرسول وهي البلاغ ، وجعله بشيراً ونذيراً ، ولم يُكلّفه من أمر الدعوة ما لا يطيق ، ففي الآية مظهر من مظاهر رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، فيقول الحق سبحانه : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا . . . } .
(1/5363)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
وكأن هذه الآية تعقيب على سابقتها ، وإشارة لرسول الله بأن الدنيا قصيرة ، فالمسألة إذن قريبة فلا داعيَ لأنْ يُهلِك نفسه حُزْناً على عناد قومه ، فالدنيا لكل إنسان مدة بقائه بها وعَيْشَه فيها ، ولا دخلَ له بعمرها الحقيقي؛ لأن حياة غيره لا تعود عليه بشيء ، وعلى هذا فما أقصرَ الدنيا ، وما أسرعَ انتهائها ، ثم يرجعون إلينا فنجازيهم بما عملوا ، فلا تحزن ولا تيأس ، ولا تكدِّر نفسك ، لأنهم لم يؤمنوا .
فقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا . . } [ الكهف : 7 ] أي : كل ما على الأرض هو زينة ، والزينة هي الزخرف الذي يبرق أمام الأعين فيغريها ، ثم يندثر ويتلاشى ، وقد أوضح لنا القرآن هذه المسألة في قوله تعالى : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح . . } [ الكهف : 45 ]
فإياك أنْ يأخذك هذا الزخرف؛ لأنه زَهْر سرعان ما يذبل ويصير حُطاماً .
وقوله : { لِنَبْلُوَهُمْ . . } [ الكهف : 7 ] البلاء يعني : الاختبار والامتحان . وليس المصيبة كما يظن البعض؛ لأن المصيبة تكون على مَنْ يخفِق في الاختبار ، والابتلاء لهم من الله مع علمه تعالى بأمرهم وما سيحدث منهم مُسْبقاً ، ولكن لنعرف معرفة الواقع وشهادة الواقع .
وما أشبه هذه المسألة بالتلميذ الذي يتنبأ له أستاذه بالفشل لما يراه من مقدمات يعرفها عن عقليته وعن اجتهاده والتفاته يحكم من خلالها ، فإذا ما دخل التلميذ الاختبار فشل فيه وأخفق ، لكن هل يعني هذا أن نلغي الاختبارات في مدارسنا اعتماداً على خبرة المعلم بتلاميذه؟ لا بُدَّ من الاختبار ليقوم شاهداً واقعياً على مَنْ يخفق .
إذن معنى : { لِنَبْلُوَهُمْ . . } [ الكهف : 7 ] أي : بلاء شهادة منهم على أنفسهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } .
(1/5364)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
الصعيد : هو طبقة التراب التي تظهر على وجه الأرض ، ولا نباتَ فيها و { جُرُزاً } هي الأرض الخالية من النبات ، وقد يكون بها نبات ، إلا أن الجراد أكله أو جاءته جائحة أهلكتْه ، يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ]
وما دام الأمر كذلك والدنيا زُخْرف سرعان ما يزول ، فالأجل قريب ، فدَعْهم لي أختبرهم ، وأُجَازيهم بأعمالهم .
ويقول الحق تبارك وتعالى : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } .
(1/5365)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
وقد وردتْ قصة أهل الكهف نتيجة لسؤال كفار مكة الذين أرادوا أنْ يُحرجوا رسول الله ، ويُروى أنهم أرسلوا رجلين منهم هما : النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أهل الكتاب في المدينة ليسألوهم عن صدق رسول الله ، وما خبره عندهم ، وما ورد عنه في كتبهم .
وقد كان يهود المدينة قبل البعثة يتوعدون الأوس والخزرج عباد الأصنام ببعثة النبي الجديد ، يقولون : لقد أطلَّ زمان نبيٍّ نتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؛ لذلك رغب أهل مكة في سؤال يهود المدينة عن صدق رسول الله ، فلما ذهب الرجلان إلى يهود المدينة قالوا : إنْ أردتُمْ معرفة صدق محمد فاسألوه عن ثلاثة أشياء ، فإنْ أجابكم فهو صادق ، اسألوه : ما قصة القوم الذين ذهبوا في الدهر مذاهب عجيبة؟ وما قصة الرجل الطوّاف الذي طاف الأرض شرقاً وغرباً؟ وما الروح؟
وفعلاً ذهب الرجلان إلى رسول الله ، وسألاه هذه الأسئلة فقال صلى الله عليه وسلم : " أخبركم بما سألتم عنه غداً " وجاء غد وبعد غد ومرَّت خمسة عشر يوماً دون أنْ يُوحَى لرسول الله شيء من أمر هذه الأسئلة ، فشقّ ذلك على رسول الله وكَبُر في نفسه أنْ يعطِي وَعْداً ولا يُنجزه .
وقالوا : إن سبب إبطاء الوحي على رسول الله في هذه المسألة أنه قال : " أخبركم بما سألتم عنه غداً " ولم يقُلْ : إنْ شاء الله؛ ولذلك خاطبه ربه تبارك وتعالى بقوله : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . } [ الكهف : 23-24 ]
وهذه الآية في حَدِّ ذاتها دليل على صدق رسول الله ، وعلى أدبه ، وعلى أمانته في البلاغ عن ربه عز وجل ، وقد أراد الحق سبحانه أن يكون هذا الدرس في ذات الرسول ليكون نموذجاً لغيره ، وحتى لا يستنكف أحد إذا استُدرك عليه شيء ، فها هو محمد رسول الله يستدرك عليه ربه ويُعدِّل له .
فكأن قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . } [ الكهف : 23-24 ] تربية للأمة في شخصية رسولها حتى لا يستنكف المربَّى من توجيه المربِّي ، ما دام الهدف هو الوصول إلى الحقيقة ، فإياكم أن ترفضوا استدراك رأي على رأي حتى وإنْ كان من الخَلْق ، فما بالك إنْ كان الاستدراك من الخالق سبحانه ، والتعديل والتربية من ناحيته؟
وإليك مثال لأدب الاستدراك ومشروعية استئناف الحكم ، لقد ورد هذا الدرس في قوله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ]
فكان حكم داود عليه السلام في هذه المسألة أنْ يأخذ صاحب الزرع الغنم التي أكلتْ زرعه ، فلما بلغ سليمان هذه الحكومة استدرك عليها قائلاً : بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها ، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يُصلحه حتى يعودَ إلى ما كان عليه ، ثم تعود الغنم إلى صاحبها ، والزرع إلى صاحبه .
(1/5366)
لذلك قال تعالى بعدها : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ . . } [ الأنبياء : 79 ] ولم يتهم داود بالخطأ ، بل قال : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً . . } [ الأنبياء : 79 ]
ونلحظ هنا أن الاستدراك لم يَأْتِ من الأب للابن ، فيكون أمراً طبيعياً ، بل جاء من الابن للأب ليؤكد على أنه لا غضاضة أنْ يستدرك الصغير على الكبير ، أو الابن على الأب ، فالهدف هو الوصول إلى الحق والصواب ، ونبيّ الله سليمان في هذه المسألة لم يغُضّ الطرف عن هذا القصور في حكومة أبيه ، بل جهر بالحق ونطق به؛ لأن الحق أعزّ من أيِّ صلة حتى لو كانت صلة الأبوة .
ومن هذه القضية نعلم استدراك الخَلْق على الخَلْق أمر طبيعي ومقبول لا يستنكف منه أحد ، ومن هنا جاءت فكرة الاستئناف في المحاكم ، فلعل القاضي في محكمة الاستئناف يستدرك على زميله في المحكمة الابتدائية ، أو يقف على شيء لم يقف عليه ، أو يرى جانباً من القضية لم يَرَهُ .
ولنا هنا وَقْفة مع أمانته صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله ، وأنه لم يكتم من الوحي شيئاً حتى ما جاء في عتابه والاستدراك عليه ، فكأنه أمينٌ حتى على نفسه ، فالرسول هو الذي بلغنا : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً } [ الكهف : 23 ] وهو الذي بلَّغنا : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ]
وهو الذي بلغنا في شأن غزوة بدر : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . } [ التوبة : 43 ] وغيرها كثير من آيات القرآن؛ لذلك مدحه ربه تعالى بقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ } [ التكوير : 24 ]
حتى في مجال التهديد والوعيد لم يكتم رسول الله من الوحي حرفاً واحداً ، انظر إلى قوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ]
إنها الأمانة المطلقة والصدق الذي لا يُخفِي شيئاً .
ألم يكُنْ جديراً بالقوم أنْ يفقهوا هذه الناحية من رسول الله ، ويتفكّروا في صِدْقه صلى الله عليه وسلم حين يُخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها ، وكان من المنتظر أنْ يُخفيها عنهم؟ أليس في ذلك دليلاً قاطعاً على صدقه فيما يقول؟
والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن نقول : إن شاء الله إذا أقدمنا على عمل في المستقبل إنما يُكرّم عبده ويحميه حتى لا يُوصَف بالكذب إذا لم يُحقِّق ما وعد به ، وليس في قولنا : إنْ شاء الله حَجْر على أحد ، أو تقييد لطموحات البشر كما يدّعي البعض أن قول إنْ شاء الله يلغي التخطيط للمستقبل .
نقول : خَطِّط كما تريد ، ودَبِّر من أمرك ما شئت ، واصنع من المقدمات ما تراه مناسباً لإنجاح سعيك ، لكن ما عليك إنْ قرنتَ هذا كله بمشيئة الله ، وهي في حَدِّ ذاتها عَوْنٌ لك على ما تريد ، فإنْ أخفقتَ فقد جعلتَ لنفسك حماية في مشيئة الله ، فأنت غير كاذب ، والحق تبارك وتعالى لم يشأ بَعْدُ أنْ تنجزَ ما تسعى إليه .
(1/5367)
والحقيقة أن الحدث في المستقبل لا يملكه أحد ، ولا يضمنه أحد إلا الله تبارك وتعالى؛ لذلك عليك أن تعلق الفعل على مشيئة الله ، فإنْ قُلْتَ مثلاً : سأقابل فلاناً غداً لأكلمه في كذا ، فهل تملك أنت من عناصر هذا الحدث شيئاً؟
أضمنتَ أن تعيش إلى غد؟ أضمنتَ حياة فلان هذا إلى الغد؟ أضمنتَ أن موضوع المقابلة باق لا يتغير فيه شيء ، ولا يطرأ عليه طارئ؟ إذن : فكيف تقطع بالقول أنك ستفعل غداً كذا؟ قل : إن شاء الله ، واخرج من دائرة الحرج هذه .
نعود إلى الآية التي نحن بصددها فالحق سبحانه يقول : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ]
{ أَمْ } حرف من حروف العطف ، ويفيد الإضراب عَمَّا قبله وتوجيه الاهتمام إلى ما بعده ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور . . } [ الرعد : 16 ]
فالمراد : إنْ سألك كفار مكة عن مسألة أصحاب الكهف على أنها معضلة يريدون إحراجك بها ، فدعْكَ من كلامهم ، ودَعْك من سوء نيتهم ، ولا تحسب أن أهل الكهف هي العجيبة الوحيدة لدينا ، فالعجائب عندنا كثيرة ، وهذه واحدة منها .
و { الكهف } : الفجوة في الجبل و { والرقيم } الشيء المرقوم أي : المكتوب عليه كحجر أو نحوه ، ولعله حجر كان على باب الكهف رُقِم عليه أسماء هؤلاء الفتية ، ومن ذلك قوله تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 9 ] أي : مكتوب .
وقوله : { كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } [ الكهف : 9 ] أي : ليست هذه هي العجيبة الوحيدة ، فكل آياتنا عجيبة تستحق التأمل .
ثم تأخذ الآيات في تفصيل هذه العجيبة ، فيقول تعالى : { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً . . } .
(1/5368)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{ أَوَى } من المأوى ، وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ إليه { الفتية } جمع فتى ، وهو الشاب في مُقْتبل العمر ، والشباب هم مَعْقِد الآمال في حَمْل الأعباء والنهوض بكل أمر صعب ، وهؤلاء شباب مؤمن وقفوا يحملون راية عقيدتهم وإيمانهم أمام جبروت الكفر وطغيان الشرك ، فالفتاء فيهم فتاء إيمان وعقيدة .
لذلك لجأوا إلى الكهف مُخلِّفين وراءهم أموالهم وأهلهم وكل ما يملكون ، وفرُّوا بدينهم إلى هذا المكان الضيق الخالي من أيِّ مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة؛ لأنهم لا يشغلون أنفسهم بهذه المقوّمات ، بل يعلمون أن لهم رباً سيتولى أمرهم؛ لذلك ضَرَعُوا إليه قائلين :
{ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً . . } [ الكهف : 10 ] أي : رحمة من عندك ، أنت ترحم بها ما نحن فيه من انقطاع عن كل مُقوِّمات الحياة ، فالرحمة في فجوة الجبل لن تكون من البشر ، الرحمن هنا لا تكون إلا من الله : { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } [ الكهف : 10 ] أي : يَسِّر لنا طريقاً سديداً للخير وللحق .
إن هؤلاء الفتية المؤمنين حينما ألجأهم الكفر إلى ضيق الكهف تضرَّعوا واتجهوا إلى ربهم ، فهو وحده القادر على أن يُوسّع عليهم هذا الضيق ، كما قال تعالى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ . . } [ الأنعام : 43 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { فَضَرَبْنَا على ءَاذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } .
(1/5369)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
يُقَال : ضُرِب الفسطاط على الأرض يعني الخيمة ، أي : غُطِّيتْ الأرض بها بعد أنْ كانت فضاءً ، والضرب : أن تلمس شيئاً بشيء بشدة شريطة أن يكون المضروب به أقوى من المضروب ، وإلاّ كان الضارب ضارباً لنفسه .
لذلك ، فالشاعر عندما تكلم عن المعترضين على القدر قال :
أَيا هَازِئاً مِنْ صُنُوفِ القَدَرِ ... بنفْسِكَ تُعنف لاَ بالقَدَر
وَيَا ضَارِباً صَخْرةً بِالعَصَا ... ضَربْتَ العَصَا أَمْ ضرَبْتَ الحَجَر؟
فمعنى : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ . . } [ الكهف : 11 ] أي : غطيناها بغطاء محكم يحجبهم عن العالم الخارجي ، والضرب على آذانهم هو الرحمة التي دعوا الله بها وطلبوها؛ لأن الإنسان الذي يحمل الفأس مثلاً ويعمل بها إنْ تعب وأجهده العمل يقف بعض الوقت ليستريح ، فإنْ تعب من الوقوف قعد ، فإنْ تعب من القعود استلقى واضطجع ، فإنْ لم يسترح فلا يبقى إلا أن ينام ، ففي النوم تهدأ الأعصاب ، ويستريح الإنسان ، حتى مع الآلام في أعنف الأمراض إذا نام المريض لا يشعر بشيء من الألم؛ لذلك اختار لهم ربهم هذا الوضع ليريحهم به طوال فترة مُكْثهم في الكهف .
فالحق سبحانه إذن هو الضارب ، والمضروب هو الآذان ، والضرب على الآذان هنا للرحمة لا للعذاب؛ لأن الله تعالى أراد لهم أقصى درجات الراحة والنوم الهادئ الذي لا يُعكّر صَفْوه شيء ، والنوم هو الراحة التامة التي تطغى على الآلام العضوية في الذات الإنسانية .
وقد أختار الحق سبحانه الضرب على آذانهم؛ لأن حاسة السمع هي أول الحواس عملاً في الإنسان ، وهي أول آلة إدراك تُؤدّي مهمتها في الطفل ، كما قال الحق سبحانه وتعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
هذه الحواس هي منافذ العلم والإدراك للإنسان ، فلو وضعتَ أصبعك أمام عين الطفل المولود تراه لا يرمش؛ لأنه لا يرى إلا بعد ثلاثة إلى عشرة أيام ، أما لو صرختَ في أُذنه فإنه ينتبه فحاسة السمع تؤدي مهمتها منذ ولادته . وكذلك فالأذن تمتاز أيضاً بأنها الإدراك الوحيد الذي لا يتعطل ولا يتوقف أثناء النوم لأن بها يتم الاستدعاء من النوم .
وهؤلاء الفتية دخلوا وأَوَوْا إلى الكهف ، وهو فَجْوة في جبل في صحراء وهي عُرْضة للعواصف والرياح وأصوات الحيوانات وأشياء كثيرة يمكن أن تزعج النائم ، فلو تركهم الخالق سبحانه في نومهم هذا على طبيعتهم لأزعجتهم هذه الأصوات وأقلقتْ راحتهم؛ لذلك عطّل حاسة السمع عندهم ، وبذلك استطاعوا أن يناموا كل هذه المدة .
ثم يقول تعالى : { فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] ومعنى عدداً أي : سنين كثيرة؛ لأن القليل لا يُعَدُّ لأنه معروف ، فإنْ ذكر العدّ فاعلم أنه للشيء الكثير ، كما تقول : فلان عنده مليون عَدّاً ونقداً .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } .
(1/5370)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ بَعَثْنَاهُمْ } أي : أيقظناهم من نومهم الطويل ، وما داموا قد ناموا فالأمر إذن ليس موتاً إلا أنهم لما طالتْ مدة نومهم شبَّهها بالموت : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ . . } [ الكهف : 12 ] أي : الفريقين منهم؛ لأنهم سأل بعضهم بعضاً عن مُدَّة لُبْثهم فقالوا : يوماً أو بعض يوم .
أو : المراد الفريقان من الناس الذين اختلفوا في تحديد مدة نومهم : { أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } [ الكهف : 12 ] أي : لنرى أيّ الفريقين سيُقدِّر مُدّتهم تقديراً صائباً . والأمد : هو المدة وعدد السنين .
والمتأمل في الآيات السابقة يجد فيها ملخصاً للقصة وموجزاً لها ، وكأنها برقية سريعة بما حدث ، فأهل الكهف فتية مؤمنون فروا بدينهم إلى كهف من الكهوف ، وضرب الله على آذانهم فناموا مدة طويلة ، ثم بعثهم الله ليعلم مَنْ يحصي مدة نومهم ، وهذه البرقية بالطبع لم تُعطِنَا تفصيلاً لكل لقطات القصة؛ لذلك تبدأ الآيات في التفصيل فيقول تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق . . } .
(1/5371)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{ نَحْنُ } أي : الحق سبحانه وتعالى ، فهو الذي يقصُّ ما حدث بالحق ، فلو أن القاصَّ غير الله لتُوقّع منه الخطأ أو النسيان ، أو ترك شيء من الأحداث لِهَوىً في نفسه ، إنما إنْ جاءك القصص من الله فهو الحق ، كما قال في آية أخرى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص . . } [ يوسف : 3 ]
إذن : هناك قصَص ليس بالحسن ، وهو القَصَص غير الدقيق .
فالقصَصُ القرآني يضمن لك منتهى الدقة في عرض الأحداث ، ويُصوّر لك كل اللقطات ، وكلمة قصة أو قَصَص تدلُّ على دقة التتبع؛ لأنها من قصَّ الأثر أي : تتبَّعه وكان لهذه المهمة رجال معروفون بقصّاصي الأثر ، وهم الذين يتتبعون الواقع .
و { نبَأَهُم } النبأ : هو الخبر العظيم .
ثم يقول تبارك وتعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى . . } [ الكهف : 13 ]
هذا هو تفصيل القصة بعد أنْ لخَّصها القرآن في المذكرة والبرقية السابقة ، وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله : لقد ذكر ناسٌ هذه القصة من قبل ، لكنها قُصَّتْ بغير الحق ، وغُيّر فيها ، لكن قَصّنا لها هو القَصَص الحق الذي لا كذبَ فيه .
فحقيقة هؤلاء أنهم فتية آمنوا بالله ، وهذه قضيتهم التي ضَحَّوْا من أجلها ، فلما آمنوا بالله تولاّهم ونوَّر بصائرهم وربط على قلوبهم ، وزادهم إيماناً ، كما قال في آية أخرى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وءاتاهم تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
وما أشبه هذه المسألة بالمعلِّم الذي يلمح أمارات النجابة والذكاء على أحد تلاميذه ، ويراه مُجيباً حريصاً على العلم فيُولِيه اهتمامه ويمنحه المزيد من المعلومات .
ونلاحظ هنا أن هؤلاء المؤمنين الذين ضَحَّوْا بكلِّ شيء وفرُّوا بدينهم ما زالوا في مرحلة الشباب ، وهو مظنّة الانشغال بالدنيا والحِرْص على مُتعها ، أما هؤلاء فقد انشغلوا بدينهم منذ صِغَرهم ليكونوا قدْوة ومثَلاً للشباب المؤمن في كل زمان ومكان ، فالفتاء في أهل الكهف : فتاء إيمان و فتاء عقيدة .
والحق سبحانه يقول : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا . . . } .
(1/5372)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
والربط يعني أن تربط على الشيء وتشدّ عليه لتحفظ ما فيه ، كما تربط القِرْبة حتى لا يسيل الماء ، وتربط الدابة حتى لا تنفلت ، وقد وردتْ مادة ( ربط ) في القرآن كثيراً ، منها قوله تعالى في قصة أم موسى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا . . } [ القصص : 10 ]
أي : ربط على ما في قلبها من الإيمان بالله الذي أوحى إليها أن تُلْقِيَ بولدها في الماء ، ولولا أنْ ربط الله على قلبها وثبّتها لانطلقتْ خلف ولدها تصرخ وتنتحب وتُلفِت إليه الأنظار : { كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا . . } [ القصص : 10 ]
أي : تكشف عن الخُطّة التي أمرها الله بها لنجاة موسى عليه السلام ، وهكذا اطمأن قلب أم موسى ، وأصبح فؤادها فارغاً أي : من الانفعالات الضارة ، ومعلوم أن القلب هو محلُّ الانفعالات ، بدليل ما يحدث فيه من اضطراب وزيادة ضربات وتدفُّق للدم عند الغضب مثلاً .
ولا يُسمَّى القلب فؤاداً إلا إذا توقّد بالمشاعر وتحرك بها ، وربط الله على قلب أم موسى أحدث لها ضَبْطاً للشعور يحكم تصرفاتها فتأتي سليمة مُتمشّية مع الخطة المرادة .
ومن هنا نأمر الغاضب الذي تغلي الدماء في عروقه بالهدوء وضبط النفس؛ لأن الهدوء سيعينه على الحق ، ويُلجم جماح غضبه الذي لا تُحمد عُقباه ، ألا ترى التوجيه النبوي في حال الغضب؟ إنه ينصح بتغيير الوضع الذي أنت عليه؛ لأن هذه العملية تحدث لديك نزوعية ، تصرف عنك الغضب .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ . . } [ إبراهيم : 43 ]
أي : فارغة خالية ليس فيها شيء؛ لأن الشيء إذا فرغته من محتواه امتلأ بالهواء . وهنا يقول الحق سبحانه في أهل الكهف : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ . . } [ الكهف : 14 ] لتظل بداخلها العقيدة والإيمان بالله لا تتزعزع ولا تُخرِجها الأحداث والشدائد ، وهذا من زيادة الهدى الذي أَخبرتْ به الآية السابقة .
وقوله تعالى : { إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض . . } [ الكهف : 14 ]
قاموا : القيام هنا دليل على مواجهتهم للباطل ووقوفهم في وجهه ، وأن الباطل أفزعهم فهُّبوا للتصدِّي له بقولهم : { رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض . . } [ الكهف : 14 ] ولا بُدَّ أنهم سمعوا كلاماً يناقض قولهم ، وتعرّضوا في دعوتهم للحرب والاضطهاد ، فالآية تعطي صورة لفريقين : فريق الكفر الذي ينكر وجود الله أو يشرك به ، وفريق الإيمان الذي يُعلنها مُدوّية : { رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض . . } [ الكهف : 14 ]
وإنْ كان فريق الكفر يدعو إلى عبادة آلهة من دون الله فإن فريق الإيمان يقول : { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } [ الكهف : 14 ] فإن ادّعَيْنَا إلهاً من دون الله { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [ الكهف : 14 ] أي : فقد تجاوزنا الحدّ ، وبَعُدْنا عن الصواب .
ثم يقول الحق سبحانه : { هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً . . . } .
(1/5373)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
وهنا يخبر أهل الكهف الفتية المؤمنون عن قومهم أنهم اتخذوا من دون الله آلهة متعددة ، دون أن يكون لهم دليل أو حُجّة واضحة على صِدْق ما ذهبوا إليه من عبادة هذه الآلهة .
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } [ الكهف : 15 ] فأفظع الظلم وأقبحه أنْ نفتريَ على الله الكذب ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله . . . } .
(1/5374)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
هذا حديث الفتية بعضهم إلى بعض : ما دُمْنا اعتزلنا أهل الكفر ، ونأينا عن طريقهم ، وسلكنا مسلكَ الإيمان بالله الذي يسَّره الله لنا ، فهيا بنا إلى الكهف نلجأ إليه ونحتمي فيه فراراً بديننا ، ومخافة أن يفتننا القوم عن ديننا .
ويلفتنا هنا إلى فرار هؤلاء الفتية ليس إلى بلد آخر فيه مُتّسع للحياة ، بل إلى كهف ضيق في جبل في صحراء ، وليس به مُقوّم من مُقوّمات الحياة؛ لذلك ينبهنا الحق سبحانه : إياك أن تقول : إن الكهف ضيق ، وكيف يعيشون فيه؟ لأنهم مهاجرون إلى الله لاجئون إليه مُتوكّلون عليه .
لذلك قال بعدها : { يَنْشُرْ لَكُمْ } [ الكهف : 16 ] فالضيق يقابلُه البَسْط والسّعة ، لقد قالوا هذه الكلمة وهم واثقون في رحمة الله معتقدون أن الذي هاجروا إليه لن يُسلمهم ولن يخذلهم ، وسوف يُوسِّع عليهم برحمته هذا الضيق ، وقد وَسَّعه الله عليهم فعلاً حين أنامهم ، أَلاَ ترى النائم يربع في الدنيا هنا وهناك ولا تحدُّه حدود؟
ومن هذه السعة ما حدث في قصة نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما تبعه فرعون بجنود حتى قال أتباعه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . . } [ الشعراء : 61 ] ، فقد ضاق عليهم الخناق حيث البحر من أمامهم ، والعدو من خلفهم ، ولا مهربَ لهم فيما يرون من واقع الأمر . فماذا قال موسى لقومه في هذا الموقف؟ قال بملء فيه قوْلَة الواثق من نصر الله : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ]
فجاءه التأييد من ربه في التوِّ واللحظة ، وفُرّج عنه وعن أصحابه ما يُلاَقون من ضيق المخرج ، فأوحى الله إليه : { اضرب بِّعَصَاكَ البحر } [ الشعراء : 63 ]
كذلك هنا : { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ . . } [ الكهف : 16 ]
ثم يقول تعالى : { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] والمراد بالمرفق جمع مرافق ، وهي مُقوّمات الحياة التي لا يستغني عنها الإنسان ، فلما أنامهم الله أغناهم عن مرافق الحياة ، لأنهم إنْ ظلوا في حال اليقظة فلا بُدَّ أنْ يحتاجوا إلى هذه المرافق .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال . . . } .
(1/5375)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
بعد أنْ ضرب الله على آذانهم فعصمهم من الأصوات التي تُزعجهم وتُقلِق نومهم عصمهم أيضاً من ضوء الشمس ، وقد أثبتت الأبحاث خطر الأشعة خاصة على النائم ، وأن للظُّلمة مهمةً ، فبها تهدأ الأعصاب وترتاح الأعضاء ، والشمس خَلْق من خَلْق الله ، لها مَدارٌ ثابت وقانون لا يتخلّف ، كما قال تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ]
ولكن الخالق سبحانه وتعالى خرق لهم نظام الشمس حتى لا يزعجهم ضوؤها فجعلها { تَّزَاوَرُ } أي : تميل عند طلوعها عن الكهف ، ومنه الزُّور : أي الميل عن الحق ، وازورّ عن الشيء أي : مال عنه ، فكانت الشمس إذا طلعتْ تميل عن الكهف جهة اليمين .
{ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } [ الكهف : 17 ] والقرْض كما هو معلوم أنْ تعطي غيرك شيئاً يحتاج إليه ، فكأن الشمس تقرضهم وتسلفهم ، كونها لا تدخل عليهم عند غروبها ، وهذا أمر ليس من حقهم ، فكأنها تقرضهم إياه . ولا شَكَّ أن هذه العملية مظهرٌ من مظاهر قدرة الله التي تصنع الشيء وضده .
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الفعل للشمس في تزاور وتقرضهم ، وكأنها تفعل ذلك من نفسها بعد أنْ ضبط الله تعالى حركتها على هذه الأفعال كما تضبط الآلة اليوم .
وقوله : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } [ الكهف : 17 ] أي : في الكهف { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } [ الكهف : 17 ] وما دامت هذه الأفعال للشمس آيةً من آيات الله ، ومعجزة من معجزاته تعالى ، فإياك أنْ تعترضَ : كيف تميل الشمس؟ وكيف تُغيِّر اتجاهها؟ لأن الخالق سبحانه خلق الخَلْق ، وأعطى لكل مخلوق قانونه الذي يسير به ، ومع ذلك لم يترك لكل مخلوق أنْ يفعل بقانونه ما يريد ، بل له سبحانه وتعالى قيُّومية على القانون ، تبطله إنْ شاء ، وتحركه إنْ شاء .
ثم يقول تعالى : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] فقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم ، ولا تزال ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن ، فهناك دائماً من يقول : إذا كان الله هو الهادي والمُضِل ، فلماذا يعذبني إن ضللت؟
وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة ، ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة ، ونقول لكل مجادل : لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا لم تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟ إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر ، ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم .
والهداية نوعان : هداية دلالة ، وهي للجميع ، للمؤمن والكافر؛ لأن الحق سبحانه لم يدل المؤمن فقط ، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به ، فمن يُقبل على الإيمان به ، فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة ، فيأخذ بيده ويعينه ، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه ، ويعطي له طاقة لفعل الخير ، ويشرح له صدره وييسر له أمره .
فمن شاء الحق سبحانه هدايته أعطاه الهداية ، ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً ، وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي ، وهذه معونة من الله ، والكافر لا يهتدي ، وكذلك الظالم والفاسق ، لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره ، وهكذا يمنع الحق سبحانه عنهم هداية المعونة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ . . . } .
(1/5376)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
أي : لو أتيح لك النظر إليهم لخُيّل إليك أنهم أيقاظٌ غير نائمين ذلك لأن ربهم سبحانه حفظهم على حال اليقظة وعلى هيئتها ، ثم أظهر فيهم آية أخرى من الإعجاز بأنْ يُقلِّبهم في نومهم مرة ناحية اليمين ، وأخرى ناحية الشمال ، لتظلّ أجسامهم على حالها ، ولا تأكلها الأرض .
ومعلوم أن الإنسان إذا قُدِّر له أنْ ينام فترة طويلة على سرير المرض يُصَاب بمرض آخر يُسمُّونه قرحة الفراش ، نتيجة لنومه المستمر على جانب واحد عافانا الله وإياكم وقد جعل لهم هذا التقليب ذات اليمين وذات الشمال على هيئة الإيقاظ .
وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } [ الكهف : 18 ] ويبدو أنهم كانوا من الرعاة ، فتبعهم كلبهم وجلس مَادّاً ذراعيْه بفناء الكهف أو على بابه { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } [ الكهف : 18 ] فقد ألقى الله مهابتهم والخوف منهم في نفوس الناس ، فإذا ما اطلع عليهم إنسان خاف ووَلّى هارباً يملؤه الرعب؛ لأن هيئتهم تُوحي بذلك ، حيث يتقلّبُون يميناً وشمالاً ، ومع ذلك لا يصحُو منهم أحد ، ولا يقوم منهم أحد طوال هذه المدة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . . . }
(1/5377)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
قوله : { بَعَثْنَاهُمْ } أي : أيقظناهم من نومهم؛ لأن نومهم الطويل الذي استغرق ثلاثمائة سنة وتِسْعاً أشبه الموت ، فقال { بَعَثْنَاهُمْ } ، والبعْثُ هنا لقضية خاصة بهم ، وهي أنْ يسأل بعضهم بعضاً عن مُدّة لُبْثهم في الكهف ، وقد انقسموا في سؤالهم هذا إلى فريقين الفريق الأول : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ . . } [ الكهف : 19 ]
فَردَّ الفريق الآخر بما تقضيه طبيعة الإنسان في النوم العادي فقال : { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . . } [ الكهف : 19 ] فالإنسان لا يستطيع تقدير مدّة نومه بالضبط ، لكن المعتاد في النوم أن يكون كذلك يوماً أو بعض يوم .
وقد أخذ العلماء من هذا القول أنهم حين تساءلوا هذا السؤال لم يجدوا في ذواتهم شيئاً يدلُّ على مرور زمن طويل ، حيث وجدوا أنفسهم على الحال التي ناموا عليها ، فلم يتغير مثلاً حالهم من الشباب إلى الشيخوخة ، ولم يتغير شعرهم مثلاً إلى البياض؛ لذلك قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، ولو وجدوا أنفسهم شيباً لقدَّروا الزمن المناسب لهذا الشيب .
وهذه وقفة المشدوه حين يُسْأل عن زمن لا يدري مُدته ، إنه طويل عند الله إنما قصير عنده ، وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ . . } [ البقرة : 259 ]
لقد حكم على مُدّة لُبْثه بيوم أو بعض يوم؛ لأنه وجد نفسه على الحال التي عهدها لم يتغير منه شيء ، فكيف يتأتّى الصدق من الحق سبحانه في قوله ( مائة عام ) والصدق في قول العُزَيْر بيوم أو بعض يوم؟
لا شكَّ أننا أمام آية من آيات الخالق سبحانه ، ومعجزة من معجزاته لا يقدر عليها إلا المالك للزمان والمكان ، القابض للزمان ليوم أو بعض يوم ، الباسط له إلى مائة عام .
لذلك أظهر الخالق سبحانه في هذه المعجزة الدليل على صدق القولين : ففي طعام العُزَير الذي ظلَّ على حاله طازجاً لم يتغير دليل على يوم أو بعض يوم ، وفي حماره الذي رآه عظاماً بالية دليل على المائة عام ، فسبحان الذي يجمع الشيء وضده في آن واحد .
ثم يقول تعالى حكاية عنهم : { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ . . } [ الكهف : 19 ] وهو قَوْل الجماعة الذين أرادوا إنهاء الخلاف في هذه المسألة ، فقالوا لإخوانهم : دعونا من هذه القضية التي لا تفيد ، واتركوا أمرها لله تعالى . ودائماً يأمرنا الحق سبحانه بأنْ ننقلَ الجدل من شيء لا ننتهي فيه إلى شيء ، ونُحوله للأمر المثمر النافع؛ لذلك قالوا : { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } [ الكهف : 19 ]
والوَرِق يعني العملة من الفضة ، فأرادوا أنْ يرسلوا أحدهم بما معهم من النقود ليشتري لهم من المدينة طعاماً؛ لأنهم بمجرد أن استيقظوا انتهت حالتهم الاستثنائية ، وعادوا إلى طبيعتهم؛ لذلك طلبوا الطعام ، لكن نلحظ هنا أن الجوع لم يحملهم على طلب مطلق الطعام ، بل تراهم حريصين على تزكية طعامهم واختيار أَطيبه وأَطْهره ، وأبعده عن الحرام .
(1/5378)
وكذلك لم يَفُتْهم أنْ يكونوا على حذر من قومهم ، فَمْن سيذهب منهم إلى هذه المهمة عليه أن يدخل المدينة خِلْسة ، وأن يتلطف في الأمر حتى لا يشعر به أحد من القوم ، ذلك لأنهم استيقظوا على الحالة التي ناموا عليها ، وما زالوا على حَذَر من قومهم يظنون أنهم يتتبعونهم ويبحثون عنهم ، ويسعَوْن للقضاء عليهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ . . . } .
(1/5379)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
وهذا احتياط منهم للدين ، وحماية للعقيدة التي فَرُّوا بها . فإن يرجموكم فسينتصرون عليكم في الدنيا ، إنما ستأخذون الآخرة ، وإن ردوكم إلى دينهم ، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا . . } .
(1/5380)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
في قوله تعالى : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا . . } [ الكهف : 21 ] يقيم من أهل الكهف دليلاً على قيام الساعة والبعث بعد الموت ، فها أنتم ما زِلْتم على قَيْد الحياة وفي سَعَة الدنيا ، ومع ذلك أنامكم الله هذه النَّوْمة الطويلة ثم بعثكم وقد عُثِر عليهم ، وما زالت فيهم حياة .
ثم يقول تعالى : { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ . . } [ الكهف : 21 ] حدث هذا التنازع من الجماعة الذين عثروا عليهم ، ويبدو أنهم كانوا على مِسْحة من الدين ، فأرادوا أنْ يحافظوا على هذه الآية الإلهية ، ويصحّ أنهم بمجرد أنْ عثروا عليهم قضى أجلهم فماتوا .
وهذه مسألة يجب أن يُؤرّخ لها ، وأن تخلد؛ لذلك جعلوها مثلاً شَرُوداً للعالم كله لتُعرف قصة هؤلاء الفتية الذين ضَحَّوْا في سبيل عقيدتهم وفَرُّوا بدينهم من سَعَة الحياة إلى ضيق الكهف؛ ليكونوا مثلاً لكل أهل العقيدة ، ودليلاً على أن الله تعالى ينصر أهله ويدافع عنهم ويُخلِّد ذكراهم إلى قيام الساعة .
لذلك قال بعضهم لبعض : { ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً . . } [ الكهف : 21 ] أي : مطلق البنيان ، فعارضهم آخرون بأن البناء يجب أن يكون مسجداً : { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [ الكهف : 21 ] ليكون موضعاً للسجود لله وللعبادة ليتناسب مع هذه الآية العظيمة الخالدة .
ثم تحدَّث الحق سبحانه عن الاختلاف التي نشأت عن فضول الناس لمعرفة عدد أهل الكهف ، وما يتعلَّق بهم من تفصيلات هي في حقيقتها عِلْم لا ينفع وجَهْل لا يضر ، فقال تعالى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ . . . } .
(1/5381)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
لقد اختلف القوم في عدد أهل الكهف ، منهم مَنْ قال : ثلاثة رابعهم كلبهم . ومنهم مَنْ قال : خمسة سادسهم كلبهم ، وعلَّق الحق سبحانه على هذا القول بأنه { رَجْماً بالغيب } ؛ لأنه قَوْل بلا عِلْم ، مما يدلُّنا على خطئه ومخالفته للواقع . ومنهم مَنْ قال : سبعة وثامنهم كلبهم ، ولم يعلق القرآن على هذا الرأي مما يدُّل على أنه الأقرب للصواب .
ثم يأتي القول الفَصْل في هذه المسألة : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ . . } [ الكهف : 22 ] فلم يُبيّن لنا الحق سبحانه عددهم الحقيقي ، وأمرنا أن نترك هذا لعلمه سبحانه ، ولا نبحث في أمر لا طائل منه ، ولا فائدة من ورائه ، فالمهم أنْ يثبت أَصْل القصة وهو : الفتية الأشدّاء في دينهم والذين فَرُّوا به وضَحَّوْا في سبيله حتى لا يفتنهم أهل الكفر والطغيان ، وقد لجأوا إلى الكهف ففعل الله بهم ما فعل ، وجعلهم آيةً وعبرةً ومثَلاً وقدْوة .
أما فرعيات القصة فهي أمور ثانوية لا تُقدّم ولا تُؤخّر؛ لذلك قال تعالى بعدها : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً . . } [ الكهف : 22 ] أي : لا تجادل في أمرهم .
ثم يأتي فضول الناس ليسألوا عن زمن القصة ومكانها ، وعن أشخاصها وعددهم وأسمائهم ، حتى كلبهم تكلموا في اسمه . وهذه كلُّها أمور ثانوية لا تنفع في القصة ولا تضرُّ ، ويجب هنا أن نعلم أن القَصَص القرآني حين يبهم أبطاله يبهمهم لحكمة ، فلو تأملتَ إبهام الأشخاص في قصة أهل الكهف لوجدته عَيْن البيان لأصل القصة؛ لأن القرآن لو أخبرنا مثلاً عن مكان هؤلاء الفتية لقال البعض : إن هذا الحدث من الفتية خاص بهذا المكان؛ لأنه كان فيه قدر من حرية الرأي .
ولو حدد زمانهم لَقال البعض : لقد حدث ما حدث منهم؛ لأن زمانهم كان من الممكن أن يتأتّى فيه مثل هذا العمل ، ولو حدد الأشخاص وعيَّنهم لقالوا : هؤلاء أشخاص لا يتكررون مرة أخرى .
لذلك أبهمهم الله لتتحقّق الفائدة المرجوّة من القصة ، أبهمهم زماناً ، أبهمهم مكاناً ، وأبهمهم عدداً ، وأبهمهم أشخاصاً ليشيع خبرهم بهذا الوصف في الدنيا كلها لا يرتبط بزمان ولا مكان ولا أشخاص ، فحمل راية الحق ، والقيام به أمر واجب وشائع في الزمان والمكان والأشخاص ، وهذا هو عَيْن البيان للقصة ، وهذا هو المغزى من هذه القصة .
وانظر إلى قوله تبارك وتعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ . . } [ غافر : 28 ]
هكذا { رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ } دون أن يذكر عنه شيئاً ، فالمهم أن الرجولة في الإيمان ، أيّاً كان هذا المؤمن في أيّ زمان ، وفي أيّ مكان ، وبأيّ اسم ، وبأيّ صفة .
كذلك في قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ . . } [ التحريم : 10 ] ولم يذكر عنهما شيئاً ، ولم يُشخِّصهما؛ لأن التشخيص هنا لا يفيد ، فالمهم والمراد من الآية بيانُ أن الهداية بيد الله وحده ، وأن النبي المرسَل من الله لم يستطع هداية زوجته وأقرب الناس إليه ، وأن للمرأة حريةً عَقَيدة مُطْلقة .
(1/5382)
وكذلك في قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ . . } [ التحريم : 11 ] ولم يذكر لنا مَنْ هي ، ولم يُشخِّصها؛ لأن تعيُّنها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر ، المهم أن نعلم أن فرعونَ الذي ادَّعى الألوهية وبكل جبروته وسلطانه لم يستطع أنْ يحمل امرأته على الإيمان به .
إذن : العقيدة والإيمان أمر شخصيّ قلبي ، لا يُجبر عليه الإنسان ، وها هي امرأة فرعون تؤمن بالله وتقول : { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ]
أما في قصة مريم ، فيقول تعالى : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ . . } [ التحريم : 12 ] فشخَّصها باسمها ، بل واسم أبيها ، لماذا؟ قالوا : لأن الحدث الذي ستتعرَّض له حَدَثٌ فريد وشيء خاصٌّ بها لن يتكرر في غيرها؛ لذلك عيَّنها الله وعرَّفها ، أما الأمر العام الذي يتكرر ، فمن الحكمة أنْ يظلَّ مُبْهماً غير مرتبط بشخص أو زمان أو مكان ، كما في قصة أهل الكهف ، فقد أبهمها الحق سبحانه لتكون مثالاً وقُدْوة لكل مؤمن في كل زمان ومكان .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً } .
(1/5383)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
وتتجلى في هذه الآية رحمة الله بالمحبوب محمد صلى الله عليه وسلم فلم يُرِدْ سبحانه وتعالى أن يصدم رسوله بمسألة المخالفة هذه ، بل أعطاه ما أراد ، وأجابه إلى ما طَلب من مسألة أهل الكهف ، ثم في النهاية ذكَّره بهذه المخالفة في أسلوب وَعْظ رقيق : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . } [ الكهف : 23-24 ]
وقد سبق أنْ ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله القوم عن هذه القصة قال : سأجيبكم غداً ولم يَقُلْ : إن شاء الله . فلم يعاجله الله تعالى بالعتاب ، بل قضى له حاجته ، ثم لفتَ نظره إلى أمر هذه المخالفة ، وهذا من رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم .
كما خاطبه بقوله : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . } [ التوبة : 43 ]
فقدَّم العفو أولاً وقرَّره؛ لأن هذه المسألة منتهية ومعلومة للرسول ، ثم عاتبه بعد ذلك . كما لو طلب منك شخص عَوْناً أو مساعدة ، وقد سبق أنْ أساء إليك ، فمن اللياقة أَلاَّ تَصدِمه بأمر الإساءة ، وتُذكّره به أولاً ، بل اقْضِ له حاجته ، ثم ذكّره بما فعل .
والحق سبحانه يقول : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ . . } .
(1/5384)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
أي : على فَرْض أنك نسيت المشيئة ساعة البَدْء في الفعل ، فعليك أن تعيدها ثانية لتتدارك ما حدث منك من نسيان في بداية الأمر .
وقوله تعالى : { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } [ الكهف : 24 ] أي : يهديني ويعينني ، فلا أنسى أبداً ، وأن يجعل ذِكْره لازمة من لوازمي في كل عمل من أعمالي فلا أبدأ عملاً إلا بقوْل : إنْ شاء الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ . . . } .
(1/5385)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
وهذه الآية تعطينا لقطةً من المذكرة التفصيلية التي أعطاها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف ، وهي تُحدِّد عدد السنين التي قضاها الفِتْية في كهفهم بأنها ثلاثمائة سنة ، وهذا هو عددها الفعليّ بحساب الشمس .
لذلك؛ فالحق سبحانه لم يَقُلْ ثلاثمائة وتسعاً ، بل قال : { وازدادوا تِسْعاً } [ الكهف : 25 ] ولما سمع أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا : نعرف ثلاثمائة سنة ، ولكن لا نعرف التسعة؛ ذلك لأن حسابهم لهذه المدة كان حساباً شمسياً .
ومعلوم أن الخالق سبحانه حينما خلق السماوات والأرض قسَّم الزمن تقسيماً فلكياً ، فجعل الشمس عنواناً لليوم ، نعرفه بشروقها وغروبها ، ولما كانت الشمس لا تدلّنا على بداية الشهر جعل الخالق سبحانه الشهر مرتبطاً بالقمر الذي يظهر هلالاً في أول كل شهر ، وقد قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض . . } [ التوبة : 36 ]
فلو حسبتَ الثلاثمائة سنة هذه بالحساب القمري لوجدتها ثلاثمائة سنة وتسعاً ، إذن : هي في حسابكم الشمسي ثلاثمائة سنة ، وفي حسابنا القمري ثلاثمائة وتسعاً . ونعرف أن السنة الميلادية تزيد عن الهجرية بأحد عشر يوماً تقريباً في كل عام .
ومن حكمة الخالق سبحانه أن ترتبط التوقيتات في الإسلام بالأهلة ، ولك أن تتصور لو ارتبط الحج مثلاً بشهر واحد من التوقيت الشمسي في طقس واحد لا يتغير ، فإنْ جاء الحج في الشتاء يظل هكذا في كل عام ، وكم في هذا من مشقة على مَنْ لا يناسبهم الحج في فصل الشتاء . والأمر كذلك في الصيام .
أما في التوقيت القمري فإن هذه العبادات تدور بمدار العام ، فتأتي هذه العبادات مرة في الصيف ، ومرة في الخريف ، ومرة في الشتاء ، ومرة في الربيع ، فيؤدي كل إنسان هذه العبادة في الوقت الذي يناسبه؛ لذلك قالوا : يا زمن وفيك كل الزمن .
والمتأمل في ارتباط شعائر الإسلام بالدورة الفلكية يجد كثيراً من الآيات والعجائب ، فلو تتبعتَ مثلاً الأذان للصلاة في ظل هذه الدورة لوجدت أن كلمة " الله أكبر " نداء دائم لا ينقطع في ليل أو نهار من مُلْك الله تعالى ، وفي الوقت الذي تنادي فيه " الله أكبر " يُنادي آخر " أشهد ألا إله إلا الله " وينادي آخر " أشهد أن محمداً رسول الله " وهكذا دواليك في منظومة لا تتوقف .
وكذلك في الصلاة ، ففي الوقت الذي تصلي أنت الظهر ، هناك آخرون يُصلّون العصر ، وآخرون يُصلُّون المغرب ، وآخرون يُصلّون العشاء ، فلا يخلو كَوْنُ الله في لحظة من اللحظات من قائم أو راكع أو ساجد . إذن : فلفظ الأذان وأفعال الصلاة شائعة في كُلِّ أوقات الزمن ، وبكُلّ ألوان العبادة .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض . . } .
(1/5386)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
الأسلوب في قوله تعالى : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ . . } [ الكهف : 26 ] وأسلوب تعجُّب أي : ما أشدّ بصره ، وما أشدّ سمعه؛ لأنه البصر والسمع المستوعب لكلِّ شيء بلا قانون .
وقوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } [ الكهف : 26 ] كأن الحق سبحانه وتعالى يُطمئِن عباده بأن كلامه حَقٌّ لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه سبحانه واحد أحد لا شريك له يمكن أن يُغيّر كلامه .
ثم يقول الحق سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ . . } .
(1/5387)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
أي بعد هذه الأسئلة التي سألك كفار مكة إياها ، وأخبرك الله بها فأجبتهم ، اعلم أن لك رباً رفيقاً بك ، لا يتخلّى عنك ولا يتركك لكيدهم ، فإنْ أرادوا أن يصنعوا لك مأزقاً أخرجك الله منه ، وإياك أنْ تظنَّ أن العقبات التي يقيمها خصومك ستُؤثّر في أمر دعوتك .
وإنْ أبطأتْ نُصْرة الله لك فاعلم أن الله يريد أنْ يُمحِّص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة ، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون ، فالأحداث والشدائد التي تمرُّ بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا مَنْ هو مأمون على حَمْل هذه العقيدة .
وقوله : { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ . . } [ الكهف : 27 ] لأن كلمات الله لا يستطيع أحد أنْ يُبدِّلها إلا أنْ يكون معه سبحانه إله آخر ، فما دام هو سبحانه إلهاً واحداً لا شريك له ، فاعلم أن قوله الحق الذي لا يُبدّل ولا يُغيّر : { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } [ الكهف : 27 ] أي : ملجأ تذهب إليه؛ لأن حَسْبك الله وهو نِعْم الوكيل ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 51 ]
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي . . . } .
(1/5388)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
نزلتْ هذه الآية في " أهل الصُّفَّة " وهم جماعة من أهل الله انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس واعترضوا عليهم ، لماذا لا يعملون؟ ولماذا لا يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : نريد أن تلتفت إلينا ، وأن تترك هؤلاء المجاذيب ، فأنزل الله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم . . } [ الكهف : 28 ]
لذلك علينا حينما نرى مثل هؤلاء الذين نُسمِّيهم المجاذيب الذين انقطعوا لعبادة الله أن لا نحتقرهم ، ولا نُقلِّل من شأنهم أو نتهمهم؛ لأن الله تعالى جعلهم موازين للتكامل في الكون ، ذلك أن صاحب الدنيا الذي انغمس فيها وعاش لها وباع دينه من أجل دُنْياه حينما يرى هذا العابد قد نفض يديه من الدنيا ، وألقاها وراء ظهره ، وراح يستند إلى حائط المسجد مُمدّداً رجلاً ، لا تعنيه أمور الدنيا بما فيها .
ومن العجيب أن صاحب الدنيا هذا العظيم صاحب الجاه تراه إنْ أصابه مكروه أو نزلتْ به نازلة يُهْرَع إلى هذا الشيخ يُقبّل يديه ويطلب منه الدعاء ، وكأن الخالق سبحانه جعل هؤلاء المجاذيب ليرد بهم جماح أهل الدنيا المنهمكين في دوامتها المغرورين بزهرتها .
وأيضاً ، كثيراً ما ترى أهل الدنيا في خِدْمة هؤلاء العباد ، ففي يوم من الأيام قُمْنا لصلاة المغرب في مسجد سيدنا الحسين ، وكان معنا رجل كبير من رجال الاقتصاد ، فإذا به يُخرج مبلغاً من المال ويطلب من العامل صرفه إلى جنيهات ، فأتى العامل بالمبلغ في صورة جنيهات من الحجم الصغير ، فإذا برجل الاقتصاد الكبير يقول له : لا ، لا بُدَّ من جنيهات من الحجم الكبير؛ لأن فلاناً المجذوب على باب الحسين لا يأخذ إلا بالجنيه الكبير ، فقلت في نفسي : سبحان الله مجذوب على باب المسجد وشغل أكبر رجل اقتصاد في مصر ، ويحرص الرجل على إرضائه ويعطيه ما يريد .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ . . } [ الكهف : 28 ] أي : اجعل عينيك فيهم ، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لأن مَدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } [ الكهف : 28 ] لأنك إنْ فعلتَ ذلك وانصرفتَ عنهم ، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها .
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصُّفَّة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يُقوِّي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دَيْدنهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرُّب إليه .
لكن ، هل المطلوب أن يكون الناس جميعاً كأهل الصُّفَّة منقطعين للعبادة؟ بالطبع لا ، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قِلّة ، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أُسْوة تُذكِّر الناس وتكبح جماح تطلّعاتهم إلى الدنيا .
(1/5389)
ومن العجيب أن ترى البعض يدَّعي حال هؤلاء ، ويُوهِم الناس أنه مجذوب ، وأنه وَليٌّ نَصْباً واحتيالاً ، والشيء لا يُدَّعَى إلا إذا كانت من ورائه فائدة ، كالذي يدَّعي الطب أو يدَّعي العلم لما رأى من مَيْزات الطبيب والعالم . فلما رأى البعض حال هؤلاء المجاذيب ، وكيف أنهم عزفوا عن الدنيا فجاءتْ إليهم تدقُّ أبوابهم ، وسعى إليهم أهلها بخيراتها ، فضلاً عَمَّا لهم من مكانة ومنزلة في النفس ومحبة في القلوب .
فلماذا إذنْ لا يدعون هذه الحال؟ ولماذا لا ينعمون بكل هذه الخيرات دون أدنى مجهود؟ وما أفسد على هؤلاء العباد حالَهم ، وما خاض الناس في سيرتهم إلا بسبب هذه الطبقة الدخيلة المدَّعية التي استمرأتْ حياة الكسل والهوان .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا . . } [ الكهف : 28 ] لأنه لا يأمرك بالانصراف عن هؤلاء والالتفات إلى أهل الدنيا إلا مَنْ غفل عن ذكر الله ، أما مَن اطمأن قلبه إلى ذِكْرنا وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يأمر بمثل هذا الأمر ، بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلاء المجاذيب الأولياء من أهل الصُّفَّة ، بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم ، فكيف يأمر بالانصراف عنهم؟
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله : " أوحى الله إلى الدنيا : مَنْ خدمني فاخدميه ، ومَنْ خدمك فاستخدميه . . " فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر الإيمانُ قلبه ، وليس في باله إلا الله في كل ما يأتي أو يَدَع .
وقوله تعالى : { واتبع هَوَاهُ . . } [ الكهف : 28 ] أي : أن هذا الذي يُحرِّضك على أهل الصُّفَّة ما غفل قلبه عن ذكرنا إلا لأنه سار خلف هواه ، فأخذه هواه وألهاه عن ذكر الله ، فما دام قد انشغل بشيء يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب الله ، إنه مشغول بمطلوب نفسه؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تِبَعاً لما جئتُ به " .
فالمؤمن الحق سليم الإيمان مَنْ كان هواه ورغبته موافقة لمنهج الله ، لا يحيد عنه ، وقد قال الحق سبحانه وتعالى : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض . . } [ المؤمنون : 71 ]
وقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] أي : كان أمره ضياعاً وهباءً ، فكأنه أضاع نفسه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن . . . } .
(1/5390)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قوله تعالى : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ . . } [ الكهف : 29 ] أي : قُلِ الحق جاء من ربكم ، واختار كلمة الرب ولم يَقُلْ من الله ، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق ، كما في قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ]
وقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ]
فمعنى : { مِن رَّبِّكُمْ . . } [ الكهف : 29 ] أي : بإقراركم أنتم ، فالذي خلقكم وربّاكم وتعهدكم هو الذي نزَّل لكم هذا الحق و { رَّبِّكُمْ . . } [ الكهف : 29 ] أي : ليس ربي وحدي ، بل ربكم وربّ الناس جميعاً .
والحق : هو الشيء الثابت ، وما دام من الله فلن يُغيِّره أحد؛ لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مُقبلاً ، وبعد ذلك يُعدِّل ، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يَخْفَى عليه شيء ولا يَعْزُب عن عمله شيء ، لذلك لا استدراك على حُكْم من أحكامه من أحد من خلقه .
فالربوبية عطاء ، فربك الذي خلقك وأمدَّك بالنعم ، وهو الذي يُربّيك كما يُربِّي الوالد ولده؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد ، أما الألوهية فمطلوبها تكليف : افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم ، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تُقيِّد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يُقيّد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها ليس لها مطلوبات .
فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره : بماذا أمرك معبودك؟ وعَمَّا نهاك؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود ، إذن : فلهم أن يقولوا : نِعْمَ هذا الإله ، ونِعْمَ هذا الدين؛ لأنه يتركني بحريتي أفعل ما أريد .
لذلك؛ نجد الذين يدَّعُون ألوهية ، أو يدعون نُبوّة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعُب على الناس؛ لأن فيها حَجْراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم ، فلما ادَّعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم ، وكذلك لما ادعتّ سجاح النبوة خففتْ الصلاة ، وإلا ، فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟
وما أشبه مُدَّعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعَرَضٍ من الدنيا ، فيُفْتون الناس بتحليل ما حرَّم الله ، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس . والدين وإنْ كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى مَنْ يُخفِّف عنه ، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم ، وترى الواحد منهم يُكذِّب نفسه أنه على دين يريحه ، ويفعل في ظله ما يريد .
إذن : ما دُمْتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام ، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم ، كما نقول في المثل : ( اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي ) ، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قُلْ لهم : لا جبرَ في الإيمان { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ .
(1/5391)
. } [ الكهف : 29 ] لأن منفعة الإيمان عائدة عليكم أنتم .
وقد جاء في الحديث القدسي : " إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني ، ولن تملكوا ضُرّي فتضروني ، ولو أن أوّلكم وآخركم ، وحيكم وميتكم ، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أتْقَى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم وميتكم ، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً " .
" ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد ، وسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمِغْرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر ، وذلك أَنَّي جواد واجد ماجد ، عطائي كلام وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أنْ أقولَ له كُنْ فيكون " .
إذن : فائدة الإيمان تعود على المؤمن ، كما قال تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا . . } [ فصلت : 46 ] لكني أحب لخَلْقي أن يكونوا دائماً على خير مني ، فأنا أعطيهم خير الدنيا ، وأحب أيضاً أن أعطيهم خير الآخرة .
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ . . } [ الكهف : 28 ]
وكان خصوم الإسلام حينما يَرَوْنَ الدعوة تنتشر شيئاً فشيئاً يحاولون إيقافها ، لا من جهتهم بالعدوان على مَنْ يؤمن ، ولكن من جهته صلى الله عليه وسلم ، فأرسلوا إليه وَفْداً ، قالوا : يا محمد إنّا بعثنا إليك لنُعْذرَ فيك ، لقد أدخلتَ على قومك ما لم يُدخِلْه أحد قبلك ، شتمتَ آلهتنا وسفَّهْتَ أحلامنا وسبَبْت ديننا ، فإنْ كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا ، وإنْ كنت تريد جاهاً سوَّدناكَ علينا ، وجعلناك رئيسنا ، وإنْ كنت تريد مُلْكاً ملكْناك .
فقال صلى الله عليه وسلم : " والله ما بي ما تقولون ، ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم ، فإنْ أنتم أطعتُم فبها ، وإلاَّ فإنَّ الله ناصري عليكم " .
وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم لعل الأمر حين يكون سِراً يتساهل فيه رسول الله ، فلما لم يجدوا بُغْيتهم قالوا : نتوسل إليك بمَنْ تحب ، فربما خجل أنْ يقبلَ منا ونحن خصومه ، فلنرسل إليه مَنْ يحبه ، فذهبوا إلى عمه أبي طالب ، فلما كلَّمه عمه قال قولته المشهورة : " والله ، يا عَمِّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتركَ هذا الأمر ما تركته ، حتى يُظِهره الله ، أو أَهْلِك دونه " .
فلما فشلت هذه المحاولة أيضاً أتَوْهُ من ناحية ثالثة ، فقالوا : ننتهي إلى أمر هو وسط بيننا وبينك : دَعْكَ من هؤلاء الفقراء ، واصْرِف وجهك عنهم ، ولا تربط نفسك بهم ، ووجِّه وجهك إلينا ، فأنزل الله : { واصبر نَفْسَكَ . . } [ الكهف : 28 ]
ثم بيَّن الحق سبحانه وتعالى أن الإسلام أو الدين الذي أًَنزله الله لا يأخذ أحكامه من القوم الذين أُنزِل عليهم؛ لأن رسول الله إنما أُرسِلَ ليضع لهم موازين الحق ، ويدعو قومه إليها ، فكيف يضعون هم هذه الموازين ، فيأمرون رسول الله بأنْ يصرف وجهه عن الفقراء ويتوجّه إليهم؟
لذلك قال : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ .
(1/5392)
. } [ الكهف : 29 ] لأنه بعثني بالحق رسولاً إليكم ، وما جئت إلا لهدايتكم ، فإنْ كنتم تريدون توجيهي حسْب أهوائكم فقد انقلبتْ المسألة ، ودعوتكم لي أن أنصرف عن هؤلاء الذين يدعُون ربهم بالغداة والعشيّ وأتوجه إليكم ، فهذا دليل على عدم صِدْق إيمانكم ، وأنكم لستم جادِّين في اتباعي؛ لذلك فلا حاجة بي إليكم .
ثم يقول تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } [ الكهف : 29 ] أي : ادخلوا على هذا الأساس : أن كل حَقٍّ ينزل من الله ، لا أن آخذ الحق منكم ، ثم أردّه إليكم ، بل الحق الذي أرسلني الله به إليكم ، وعلى هذا مَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر .
والأمر في هذه الآية سبق أنْ أوضحناه فقلنا : إذا وجدنا أمراً بغير مطلوب فلنفهم أن الأمر استُعمِل في غير موضعه ، كما يقول الوالد لولده المهمل : العب كما تريد ، فهو لا يقصد أمر ولده باللعب بالطبع ، بل يريد تهديده وتأنيبه .
وهكذا في : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } [ الكهف : 29 ] وإلا لو أخذتَ الآية على إطلاقها لَكانَ مَنْ آمن مطيعاً للأمر : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن . . } [ الكهف : 29 ] والعاصي أيضاً مطيع للأمر : { وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } [ الكهف : 29 ] فكلاهما إذن مطيع ، فكيف تُعذِّب واحداً دون الآخر؟
فالأمر هنا ليس على حقيقته ، وإنما هو للتسوية والتهديد ، أي : سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا ، فأنتم أحرار في هذه المسألة؛ لأن الإيمان حصيلته عائدة إليكم ، فالله سبحانه غنيّ عنكم وعن إيمانكم ، وكذلك خَلْق الله الذين آمنوا بمحمد هم أيضاً أغنياء عنكم ، فاستغناء الله عنكم مَسْحوب على استغناء الرسول ، وسوف ينتصر محمد وينتشر دين الله دونكم .
وقد أراد الحق سبحانه أن يصيح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة في مكة ويجهر بها في أُذن صناديد الكفر وعُتَاة الجزيرة العربية الذين لا يخرج أحد عن رأيهم وأمرهم؛ لأن لهم مكانةً وسيادة بين قبائل العرب .
ولحكمة أرادها الحق سبحانه لم يأْتِ نصر الإسلام على يد هؤلاء ، ولو جاء النصر على أيديهم لقيل : إنهم أَلِفُوا النصر وألفوا السيادة على العرب ، وقد تعصَّبوا لواحد منهم ليسُودوا به الدنيا كلها ، فالعصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد ، ولكن الإيمان بمحمد خلق العصبية لمحمد .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا . . } [ الكهف : 29 ]
والعذاب هنا لمن اختار الكفر ، لكن لماذا تُهوّل الآية وتُفخِّم أمر العذاب؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب ، بل لينتهوا عن الجريمة ، وينأوْا عن أسبابها ، إذن : فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد؛ لأن خَوْف العذاب سيمنعهم من الجريمة .
(1/5393)
ومعنى { أَعْتَدْنَا } أي : أعددنا ، فالمسألة منتهية مُسْبقاً ، فالجنة والنار مخلوقة فعلاً ومُعدَّة ومُجهّزة ، لا أنها ستُعَدُّ في المستقبل ، وقد أُعِدَّتْ إعداد قادر حكيم ، فأعدَّ الله الجنة لتتسع لكل الخَلْق إنْ آمنوا ، وأعدّ النار لتتسع لكل الخلق إنْ كفروا ، فإنْ آمن بعض الخلق وكفر البعض ، فالذي آمن وَفّر مكانه في النار ، والذي كفر وفَّر مكانه في الجنة .
لذلك قال تعالى في هذه المسألة : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ]
إذن : فخَلْق الله تعالى للجنة وللنار أمر منضبط تماماً ، ولن يحدث فيهما أزمة أو زحام أبداً ، بل لكلٍّ مكانه المعدّ المخصّص .
وقوله تعالى : { لِلظَّالِمِينَ . . } [ الكهف : 29 ] والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير ، وللظلم أشكال كثيرة ، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله ، لأنك تأخذ حَقَّ الله في العبادة وتعطيه لغيره ، وهذا قمة الظلم ، ثم يأتي الظلم فيما دون ذلك ، فيأخذ كل ظالم من العذاب على قَدْر ظُلْمه ، إلا أن يكون مشركاً . فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتُر عنه ، فإنْ ظلم المؤمن ظلماً دون الشرك فإنه يُعذَّب به ، ثم يُدخِله الله الجنة ، إنْ لم يتُبْ ، وإنْ لم يغفر الله له .
وقوله تعالى : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا . . } [ الكهف : 29 ] السرادق ، كما نقول الآن : أقاموا السرادق أي : الخيمة . و معنى سرادق : أي محيط بهم ، فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم ، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خالٍ من النار؛ لأن رؤيته لمكان خَالٍ من النار قد تُوحي إليه بالأمل في الخروج ، فالحق سبحانه يريد أنْ يؤيسَهم من الخروج .
ثم يقول تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ]
الاستغاثة : صَرْخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك الألم ، كما قال في آية أخرى : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ . . } [ إبراهيم : 22 ] أي : حين يصرخون من العذاب لا أستطيع أنْ أزيل صراخكم ، وأنتم كذلك لا تزيلون صراخي .
فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب { يُغَاثُواْ } يتبادر إلى الذِّهْن أنهم يُغَاثُون بشيء من رحمة الله ، فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يُخفّف عنهم العذاب . . لا { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل . . } [ الكهف : 29 ] أي : فإنْ طلبوا الغَوْث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار ، فإذا بهم بماء كالمهل .
والمهْل هو عُكَارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدُّرْدِيّ ، أو هو المذاب من المعادن كالرصاص ونحوه ، وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غَلْي الماء ، وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار ، ويُعذَّبون من حيث ينتظرون الرحمة .
وقوله تعالى هنا : { يُغَاثُواْ } أسلوب تهكميّ؛ لأن القاعدة في الأساليب اللغوية أنْ تخاطب المخاطب على مقتضى حاله ، فتهنئه حال فرحه ، وتعزيه حال حزنه بكلام موافق لمقتضى الحال ، فإنْ أخرجتَ المقتضى عن الحال الذي يطلبه ، فهذا ينافي البلاغة إلا إنْ أردتَ التهكُّمَ أو الاستهزاء .
(1/5394)
إذن : فقوله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل . . } [ الكهف : 29 ] تهكّم بهم ، لأن الكلام فيه خرج عن مقتضى الحال ، كما يقول الوالد لولده الذي أخفق في الامتحان : مبارك عليك السقوط .
ومعنى : { يَشْوِي الوجوه . . } [ الكهف : 29 ] أن الماء من شدة حرارته يشوي وجوههم ، قبل أن يدخل أجوافهم : { بِئْسَ الشراب . . } [ الكهف : 29 ] أي : الذي يغاثون به { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] المرتفق هو الشيء الذي يضع الإنسان عليه مِرْفقه ليجلس مُستريحاً ، لكن بالله هل هناك راحة في جهنم؟
إذن : فهذه أيضاً من التهكّم بهم وتبكيتهم ، كما قال تعالى مخاطباً جبابرة الدنيا وأعزّتها وأصحاب العظمة فيها مِمَّنْ عَصَوْا الله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ]
والحق سبحانه وتعالى يتكلم في هذه المسألة بأساليب متعددة منها استخدام كلمة ( النُّزُل ) وهو ما يُعد لإكرام الضيف ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ]
وقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [ فصلت : 30-32 ] فالذي أَعَدَّ هذا النُّزُل وهذه الضيافة هو الغفور الرحيم ، والذي يُعِد نُزُلاً لضيفه يُعِدّه على قَدْر غِنَاه وبَسْطة كرمه ، فما بالك بنُزل أعدّه الله لأحبابه وأوليائه؟
وذيّل الآية بقوله : { غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [ فصلت : 32 ] لأنه ما من مؤمن إلا وقد عمل سيئة ، أو همَّ بها ، وكأن الحق سبحانه يقول : إياك أنْ تذكرَ ما كان منك وأنت في هذا النُّزُل الكريم ، فالله غفور لسيئتك ، رحيم بك ، يقبل توبتك ، ويمحو أثر سيئتك .
والحديث عن النُّزل هنا في الجنة ، فهي محلُّ الإكرام والضيافة ، فإن استخدم في النار فهو للتهكُّم والسخرية من أهلها ، كما قال تعالى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ الواقعة : 92-93 ]
فقد استخدم النزل في غير مقتضاه .
بعد أن جاء الأمر الإلهي في قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } [ الكهف : 29 ] أراد سبحانه أنْ يُبيّن حكم كُلٍّ من الاختيارين : الإيمان ، والكفر على طريقة اللَّفِّ والنشر ، وهو أسلوب معروف في العربية ، وهو أن تذكر عدة أشياء ، ثم تُورِد أحكامها حَسْب ترتيبها الأول ، أو تذكرها مُشوَّشة دون ترتيب .
ومن النوع الأول الذي يأتي فيه اللَّفُّ والنشْر على الترتيب قوله تعالى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . } [ القصص : 73 ]
أي : لتسكنوا في الليل ، وتبتغوا من فضل الله في النهار .
(1/5395)
فالترتيب إذا كان الحكم الأول للمحكوم عليه الأول ، والحكم الثاني للمحكوم عليه الثاني وهكذا ، ومن ذلك قول الشاعر :
قَلْبِي وَجَفْنِي وَاللسان وخالقي ... هذه أربع مُخْبر عنها ، فما قصتها وبماذا أخبرنا عنها؟ يقول :
قَلْبِي وَجَفْنِي وَاللسَانُ وخالِقِي ... رَاضٍ وباكٍ شَاكِرٌ وغَفُورُ
فتكون على الترتيب : قلبي راضٍ ، وجفني باكٍ ، ولساني شاكر ، وخالقي غفور .
ومرة يأتي اللف والنشر على التشويش ودون ترتيب ثقةً بأن نباهةَ السامع ستردُّ كل شيء إلى أصله كما في الآية التي نحن بصددها ، فتلاحظ أن الحق سبحانه بعد أن قال : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } [ الكهف : 29 ] فبدأ باختيار الإيمان ثم ذكر الكفر ، أما في الحكم على كل منهما فقد ذكر حكم الكفر أولاً : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً . . } [ الكهف : 29 ] ثم ذكر بعده حكم المؤمنين : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ]
وليكُنْ في الاعتبار أن المتكلم رَبٌّ حكيم ، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى ، ووراءه حكمة ، ذلك أنه تعالى لما تكلّم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد ، لكنه تعالى رجّح أن يكونَ الإيمانُ أولاً وأنْ يسبق الكفر . أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما ، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أنْ " دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المنفعة " .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . } .
(1/5396)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه عطف على الإيمان العملَ الصالح؛ لأن الإيمان هو العقيدة التي ينبع عن أصلها السلوك ، فلا جدوى من الإيمان بلا عمل بمقتضى هذا الإيمان ، وفائدة الإيمان أنْ تُوثّق الأمر أو النهي إلى الله الذي آمنتَ به؛ لذلك جاء الجمع بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع عدّة من كتاب الله ، منها قوله تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ]
ذلك لأن المؤمنين إذا ما أثمر فيهم الإيمانُ العملَ الصالح فإنهم سيتعرضون ولا بُدّ لكثير من المتاعب والمشاق التي تحتاج إلى التواصي بالصبر والتواصي بالحق ، ولنا أسوة في هذه المسألة بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحمّلوا عِبء الدعوة وصبروا على الأذى في سبيل إيمانهم بالله تعالى .
ثم يقول تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ]
نلاحظ أن { مَنْ } هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم يَقُل سبحانه : إنَّا لا نضيع أجر مَنْ أحسن الإيمان؛ لأن العامل الذي يُحسِن العمل قد يكون كافراً ، ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حَقّه ، بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا .
فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يُحرم ثمرة عمله واجتهاده ، لكنها تُعجَّل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حَظَّ له في الآخرة .
ويقول تبارك وتعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ]
ويقول تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ]
ويقول تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ]
فهؤلاء قد استوفوا أجورهم ، وأخذوا حظّهم في الدنيا ألواناً من النعيم والمدح والثناء ، وخُلِّدتْ ذكراهم ، وأقيمت لهم التماثيل والاحتفالات؛ لذلك يأتي في الآخرة فلا يجد إلا الحسرة والندامة حيث فُوجئ بوجود إله لم يكُنْ يؤمن به ، والإنسان إنما يطلب أجره مِمَّن عمل من أجله ، وهؤلاء ما عملوا لله بل للإنسانية وللمجتمع وللشهرة وقد نالوا هذا كله في الدنيا ، ولم يَبْقَ لهم شيء في الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ . . . } .
(1/5397)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{ أولئك } أي : الذين آمنوا وعملوا الصالحات { لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ . . } [ الكهف : 31 ] الجنات رأينا منها صورة في الدنيا ، وتُطلق إطلاقاً شرعياً وإطلاقاً لغوياً . أما الشرعي : فهو الذي نعرفه من أنها الدار التي أعدَّها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة . أما المعنى اللغوي : فهي المكان الذي فيه زرع وثمار وأشجار تُوارِي مَنْ سار فيها وتستره؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الاستتار والاختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات لا ترى والجُنّة بالضم الدرع يستر الجسم عن المهاجم . . الخ .
وقلنا : إن الحق سبحانه حينما يُحدِّثنا عن شيء غيبيّ يُحدِّثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ ، واللغة التي نتكلم بها ، يُوجَد المعنى أولاً ثم يوجد اللفظ الدالّ عليه ، فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى ، فإنْ نُطِق اللفظ نفهم معناه . فإذا كانت الأشياء التي يُحدِّثنا الله عنها غيباً كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر "
إذن : فمن أين نأتي بالألفاظ الدَّالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يُعبِّر عنها الحق سبحانه بالشبيه لها في لغتنا ، لكن يعطيها الوصف الذي يُميّزها عن جنة الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ . . } [ محمد : 15 ]
ونحن نعرف النهر ، ونعرف الماء ، لكن يأتي قوله : { غَيْرِ آسِنٍ } ليميز ماء الآخرة عن ماء الدنيا ، وكذلك في : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [ محمد : 15 ]
فالخمر في الدنيا معروفة؛ لكنها ليست لذة لشاربها ، فشاربها يبتلعها بسرعة؛ لأنه لا يستسيغ لها طعماً أو رائحة ، كما تشرب مثلاً كوباً من العصير رشفة رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به ، كما أن خمر الدنيا تغتال العقول على خلاف خمر الآخرة؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميَّزها بأنها لذة ، وخَمْر الدنيا ليست كذلك؛ لأن لغتنا لا يوجد بها الأشياء التي سيخلقها الله لنا في الجنة ، فبها ما لا عَيْن رأت ، ولا أذن سمعتْ ، والعين إدراكاتها أقلّ من إدراكات الأذن؛ لأن العين تعطيك المشهد الذي رأيته فحسب ، أما الأذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك ، ثم يقول : " ولا خطر على قلب بشر " فوسَّع دائرة ما في الجنة ، مما لا نستطيع إدراكه .
وكذلك في قوله تعالى : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى . . } [ محمد : 15 ]
ونحن نعرف العسل فميَّزه هنا بأنه مُصفّى ، ومعروف أن العسل قديماً كانوا يأخذونه من الجبال ، وكان يعلَقُ به الحصى والرمل؛ لذلك مُيِّز عسل الجنة بأنه مُصفّى .
وكذلك في قوله سبحانه : { سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } [ الواقعة : 28 ] ونعرف سدر الدنيا ، وهو نوع من الشجر له شوك ، وليس كذلك سِدْر الجنة؛ لأنه سدر مخضود لا شوك فيه ، ولا يُدْمِي يديك كسِدْر الدنيا .
(1/5398)
وهنا ميَّز الله الجنة في الآخرة عن جنات الدنيا ، فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ . . } [ الكهف : 31 ] أي : إقامة دائمة لا تنتهي ولا تزول ، وليست كذلك جنات الدنيا ، فهَبْ أن واحداً يتمتع في الدنيا بالدُّور والقصور في الحدائق والبساتين التي هي جنة الدنيا ، فهل تدوم له؟ إن جنات الدنيا مهما عَظُم نعيمها ، إما أنْ تفوتك ، وإما أنْ تفوتها .
والعَدْن اسم للجَنّة ، فهناك فَرْق بين المسكن والمسكن في الجنة ، كما ترى حدائق عامة وحدائق خاصة ، فالمؤمن في الجنة له مسكن خاص في جنة عدن .
ويقول تعالى عن أنهار الجنة : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار . . } [ محمد : 12 ]
وفي آية أخرى يقول : { تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار . . } [ التوبة : 100 ] ليعطينا صورتين لجريان الماء ، ففي قوله : { تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار . . } [ التوبة : 100 ] يدلُّ على أن الماء يأتيها من بعيد ، وقد تخشى أن يمنعه أحد عنك أنْ يَسُدَّه دونك؛ لذلك يقول لك : اطمئن فالماء يجري { مِن تَحْتِهَا } أي : من الجنة نفسها لا يمنعه أحد عنك .
وفي هذه الآية كأنَّ الحق سبحانه وتعالى يعطينا إشارة لطيفة إلى أننا نستطيع أن نجعل لنا مساكن على صفحة الماء ، وأن نستغل المسطحات المائية في إقامة المباني عليها ، خُذْ مثلاً المسطحات المائية للنيل ، أو الريَّاح التوفيقي من القناطر الخيرية حتى دمياط لَوجدْتَ مساحات كبيرة واسعة يمكن بإقامة الأعمدة في الماء ، واستخدام هندسة البناء أنْ نقيم المساكن الكافية لسُّكْنى أهل هذه البلاد ، وتظل الأرض الزراعية كما هي للخُضْرة وللزرع ولِقُوتِ الناس .
ويمكن أن تُطبَّق هذه الطريقة أيضاً في الريف ، فيقيم الفلاحون بيوتهم وحظائر مواشيهم بنفس الطريقة على الترع والمصارف المنتشرة في بلادنا ، ولا نمس الرقعة الزراعية .
لقد هجمتْ الحركة العمرانية على الجيزة والدقي والمهندسين ، وكانت في يوم من الأيام أراضي تغل كل الزراعات ، وتخدم تموين القاهرة . ولما استقدموا الخبراء الأجانب لتوسيع القاهرة توجهوا إلى الصحراء وأنشأوا مصر الجديدة ، ولم يعتد أحد منهم على شبر واحد من الأرض الزراعية ، بل جعلوا في تخطيطهم رقعة خضراء لكل منزل .
إذن : في الآية لفتة يمكن أنْ تحلَّ لنا أزمة الإسكان ، وتحمي لنا الرقعة الزراعية الضيقة . ثم يقول تعالى : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ . . } [ الكهف : 31 ] وقد يقول قائل : وما هذه الأساور من الذهب التي يتحلَّى بها الرجال؟ هذه من الزخرف والزينة ، نراه الآن في طموحات الإنسان في زُخْرفية الحياة ، فنرى الشباب يلبسون ما يُسمَّى ( بالانسيال ) وكذلك أساور الذهب في الآخرة زينة وزخرف ، وفي آية أخرى ، يقول تعالى : { وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ . . } [ الإنسان : 21 ]
ومرة أخرى يقول : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ فاطر : 33 ]
فالأساور إما من ذهب أو فضة أو لؤلؤ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم عن هذه الحلية في الآخرة أنها تبلغ ما بلغه الوضوء عند المؤمن .
(1/5399)
ونلحظ في قوله تعالى : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ . . } [ الكهف : 31 ] أن التحلية هنا للزينة ، وليست من الضروريات ، فجاء الفعل { يُحَلَّوْنَ } أي : حلاَّهم غيرهم ولم يقل يتحلون؛ لذلك لما تكلم بعدها عن الملبس ، وهو من الضروريات قال : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } [ الكهف : 31 ]
فأتى بالفعل مبنياً للمعلوم؛ لأن الفعل حدث منهم أنفسهم بالعمل ، أما الأولى فكانت بالفضل من الله ، وقد قُدم الفضل على العمل ، كما قال تعالى في آية أخرى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ . . } [ يونس : 58 ]
أي : إياك أن تقول هذا بعملي ، بل بفضل الله وبرحمته؛ لذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يقر بهذه الحقيقة ، فيقول : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ذلك لأنك لو نظرتَ إلى عملك لوجدتَه بعد تكليفك الذي كلفت به في سِنِّ البلوغ ، وقد عِشْت طوال هذه المدة ترتع في نِعَم الله ورزقه دون أنْ يُكلِّفك بشيء؛ لذلك مهما قَدَّمْتَ لله تعالى من طاعات ، فلن تفَِي بما أنعم به عليك .
وما تفعله من طاعات إنما هو وفاء لحق الله ، فإذا أدخلناك الجنة كان فضلاً من الله عليك ، لأنك أخذتَ حقك سابقاً ومُقدَّماً في الدنيا ، لكنه قسم هنا فقال : { يَلْبَسُونَ . . } [ الكهف : 31 ] أي : بما عملوا ، أما في الزينة والتحلية فقال : { يُحَلَّوْنَ } كالرجل الذي يُجهِّز ابنته للزواج ، فيأتي لها بضروريات الحياة ، ثم يزيدها على ذلك من الكماليات وزُخْرف الحياة من نجف أو سَجَّاد أو خلافه .
واللباس من ضروريات الحياة التي امتنّ الله بها على عباده ، كما جاء في قوله تعالى : { يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً . . } [ الأعراف : 26 ] والريش : هو الكماليات التي يتخذها الناس للفَخْفخة والمتعة ، وهو ما زاد عن الضروريات . والسُّندس : هو الحرير الرقيق ، والإستبرق : الحرير الغليظ السميك .
وقد وقف العلماء عند هذه الكلمة { إِسْتَبْرَقٍ } وغيرها من الكلمات غير العربية مثل : القسطاس ، وهي كلمات فارسية الأصل ، أو كلمة ( آمين ) التي نتخذها شعاراً في الصلاة وأصلها يمني أو حبشي . وقالوا : كيف يستخدم القرآن مثل هذه الألفاظ ، وهو قرآن عربي؟
نقول : هل أدخل القرآن هذه الألفاظ في لغة العرب ساعةَ نزل ، أم جاء القرآن وهي سائرة على ألسنة الناس يتكلمون بها ويتفاهمون؟ لقد عرف العرب هذه الكلمات واستعملوها ، وأصبحت ألفاظاً عربية دارتْ على الألسنة ، وجرتْ مجرى الكلمة العربية .
ومن الكلمات التي دخلتْ العربية حديثاً استخدمت ككلمة عربية ( بنك ) ، وربما كانت أخفّ في الاستعمال من كلمة ( مصرف ) ؛ لذلك أقرَّها مَجْمع اللغة العربية وأدخلها العربية .
(1/5400)
إذن : فهذا القول يمكن أن يُقبَل لو أن القرآن جاء بهذه الألفاظ مجيئاً أولياً ، وأدخلها في اللغة ولم تكُن موجودة ، لكن القرآن جاء ليخاطب العرب ، وما داموا قد فهموا هذه الألفاظ وتخاطبوا بها ، فقد أصبحت جُزْءاً من لغتهم .
ثم يقول تعالى : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرآئك . . } [ الكهف : 31 ] الاتكاء : أن يجلس الإنسان على الجنب الذي يُريحه ، والأرائك : هي السُّرر التي لها حِلْية مثل الناموسية مثلاً . { نِعْمَ الثواب . . } [ الكهف : 31 ] كلام منطقيّ : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] أي : أن هذا هو مُقْتضى الحال فيها ، على خلاف ما أخبر به عن أهل النار : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ . . } .
(1/5401)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
وما زال الكلام موصولاً بالقوم الذين أرادوا أن يصرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين يدعُونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وبذلك انقسم الناس إلى قسميْن : قسم مُتكبّر حريص على جاهه وسلطانه ، وقسم ضعيف مستكين لا جاهَ له ولا سلطان ، لكن الحق سبحانه يريد استطراق آياته استطراقاً يشمل الجميع ، ويُسوِّي بينهم .
لذلك؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثَلاً موجوداً في الحياة ، ففي الناس الكافر الغني والمؤمن الفقير ، وعليك أنْ تتأمل موقف كل منهما .
قوله تعالى : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ . . } [ الكهف : 32 ] قلنا : إن الضرب معناه أن تلمس شيئاً بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه ، ولا بُدّ أن يكون الضارب أقوى من المضروب ، إلا فلو ضربتَ بيدك شيئاً أقوى منك فقد ضربتَ نفسك ، ومن ذلك قول الشاعر :
وَيَا ضَارِباً بِعَصَاهُ الحَجَر ... ضربْتَ العَصَا أَمْ ضربْتَ الحجَر؟
وضَرْب المثل يكون لإثارة الانتباه والإحساس ، فيُخرجك من حالة إلى أخرى ، كذلك المثَل : الشيء الغامض الذي لا تفهمه ولا تعيه ، فيضرب الحق سبحانه له مثلاً يُوضِّحه ويُنبِّهك إليه؛ لذلك قال : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً . . } [ الكهف : 32 ] وسبق أن أوضحنا أن الأمثال كلام من كلام العرب ، يردُ في معنى من المعاني ، ثم يشيع على الألسنة ، فيصير مثلاً سائراً ، كما نقول : جود حاتم ، وتقابل أي جَوّاد فتناديه : يا حاتم ، فلما اشتهر حاتم بالجود أُطلِقَتْ عليه هذه الصفة . وعمرو بن معد اشتُهِر بالشجاعة والإقدام ، وإياس اشتُهِر بالذكاء ، وأحنف بن قيس اشتهر بالحلم . لذلك قال أبو تمام في مدح الخليفة :
إِقْدامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِم ... في حِلْمِ أحنَفَ فِي ذَكَاءِ إياس
فأراد خصوم أبي تمام أن يُحقِّروا قوله ، وأن يُسقِطوه من عين الخليفة ، فقالوا له : إن الخليفة فوق مَنْ وصفتَ ، وكيف تُشبّه الخليفة بهؤلاء وفي جيشه ألفٌ كعمرو ، وفي خُزَّانه ألف كحاتم فكيف تشبهه بأجلاف العرب؟ كما قال أحدهم :
وَشبَّهه المدّاحُ في البَاسِ والغِنَى ... بمَنْ لَوْ رآهُ كانَ أَصْغر خَادِمٍ
فَفِي جيْشِه خَمْسُونَ أَلْفاً كعنْترٍ ... وَفي خُزَّانِه ألْفُ حَاتِمِ
فألهمه الله الردَّ عليهم ، وعلى نفس الوزن ونفس القافية ، فقال :
لاَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَه ... مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى وَالبَاس
فاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلّ لِنُوِره ... مَثَلاً مِنَ المشْكَاةِ والنِّبْراسِ
إذن : فالمثل يأتي لِيُنَبّه الناس ، وليُوضّح القضية غير المفهومة ، والحق تبارك وتعالى قال : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . } [ البقرة : 26 ]
ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالاً كثيرة لتوضيح قضايا معينة ، كما في قوله تعالى : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ]
وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء به : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً }
(1/5402)
[ النحل : 92 ]
ومنه قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [ البقرة : 17 ]
ومنه قوله تعالى مُصوِّراً حال الدنيا ، وأنها سريعة الزوال : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 45 ]
فالمثل يُوضِّح لك الخفيّ بشيء جَلِيٍّ ، يعرفه كل مَنْ سمعه ، من ذلك مثلاً الشاعر الذي أراد أنْ يصفَ لنا الأحدب فيُصوِّره تصويراً دقيقاً كأنك تنظر إليه :
قَصُرَتْ أَخَادعه وَغَاص قَذَالُه ... فكأنه مُتربِّصٌ أنْ يُصْفَعَا
وكأنما صُفِعْتَ قَفَاهُ مرةً ... وأَحسَّ ثانيةً لَهَا فتجمَّعَا
وهنا يقول الحق سبحانه : اضرب لهم يا محمد مثلاً للكافر إذا استغنى ، والفقير إذا رَضِى بالإيمان .
وقوله : { رَّجُلَيْنِ . . } [ الكهف : 32 ] أي : هما مَحَلُّ المثل : { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] لكن ، هل هذا المثل كان موجوداً بالفعل ، وكان للرجلين وجود فِعليّ في التاريخ؟
نعم ، كانوا واقعاً عند بني إسرائيل وهما براكوس ويهوذا ، وكان يهوذا مؤمناً راضياً ، وبراكوس كان مستغنياً ، وقد ورثا عن أبيهم ثمانية آلاف دينار لكل منهما ، أخذ براكوس نصيبه واشترى به أرضاً يزرعها وقَصْراً يسكنه وتزوج فأصبح له ولدان وحاشية ، أما يهوذا ، فقد رأى أنْ يتصدّق بنصيبه ، وأن يشتري به أرضاً في الجنة وقصراً في الجنة وفضَّل الحور العين والولدان في جنة عدن على زوجة الدنيا وولدانها وبهجتها .
وهكذا استغنى براكوس بما عنده واغتَرَّ به ، كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
وأول الخيبة أن تشغلك النعمة عن المنعِم ، وتظن أن ما أنت فيه من نعيم ثمرةُ جهدك وعملك ، ونتيجة سعْيك ومهارتك ، كما قال قارون : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } [ القصص : 78 ]
فتركه الله لِعلْمه ومهارته ، فليحرص على ماله بما لديه من علم وقوة : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض . . } [ القصص : 81 ] ولم ينفعه ماله أو علمه .
إذن : هاتان صورتان واقعيتان في المجتمع : كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه ، ومؤمن قَنُوع بما قسم الله له .
وانظر إلى الهندسة الزراعية في قوله تعالى : { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ]
فقد علَّمنا الله تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سُوراً من النخيل ليكون سياجاً يصدُّ الهواء والعواصف ، وذكر سبحانه النخل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت الضروري ، كما ذكر من قبل الأساور من ذهب ، وهي للزينة قبل الثياب ، وهي من الضروريات .
وقوله : { جَنَّتَيْنِ . . } [ الكهف : 32 ] نراها إلى الآن فيمَنْ يريد أن يحافظ على خصوصيات بيته؛ لأن للإنسان مسكناً خاصاً ، وله عموميات أحباب ، فيجعل لهم مسكناً آخر حتى لا يطَّلع أحد على حريمه؛ لذلك يسمونه السلاملك والحرملك .
وكذلك في قوله تبارك وتعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [ سبأ : 15 ] ثم يقول الحق سبحانه : { كِلْتَا الجنتين ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً . . } .
(1/5403)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
أي : أعطتْ الثمرة المطلوبة منها ، والأُكُل : هو ما يُؤكل ، ونعرف أن الزراعات تتلاحق ثمارها فتعطيك شيئاً اليوم ، وشيئاً غداً ، وشيئاً بعد غد وهكذا .
{ وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً . . } [ الكهف : 33 ] كلمة { تَظْلِم } تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا ، فالأرض وهي جماد لا تظلم ، ولا تمنعك حقاً ، ولا تهدِر لك تعباً ، فإنْ أعطيتَها جهدك وعملك جادتْ عليك ، تبذر فيها كيلة تعطيك إردباً ، وتضع فيها البذرة الواحدة فتُغِلُّ عليك الآلاف .
إذن : فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حَرْثٍ وبَذْر ورعاية وسُقْيا ، وقد تريحك السماء ، فتسقى لك .
لذلك ، لما أراد الحق سبحانه أنْ يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر ، قال : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ]
فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة ، فما بالك بخالق الأرض؟ لا شك أن عطاءه سيكون أعظم؛ لذلك قال بعدها : { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ]
إذن : فالأرض لا تظلم ، ومن عدل الأرض أنْ تعطيك على قَدْر تعبك وكَدِّك فيها ، والحق سبحانه أيضاً يُقدِّر لك هذا التعب ، ويشكر لك هذا المجهود ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال : " هذه يَدٌ يحبها الله ورسوله " .
يحبها الله ورسوله؛ لأنها تعبت وعملت لا على قَدْر حاجتها ، بل على أكثر من حاجتها ، عملتْ لها وللآخرين ، وإلا لو عمل كُلُّ عامل على قَدْر حاجته ، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل؟
إذن : فعلى أصحاب القدرة والطاقة أنْ يعملوا لما يكفيهم ، ويكفي العاجزين عن العمل ، وهَبْ أنك لن تتصدَّق بشيء للمحتاج ، لكنك ستبيع الفائض عنك ، وهذا في حد ذاته نوعٌ من التيسير على الناس والتعاون معهم .
وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تُجزِل لك العطاء إنْ بررْتَ بها ، وكذلك الأرض ، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإنْ كنت جاحداً ، وكذلك الأرض ألاَ تراها تُخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرَمتها بالبر؟ لا شك ستزيد لك العطاء .
والحقيقة أن الأرض ليست أُمَّنا على وجه التشبيه ، بل هي أُمّنا على وجه الحقيقة؛ لأننا من ترابها وجزء منها ، فالإنسان إذا مرض مثلاً يصير ثقيلاً على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه ، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخ محب وكل قريب ، في حين تحتضنه الأرض ، وتمتص كل ما فيه ، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر . ثم يقول تعالى : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً . . } [ الكهف : 33 ] ذلك لأن الماء هو أَصْل الزرع ، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصاً يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج ، فيحجبه أحد عنهما .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ . . . } .
(1/5404)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
أي : لم يقتصر الأمر على أنْ كان له جنتان فيهما النخيل والأعناب والزرع الذي يُؤتي أُكُله ، بل كان له فوق ذلك ثمر أي : موارد أخرى من ذهب وفضة وأولاد؛ لأن الولد ثمرة أبيه ، وسوف يقول لأخيه بعد قليل : أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً .
ثم تدور بينهما هذه المحاورة : { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } [ الكهف : 34 ]
دليل على أن ما تقدم ذِكْره من أمر الجنتين وما فيهما من نِعَم دَعَتْهُ إلى الاستعلاء هو سبب القول { لِصَاحِبِهِ } ، والصاحب هو : مَنْ يصاحبك ولو لم تكن تحبه { يُحَاوِرُهُ } أي : يجادله بأن يقول أحدهما فيرد عليه الآخر حتى يصلوا إلى نتيجة . فماذا قال صاحبه؟ قال : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً . . } [ الكهف : 34 ] يقصد الجنتين وما فيهما من نعم { وَأَعَزُّ نَفَراً } [ الكهف : 34 ] داخلة في قوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } [ الكهف : 34 ] وهكذا استغنى هذا بالمال والولد .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ . . . } .
(1/5405)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
عرفنا أنهما جنتان ، فلماذا قال : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ . . } [ الكهف : 35 ] نقول : لأن الإنسان إنْ كان له جنتان فلنْ يدخلهما معاً في وقت واحد ، بل حَالَ دخوله سوف يواجه جنةً واحدة ، ثم بعد ذلك يدخل الأخرى .
وقوله : { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ . . } [ الكهف : 35 ] قد يظلم الإنسان غيره ، لكن كيف يظلم نفسه هو؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يُرخيِ لها عنان الشهوات ، فيحرمها من مشتهيات أخرى ، ويُفوِّت عليها ما هو أبقى وأعظم ، وظلم الإنسان يقع على نفسه؛ لأن النفس لها جانبان : نفسٌ تشتهي ، ووجدان يردع بالفطرة .
فالمسألة إذن جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون : أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه ، فإنْ قلت : كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأملتَ لوجدتَ أنك ساعة تُحدِّث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه؛ لأن بداخلك شخصيتين : شخصية فطرية ، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية ، فإنْ مَالتْ النفس الشهوانية أو انحرفتْ قَوَّمتها النفس الفطرية وعَدلَت من سلوكها .
لذلك قلنا : إن المنهج الإلهي في جميع الديانات كان إذا عَمَّتْ المعصية في الناس ، ولم يَعُدْ هناك مَنْ ينصح ويرشد أنزل الله فيهم رسولاً يرشدهم ويُذكِّرُهم ، إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه سبحانه حَمَّلهم رسالة نبيهم ، وجعل هدايتهم بأيديهم ، وأخرج منهم مَنْ يحملون راية الدعوة إلى الله؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل .
وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن يَعُمْ ، فإنْ وُجِد من بين هذه الأمة العاصون ، ففيها أيضاً الطائعون الذين يحملون راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه مسألة ضرورية ، وأساسٌ يقوم عليه المجتمع الإسلامي .
ثم يقول تعالى : { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } [ الكهف : 35 ]
فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ لا ، لأنها جنتُه يدخلها كما يشاء ، إنما المراد بالظلم هنا ما دار في خاطره ، وما حَدَّث نفسه به حالَ دخوله ، فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الاستعلاء بالغِنَى ، والغرور بالنعمة ، فقال : ما أظنُّ أنْ تبيدَ هذه النعمة ، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك ، لقد غَرَّهُ واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم ، ليس هذا وفقط ، بل دعاه غروره إلى أكثر من هذا فقال : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً . . . } .
(1/5406)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
هكذا أطلق لغروره العنان ، وإنْ قُبلَتْ منه : { مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } [ الكهف : 35 ] فلا يُقبَل منه { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً . . } [ الكهف : 36 ] لذلك لما أنكر قيام الساعة هَزَّته الأوامر الوجدانية ، فاستدرك قائلا : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي . . } [ الكهف : 36 ] أي : على كل حال إنْ رُددتُ إلى ربي في القيامة ، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أَعدَّ له ما هو أفضل من هذا .
ونقف لنتأمل قَوْل هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي . . } [ الكهف : 36 ] حيث يعرف أن له رباً سيرجع إليه ، فإنْ كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً ، لا تُناقِض نفسك ، فما حدَث منك من استعلاء وغرور وشَكٍّ في قيام الساعة يتنافى وقولك { رَبِّي } ولا يناسبه .
و { مُنْقَلَباً } أي : مرجعاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ . . . } .
(1/5407)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
هنا يردُّ عليه صاحبه المؤمن مُحَاوراً ومُجادلاً ليجُلِّيَ له وَجْه الصواب : { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ . . } [ الكهف : 37 ] أي : كلامك السابق أنا أنا ، وما أنت فيه من استعلاء وإنكار ، أتذكر هذا كله ولا تذكر بدايتك ومنشأك من تراب الذي هو أصل خَلْقك { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ . . } [ الكهف : 37 ] وهي أصل التناسل { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف " 37 ] أي : كاملاً مُسْتوياً ( ملو هدومك ) .
و { سَوَّاكَ . . } [ الكهف : 37 ] التسوية : هي إعداد الشيء إعداداً يناسب مهمته في الحياة ، وقلنا : إن العود الحديد السَّويّ مستقيم ، والخطاف في نهايته أعوج ، والاعوجاج في الخطاف هو عَيْن استقامته واستواء مهمته؛ لأن مهمته أن نخطف به الشيء ، ولو كان الخطاف هذا مستقيماً لما أدَّى مهمته المرادة .
والهمزة في { أَكَفَرْتَ . . } [ الكهف : 37 ] ليست للاستفهام ، بل هي استنكار لما يقوله صاحبه ، وما بدر منه من كُفْر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خَلْقه .
والتراب هو أَصْل الإنسان ، وهو أيضاً مرحلة من مراحل خَلْقه؛ لأن الله تعالى ذكر في خلق الإنسان مرة { مِّن مَّآءٍ } [ السجدة : 8 ] ومرة { مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، [ الروم : 20 ] ومرة { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] ومرة { مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [ الرحمن : 14 ] .
لذلك يعترض البعض على هذه الأشياء المختلفة في خَلْق الإنسان ، والحقيقة أنها شيء واحد ، له مراحل متعددة انتقالية ، فإنْ أضفْتَ الماء للتراب صار طيناً ، فإذا ما خلطْتَ الطين بعضه ببعض صار حمأ مسنوناً ، فإذا تركته حتى يجفّ ويتماسك صار صَلْصَالاً ، إذن : فهي مرحليات لشيء واحد .
ثم يقول الحق سبحانه أن هذا المؤمن قال : { لكنا هُوَ الله رَبِّي . . . } .
(1/5408)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
قوله : { لكنا . . } [ الكهف : 38 ] أي : لكن أنا ، فحذفت الهمزة وأُدغمت النون في النون . ولكن للاستدراك ، المؤمن يستدرك على ما قاله صاحبه : أنا لستُ مثلك فيما تذهب إليه ، فإنْ كنت قد كفرتَ بالذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة . ثم سوَّاك رجلاً ، فأنا لم أكفر بمَنْ خلقني ، فقَوْلي واعتقادي الذي أومن به : { هُوَ الله رَبِّي . . } [ الكهف : 38 ]
وتلاحظ أن الكافر لم يَقُلْ : الله ربي ، إنما جاءتْ ربي على لسانه في معرض الحديث ، والفرْق كبير بين القولين؛ لأن الربّ هو الخالق المتولّي للتربية ، وهذا أمر لا يشكّ فيه أحد ، ولا اعتراض عليه ، إنما الشكّ في الإله المعبود المطاع ، فالربوبية عطاء ، ولكن الألوهية تكليف؛ لذلك اعترف الكافر بالربوبية ، وأنكر الألوهية والتكليف .
ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقول : { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 38 ]
ولم يكتفِ المؤمن بأن أبانَ لصاحبه ما هو فيه من الكفر ، بل أراد أنْ يُعدّي إيمانه إلى الغير ، فهذه طبيعة المؤمن أنْ يكون حريصاً على هداية غيره ، لذلك بعد أنْ أوضح إيمانه بالله تعالى أراد أن يُعلِّم صاحبه كيف يكون مؤمناً ، ولا يكمُل إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وأيضاً من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر؛ لأن المؤمن صُحح سلوكه بالنسبة للآخرين ، ومن الخير للمؤمن أيضاً أن يُصحِّح سلوك الكافر بالإيمان .
لذلك من الخير بدل أنْ تدعوَ على عدوك أن تدعو له بالهداية؛ لأن دعاءك عليه سيُزيد من شقائك به ، وها هو يدعو صاحبه ، فيقول : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله . . . } .
(1/5409)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
يريد أنْ يُعلمه سبيل الإيمان في استقبال النعمة ، بأنْ يردَّ النعم إلى المنعم؛ لأن النعمة التي يتقلّب فيها الإنسان لا فضْلَ له فيها ، فكلها موهوبة من الله ، فهذه الحدائق والبساتين كيف آتتْ أُكُلها؟ إنها الأرض التي خلقها الله لك ، وعندما حرثْتها حرثْتها بآلة من الخشب أو الحديد ، وهو موهوب من الله لا دَخْلَ لك فيه ، والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تُسلبَ منك في أيِّ وقت ، فتصير ضعيفاً لا تقدر على شيء .
إذن : حينما تنظر إلى كُلِّ هذه المسائل تجدها منتهيةً إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه .
خُذْ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحاً وهو في غاية الأناقة وإبداع الصَّنْعة ، من أين أتى الصُّنّاع بمادته؟ لو تتبعتَ هذا لوجدته قطعةَ خشب من إحدى الغابات ، ولو سألتَ الغابة : من أين لك هذا الخشب لأجابتْك من الله .
لذلك يُعلّمنا الحق سبحانه وتعالى الأدب في نعمته علينا ، بقوله : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 63-64 ]
هذه الحبة التي بذرتها في حقلك ، هل جلستَ بجوارها تنميها وتشدّها من الأرض ، فتنمو معك يوماً بعد يوم؟ إن كل عملك فيها أن تحرث الأرض وتبذر البذور ، حتى عملية الحرث سخّر الله لك فيها البهائم لتقوم بهذه العملية ، وما كان بوُسْعك أنْ تُطوّعها لهذا العمل لولا أنْ سخرها الله لك ، وذلّلها لخدمتك ، كما قال تعالى : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ]
ما استطعت أنت تسخيرها .
إذن : لو حلَّلْتَ أيَّ نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى الله ، وموهوب منه سبحانه . وحتى بعد أن ينمو الزرع ويُزهر أو يُثمر لا تأمن أن تأتيه آفةٌ أو تحلُّ به جائحة فتهلكه؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 65-67 ]
كما يقول تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم } [ القلم : 17-20 ]
وكذلك في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون } [ الواقعة : 68-69 ]
هذا الماء الذي تشربونه عَذْباً زلالاً ، هل تعرفون كيف نزل؟ هل رأيتم بخار الماء الصاعد إلى الجو؟ وكيف ينعقد سحاباً تسوقه الريح؟ هل دريْتُم بهذه العملية؟ { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً . . } [ الواقعة : 70 ]
أي : مِلْحاً شديداً لا تنتفعون به .
فحينما يمتنُّ الله على عبيده بأيّ نعمة يُذكِّرهم بما ينقضها ، فهي ليست من سَعْيهم ، وعليهم أنْ يشكروه تعالى عليها لتبقى أمامهم ولا تزول ، وإلاَّ فَلْيحافظوا عليها هم إنْ كانت من صُنْع أيديهم!
وكذلك في مسألة خَلْق الإنسان يوضح سبحانه وتعالى أنه يمنع الحياة وينقضها بالموت ، قال تعالى :
(1/5410)
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [ الواقعة : 58-60 ] فإنْ كنتم أنتم الخالقين ، فحافظوا عليه وادفعوا عنه الموت . فذكر سبحانه النعمة في الخَلْق ، وما ينقض النعمة في أَصْل الخَلْق .
أما في خَلْق النار ، فالأمر مختلف ، حيث يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون } [ الواقعة : 71-72 ]
فذكر سبحانه قدرته في خَلْق النار وإشعالها ولم يذكر ما ينقضها ، ولم يقُلْ : نحن قادرون على إطفائها ، كما ذكر سبحانه خَلْق الإنسان وقدرته على نقضه بالموت ، وخَلْق الزرع وقدرته على جعله حطاماً ، وخَلْق الماء وقدرته على جعله أجاجاً ، إلا في النار ، لأنه سبحانه وتعالى يريدها مشتعلة مضطرمة باستمرار لتظل ذكرى للناس ، لذلك ذيِّل الآية بقوله تعالى : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } [ الواقعة : 73 ]
كما نقف في هذه الآيات على ملمح من ملامح الإعجاز ودِقَّة الأداء القرآني؛ لأن المتكلم ربٌّ يتحدث عن كل شيء بما يناسبه ، ففي الحديث عن الزرع ولأن للإنسان عملاً فيه مثل الحرْث والبذْر والسَّقْي وغيره نراه يؤكد الفعل الذي ينقض هذا الزرع ، فيقول : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً . . } [ الواقعة : 65 ] حتى لا يراودك الغرور بعملك .
أما في الحديث عن الماء وليس للإنسان دخل في تكوينه فلا حاجةَ إلى تأكيد الفعل كسابقه ، فيقول تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً . . } [ الواقعة : 70 ] دون توكيد؛ لأن الإنسان لا يدعي أن له فضلاً في هذا الماء الذي ينهمر من السماء .
نعود إلى المؤمن الذي ينصح صاحبه الكافر ، ويُعلِّمه كيف يستقبل نعمة الله عليه : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله . . } [ الكهف : 39 ] { لولا } بمعنى : هلاَّ وهي للحثِّ والتحضيض ، وعلى الإنسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة عليه أن يقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قيل عند نعمة : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، إلا ولا ترى فيها آفة إلا الموت " .
فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألاَّ تُلهيكَ النعمة عن المنعم ، كان عليك أن تقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أي : أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي ، بل فضل من الله فتردّ النعمة إلى خالقها ومُسديها ، وما دُمْتَ قد رددْتَ النعمة إلى خالقها فقد استأمنْتَهُ عليها واستحفظته إياها ، وضمنْتَ بذلك بقاءها .
وذكرنا أن سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه كان عالماً بكنوز القرآن ، ورأى النفس البشرية ، وما يعتريها من تقلُّبات تعكر عليه صَفْو الحياة من خوف أو قلق أو همٍّ أو حزن أو مكر ، أو زهرة الدنيا وطموحات الإنسان فيها .
(1/5411)
فكان رضي الله عنه يُخرج لهذه الداءات ما يناسبها من علاجات القرآن فكان يقول في الخوف : " عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } [ آل عمران : 173 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] وعجبتُ لمن اغتمَّ لأن الغَمَّ انسداد القلب وبلبلة الخاطر من شيء لا يعرف سببه وعجبتُ لمن اغتمَّ ولم يفزع إلى قول الله تعالى : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم } [ الأنبياء : 88 ] ليس هذا وفقط ، بل : { وكذلك نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] وكأنها ( وصْفة ) عامة لكل مؤمن ، وليست خاصة بنبيّ الله يونس عليه السلام .
فقوْل المؤمن الذي أصابه الغم : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ . . } [ الأنبياء : 87 ] أي : لا مفزع لي سواك ، ولا ملجأ لي غيرك { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين . . } [ الأنبياء : 87 ] اعتراف بالذنب والتقصير ، فلعل ما وقعتُ فيه من ذنب وما حدث من ظلم لنفسي هو سبب هذا الغم الذي أعانيه .
وعجبتُ لمن مُكر به ، كيف لا يفزع إلى قول الله تعالى : { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله . . } [ غافر : 44 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ . . } [ غافر : 45 ] فالله تبارك وتعالى هو الذي سيتولى الرد عليهم ومقابلة مكرهم بمكره سبحانه ، كما قال تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ]
وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها كيف لا يفزع إلى قوله تعالى : { مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله . . } [ الكهف : 39 ] فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } [ الكهف : 40 ]
فإن قلتها على نعمتك حُفظتْ ونمَتْ ، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها .
والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا ، رغم ما يتقلّب فيه من نعيمها ، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن نقول : { مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله . . } [ الكهف : 39 ]
ويستطرد المؤمن ، فيُبيِّن لصاحبه ما عَيَّره به من أنه فقير وهو غني ، وما استعلى عليه بماله وولده : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } [ الكهف : 39 ]
ثم ذكّره بأن الله تعالى قادر على أنْ يُبدِّل هذا الحال ، فقال : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ . . . } .
(1/5412)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
وعسى للرجاء ، فإن كان الرجاء من الله فهو واقع لا شكَّ فيه؛ لذلك حينما تقول عند نعمة الغير : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) يعطيك الله خيراً مما قُلْت عليه : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) ، وإن اعترفتَ بنعمة الله عليك ورددْت الفضل إليه سبحانه زادك ، كما جاء في قوله تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ]
فقوله : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } [ الكهف : 40 ] أي : ينقل مسألة الغنى والفقر ويُحوّلها ، فأنت لا قدرة لك على حفظ هذه النعمة ، كما أنك لا قدرةَ لك على جَلْبها من البداية . إذن : يمكن أنْ يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك ، في حين تظل نعمتك كما هي ، لكن إرادة الله تعالى أن يقلبَ نعمتك ويزيلها : { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } [ الكهف : 40 ] هذه النعمة التي تعتز بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على خَلْق الله يمكن أنْ يرسلَ الله عليها حُسْباناً .
والحُسْبان : الشيء المحسوب المقدَّر بدقّة وبحساب ، كما جاء في قوله تعالى : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] والخالق سبحانه وتعالى جعل الشمس والقمر لمعرفة الوقت : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ونحن لا نعرف من هذه عدد السنين والحساب إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطةً على نظام دقيق لا يختلّ ، مثل الساعة لا تستطيع أنْ تعرفَ بها الوقت وتضبطه إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة ، والشيء لا يكون حسباناً لغيره إلا إذا كان هو نفسه مُنْشأ على حُسْبان .
وحَسب حُسْباناً مثل غفر غفراناً ، وقد أرسل الله على هذه الجنة التي اغترَّ بها صاحبها صاعقة محسوبة مُقدَّرة على قَدْر هذه الجنة لا تتعدَّاها إلى غيرها ، حتى لا يقول : إنها آية كونية عامة أصابتني كما أصابت غيري . . لا . إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها .
ثم يقول تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [ الكهف : 40 ] أي : أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار ، المليئة بالنخيل والأعناب بعد أن أصابتها الصاعقة أصبحتْ صَعيداً أي : جدباء يعلُوها التراب ، ومنه قوله تعالى في التيمُّم : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] ليس هذا وفقط ، بل { صَعِيداً زَلَقاً } [ الكهف : 40 ] أي : تراباً مُبلّلاً تنزلق عليه الأقدام ، فلا يصلح لشيء ، حتى المشي عليه .
(1/5413)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{ غَوْراً } أي : غائراً في الأرض ، فإنْ قُلْت : يمكن أنْ يكونَ الماء غائراً ، ونستطيع إخراجه بالآلات مثلاً ، لذلك يقطع أمله في أيِّ حيلة يفكر فيها : { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } [ الكهف : 41 ] أي : لن تصل إليه بأيِّ وسيلة من وسائلك ، ومن ذلك قوله تعالى في آية أخرى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ]
لاحظ أن هذا الكلام من المؤمن لصاحبه الكافر مجرد رجاء يخاطبه به : { فعسى رَبِّي . . } [ الكهف : 40 ] رجاء لم يحدث بَعْد ، ولم يصل إلى إيقاعيات القدر .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا . . . } .
(1/5414)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
هكذا انتقل الرجاء إلى التنفيذ ، وكأن الله تعالى استجاب للرجل المؤمن ولم يكذب توقعه { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] أحيط : كأنْ جعل حول الثمر سوراً يحيط به ، فلا يكون له منفذ ، كما قال في آية أخرى : { وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [ يونس : 22 ]
وتلاحظ أنه سبحانه قال : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] ولم يقُلْ مثلاً : أحيط بزرعه أو بنخله؛ لأن الإحاطة قد تكون بالشيء ، ثم يثمر بعد ذلك ، لكن الإحاطة هنا جاءت على الثمر ذاته ، وهو قريب الجنْي قريب التناول ، وبذلك تكون الفاجعة فيه أشدَّ ، والثمر هو الغاية والمحصّلة النهائية للزرع . ثم يُصوِّر الحق سبحانه ندم صاحب الجنة وأَسَفه عليها : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } [ الكهف : 42 ] أي : يضرب كَفّاً بكفٍّ ، كما يفعل الإنسان حينما يفاجئه أمر لا يتوقعه ، فيقف مبهوتاً لا يدري ما يقول ، فيضرب كفّاً بكفٍّ لا يتكلم إلا بعد أن يُفيق من هَوْل هذه المفاجأة ودَهْشتها .
ويُقلِّب كفَّيْه على أيِّ شيء؟ يُقلِّب كفيه ندماً على ما أنفق فيها { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } [ الكهف : 42 ] خاوية : أي خَربة جَرْداء جَدْباء ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ]
ومعلوم أن العروش تكون فوق ، فلما نزلت عليها الصاعقة من السماء دكَّتْ عروشها ، وجعلت عاليها سافلها ، فوقع العرش أولاً ، ثم تهدَّمتْ عليه الجدران .
وقوله تعالى : { وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 42 ] بعد أن ألجمتْه الدهشة عن الكلام ، فراحَ يضرب كفَّاً بكفٍّ ، أفاق من دهشته ، ونزع هذا النزوع القوليّ الفوري : { ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 42 ] يتمنى أنه لم يشرك بالله أحداً؛ لأن الشركاء الذين اتخذهم من دون الله لم ينفعوه ، لذلك قال بعدها : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله . . . } .
(1/5415)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
أي : ليس لديه أعوان ونُصراء يدفعون عنه هذا الذي حَلّ به ، ويمنعون عنه الخراب الذي حاقَ بجنته { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } [ الكهف : 43 ] أي : ما كان ينبغي له أن ينتصر ، ولا يجوز له الانتصار ، لماذا؟
ثم يقول الحق سبحانه : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق . . . } .
(1/5416)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
هنالك : أي في وقت الحالة هذه ، وقتَ أنْ نزلتْ الصاعقة من السماء فأتتْ على الجنة ، وجعلتها خاوية على عروشها ، هناك تذكّر المنعمَ وتمنّى لو لم يشرك بالله ، فقوله : { هُنَالِكَ } أي : في الوقت الدقيق وقت القمة ، قمة النكَد والكَدَر .
و { هُنَالِكَ } جاءت في القرآن في الأمر العجيب ، ويدعو إلى الأمر الأعجب ، من ذلك قصة سيدنا زكريا عليه السلام لما دخل على السيدة مريم ، فوجد عندها رزقاً : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ]
وكان زكريا عليه السلام هو المتكفّل بها ، الذي يُحضِر لها الطعام والشراب ، فلما رأى عندها أنواعاً من الطعام لم يَأْتِ بها سألها من أيْن؟ فقالت : هو من عند الله إن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب ، فأطمع هذا القولُ زكريا في فضل الله ، وأراد أن يأخذ بالأسباب ، فدعا الله أن يرزقه الولد ، وقد كانت امرأته عاقراً فقال تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ]
و { الولاية } أن يكون لك ولي ينصرك ، فالولي هو الذي يليك ، ويدافع عنك وقت الشدة ، وفي قراءة أخرى : ( هُنَالِكَ الْوِلايَةُ ) بكسر الواو يعني الملك ، كما في قوله : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
وقوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً . . } [ الكهف : 44 ] لأنه سيجازى على العمل الصالح بثواب ، هو خير من الدنيا وما فيها { وَخَيْرٌ عُقْباً } [ الكهف : 44 ] أي : خير العاقبة بالرزق الطيب في جنة الخلد .
هكذا ضرب الله تعالى لنا مثلاً ، وأوضح لنا عاقبة الغنيّ الكافر ، والفقير المؤمن ، وبيَّن لنا أن الإنسان يجب ألاّ تخدعه النعمة ولا يغره النعيم؛ لأنه موهوب من الله ، فاجعل الواهب المنعِمَ سبحانه دائماً على بالك ، كي يحافظ لك على نعمتك وإلا لَكُنْتَ مثل هذا الجاحد الذي استعلى واغترّ بنعمة الله فكانت عاقبته كما رأيت .
وهذا مثل في الأمر الجزئي الذي يتعلق بالمكلّف الواحد ، ولو نظرتَ إليه لوجدتَه يعمُّ الدنيا كلها؛ فهو مثال مُصغَّر لحال الحياة الدنيا؛ لذلك انتقل الحق سبحانه من المثل الجزئيّ إلى المثل العام ، فقال تعالى : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ . . . } .
(1/5417)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يوضح المجهول لنا بما عُلِم لدينا . وأهل البلاغة يقولون : في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبّه حال الدنيا في قِصَرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء ، فارتوتْ به الأرض ، وأنبتتْ ألواناً من الزروع والثمار ، ولكن سرعان ما يذبلُ هذا النبات ويصير هشيماً مُتفتتاً تذهب به الريح .
وهذه صورة كما يقولون منتزعة من مُتعدّد . أي : أن وجه الشبه فيها ليس شيئاً واحداً ، بل عِدّة أشياء ، فإن كان التشبيه مُركّباً من أشياء متعددة فهو مَثَل ، وإنْ كان تشبيه شيء مفرد بشيء مفرد يُسمُّونه مِثْل ، نقول : هذا مِثْل هذا ، لذلك قال تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } [ النحل : 74 ] لأن لله تعالى المثل الأعلى .
وهكذا الدنيا تبدو جميلة مُزهِرة مُثمِرة حُلْوة نَضِرة ، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً؛ لذلك سماها القرآن دُنْيا وهو اسم يُوحي بالحقارة ، وإلا فأيّ وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عُلْيا .
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : كما ضربتُ لهم مَثَل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلّب بأهلها ، وتتبدل بهم ، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها .
ومعنى { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } [ الكهف : 45 ] أي : اختلط بسببه نبات الأرض ، وتداخلَ بعضُه في بعض ، وتشابكتْ أغصانه وفروعه ، وهذه صورة النبات في الأرض الخِصْبة ، أما إنْ كانت الأرض مالحة غير خِصْبة فإنها تُخرِج النبات مفرداً ، عود هنا وعود هناك .
لكن ، هل ظل النبات على حال خُضْرته ونضارته؟ لا ، بل سرعان ما جفَّ وتكسر وصار هشيماً تطيح به الريح وتذروه ، هذا مثلٌ للدنيا حين تأخذ زخرفها وتتزيَّن ، كما قال تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً . . } [ يونس : 24 ]
ثم يقول تعالى : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 45 ] لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضِدّه ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ]
فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد ، واقتدر على الإعدام ، فلا تنفكّ عنه صفة القدرة أبداً ، أحيا وأمات ، وأعزَّ وأذلَّ ، وقبض وبسط ، وضَرَّ ونفع . .
ولما كان الكلام السابق عن صاحب الجنة الذي اغترّ بماله وولده فناسب الحديث عن المال والولد ، فقال تعالى : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } .
(1/5418)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
تلك هي العناصر الأساسية في فتنة الناس في الدنيا : المال والبنون ، لكن لماذا قدَّم المال؟ أهو أغلى عند الناس من البنين؟ نقول : قدَّم الحق سبحانه المال على البنين ، ليس لأنه أعزُّ أو أغلى؛ إنما لأن المال عام في المخاطب على خلاف البنين ، فكلُّ إنسان لديه المال وإنْ قلَّ ، أما البنون فهذه خصوصية ، ومن الناس مَنْ حُرِم منها .
كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال؛ لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل ويُنجب ، إذن : كل واحد له مال ، وليس لكل واحد بنون ، والحكم هنا قضية عامة ، وهي : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا . . } [ الكهف : 46 ] كلمة { زِينَةُ } أي : ليست من ضروريات الحياة ، فهو مجرد شكل وزخرف؛ لأن المؤمن الراضي بما قُسِمَ له يعيش حياته سعيداً بدون مال ، وبدون أولاد؛ لأن الإنسان قد يشقَى بماله ، أو يشقى بولده ، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يُرزقَ هذا المال أو هذا الولد .
وقد باتت مسألة الإنجاب عُقْدة ومشكلة عند كثير من الناس ، فترى الرجل كَدِراً مهموماً؛ لأنه يريد الولد ليكون له عِزْوة وعِزّة ، وربما يُزَرق الولد ويرى الذُّلَّ على يديه ، وكم من المشاكل تُثار في البيوت؛ لأن الزوجة لا تنجب .
ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة ، وأن السَّلْب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع ، ألم نقرأ قول الله تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49-50 ]
إذن : فالعُقْم في ذاته نعمة وهِبَة من الله لو قبلها الإنسان من ربه لَعوَّضه الله عن عُقْمه بأنْ يجعل كل الأبناء أبناءه ، ينظرون إليه ويعاملونه كأنه أبٌ لهم ، فيذوق من خلالهم لذَّة الأبناء دون أن يتعب في تربية أحد ، أو يحمل هَمَّ أحد .
وكذلك ، الذي يتكدر لأن الله رزقه بالبنات دون البنين ، ويكون كالذي قال الله فيه : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ]
إنه يريد الولد ليكون عِزْوة وعِزّة . ونسى أن عزة المؤمن بالله لا بغيره ، ونقول : والله لو استقبلت البنت بالفرح والرضا على أنها هِبَة من الله لكانتْ سبباً في أن يأتي لها زوج أبرّ بك من ولدك ، ثم قد تأتي هي لك بالولد الذي يكون أعزّ عندك من ولدك .
إذن : المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها ، وليسا من الضروريات ، وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا ، فقال : " من أصبح مُعَافىً في بدنه ، آمناً في سِرْبه أي : لا يهدد أمنه أحد وعنده قوت يومه ، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها "
(1/5419)
فما زاد عن ذلك فهو من الزينة ، فالإنسان إذن يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد ، يعيش بقيم تعطي له الخير ، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى .
ثم يقول تعالى : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ]
لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر ، ولن يمنعاك من العذاب ، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات . والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أُهديَتْ إليه شاة ، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعرف أن رسول الله يحب من الشاة الكتف؛ لأنه لَحْم رقيق خفيف؛ لذلك احتفظتْ لرسول الله بالكتف وتصدّقت بالباقي ، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال : " ماذا صنعتِ في الشاة "؟ قالت : ذهبتْ كلها إلا كتفها ، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال : " بل بقيت كلها إلا كتفها " .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : " هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ ، أو لبسْتَ فأبليْتَ ، أو تصدَّقْتَ فأبقيْتَ " .
وهذا معنى : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ . . } [ الكهف : 46 ]
والسؤال الذي يتبادر إلى الذِّهْن الآن : إذا لم يكُنْ المال والبنون يمثلان ضرورة من ضروريات الحياة ، فما الضروريات في الحياة إذن؟ الضروريات في الحياة هي كُلُّ ما يجعل الدنيا مزرعة للآخرة ، ووسيلة لحياة باقية دائمة ناعمة مسعدة ، لا تنتهي أنت من النعيم فتتركه ، ولا ينتهي النعيم منك فيتركك ، إنه نعيم الجنة .
الضروريات إذن هي الدين ومنهج الله والقِيَم التي تُنظم حركة الحياة على وَفْق ما أراد الله من خلق الحياة .
ومعنى : { والباقيات } [ الكهف : 46 ] ما دام قال { والباقيات } فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكُنْ من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا ، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار .
{ والباقيات الصالحات خَيْرٌ . . } [ الكهف : 46 ] خير عند مَنْ؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه ، فخَيْرك غير خير مَنْ هو أغنى منك ، غير خير الحاكم ، فما بالك بخير عند الله؟
{ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ]
والأمل : ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكُنْ به حالته ، فإنْ كان عنده خير تطلَّع إلى أعلى منه ، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى ، كُلُّ هذا يُبيّن لنا أن هذه الدنيا زائلة ، وأننا ذاهبون إلى يوم بَاقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها ، فقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً . . . } .
(1/5420)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
أي : اذكر جيداً يوم نُسيِّر الجبال وتنتهي هذه الدنيا ، واعمل الباقيات الصالحات لأننا سنُسيّر الجبال التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الأجيال حجمها وجِرْمها ، وقوتها وصلابتها ، وهي باقية على حالها .
ومعنى تسيير الجبال : إزالتها عن أماكنها ، كما قال في آية أخرى : { وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ]
وقال في آية أخرى { وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ } [ التكوير : 3 ]
وقال : { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } [ المرسلات : 10 ] وقال : { يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل * وَتَكُونُ الجبال كالعهن } [ المعارج : 8-9 ]
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا ، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب ، والشجر الكبير الضخم المعمّر وغيرها كثير . فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه الجبال ويُزيلها عن أماكنها ، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أَوْلَى .
ثم يقول سبحانه : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ]
الأرض : كُلّ ما أقلَّك من هذه البسيطة التي نعيش عليها ، وكل ما يعلوك ويُظِلُّك فهو سماء ، ومعنى : { بَارِزَةً } البَرَازُ : هو الفضاء ، أي : وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار ، حتى البحر الذي يغطي جزءاً كبيراً من الأرض .
كل هذه الأشكال ذهبتْ لا وجودَ لها ، فكأن الأرض بَرزَتْ بعد أنْ كانت مختبئة : بعضها تحت الجبال ، وبعضها تحت الأشجار ، وبعضها تحت المباني ، وبعضها تحت الماء ، فأصبحتْ فضاء واسعاً ، ليس فيه مَعْلَمٌ لشيء .
ومن ذلك ما نُسمِّيه نحن المبارزة ، فنرى الفتوة يقول للآخر ( اطلع لي بره ) أي : في مكان خال حتى لا يجد شيئاً يحتمي به ، أو حائطاً مثلاً يستند عليه ، وبرز فلان لفلان وبارزه أي : صارعه .
{ وَحَشَرْنَاهُمْ } [ الكهف : 47 ] أي : جمعناهم ليوم الحساب؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لَدُن آدم عليه السلام ، والموت يحصد الأرواح ، وقد جاء اليوم الذي يُجمع فيه هؤلاء .
{ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] أي : لم نترك منهم واحداً ، الكلُّ معرض على الله ، وكلمة { نُغَادِرْ } [ الكهف : 47 ] ومادة ( غدر ) تؤدي جميعها معنى الترْك ، فالغدر مثلاً تَرْك الوفاء وخيانة الأمانة ، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سُمِّي غديراً؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئاً قليلاً في المواطئ .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . . } .
(1/5421)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
قوله تعالى : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً . . } [ الكهف : 48 ] العرض : أن يستقبل العارض المعروضَ استقبالاً مُنظّماً يدلّ على كُلِّ هيئاته ، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلاً ، فيرى كل واحد من جنوده { صَفّاً } أي : صُفوفاً منتظمة ، حتى الملائكة تأتي صُفوفاً ، كما قال تعالى : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ]
أي : أنها عملية مُنظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي ، ولن يكون لأحد منها مفَرٌّ ، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يُخِفي فيها صَفٌّ الصفَّ الذي يليه ، فالجميع واضح بكل أحواله .
وفي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَحشر الله الخَلْق ثم ينادي : يا عبادي أحضروا حُجتكم ويسِّروا جوابكم ، فإنكم مجموعون مُحَاسَبُون مَسْئولون ، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " .
ولك أنْ تتصوَّر المعاناة والألم الذي يجده مَنْ يقف على أطراف أنامل قدميْه؛ لأن ثقل الجسم يُوزَّع على القدمين في حال الوقوف ، وعلى المقعدة في حال الجلوس ، وعلى الجسم كله في حال النوم ، وهكذا يخفّ ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها ، فإنْ تركّز الثقل كله على أطراف أنامل القدمين ، فلا شَكَّ أنه وَضْع مؤلم وشاقّ ، يصعُب على الناس حتى إنهم ليتمنون الانصراف ولو إلى النار .
ثم يقول تعالى : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الكهف : 48 ]
أي : على الحالة التي نزلتَ عليها من بطن أمك عرياناً ، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك ، وقد فُصِّل هذا المعنى في قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ]
وقوله تعالى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } [ الكهف : 48 ] والخطاب هنا مُوجَّه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب { زَعَمْتُمْ } [ الكهف : 48 ] والزعْم مطيّة الكذب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ . . . } .
(1/5422)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
قوله تعالى : { وَوُضِعَ الكتاب } [ الكهف : 49 ] أي : وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى ، فيعطون كل واحد كتابه ، فهي إذن صور متعددة ، فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال :
{ هَآؤُمُ اقرءوا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] يعرضه على ناس ، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مُشرِّف ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته ، فهو كالتلميذ الذي حصل على درجات عالية ، فطار بها ليعرضها ويذيعها .
وهذا بخلاف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول : { ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * ياليتها كَانَتِ القاضية * مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [ الحاقة : 25-29 ]
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة .
{ فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ] أي : خائفين يرتعدون ، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذِّرهم ويُضخِّم لهم العقوبة ، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك ، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده .
فحالتهم الأولى الإشفاق ، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته ، ثم يأتي نزوع القول : { وَيَقُولُونَ ياويلتنا } [ الكهف : 49 ] يا : أداة للنداء ، كأنهم يقولون : يا حسرتنا يا هلاكنا ، هذا أوانُك فاحضري .
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم عليه السلام لما قتل قابيل هابيل ، وكانت أول حادثة قتل ، وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث الله له غراباً يُعلِّمه كيف يدفن أخاه ، فقال : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي . . } [ المائدة : 31 ] { يَاوَيْلَتَا } [ المائدة : 31 ] يا هلاكي كأن يتحسَّر على ما أصبح فيه ، وأن الغراب أعقل منه ، وأكثر منه خبرة؛ لكي لا نظلم هذه المخلوقات ونقول : إنها بهائم لا تَفهم ، والحقيقة : ليتنا مثلهم .
قوله تعالى : { مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] أي : لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدَّها وحسبها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [ الكهف : 49 ] فكل ما فعلوه مُسجَّل مُسطّر في كُتبهم { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه .
ثم يقول الله سبحانه : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ . . . } .
(1/5423)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
تكررتْ قصة سجود الملائكة لآدم عليه السلام كثيراً في القرآن الكريم ، وفي كل مرة تُعطينا الآياتُ لقطةً معينة ، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا : يجب عليكم أنْ تذكّروا جيداً عداوة إبليس لأبيكم آدم ، وتذكروا جيداً أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أنْ يُغويكم أجمعين ، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذه العداوة ، فإذا حدّثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم .
والحق سبحانه وتعالى حينما يُحذّرنا من إبليس فإنه يُربِّي فينا المناعة التي نُقاومه بها ، والمناعة أنْ تأتيَ بالشيء الذي يضرُّ مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد ، وهذا هو التطعيم الذي يُعوِّد الجسم على مدافعة المرض وتغلَّب عليه إذا أصابه .
فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس ، ويُذكِّرنا ما كان منه لأبينا آدم واستكباره عن السجود له ، وأن نذكر دائماً قوله : { أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ]
فانتبهوا ما دُمنا سنُسيّر الجبال ، ونُسوِّي الأرض ، ونحصر لكلٍّ كتابه ، فاحذروا أنْ تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة ، ثم تُفَاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، وها أنا أُذكّركم من الآن في وقت السَّعة والتدارك ، فحاولوا التوبة إلى الله ، وأنْ تصلحوا ما بينكم وبين ربكم .
والأمر هنا جاء للملائكة : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة . . } [ الكهف : 50 ] لأنهم أشرف المخلوقات ، حيث لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يُؤمَرُون . وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم ، فهذا يعني الخضوع ، وأن هذا هو الخليفة الذي آمُركُم أنْ تكونوا في خدمته .
لذلك سمَّاهم : المدبّرات أمراً ، وقال تعالى عنهم : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم .
فإذا كان الحق سبحانه قد جنَّد هؤلاء الملائكة وهم أشرفُ المخلوقات لخدمة الإنسان ، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان ، فمن باب أَوْلى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه ، وأن يجعلَه في خدمته ، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على مَنْ دونهم .
وقلنا : إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس : أهو من الجن أم من الملائكة ، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحَسَمَتْه ، فقال تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن . . } [ الكهف : 50 ] وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يُوضّح جنسيته ، فليس لأحد أن يقول : إنه من الملائكة .
وما دام كان من الجن ، وهم جنس مختار في أنْ يفعل أو لا يفعل ، فقد اختار ألاَّ يفعل : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . } [ الكهف : 50 ] أي : رجع إلى أصله ، وخرج عن الأمر .
وقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ .
(1/5424)
. } [ الكهف : 50 ] فهذا أمر عجيب ، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم ، فكان أَوْلَى بهذه الولاية .
و { وَذُرِّيَّتَهُ . . } [ الكهف : 50 ] تدل على تناسل إبليس ، وأن له أولاداً ، وأنهم يتزاوجون ، ويمكن أن نقول : ذريته : كل مَنْ كان على طريقته في الضلال والإغواء ، ولو كان من الإنس ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً . . } [ الأنعام : 112 ]
{ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] أي : بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أنْ يسجدَ لأبيكم وَلياً ، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أنْ تسجدَ لأبيكم .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ . . . } .
(1/5425)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
إن هذا الشيطان الذي واليتموه من دون الله ، وأعطيتموه الميْزة ، واستمعتم إليه ما أشهدتهم خَلْق السماوات والأرض مجرد المشاهدة ، لم يحضروها لأن خَلْق السماوات والأرض كان قبل خَلْقهم ، وكذلك ما شَهِدوا خَلْق أنفسهم؛ لأنهم ساعة خَلْقتهم لم يكونوا موجودين ، إنهم لم يشهدوا شيئاً من ذلك لكي يخبروكم .
{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] أي : مساعدين ومعاونين ومساندين ، فما أشهدتهم الخَلْق وما عاونوني فيه .
والعَضُد : هو القوة التي تُسعفك وتسندك ، وهو مأخوذ من عَضُد الإنسان ، حيث يزاول أغلب أعماله بيده ، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قَبْضاً وبَسْطاً واتجاهاً يميناً وشمالاً ، وأعلى وأسفل ، وكُلُّ هذه الحركات لا بُدَّ لها من مُنظِّم أو موتور هو العضد ، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آياتٌ عُظْمى تدلُّ على دِقَّة الصَّنْعة .
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة ، تجد سائق البلدوزر مثلاً يقوم بعدة حركات لكي يُحرِّك هذه الآلة ، أما أنت فتحرِّك يدك كما شئْتَ دون أن تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تُفكّر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
فكل أجزائك مُسخَّرة لإرادتك ، فإنْ أردتَ القيام مثلاً قمتَ على الفور؛ لذلك إياك أنْ تظن أنك خَلْق ميكانيكي ، بل أنت صَنْعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات ، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يُوقِف جزءاً منك أمر المخ أنْ يقطعَ صِلَته به ، فيحدث الشلل التام ، ولا تستطيع أنت دَفْعَه أو إصلاحه .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة موسى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ . . } [ القصص : 35 ] أي : نُقوِّيك ونُعطيك السَّنَد والعَوْن .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ . . . } .
(1/5426)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
يعني : واذْكر يا محمد ، ولتذْكُرْ معك أمتك هذا اليوم : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ . . } [ الكهف : 52 ] يقول الحق سبحانه للكفار : ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني . وزعمتم : أي : كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ . . } [ الكهف : 52 ]
وهذا من سماجتهم وتبجُّحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه ، فكان عليهم أنْ يخجلوا من الله ، ويعودوا إلى الحق ، ويعترفوا بما كذَّبوه ، لكنهم تمادَوْا { فَدَعَوْهُمْ . . } [ الكهف : 52 ] ويجوز أن من الشركاء أناساً دون التكليف ، وأناساً فوق التكليف ، فمثلاً منهم مَنْ قالوا : عيسى . ومنهم مَنْ قالوا : العزير ، وهذا باطل ، وهل استجابوا لهم؟
ومنهم مَنِ اتخذوا آلهة أخرى ، كالشمس والقمر والأصنام وغيرها ، ومنهم مَنْ عبد ناساً مثلهم وأطاعوهم ، وهؤلاء كانوا موجودين معهم ، ويصح أنهم دَعَوْهم ونادوهم : تعالوا ، جادلوا عنّا ، وأخرجونا مما نحن فيه ، لقد عبدناكم وكنا طَوْعَ أمركم ، كما قال تعالى عنهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى . . } [ الزمر : 3 ]
ولكن ، أنَّى لهم ما يريدون؟ فقد تقطعتْ بينهم الصلات ، وانقطعت حجتهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ . . } [ الكهف : 52 ] ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو وادياً سحيقا : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً . . } [ الكهف : 52 ]
والمَوْبِق : المكان الذي يحصل فيه الهلاك ، وهو وَادٍ من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً ، أو : أن بين الداعي والمدعو مكاناً مُهْلكاً ، فلا الداعي يستطيع أنْ يلوذَ بالمدعو ، ولا المدعو يستطيع أنْ ينتَصرَ للداعي ويُسعفه ، لأن بينهم منبعَ هلاك .
ومن ذلك قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 34 ] يعني : يهلكهن .
ومن العجيب أن تكون هذه أولَ إطاعة منهم لله تعالى ، فلما قال لهم : { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ . . } [ الكهف : 52 ] استجابوا لهذا الأمر ، في حين أنهم لم يطيعوا الأوامر الأخرى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَرَءَا المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا . . . } .
(1/5427)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
رأى : الرؤية : وقوع البصر على المرئيّ ، والرؤية هنا مِمّن سيُعذّب في النار ، وقد تكون الرؤية من النار التي ستعذبهم؛ لأنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] أي : هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملاقاتهم؟
والمجرمون : الذين ارتكبوا الجرائم ، وعلى رأسها الكفر بالله . إذن : فالرؤية هنا متُبَادلة : المعذِّب والمعذَّب ، كلاهما يرى الآخر ويعرفه .
وقوله تعالى : { فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا . . } [ الكهف : 53 ] الظن هنا يُراد منه اليقين . أي : أيقنوا أنهم واقعون فيها ، كما جاء في قول الحق سبحانه : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ . . } [ البقرة : 46 ]
أي : يوقنون .
{ وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً . . } [ الكهف : 53 ] أي : في حين أن بينهما مَوْبقاً ، وأيضاً لا يجدون مفرّاً يفرون منه ، أو ملجأ يلجؤون إليه ، أو مكاناً ينصرفون إليه بعيداً عن النار ، فالمَوْبِق موجود ، والمصْرِف مفقود .
ثم يقول تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ . . . } .
(1/5428)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
سبق أن تكلمنا عن تصريف الآيات ، وقلنا : إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة ، كما يصرّف الله الرياح مثلاً ، فلا تأتي من ناحية واحدة ، بل تأتي مرة من هنا ، ومرة من هناك ، كذلك صَرّف الله الأمثال . أي : أتى بأحوال متعددة وصُور شتى منها .
والحق سبحانه يضرب الأمثال كأنه يقرع بها آذان الناس لأمر قد يكون غائباً عنهم ، فيمثله بأمر واضح لهم مُحَسٍّ ليتفهموه تفهّماً دقيقاً .
وما دام أن الحق سبحانه صرّف في هذا القرآن من كل مثَل ، فلا عُذْر لمن لم يفهم ، فالقرآن قد جاء على وجوه شتّى ليُعلم الناس على اختلاف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى الأمي يسمعه فيأخذ منه على قدر فَهْمه ، والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته ، والعالم الكبير يأخذ منه على قدر علمه ويجد فيه بُغْيته ، بل وأكثر من ذلك ، فالمتخصص في أيِّ علم من العلوم يجد في كتاب الله أدقّ التفاصيل؛ لأن الحق سبحانه بيَّن فيه كل شيء .
ثم يقول تعالى : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] أي : كثير الخصومة والتنازع في الرأي ، والجدل : هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صِدْق مذهبه وكلامه ، والجدل إما أن يكون بالباطل لتثبيت حجة الأهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأً ، وهذا هو الجَدل المعيب القائم على الأهواء . وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البنّاء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة ، وهذا بعيد كل البعد عن التحيّز للهوى أو الأغراض .
ولما تحدَّث القرآن الكريم عن الجدل قال تعالى : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ العنكبوت : 46 ]
وقال : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ النحل : 125 ] " والنبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ على عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما ليوقظهما لصلاة الفجر ، وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى ، ويبدو أنهما كانا مستغرقيْن في نوم عميق ، فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم " ألا تصلون؟ " فردَّ الإمام علي قائلاً : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله ، إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } " [ الكهف : 54 ]
لأن الإنسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة ، ويحاول أنْ يُدلّل على صحة أهوائه وخواطره بالحجة ، فيقارع الحق ويغالط ويراوغ . ولو دققتَ في رأيه لوجدتَ له هوىً يسعى إليه ويميل إلى تحقيقه ، وترى ذلك واضحاً إذا اخترتَ أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلاً لأنه أسهلها وأقربها ، فإذا به يقترح عليك طريقاً آخر ، ويحاول إقناعك به بكل السُّبل ، والحقيقة أن له غرضاً في نفسه وهوىً يريد الوصول إليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ . . . } .
(1/5429)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن ، وصرّفنا فيه من الآيات والأمثال ، بعد أن جاءهم مطابقاً لكل الأحوال؟
وفي آية أخرى ، أوضح الحق سبحانه سبب إعراضهم عن الإيمان ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 89-93 ]
فكُلُّ هذه التعنّتات وهذا العناد هو الذي حال بينهم وبين الإيمان بالله ، والحق سبحانه وتعالى حينما يأتي بآية طلبها القوم ، ثم لم يؤمنوا بها يُهلكهم؛ لذلك قال بعدها : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين . . } [ الكهف : 55 ] فهذه هي الآية التي تنتظرهم : أن تأتيهم سُنَّة الله في إهلاك مَنْ كذَّب الرسل .
فقبل الإسلام ، كانت السماء هي التي تتدخل لنُصْرة العقيدة ، فكانت تدكُّ عليهم قُراهم ومساكنهم ، فالرسول عليه الدعوة والبلاغ ، ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نَشْر دعوته ، إلا أمة محمد فقد أَمِنها على أن تحمل السيف لتُؤدِّب الخارجين عن طاعة الله .
وقوله تعالى : { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ . . } [ الكهف : 55 ] أي : على ما فات من المهاترات والتعنُّتات والاستكبار على قبول الحق { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين . . } [ الكهف : 55 ] أي : بهلاك المكذبين { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً . . } [ الكهف : 55 ] أي مُقابِلاً لهم ، وعياناً أمامهم ، أو { قُبُلاً } جمع قبيل ، وهي ألوان متعددة من العذاب ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ . . } [ الطور : 47 ]
أي : لهم عذاب غير النار ، فألوان العذاب لهم متعددة .
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يأبه لعمل الكفار ، ولا يهلك نفسه أَسَفاً على إعراضهم ، فيقول سبحانه : { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ . . . } .
(1/5430)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
قلنا : إن الجدل قد يكون بالحق ، وقد يكون بالباطل كما يفعل الذين كفروا هنا ، فيجادلون بالباطل ويستخدمون كل الحِيَل لدحْضِ الحق أي : ليُعطّلوه ويزيلوه { واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } [ الكهف : 56 ] أي : الآيات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل ، وكذلك آيات القرآن ، وآيات الأحكام اتخذوها سُخْرية واستهزاءً ، ولم يعبأوا بما فيها من نذارة .
ولذلك قال الحق سبحانه : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا . . . } .
(1/5431)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ . . } [ الكهف : 57 ] جاء الخبر على صورة الاستفهام لتأكيد الكلام ، كأنْ يدَّعي صاحبك أنك لم تصِلْه ، ولم تصنع معه معروفاً ، فمن الممكن أن تقول له : صنعتُ معك كذا وكذا على سبيل الخبر منك ، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب .
إنما لو عرضْتَ المسألة على سبيل الاستفهام فقُلْتَ له : ألم أصنع معك كذا؟ فسوف تجتذب منه الإقرار بذلك ، وتقيم عليه الحجة من كلامه هو ، وأنت لا تستفهم عن شيء من خَصْم إلا وأنت واثق أن جوابه لا يكون إلا بما تحب .
وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الاستفهام : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ . . } [ الكهف : 57 ] ؟ وترك لنا الجواب لنقول نحن : لا أحدَ أظلمُ ممَّنْ فعل ذلك ، والإقرار سيد الأدلة .
وقوله { فَأَعْرَضَ عَنْهَا . . } [ الكهف : 57 ] تركها { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ . . } [ الكهف : 57 ] نسى السيئات ، وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه الآيات فيؤمن بها ، لعل الله يتوب عليه بإيمانه ، فيُبدِّل سيئاته حسنات .
ثم يقول تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ . . } [ الكهف : 57 ]
أكنة : أغطية جمع كِنّ ، فجعل الله على قلوبهم أغطية ، فلا يدخلها الإيمان ، ولا يخرج منها الكفر ، وليس هذا اضطهاداً منه تعالى لعباده ، تعالى الله عن ذلك ، بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبُّوا ، فلما أحبُّوا الكفر وانشرحتْ به صدورهم زادهم منه؛ لأنه رَبٌّ يعطي عبده ما يريد .
كما قال عنهم في آية أخرى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ]
وقال تعالى في هذا المعنى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ]
ومعنى { أَن يَفْقَهُوهُ . . } [ الكهف : 57 ] أي : يفهموه ، يفهموا آيات الله؛ لأنهم سبق أنْ ذُكِّرُوا بها فأعرضوا عنها ، فحرَمهم الله فقهها وفهمها .
وقوله تعالى : { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً . . } [ الكهف : 57 ] أي : صمم فلا يسمعون { وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 57 ] وهذا أمر طبيعي ، بعد أن ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم ، وسد عليهم منافذ العلم والهداية؛ لأن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق ، فيستقبلها قلبك بالرضا ، فتنفعل لها جوارحك بالالتزام ، فتسمع بالأذن ، وتقبل بالقلب ، وتنفعل بالجوارح طاعةً والتزاماً بما أُمِرَتْ به .
وما دام في الأذن وَقْر وصَمَمٌ فلن تسمع ، وإنْ سمعتْ شيئاً أنكره القلب ، والجوارح لا تنفعل إلا بما شُحِن به القلب من عقائد .
ويقول الحق سبحانه : { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة . . . } .
(1/5432)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
فمن رحمة الله بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم ، بل أمهلهم وتركهم؛ لأن لهم موعداً لن يهربوا منه ، ولن يُفلِتوا ، ولن يكون لهم مَلْجأ يحميهم منه ، ولا شكَّ أن في إمهالهم في الدنيا حكمة لله بالغة ، ولعل الله يُخرِج من ظهور هؤلاء مَنْ يؤمن به ، ومَنْ يحمل راية الدين ويدافع عنه ، وقد حدث هذا كثيراً في تاريخ الإسلام ، فمِنْ ظَهْر أبي جهل جاء عكرمة ، وأمهل الله خالد بن الوليد ، فكان أعظمَ قائد في الإسلام .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ . . . } .
(1/5433)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
تلك : أداة إشارة لمؤنث هي القرى ، والكاف للخطاب ، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمتُه مُنْضوية في خطابه؛ لأن خطابَ الرسول خطاب لأمته . لكن الإشارة لا تكون إلا لشيء معلوم موجود مُحَسٍّ ، كما جاء في قوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ]
فأين هذه القُرَى؟ وهل كان لها وجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟
نعم ، كان لهذه القرى آثار وأطلال تدل عليها ويراها النبي صلى الله عليه وسلم ويراها الناس في رحلاتهم إلى الشام وغيرها مثل : قُرَى ثمود قوم صالح ، وقرى قوم لوط ، وقد قال تعالى عنها : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137-138 ]
إذن : فتلك إشارة إلى موجود مُحَسٍّ دَالٍّ بما تبقّى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب الله ، وما حلَّ بها من بَأْسِه الذي لا يُرَدُّ عن القوم الظالمين .
وكلمة { القرى } جمع قرية ، وتُطلَق على المكان الذي تتوفّر فيه مُقوِّمات الحياة وضرورياتها ، بل بها ما يزيد على الضروريات ومُقوّمات الحياة العادية؛ لأن القرية لا تُطلَق إلا على مكان تتسع فيه مُقوِّمات الحياة اتساعاً يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قِرَى . فإنْ كانت قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها أُمٌّ ، نسميها ( أم القرى ) .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين . . . } .
(1/5434)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ . . } [ الكهف : 60 ] أي : اذكر يا محمد وقت أنْ قال موسى لفتاه ، وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون ، وكان من نَسْل يوسف عليه السلام وكان يتبعه ويخدمه ليتعلم منه .
{ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين . . } [ الكهف : 60 ]
لكن ، ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلام هنا؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء ، فأرادوا رأيهم في محمد : أهو مُحِقٌّ أم لا؟ فقال اليهود لوفد مكة : اسألوه عن ثلاثة أشياء ، فإن أجابكم فهو نبي : اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر ، والرجل الطواف الذي طاف البلاد ، وعن الروح ، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة ، فقال لهم : " في الغد أجيبكم " .
إذن : إجابة هذه الأسئلة ليست عنده ، وهذه تُحسَب له لا عليه ، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم ، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى ، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه .
ومرَّتْ خمسة عشر يوماً دون أن يُوحَى لرسول الله في ذلك شيء ، حتى شق الأمر عليه ، وفرح الكفار والمنافقون؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذاً فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله ، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه .
ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البُطْءَ في هذه المسألة دليلُ صِدق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لتردَّ على مهاترات القوم ، وتُبيِّن لهم أن النبي لا يعلم كل شيء ، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما؟
جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومَنْ لَفَّ لَفَّهم من كفار مكة : أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية ، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله ، بل يتعلم من عبد مثله ، ويسير تابعاً له طلباً للعلم .
جاءت الآيات لتقول لهم : يا مَنْ لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي ، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمداً لا يقول شيئاً من عند نفسه ، فكان من الواجب أنْ تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته ، وما هو على الغيب بضنين .
وسبب قصة موسى عليه السلام يُقال : إنه سأل الله وكان له دلال على ربه :
(1/5435)
{ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ . . } [ الأعراف : 143 ] والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلَّمه : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ] فأطال موسى الكلام مع ربه ، ومَنْ الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأُنْس بكلام الله؟ لذلك قال موسى : { هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ]
وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه ، لذلك سأله : يا ربّ ، أيوجد في الأرض أعلم مني؟ فأجابه ربُّه تبارك وتعالى : نعم في الأرض مَنْ هو أعلم منك ، فاذهب إلى مجمع البحرين ، وهناك ستجد عبداً من عبيدي هو أعلم منك ، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مَجْمع البحرين .
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام خطب مرة فسُئِل : مَنْ أعلم؟ فقال : أنا يعني من البشر ، فأخبره الله تعالى : لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتَرَّ موسى عليه السلام بما أعلمه الله .
ثم يقول تعالى : { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } [ الكهف : 60 ]
لا أبرح : أي لا أترك ، والبعض يظن أن لا أبرح تعني : لا أترك مكاني الذي أنا فيه ، لكنها تعني : لا أترك ما أنا بصدده ، فإنْ كنتُ قاعداً لا أترك القعود ، وإنْ كنتُ ماشياً لا أترك المشي ، وقد قال موسى عليه السلام هذا القول وهو يبتغي بين البحرين ، ويسير متجهاً إليه ، فيكون المعنى : لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين .
وقد وردت مادة ( برح ) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي . . } [ يوسف : 80 ] قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم ، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أنْ يأتوا به ويُعيدوه إليه .
و " مجْمَع البحرين " أي : موضع التقائهما ، حيث يصيران بحراً واحداً ، كما يلتقي مثلاً دجلة والفرات في شَطِّ العرب .
وقوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } [ الكهف : 60 ]
الحُقُب : جمع حِقْبة ، وهي الفترة الطويلة من الزمن ، وقد قدَّروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة ، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة ، فمعنى ذلك أن يسير موسى عليه السلام مائتين وعشرة سنين ، على اعتبار أن الحِقْبة سبعون سنة .
ويكون المعنى : لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سِرْتُ مائتين وعشرة سنين؛ لأن موسى عليه السلام كان مَشُوقاً إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه ، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحى الله إليه؛ لذلك أخبره ربه أن عِلْم هذا الرجل علم من لدنا ، علم من الله لا من البشر .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا . . . } .
(1/5436)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{ بَلَغَا } أي : موسى وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي : مجمع البحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي : حدث النسيان منهما معاً ، وإنْ كان حمل الحوت منوطاً بفتى موسى وقد نسيه ، فكان على موسى أنْ يُذكِّره به ، فرئيس القوم لا بُدَّ أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات الرَّكْب ، وكانت العادة أنْ يكون هو آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحداً نسى شيئاً ، إذن : كان على موسى أن يعقب ساعة قيامهم لمتابعة السير ، ويُذكِّر فتاهُ بما معهم من لوازم الرحلة .
والحوت : نوع من السمك معروف ، وفي بعض البلاد يُطلِقون على كل سمك حُوتاً ، وقد أعدُّوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير ، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل .
وقوله تعالى : { فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً } [ الكهف : 61 ] أي : خرج الحوت المشوي من المكتل ، وتسرَّب نحو البحر ، والسَّرَب : مثل النفق أو السرداب ، أو هو المنحدر ، كما نقول : تسرب الماء من القِرْبة مثلاً؛ ذلك لأن مستوى الماء في القِرْبة أعلى فيتسرَّب منها ، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشويّ ، وتعود له الحياة ، ويتوجّه نحو البحر؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا . . . } .
(1/5437)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
أي : جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد ، قال موسى عليه السلام لفتاه : أحضر لنا الغداء فقد تعبنا من السفر ، والنَّصَب : هو التعب .
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين ، ثم استراحا ، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام . وهنا تذكَّر الفتى ما كان من نسيان الحوت .
(1/5438)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
هذا كلام فتى موسى : أرأيت : أخبرني إِذْ لجأنا إلى الصخرة عند مَجْمع البحرين لنستريح { فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت . . } [ الكهف : 63 ] ونلحظ أنه قال هنا { نَسِيتُ } وقال في الآية السابقة { نَسِيَا . . } [ الكهف : 61 ] ذلك لأن الأولى إخبار من الله ، والثانية كلام فتى موسى .
فكلام الله تبارك وتعالى يدلُّنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء ، وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوط به من أمر الرحلة .
ثم يعتذر الفتى عما بَدَر منه من نسيان الحوت ، ويقول : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه ، وأنساه ذكْر الحوت .
وقوله تعالى : { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } [ الكهف : 63 ] أي : اتخذ الحوتُ طريقه في البحر عَجَباً ، في الآية السابقة قال : { سَرَباً } [ الكهف : 61 ] وهذه حال الحوت ، وهنا يقول { عَجَباً } لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه ، وكيف أن الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتى يقفز من المكتل ، ويتجه صَوْبَ الماء ، فهذا حقاً عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجتْ عن المألوف .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ . . } .
(1/5439)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
أي : قال موسى عليه السلام { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ . . } [ الكهف : 64 ] أي : نطلب ، فهذا المكان الذي فُقِد فيه الحوت هو المكان المراد ، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى ، وهكذا عُرف عنوان المكان ، وهو مَجْمع البحرين ، حتى يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً .
وهذه الصورة لا توجد إلاَّ في مسرح بني إسرائيل في سيناء . وهناك خليج العقبة وخليج السويس ، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد .
ثم يقول تعالى : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] أي : عادا على أثر الأقدام كما يفعل قَصَّاصُو الأثر ، ومعنى : { قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] أي : بدقة إلى أنْ وصلاَ إلى المكان الذي تسرَّب فيه الحوت ، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى - عليه السلام - حيث سيجد هناك العبد الصالح .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ءاتيناه رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا . . . } .
(1/5440)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
سبق أن تحدثنا عن العبودية ، فإنْ كانت لله تعالى فهي العزّ والشرف ، وإنْ كانت لغير الله فهي الذلُّ والهوان ، وقلنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حَظْوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله ، كما قال سبحانه : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ . . } [ الإسراء : 1 ]
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خَيْر سيده ، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده .
ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح ، فقال : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا . . } [ الكهف : 65 ] وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا ، فقالوا : الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة ، كما في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
فكان رَدُّ الله عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ . . } [ الزخرف : 32 ]
أي : النبوة ، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل عليه السلام وعلى يد الرسل ، أما هذه الرحمة ، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى : { آتَيْنَاهُ . . } [ الكهف : 65 ] نحن ، وقال : { مِّنْ عِندِنَا . . } [ الكهف : 65 ]
فالإتيان والعندية من الله مباشرة .
ثم يقول بعدها : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً . . } [ الكهف : 65 ] أي : من عندما لا بواسطة الرسل : لذلك يسمونه العلم اللدني ، كأنه لا حرجَ على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده ، ويُنعِم عليه بعلم خاص من وراء النبوة .
إذن : علينا أنْ نُفرِّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته ، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف : افعل كذا ولا تفعل كذا ، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل الظاهرية ، وهذه هي التي اختصَّ الله بها هذا العبد الصالح ( الخضر ) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم .
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم إتلاف مال الغير ، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام ، وقد اعترض موسى عليه السلام على هذه الأعمال؛ لأنه لا عِلْم َله بعلتها ، ولو أن موسى عليه السلام علم العلّة في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها .
إذن : فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 67-68 ]
فهذا عِلْم ليس عندك ، فعِلْمي من كيس الولاية ، وعلمك من كيس الرسل ، وهما في الحقيقة لا يتعارضان ، وإنْ كان لعلم الولاية عِلَل باطنة ، ولعلم الرسالة عِلَل ظاهرة .
ثم يقول تعالى : { قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ . . . } .
(1/5441)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
كأن موسى عليه السلام يُعلِّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه ، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر ، فلم يقُل له مثلاً : إن الله أمرني أن أتبعك ، بل تلطّف معه واستسمحه بهذا الأسلوب : { هَلْ أَتَّبِعُكَ . . } [ الكهف : 66 ]
والرشد : هو حُسْن التصرّف في الأشياء ، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده ، وسبق أن قلنا : إن الرُّشْد يكون في سنِّ البلوغ ، لكن لا يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشداً ، فقد يكون الإنسان بالغاً وغير راشد ، فقد يكون سفيهاً .
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال : { وابتلوا اليتامى } [ النساء : 6 ] أي : اختبروهم ، واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك ، فعليك أنْ تكلّفه بعمل لإصلاح حاله ، وتعطيه جزءاً من ماله يتصرَّف فيه تحت عينك وفي رعايتك ، لترى كيف سيكون تصرفه .
عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة ، لا أن تجعله في مَعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد ، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته ، وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه .
إذن : فاختبار اليتيم يتمُّ وهو ما يزال في ولايتك ، وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه . { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ . . } [ النساء : 6 ] وهو سن البلوغ ، ولم يقُلْ بعدها : فادفعوا إليهم أموالهم؛ لأن بعد البلوغ شرطاً آخر { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً . . } [ النساء : 6 ] فعلى الوصيّ أنْ يُراعِيَ هذا الترتيب :
أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت ولايتك ، وتدفع به في مُعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته ، فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه ، فإن لم تأنس منه الرشد وحسن التصرف فلا تترك له المال يبدده بسوء تصرفه . لذلك يقول تعالى في هذا المعنى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ . . } [ النساء : 5 ] ولم يقُلْ : أموالهم؛ لأن السفيه لا مالَ له حال سَفَهه ، بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد من رُشْده .
إذن : فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء ، لكن هل يعني ذلك أن موسى عليه السلام لم يكن راشداً؟ لا ، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول ، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية .
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح ، وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له ، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ]
لذلك يقول الشاعر :
كُلّما ازْدَدْتُ عُلوماً ... زِدْتُ إيقَانَاً بجْهلي
(1/5442)
لأن معنى أنه ازداد عِلْماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس ، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غداً .
والإنسان حينما يكون واسعَ الأفق محباً للعلم ، تراه كلما عَلِم قضية اشتاق لغيرها ، فهو في نَهمٍ دائم للعلم لا يشبع منه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " منهومان لا يشبعان : طالب علم ، وطالب مال " .
والشاعر الذي تنَّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور والكبرياء والزَّهْو بما لديه من علم قليل ، إلا أنه كان متيقظاً لخداعها ، فقال :
قالتِ النفْسُ قَدْ علِمْتُ كَثِيراً ... قُلْتُ هَذَا الكثيرُ نَزْعٌ يسيِرُ
ثم جاء بمثل توضيحي :
تمْلأُ الكُوزَ غَرْفَةٌ من مُحيِط ... فَيَرى أنَّهُ المحيطُ الكَبيِرُ
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .
(1/5443)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
هنا يبدأ العبد الصالح يُملي شروط هذه الصُّحْبة ويُوضّح لموسى عليه السلام طبيعة عِلْمه ومذهبه ، فمذهبُك غير مذْهبي ، وعلمي من كيس غير كيسك ، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا عِلْم لك ببواطنها ، وكأنه يلتمس له عُذْراً على عدم صَبْره معه؛ لذلك يقول : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } .
(1/5444)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
فلا تحزن لأني قُلت : لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خُبر بها ، وكيف تصبر على شيء لا عِلْمَ لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر عليهما السلام أدبَ الحوار واختلافَ الرأي بين طريقتين : طريقة الأحكام الظاهرية ، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية ، وأن كلاً منهما يقبَل رأْيَ الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو يُنكره ، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض ، بل ويُكفِّر بعضهم بعضاً ، فإذا رأَوْا مثلاً عبداً مَنْ عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات ، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه ، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح ، بل والتكفير .
لقد تجلى في قول الخضر : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 68 ] مظهر من مظاهر أدب المعلّم مع المتعلِّم ، حيث احترم رأيه ، والتمس له العُذْر إن اعترض عليه ، فلكُلٍّ منهما مذهبه الخاص ، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخَر .
فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ { قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله . . } .
(1/5445)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
أي : أنا قابل لشروطك أيُّها المعلم فاطمئن ، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء . وقدّم المشيئة فقال : { إِن شَآءَ الله . . } [ الكهف : 69 ] ليستميله إليه ويُحنَّن قلبه عليه { صَابِراً . . } [ الكهف : 69 ] على ما تفعل مهما كان { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] وهكذا جعل نفسه مأموراً ، فالمعلم آمراً ، والمتعلّم مأمور .
(1/5446)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
وهذا تأكيد من الخضر لموسى ، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته : إنْ تبعتني فلا تسألْني حتى أخبرك ، وكأنه يُعلِّمه أدب تناول العلم والصبر عليه ، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حِدة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فانطلقا . . . } .
(1/5447)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ فانطلقا } سارا معاً ، حتى ركبا سفينة ، وكانت مُعَدَّة لنقل الركاب ، فما كان من الخضر إلا أنْ بادر إلى خَرْقها وإتلافها ، عندها لم يُطِق موسى هذا الأمر ، وكبُرت هذه المسألة في نفسه فلم يصبر عليها فقال : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ الكهف : 71 ]
أي : أمراً عجيباً أو فظيعاً . ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته .
كأن الحقَّ تبارك وتعالى يريد أن يُعلِّمنا أن الكلام النظري شيء ، والعمل الواقعي شيء آخر ، فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك ، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً؛ لأن الكلام قد يُقَال في أول الأمر بعبارة الأريحية ، كمن يقول لك : أنا رَهْن أمرك ورقبتي لك ، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً .
ونلحظ هنا أن موسى عليه السلام لم يكتف بالاستفهام : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا . . } [ الكهف : 71 ] بل تعدَّى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير ، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة ، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً ، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر .
(1/5448)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
وهذا درس آخر من الخضر لموسى عليهما السلام يقول : إن كلامي لك كان صادقاً ، وقد حذرتُك أنك لن تصبرَ على ما ترى من تصرفاتي ، وها أنت تعترض عليَّ ، وقد اتفقنا وأخذنا العهد ألاَّ تسألني عن شيء حتى أُخبرك أنا به .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ . . . } .
(1/5449)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
يعتذر موسى عليه السلام عما بدر منه لمعلمه ، ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } [ الكهف : 73 ] أي : لا تُحمِّلني من أمر اتباعك عُسْراً ومشقة . فسامحه الخضر وعاود السير .
(1/5450)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
تلاحظ أن الاعتداء الأول من الخضر كان على مال أتلفه ، وهنا صعَّد الأمر إلى قَتْل نفس زكية دون حق ، فبأيِّ جريرة يُقتل هذا الغلام الذي لم يبلغ رُشْده؟ لذلك قال في الأولى : { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ الكهف : 71 ] أي عجيباً أما هنا فقال : { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [ الكهف : 74 ] أي : مُنكَراً؛ لأن الجريمة كبيرة .
والنفس الزكية : الطاهرة الصافية التي لم تُلوِّثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية .
وكذلك يأتي الرد من الخضْر مخالفاً للرد الأول ، ففي المرة الأولى قال : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 72 ]
أي : قلت كلاماً عاماً ، أما هنا فقال : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } .
(1/5451)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
وأكَّدها وأرده بالكلام أي : قُلْت لك أنت .
ثم بعد المرة الثانية التي يقاطع فيها موسى معلمه الخضر يأخذ عهداً جديداً على نفسه .
(1/5452)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
وهكذا قطع موسى عليه السلام الطريق على نفسه ، وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها الفراق؛ لذلك في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحمنا الله ، ورحم أخي موسى لو صبر لعرفنا الكثير " .
فهذه هي الثالثة ، وليس لموسى عذر بعد ذلك .
ومعنى : { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } [ الكهف : 76 ] أي : قد فعلت معي كل ما يمكن فعله ، وليس لي عُذْر بعد ذلك .
ثم يقول سبحانه : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ . . . } .
(1/5453)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
استطعم : أي طلب الطعام ، وطلَبُ الطعام هو أصدق أنواع السؤال ، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج ، فلو سأل مالاً لقلنا : إنه يدخره ، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد ، ومنْعُ الطعام عن سائله دليل بُخْل ولُؤْم متأصل في الطباع ، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مَرّا بها وطلبَا الطعام فمنعوهما .
والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يُصوّر مدى بُخْل هؤلاء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم ، فلم يقُلْ مثلاً : فأبوا أن يطعموهما ، بل قال : { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا . . } [ الكهف : 77 ] وفرْق بين الإطعام والضيافة ، أَبَوْا الإطعام يعني منعوهما الطعام ، لكن أَبَوْا أن يُضيّفوهما ، يعني كل ما يمكن أنْ يُقدَّم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال ، وهذا مُنْتَهى ما يمكن تصوُّره من لُؤمْ هؤلاء الناس .
وتلحظ أيضاً تكرار كلمة { أَهْلَ } فلما قال : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [ الكهف : 77 ] فكان المقام للضمير فيقول : استطعموهم ، لكنه قال : { استطعمآ أَهْلَهَا . . } [ الكهف : 77 ] لأنهم حين دخلوا القرية : هل قابلوا كل أهلها ، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟
بالطبع قابلوا بعضهم ، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً ، كأنهما مرّا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى ، كأنهم مجمعون على البُخْل ولُؤْم الطباع .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ . . } [ الكهف : 77 ]
أي : لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وَجَدا جداراً يريد أنْ ينقضّ ، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل ، فإنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى : قَرُب . أي : جداراً قارب أنْ ينهار ، لما نرى فيه من علامات كالتصدُّع والشُّروخ مثلاً .
وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضَيِّقي الأفق ، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويُدققون في المسائل فلا مانع لديهم أنْ يكون للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياةً تناسبه ، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام .
ألم يقل الحق سبحانه : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض . . } [ الدخان : 29 ]
فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدَّتْ مجرد الكلام ، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر ، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر ، فقوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض . . } [ الدخان : 29 ] دليل على أنها تبكي على فَقْد الصالحين .
وقد سُئِل الإمام علي رضي الله عنه عن هذه المسألة فقال : " نعم ، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في السماء وموضوع في الأرض ، أما موضعه في الأرض فموضع مُصلاَّه ، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله " .
وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكَوْن من حوله ، فالكون ساجد لله مُسبِّح لله طائع لله يحب الطائعين وينُبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول : ( نَبَا به المكان ) أي : كرهه لأنه غير منسجم معه ، فالمكان طائع وهو عاصٍ ، والمكان مُسبِّح وهو غافل .
(1/5454)
وعلى هذا الفهم فقوله تعالى : { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ . . } [ الكهف : 77 ] قول على حقيقته .
إذن : فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء ، وتحزن لفقد الأحبة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث " .
ورُوِي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله ، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم . وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا : لا ينبغي أن نقول : سَبَّح الحصى في يد رسول الله؛ لأن الحصى يُسبِّح أيضاً في يد أبي جهل ، لكن نقول : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه .
ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء ، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك ، ولغة للطير ، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار ، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار ، وأنها تفرّ من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة . إذن : فلهم وسائل إدراك ، ولهم لغة يتفاهمون بها ، ولهم منطق يعبرون به .
ثم يقول الحق سبحانه عن فِعْل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض { فَأَقَامَهُ . . } [ الكهف : 77 ] أي : أصلحه ورمَّمه { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً . . } [ الكهف : 77 ]
هذا قول موسى عليه السلام لما رأى لُؤْمَ القوم وخِسّتهم ، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يُطْعمونا ، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى ، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟
وجاء هذا القول من موسى عليه السلام لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ . . . } .
(1/5455)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{ قَالَ } أي : العبد الصالح { هذا } أي : ما حدث منك من قولك : { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] وقد سبق أن اشترط موسى عليه السلام على نفسه إن اعترض على معلمه هذه المرة يكون الفِراقُ بينهما ، وكأن العبد الصالح لم يَأْتِ بشيء من عنده ، لقد قال موسى : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } [ الكهف : 76 ] وها هو يسأله ، إذن : فليس إلا الفراق : { قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ . . } [ الكهف : 78 ]
قوله : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ . . } [ الكهف : 78 ] تُعد دُستوراً من الحق سبحانه وتعالى ودليلاً على أن هذين المذهبين لا يلتقيان ، فيظل كل منهما له طريقه : المرتاض له طريقه ، وغير المرتاض له طريقه ، ولا ينبغي أن يعترض أحدهما على الآخر ، بل يلزم أدبه في حدود ما علَّمه الله .
ثم يقول تعالى على لسان الخضر : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] أي : لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلات ، حتى لا يكون في نفسك مني شيء ، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال التي اعترضْتَ عليها لتعلم أن الله لم يخدعْكَ ، بل أرسلك إلى مَنْ يُعلّمك شيئاً لم تكُنْ تعلمه .
ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الأفعال واحداً تِلْو الآخر ، كما لو عتبَ عليك صاحبك في أمر ما ، وأنت حريص على مودَّته فتقول له : أمهلني حتى أوضح لك ما حدث ، لقد فعلتُ كذا من أجل كذا ، لتريح قلبه وتُزيل ما التبس عليه من هذا الأمر .
وقالوا : إن هذا من أدب الصُّحْبة ، فلا يجوز بعد المصاحبة أنْ نفترقَ على الخلاف ، ينبغي أن نفترق على وِفَاق ورضا؛ لأن الافتراق على الخلاف يُنمِّي الفجوة ويدعو للقطيعة ، إذن : فقبل أنْ نفترق : المسألة كيت وكيت ، فتتضح الأمور وتصفو النفوس .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر . . . } .
(1/5456)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
قوله : { لِمَسَاكِينَ } اللام هنا للملكية ، يعني مملوكة لهم ، وقد حسمتْ هذه الآيةُ الخلافَ بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين ، وأيهما أشدّ حاجة من الآخر ، وعليها فالمسكين : هو مَنْ يملك شيئا لا يكفيه ، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر ، وسماهم القرآن مساكين ، أما الفقير : فهو مَنْ لا يملك شيئاً .
ومعنى : { يَعْمَلُونَ فِي البحر . . } [ الكهف : 79 ] أي : مجال عملهم البحر ، يعملون فيه بنقل الركاب أو البضائع ، أو الصيد ، أو خلافه .
وقوله : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا . . } [ الكهف : 79 ] المتكلم هنا هو الخِضْر عليه السلام فنسب إرادة عَيْب السفينة إلى نفسه ، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهاً له تعالى عَمَّا لا يليق ، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا . . } [ الكهف : 82 ] لذلك فإنه في نهاية القصة يُرجع كل ما فعله إلى الله فيقول : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي . . } [ الكهف : 82 ] ثم يقول تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] كلمة : كل ترسم سُوراً كُلياً لا يترك شيئاً ، فالمراد يأخْذ كل سفينة ، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة ، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط ، ولا حاجةَ له في المعيبة الغير صالحة ، وكأن في سياق الآية صفة مُقدَّرة : أي يأخذ كل سفينة صالحة غَصْباً من صاحبها .
والغَصْب : ما أُخذ بغير الحق ، عُنْوةً وقَهْراً ومُصَادرة ، وله صور متعددة منها مثلاً السرقة : وهي أَخْذ المال من حِرْزه خفية ككسر دولاب أو خزينة ، ومنها الغَصْب : وهو أخْذ مال الغير بالقوة ، وتحت سمعه وبصره ، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب .
ومنها الخطف : وهو أخْذ مال الغير هكذا علانية ، ولكن بحيلةٍ ما ، يخطف الشيء ويفرّ به دون أن تتمكّن من اللحاق به ، فالخَطْفُ إذن يتم علانية ولكن دون مقاومة . ومنها الاختلاس : وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه ، والاختلاس يحدث خفية ، ولا يخلو من حيلة تستره .
وما دام الأمر هنا غَصْباً فلا بُدَّ لمالك الشيء أنْ يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حَقِّه ، وقد يتوسل إليه أنْ يترك له ماله ، فالمسألة إذن فيها كلام وأخْذٌ وَرَدٌّ .
إذن : خَرْق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مُقوّم ، وهذا منهيّ عنه شرعاً ، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سبباً في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن ، وسفينة معيبة خير من عدمها ، ولو عَلِم موسى عليه السلام هذه الحكمة لَبادرَ هو إلى خَرْقها .
وما دام الأمر كذلك ، فعلينا أن نُحوِّل السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخَرْقها ، أو بخلْع لَوْح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أَخْذها .
(1/5457)
وكلمة { وَرَآءَهُم } هنا بمعنى أمامهم؛ لأن هذا الظالم كان يترصَّد للسفن التي تمر عليه ، فما وجدها صالحة غصبها ، فهو في الحقيقة أمامهم ، على حَدِّ قوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] وهل جهنم وراءه أم أمامه؟
وتستعمل وراء بمعنى : بَعْد ، كما في قوله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ]
وتأتي وراء بمعنى : غير . كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون } [ المؤمنون : 5-7 ]
وفي قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ . . } [ النساء : 23 ] إلى . . { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم . . } [ النساء : 24 ]
وقد تستعمل وراء بمعنى خلف ، كما في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ . . } [ آل عمران : 187 ]
إذن : كلمة { وَرَاءَ } جاءتْ في القرآن على أربعة معَانٍ : أمام ، خلف ، بعد ، غير . وهذا مما يُميِّز العربية عن غيرها من اللغات ، والملَكة العربية قادرة على أن تُميّز المعنى المناسب للسياق ، فكلمة العَيْن مثلاً تأتي بمعنى العين الباصرة . أو : عين الماء ، أو : بمعنى الذهب والفضة ، وبمعنى الجاسوس . والسياق هو الذي يُحدد المعنى المراد .
ثم يقول الحق سبحانه في قرآنه عما أوضحه الخضر لموسى عليه السلام مما خفي عليه : { وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ . . } .
(1/5458)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
الغلام : الولد الذي لم يبلغ الحُلُم وسِنّ التكليف ، وما دام لم يُكلَّف فما يزال في سِنِّ الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً . . } [ الكهف : 74 ] أي : طاهرة ، ولا شكَّ أن أخْذ الغلام في هذه السِّنِّ خَيْر له ومصلحة قبل أنْ تلوّثه المعاصي ، ويدخل دائرة الحساب .
إذن : فطهارته هي التي دعتْنَا إلى التعجيل بأخذه . هذا عن الغلام ، فماذا عن أبيه وأمه؟
يقول تعالى : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ . . } [ الكهف : 80 ] وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } [ التغابن : 14 ]
والفتنة بالأولاد تأتي من حِرْص الآباء عليهم ، والسعي إلى جعلهم في أحسن حال ، وربما كانت الإمكانات غير كافية ، فيُضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده . وقد عَلِم الحق سبحانه وتعالى أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه ، وهما مؤمنان ولم يُرِد الله تعالى لهما الفتنة ، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان .
وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين ، وجميلاً أُسْدِي إلى كليْهما ، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدَث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام .
لذلك يُعَدُّ من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أَنْ يشتد الحزن عليه ، وننعي طفولته التي ضاعتْ وشبابه الذي لم يتمتع به ، ونحن لا ندري ما أُعِدَّ له من النعيم ، لا ندري أن مَنْ أُخِذ من أولادنا قبل البلوغ لا يُحدِّد له مسكن في الجنة ، لأنها جميعاً له ، يجري فيها كما يشاء ، ويجلس فيها أين أحب ، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة ، لا يعترضه أحد ، ولذلك يُسمَّوْن " دعاميص الجنة " .
ثم يقول تعالى : { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } [ الكهف : 80 ]
خشينا : خِفْنا . فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عَيْن وسنداً ، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه ، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة ، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم ، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى .
(1/5459)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
ولا يفوت الخضر عليه السلام أن ينسب الخير هنا أيضاً إلى الله ، فيقول : أنا أُحب هذا العمل وأريده ، إنما الذي يُبدّل في الحقيقة هو الله تعالى : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً } [ الكهف : 81 ] فهذا الخير من الله ، وما أنا إلا وسيلة لتحقيقه .
وقوله : { خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً . . } [ الكهف : 81 ] أي : طُهْراً { وَأَقْرَبَ رُحْماً } [ الكهف : 81 ] لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا ، وليكون قُرَّة عَيْن لهما ، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاءَ لها ، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويْه ، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات ، وسيجرّهما إلى العذاب ، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أنْ يتمتّعا به في الدنيا الفانية ، ويشقيَا به في الآخرة الباقية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة . . . } .
(1/5460)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ لِغُلاَمَيْنِ } أي : لم يبلغا سِنَّ الرشْد ، وفوق ذلك هما يتيمان .
وكان تحت هذا الجدار المائل كَنْز لهذين الغلامين الغير قادرين على تدبير شأنهما ، ولك أنْ تتصوّر ما يحدث لو تهدَّم الجدار ، وانكشف هذا الكنز ، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الذين عرفت صفاتهم ، وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأْوى ، إنَّ أقل ما يُوصفون به أنهم لِئَام لا يُؤتمنون على شيء . ولقد تعوَّدنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا : ضياع الأيتام على موائد اللئام .
إذن : فلا شَكَّ أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يُعَدُ بمثابة صَفْعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكُّر وسوء استقبال ، وترد لهم الصَّاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز .
فعلَّة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أنْ يحفظ لحين أنْ يكبُرَ هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام . وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات ، حيث أخذ الجدار في التصدُّع ، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أنْ يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته .
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورَدَّه إلى ما كان عليه رَدَّ مَنْ علَّمه الله من لَدُنْه ، فيقال : إنه بنَاهُ بناءً موقوتاً يتناسب وعُمْرَ الغلامين ، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سِنَّ الرشْد والقدرة على حماية الكنز فينهار . وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا مَنْ أُوتِي علماً خاصاً من الله تعالى .
ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سِنٍّ واحدة توأمين لقوله تعالى : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا . . } [ الكهف : 82 ] أي : سوياً ، ومعنى الأشُدّ : أي القوة ، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي ، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله .
وتلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال هنا : { يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا . . } [ الكهف : 82 ] ولم يقُلْ رُشْدهما ، لأنْ هناك فرْقاً بين الرُّشْد والأَشُدّ فالرُّشْد : حُسْن التصرُّف في الأمور ، أما الأشُدَّ : فهو القوة ، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كَنْزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا { أَشُدَّهُمَا . . } [ الكهف : 82 ]
ثم يقول تعالى : { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ . . } [ الكهف : 82 ] أي : يستخرجاه بما لديهما من القوة والفُتوَّة . والرحمة : صفة تُعطَى للمرحوم لتمنعه من الداء ، كما في قوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . } [ الإسراء : 82 ] فقوله : شفاء : أي : يشفي داءً موجوداً ويُبرِئه . ورحمة : أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى .
وكذلك ما حدث لهذين الغلامين ، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحِفْظ حقِّهما ، ثم لم يَفُتْ العبد الصالح أنْ يُرجِع الفضل لأهله ، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه ، فيقول : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي .
(1/5461)
. } [ الكهف : 82 ] أي : أن ما حدث كان بأمر الله ، وما علَّمتك إياه كان من عند الله ، فليس لي مَيْزة عليك ، وهذا درس في أَدب التواضع ومعرفة الفضْل لأهله .
ثم يقول : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 82 ] تأويل : أي إرجاع الأمر إلى حقيقته ، وتفسير ما أشكل منه .
***
بعد ذلك تنتقل الآيات إلى سؤال آخر من الأسئلة الثلاثة التي سألها كفار مكة لرسول الله بإيعاز من اليهود ، وهو السؤال عن الرجل الطَّواف الذي طاف البلاد : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } .
(1/5462)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
ذو القرنين : هذا لقبه؛ لأنه ربما كان في تكوينه ذا قرنين ، أو يلبس تاجاً له اتجاهان؛ أو لأنه بلغ قرني الشمس في المشرق وفي المغرب .
وقد بحث العلماء في : مَنْ هو ذو القرنين؟ فمنهم مَنْ قال : هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطواف في البلاد ، لكن الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب ، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب مما دعا عالماً محققاً من علماء الهند هو : أبو الكلام آزاد وزير المعارف الهندي إلى القول بأنه ليس هو الإسكندر الأكبر ، بل هو قورش الصالح ، وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين السدين ، كما أن الإسكندر كان وثنياً ، وكان تلميذاً لأرسطو ، وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف من قصته .
وعلى العموم ، ليس من صالح القصة حَصْرها في شخص بعينه؛ لأن تشخيص حادثة القصة يُضعِف من تأثيرها ، ويصبغها بِصبْغة شخصية لا تتعدى إلى الغير فنرى مَنْ يقول بأنها مسألة شخصية لا تتكرر .
إذن : لو جاء العلم في ذاته سنقول : هذه الحادثة أو هذا العَمَل خاص بهذا الشخص ، والحق سبحانه وتعالى يريد أن يضرب لنا مثلاً يعُمُّ أي شخص ، ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إنْ مكَّنَ الله له ومنحه الله قوة وسلطة؟
ولو حددَ القرآن هذه الشخصية في الإسكندر أو قورش أو غيرهما لَقُلْنَا : إنه حَدث فرديّ لا يتعدى هذا الشخص ، وتنصرف النفس عن الأُسْوة به ، وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها . ولو كان في تعيينه فائدة لَعيَّنه الله لَنَا .
وسبق أنْ أوضحنا أن الحق سبحانه عندما ضرب مثلاً للذين كفروا ، قال : { امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ . . } [ التحريم : 10 ] ولم يُعيّنهما على التحديد؛ لأن الهدف من ضرب المثل هنا بيان الرسول المرسَل من الله لهداية الناس لم يتمكّن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه؛ لأن الإيمان مسألة شخصية ، لا سيطرة فيها لأحد على أحد .
وكذلك لما ضرب الله مثلاً للذين آمنوا قال : { امرأت فِرْعَوْنَ . . } [ التحريم : 11 ]
ففرعون الذي أضَلَّ الناس وادَّعى الألوهية زوجته مؤمنة ، وكأن الحق سبحانه يُلمِّح للناس جميعاً أن رأيك في الدين وفي العقائد رَأْي ذاتي ، لا يتأثر بأحد أيّاً كان ، لا في الهداية بنبي ، ولا في الغواية بأضلِّ الضالين الذي ادعى الألوهية .
وهكذا يحفظ الإسلام للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها .
إذن : الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مُشخّصة لتكون نموذجاً وأُسْوة يحتذي بها كل أحد ، وإلاَّ لو شخصتْ لارتبطتْ بهذا الشخص دون غيره ، أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم فنراه يحددها باسمها ، بل واسم أبيها؛ ذلك لأن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها ، ولن تحدث بعدها أبداً في بنات آدم ، لذلك عيَّنها وشخَّصها؛ لأن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف .
(1/5463)
أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص ، فهذا يعني أنها صالحة لأنْ تتكرر في أيّ زمان أو في أيّ مكان ، كما رأينا في قصة أهل الكهف ، وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً ، وأبهمهم مكاناً وأبهمهم زماناً ، وأبهمهم عدداً ، ليكونوا أُسْوة وقُدْوة للفتيان المؤمنين في أيِّ زمان ، وفي أيِّ مكان ، وبأيِّ عدد .
وقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } [ الكهف : 83 ] نلاحظ أن مادة السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن أخذتْ حيِّزاً كبيراً فيه ، فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة ، إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . } [ البقرة : 186 ]
وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع ، كما في : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة . . } [ البقرة : 189 ]
وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ . . } [ البقرة : 215 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ . . } [ البقرة : 217 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . } [ البقرة : 219 ] { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ . . } [ البقرة : 220 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض . . } [ البقرة : 222 ] { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ . . } [ المائدة : 4 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } [ الأعراف : 187 ] ثلاث مرات ، [ النازعات : 42 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . } [ الأنفال : 1 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح . . } [ الإسراء : 85 ]
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } [ الكهف : 83 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً . . } [ طه : 105 ]
خمسة عشر سؤالاً بالمضارع ، إلا أن الجوابَ عليها مختلف ، وكلها صادرة عن الله الحكيم ، فلا بُدَّ أنْ يكون اختلاف الجواب في كل سؤال له مَلْحظ ، ومن هذه الأسئلة ما جاء من الخصوم ، ومنها ما سأله المؤمنون ، السؤال من المؤمنين لرسول الله وقد نهاهم أنْ يسألوه حتى يهدأوا إلحاحٌ منهم في معرفة تصرُّفاتهم وإنْ كانت في الجاهلية ، إلا أنهم يريدون أنْ يعرفوا رأي الإسلام فيها ، فكأنهم نَسُوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تُشرَّع كل أمورهم على وَفْق الإسلام .
وبتأمّل الإجابة على هذه الأسئلة تجد منها واحدةً يأتي الجواب مباشرة دون { قُلْ } وهي في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع . . } [ البقرة : 186 ] وواحدة وردتْ مقرونة بالفاء { فَقُلْ } وهي قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً . . } [ طه : 105 ]
وباقي الأسئلة وردت الإجابة عليها بالفعل { قُلْ } ، فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه الآية دون غيرها؟
قالوا : حين يقول الحق سبحانه في الجواب { قُلْ } فهذه إجابة على سؤال سُئِلَهُ رسول الله بالفعل ، أي : حدث فعلاً منهم ، أما الفاء فقد أتتْ في الجواب على سؤال لم يُسأله ، ولكنه سيُسأله مستقبلاً .
فقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال . . } [ طه : 105 ] سؤال لم يحدث بَعْد ، فالمعنى : إذا سألوك فَقُلْ ، وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع .
فإذا قُلْتَ : فما الحكمة في أنْ يأتي الجواب في قوله تعالى :
(1/5464)
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . } [ البقرة : 186 ] خالياً من : قُلْ أو فَقُلْ : مع أن { إِذَا } تقتضي الفاء في جوابها؟
نقول : لأن السؤال هنا عن الله تعالى ، ويريد سبحانه وتعالى أنْ يُجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من أحد؛ لذلك تأتي الإجابة مباشرة دون واسطة : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . } [ البقرة : 186 ] قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين . . } [ الكهف : 83 ] أي : عن تاريخه وعن خبره والمهمة التي قام بها : { قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 83 ]
وأيُّ شرف بعد هذا الشرف ، إن الحق تبارك وتعالى يتولّى التأريخ لهذا الرجل ، ويُؤرّخ له في قرآنه الكريم الذي يُتلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة والذي يُتحدّى به ، ليظل ذِكْره باقياً بقاء القرآن ، خالداً بخلوده ، يظل أثره فيما عمل أُسْوة وقُدْوة لمن يعمل مثله . إنْ دَلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن العمل الصالح مذكور عند الله قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق .
فأيُّ ذكْر أبقى من ذكر الله لخبر ذي القرنين وتاريخه؟
و { مِّنْهُ } أي : بعضاً من ذِكْره وتاريخه ، لا تاريخه كله .
وكلمة ( ذِكْر ) وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة ، تلتقي جميعها في الشرف والرفعة ، وفي التذكُّر والاعتبار . وإنْ كانت إذا أُطلقتْ تنصرف انصرافاً أولياً إلى القرآن ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] وبعد ذلك تُستعمل في أيّ كتاب أنزله الله تعالى من الكتب السابقة ، كما جاء في قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ]
وقد يُطلَق الذكر على ما يتبع هذا من الصِّيت والشرف والرفعة وتخليد الاسم ، كما في قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ . . } [ الأنبياء : 10 ]
وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ . . } [ الزخرف : 44 ]
أي : صيت حَسَن وشرف ورفْعة كون القرآن يذكر هذا الاسم؛ لأن الاسم إذا ذُكِر في القرآن ذاعَ صِيتُه ودَوَّى الآفاق .
وقلنا في قصة زيد بن حارثة أنه كان عبداً بعد أنْ خُطِف من قومه وَبيع في مكة لخديجة رضي الله عنها ، ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك أطلقوا عليه زيد بن محمد ، فلما عَلِم أهله بوجوده في مكة أتى أبوه وعمه ، وكلّموا رسول الله في شأن زيد فقال : خَيِّروه .
فلما خَيَّروا زيداً قال : ما كنتُ لأختار على رسول الله أحداً ، لذلك أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وسمَّاه زيدَ بن محمد ، فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني ، ونزل قوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين . . } [ الأحزاب : 40 ] وقال : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله . . } [ الأحزاب : 5 ]
فلا تقولوا : زيد بن محمد .
(1/5465)
وقولوا : زيد بن حارثة ، وهنا حَزِنَ زَيْد لهذا التغيير ، ورأى أنه خسر به شرفاً عظيماً بانتسابه لمحمد ، ولكن الحق سبحانه وتعالى يجبر خاطر زيد ، ويجعل اسمه عَلَماً يتردد في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة ، فكان زيد هو الصحابي الوحيد الذي ورد ذكره باسمه في كتاب الله في قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا . . } [ الأحزاب : 37 ]
فأيُّ شرف أعلى وأعظم من هذا الشرف؟
ونلحظ في هذه الآية : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله . . } [ الأحزاب : 5 ] أن الحق سبحانه لم يتهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالجور ، فقال : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله . . } [ الأحزاب : 5 ] فما فعله الرسول كان أيضاً قِسْطاً وعدلاً ، وما أمر الله به هو الأقسط والأعدل .
إذن : فذِكْر ذي القرنين في كتاب الله شرف كبير ، وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله ، ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين الناس في الدنيا .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض . . } .
(1/5466)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
التمكين : أي أننا أعطيناه إمكانات يستطيع بها أن يُصرِّف كل أموره التي يريدها؛ لأنه مأمون على تصريف الأمور على حَسْب منهج الله ، كما قال تعالى في آية أخرى عن يوسف عليه السلام : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ . . } [ يوسف : 56 ]
فالتمكين يعني إعطاءه إمكانات لكل غرض يريده فيُصرِّف به الأمور ، لكن لماذا مكناه؟ مكنّاه لأنه مأمون على تصريف الأمور وَفْق منهج الله ، ومأمون على ما أعطاه الله من إمكانات .
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ الكهف : 84 ] أي : أعطيناه أسباباً يصل بها إلى ما يريد ، فما من شيء يريده إلا ويجعل الله له وسيلة مُوصِّلة إليه .
فماذا صنع هو؟ { فَأَتْبَعَ سَبَباً } .
(1/5467)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
أتبع السبب ، أي : لا يذهب لغاية إلا بالوسيلة التي جعلها الله له ، فلقد مكَّن الحق لذي القرنين في الأرض ، وأعطاه من كل شيء سبباً ، ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أُعطى ، فلم يتقاعس ، ولم يكسل ، بل أخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب .
(1/5468)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
وبلوغه مغرب الشمس دليل على أنه لم يكُنْ بهذا المكان ، بل كان قادماً إليه من المشرق . ومعنى { مَغْرِبَ الشمس } هل الشمس تغرب؟
هي تغرب في عين الرائي في مكان واحد ، فلو لاحظتَ الشمس ساعة الغروب لوجدتها تغربُ مثلاً في الجيزة ، فإذا ذهبت إلى الجيزة وجدتها تغرب في مكان آخر وهكذا ، إذن : غروبها بمعنى غيابها من مرأىَ عينك أنت؛ لأن الشمس لا تغيب أبداً ، فهي دائماً شارقة غاربة ، بمعنى أنها حين تغرب على قوم تشرق على آخرين؛ لذلك تتعدد المشارق والمغارب .
وهذه أعطتنا دوام ذكر الله ودورانه على الألسنة في كل الأوقات ، فحين نصلي نحن الظهر مثلاً يصلي غيرنا العصر ، ويصلي غيرهم المغرب ، وهكذا فالحق سبحانه مذكور في كل وقت بكل وقت ، فلا ينتهي الظهر لله ، ولا ينتهي العصر لله ، ولا ينتهي المغرب لله ، بل لا ينتهي الإعلام بواحدة منها طوال الوقت ، وعلى مَرِّ الزمن؛ لذلك يقول أهل المعرفة : يا زمن وفيك كل الزمن .
ثم يقول تعالى : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ . . } [ الكهف : 86 ] أي : في عين فيها ماء . وقلنا : إن الحمأ المسنون هو الطين الذي اسودّ لكثرة وجوده في الماء . وفي تحقيق هذه المسألة قال عالم الهند أبو الكلام آزاد ، ووافقه فضيلة المرحوم الشيخ عبد الجليل عيسى ، قال : عند موضع يسمى ( أزمير ) .
وقوله : { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً . . } [ الكهف : 86 ] أي : عند هذه العين { قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] إذن : فهذا تفويض له من الله ، ولا يُفوَّض إلا المأمون على التصرُّف { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ . . } [ الكهف : 86 ] ولا بُدّ أنهم كانوا كفرة أو وثنيين لا يؤمنون بإله ، فإما أنْ تأخذهم بكفرهم ، وإما أن تتخذَ فيهم حُسْناً .
لكن ما وجه الحُسْن الذي يريد الله أن يتخذه؟ يعني أنهم قد يكونون من أهل الغفلة الذين لم تصلهم الدعوة ، فبيّن لهم وجه الصواب ودلّهم على دين الله ، فَمنْ آمن منهم فأحسن إليه ، ومَنْ أصرّ على كُفْرِه فعذّبه ، إذن : عليك أن تأخذهم أولاً بالعِظَة الحسنة والبيان الواضح ، ثم تحكم بعد ذلك على تصرفاتهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ . . . } .
(1/5469)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
قوله : { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ . . } [ الكهف : 87 ] يعطينا إشارة إلى المهلة التي سيعطيها لهؤلاء ، مهلة تمكّنه أنْ يعِظهم ويُذكِّرهم ويُفهِّمهم مطلوبات دين الله .
وسبق أن قلنا : إن الظلم أنواع ، أفظعها وأعلاها الشرك بالله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]
ثم يقول تعالى : { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ]
فلن نُعذِّبه على قدْر ما فعل ، بل نُعذّبه عقوبة دنيوية فقط؛ لأن العقوبات الدنيوية شُرعَتْ لحفظ توازن المجتمع ، ورَدْع مَنْ لا يرتدع بالموعظة ، وإلا فما فائدة الموعظة في غير المؤمن؟ لذلك نرى الأمم التي لا تؤمن بإله ، ولا بالقيامة والآخرة تُشرِّع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم أوضاعها .
وبعد عذاب الدنيا وعقوبتها هناك عذاب أشدّ في الآخرة { عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ] والشيء النكر : هو الذي لا نعرفه ، ولا عَهْد لنا به أو أُلْفة؛ لأننا حينما نُعذِّب في الدنيا نُعذِّب بفطرتنا وطاقتنا ، أما عذاب الله في الآخرة فهو شيء لا نعرفه ، وفوق مداركنا وإمكاناتنا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى . . . } .
(1/5470)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
قوله : { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى . . } [ الكهف : 88 ] أي : نعطيه الجزاء الحسن { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 88 ] نقول له الكلام الطيب الذي يُشجِّعه ويحْفزه ، وإنْ كلَّفناه كلَّفناه بالأمر اليسير غير الشاق .
وهذه الآية تضع لنا أساس عملية الجزاء التي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته ، فمجتمعٌ بلا جزاءات تثيب المجدّ وتعاقب المقصِّر مجتمع ينتهي إلى الفوضى والتسيُّب ، فإنْ أمِنْ الناسُ العقابَ تكاسلوا ، وربما ما تعانيه مصر الآن من سوء الإدارة راجع إلى ما في المجتمع من أشخاص فوق القانون لا نستطيع معاقبتهم فيتسيّب الآخرون .
وكذلك نرى المراتب والجوائز يظفر بها مَنْ لا يعمل ، ويظفر بها مَنْ يتقرب ويتودد ويتملّق وينافق ، ولهؤلاء أساليبهم الملتوية التي يجيدونها ، أما الذي يجدّ ويعمل ويخلص فهو مُنْهك القوى مشغول بإجادة عمله وإتقانه ، لا وقْتَ لديه لهذه الأساليب الملتوية ، فهو يتقرب بعمله وإتقانه ، وهذا الذي يستحق التكريم ويستحق الجائزة . ولك أنْ تتصوَّر مدى الفساد والتسيّب الذي تسببه هذه الصورة المقلوبة المعوجة .
إذن : فميزان المجتمع وأساس نهضته : { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 87-88 ]
فما أجمَل أنْ نرصُدَ المكافآت التشجيعية والجوائز ، ونقيم حفلات التكريم للمتميزين والمثاليين ، شريطةَ أنْ يقومَ ميزان الاختيار على الحق والعدل .
والحُسْنى : أفعل التفضيل المؤنث لحسن ، فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب أَوْلَى ، ومن هذا قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ . . }
(1/5471)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
أي : ذهب إلى مكان آخر .
(1/5472)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
قوله تعالى : { مَطْلِعَ الشمس . . } [ الكهف : 90 ] كما قلنا في مغربها ، فهي دائماً طالعة؛ لأنها لا تطلع من مكان واحد ، بل كل واحد له مطلع ، وكل واحد له مغْرب حسب اتساع الأفق .
ثم يقول تعالى : { وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } [ الكهف : 90 ] السِّتْر : هو الحاجز بين شيئين ، وهو إما ليقينيَ الحر أو ليقينيَ البرد ، فقد ذهب ذو القرنين إلى قوم من المتبدين الذين يعيشون عراة كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلاً ، أو ليس عندهم ما يسترهم من الشمس مثل البيوت يسكنونها ، أو الأشجار يستظِلّون بها .
وهؤلاء قوم نسميهم " ضاحون " أي : ليس لهم ما يأويهم من حَرِّ الصيف أو بَرد الشتاء ، وهم أُنَاسٌ متأخرون بدائيون غير متحضرين . ومثل هؤلاء يعطيهم الله تعالى في جلودهم ما يُعوِّضهم عن هذه الأشياء التي يفتقدونها ، فترى في جلودهم ما يمنحهم الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف .
وهذا نلاحظه في البيئات العادية ، حيث وَجْه الإنسان وهو مكشوف للحر وللبرد ، ولتقلبات الجو ، لذلك جعله الله على طبيعة معينة تتحمل هذه التقلبات ، على خلاف باقي الجسم المستور بالملابس ، فإذا انكشف منه جزء كان شديدَ الحساسية للحرِّ أو للبرد ، وكذلك من الحيوانات ما منحها الله خاصية في جلودها تستطيع أنْ تعيش في القطب المتجمد دون أن تتأثر ببرودته .
وهؤلاء البدائيون يعيشون هكذا ، ويتكيفون مع بيئتهم ، وتشغلهم مسألة الملابس هذه ، ولا يفكرون فيها ، حتى يذهب إليهم المتحضرون ويروْنَ الملابس ، وكيف أنها زينة وسَتْر للعورة فيستخدمونها .
ونلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلاء القوم شيئاً وماذا فعل ذو القرنين معهم ، وإنْ قِسْنا الأمر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول : ربما حضَّرهم ووفَّر لهم أسباب الرُّقي .
وبعض المفسرين يروْنَ أن ذا القرنين ذهب إلى موضعٍ يومُه ثلاثة أشهر ، أو نهاره ستة أشهر ، فصادف وصوله وجود الشمس فلم يَرَ لها غروباً في هذا المكان طيلة وجوده به ، ولم يَرَ لها سِتْراً يسترها عنهم ، ويبدو أنه ذهب في أقصى الشمال .
ويقول الحق سبحانه : { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } .
(1/5473)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
كذلك : يعني ذهب كذلك ، كما ذهب للمغرب ذهب للمشرق .
(1/5474)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
ذهب إلى مكان آخر .
(1/5475)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
السد : هو الحاجز بين شيئين ، والحاجز قد يكون أمراً معنوياً ، وقد يكون طبيعياً محسوساً كالجبال ، فالمراد بالسدين هنا جبلان بينهما فجوة ، وما دام قد قال : { بَيْنَ السَّدَّيْنِ } فالبَيْن هنا يقتضي وجود فجوة بين السدين يأتي منها العدو .
{ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا . . } [ الكهف : 93 ] أي : تحتهما { قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] أي : لا يعرفون الكلام ، ولا يفقهون القول؛ لأن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم ، وهؤلاء لا يقولون كلاماً ، ولا يفهمون ما يقال لهم ، ومعنى : { لاَّ يَكَادُونَ . . } [ الكهف : 93 ] لا يقربون من أن يفهموا ، فلا ينفي عنهم الفَهْم ، بل مجرد القُرْب من الفهم ، وكأنه لا أملَ في أن يفهمهم .
لكن ، يكف نفى عنهم الكلام ، ثم قال بعدها مباشرة : { قَالُواْ ياذا القرنين . . } [ الكهف : 94 ] فأثبت لهم القول؟
يبدو أنه خاطبهم بلغة الإشارة ، واحتال على أن يجعلَ من حركاتهم كلاماً يفهمه وينفذ لهم ما يريدون ، ولا شكَّ أن هذه العملية احتاجت منه جهداً وصبراً حتى يُفهمهم ويفهم منهم ، وإلا فقد كان في وُسْعه أنْ ينصرف عنهم بحجة أنهم لا يتكلمون ولا يتفاهمون .
فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير ، والذي لا يألو جَهْداً في نَفْع القوم وهدايتهم .
والإشارة أصبحت الآن لغة مشهورة ومعروفة ، ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها ، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالُواْ ياذا القرنين . . . } .
(1/5476)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
المراد بالقول هنا : دلالة مُعبِّرة تعبير القول ، فلا بُدَّ أنهم تعارفوا على شيء كالإشارة مثلاً يتفاهمون به .
ويأجوج ومأجوج قوم خَلْف السدين أو الجبلين ، ينفذون إليهم من هذه الفجوة ، فيؤذونهم ويعتدون عليهم؛ لذلك عرضوا عليه أن يجعلوا له { خَرْجاً } أي : أجراً وخراجاً يدفعونه إليه على أنْ يسدَّ لهم هذه الفجوة ، فلا ينفذ إليهم أعداؤهم .
ثم يقول الحق - تبارك وتعالى - عن ذي القرنين أنه : { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر . . . . } .
(1/5477)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
والقوْل هنا أيضاً قَوْل دلالة وإشارة تُفهمهم أنه في غِنىً عن الأجر ، فعنده الكثير من الخير الذي أعطاه الله ، إنما هو في حاجة إلى قوة بشرية عاملة تُعِينه ، وتقوم معه بتنفيذ هذا العمل .
ونفهم من الآية أن المعونة من المُمكَّن في الأرض المالك للشيء يجب أن تكون حِسْبة لله ، وأنْ تُعين معونة لا تحوج الذي تعينه إلى أن تُعينه كل وقت ، بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد ، كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه بدل أنْ تعطيه مثلاً مالاً ينفقه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً؛ لذلك يقولون : لا تُعطِني سمكة ، ولكن علِّمني كيف أصطاد ، وهكذا تكون الإعانة مستمرة دائمة ، لها نَفَس ، ولها عُمْر .
ولما كان ذو القرنين ممكّناً في الأرض ، وفي يده الكثير من الخيرات والأموال ، فهو في حاجة لا إلى مال بل إلى الطاقة البشرية العاملة ، فقال : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ . . } [ الكهف : 95 ] أي : قوة وطاقة بشرية قوية مخلصة { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } [ الكهف : 95 ]
ولم يقُلْ : سداً؛ لأن السدّ الأصمَّ يعيبه أنه إذا حصلت رَجَّة مثلاً في ناحية منه ترجّ الناحية الأخرى؛ لذلك أقام لهم ردماً أي : يبني حائطاً من الأمام وآخر من الخلف ، ثم يجعل بينهما ردماً من التراب ليكون السد مَرِناً لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلاً ، فيكون به التراب مثل " السُّوست " التي تمتص الصدمات .
والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها ، حتى تردم حُفْرة مثلاً وتُسوّيها بالأرض ، ومن ذلك ما نسمعه عندما يعاتب أحدهم صاحبه ، وهو لا يريد أنْ يسمعَ ، فيقول له : اردم على هذا الموضوع .
(1/5478)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
لم يكن ذو القرنين رجلاً رحالة ، يسير هكذا بمفرده ، بل مكَّنه الله من أسباب كل شيء ، ومعنى ذلك أنه لم يكن وحده ، بل معه جيش وقوة وعدد وآلات ، معه رجال وعمال ، معه القوت ولوازم الرحلة ، وكان بمقدوره أنْ يأمرَ رجاله بعمل هذا السدِّ ، لكنه أمر القوم وأشركهم معه في العمل لِيُدرِّبهم ويُعلِّمهم ما داموا قادرين ، ولديهم الطاقة البشرية اللازمة لهذا العمل .
والحق تبارك وتعالى يقول : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا . . } [ الطلاق : 7 ] فما دام ربك قد أعطاك القوة فاعمل ، ولا تعتمد على الآخرين؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلاثة : أعينوني بقوة ، آتوني زبر الحديد ، آتوني أفرغ عليه قطراً .
زبر الحديد : أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زُبْرة ، والقِطْر : هو النحاس المذاب ، لكن ، كيف بنى ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس؟
هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد ، وسَدَّ ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة ، فلا يتمكن الأعداء من خَرْقه ، وليكون أملسَ ناعماً فلا يتسلقونه ، ويعلُون عليه .
فقوله : { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين . . } [ الكهف : 96 ] الصدف : الجانب ، ومنه قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا . . } [ الأنعام : 157 ] أي : مال عنها جانباً .
فمعنى : ساوى بين الصدفين . أي : ساوى الحائطين الأمامي والخلفي بالجبلين : { قَالَ انفخوا . . } [ الكهف : 96 ] أي : في الحديد الذي أشعل فيه ، حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذَاب : { قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] وهكذا انسبكَ الحديد الملتهب مع النحاس المذَاب ، فأصبح لدينا حائطٌ صَلْبٌ عالٍ أملس .
لذلك قال تعالى بعدها : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ . . . } .
(1/5479)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{ أَن يَظْهَرُوهُ } أي : ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن يعلوا السد أو يتسلقوه وينفذوا من أعلاه؛ لأنه ناعم أملس ، ليس به ما يمكن الإمساك به : { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً } [ الكهف : 97 ] لأنه صَلْب .
ثم يقول تعالى على لسان ذي القرنين : { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي . . . } .
(1/5480)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
لم يَفُتْ ذا القرنين وهو الرجل الصالح أنْ يسند النعمة إلى المنعم الأول ، وأنْ يعترف بأنه مجرد واسطة وأداة لتنفيذ أمر الله : { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } [ الكهف : 98 ] لأنني أخذتُ المقوِّمات التي منحني الله إياها ، واستعملتها في خدمة عباده .
الفكر مخلوق لله ، والطاقة والقوة مخلوقة لله ، المواد والعناصر في الطبيعة مخلوقة لله ، إذن : فما لي أن أقول : أنا عملتُ كذا وكذا؟
ثم يقول تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } [ الكهف : 98 ] أي : الآخرة { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } [ الكهف : 98 ] فإياكم أن تظنوا أن صلابة هذا السَّد ومتانته باقية خالدة ، إنما هذا عمل للدنيا فحسب ، فإذا أتى وَعْد الله بالآخرة والقيامة جعله الله دكاً وسوّاه بالأرض ، ذلك لكي لا يغترون به ولا يتمردون على غيرهم بعد أنْ كانوا مُستذلّين مُستضعفين ليأجوج ومأجوج . وكأنه يعطيهم رصيداً ومناعة تقيهم الطغيان بعد الاستغناء .
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } [ الكهف : 98 ] واقعاً لاشك فيه .
والتحقيق الأخير في مسألة ذي القرنين وبناء السد أنه واقع بمكان يُسمَّى الآن ( بلخ ) والجبلان من جبال القوقاز ، وهما موجودان فعلاً ، وبينهما فَجْوة مبنيُّ فيها ، ويقولون : إن صاحب هذا البناء هو قورش ، وهذا المكان الآن بين بحر قزوين والبحر الأسود .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } .
(1/5481)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض ، كموج الماء لا تستطيع أن تفرق بعضهم من بعض ، كما أنك لا تستطيع فصل ذرات الماء في الأمواج ، يختلط فيهم الحابل بالنابل ، والقويّ بالضعيف ، والخائف بالمخيف ، فهم الآن في موقف القيامة ، وقد انتهت العداوات الدنيوية ، وشُغِل كل إنسان بنفسه .
وقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } [ الكهف : 99 ] .
وهذه هي النفخة الثانية؛ لأن الأولى نفخة الصَّعْق ، كما قال تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] .
فالنفخة الأولى نفخة الصَّعْق ، والثانية نفخة البَعْث والقيامة ، والصَّعْق قد يكون مميتاً ، وقد يكون مُغْمِياً لفترة ثم يفيق صاحبه ، فالصَّعْق المميت كما في قوله تعالى :
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة وَهُمْ يَنظُرُونَ } [ الذاريات : 4344 ] .
أما الصَّعْقة التي تُسبِّب الإغماء فهي مِثْل التي حدثت لموسى عليه السلام حينما قال : { قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } [ الأعراف : 143 ] .
فالجبل الأشمّ الراسي الصَّلْب اندكّ لما تجلَّى له الله ، وخر موسى مصعوقاً مُغمى عليه ، وإذا كان موسى قد صُعِق من رؤية المتجلَّى عليه ، فكيف برؤية المتجلِّي سبحانه؟
وكأن الحق سبحانه أعطى مثلاً لموسى عليه السلام فقال له : ليست ضنيناً عليك بالرؤية ، ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أولاً ليكون لك مثالاً ، إذن : لا يمنع القرآن أن يتجلى الله على الخَلْق ، لكن هل نتحمل نحن تجلِّي الله؟
فمن رحمة الله بنا ألاَّ يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا . أما في الآخرة ، فإن الخالق سبحانه سيُعِدّنا إعداداً آخر ، وسيخلقنا خِلْقة تناسب تجلِّيه سبحانه على المؤمنين في الآخرة؛ لأنه سبحانه القائل : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 2223 ] .
وسوف نلحظ هذا الإعداد الجديد في كُلِّ أمور الآخرة ، ففيها مثلاً تقتاتون ولا تتغوطون؛ لأن طبيعتكم في الآخرة غير طبيعتكم في الدنيا .
لذلك جاء السؤال من موسى عليه السلام سؤالاً علمياً دقيقاً : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] أي : أرِني كيفية النظر إليك؛ لأني بطبيعتي وتكويني لا أراك ، إنما إنْ أريتني أنت أرى .
وفي ضوء هذه الحادثة لموسى عليه السلام نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تُخيِّروا بين الأنبياء ، فإن الناس يُصْعقون يوم القيامة ، فأكون أولَ مَنْ تنشقُّ عنه الأرض ، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صُعِق ، أم حُوسِب بصَعْقة الأولى " .
قالوا : لأنه صُعِق مرة في الدنيا ، ولا يجمع الله تعالى على عبده صَعقتَيْن .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ }
(1/5482)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
أي : تُعرَض عليهم ليروها ويشاهدوها ، وهذا العَرْض أيضاً للمؤمنين ، كما جاء في قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] والبعض يظن أن ( واردها ) يعني : داخلها ، لا بل واردها بمعنى : يراها ويمرُّ بها ، فقد ترِد الماء بمعنى : يراها ويمر بها ، فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه دون أنْ تشربَ منه؛ ذلك لأن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروبٌ على ظهر جهنم ليراها المؤمن والكافر .
أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أنْ يدخل الجنة تُرِيه مدى نعمة الله عليه ورحمته به ، حيث نجّاه من هذا العذاب ، ويعلم فضل الإيمان عليه ، وكيف أنه أخذ بيده حتى مَرَّ من هذا المكان سالماً .
لذلك يُذكّرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] .
أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولاً ، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والندامة والفزع؛ لأنه يعلم أنه داخلها ، ولن يُفلِتْ منها .
وقد وردتْ هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى : { أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } [ التكاثر : 18 ] .
والمراد : لو أنكم تأخذون عنِّي العلم اليقيني فيما أُخبركم به عن النار وعذابها لكُنْتم كمنْ رآها ، لأنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها ، وهذا ما نُسمِّيه علم اليقين ، أما في الآخرة فسوف ترون النار عينها . وهذا هو عين اليقين أي : الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرُّون على الصراط .
وبرحمة الله بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنار عند هذا الحد ، وتُكتب له النجاة؛ لذلك قال تعالى بعدها : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } [ التكاثر : 8 ] .
أما الكافر والعياذ بالله فلَهُ مع النار مرحلة ثالثة هي حّقُّ اليقين ، يوم يدخلها ويباشر حَرَّها ، كما قال تعالى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين * فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } [ الواقعة : 9296 ] .
إذن : عندنا عِلْم اليقين ، وهو الصورة العلمية للنار ، والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى ، وأن من صفات النار كذا وكذا وحذَّرنا منها ، ونحن في بحبوحة الدنيا وسِعَتها . وعَيْن اليقين : في الآخرة عندما نمرُّ على الصراط ، ونرى النار رؤيا العين . ثم حَقُّ اليقين : وهذه للكفار حين يُلْقَوْن فيها ويباشرونها فعلاً .
وقد ضربنا لذلك مثلاً : لو قُلْتُ لك : توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب ، وأنها تقع على سبع جزر ، ومن صفاتها كذا وكذا فأُعطِيك عنها صورة علمية صادقة ، فإنْ صدَّقتني فهذا عِلْم يقين . فإنْ مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رَأْيَ العين فهذا عَيْن اليقين ، فإنْ نزلت بها وتجولت خلالها فهذا حَقُّ اليقين .
إذن : فقوله تعالى : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } [ الكهف : 100 ] ليس كعرضها على المؤمنين ، بل هو عَرْض يتحقّق فيه حَقُّ اليقين بدخولها ومباشرتها .
ثم يقول الحق سبحانه : { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ }
(1/5483)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
أي : على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية ، ليس هذا وفقط ، بل : { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [ الكهف : 101 ] .
والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامع ، سَمْع العبرة والعِظَة ، وإلا فآذانهم موجودة وصالحة للسمع ، ويسمعون بها ، لكنه سمَاعٌ لا فائدةَ منه؛ لأنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع الموعظة ويسدُّون دونها آذانهم ، فهم في الخير أذن من طين ، وأذن من عجين كما نقول .
أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } [ المائدة : 83 ] .
إذن : فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم لا سَمْعَ لهم ، كما نقول نحن في لغتنا العامية : ( أنت مطنش عني ) ، يعني لا تريد أنْ تسمعَ ، ومن أقوال أهل الفكاهة : قال الرجل لصاحبه : فيك مَنْ يكتم السرَّ؟ قال : نعم ، قال : أعْطني مائة جنيه ، قال : كأنِّي لم أسمع .
ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] .
يعني : شَوِّشُوا عليه ، ولا تُعطوا الناس فرصة لسماعه ، ولو أنهم علموا أن القرآن لا يؤثر في سامعه ما قالوا هذا ، لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيداً أن القرآن له تأثير في سامعه تأثيراً يملك جوانب نفسه ، ولابُدَّ لهذا العربي الفصيح أنْ يهتزّ للقرآن ، ولابُدَّ أنه سيعرف أنه مُعْجِز ، وأنه غير قَوْل البشر ، وحتماً سيدعوه هذا إلى الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله ، وأن محمداً رسول الله؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذراً : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] .
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى : { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الجاثية : 78 ] .
وقد يتعدَّى الأمر مجرد السماع إلى منْع الكلام كما جاء في قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } [ إبراهيم : 9 ] .
فليس الأمر منْع الاستماع ، بل أيضاً منع الكلام ، فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه فتُؤثّر فيهم ، أي منعوهم الكلام كما يُقال : اسكت ، أو أغلق فمك .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا }
(1/5484)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
قوله تعالى : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ } [ الكهف : 102 ] يعني : أعَمُوا عن الحق فظنُّوا أنْ يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟ وسبق أن تحدثنا عن كلمة ( عِبَادي ) وقلنا : إنهم المؤمنون بي المحبون لي ، الذين اختاروا مرادات الله على اختيارات نفوسهم ، وفرَّقْنا بين عبيد وعباد .
والكلام هنا عن الذين كفروا الذين اتخذوا عباد الله المقربين إليه المحبين له أولياء من دون الله ، كما قال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] .
فكيف تتخذونهم أولياء من دوني وتعاندونني بهم وهم أحبتي؟
يقول تعالى : { وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ومنهم مَنْ قال : الملائكة بنات الله ، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله وهم لا يستنكفون أن يكونوا عباداً لله ، ويروْنَ شرفهم وعِزَّتهم في عبوديتهم له سبحانه ، فإذا بكم تتخذونهم أولياء من دوني ، ويا ليتكم جعلتُم ذلك في أعدائي ، فهذا منهم تغفيل حتى في اتخاذ الشركاء؛ لذلك كان جزاءَهم أنْ نُعِدَّ لهم جهنم :
{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } [ الكهف : 102 ] والنُّزُل : ما يُعَدُّ لإكرام الضيف كالفنادق مثلاً ، فهذا من التهكّم بهم والسُّخرية منهم . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين }
(1/5485)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
( قُلْ ) أي : يا محمد { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] الأخسر : اسم تفضيل من خاسر ، فأخسر يعني أكثر خسارة ( أْعْمَالاً ) أي : خسارتهم بسبب أعمالهم . وهؤلاء الأخسرين هم : { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ }
(1/5486)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
وقد ضلَّ سَعْي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر ، ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية . ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر ، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة ، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعاً وقدَّموا خَيْراً ، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟
الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم .
ومعنى : { ضَلَّ سَعْيُهُمْ } [ الكهف : 104 ] أي : بطُل وذهب وكأنه لا شيءَ ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] .
وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم ، ولا يمنعهم الأَجْر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب ، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا ، ولا نصيبَ لهم في جزاء الآخرة .
وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
ومع ذلك يُبقي للكافر حَقَّه ، فلا يجوز لأحد من المؤمنين أنْ يظلمه أو يعتدي عليه ، وفي حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : " سمعت أن مُحدِّثاً حدَّث عن رسول الله بحديث أحببت ألا أموت ، أو يموت هو حتى أسمعه منه ، فسألت عنه فقيل : إنه ذهب إلى الشام ، قال : فاشتريت ناقة ورحَّلتها ، وسرْت شهراً إلى أنْ وصلتُ إلى الشام ، فسألت عنه فقيل : إنه عبد الله بن أُنَيْس ، فلما ذهبت قال له خادمه : إن جابر بن عبد الله بالباب ، قال جابر : فخرج ابنُ أُنَيْس وقد وَطِئ ثيابه من سرعته . قال عبد الله : واعتنقا .
قال جابر : حدِّثت أنك حدثتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينادي يوم القيامة : يا ملائكتي ، أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أنْ يدخلَ النار وله عند أحد من أهل الجنة حَقٌّ حتى أقصّه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أنْ يدخلَ الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصَّه منه ، حتى اللطمة " .
فانظر إلى دِقَّة الميزان وعدالة السماء التي تراعي حَقَّ الكافر ، فتقتصّ له قبل أنْ يدخل النارَ ، حتى ولو كان ظالمه مؤمناً .
وفي قوله تعالى : { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا } [ الكهف : 104 ] جاءت كلمة الضلال في القرآن الكريم في عِدّة استعمالات يُحدِّدها السياق الذي وردتْ فيه . فقد يأتي الضلال بمعنى الكفر ، وهو قمة الضلال وقمة المعاصي ، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى :
(1/5487)
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } [ البقرة : 108 ] .
ويُطلق الضلال ، ويُراد به المعصية حتى من المؤمن ، كما جاء في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 36 ] .
ويُطلق الضلال ، ويُراد به أنْ يغيب في الأرض ، كما في قوله تعالى : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] .
يعني : غِبْنا فيها واختفينا . ويُطلَق الضلال ويُراد به النسيان ، كما في قوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } [ البقرة : 282 ] .
ويأتي الضلال بمعنى الغفلة التي تصيب الإنسان فيقع في الذنب دون قصد . كما جاء في قصة موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه ، فلما كلمه فرعون قال : { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] .
أي : قتلتُه حال غفلة ودون قصد ، ومَنْ يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن أجلَ الرجل جاء مع الوكزة لا بها . ويحدث كثيراً أن واحداً تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية التي صادفتْ حادثة السيارة .
ويأتي الضلال بمعنى : أَلاّ تعرف تفصيل الشيء ، كما في قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } [ الضحى : 7 ] أي : لا يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر .
ثم يقول الحق سبحانه : { أولئك الذين كَفَرُواْ }
(1/5488)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [ الكهف : 105 ] والآيات تُطلَق ثلاثة إطلاقات ، وقد كفروا بها جميعاً وكذَّبوا ، كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة الله ، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها ، وكفروا بآيات الأحكام والقرآن والبلاغ من رسول الله ، وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها الله لتأييد الرسل فلم يصدقوها . إذن : كلمة : { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [ الكهف : 105 ] هنا عامة في كل هذه الأنواع .
( ولقائه ) أي : وكفروا أيضاً بلقاء الله يوم القيامة ، وكذَّبوا به ، فمنهم مَنْ أنكره كليةً فقال : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ] .
ومنهم مَن اعترف ببعْث على هواه ، فقال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] .
ومنهم مَنْ قال : إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلاماً طويلاً ، إذن : إما ينكرون البعث ، وإما يُصوِّرونه بصورة ليست هي الحقيقة .
ثم يقول تعالى : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [ الكهف : 105 ] أي : بَطُلت وذهب نفعُها { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] .
وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] وقالوا : كيف نُوفِّق بينها وبين الآيات التي تثبت الميزان ، كما في قوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
وقوله تعالى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 711 ] .
ونقول : إن العلماء في التوفيق بين هذه الآيات قالوا : المراد بقوله تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] جاءتْ على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار ، فالمراد لا وزنَ لهم عندنا أي : لا اعتبارَ لهم ، وهذه نستعملها الآن في نفس هذا المعنى نقول : فلان لا وزنَ له عندي . أي : لا قيمة له .
وبالبحث في هذه الآية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ } [ الكهف : 105 ] ولم يَقُل : عليهم ، إذن : الميزان موجود ، ولكنه ليس في صالحهم ، فالمعنى : لا نقيم لهم ميزاناً لهم ، بل نقيم لهم ميزاناً عليهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ }
(1/5489)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
( ذلك ) أي : ما كان من إحباط أعمالهم ، وعدم إقامتنا لهم وزناً ليس تجنِّياً مِنَّا عليهم أو ظلماً لهم ، بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله { بِمَا كَفَرُواْ } [ الكهف : 106 ] أي : بسبب كفرهم .
{ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } [ الكهف : 106 ] فقد استهزأوا بآيات الله ، وكلما سمعوا آية قالوا : أساطيرُ الأولين : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 15 ] .
وكذلك لم يَسْلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم ، والقرآن يحكي عنهم قولهم لرسول الله : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] فقولهم { نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] أي : القرآن وهم لا يؤمنون به سُخرية واستهزاءً .
وفي سورة " المنافقون " يقول القرآن عنهم : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } [ المنافقون : 7 ] فقولهم : { رَسُولِ الله } [ المنافقون : 7 ] ليس إيماناً به ، ولكن إمّا غفلة منهم عن الكذب الذي يمارسونه ، وإما سُخْرية واستهزاءً كما لو كنتَ في مجلس ، ورأيتَ أحدهم يدَّعِي العلم ويتظاهر به فتقول : اسألوا هذا العالم .
وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول الله : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } [ القلم : 51 ] .
ثم يتحدث القرآن عن المقابل لهؤلاء ، فيقول : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ }
(1/5490)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } [ الكهف : 107 ] سبق أن قلنا : إن الإيمان هو تصحيح الينبوع الوجداني العقدي لتصدر الأفعال مناسبة لإيمانك بمَنْ شرّع ، ومن هنا كان الإيمان أولاً وشرطاً لقبول العمل ، وإلاَّ فهناك مَنْ يعمل الخير لا من منطلق إيماني بل لاعتبارات أخرى ، والنية شَرْط لازم في قبول العمل .
لذلك يعاقب الله تعالى مَنْ يعمل لغير الله ، يعاقبه بأنْ ينكره صاحبه ويجحده ويكرهه بسببه ، بدل أنْ يعترفَ له بالجميل . ومن هنا قالوا : ( اتق شّرَّ مَنْ أحسنتَ إليه ) ؛ وهذا قول صحيح لأنك حين تُحسِن إلى شخص تدكُّ كبرياءه ، وتكون يدك العليا عليه ، فإذا ما أخذ حظاً من الحياة وأصبح ذا مكانة بين الناس فإن كان غير سَوِيِّ النفس فإنه لا يحب مَنْ تفضل عليه في يوم من الأيام ودَكَّ كبرياءه؛ لذلك تراه يكره وجوده ، ولا يحب أنْ يراه وربما دبَّر لك المكائد لتختفي من طريقه ، وتُخلي له الساحة؛ لأنك الوحيد الذي يحرجه حضورك .
لذلك ، مَنْ عمل عملاً لغير الله أسلمه الله لمن عمل له ، فليأخذ منه الجزاء ، وإذا بالجزاء يأتي على خلاف ما تنتظر ، فقد فعلت له ليُكرمك فإذا به يُهِينك ، فعلْتَ له ليحترمك فإذا به يَحْقِرك ، فعلتَ له لِيُواليك فإذا به عدو لك؛ لذلك يقولون : العمل لله عاجل الجزاء ، أما العمل لغير الله فغير مضمون العواقب ، فقد يُوفي لك وقد لا يُوفي .
ثم أردف الحق سبحانه وتعالى الإيمانَ بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح لابُدَّ له أن ينطلق من الإيمان ويصدر عنه ، فقال تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ الكهف : 107 ] .
{ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ الكهف : 107 ] يعني : عمل الشيء الصالح ، فإن كان الشيء صالحاً بنفسه فليتركه على صلاحه لا يفسده ، أو يزيده صلاحاً ، كبئر الماء الذي يشرب منه الناس ، فإمّا أن تتركه على حال صلاحه لا تُلقي فيه ما يسدُّه أو يُفسِده فتُخرج الصالح عن صلاحه ، وإما أنْ تزيده صلاحاً فتُضيف إليه ما يُحسِّن من أدائه ويُزيد من كفاءته كأنْ تبني حوله سوراً يحميه أو غطاءً يحفظه ، أو آلةَ رفع تُيسِّر على الناس استعماله .
والفرد حين يعمل الصالحات تكون حصيلته من صلاح غيره أكثرَ من حصيلته من عمله هو؛ لأنه فَرْد واحد ، ويستفيد بصلاح المجتمع كله ، ومن هنا لا ينبغي أنْ تستثقلَ أوامر الشارع وتكليفاته؛ لأنه يأخذ منك ليعطيك وَليُؤمِّن حياتك وقت الحاجة والعَوَز ، وحينما يتوفّر لك هذا التكافل الاجتماعي تستقبل الحياة بنفس راضية حال اليُسْر مطمئنة حال العُسْر .
وساعةَ أنْ يأمرك الشرع بكافلة اليتيم وإكرامه ، فإنه يُطمئِنك على أولادك من بعدك ، فلا تحزن إنْ أصابك مكروه؛ لأنك في مجتمع متعاون ، سيكفل أولادك ، بل قد يكون اليتيم في ظل الإسلام وتعاليمه أسعَد حظاً من حياته في رعاية أبيه؛ لأنه بموت أبيه يجد المؤمنين جميعاً آباءَ له ، وربما كان أبوه مشغولاً عنه في حياته لا يُفيده بشيء ، بل ويصدُّ عنه الخير حيث يقول الناس : أبوه موجود وهو يتكفّل به .
(1/5491)
لذلك يقول أحمد شوقي :
لَيْسَ اليَتيمُ مَنِ انتهَى أَبَواهُ ... مِنْ هَمِّ الحيَاةِ وخَلَّفَاهُ ذَليلا
إنَّ اليَتِيمَ هُوَ الذِي تَلْقَى لَهُ ... أُمَّا تخلَّتْ أَوْ أباً مَشْغُولا
وقوله تعالى : { كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] الفردوس : هو أعلى الجنة ، والنُّزُل : ما يُعده الإنسان لإكرام ضيفه من الإقامة ومَقوّمات الحياة وتَرَفها ، والإنسان حينما يُعِدُّ النُزْلَ لضيفه يعده على حَسْب قدراته وإمكانياته وعلمه بالأشياء ، فما بالك إنْ كان المعِدّ لِلنُّزُل هو الله تبارك وتعالى؟
ثم يقول الحق سبحانه : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ }
(1/5492)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
وخلود النعيم في الآخرة يُميّزه عن نعيم الدنيا مهما سَمَا ، كما أن نعيم الدنيا يأتي على قَدْر تصوُّرنا في النعيم وعلى حَسْب قدراتنا ، وحتى إنْ بلغنا القمة في التنعُّم في الدنيا فإننا على خَوْف دائم من زواله ، فإما أنْ يتركك النعيم ، وإما أن تتركه ، وأما في الجنة فالنعمة خالدة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وأنت مُخلّد فيها فلن تتركك النعمة ولن تتركها .
لذلك يقول تعالى بعدها : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [ الكهف : 108 ] أي : لا يطلبون تحوُّلهم عنها إلى غيرها ، لأنه لا يُتصوَّر في النعيم أعلى من ذلك .
ومعلوم أن الإنسان لديه طموحات ترفيهية ، فكلما نال خيراً تطلع إلى أعلى منه ، وكلما حاز متعةً ابتغى أكثر منها ، هذا في الدنيا أما في الآخرة فالأمر مختلف ، وإلا فكيف يطلب نعيماً أعلى من الجنة الذي قال الله عنه : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] .
أي : كلما رزقهم الله ثمرةً أتتْهم أخرى فقالوا : لقد رُزِقْنا مثلهم من قبل ، وظنّوها كسابقتها ، لكنها ليست كسابقتها بل بطعم جديد مختلف ، وإن كانت نفس الثمرة ، ذلك لأن قدرة الأسباب محدودة ، أما قدرة المسبِّب فليست محدودة .
والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يُخرِج لك الفاكهة الواحدة على ألف لَوْن وألف طَعْم؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى في قدرتها؛ لذلك يقول تعالى : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] فالثمر واحد متشابه ، أمَّا الطعم فمختلف .
والإنسان مِنّا لِيشقَّ طريقه في الحياة يظل يتعلّم ، ليأخذ شهادة مثلاً أو يتعلم مهنة ، ويظل في تعب ومشقة ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من عمره أملاً في أن يعيش باقي حياته المظنونة مرتاحاً هانئاً ، وَهْب أنك ستعيش باقي حياتك في راحة ، فكم سيكون الباقي منها؟
أما الراحة الأبدية في الآخرة فهي زمن لا نهايةَ له ، ونعيم خالد لا ينتهي ، ففي أيِّ شيء يطمع الإنسان بعد هذا كله؟ وإلى أيِّ شيء يطمح؟
لذلك قال تعالى بعدها : { قُل لَّوْ كَانَ البحر }
(1/5493)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
لأن قدرته تعالى لا حدود لها ، ومادامت قدرته لا حدود لها فالمقدورات أيضاً لا حدود لها؛ لذلك لو كان البحر مداداً أي : حِبْراً يكتب به كلمات الله التي هي ( كُنْ ) التي تبرز المقدورات ما كان كافياً لكلمات الله { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] أي : بمثل البحر .
ونحن نقول مثلاً عن السلعة الجيدة : لا يستطيع المصنع أنْ يُخرِج أحسن من هذه ، أما صنعة الله فلا تقف عند حد؛ لأن المصنع يعالج الأشياء ، أما الحق تبارك وتعالى فيصنعها بكلمة كُنْ؛ لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصَّل إليه العلم في خدمة البشر أنْ تضغط على زِرِّ معين ، فيُخرِج لك ما تريد من طعام أو شراب .
وهذه الأشياء بلا شكَّ مُعدَّة ومُجهَّزة مُسْبقاً ، فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل نوع ، لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك؟ إذن : فنعيم الدنيا له حدود ينتهي عندها .
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ يونس : 24 ] .
وكأن الحق سبحانه يقول لنا : لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا ، وبلغتم أقصى ما يمكن من مُتَعِها وزينتها ، فتعالوا إلى ما أعددتُه أنا لكم ، اتركوا ما كنتم فيه من أسباب الله ، وتعالوا عِيشُوا بالله ، كنتم في عالم الأسباب فتعالوْا إلى المسبِّب .
وإنْ كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الآية عن المداد الذي تُكتب به كلمات الله ، فقد تكلَّم عن الأقلام التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلاً لهذه المسألة ، فقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] .
ونقف هنا عند دِقَّة البيان القرآني ، فلو تصوَّرنا ما في الأرض من شجر أقلام ، مع ما يتميز به الشجر من تجدُّد مستمر ، وتكرُّر دائم يجعل من الأشجار ثروة لا حَصْر لها ولا تنتهي ، وتصوَّرنا ماء البحر مداداً يُكتب به إلا أنّ ماء البحر منذ خلقه الله تعالى محدود ثابت لاَ يزيد ولا ينقص .
لذلك لما كان الشجر يتجدَّد ويتكرَّر ، والبحر ماؤه ثابت لا يزيد . قال سبحانه : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر ، والمراد سبعة أمثاله ، واختار هذا العدد بالذات؛ لأنه مُنتَهى العدد عند العرب .
وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة ، ومنها نعلم أن كمية الماء في الأرض ثابتة لا تزيد؛ لأن ما يتم استهلاكه من الماء يتبخّر ويعود من جديد فالإنسان مثلاً لو شَرِب طيلة عمره مائة طن من الماء ، فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلات في عملية الإخراج تجدها نفس الكمية التي شربها ، وقد تبخرتْ وأخذَتْ دورتها من جديد؛ لذلك يقولون : رُبَّ شربةِ ماء شربها من آدم الملايين .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . . }
(1/5494)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
( قُلْ ) أي : يا محمد ، وهذا كلام جديد { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . . } [ الكهف : 110 ] يعني : خُذُوني أُسْوة ، فأنا لست ملَكاً إنما أنا بشر مثلكم ، وحملتُ نفسي على المنهج الذي أطالبكم به ، فأنا لا آمركم بشيء وأنا عنه بنجْوَى . بل بالعكس كان صلى الله عليه وسلم أقلَّ الناس حَظّاً من مُتَعِ الحياة وزينتها .
فكان في المؤمنين به الأغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدُونَ أغْلى الثياب في حين كان صلى الله عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أنْ يُوقَد في بيته نار لطعام ، وكان يرتدي المرقّع من الثياب ، كما أن أولاده لا يرثونه ، كما يرث باقي الناس ، ولا تحل لهم الزكاة كغيرهم ، فحُرِموا من حَقٍّ تمتع به الآخرون .
لذلك كان صلى الله عليه وسلم أدنى الأسوات أي : أقل الموجودين في مُتع الحياة وزُخْرفها ، وهذا يلفتنا إلى أن الرسالة لم تُجْرِ لمحمد نفعاً دنيوياً ، ولم تُميِّزه عن غيره في زَهْرة الدنيا الفانية ، إنما مَيَّزتْه في القيم والفضائل .
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول : " يرد عليَّ يعني من الأعلى فأقول : أنا لست مثلكم ، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " .
والآية هنا لا تميزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلا في أنه : { يوحى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] فما زاد محمد عن البشر إلا أنه يُوحَى إليه .
ثم يقول تعالى : { أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } [ الكهف : 110 ] أنما : أداة قَصْر { إلهكم إله وَاحِدٌ } [ الكهف : 110 ] أي : لا إله غيره ، وهذه قِمَّة المسائل ، فلا تلتفتوا إلى إله غيره ، ومن أعظم نعم الله على الإنسان أنْ يكونَ له إله واحد ، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً ليوضح لنا هذه المسألة فقال تعالى :
{ ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [ الزمر : 29 ] .
فلا يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه؛ لأنهم متشاكسون مختلفون يَحَارُ فيما بينهم ، إنْ أرضي هذا سخط ذاك . هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد؟ إذن : فمما يُحمَد الله عليه أنه إله واحد .
{ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } [ الكهف : 110 ] الناس يعملون الخير لغايات رسمها الله لهم في الجزاء ، ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها ، لكن هذه الآية تُوضّح لنا غاية أَسْمى من الجنة ونعيمها ، هي لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم ، فقوله تعالى : { يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهًِ } [ الكهف : 110 ] تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى .
فمن أراد لقاء ربه لا مُجرَّد جزائه في الآخرة : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } [ الكهف : 110 ] فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله؛ لأن العمل الصالح دليل على أنك احترمتَ أمر الآخر بالعمل ، ووثقتَ من حكمته ومن حُبِّه لك فارتاحتْ نفسك في ظلِّ طاعته ، فإذا بك إذا أويْتَ إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك ، فلا تجد إلا خيراً تسعَدُ به نفسك ، وينشرح له صدرك ، ولا تتوجَّس شراً من أحد ، ولا تخاف عاقبة أمر لا تُحمَدُ عقباه ، فمَنِ الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفَّقك لها؟
ثم : { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] وسبق أن قُلْنا : إن الجنة أحد ، فلا تشرك بعبادة الله شيئاً ، ولو كان هذا الشيء هو الجنة ، فعليك أنْ تسموَ بغاياتك ، لا إلى الجنة بل إلى لقاء ربها وخالقها والمنعِم بها عليك .
(1/5495)
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالرجل الذي أعدَّ وليمة عظيمة فيها أطايب الطعام والشراب ، ودعا إليها أحبابه فلما دخلوا شغلهم الطعام إلا واحداً لم يهتم بالطعام والشراب ، وسأل عن صاحب الوليمة ليُسلِّم عليه ويأنس به .
وما أصدق ما قالته رابعة العدوية :
كُلُّهم يَعبدُونَ مِنْ خَوْفِ ... نارٍ ويروْنَ النَّجاةَ حَظَّا جَزِيلاً
أَوْ بأنْ يسكنُوا الجِنَان فيحظَوْاَ ... بقصُورٍ ويشْرَبُوا سَلْسَبِيلا
ليسَ لِي بالجنَانِ والنَّارِ حظُّ ... أنَا لا ابتغِي بحُبِّي بَدِيلا
وهذا يشرح لنا الحديث القدسي : " لوْ لَم أخلق جنة وناراً ، أما كنتُ أَهْلاً لأنْ أُعْبَد؟ " .
فلا ينبغي للعبد أن يكون نفعياً حتى في العبادة ، والحق سبحانه وتعالى أهْل بذاته لأن يُعبد ، لا خوفاً من ناره ، ولا طمعاً في جنته ، فاللهم ارزقنا هذه المنزلة ، واجعلنا برحمتك من أهلها .
(1/5496)
كهيعص (1)
هذه خمسة حروف مقطعة ، تُنطق باسم الحرف لا بمُسمَّاه ، لأن الحرف له اسم وله مُسمَّى ، فمثلاً كلمة ( كتب ) مسماها ( كتب ) أما بالاسم فهي كاف ، تاء ، باء . فالاسم هو العَلَم الذي وُضِع للدلالة على هذا اللفظ .
وفي القرآن الكريم سور كثيرة ابتُدِئَتْ بحروف مُقطعة تُنطق باسم الحرف لا مُسمَّاه ، وهذه الحروف قد تكون حَرفاً واحداً مثل : ن ، ص ، ق . وقد تكون حرفين مثل : طه ، طس . وقد تكون ثلاثة أحرف مثل : الم ، طسم . وقد تأتى أربعة أحرف مثل : المر . وقد تأتى بخمسة أحرف مثل : كهيعص ، حمعسق .
لذلك نقول : لا بُدَّ في تعلُّم القرآن من السماع ، وإلاَّ فكيف تُفرِّق بين الم في أول البقرة فتنطقها مُقطَّعة وبين { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] فتنطقها موصولة؟ وصدق الله تعالى حين قال : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ] .
ونلاحظ في هذه الحروف أنه يَنطِق بالمسمّى المتعلم وغير المتعلم ، أما الاسم فلا ينطق به ولا يعرفه إلا المتعلّم الذي عرف حروف الهجاء . فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أميّاًَ لم يجلس إلى معلم ، وهذا بشهادة أعدائه ، فمن الذي علمه هذه الحروف؟
إذن : فإذا رأيت هذه الحروف المقطعة فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى نطق بها بأسماء الحروف ، ونحن نتكلم بمُسمَّيات الحروف لا بأسمائها .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ }
(1/5497)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
الذكْر : له معانٍ متعددة ، فالذكْر هو الإخبار بشيء ابتداءً ، والحديث عن شيء لم يكُنْ لك به سابق معرفة ، ومنه التذكير بشيء عرفته أولاً ، ونريد أن نُذكِّرك به ، كما في قوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] .
ويُطلَق الذكْر على القرآن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] وفي القرآن أفضل الذكر ، وأصدق الأخبار والأحداث . كما يُطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله ، كما جاء في قوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
والذكْر هو الصِّيت والرِّفْعة والشرف ، كما في قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي : فيه صِيتكم وشرفكم ، ومن ذلك قولنا : فلان له ذِكْر في قومه .
ومن الذكْر ذِكْر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة ، وذكْر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ومن ذلك قوله تعالى : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] .
فقوله تعالى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } [ مريم : 2 ] أي : هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به .
والرحمة : هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يُديم له صلاحه لمهمته ، إذن : فكلُّ راحم ولو من البشر ، وكلُّ مرحوم ولو من البشر ، ماذا يصنع؟ يعطى غيره شيئاً من النصائح تُعينه على أداء مهمته على اكمل وجه ، فما بالك إنْ كانت الرحمة من الخالق الذي خلق الخلق؟ وما بالك إذا كانت رحمة الله لخير خَلْقه محمد؟
إنها رحمة عامة ورحمة شاملة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم ، فلا وَحْيَ ولا رسالة من بعده ، ولا إكمال . إذن فهو أشرف الرسل الذين هم أشرف الخَلْق ، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته ، ومهمة محمد أكرم المهمات .
وكلمة ( رَحْمَة ) هنا مصدر يؤدي معنى فعله ، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول ، كما نقول : آلمني ضَرْب الرجل ولدَه ، فمعنى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] أي : رحم ربُّك عبده زكريا .
لذلك قال تعالى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ } [ مريم : 2 ] لأنها أعلى أنواع الرحمة ، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا ، فقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به ، بل هي رحمة عامة لجميع العاملين ، وهذه منزلة كبيرة عالية .
فالمراد من { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] يعنى هذا الذي يُتلَى عليك الآن يا محمد هو ذِكْر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي أجلُّ الرحمات بعبده زكريا .
(1/5498)
وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخَلْق مهانة ومذلَّة ، وهي كلمة بشعة لا تُقبل ، أما العبودية لله تعالى فهي عِزٌّ وشرف ، بل مُنتهَى العِزّ والشرف والكرامة ، وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء وتُحزِن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره ، أما العبودية لله تعالى فيأخذ العبد خير سيده .
لكن ، ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر عبده زكريا؟
قالوا : لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون ، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسبِّبات أسباباً ، ثم قال للأسباب : أنت لست فاعلة بذاتك ، ولكن بإرادتي وقدرتي ، فإذا أردتُك ألاَّ تفعلي أبطلْتُ عملك ، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به .
ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم ، أو بجَعْل النار بَرْداً وسلاماً على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم؛ لأنه كان من الممكن ألاَّ يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه ، أو يُنزِل مطراً يُطفئ ما أوقدوه من نار ، لكن ليست نكاية القوم في هذا ، فلو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم ، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا : لو كُنَّا تمكنّا منه لفعلنا كذا وكذا ، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا .
إذن : شاءت إرادة الله أنْ تكيد هؤلاء ، وأن تُظهِر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتُمكّنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلاً ، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] .
وكذلك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلاً على طلاقة القدرة في مسألة الخَلْق ، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسباباً ، فمَنْ أخذ بالأسباب يصل إلى المسبِّب ، ولكن إياكم أنْ تُفتَنوا في الأسباب؛ لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب ، وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبِّبات دون أسباب .
وقد تجلَّتْ طلاقة القدرة في قصة بَدْء الخَلْق ، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة ، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب والخالق سبحانه يُدير خلقه على كُلِّ أوجه الخَلْق ، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى ، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر .
فالقدرة الإلهية إذن غير مُقيَّدة بالأسباب ، وتظلّ طلاقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ الساعة ، فنرى الرجل والمرأة زوجين ، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبِّب سبحانه ، فهو القائل :
(1/5499)
{ لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 4950 ] .
وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أنْ يرزقَه الولد . قال تعالى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] .
أي : رحمه الله ، لكن متى كانت هذه الرحمة؟
يقول الحق تبارك وتعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ }
(1/5500)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
أي : في الوقت الذي نادى فيه ربه نداءً خفياً .
والنداء لَوْن من ألوان الأساليب الكلامية ، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر ، وهو أن تخبر عن شيء بكلام يحتمل الصدق أو الكذب . وإنشاء ، وهو أنْ تطلب بكلامك شيئاً ، والإنشاء قَوْلٌ لا يحتمل الصدق أو الكذب .
والنداء من الإنشاء؛ لأنك تريد أن تنشىء شيئاً من عندك ، فلو قُلْت : يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالاً عليك ، فالنداء إذن طلبُ الإقبال عليك ، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى؟ إنك لا تنادى إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك .
فكيف تنادى ربك تبارك وتعالى وهو أقرب إليك من حبل الوريد؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم؟ فإذا كان إقباله عليك موجوداً في كل وقت ، فما الغرض من النداء هنا؟ نقول : الغرض من النداء : الدعاء .
ووَصْف النداء هنا بأنه : { نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] لأنه ليس كنداء الخَلْق للخَلْق ، يحتاج إلى رَفْع الصوت حتى يسمع ، إنه نداء لله تبارك وتعالى الذى يستوي عنده السر والجهر ، وهو القائل : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ الملك : 13 ] .
ومن أدب الدعاء أنْ ندعوَه سبحانه كما أمرنا : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] .
وهو سبحانه { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] أي : وما هو أَخْفى من السر؛ لأنه سبحانه قبل أن يكون سِرّاً ، علم أنه سيكون سراً .
لذلك ، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي؛ لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء ، إنْ سمعه غيره ربما استنقصه ، فجعل الدعاء خَفياً بين العبد وربه حتى لا يُفتضحَ أمره عند الناس .
أما الحق سبحانه فهو ستَّار يحب الستر حتى على العاصين ، وكذلك ليدعو العبد رَبَّه بما يستحي أنْ يذكره أمام الناس ، وليكون طليقاً في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء؛ لأنه ربُّه ووليه الذي يفزع إليه . وإنْ كان الناس سيحزنون ويتضجرون إن سألتهم أدنى شئ ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته .
لكن لماذا أخفي زكريا دعاءه؟
دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها مُعطَّلة عنده؛ لذلك توجه إلى الله بالدعاء : يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خَرْق الناموس والقانون ، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته .
أخفاه أيضا؛ لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ، إلاّ أنه لم يأتمنهم على منهج الله؛ لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ، فكيف يأمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم؟ فإذا دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده ، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه؛ لذلك جاء دعاؤه خفياً يُسِرُّه بينه وبين ربه تعالى .
(1/5501)
سؤال آخر تنبغي الإجابة عليه هنا : لماذا يطلب زكريا الولد في هذه السن المتأخرة ، وبعد أن بلغ من الكبر عتياً ، وأصبحت امرأته عاقراً؟
لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] .
إذن : فالعِلَّة في طلب الولد دينية مَحْضة ، لا يطلبه لمغْنَم دنيوي ، إنما شغفه بالولد أنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد .
لذلك قوله : ( يرثني ) هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض؛ لأن الأنبياء لا يورثون ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم .
فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى؛ لذلك قال بعدها : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] أي : النبوة التي تناقلوها . فلا يستقيم هنا أبداً أن نفهم الميراث على انه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] ففي أيِّ شئ ورثه؟ أورثه في تركته؟ إذن : فما موقف إخوته الباقين؟ لا بد أنه ورثه في النبوة والملك ، فالمسألة بعيدة كل البعد عن الميراث المادي .
ثم يقول الحق سبحانه أن زكريا عليه السلام قال : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ }
(1/5502)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
هذا هو النداء ، أو الدعاء الذي دعا به زكريا عليه السلام : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] ويرد في الدعاء أن نقول : يا رب . أو نقول : يا الله ، فقال زكريا ( رب ) أي : يا رب؛ لأنه يدعو بأمر يتعلق بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمن والكافر ، إنه يطلب الولد ، وهذا أمر يتعلق ببنية الحياة وصلاحها للإنجاب ، وهذه من عطاء الرب سبحانه وتعالى ، وإن كانت العلقة في طلب الولد إلهية ، وهي أنْ يحمل المنهج من بعد أبيه .
فكأن زكريا عليه السلام دعا ربه : يا ربّ يا مَنْ تعطي مَنْ آمن بك ، وتعطي مَنْ كفر ، يا مَنْ تعطي مَنْ أطاع ، وتعطي مَنْ عصى ، حاشاك أن تمنع عطاءك عمَّن أطاعك ويدعو الناس إلى طاعتك .
أما الدعاء بالله ففي أمور العبادة والتكليف .
ثم يُقدِّم زكريا عليه السلام حيثيات هذا المطلب : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] والوَهَن هو الضعف ، وقال : { وَهَنَ العظم } [ مريم : 4 ] لأن لكل شيء قواماً في الصلابة والقوة ، فمثلاً الماء له قوام معروف والدُّهْن له قوام ، واللحم له قوام ، والعصب والعظم وكل عناصر تكوين الإنسان ، والعَظْم هو أقوى هذه الأشياء ، والعَظْم في بناء الجسم البشري مثل ( الشاسيه ) في لغة العصر الحديث ، وعلى العظم يبنى جسم الإنسان من لحم ودم وعصب ، فإذا أصاب العظام وهي أقوى العناصر ضعفٌ ووهنٌ فغيرها من باب أَوْلى .
لذلك ، فإن الرجل العربي حينما شكا الجدب والقحط ماذا قال؟ قال : مرَّتْ بنا سنون صعبة : فَسنة أذابتْ الشحم أي : بعد الجوع وعدم الطعام وسنة أذهبت اللحم أي : بعد أن أنهت الشحم وسنة محَّت العظم .
فكأن العَظْم هو آخر مخزن من مخازن القوت في جسم الإنسان ساعة أن ينقطع عنه الطعام والشراب . والعظم في هذه الحالة يُوجِّه غذاءه للمخ خاصة؛ لأنه ما دام في المخ بقية قبول حياة فما حدث للجسم من تلف قابل للإصلاح والعودة إلى طبيعته ، إذن : فسلامة الإنسان مرتبطة بسلامة المخ .
لذلك نجد الأطباء في الحالات الحرجة يُركِّزون اهتمامهم على سلامة المخ ، ويرتبون عليه حياة الإنسان أو موته ، حتى إن توقف القلب فيمكنهم بالتدليك إعادته إلى حالته الطبيعية ، أما إنْ توقف المخ فهذا يعني الموت .
فكأن نبي الله زكريا عليه السلام يقول : يا رب ضعف عظمي ، ولم يَعُدْ لديَّ إلا المصدر الأخير لاستقباء الحياة .
ولما كان العظم شيئاً باطناً مدفوناً تحت الجلد ، فهوحيثية باطنة ، فأراد زكريا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثية أخرى ظاهرة بينة ، فأتى بأمر واضح : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] فشبّه انتشار الشيب في رَأْسه باشتعال النار ، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار .
(1/5503)
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضاً تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار ، فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت النار في التضاؤل ، حتى تصير جَذْوة لا لَهبَ لها ثم تنطفىء .
واشتعال الرأس بالشيب أيضاً دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لأن الشعر يكتسب لونه من مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في بُصَيْلة الشعرة ، وتُمد الشعرة بهذا اللون ، وضعْفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجياً ، حتى تختفي ، وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء ، والبياض ليس لوناً ، إنما البياض عدم اللون نتيجة ضَعْف الجسم وضَعْف الغُدَد التي تفرز هذا اللون .
لذلك ، نجد المترفين الذين يعنون كثيراً بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لأن السوالف عادة بعد أنْ يُهذِّبها الحلاق تأخذ أكبر قدر من المواد الكاوية التي تؤثر على بُصيْلات الشعر وعلى هذه المادة الملونة ، والشعرة مثل الأنبوبة يسهل توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلاقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة .
ثم يقول : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] أي : لم أكُنْ فيما مضى بسبب دعائي لك شقياً؛ لأني مُستجَابُ الدعوة عندك ، فكما أكرمتني سابقاً بالإجابة فلم أكُنْ شقياً بدعائك ، بل كنتُ سعيداً بالإجابة ، فلا تُخلِف عادتك معي هذه المرة ، واجعلني سعيداً بأنْ تُجيبني ، خاصة وأن طلبي منك طاعة لك ، فأنا لا أريد أنْ أخرج من الدنيا إلاَّ وأنا مطمئن على مَنْ يحمل المنهج ، ويقوم بهذه المهمة من بعدي .
وأنت قد تدعو الله لأمر تحبه ، فإذا لم يأْتِ ما تحبه ولم تحب حزنت وكأنك شقيت بدعائك ، وقد يكون شقاءَ كذب ، لأنك لا تدري الحكمة من المنع وعدم الإجابة ، لا تدري أن الله تعالى يتحكم في تصرفاتك .
وربما دعوْت بأمر تراه الخير من وجهة نظرك وفي علم الله أنه لا خَيْرَ لك فيه ، فمنعه عنك وعدَّل لك ما أخطأتَ فيه من تقدير الخير ، فأعطاك ربك من حيث ترى أنه منعك ، وأحسن إليك من حيث ترى أنه حرمك ، لأنك طلبتَ الخير من حيث تعلم أنت أنه خير ومنع الله من حيث يعلم أن الخير ليس في ذلك .
ثم يذكر زكريا عليه السلام عِلَّة أخرى هي علة العِلَل ولُبّ هذه المسألة ، فيقول : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي }
(1/5504)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
( الموَالِي ) من الولاء ، وهم أقاربه من أبناء عمومته ، فهم الجيل الثاني الذي سيأتي بعده ، ويخاف أنْ يحملوا المنهج ودين الله من بعده؛ لأنه رأى من سلوكياتهم في الحياة عدم أهليتهم لحمْل هذه المهمة .
{ مِن وَرَآئِي } [ مريم : 5 ] سبق أن أوضحنا في سورة ( الكهف ) أن كلمة وراء تأتي بمعنى : خلف ، أو أمام ، أو بعد ، أو غير . وهنا جاءت بمعنى : من بعدي .
ثم يقول : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } [ مريم : 5 ] والعاقر هي التي لا تلد بطبيعتها بداية ، أو صارت عاقراً بسبب بلوغها سِنَّ اليأس مثلاً . ونحن نعلم أن التكاثر والإنجاب في الجنس البشري ينشأ من رجل وامرأة ، وقد سبق أنْ وصفَ زكريا حاله من الضعف والكبر ، ثم يخبر عن زوجته بأنها عاقرٌ لا تلد ، إذن : فأسباب الإنجاب جميعها مُعطلَّة .
وقوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } [ مريم : 5 ] أي : هي بطبيعتها عاقر ، وهذا أمر مصاحب لها ليس طارئاً عليها ، فلم يسبق لها الإنجاب قبل ذلك .
ثم يقول : { فَهَبْ لِي } [ مريم : 5 ] والهِبَة هي العطاء بلا مقابل ، فالأسباب هنا مُعطَّلة ، والمقدمات تقول : لا يوجد إنجاب؛ لذلك لم يقُلْ مثلاً : أعطني؛ لأن العطاء قد يكون عن مقابل ، أما في هذه الحالة فالعطاء بلا مقابل وبلا مقدمات ، فكأنه قال : يارب إنْ كنتَ ستعطيني الولد فهو هِبَة منك لا أملك أسبابها؛ لذلك قال في آية أخرى عن إبراهيم عليه السلام : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ إبراهيم : 39 ] .
ولنا وَقْفة ومَلْحظ في قوله تعالى { عَلَى الكبر } [ إبراهيم : 39 ] حيث قال المفسرون : ( على ) هنا بمعنى ( مع ) و ( على ) ثلاثة أحرف و ( مع ) حرفان ، فلماذا عدل الحق تبارك وتعالى عن الخفيف إلى الثقيل؟ لا بد أن وراء هذه اللفظ إضافةً جديدة ، وهي أن ( مع ) تفيد المعية فقط ، أما ( على ) فتفيد المعية والاستعلاء ، فكأنه قال : إن الكِبَر يا رب يقتضي ألاَّ يوجد الولد ، لكن طلاقة قدرتك أعلى من الكِبَر .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] كأن الظلم يقتضي أن يُعاقبوا ، لكن رحمة الله بهم ومغفرته لهم عَلَتْ على استحقاق العقاب .
وقوله : { مِن لَّدُنْكَ } [ مريم : 5 ] أي : من عندك أنت لا بالأسباب ( وَلِياً ) أي : ولداً صالحاً يليني في حَمْل أمانة تبليغ منهجك إلى الناس لِتسْلَم لهم حركة الحياة .
ثم يقول : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ }
(1/5505)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
سبق أن أوضحنا أن الميراث هنا لا يُراد به ميراث المال؛ لأن الأنبياء لا يورثون ، وما تركوه من مال فهو صدقة من بعدهم ، إنما المراد هنا ميراث العلم والنبوة والملْك ، وحَمْل منهج الله إلى الناس ، ونلحظ أنه لم يكتَفِ بقوله ( يَرِثُنِي ) بل قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] فلستُ أنا القمة في الطاعة في آل يعقوب ، فهناك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وهذا تواضع منه ومراعاة لأقدار الرجال وإنزالهم منازلهم .
وقوله : { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] أي : مرضياً عنه منك .
ثم يقول الحق سبحانه : { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ }
(1/5506)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
المتأمل لهذه القصة يجد هذه الآية قد اختصرت من القصة ما يفهم من سياقها ثقةً في نباهة السامع ، وأنه قادر على إكمال المعنى ، فكأن معنى الآية : سمع الله دعاء زكريا وحيثيات طلبه ، فأجابه بقوله : { يازكريآ } [ مريم : 7 ] .
وتوجيه الكلام إلى زكريا عليه السلام هكذا مباشرة دليلٌ على سرعة الاستجابة لدعائه ، فجاءت الإجابة مباشِرة دون مُقدِّمات .
ومثال ذلك : ما حكاه القرآن من قصة سليمان عليه السلام وبلقيس ، قال سليمان : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [ النمل : 3840 ] فبيْنَ قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] وقوله : { رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] كلام يقتضيه سياق القصة ، كأن نقول : فأذِن له فذهب وأتى بالعرش ، لكن جاء الأسلوب سريعاً ليتناسب مع سرعة الحدث في إحضار عرش بلقيس من مكانه .
وقوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [ مريم : 7 ] البشارة : هي الإخبار بما يسرُّك قبل أن يجيء ليستطيل أمدَ الفرح بالشيء السَّار ، وقد يُبشرك مُساويك ويكذب في البُشْرى ، وقد تأتي الظروف والأحداث مُخالفة لما يظنه ، فكيف بك إذا بشّرك الله تعالى؟ ساعة أن تكون البشارة من الله فاعلم أنها حَقٌّ وواقعٌ لا شكَّ فيه .
وقوله : { بِغُلاَمٍ اسمه يحيى } [ مريم : 7 ] أي : وسماه أيضاً . ونحن نعلم أن للبشر اختيارات في وَضْع الأسماء للمسميات ، ولهم الحرية في ذلك ، فواحدة تُسمى ولدها ( حرنكش ) هي حرة ، والأخرى تسمى ابنتها الزنجية ( قمر ) هي أيضاً حرة .
إلا أن الناس حين يُسمُّون يتمنون في المسمّى مواصفات تَسرُّ النفس وتقرُّ العين ، فحين نُسمِّي سعيداً تفاؤلاً بأن يكون سعيداً فعلاً ، والاسم وُضِع للدلالة على المسمى ، لكن ، أيملك هذا المتفائل أن يأتي المسمى على وَفْق ما يحب ويتمنى؟ لا ، لا يملك ذلك ولا يضمنه؛ لأن هناك قوة أعلى منه تتحكم في هذه المسألة ، وقد يأتي المسمَّى على غير مُراده .
أما إذا كان الذي سمّى هو الله تعالى فلابد أن يتحقق الاسم في المسمَّى ، وينطبق عليه ، ولابُدَّ أنْ يتحقَّق مراده تعالى في مَنْ سَمَّاه ، وقد سَمَّى الحق تبارك وتعالى ابن زكريا يحيى فلا بُدَّ أن تنطبق عليه هذه الصفة ، ويحيى فعل ضده يموت ، إذن : فهو سبحانه القادر على أن يُحييه ، لكن يحييه إلى متى؟ وكم عاماً؟ الحياة هنا والعيش يتحقق ولو بمتوسط الأعمار مثلاً ، فقد أحياه وتحققت فيه صفة الحياة .
ولذلك استدل أهل المعرفة من تسميته يحيى على أن ابن زكريا سيموت شهيداً ليظل حياً كما سماه الله وقد كان .
(1/5507)
وقوله : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [ مريم : 7 ] السميُّ : اختلف العلماء في معناها فقالوا : تأتي بمعنى : نظير أو مثيل أو شبيه وإما سمياً يعني : اسمه كاسمه .
ومن ذلك قوله تعالى : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] فقالوا : سمياً هنا تحمل المعنيين : هل تعلم له نظيراً أو شبيهاً؛ لأنه سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] .
ويمكن أن نقول بهذا المعنى أيضاً في قصة يحيى عليه السلام ، إلا أنه يقع فيه شيء وهو : أن الله تعالى حينما قال في مسألة يحيى : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [ مريم : 7 ] واعتبرناها بمعنى المِثْل أو النظير والشبيه ، فهذا يعني أنه لم يسبق يحيى واحد مثله في الصلاح والتقوى ، فأين إذن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام؟ وأين إسماعيل وإسحق؟
فهذا المعنى وإن كان السياق يحتمله في غير هذا الموضع إلا أنه لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى جعل من قَبْل يحيى مَنْ هو أفضل من يحيى ، أو مثله على الأقل .
أما المعنى الآخر فيكون : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] أي : هل هناك مَنْ تسمى باسمه تعالى؟ وهذا هو المعنى الذي يستقيم في قصة يحيى عليه السلام؛ لأنه أول اسم وضعه الحق سبحانه على ابن زكريا ، ولم يكن أحدٌ تسمى به من قبل ، أما بعده فقد انتشر هذا الاسم ، حتى قال الشاعر :
وسَمَّيتُه يَحْيى ليحيى فلم يكُنْ ... لِردِّ قَضَاءِ اللهِ فِيهِ سَبِيلُ
ونقف هنا على آية من آيات الله في التسمية ، حيث لم يجرؤ أحد حتى من الكفرة والملاحدة الذين يجاهرون بإلحادهم ويعلنون إنكارهم للخالق سبحانه ، لم يجرؤ أحدهم أن يسمى ولده ( الله ) ، وحرية اختيار الأسماء مكفولة ، وهذا إنْ دَلَّ فإنما يدلُّ على أن كفرهم عناد ولَجَجٌ ، وأنهم غير صادقين في كُفْرهم ، ويعلمون أن الله موجود؛ لذلك يخافون على أنفسهم وعلى أولادهم أنْ يُسمّوا بهذا الاسم .
إذن : كلمة ( سَمِياً ) في مسألة الألوهية تُؤخَذ على المعنيين ، أما في مسألة يحيى فلا تحتمل إلا المعنى الثاني .
وَهبْ أن الحق سبحانه وتعالى استعرض الأسماء السابقة فلم يجد في الماضي من سُمِّى ( الله ) فأعلنها تحدياً : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] ؟ فلم يحدث بعد هذا التحدي أنْ يُسمَّى أحد بهذا الاسم .
(1/5508)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
لما سمع زكريا عليه السلام البشارة من ربه ، واطمأن إلى حصولها أغراه ذلك في أنْ يُوغل في معرفة الوسيلة ، وكيف سيتم ذلك ، وتتحقق هذه البشارة حالَ كوْنه قد بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر؟
لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله ، وهو يعلم تماماً أن الله تعالى عالم بحاله وحال زوجه؟ الواقع أن زكريا عليه السلام لا يستنكر حدوث هذه البشرى ، ولا يستدرك على الله ، وحاشاه أنْ يقصد ذلك ، وإنما أطمعته البُشْرى في أنْ يعرف الكيفية ، كما حدث في قصة موسى عليه السلام حينما كلَّمه ربه واختاره ، وأفرده بهذه الميزة فأغراه الكلام في أنْ يطلب الرؤيا ، فقال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] .
وكما حدث في قصة إبراهيم عليه السلام لما قال لربه : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] وأبو الأنبياء لا يشكّ في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، ولكنه يريد أنْ يعرف هذه الطريقة العجيبة ، فالكلام ليس في الحقيقة وجوداً وعدماً ، إنما في كيفية وجود الحقيقة ، والكلام في الكيفية لا دخْلَ له بالوجود .
فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة لا تُقال إنما تُباشَر عملياً ، فأمره بما نعلم من هذه القصة : وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه ، ثم يضمهنّ إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها ، ثم أمره أنْ يُقطِّعهن أجزاء ، ثم يُفرِّق هذه الأجزاء على قمم الجبال ، ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أنْ يدْعُوَهُن بنفسه ، وأن يصدر الأمر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدبّ فيها الحياة من جديد ، وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل ، بل جعل مَنْ لا يستطيع ذلك يفعله . ويقدر عليه .
فإنْ كان البشر يُعَدُّون أثر قدرتهم إلى الضعفاء ، فمَنْ لا يقدر على حَمْل شيء يأتي بمَنْ يحمله له ، ومَنْ يعجز عن عمل شيء يأتي بمَنْ يقوم به ، ويظل هو ضعيفاً لا يقدر على شيء ، أما الحق سبحانه وتعالى فيُعدِّي قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قوياً قادراً على الفعل .
فقوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ مريم : 8 ] ؟ سؤال عن الكيفية ، كما أن إبراهيم عليه السلام لما قال له ربه : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } [ البقرة : 260 ] ؟ أي : بقدرتي على إحياء الموتى ، قال ( بَلَى ) أي : نعم أومن { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] أي : الكيفية التي يتم بها الإحياء .
أو : أن زكريا عليه السلام بقوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ مريم : 8 ] يريد أن يُوثِّق هذه البشرى ويُسجِّلها ، كما تَعِد ولدك بأنْ تشتري له هدية فيُلِحّ عليك في هذه المسألة ليؤكد وَعْدك له ، ويستلذ بأنه وَعْد مُحقَّق لا شكَّ فيه ، ثم يذكر زكريا حيثيات تعجُّبه من هذا الأمر فيقول :
{ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] .
(1/5509)
عتياً : من عَتَا يعني طغى وتجبر وأفسد كثيراً ، والعُتُو : الكفر ، والعَتيّ : هو القوي الذي لا يُغالب؛ لذلك وصف الكِبَر الذي هو رمز للضعف بأنه عَتِيّ؛ لأن ضعف الشيب والشيخوخة ضَعْف لا يقدر أحد على مقاومته ، أو دفعه أبداً ، مهما احتال عليه بالأدوية والعقاقير ( والفيتامينات ) .
ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلام؛ وتُلِح عليه؛ لأنه دعا الله كثيراً أنْ يرزقه الولد ، ففي موضع آخر يقول : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] . فزكريا عليه السلام يريد الولد الذي يَرِثه وهو موروث؛ لأن الله تعالى خير الوارثين .
لكن يأتي الرد : { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] ونلاحظ أنه تعالى قبل أن يقول : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] التي ستنجب هذا الولد ، قال : { وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } [ الأنبياء : 90 ] فصلاح الزوجَة ليس شرطاً في تحقُّق هذه البشرى وحدوث هذه الهبة .
وهنا مظهر من مظاهر طلاقة القدرة الإلهية التي لا يُعجِزها شيء ، فهو سبحانه قادر على إصلاح هذه الزوجة العاقر ، فالصنعة الإلهية لا تقف عند حَدٍّ ، كما لو تعطَّل عندك أحد الأجهزة مثلاً فذهبتَ به إلى الكهربائي لإصلاحه فوجد التلفَ به كبيراً ، فينصحك بترْكه وشراء آخر جديد ، فلا حيلةَ في إصلاحه .
لذلك أصلح الله تعالى لزكريا زوجه حتى لا نظنَّ أن يحيى جاء بطريقة أخرى ، والزوجة ما تزال على حالها .
ثم يقول الحق : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ }
(1/5510)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
( قَالَ ) أي : الحق تبارك وتعالى { كذلك قَالَ رَبُّكَ } [ مريم : 9 ] أي : أنه تعالى قال ذلك وقضى به ، فلا تناقش في هذه المسألة ، فنحن أعلَم بك وما أنتَ فيه من كِبَر ، وأن زوجتك عاقر ، ومع ذلك سأهبك الولد .
وقوله تعالى : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] وفي آية أخرى يقول في آية البعث : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] فلا تظن أن الأمر بالنسبة لله تعالى فيه شيء هَيِّن وشيء أَهْوَن ، وشيء شاقّ ، فالمراد بهذه الألفاظ تقريب المعنى إلى أذهاننا .
والحق سبحانه يخاطبنا على كلامنا نحن وعلى منطقنا ، فالخَلْق من موجود أهون في نظرنا من الخلق من غير موجود ، كما قال الحق سبحانه تعالى : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ] .
إذن : فمسألة الإيجاد بالنسبة له تعالى ليس فيها سَهْل وأسْهَل أو صَعْب وأصعب ، لأن هذه تُقال لمَنْ يعمل الأعمال علاجاً ، ويُزوالها مُزَاولة ، وهذا في إعمالنا نحن البشر ، أما الحق تبارك وتعالى فإنه لا يعالج الأفعال ، بل يقول للشيء كُنْ فيكون : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
ثم يُدلّل الحق سبحانه وتعالى بالأَقْوى ، فيقول : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] فلأن يوجد يحيى من شيء أقلّ غرابة من أن أوجد من لاشيء . ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً }
(1/5511)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
( آية ) أي : علامة على أن امرأته قد حملتْ في يحيى ، وكأن زكريا عليه السلام يتعجل الأمور ولا صبرَ له طوال تسعة أشهر ، بل يريد أن يعيش في ظِلِّ هذه النعمة ، وكأنها واقع لا ينفكّ لسانه حامداً شاكراً عليها ، وتظل النعمة في باله رغم أن ولده ما يزال جنيناً في بطن أمه .
فيجيبه ربه : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] علامتك أَلاَّ تُكَلِّم الناس ثلاث ليال و ( أَلاَّ ) ليست للنهي عن الكلام ، بل هي إخبار عن حالة ستحدث له دون إرادته ، فلا يكلم الناس مع سلامة جوارحه ودون عِلَّة تمنعه من الكلام ، كخرس أو غيره .
لذلك قال : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] أي : سليماً مُعاَفىً ، سويّ التكوين ، لا نقص فيك ، ولا قصور في جارحة من جوارحك . وهكذا لا يكون عدم الكلام عَيْباً ، بل آية من آيات الله .
وهناك فَرْق بين أمر كونيٍّ وأمر شرعي ، الأمر الكونيُّ هو ما يكون وليس لك فيه اختيار في ألاَّ يكون ، والأمر الشرعيّ ما لك فيه اختيار من الممكن أن تطعيه فتكون طائعاً ، أو تعصيه فتكون عاصياً .
وهذا الذي حدث لزكريا أمر كوني ، وآية من الله لا اختيار له فيها ، وكأن الحق سبحانه يعطينا الدليل على أنه يوجد مِنْ لا مظنّة أسباب ، وقد يبقي الأسباب سليمة صالحة ولا يظهر المسبِّب ، فاللسان هنا موجود ، وآلات النطق سليمة ، ولكنه لا يقدر على الكلام .
فتأمل طلاقة القدرة ، فقد شاء سبحانه لزكريا الولد بغير أسباب ، وهنا منع مع وجود الأسباب ، فكلا الآيتين سواء في قدرته تعالى ومشيئته .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ }
(1/5512)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
إذن : حدثتْ هذه المسألة لزكريا وهو في ( المحرَابِ ) أي : مكان العبادة والصلاة ، وعادةً ما يكون مرتفعاً على شرف عما حوله ، وكان مصلى الأنبياء والصالحين ، وسُمي محراباً لأنه يحارب فيه الشيطان بكيْده ووسوسته . وقد ذُكر المحراب أيضاً في قصة داود عليه السلام : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } [ ص : 21 ] .
وقد وردتْ هذه اللقطة من قصة زكريا عليه السلام في آية أخرى دَلَّتْ أيضاً على أن البشارة بيحيى كانت وهو في محرابه ، حيث قال تعالى : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً } [ آل عمران : 39 ] .
وقوله تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ } [ مريم : 11 ] قلنا : إن الوَحْي له معنى لُغَويّ ومعنى شرعي ، الوحي لُغةً : الإخبار بطريق خفيٍّ . وعلى هذا المعنى يأتي الوحي بطرق متعددة ، فالله تعالى يُوحِي للرسل والأنبياء ، ويُوحي لغير الرسل من المصطفين ، كما في قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] أي : أخبرها بطريق خفيٍّ ، هو طريق الإلهام .
ويُوحِي إلى الملائكة : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] .
ويُوحِي للصالحين من أتباع الرسل : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } [ المائدة : 111 ] .
ويتعدَّى الإعلام بخفاء إلى الحشرات : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] .
بل يتعدَّى الوحي إلى الجماد في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 15 ] .
وقد يُوحي الشياطين بعضهم إلى بعض : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] .
ويُوحون إلى أوليائهم : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] لأن الشيطان لا يأتي الإنسان إلا بطريق خفيٍّ ، ووسوسة في خواطره .
أما الوحي الشرعي فهو إعلام من الله وحده إلى نبي يدَّعي النبوة ومعه معجزة ، إذن فالوحي : إعلام خفيّ من الله للرسول .
فقوله تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ } [ مريم : 11 ] أي : قال لهم بطريق الإشارة؛ لأنه لا يتكلم { أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] بُكرة : أول النهار ، وعَشياً : آخره ، يعني : طوِّقوا النهار بالتسبيح بداية ونهاية . وكأن زكريا عليه السلام قد بدتْ عليه علامات الفرح والإنبساط بالبُشْرى ، ورأى أن شُكْره لله وتسبيحه لا ينهض بهذه النعمة ، فأمر قومه أنْ يُسبِّحوا الله معه ، ويشكروه معه على هذه النعمة؛ لأنها لا تخصُّه وحده ، بل هي عامة لكل القوم .
ثم يقول تعالى : { يايحيى خُذِ الكتاب }
(1/5513)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
نلحظ أن الآية الكريمة انتقلتْ بنا نَقْلة واسعة ، وطوَتْ فترة طويلة من حياة يحيى عليه السلام فقد كان السياق يتحدث عنه وهو بُشْرى لوالده ، وهو ما يزال في بطن أمه جنيناً ، وفجأة يخاطبه وكأنه أصبح أمراً واقعاً : { يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] فقد بلغ مبلغ النُّضْج ، وأصبح أهْلاً لحمْل مهمة الدعوة ، إذن : المسألة مأخوذة مأخَذ الجدِّ ، وهي حقيقة واقعة .
وقوله : { خُذِ الكتاب } [ مريم : 12 ] أي : التوراة ، وفيها منهج الله الذي يُنظِّم لهم حركة حياتهم { بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] أي : بأخلاص في حِفْظه وحِرْص على العمل به؛ لأن العلم السماوي والمنهج الإلهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به .
وإلا فقد قال تعالى في بني إسرائيل : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] فقد حَمَّلهم الله التوراة ، فلم يحملوها ولم يعملوا بها .
والقوة : هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولاب الحياة حركةً وسكوناً ، وخُذْ مثلاً سفينة الفضاء التي تنطلق إلى الفضاء الخارجي ، وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل : من أين لها بالوقود الذي يُحرّكها طوال هذه المدة؟ والحقيقة أنها لا تحتاج : إلى وقود إلا بمقدار ما يُخرِجها من مدار الجاذبية الأرضية ، فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ولا تتوقف إلا بقوة توقفها ، وكذلك الساكن يظل ساكناً إلى أنْ تأتيَ قوة تحركه .
إذن : القوة إمّا أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسْكِن المتحرك وتصده ، ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية من مصدَّات تُوقِف القطارات؛ لأنك إنْ أردتَ أن توقف القطار تمنع عنه الوقود ، لكن يظل به قوة دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه ، وهذا ما يسمونه قانون العطالة . يعني : إن كان الشيء متحركاً فيحتاج إلى قوة توقفه ، وإن كان ساكناً يحتاج إلى قوة تحركه .
ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس ، وتلاحظه إذا تحركتْ بك السيارة تجد أن جسمك يندفع للخلف؛ لأنها تحركتْ للأمام وأنت ساكن ، فإنْ توقفتْ السيارة تحرَّك جسمك للأمام لأنها توقفت وأنت متحرك . إذن : هذه الأشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة .
فقوله تعالى : { خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] لأن الكتاب فيه أوامر وفيه نَوَاهٍ ، يأمر بالخير وينهاك عن الشر ، فإنْ أمركَ بالخير وأنت لا تفعله تحتاج إلى قوة دَفْع تدفعك إلى الخير ، وكأنك كنتَ ساكناً تحتاج إلى قوة تحركك ، وإنْ نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجة إلى قوة تمنعك وتوقف حركتك في الشر . والمنهج هو هذه القوة التي تُحرِّكك إلى الخير وأنت ساكن ، وتُسكنك عن الشر وأنت متحرك .
ثم يقول تعالى : { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] الحكم : العلم والفهم للتوراة ، أو الطاعة والعبادة ، { صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] في سِنٍّ مبكرة؛ لأن المسألة عطاء من الله لا يخضع للأسباب ، فجاء يحيى عليه السلام مُبكِّر النضج والذكاء ، يفوق أقرانه ، ويسبق زمانه ، وقد أُثِر عنه وهو صغير أنْ دعاه أقرانه للعب فقال لهم : " ما للعب خُلِقْنا " .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا }
(1/5514)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
ولأن يحيى جاء إلى الدنيا حال كِبَر وضعف والديه ، وهو كطفل يحتاج مَنْ يشمله بالعطف والحنان ، ويُعوِّضه حنان الوالدين ، ويحتاج إلى مَنْ يُعلِّمه ويُربِّيه؛ لذلك تولِّى الحق سبحانه وتعالى هذه المهمة ، فهو سبحانه خالقه ومُسمِّيه ومُتولّيه فوهبه حناناً منه سبحانه { مِّن لَّدُنَّا } [ مريم : 13 ] من عندنا؛ لأن طاقة الحنان عند الوالدين قد نضبتْ .
وقوله : { وَزَكَاةً } [ مريم : 13 ] أي : طهارة من الذنوب وصفاءَ نفْسٍ وبركة ، وهذه كلها نتيجة التربية الإلهية بمنهج الله الذي يرسم له حركته في الحياة : افعل كذا ولا تفعل كذا .
{ وَكَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 13 ] أي : استجاب لهذا الحنان ، وأثمرت فيه هذه التربية فكان تقياً ، أي : مُنفذاً لأوامر الله مُجتنباً لنواهيه ، وبذلك وقَى نفسه من صفات الجلال من الله تعالى .
وقلنا : إن التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما تتقيه مانعاً يحميك ويبعدك عن إيذائه ، فنقول : اتقِ الله واتقِ النار ، كيف ذلك ونحن نريد أن نصل إلى معيته سبحانه؟
نقول : اتق الله أي : اجعل بينك وبين صفات جلاله وجبروته وقايةً تحميك من جبروته وجباريته وقهره ، فلسْت مطيقاً لأدنى شيء من العذاب ، والنار من جنود الله ومظهر من مظاهر قهره ، فاتقاء النار جزء من اتقاء الله ، والوقاية التي تحميك من صفات الجبروت والجلال هي الطاعة بامتثال الأوامر والنواهي .
ثم يقول تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن }
(1/5515)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
فرغم أن يحيى عليه السلام جاء أبويْه في حال كِبَرهما وضعفهما ، ولم يجد منهما الحنان الكافي والتربية المناسبة ، ولم يشعر معهما بالأُبوة الكاملة ، فكان دورهما في حياته ثانوياً ، وحمايلهم عليه باهتة متواضعة ، مع هذا كله كان باراً بهما حانياً عليهما . وقال عنه أيضاً : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] .
وصفة الجبروت وصفة العصيان لا يُتصوَّران من الولد على والديه ، إلا حين يرى من أبيه شروداً عنه وانصرافاً عن رعايته ، وحين يرى من أمه انشغالاً عن تربيته ، فهي تاركة له غير مُراعية لحقه .
لذلك نرى صوراً من هذا الجبروت ومن هذا العصيان ، ونسمع مَنْ يقسو على أمه وعلى أبيه؛ لأنه لم يجد منهما العطف والحنان والرعاية ، فتقعطتْ بينهما أواصر الأبوة . ويبدو أن زكريا حكى لولده ما حدث ، وقصَّ عليه قِصّته ، فتفهَّم الولد دور والديه ونفى عنهما أيّ تقصير ، فكان بهما باراً رحيماً ، ولهما طائعاً متواضعاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ }
(1/5516)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
هذه مسائل ثلاث تُعَدُّ أعلام حياة للإنسان : الميلاد ، والموت ، والبعث . وقد خَصَّه الله بالسلام يوم مولده؛ لأنه وُلِد على غير العادة في الميلاد فأُمّه عاقر أسنتْ ، ومع ذلك لم تتعرض لألسنة الناس ولم يعترض أحد على ولادتها ، وهي على هذا الوصف ، فلم يتجرأ أحد عليها؛ لأن ما حدث لها كان آيةً من آيات الله وقد بشّر الله بها زكريا لتكون البُشْرى إعداداً ومقدمة لهذا الحدث العجيب .
وخَصَّه بالسلام يوم يموت؛ لأنه سيموت شهيداً ، والشهادة غير الموت ، الشهادة تعطيه حياة موصولةً بالحياة الأبدية الخالدة . وكذلك خَصَّه بالسلام يوم القيامة يوم يُبعث حيّاً .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { واذكر فِي الكتاب }
(1/5517)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
وقصة مريم في واقع الأمر كانت قبل قصة زكريا ويحيى؛ لأن طلب زكريا للولد جاء نتيجة لما سمعه من مريم حين سألها عن طعام عندها لم يأْتِ به ، وهو كافلها ومُتولّي أمرها ، فتعجب أنْ يرى عندها رِزْقاً لم يحمله إليها ، وهي مقيمة على عبادتها في محرابها ، فقال لها : { يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] .
وكأن هذا أول بداية قانون : من أين لك هذا؟ لكن عطاءه تعالى لا يخضع للأسباب ، بل هو سبحانه يرزق مَنْ يشاء متى شاء وبغير حساب .
وشاءتْ إرادة الله أن تنطِقَ مريم بهذه المقولة : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] لأنها ستُنبِّه زكريا إلى شيء ، وستحتاجها أيضاً مريم فيما بعد حينما تشعر بالحَمْل من غير زَوْج ، فلن تعترض على هذا الوضع ، وستعلم أنه عطاءٌ من الله .
وكذلك نبَّهتْ هذه الآية زكريا عليه السلام إلى فَضْل الله وسِعَة رحمته ، وهذا أمر لا يغيب عن نبي الله ، ولكن هناك قضايا في النفس البشرية إلا أنها بعيدة عن بُؤْرة الشعور وبعيدة عن الاهتمام ، فإذا ما ذُكِّر بها انتبه إليها؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] .
فما دام أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب ، فلماذا لا أدعو الله بولد صالح يحمل أمر الدعوة من بعدي ، وطالما أن الرزق بغير حساب فلن يمعنه كِبَر السِّنِّ أو العُقْم أو خلافه .
إذن : فمريم هي التي أوحَتْ لزكريا بهذا الدعاء ، واستجاب الله لزكريا ورزقه يحيى؛ ليكون ذلك مقدمة وتمهيداً لمريم ، فلا تنزعج من حَمْلها ، وتردّ هذه المسألة إلىأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب ، وليكون ذلك إيناساً لنفسها واطمئناناً ، وإلاَّ فمن الممكن أن تلعبَ بها الظنون وتنتابها الشكوك ، وتتصور أن هذا الحمْل نتيجة شيء حدث لم تشعر به ، أو كانت نائمة مثلاً .
لكن الحق تبارك وتعالى يقطع عنها كل هذه الشكوك ، ويعطيها مقدمة تراها وتعايشها بنفسها في طعام لم يَأْتِ به أحد إليها ، وفي حَمْل زوجة زكريا وهي عاقر لا تلِد .
قوله تعالى : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } [ مريم : 16 ] الكتاب هو القرآن الكريم ، أي : اذكُر يا محمد في كتاب الله الذي أوحاه إليك مما تذكر قصة مريم ، وقد سبق الحديث عن هذه القصة في سورة ( آل عمران ) لما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن نَذْر أمها لما في بطنها لخدمة بيت المقدس ، ولم يكن يصلح لخدمة بيت المقدس إلا الذكْران الذين يتحمَّلون مشقة هذا العمل ، فلما وضعْتها أنثى لم يوافق ظنّها إرادة الله ، ولم تستطع مريم خدمة البيت مكاناً أفرغتْ نفسها لخدمته قِيماً ، وديناً حملتْ نفسها عليه حَمْلاً ، حتى إنها هجرتْ أهلها وذهبت إلى هذا المكان الذي اتخذته خُلْوة لها لعبادة الله بعيداً عن أعيُنِ الناس .
(1/5518)
ومريم هي ابنة عمران ، وقد قال القرآن في خطابها : { ياأخت هَارُونَ } [ مريم : 28 ] ولذلك حدث لَبْسٌ عند كثير من الناس ، فظنوها أخت نبي الله موسى بن عمران وأخت هارون أخي موسى عليهما السلام .
والحقيقة أن هذه المسألة جاءتْ مصادفة اتفقتْ فيها الأسماء؛ لذلك لما ذهب بعض الصحابة إلى اليمن قال لهم أهلها : إنكم تقولون : إن مريم هي أخت موسى وهارون ، مع أن بين مريم وعمران أبي موسى أحد عشر جيلاً!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ذكرتُمْ لهم أن الناس كانوا يتفاءلون بذكِر الأسماء خاصة الأنبياء فيُسمّون على أسمائهم عمران ويسمون على أسمائهم هارون " .
حتى ذكروا أنهم في جنازة بعض العلماء سار فيها أربعة آلاف رجل اسمهم هارون . إذن : فالأسماء هنا مصادفة ، فهي ابنة عمران ، لكن ليس أبا موسى ، وأخت هارون ، لكن ليس هو أخو موسى .
وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم مريم وخصَّها وشخَّصها باسمها واسم أبيها ، وسبق أنْ أوضحنا أن التشخيص في قصة مريم جاء لأنها فذَّة ومُفردة بين نساء العالم بشيء لا يحدث ولن يحدث إلا لها ، فهذا أمر شخصي لن يتكرر في واحدة أخرى من بنات حواء .
أما إنْ كان الأمر عاماً يصح أنْ يتكرّر فتأتي القصة دون تشخيص ، كما في حديث القرآن عن زوجة نوح وزوجة لوط كمثال للكفر ، وهما زوجتان لنبيين كريمين ، وعن زوجة فرعون كمثال للإيمان الذي قام في بيت الكفر وفي عُقْر داره ، فالمراد هنا ليس الأشخاص ، بل المراد بيان حرية العقيدة ، وأن المرأة لها في الإسلام حريةٌ عقدية مستقلة ذاتية ، وأنها غيرُ تابعة في عقيدتها لأحد ، سواء أكانت زوجة نبي أم زوجة إمام من أئمة الكفر .
وقوله تعالى : { إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] .
{ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا } [ مريم : 16 ] أي : ابتعدتْ عنهم ، من نبذ الشيء عنه أي أبعده ، فكأن أُنْسها لا بالأهل ، ولكن أُنْسها كان برب الأهل ، والقرآن يقول : { مِنْ أَهْلِهَا } [ مريم : 16 ] ولم يقُلْ : من الناس ، فقد تركتْ مريم أقرب الناس إليها وأحبّهم عندها وذهبت ، إلى هذا المكان .
{ مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] لكن شرقيّ أيّ شيء؟ فكل مكان يصح أن يكون شرقياً ، ويصح أن يكون غربياً ، فهي إذن كلمة دائرة في كل مكان . لكن هناك عَلَم بارز في هذا المكان ، هو بيت المقدس ، فالمراد إذن : شرقي بيت المقدس ، وقد جاء ابتعادها عن أهلها إلى هذا المكان المقدس لتتفرغ للعبادة ولخدمة هذا المكان .
لكن ، لماذا اختارتْ الجهة الشرقية من بيت المقدس بالذات دون غيرها من الجهات؟ قالوا : لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس ، لأنها سِمَة النور المادىْ الذي يسير الناس على هُدَاه فلا يتعثرون ، وللإنسان في سَيْره نوران : نور مادىّ من الشمس أو القمر أو النجوم والمصابيح ، وهو النور الذي يظهر له الأشياء من حوله ، فلا تصطدم بما هو أقوى منه فيحطمك ولا بأضعف منه فتحطمه .
وكذلك له نور من منهج الله يهديه في مسائل القيم ، حتى لا يتخبّط تائهاً بين دُروبها ، ومن ذلك قوله تعالى : { الله نُورُ السماوات والأرض } [ النور : 35 ] ثم يقول بعدها : { نُّورٌ على نُورٍ } [ النور : 35 ] .
أي : نور السماء الذي ينزل بالوحي لهداية الناس .
(1/5519)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
الحجاب : هو الساتر الذي يحجب الإنسان عن غيره ويحجب غيره عنه ، فما فائدة أنْ تتخذ بينها وبين أهلها سِتْراً بعد أن ابتعدتْ عنهم؟ نقول : انتبذتْ من أهلها مكاناً بعيداً ، هذا في المكان ، إنما لا يمنع أنْ يكونَ هناك مكينٌ آخر يسترها حتى لا يطّلع عليها أحد ، فهناك إذن مكان ومكين .
والحجاب قد يكون حجاباً مُفْرداً فهو ساتر فقط ، وقد يكون حجاباً مستوراً بحجاب غيره ، فهو حجاب مُركّب ، كما يصنع أهل الترف الآن الستائر من طبقتين ، إحداهما تستر الأخرى ، فيكون الحجاب نفسه مَسْتوراً ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] .
وقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] .
كلمة الروح في القرآن الكريم لها إطلاقات مُتعدّدة ، أولها الروح التي بها قِوام حياتنا المادية ، فإذا نفخَ الله الروح في المادة دبَّتْ فيها الحياة والحِسّ والحركة ، ودارت كل أجهزة الجسم ، وهذا المعنى في قوله تعالى :
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] .
لكن ، هل هذه الحياة التي تسري في المادة بروح من الله هي الحياة المقصودة من خَلْق الله للخَلْق؟ قالوا : إنْ كانت هذه الحياة هي المقصودة فما أهونها؛ لأن الإنسان قد يمرُّ بها ويموت بعد ساعة ، أو بعد يوم ، أو بعد سنة ، أو عدة سنوات .
إذن : هي حياة قصيرة حقيرة هيِّنة ، هي أقرب إلى حياة الديدان والهوام ، أما الإنسان الذي كرّمه الله وخلق الكون من أجله فلا بُدَّ أن تكون له حياة أخرى تناسب تكريمَ الله له ، هذه الحياة الأخرى الدائمة الباقية يقول عنها القرآن : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] .
{ لَهِيَ الحيوان } أي : الحياة الحقيقية ، أما حياتك الدنيا فهي مُهدّدة بالموت حتى لو بلغتَ من الكبر عتياً ، فنهايتك إلى الموت ، فإنْ أردتَ الحياة الحقيقية التي لا يُهدِّدها موت فهي في الآخرة .
فإذا كان الخالق تبارك وتعالى جعل لك روحاً في الدنيا تتحرك بها وتناسب مُدّة بقائك فيها ، ألاَ يجعل لك في الآخرة رُوحاً تناسبها ، تناسب بقاءها وسَرْمديتها ، والقرآن حينما يتحدث عن هذه الروح يقول للناس : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] فكيف يدعوهم لما يُحييهم ويُخاطبهم وهم أحياء؟ نعم ، هم أحياء الحياة الدنيا ، لكنه يدعوهم إلى حياة أخرى دائمة باقية ، أما مَنْ لم يستجب لهذا النداء ويسعى لهذه الحياة فلن يأخذ إلا هذه الحياة القصيرة الفانية التي لا بقاءَ لها .
وكما سمَّى الله السِّرَّ الذي ينفخه في المادة فتدبّ فيها الحركة والحياة " روحاً " ، كذلك سمَّى القيم التي تحيا بها النفوس حياة سعيدة " روحاً " ، كما قال تعالى :
(1/5520)
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] أي : القرآن الكريم .
كما سَمَّى الملَك الذي ينزل بالروح رُوحاً : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] وهو جبريل عليه السلام .
إذن : فقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] أي : جبريل عليه السلام . { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] معنى تمثَّل : أي : ليستْ هذه حقيقته ، إنه تمثَّل بها ، أما حقيقته فنورانية ذات صفات أخرى ، وذات أجنحة مَثْنى وثُلاَث ورُبَاع ، فلماذا إذن جاء الملَكُ مريمَ في صورة بشرية؟
لأنهما سيلتقيان ، ولا يمكن أنْ يتمّ هذا اللقاء خُفْية ، وكذلك يستحيل أنْ يلتقيَ الملَكُ بملكتيه مع البشر ببشريته ، فلكل منهما قانونه الخاص الذي لا يناسب الآخر ، ولابُدَّ في لقائهما أنْ يتصوَّر الملَك في صورة بشر ، أو يُرقَّى البشر إلى صفات الملائكة ، كما رُقي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صفات الملائكة في حادثة الإسراء والمعراج ، ولا يتم الالتقاء بين الجنسين إلا بهذا التقارب .
لذلك ، لما طلب الكفار أن يكون الرسول ملَكاً رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
وقال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] إذن : لا يمكن أن يلتقي الملَكُ بالبشر إلا بهذا التقارب .
جاء جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشرية لتأنس به ، ولا تفزع إنْ رأتْه على صورته الملائكية { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً } [ مريم : 17 ] أي : من جنسها { سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] .
أي : سويّ الخِلْقة والتكوين ، وسيماً ، قد انسجمتْ أعضاؤه وتناسقتْ على أجمل ما يكون البشر ، فلا يعيبه كِبَر جبهته أو أنفه أو فمه ، كما نرى في بعض الناس .
وهذا كله لإيناس مريم وطمأنينتها ، وأيضاً ليثبت أنها العذراء العفيفة؛ لأنها لما رأت هذا الفتى الوسيم القَسِيم ما أبدتْ له إعجاباً ولا تلطفتْ إليه في الحديث ، ولا نطقتْ بكلمة واحدة يُفهَم منها مَيْل إليه ، بل قالت كما حكى القرآن : { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن }
(1/5521)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
فلم تُظهِر له إعجاباً ، ولا مالتْ إليه بكلمة واحدة ، وهذا دليل على عِفّتها وطهارتها واستقامتها والتزامها .
وقولها : { أَعُوذُ } [ مريم : 18 ] أي : ألجأ وأعتصم بالله منك؛ لأنني أخاف أنْ تفتك بي ، أو تعتدي عليَّ وأنا ضعيفة لا حَوْلَ لي ولا قوة إلا بالله ، فأستعيذ به منك . والمؤمن هو الذي يحترم الاستعاذة بالله ويُقدِّرها ، فإنْ استعذتَ بالله أعاذك ، وإن استجرتَ بالله أجارك .
" ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، كانت على شيء من الحسن أثار غَيْرة نسائه ، فخشينَ أنْ تغلبهن على قلب رسول الله ، فدبَّرْنَ لها أمراً يبعدها من أمامهن ، فقُلْنَ لها وكانت غِرَّة ساذجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إذا اقترب منه إنسان أن يقول له : أعوذ بالله منك ، فما كان من المرأة إلا أنْ قالت هكذا لرسول الله عندما دخلت عليه ، فقال لها : " لقد استعذت بمعيذ ، الحقي بأهلك " .
فقول مريم : { إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ] لأن المؤمن التقيّ هو الذي يخاف الله ، ويحترم الاستعاذة به ، وكأنها قالتْ : إنْ كنت تقياً فابتعد عني ، واختارت الاستعاذة بالرحمن لما عندها من الأمل إنْ لم يكُنْ تقياً مؤمناً أن يبتعد عنها رحمةً بها وبضعفها ، ولجأتْ إلى الرحمن الرحيم الذي يحميها ويحرسها منه .
(1/5522)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
قال : { رَسُولُ رَبِّكِ } [ مريم : 19 ] ولم يقلْ رسول الله؛ لأن الربّ هو المتولّي للتربية الذي يُحسِنها ويصونها من الفساد ، فعطاء الربوبية عطاء ماديّ ، أما عطاء الألوهية فهو عطاء معنوي قِيَمي هو العبادة ، فأنا رسول ربك الذي يتولاَّك ويرعاك ويحرسك فلا تخافي .
وقوله : { لأَهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] يفهم منه أن ما سيحدث لمريم هبة من الله غير خاضعة للأسباب التكوينية ، فالهبة في هذه الحالة هبة حقيقية مَحْضَة ، فقد قلنا في قصة زكريا ويحيى أن الله تعالى وهب يحيى لزكريا حال كونه كبير السِّن وامرأته عاقر ، لكن على أية حال فالجهازان موجودان : الذكورة والأنوثة ، لكن في حالة مريم فهي أنثى بلا ذكر ، فهنا الهِبَة المحضة ، والمعجزة الحقيقية .
وقوله : { غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] أي مُنقَّى مُطهّر صافي الخِلْقة .
ثم يقول الحق سبحانه عن مريم : { قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي }
(1/5523)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
( أَنَّى ) استفهام عن الكيفيات التي يمكن أن تتم بها هذه المسألة ، وتعجُّب كيف يحدث ذلك .
وقوله : { يَمْسَسْنِي } [ مريم : 20 ] المسّ هنا كناية وتعبير مُهذَّب عن النكاح ، وقد نفتْ السيدة مريم كل صور اللقاء بين الذكر والأنثى حين قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] فالتقاء الذكر بالأنثى له وسائل : الوسيلة الأولى : هي الزواج الشرعي الذي شرعه الله لعباده للتكاثر وحِفْظ النسل ، وهو إيجاب وقبول ، وعقد وشهادة ، وهذا هو المسّ الحلال .
الوسيلة الثانية : أنْ يتم هذه اللقاء بصورة محرمة بموافقة الأنثى أو غَصْباً عنها . وقد نفتْ مريم عن نفسها كل هذه الوسائل فقالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] لا في الحلال ، ولا في الحرام ، وأنا بذاتي { لَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] إذن : فمن أين لي بالغلام؟
وكلمة : مسَّ جاءتْ في القرآن للدلالة على الجماع ، كما في قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 236 ] فالمراد بالمسّ هنا الجماع ، لذلك فقد فسر الإمام أبو حنيفة قوله تعالى : { لاَمَسْتُمُ النسآء } [ النساء : 43 ] بأنه الجماع؛ لأن القرآن أطلق المسَّ ، وأراد به النكاح ، والمسُّ فعل من طرف واحد ، أما الملامسة فهي مُفَاعلة بين اثنين ، فهي من باب أَوْلَى تعني : جامعتم .
وقولها : { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] البغِيُّ : هي المرأة التي تبغي الرجال . والبِغَاء : هو الزنا ، والبَغِيّ : التي تعرض نفسها على الرجال وتدعوهم ، وربما تُكرههم على هذه الجريمة .
وقولها : { بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] مبالغة في البَغْي وهو الظلم ، واختارتْ صيغة المبالغة بَغِيّ ولم تقُلْ باغية؛ لأن باغية تتعلق بحقوق ما حول العِرْض ، أما الاعتداء على العِرْض ذاته فيناسبه المبالغة في هذا الفعل .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ }
(1/5524)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجب أن يكون له ولد : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ } [ مريم : 9 ] أي : أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن ، وأن امرأتك عاقر لا تلِد ، لكن الأمر جاء من الله وصدر حكمه ، وهو وحده الذي يملك التنفيذ ، فَلِمَ التعجب إذن؟
وهنا نجد بعض المتورِّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى : ( كَذَلِكَ ) بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم ( كذلكِ ) ، والسياق والمعنى واحد ، وأيُّهما أبلغ من الأخرى ، وإنْ كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة؟
وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فَهْمهم لكلام الله ، فكلمة ( كذلك ) عبارة عن ذا اسم إشارة ، وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر ، وتُكسر في خطاب المؤنث .
وهنا أيضاً قال : ( ربك ) أي : الذي يتولى تربيتك ورعايتك ، والذي يُربيه ربُّه يربيه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربِّي .
وقوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 21 ] كما قال في مسألة البعث بعد الموت : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] فكلمة هيّن وأَهْوَن بالنسبة للحق تبارك وتعالى لا تُؤخَذ على حقيقتها؛ لأن هَيِّن وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب ، وهذه مسائل تناسب فِعْلَ الإنسان في معالجته للأشياء على قَدْر طاقته وإمكاناته ، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيِّن وأهون منه؛ لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال مُعَالجةً ، ولا يزاولها ، وإنما بقوله تعالى ( كُنْ ) .
فالحق سبحانه يخاطبنا على قَدْر عقولنا ، فقوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 21 ] أي : بمنطقكم أنتم إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء ، فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيِّن .
ثم يقول تعالى : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] .
هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط؟ لا ، بل هناك هدف آخر { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] أي : أمراً عجيباً ، يخرج عن مألوف العادة والأسباب ، كما نقول : هذا آية في الحُسْن ، آية في الذكاء ، فالآية لا تُقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول .
والآية هنا أن الخالق تبارك وتعالى كما خلق آدم عليه السلام من غير أب أو أم ، وخلق حواء من غير أم ، خلق عيسى عليه السلام من أم دون أب ، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم ، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيماً .
إذن : فهذا الأمر لا يحكمه إلا إرادة المكوِّن سبحانه . فالآية للناس في إنْ يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخَلْق ، وأنها غير خاضعة للأسباب ، وليستْ عملية ميكانيكية ، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد .
لكن ، أكانتْ الآية في خَلْق عيسى عليه السلام أَمْ في أمه؟ كان من الممكن أنْ يوجد عيسى من أب وأم ، فالآية إذن في أمه ، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى :
(1/5525)
{ وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] فعيسى ومريم آية واحدة ، وليسا آيتين؛ لأنهما لا ينفصلان .
ثم يقول تعالى : { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة ، أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكُّوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها ، ولو كان هذا الشكُّ مجرد خاطر ، فإنه لا يجوز ولا يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه ، وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء ، ومن بعض شيء ، ومن لا شيء .
وقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] أي : مسألة منتهية لا تقبل المناقشة ، فإياك أن تناقش في كيفيتها؛ لأن الكلام عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألاَّ يتم مراده لأيِّ سبب من الأسباب كأن تقول : سأفعل غداً كذا وكذا ، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك ، إذن : فأنت لا تملك كُلَّ عناصر الفعل .
أما إذا كان الكلام من الله تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حَقٌّ وواقع ، فقال تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] .
ولما تكلمنا عن تقسيمات الأفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلام ، والمضارع الذي يحدث في الحال ، أو في الاستقبال قلنا : إن هذه الأفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية والاستقبالية .
فإذا قال تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفتح : 14 ] فهل كان الحق سبحانه غفوراً رحيماً في الماضي ، وليس كذلك في الحاضر والمستقبل؟ لا ، لأن الحق سبحانه كان ولا يزال غفوراً رحيماً ، فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه .
لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي ، فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلاً ، فهو سبحانه خالق قبل أن يخلق الخَلْق وبصفة الخَلْق خَلَقَ ، كما ضربنا مثلاً لذلك : نقول فلان شاعر ، فهل هو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم قال القصيدة لأنه شاعر ، وبالشعر صنع القصيدة؟ إذن : فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة ، ولولا وجود الصفة فيه ما قال .
فالصفة إذن أزلية في الحق سبحانه ، فإذا قلت : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفتح : 14 ] فقد ثبتتْ له هذه الصفة أزلاً ، ولأنه سبحانه لا يتغير ، ولا يعارضه أحد فقد بقيتْ له ، هذا معنى : كان ولا يزال .
وهذه المسألة واضحة في استهلال سورة النحل : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] لذلك وقف بعض المستشرقين أمام هذه الآية ، كيف يقول سبحانه ( أَتَى ) بصيغة الماضي ، ثم يقول : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] أي : في المستقبل؟ نقول : لأن قوله تعالى : ( أتَى ) فهذه قضية منتهية لا شكّ فيها ولا جدالَ ، فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها؛ لذلك جاءت بصيغة الماضي وهي في الواقع أمر مستقبل .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ }
(1/5526)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
( فَحَملتْهُ ) أي : حملتْ به على الحذف والإيصال ، والحمل يقتضي حاملاً ومحمولاً . { فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } [ مريم : 22 ] لا تظن أن هذه اللقطة من القصة لقطةٌ مُعَادة ، فالانتباذ الأول كان للخلوة للعبادة ، وهنا { فانتبذت بِهِ } [ مريم : 22 ] أي : ابتعدتْ عن القوم لما أحسَّتْ بالحمل ، وخشيت أعيُنَ الناس وفضولهم فخرجتْ إلى مكان بعيد .
(1/5527)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{ فَأَجَآءَهَا } [ مريم : 23 ] الفعل جاء فلان . أي : باختياره ورِضَاه ، إنما إجاءه فلان أي جاء به رغماً عنه ودون إرادته ، فكأن المخاض هو الذي ألجأها إلى جِذْع النخلة وحملها على الذهاب إلى هذا المكان رَغْماً عنها { فَأَجَآءَهَا } [ مريم : 23 ] أي : جاء بها ، فكأن هناك قوة خارجة عنها تشدُّها إلى هذا المكان .
والمخاض : هو الألم الذي ينتاب المرأة قبل الولادة ، وليس هو الطَّلْق الذي يسبق نزول الجنين .
وقوله : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة } [ مريم : 23 ] أوضح لنا عِلَّة مجيئها إلى جِذْع النخلة؛ لأن المرأة حينما يأتي وقت ولادتها تحتاج إلى ما تستند إليه ، وتتشبث به ليخفف عنها ألم الوضع ، أو رفيقة لها تفزع إليها وتقاسمها هذه المعاناة ، فألجأها المخاض إذن إلى جذع ( النخلة ) ، وجاءت النخلة مُعرَّفة لأنها نخلة معلومة معروفة .
وجذع النخلة : ساقها الذي يبدأ من الجذر إلى بداية الجريد ، فهل ستتشبث مريم عند وضعها بكل هذه الساق؟ بالطبع ستأخذ الجزء القريب منها فقط ، وأُطلق الجذع على سبيل المبالغة ، كما في قوله تعالى : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت } [ البقرة : 19 ] .
ومعلوم أن الإنسان يسدّ أذنه بأطراف الأصابع لا بأصابعه كلها ، فعبَّر عن المعنى بالأصابع مبالغةً في كَتْم الصوت المزعج والصواعق التي تنزل بهم .
إذن : فالسيدة مريم أصبحت أمام أمر واقع وحمل ظاهر لا تستطيع إخفاءه ، ولا تقدر على ستره ، فقد قبلتْ قبل ذلك أنْ يُبشِّرها الملَك بغلام زكيٍّ ، وقبلتْ أنْ تحمل به ، فكيف بها الآن وقد تحوّل الأمر من الكلام إلى الواقع الفعلي ، وها هو الوليد في أحشائها ، وقد حان موعد ولادته؟
لابُدَّ أن ينتابها نزوع انفعالي فالأمر قد خرج عن نطاق السَّتْر والتكتّم ، فإذا بها تقول : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } [ مريم : 23 ] أي : تمنتْ لو ماتت قبل أن تقف هذا الموقف العصيب ، مع أن الملك حين أخبرها من قبل بأن الله تعالى سيهَبُ لها غلاماً زكياً تعجبتْ قائلة : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] .
مجرد تعجُّب وانفعال هادىء ، أما وقد أصبح الأمر ولادة حقيقية فلا بُدَّ من فعل نزوعي شديد يُعبِّر عما هي فيه من حَيْرة ، لذلك تمنتْ الموتْ ، مع أن الله تعالى نهانا عن تمني الموت ، كما ورد في الحديث الشريف الذي يرشدنا إذا ضاقتْ بنا الحياة ألاَّ نتمنى الموت ، بل نقول : " اللهم أحْيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفَّني ما كانت الوفاة خيراً لي " .
وقلنا : إن تمني الموت المنهيّ عنه ما كان فيه اعتراض على قَدَر الله ، وتمرد على إرادته سبحانه ، كأنْ تكره الحياة والعيش إذا ضاق بك فتتمنى الموت ، أما أن تتمنى الموت لعلمك أنك ستصبر إلى خير مما تركت فهذا أمر آخر .
(1/5528)
وقد ورد في القرآن مسألة تمني الموت هذه في الكلام عن بني إسرائيل الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، وأن الدار الآخرة لنا خالصة عند الله ، فبماذا رَدّ عليهم القرآن الكريم؟
والله طالما أن الأمر كما تقولون ، والآخرة لكم { فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 94 ] ثم قرَّر الحق سبحانه ما سيكون منهم فقال : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 95 ] .
وقال عنهم : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .
وما داما لن يتمنوا الموت ، وما داموا أحرصَ الناس على الحياة ، فلا بُدَّ أن حياتهم هذه التي يعيشونها أفضل لديهم من الحياة الأخرى .
فالمؤمن إذن لا يجوز أن يتمنى الموت هَرباً من بلاء أصابه أو اعتراض على قَدَرِ الله ، ويجوز له ذلك إنْ علم أنه صائر إلى أفضل ممّا هو فيه .
وقولها : { نَسْياً مَّنسِيّاً } [ مريم : 23 ] النسيّ : هو الشيء التافه الذي لا يُؤْبَه به ، وهذا عادةً ما يُنْسَي لعدم أهميته ، كالرجل الذي نسى عند صاحبه علبة كبريت بها عودان اثنان ، وفي الطريق تذكرها فعاد إلى صاحبه يطلب ما نسيه ، وهكذا تمنتْ مريم أن تكون نسياً منسياً حتى لا يذكرها أحد .
ولم تكتفِ بهذا ، بل قالت : { نَسْياً مَّنسِيّاً } [ مريم : 23 ] لأن النسيّ : الشيء التافه الذي يُنسَي في ذاته ، لكن رغم تفاهته فربما يجد مَنْ يتذكره ويعرفه ، فأكدت النسيّ بقولها ( منسياً ) أي : لا يذكره أحد ، ولا يفكر فيه أحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ }
(1/5529)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{ مِن تَحْتِهَآ } [ مريم : 24 ] فيها قراءتان ( مِنْ ، مَنْ ) صحيح أن جبريل عليه السلام ما زال موجوداً معها لكنه ليس تحتها ، فدلّ ذلك على أن الذي ناداها هو الوليد { أَلاَّ تَحْزَنِي } [ مريم : 24 ] ، وحزن مريم منشؤه الانقطاع عن الناس ، وأنها في حالة ولادة ، وليس معها مَنْ يسندها ويساعدها ، وليس معها مَنْ يَحضِر لها لوازم هذه المسألة من طعام وشراب ونحوه .
لذلك تعهّدها ربها تبارك وتعالى فوفّر لها ما يُقيتها من الطعام والشراب ، فقال : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [ مريم : 24 ] والسريّ : هو النهر الذي يجري بالماء العَذْب الزُّلال ، وثم يعطيها الطعام المناسب لحالتها ، فيقول تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ }
(1/5530)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
وهكذا وفّر الحق سبحانه وتعالى لمريم مقوّمات الحياة وعناصر استبقائها ، وهي مُرتَّبة على حَسْب أهميتها للإنسان : الهواء والشراب والطعام ، والإنسان يصبر على الطعام شهراً دون أنْ يأكلَ ، ويمكنه أنْ يقتاتَ على ما هو مخزون في جسمه من غذاء ، لكنه لا يصبر على الماء أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام حسب ما في جسمه من مائية ، في حين لا يصبر على الهواء لحظة واحدة ، ويمكن أنْ يموتَ من كَتْم نفَسٍ واحد .
لذلك ، من حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن يُملِّك الطعام كثيراً ، ويُملك الماء قليلاً ، ولا يُملِّك الهواء لأحد أبداً ، لأنك لو غضبتَ على أحد فمنعتَ عنه الهواء لمات قبل أنْ ترضى عنه ، إذن : فعناصر استبقاء الحياة مرتبة حَسْب أهميتها في حياة الإنسان ، وقد ضمنها الحق سبحانه لمريم وجعلها في متناول يدها وأغناها عن أنْ يخدمها أحد .
فالهواء موجود وهي في الخلاء ، ثم الماء فأجري تحتها نهراً عذباً زلالاً ، ثم الطعام فقال : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يُظهِر لمريم آية أخرى من آياته ، فأمرها أنْ تهزَّ جذع النخلة اليابس الذي لا يستطيع هَزَّه الرجل القويّ ، فما بالها وهي الضعيفة التي تعاني ألم الولادة ومشاقها؟
كما أن الحق سبحانه قادر على أنْ يُنزِل لها طعامها دون جَهْد منها ودون هَزِّها ، إنما أراد سبحانه أن يجمع لها بين شيئين : طلب الأسباب والاعتماد على المسبب ، والأخذ بالأسباب في هَزِّ النخلة ، رغم أنها متعبة قد أرهقها الحمل والولادة ، وجاء بها إلى النخلة لتستند إليها وتتشبث بها في وحدتها لنعلم أن الإنسان في سعيه مُطَالب بالأخذ بالأسباب مهما كان ضعيفاً .
لذلك أبقى لمريم اتخاذ الأسباب مع ضَعْفها وعدم قدرتها ، ثم تعتمد على المسبِّب سبحانه الذي أنزل لها الرُّطَب مُسْتوياً ناضجاً ، وهل استطاعت مريم أنْ تهزَّ الجذع الكبير اليابس؟
إنها مجرد إشارة إليه تدلُّ على امتثال الأمر ، والله تعالى يتولى إنزال الطعام لها ، وقد صَوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله :
أَلَمْ تَرَ أنَّ الله قَالَ لمرْيَم ... وَهُزِّي إليك الجذْعَ يَسَّاقَط الرُّطبْ
وَإنْ شَاءَ أعطَاهَا ومِنْ غير هَزَّة ... ولكن كُلّ شَيءٍ لَهُ سَبَبْ
وقوله : { تُسَاقِطْ } مريم : 25 ] أي : تتساقط عليك { رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] أي : استوى واستحق أن يُجنى ، وليس مُبْتسراً قبل موعده ، ومن الرُّطَب ما يتساقط قبل نُضْجه فلا يكون صالحاً للأكل .
وقوله : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ } [ مريم : 25 ] فيه دليل على استجابة الجماد وانفعاله ، وإلا فالبلحة لم تخرج عن طَوْع أمها ، إذن : فقد ألقتْها طواعيةً واستجابة حين تَمَّ نضجها .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَكُلِي واشربي وَقَرِّي }
(1/5531)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
ونلحظ هنا أن الحق تبارك وتعالى عند إيجاد القُوت لمريم جاء بالماء أولاً ، فقال : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [ مريم : 24 ] ، ثم أتى بالطعام فقال : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] لأن الماء أوْلى من الطعام في احتياج الإنسان ، أما عند الأمر بالانتفاع قال : { فَكُلِي واشربي } [ مريم : 26 ] فبدأ بالطعام قبل الشراب ، لماذا؟ لأن الإنسان عادةً يأكل أولاً ، ثم يشرب ، فالماء مع أهميته ، إلا أنه يأتي في العادة بعد الطعام ، فسبحان مَنْ هذا كلامه .
وقوله : { وَقَرِّي عَيْناً } [ مريم : 26 ] بعد أن وفَّر لها الحق سبحانه الطعام والشراب الذي هو قِوَام المادة ، وبه يتم استبقاء الحياة ، لكن بعد الطعام والشراب يبقى لديها حُزْن عميق وألم وحَيْرة مِمَّا هي فيه؛ لذلك يعطيها ربها تبارك وتعالى بعد القوت الذي هو قوام المادة يعطيها السكينة والطمأنينة ويُخفِّف عنها ألم النفس وحَيْرة الفؤاد .
{ وَقَرِّي عَيْناً } [ مريم : 26 ] قرّي : أي : اسكني . وهذا التعبير عند العرب كناية عن السرور ، ومنه قوله تعالى على لسان امرأة فرعون : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] .
والعرب تعبر بِقُرَّة العين وسكونها عن السرور؛ لأن سكون العين على مَرأَىً واحد لا تتحول عنه دليلٌ على أن العين صادفت مرأى جميلاً تسعد به وتُسَرُّ فلا يُغني عنه مَرأْىً آخر ، فتظل ساكنة عليه لا تتحرك عنه .
وقد يستعمل هذه التعبير في المقابل أي : في الشر والدعاء على إنسان وتمني الشر له ، كالمرأة التي دخلتْ على أحد الخلفاء فنهرَها فقالت له : أتمَّ الله عليك نعمته وأقرَّ عينك . فظنَّ الحضور أنها تدعو له ، لكنه فَطِن لمرادها ، فقال لجلسائه : ما فهمتم ما تقول ، إنها تقصد أتمَّ الله عليك نعمته أي : أزالها ، أما سمعتم قول الشاعر :
إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه ... ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمْ
ذلك لأن الإنسان بطبيعته ابن أغيار ، لا يثبت على حال ، فإذا ما وصل إلى القمة وتمتْ له النعمة ، وهو ابن أغيار فلا بُدَّ أنْ يتحوَّل عنها .
وقولها : أقرَّ الله عينك ، أي : أسْكَنَها بالعمى .
فقوله تعالى لمريم : { وَقَرِّي عَيْناً } [ مريم : 26 ] أي : كوني سعيدة باصطفاء الله لك مسرورة بما أعطاك ، فما تهتمين به وتحزنين هو عَيْن النعمة التي ليستْ لأحد غيرك من نساء العالمين .
ثم يقول تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] .
وهنا يتولَّى الحق سبحانه وتعالى الدفاع عن مريم وتبرير موقفها الذي لا تجد له هي مبرراً في أعراف الناس ، فَمنْ يلتمس عُذْراً لامرأة تحمل وتلد دون أن يكون لها زوج؟ ومهما قالت فلن تُصدَّق ولن تسْلَم من ألسنة القوم وتجريحهم .
إذن : فجواب ما يكره السكوت ، فأمرها سبحانه أنْ تلزم الصمت ولا تجادل أحداً في أمرها : { فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] والصوم هنا أي : عن الكلام ، كما حدث مثل هذا في قصة زكريا؛ لأن المعجزات قريبة من بعضها ، فقد أعطى الله زكريا مع عَطَب الآلات ، وأعطى مريم بنقص الآلات ، ولا يبرر هذه المعجزات ولا يدافع عنها إلا صانعها تبارك وتعالى .
(1/5532)
وهذه المسألة اعترض عليها بعض الذين يحبون أنْ ينتقموا على القرآن ، فقالوا : كيف يأمرها بالصوم عن الكلام ، وفي نفس الوقت يأمرها أن تقول : نذرت للرحمن صوماً؟
يجوز أنها قالت هذه العبارة أولاً لأول بشر رأته ليتم بذلك إعلان صومها ، ثم انقطعت عن الكلام ، ويجوز أن يكون المراد بالكلام هنا الإشارة ، والدلالة بالإشارات أقوى الدلالات وأعمّها ، فإن اختلفت اللغات بين البشر لأن كل جماعة تواضعوا على لغة خاصة بهم ، فإن لغة الإشارة تظل لغة عامة يتفق عليها الجميع ، فمثلاً حين تُومىء برأسك هكذا تعني نعم في كل اللغات ، وحين تُشير بأصبعك هكذا تعني لا ، إذن : فالدلالة لغة عالمية وعامّة .
وقد تعرَّضَ القرآن الكريم في موضع آخر لهذه المسألة في قوله تعالى : { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] .
أي : لا يقربون من الفهم ، فَهُمْ يفهمون من باب أَوْلى ، ومع ذلك كان بينهم كلام وإشارة ولغة ، وفَهِم كل منهم عن الآخر : { قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } [ الكهف : 94 ] .
ونلحظ في قولها : { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] أن النهي عن الكلام مع البشر خاصة فلم تَقُل : لن أتكلم ، وإلاّ فمعها جبريل عليه السلام يُكلّمها وبينهما تفاهم ، لعلَّه يرى لها مَخْرجاً ، وقد كانت مريم واثقة مطمئنة إلى هذا المخرج ، فإذا كان ربها تبارك وتعالى أمرها بالصوم عن الكلام ، فإنه سينطق الوليد ليتكلم هو ويدافع عن أمه أمام اتهامات القوم .
ولما تكلّمنا في قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي } [ مريم : 24 ] استبعدنا أنْ يكون هذا النداء من جبريل ، وقلنا : إنه نداء الوليد؛ لذلك اطمأنتْ مريم وعَلِمتْ أنها أمام معجزة عُظْمى ، ووثقتْ تمام الثقة أنها حين تُشير إليه سيتكلم هو ويردُّ عنها الحَرج مع قومها؛ لأن الكلام ممَّنْ يقدر على الكلام لا يأتي بحجة تُقنِع الناس عن خلاف العادة ، أما حين يتكلم وهو في المهد ، فهذا يعني أنه معجزة خارقة للعادة ، فإذا كان الوليد معجزةً فالمعجزة في أُمِّه من باب أَوْلَى .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ }
(1/5533)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
ونعجب للسيدة مريم ، فبدلَ أن تخجل مما حدث وتستتر بوليدها عن أعيُن الناس ، أو تنتقل به إلى مكان آخر في فيافي الأرض إذا بها تحمله ، وتذهب به ، وتبادر به قومها ، وما كانت لتفعل ذلك وتتجرأ عليه إلا لثقتها في الحجة التي معها ، والتي ستوافيها على يد وليدها .
لذلك لما سأل بعض المستشرقين الإمام محمد عبده رحمه الله في باريس : بأيِّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حديث الإفْكِ؟ سبحان الله إنهم يعلمون أنه إفْكٌ وباطل ، لكنهم يرددونه كأنهم لا يفهمون .
فأجاب الشيخ رحمه الله ببساطة : بالوجه الذي قابلتْ به مريم قومها وهي تحمل وليدها . أي : بوجه الواثق من البراءة ، المطمئن إلى تأييد الله ، وأنه سبحانه لن يُسْلِمها أبداً؛ لذلك لما نزلتْ براءة عائشة في كتاب الله قالوا لها : اشكري النبي ، فقالت : بل أشكر الله الذي برأني من فوق سبع سموات .
فلما رآها القوم على هذه الحال قالوا فيها قولاً غليظاً : { يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] فرياً : الفَرْيُ للجلد : تقطيعه ، والأمر الفري : الذي يقطع معتاداً عند الناس فليس له مثيل ، أو من الفِرْية وهو تعمد الكذب .
ثم قالوا لها : { ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ }
(1/5534)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قولهم لمريم : { ياأخت هَارُونَ } [ مريم : 28 ] هذا كلام جارح وتقريع ومبالغة منهم في تعييرها ، فنسبوها إلى هارون الذي سُمِّي على اسم النبي ، فأنتِ من بيت صلاح ونشأت في طاعة الله ، فكيف يصدر منك هذا الفعل؟ كما ترى أنت سيدة محجبة يصدر منها في الشارع عمل لا يتناسب ومظهرها فتلومها على هذا السلوك الذي لا يُتصوّر من مثلها .
وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] الرجل السوء هو الذي إنْ صحبْتَه أصابك منه سوء ، ونالك بالأذى { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] قلنا : إن البَغيَّ : هي المرأة التي تبغي الرجال وتدعوهم إليها ، فالمراد : من أين لك هذه الصفة ، وأنت من أسرة خَيِّرة صالحة؟
وفي هذا دليل على أن نَضْج الأُسَرِ يؤثر في الأبناء ، فحين نُكوِّن الأسرة المؤمنة والبيت الملتزم بشرع الله ، وحين نحتضن الأبناء ونحوطهم بالعناية والرعاية ، فسوف نستقبل جيلاً مؤمناً واعياً نافعاً لنفسه ولمجتمعه .
إذن : فقولهم : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] اتهام صريح لمريم ، وتأكيد على أنها وقعتْ في محظور وكأنهم مصرون على رَمْيها بالفاحشة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ }
(1/5535)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
أي : حين قال القوم ما قالوا أشارتْ إلى الوليد وهي واثقة أنه سيتكلم ، مطمئنة إلى أنها لا تحمل دليل الجريمة ، بل دليل البراءة .
فلما أشارتْ إليه تقول لقومها : اسألوه ، تعجَّبُوا : { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] ونلاحظ في قولهم أنهم لم يستبعدوا أنْ يتكلّمَ الوليد ، فلم يقولوا : كيف يتكلم مَنْ كان في المهد صبياً؟ بل قالوا : { كَيْفَ نُكَلِّمُ } [ مريم : 29 ] أي : نحن ، فاستبعدوا أنْ يكلموه ، فكأنهم يطعنون في أنفسهم وفي قدرتهم على فَهْم الوليد إنْ كلَّمهم .
والمهد : هو المكان الممهد المعَدّ لنوم الطفل ، لأن الوليد لا يقدر أن يبعد الأذى عن نفسه ، فالكبير مثلاً يستطيع أنْ يُمهد لنفسه مكان نومه ، وأن يُخرِج منه ما يُؤرِّق نومه وراحته ، وعنده وَعْي ، فإذا آلمه شيء في نومه يستطيع أنْ يتحلَّل من الحالة التي هو عليها ، وينظر ماذا يؤلمه .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله }
(1/5536)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
وكأنه قال للقوم : لا تتكلموا أنتم ، أنا الذي سأتكلم . ثم بادرهم بالكلام : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] وهكذا استهلّ عيسى عليه السلام كلامه بإظهار عبوديته لله تعالى ، وفي هذه دليل على أنه قد يُقال فيه أنه ليس عبداً ، وأنه إله أو شريك للإله .
لذلك كانت أو كلمة نطق بها { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] فالمعجزة التي جاءتْ بي لا تمنع كَوْني عبداً لله؛ لذلك لو سألتَ الذين يعتقدون في عيسى عليه السلام أنه إله أو شريك للإله : إنكم تقولون أنه تكلّم في المهد ، فماذا قال؟ فلا يعترفون بقوله أبداً؛ لأن قوله ونُطْقه : { إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] ينفي معتقدهم من أساسه .
ليس هذا وفقط ، بل : { آتَانِيَ الكتاب } [ مريم : 30 ] لكن كيف آتاه الكتاب وهو ما يزال وليداً في مَهْده؟ قالوا : على اعتبار أنه أمرٌ مفروغ منه ، وحادث لا شَكَّ فيه ، كأنه يقول : أنا أَهْل لأنْ أتحملَ أمانةَ السماء إلى أهل الأرض . مع أن الكتاب لم يأتِ بعد ، إلا أنه مُلقَّن لقَّنه ربه الكتاب بالفعل ، وإنْ لم يأت الوقت الذي يُبلِّغ فيه هذا الكتاب .
{ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] فسلوكي سلوك قويم ، ولا يمكن أن يكون فيَّ مطعَنٌ بعد ذلك ، وإنْ كان هناك مطعن فهو بعيد عني ، ولا ذنبَ لي فيه .
ثم يقول : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ }
(1/5537)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
أي : وشرَّع لي أيضاً ما دُمْت حياً . . وقد قال عيسى عليه السلام في المهد هذه الكلمات ليبرِّىء أمه الصِّدِّيقة ، ذلك أنهم اتهموها في أعزِّ شيء لديْها؛ ولذلك لم يكُنْ ليُجدي أيّ كلام منها ، وإنقاذاً لها أبلغها الحق عن طريق جبريل أو عيسى عليهما السلام أن تقول : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] .
ثم يقول : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي }
(1/5538)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
فلِمَ ذكر والدته هنا؟ ولِمَ حرص على تقرير بِرِّه بها؟ قالوا : لأن البعض قد يظن أن عيسى عليه السلام حينما يكبر ويعرف قصة خَلْقه ، وأن أمه أتَتْ به من غير أب ، ودون أنْ يمسسْها بشر قد تترك هذه المسألة ظلالاً فلي نفسه وتُساوِره الشكوك في أمه ، فأراد أنْ يقطع كل هذه الظنون .
ذلك لأنه هو نفسه الدليل ، وهو نفسه الشاهد على براءة أمه ، والدليل لا يُشكِّك في المدلول ، فكأنه يقول للقوم : إياكم أنْ تظنوا أني سأتجرأ على أمي ، أو يخطر ببالي خاطر سوء نحوها .
ثم يقول : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } [ مريم : 32 ] فنفى عن نفسه صفة الجبروت والقسوة والتعاظم؛ لأن الرسول لابُدَّ أنْ يكون ليِّنَ الجانب رفيقاً بقومه؛ لأنه أتى ليُخرِج الناس مِمَّا ألِفُوه من الفساد إلى ما يثقل عليهم من الطاعة .
والإنسان بطبعه حين يألَف الفساد يكره مَنْ يُخرِجه عن فساده ، فمن الطبيعي أن يتعرّض النبي لاستفزاز القوم وعنَادهم ومكابرتهم ، فلو لم يكُنْ ليِّن الجانب ، رقيق الكلمة ، يستميل الأذن لتسمع والقلوب لتعي ما صلح لهذه المهمة .
لذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [ آل عمران : 159 ] .
ومعنى { شَقِيّاً } [ مريم : 32 ] أي : عاصياً ، وما أبعدَ مَنْ هذه صفاته عن معصية الله التي يشقى بسببها الإنسان .
ثم يقول تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال : { والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ }
(1/5539)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
سبق أن قلنا في قصة يحيى عليه السلام : إن هذه الأحداث أعلام ثلاثة في حياة الإنسان : يوم مولده ، ويوم موته ، ويوم أنْ يُبعث يوم القيامة . فما وجه السلامة في هذه الأحداث بالنسبة لعيسى عليه السلام؟
قوله : { والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ } [ مريم : 33 ] لأن يوم مولده مَرَّ بسلام ، رغم ما فيه من عجائب ، فلم يتعرَّض له أحد بسوء ، وهو الوليد الذي جاء من دون أب ، وكان من الممكن أنْ يتعرّض له ولأمه بعض المتحمسين الغيورين بالإيذاء ، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، ومَرَّ الميلاد بسلام عليه وعلى أمه .
{ وَيَوْمَ أَمُوتُ } [ مريم : 33 ] لأنهم أخذوه ليصلبوه ، فنجّاه الله من أيديهم ، وألقى شبهه على شخص آخر ، ورفعه الله تعالى إلى السماء .
{ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] فليس هناك من الرسل مَنْ سيسأل هذه الأسئلة ، ويناقش هذه المناقشة التي نُوقِشها عيسى في الدنيا :
{ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } [ المائدة : 116117 ] .
وليس هذا قَدْحاً في مكانة عيسى عليه السلام؛ لأن ربَّه تبارك وتعالى يعلم أنه ما قال لقومه إلا ما أُمِرَ به ، ولكن أراد سبحانه توبيخ القوم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله ، فوجْه السلام في يوم { أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] أنه نُوقِش في الدنيا وبُرّئتْ ساحته .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ }
(1/5540)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ ذلك } [ مريم : 34 ] أي : ما تقدّم من قصة عيسى عليه السلام { قَوْلَ الحق } [ مريم : 34 ] أي : يقولها الله تعالى قَوْلَة حَقٍّ ، والحق هو الله ، فالذي قَصّ عليك هذا القَصَص هو الله ، وقوله الحق الذي لا باطلَ فيه ، فيكون الحق الذي هو ضد الباطل ، فالمعنيان ملتقيان .
أو : يكون المراد بقول الحق كلمة ( كُنْ ) التي بها يتمّ الخَلْق .
ثم يقول تعالى : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } [ مريم : 34 ] من المراء : وهو الاختلاف والجدال بالباطل ، فالحق سبحانه يعلم أنهم سيشكُّون فيه ، ويتجادلون بالباطل ، وأنهم سيقولون فيه الأقاويل ، وكأن الله تعالى يقول لهم : اتركوا هذه الأقاويل والأباطيل في شأن عيسى وخُذُوا بما أخبرتُكم به من خبره ، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ }
(1/5541)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
لماذا تكلم الحق سبحانه هنا عن نفي الولد بالذات؟
قالوا : لأن مسألة الشريك لله تعالى تُنفَى بأولية العقل ، فإنْ كان كُلُّ إ له صالحاً للفعل وللترك ، فهذه صورة مُكرّرة لا تناسب الإله ، وإنْ كان هذا إلهاً لكذا وهذا إله لكذا ، فما عند أحدهما نقص في الآخر ، وهذا محال في الإله ، ولو أن هناك إلهاً آخر لذهب كل منهما بجزء ، كما قال سبحانه : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] .
لذلك نفى مسألة الولد؛ لأنها ذات أهمية خاصة بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام؛ لأن الولد من الممكن أنْ يُستبعَد فيه الدليل ، لماذا؟ لأن دليله اتخاذُ الولد أو حُبُّ الولد ، والإنسان يحب الولد ويسعى إليه ، لماذا؟
قالوا : لأن الإنسان ابْنُ دنياه ، وهو يعلم أنه ميت ميت ، فيحبّ أن يكون له امتداد في الدنيا وذِكْر من بعده ، فالإنسان يتمسّح في الدنيا حتى بعد موته ، وهو لا يدري أن ذِكْر الإنسان لا يأتي بعده ، بل ذِكْره يسبقه إلى الآخرة بالعمل الصالح .
إذن : فحبُّ الولد هنا لاستدامة استبقاء الحياة ، وهذا مُحَال في حَقِّ الله تبارك وتعالى؛ لأنه الباقي الذي لا يزول .
وقد يتخذ الولد ليكون عِزْوة لأبيه وسَنداً ومُعِيناً ، وهذا دليل الضَّعْف ، والحق سبحانه هو القويّ الذي لا يحتاج إلى معونة أحد . إذن : فاتخاذ الولد أمر منفيّ عنه تبارك وتعالى ، فهو أمر لا يليق بمقام الألوهية ، ويجب أنْ تُنزِّه الله تعالى أن يكون له ولد؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { سُبْحَانَهُ } [ مريم : 35 ] .
وسبحان تدل على التنزيه المطلق لله تعالى تنزيهاً له في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، فهو سبحانه ليس كمثله شيء ، وإنْ وجدتَ صفة مشتركة بينك وبين الله كأنْ يكونَ لله تعالى وجه ويد ، ولكَ وجه ويد ، فإياك أنْ تنزل بالمستوى الأعلى فتقول : وجهه كوجهي ، أو يده كيدي ، لأن لك وجوداً ولله تعالى وجود ، فهل وجودك كوجود الله؟
وجودك مسبوق بعدم ويلحقه العدم ، ووجوده تعالى لم يُسبَق بعدم ولا يلحقه العدم ، فعليك إذن أن تقول في مثل هذه المسائل : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] .
والمتتبع لمادة ( سَبَّح ) في القرآن الكريم يجد أنها جاءت بكل الصِّيَغ :
الماضي : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } [ الحديد : 1 ] .
والمضارع : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] .
والأمر في : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] .
فما دام الكون كله سبَّح لله ، ولم ينقطع عن تسبيحه ، بل ما زال مُسبِّحاً ، فلما خلق الخلق أمرهم بالتسبيح؛ لأنهم جزء من منظومة الكون المسبّح ، وعليهم أنْ ينتظموا معه ، ولا يكونوا نشازاً في كون الله .
أما المصدر ( سبحان ) فقد جاء ليدل على التنزيه المطلق لله تعالى ، حتى قبل أن يخلق الخَلْق ، التنزيه ثابت له تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُنزِّهه كما في قوله تعالى :
(1/5542)
{ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] .
لأن المسألة عجيبة وفوق إدراك العقل ، فقد جاء بالمصدر ( سبحان ) الدالّ على التنزيه المطلَق لله ، كأنه تعالى يُحذّر الذين يُحكِّمون عقولهم ، ولا يُحكِّمون قدرة الله الذي خلقهم بقانون الزمان والمكان والبُعْد والمسافة ، فكُلٌّ فعل يتناسب قوةً وقدرةً مع فاعله .
ثم يقول تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ مريم : 35 ] ذلك لأن الآية في خَلْق عيسى عليه السلام مخالفة للنواميس كلها ، وخارقة للعادة التي أَلِفها الناس ، فإياك أنْ تتعجب من فِعْل الله تعالى في يحيى ، حيث جاء به مع عطب الآلات ، أو تتعجب من خَلْق عيسى حيث جاء به مع نقص الآلات .
وإياك أنْ تتعَجَّب من كلام عيسى وهو في المهد صَبِياً ، فهي أمور نعم خارقة للعادة وللنواميس ، فخُذْها في إطار ( سبحانه ) وتنزيهاً له؛ لأنه تعالى إذا أراد شيئاً لا يعالجه بعمل ومُزاولة ، وإنما يعالجه ( بكُنْ ) فيكون .
ولا تظن أن خَلْق الأشياء متوقف على هذا الأمر ( كُنْ ) ، فإن كان الفعل مُكوّناً من ( كاف ) و ( نون ) فقبل أن تنطق النون يكون الشيء موجوداً ، لكن ( كُنْ ) هو أقصر ما يمكن تصوِّره لنا ، والحق سبحانه يخاطبنا بما يُقرِّب هذه المسألة إلى عقولنا ، وإلا فإرادته سبحانه ليستْ في حاجة إلى قول ( كُنْ ) فما يريده الله يكون بمجرد إرادته .
كما أنك لو أمعنتَ النظر في قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ مريم : 35 ] تجد ( يقُولُ لَهُ ) أي : للشيء ، فكأن الشيء موجود بالفعل ، موجود أزلاً ، فالأمر بكُنْ ليس لإيجاده من العدم ، بل لمجرد إظهاره في عالم الواقع .
ثم يقول : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ }
(1/5543)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
الرب : هو المتولّي للتربية والرعاية . والتربية تعني أن يأخذ المربِّي المربَّى بالرياضة إلى مَا يصلحه لأداء مهمته والقيام بها ، كما لو أردتَ مهندساً تُربّيه تربيه مهندس ، وإن أردت طبيباً تربية تربية طبيب . ونحن هنا أمام قوم أشركوا بالله ، ونحتاج لداعية يُخرِجهم من الشرك إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة .
فالمعنى : ما دام أن الله تعالى ربي وربكم ، والمتولّي لتربيتنا جميعاً ، فلا بُدَّ أن يُربّى لكم مَنْ يصلحكم؛ لأنه تعالى لا يخاطبكم مباشرة ، بل سيبعثني إليكم أبلغكم رسالته ، وأدعوكم إلى عبادته وحده لا شريك له ، وما دام الله ربي وربكم فمن الواجب أنْ تُطيعوه { فاعبدوه } [ مريم : 36 ] والعبادة أنْ يطيعَ العابدُ معبوده في أوامره وفي نواهيه . كما قال تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله } [ البينة : 5 ] .
ثم يقول تعالى : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ مريم : 36 ] أي : الذي لا التواءَ فيه ولا اعوجاجَ ، وهو الطريق الذي يُوصِّلك لمقصودك من أقرب طريق ، وبأقلّ مجهود ، ومعلوم أن الخط المستقيم هو أقرب طريق بين نقطتين .
ثم يقول الحق سبحانه : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ }
(1/5544)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
الأحزاب : أي الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من قومه ، فمنهم مَنْ قال : هو إله ، ومنهم مَن قال : ابن إله . وآخر قال : هو ثالث ثلاثة . ومنهم مَنْ رماه بالسحر وقال عنه بعضهم : ابن زنى نستغفر الله مما يقوله الظالمون والكافرون .
والأحزاب : جمع حِزْب ، وهم طائفة من الناس اجتمعوا حول مبدأ من المبادىء ، ورأْي مَن الآراء يدافعون عنه ويعتقدونه ، ويسيرون في حياتهم على وفقه ، ويُخضِعون حركة حياتهم لخدمته .
ومعنى : { مِن بَيْنِهِمْ } [ مريم : 37 ] يعني من داخل المؤمنين به ومن أتباع عيسى أنفسهم ، فالذين قالوا عنه هذه الأباطيل ليسو من أعدائه ، بل من المؤمنين به .
وهكذا اختلف القوم في أمر عيسى ، وكان لكل منهم رَأْي ، وجميعها مُنَافِية للصواب بعيدة عن الحقيقة؛ لذلك توعّدهم الخالق سبحانه بقوله : { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ مريم : 37 ] .
فقد قلتم في عيسى ما قُلْتم في الدنيا ، وخُضْتم فيه بما أحببتُمْ من القول؛ لأن الله تعالى جعل إرادتكم نافذة على جوارحكم ، وأعطاكم حرية الفعل والاختيار ، فوجَّهتم جوارحكم واخترتم ما يُغضب الله ، فكأن عقوبة الدنيا لا تناسب ما فعلوه ، ولابُدَّ لهم من عقوبة آجلة في الآخرة تناسب ما حدث منهم في حَقِّ نبيهم وفي حَقِّ ربهم تبارك وتعالى .
{ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ مريم : 37 ] ومشهد يوم عظيم هو يوم القيامة ، يوم تُبْلَى السرائر ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله .
وسماه المشهد العظيم؛ لأنه يوم مشهود يشهده الجميع؛ لأن العذاب في الدنيا مثلاً لا يشهده إلا الحاضرون المعاصرون ، ولا يشهده السابقون ولا اللاحقون ، أما عذاب الآخرة فهو المشهد العظيم الذي يراه كل الخَلْق .
وربما كان بعض العذاب أهونَ من رؤية الغير للإنسان وهو يُعذِّب ، فربما تحمَّل هو العذاب في نفسه أما كونه يُعذَّب على مرأىً من الناس جمعياً ، ويرونه في هذه المهانة وهذه الذلة وقد كان في الدنيا عظيماً أو جباراً أو عاتياً أو ظالماً ، لا شكَّ أن رؤيتهم له في هذه الحالة تكون أنكَى له وأبلغ .
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنهم في آية أخرى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] هذا منهم مجرد كلام : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } [ الأنعام : 28 ] أي : ظهر لهم ما كانوا يخفون ولم يقُلْ يخفَى عنهم ، كأنهم كانوا يعلمون عنه شيئاً ولكنهم أخفوْه .
وقال عنهم : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] .
فلماذا أبصروا وسمعوا الآن؟ لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا عن غير وَعْي ، فينكرون ويُبصرون آيات الله في الكون ولا يؤمنون ، أما في الآخرة فقد انكشفتْ لهم الحقائق التي طالما أنكَروها ، ولم يَعُدْ هناك مجال للمكابرة أو الإنكار؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ }
(1/5545)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } [ مريم : 38 ] أي : أسمع بهم وأبْصِر بهم ، وهذه من صِيَغ التعجُّب على وزن ( أفعل به ) يعني ما أشدّ سمعهم ، وما أشدّ بصرهم ، فهم الآن يُرهِفون السمع ويُدقِّقون النظر حتى إن الإنسان ليتعجب من سمعهم الدقيق ، وبصرهم المحيط بعد أن كانوا في الدنيا يضعون أصابعهم في آذانهم فلا يسمعون ، ويستغشون ثيابهم فلا يبصرون ، كانوا في عَمىً عن آيات الله الواضحات التي تثبت صِدْق الرسل ، وعن الآيات التي تحمل الأحكام ، وعن الآيات الكونية التي تدلُّ على قدرة الصانع الحكيم .
وقوله : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] أي : أسمع بهم وأبصر بهم في هذا اليوم يوم القيامة ، والإنسان بحكم خَلْق الله تعالى له ، واستخلافه في الأرض جعل له السيطرة على جوارحه فهو يأمرها فتطيعه ، فجوارح الإنسان وطاقاته مُسخّرة لإرادته ، فلسانك تستطيع أنْ تنطقَ ب لا إله إلا الله . كما تستطيع أن تقول : لا إله أو تقول : الله ثالث ثلاثة . واللسان مِطْواع لك لا يعصاك في هذه أو تلك ، وما أعطاك الله هذه الحرية وكفَل لَك الاختيار إلا لأنه سيحاسبك عليها يوم القيامة : أأردتَ الخير الذي وجَّهك إليه أم أردتَ الشر الذي نهاك عنه؟
أما يوم القيامة فتنحلّ هذه الأرادة ، ويبطل سلطانها على الجوارح في يوم يُنادِي فيه الحق تبارك وتعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] يومها ستشهد الجوارح على صاحبها ، وكما قال الحق سبحانه تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
ويقول تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] .
لم لا؟ وقد تحررتْ الجوارح من قَيْد الإرادة ، وجاء الوقت لتشتكي إلى الله ، وتنطق بكلمة الحق التي كتمتْها تحت وطأة الإرادة وقهْرها .
وسبق أن ضربنا مثالاً لذلك بمجموعة من الجنود يسيرون تحت إمْرة قائدهم المباشر ، ويأتمرون بأمره ، ويطيعونه طاعة عمياء ، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى انطلقتْ ألسنتُهم بالشكوى من تعسُّف قائدهم وغَطْرسته .
ثم يقول تعالى : { لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ مريم : 38 ] فيا ليتهم فهموا هذه المسألة ، لكنهم ظلموا ، وما ظلموا إلا أنفسهم ، فالله تبارك وتعالى لا يضره كفر الكافرين ، ولا ينقص من مُلْكه تعالى وسلطانه ، لكن كيف يظلم الإنسان نفسه؟
يظلم الإنسان نفسه؛ لأنه صاحب عَقْل واعٍ يستقبل الأشياء ويميزها ، وصاحب نفس شهوانية تصادم بشهواتها العاجلة هذا العقل الواعي ، وتصادم المنهج الربّاني الذي يأمرها بالخير وينهاها عن الشر ، هذه النفس بشهواتها تدعو الإنسان إلى مرادها وتوُقِعه في المتعة الوقتية واللذة الفانية التي تستوجب العذاب وتُفوِّت عليه الخير الباقي والنعيم الدائم .
لذلك يقول تعالى : { ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ يونس : 44 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة }
(1/5546)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
قوله تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } [ مريم : 39 ] الإنذار : هو التحذير من شر قادم .
والحسرة : هي الندم البالغ الذي يصيب النفس الإنسانية حينما يفوتها خير لا يمكن تداركه ، وحينما تلقى شيئاً لا تستطيع دفعه أما الندم فيكون حزناً على خير فاتَكَ ، لكن يمكن تداركه ، كالتلميذ الذي يخفق في امتحان شهر من الشهور فيندم ، لكنه يمكنه تدارك هذا الإخفاق في الشهر التالي ، أما إذا أخفق في امتحان آخر العام فإنه يندم ندماً شديداً ، ويتحسَّر على عام فات لا يمكن تداركُ الخسارة فيه .
لذلك سيقول الكفار يوم القيامة : { ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [ الأنعام : 31 ] .
والمعنى : يا حسرتنا تعالَىْ فهذا أوانك ، واحضري فقد فاتتْ الفرصة إلى غير رجعة . إذن : فيوم الحسرة هو يوم القيامة ، حيث لن يعود أحدٌ ليتدارك ما فاته من الخير في الدنيا ، وليتَ العقول تعي هذه الحقيقة ، وتعمل لها وهي ما تزال في سَعَة الدنيا .
ومعنى : { إِذْ قُضِيَ الأمر } [ مريم : 39 ] أي : وقع وحدث ، ولا يمكن تلافيه ، ولم يَعُدْ هناك مجال لتدارُكِ ما فات؛ لأن الذي قضى هذا الأمر وحكم به هو الله تبارك وتعالى الذي لا يملك أحدٌ ردَّ أمرِه أو تأخيره عن موعده أو مناقشته فيه ، فسبحانه ، الأمر أمره ، والقضاء قضاؤه ، ولا إله إلا هو .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن الله حينما يُدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ ، ويُدخِل أهلَ النارِ النار يأتي بالموت على هيئة كبش ، فيقول للمؤمنين : أتعرفون هذا؟ قالوا : نعم هو الموت جاءنا وعرفناه ، ويقول للكفار : أتعرفون هذا؟ يقولون : عرفناه ، فيميت الله الموت ويقول لأهل الجنة : خلود بلا موت . ولأهل النار : خلود بلا موت " .
وهكذا قضى اللهُ الأمرَ ليقطع الأمل على الكفار الذين قد يظنُّون أن الموت سيأتي ليُخرجهم مما هُمْ فيه من العذاب ويريحهم ، فقطع الله عليهم هذا الأمل وآيسهم منه ، حيث جاء بالموت مُشخّصاً وذبحه أمامهم ، فلا موتَ بعد الآن فقد مات الموت .
لذلك يخبر عنهم الحق تبارك وتعالى : { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] .
ثم يقول تعالى : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ مريم : 39 ] .
الغفلة : أن يصرف الإنسان ذِهْنه عن الفكر في شيء واضح الدليل على صحته؛ لأن الحق تبارك وتعالى ما كان لِيُعذّب خَلْقه إلا وقد أظهر لهم الأدلة التي يستقبلها العقل الطبيعي فيؤمن بها .
فالذي لا يؤمن إذن : إما غافل عن هذه الأدلة أو متغافل عنها أو جاحد لها ، كما قال سبحانه : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .
ومن الغفلة غفلتهم عن الموت ، وقد قالوا : من مات قامت قيامته .
ومن حكمة الله أنْ أبهم الموت ، أبهمه وقتاً ، وأبهمه سبباً ، وأبهمه مكاناً ، فكان إبهام الموت هو عَيْن البيان للموت؛ لأن إبهامه يجعل الإنسان على استعداد للقائه في أيّ وقت ، وبأيّ سبب ، وفي أيّ مكان ، فالموت يأتي غفلة؛ لأنه لا يتوقف على وقت أو سبب أو مكان .
(1/5547)
فالطفل يموت وهو في بطن أمه ، ويموت بعد يوم ، أو أيام من ولادته ، ويموت بعد مائة عام ، ويموت بسبب وبدون سبب ، وقد نتعجَّب من موت أحدنا فجأة دون سبب ظاهر ، فلم تصدمه سيارة ، ولم يقع عليه جدار أو حجر ، ولم يداهمه مرض ، فما السبب؟ السبب هو الموت ، إنه سيموت ، أي أنه مات لأنه يموت ، كما يقال : والموت من دون أسباب هو السبب .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض }
(1/5548)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
كيف يقول الحق سبحانه : { نَرِثُ الأرض } [ مريم : 40 ] وهي والكون كله مِلْك له تعالى؟ قالوا : لأنه تبارك وتعالى هو المالك الأعلى ، وقد ملَّك من خَلْقه من ملَّك ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فليس لأحد ملك على شيء ، ليس للإنسان سيطرة حتى على جوارحه وأعضائه ، فالأمر كله يومئذ لله تعَالى ، فيُردّ الملْك إلى صاحبه الأعلى ، ولا أحدَ يرث هذا الملْكَ إلا الله تعالى .
لذلك ، فالذين اغترُّوا بنعم الله في الدنيا فظنوا أن لهم مثْلها في الآخرة ، فقال أحدهم : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] نقول له : لا ، صحيح ستُردّ إلى ربك ، لكن لن يكون لك عنده شيء؛ لأن الذي ملّكك في الدنيا ملّكك من باطن مِلكيته تعالى ، فإذا ما جاءت الآخرة كان هو الوارث الوحيد .
وقوله : { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ] أي : أن الأمر لا يتوقف على أنْ نرث مُلْكهم ، ويذهبوا هم لحال سبيلهم ، بل سنرث مُلْكهم ، ثم يرجعون إلينا لنحاسبهم فلن يخرجوا هم أيضاً من قبضة الملكية .
ثم يقول الحق سبحانه : { واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ }
(1/5549)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في استهلال سورة مريم عن ميلاد سيدنا يحيى لزكريا ، وعن ميلاد سيدنا المسيح بن مريم ، أراد أن يعرض لنا موكباً من مواكب الرسالات التي أرسلها الله نوراً من السماء لهداية الأرض ، فقال :
{ واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ } [ مريم : 41 ] .
فهو أبو الأنبياء وقمتهم؛ لأن الله تعالى مدحه بقوله :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] .
فليس هناك فرد يحتوي على خصال الكمال ومواهب الفضل كلها ، لكن المجموع يحتويها فهذا شجاع قوي البنية ، وهذا ذكي ، وهذا حادّ البصر ، وهذا نابغ في الطب ، وهذا في الزراعة ، مواهب متفرقة بين البشر ، لا يجمعها واحد منه ، فلا طاقته ولا حياته ولا مجهوده يستطيع أن يكون موهوباً في كل شيء ، فالكمال كله مُوزّع في الخَلْق ، إلا إبراهيم ، فقد كان عليه السلام يساوي في مواهبه أمةً بأكملها .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] صِدّيق : من مادة صدق ، ومعناها : تكلّم بواقع؛ لأن الكذب أنْ يتكلّم بغير واقع . وهذا يُسمَّى : صادق في ذاته ، أما قولنا : صِدِّيق أي : مبالغة في الصدق ، فقد بلغ الغاية في تصديق ما يأتي من الحق تبارك وتعالى ، فهو يطيع ويُذعِن ولا يناقش ، كما رأينا من أم موسى عليه السلام لما قال لها الحق سبحانه : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } [ القصص : 7 ] .
بالله ، أي أم يمكن أن تُصدِّق هذا الكلام ، وتنصاع لهذا الأمر؟ وكيف تُنجِّي ولدها من شر أو موت مظنون بموت مُحقَّق؟
إذن : فهذا كلام لا يُصدَّق ، وفوق نطاق العقل عند عامة الناس ، أما في موكب الرسالات فالأمر مختلف ، فساعة أنْ سمعتْ أم موسى هذا النداء لم يساورها خاطر مخالف لأمر الله ، ولم يراودها شَكٌّ فيه؛ لأن وارد الله عند هؤلاء القوم لا يُعارض بوارد الشيطان أبداً ، وهذه قضية مُسلَّمة عند الرسل .
إذن : الصِّدِّيق هو الذي بلغ الغاية في تصديق الحق ، فيورثه الله شفافية وإشراقاً بحيث يهتدي إلى الحق ويُميّزه عن الباطل من أول نظرة في الأمر ودون بحث وتدقيق في المسألة؛ لأن الله تعالى يهبُكَ النور الذي يُبدّد عندك غيامات الشك ، ويهبك الميزان الدقيق الذي تزنُ به الأشياء ، كما قال سبحانه : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] .
ومن هنا سُمِّي أبو بكر رضي الله عنه صِدِّيقاً ، ليس لأنه صادق في ذاته ، بل لأنه يُصدِّق كل ما جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج الذي كذَّب به كثيرون ، ماذا قال؟ قال : " إنْ كان قال فقد صدق " .
فالأمر عنده متوقف على مجرد قول رسول الله ، فهذا هو الميزان عنده ، وطالما أن رسول الله قد قال فهو صادق ، هكذا دون جدال ، ودون مناقشة ، ودون بَحْث في ملابسات هذه المسألة؛ لذلك من يومها وهو صِدِّيق عن جدارة .
(1/5550)
والسيدة مريم قال عنها الحق تبارك وتعالى : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [ المائدة : 75 ] فسماها صديقة؛ لأنها صدَّقتْ ساعة أنْ قال لها الملَك : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] .
فوثقتْ بهذه البشارة ، وأخذتْها على أنها حقيقة واقعة ، فلما جاء الوليد أشارت إليه وهي على ثقة كاملة ويقين تام أنه سينطق ويتكلم .
إذن : فالصِّديق ليس هو الذي يَصدُق ، بل الذي يُصدِّق . وهكذا كان خليل الله إبراهيم ( صديقاً ) وكان أيضاً ( نبياً ) لأن الإنسان قد يكون صديقاً يعطيه الله شفافية خاصة ، وليس من الضروري أن يكون نبياً ، كما كانت مريم صِدِّيقة وأبو بكر صِدِّيقاً ، فهذه إذن صفة ذاتية إشراقية من الله ، أما النبوة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى ، وهُدى يأتي من السماء يحمل النبي مسئوليته؟ .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت }
(1/5551)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
هذا الحديث من إبراهيم عليه السلام لأبيه على اعتبار أنه نبي جاء ليُعدِّل سلوك الناس على وَفْق منهج الله ، وأوّلهم أبوه ، وقد ذكره القرآن هكذا بأبوته لإبراهيم دون أن يذكر اسمه ، إلا في آية واحدة قال فيها : { لأَبِيهِ آزَرَ } [ الأنعام : 74 ] .
وهذه الآية أحدثتْ إشكالاً فظنَّ البعض أن آزر هو أبو إبراهيم الحقيقي الصُّلبي ، وهذا القول يتعارض مع الحديث النبوي الشريف الذي يُوضّح طهارة أصْل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : " أنا خيار من خيار ، ما زِلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " .
إذن : فأصول النبي إلى آدم " طاهر متزوج طاهرة " ، فلو قلنا : إن آزر الذي قال الله في حقه : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] هو أبو إبراهيم ، لكَانَ في ذلك تعارض مع الحديث النبوي ، فكيف يكون من آباء محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكافر؟
ولو تأملنا إطلاقات الأُبوّة في القرآن الكريم لخرجنا من هذا الإشكال ، فالقرآن تكلم عن الأبوة الصُّلْبية المباشرة ، وتكلم عن الأُبوة غير المباشرة في الجد وفي العم ، فسمَّى الجد أباً ، والعم أباً؛ لأنه يشترك مع أبي في جدي ، فله واسطة استحق بها أن يُسمَّى أباً . وفي القرآن نصَّان : أحدهما : يُطلِق على الجد أباً ، والآخر يُطلِق على العم أباً .
فالأول في قوله تعالى من قصة يوسف عليه السلام :
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } [ يوسف : 36 ] .
فاختاروا يوسف لتأويل رؤياهم؛ لأنهم رأوه من المحسنين ، فكأن الإحسان له مقاييس معروفة حتى عند غير المحسن ، فلما تعرَّضوا لأمر يُهمهم لم يلجئوا إلا لهذا الرجل الطيب ، فمقاييس الكمال محترمة ومعتبرة حتى عند فاقد الكمال .
فلما قالوا له { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } [ يوسف : 36 ] علم أنهم متتبعون حركاته وتصرفاته ، وكيف سلوكه بينهم ، فأراد أنْ يزيدهم مما عنده من إشراقات ، فأمْره ليس مجرد سلوك طيب وسيرة حسنة بينهم ، بل عنده أشياء أخرى ، فقال : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } [ يوسف : 37 ] .
ثم ترك الإجابة عن سؤالهم ، وأخذ في الحديث فيما يخصّه كنبيّ وداعية إلى الله ، فأخبرهم أن ما عنده من مواهب هو عطاء من الله ، وليس هو بأذكى منهم ، فقال : { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ * واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ يوسف : 3738 ] .
ثم يلفت نظر رفاقه إلى بطلان ما هم عليه من عبادة أرباب متفرقين لم ينفعوهم بشيء ، فهاهم يتركونهم ويلجئون إلى يوسف الذي له رَبٌّ واحد :
(1/5552)
{ ياصاحبي السجن ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 ] .
وهكذا كان يوسف النبي الداعية حريصاً على نَشْر دعوته وهداية مَنْ حوله ، حتى وهو في سجنه ما نسِيَ مهمته ، وما قصَّر في دعوته ، فلما فرغ من موعظته واستطاع بلباقة أنْ يُسمعِهم ما يريد ، وإلاّ لو أجابهم عن سؤالهم من بداية الأمر لانصرفوا عن هذه الموعظة ، وما أعاروها اهتماماً .
والآن يعود إلى سؤالهم وتفسير رؤياهم : { أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [ يوسف : 41 ] .
شَاهِدُنا في هذه القصة هو قوله تعالى : { واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ يوسف : 38 ] ويوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ، فسمَّى الأجداد آباءً .
وقد يُسمَّى العَمُّ أباً ، كما جاء في قوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] فعَدَّ إسماعيلَ في آباء يعقوب ، وهو عَمَّه .
إذن : لو أن القرآن الكريم حينما تحدث عن أبي إبراهيم فقال ( لأبيه ) في كل الآيات لا نصرف المعنى إلى الأُبوة الصُّلْبية الحقيقية ، أما أنْ يقول ولو مرة واحدة { لأَبِيهِ آزَرَ } [ الأنعام : 74 ] فهذا يعني أن المراد عمه؛ لأنه لا يُؤتي بالعَلَم بعد الأبوة إلا إذا أردنا العم ، كما نقول نحن الآن حين نريد الأبوة الحقيقية : جاء أبوك هكذا مبهمة دون تسمية ، وفي الأبوة غير الحقيقية نقول : جاء أبوك فلان .
وبناءً عليه فقد ورد قوله تعالى : { لأَبِيهِ آزَرَ } [ الأنعام : 74 ] مرة واحدة ، ليثبت لنا أن آزر ليس هو الأب الصُّلْبي لإبراهيم ، وإنما هو عَمَّه ، وبذلك يسْلَم لرسول الله صلى الله عليه وسلم طهارة نسبه ونقاء سِلْسلته إلى آدم عليه السلام .
وقوله : { ياأبت } [ مريم : 42 ] وكان التركيب العربي يقتضي أن يقول : يا أبي ، إلا أنهم يحذفون ياء المتكلم ويُعوِّضون عنها بالتاء ، فلماذا؟ قالوا : لأن ( أبت ) لها مَلْحظ دقيق ، فهو يريد أنْ يُثبت أنه وإنْ كان أباً إلا أن فيه حنان الأبوين : الأب والأم . فجاء بالتاء التي تشير إلى الجانب الآخر؛ لذلك نجدها لا تُقال إلا في الحنانية المطلقة ( يَا أَبَتِ ) كما لو ماتتْ الأم مثلاً ، فقام الأب بالمهمتين معاً ، وعوض الأبناء حنان الأم المفقود .
وقوله : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] يبدو من أسلوب إبراهيم عليه السلام مع أبيه أدَبُ الدعوة ، حيث قدَّم الموعظة على سبيل الاستفهام حتى لا يُشعِر أباه بالنقص ، أو يُظهِر له أنه أعلم منه .
{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] نلحظ أنه لم يقُلْ من البداية : لِمَ تعبد الشيطان ، بل أخّر هذه الحقيقة إلى نهاية المناقشة ، وبدل أنْ يقولَ الشيطان حلّل شخصيته ، وأبان عناصره ، وكشف عن حقيقته : لا يسمع ولا يبصر ، ولا يُغني عنك شيئاً ، فهذه الصفات لا تكون في المعبود ، وهي العِلَّة في أنْ نتجنبَ عبادة ما دون الله من شجر أو حجر أو شيطان ، وخصوصاً في بيئة إبراهيم عليه السلام وكانت مليئة بالأوثان والأصنام .
(1/5553)
لأن العبادة ماذا تعني؟ تعني طاعةَ عابدٍ لمعبود في أَمْره ونَهْيه ، فالذين يعبدون ما دون الله من صنم أو وَثَنٍ أو شمس أو قمر ، بماذا أمرتْهم هذه المعبودات؟ وعن أيِّ شيء نهتْهُم؟ وماذا أعدَّتْ هذه المعبودات لمنْ عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟ ما المنهج الذي جاءتْ به حتى تستحقَّ العبادة؟ لا يوجد شيء من هذا كله ، إذن : فعبادتهم باطلة .
ثم يقول : { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي }
(1/5554)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
يُكرِّر نبي الله إبراهيم هذا النداء الحنون مرة أخرى ، وكأنه يريد أنْ يثير في أبيه غريزة الحنان ، ويُوقِظ عنده أواصر الرحم ، كأنه يقول له : إن كلامي معك كلام الابن لأبيه ، كما نفعل نحن الآن إنْ أراد أحدنا أنْ يُحنّن إليه قلب أبيه يقول : يا والدي كذا وكذا . . يا أبي اسمع لي . وكذلك حال إبراهيم عليه السلام حيث نادى أباه هذا النداء في هذه الآيات أربع مرات متتاليات ، وما ذلك إلا لحرصه على هدايته ، والأخْذ بيده إلى الطريق المستقيم .
وقوله : { إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ } [ مريم : 43 ] أي : لا تظن يا أبي أنِّي متعالم عليك ، أو أَنِّي أفضل ، أو أذكى منك ، فهذا الكلام ليس من عندي ، بل من أعلى مني ومنك ، فلا غضاضةَ في سماعه والانصياع له ، وهو رسالة كُلِّفْتُ بإبلاغك إياها ، وهذا الذي جاءني من العلم لم يأتِكَ أنت ، وهذا اعتذار رقيق من خليل الله ، فالمسألة ليستْ ذاتية بين ولد وعمه ، أو ولد وأبيه ، إنها مسألة عامة تعدَّتْ حدود الأُبُوة والعمومة .
ولذلك لما تحدَّثْنا في سورة الكهف عن قصة موسى والخضر عليهما السلام ، قلنا : إن العبد الصالح التمس لموسى عُذْراً؛ لأنه تصرَّف بناءً على علم عنده ، ليس عند موسى مثله ، فقال له : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 68 ] وكذلك قال إبراهيم لأبيه حتى لا تأخذه العِزّة ، ويأنف من الاستماع لولده .
ثم يقول : { فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [ مريم : 43 ] لأن هذا المنهج الذي أدعوك إليه ليس من عندي ، بل من أعلى مني ومنك ، والصراط السَّويّ : هو الطريق المستقيم الذي يُوصِّلك للغاية بأيسر مشقة ، وفي أقصر وقت .
ثم يقول : { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان }
(1/5555)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
نلحظ أن إبراهيم في بداية محاورته لأبيه قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] وهنا يقول : { لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] مع أن الشيطان يمكن أن يسمع ويبصر ، فكيف يكون ذلك؟
قالوا : لأن الشيطان هو الذي يُسوِّل عبادة الصنم أو الشجر أو الشمس أو القمر ، فالأمر مردود إليه وهو سببه ، إلا أن إبراهيم عليه السلام حَلَّل المسألة المباشرة؛ لأن أباه يعبد صنماً لا يسمع ولا يُبصر ، ولا يُغني عنه شيئاً ، وهذا بشهادتهم أنفسهم ، كما جاء في قوله تبارك وتعالى : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [ الشعراء : 7273 ] .
فهذا استفهام ، ولا يستفهم مُستفهِم مجادل ممَّن يجادله عن شيء ، إلا وقد عَلِم أن الجواب لا بُدَّ أن يكون في صالحه؛ لأنه ائتمنه على الجواب . إذن : فعبادة ما دون الله مردُّها إلى إغواء الشيطان .
ثم يستطرد إبراهيم قائلاً : { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] عصياً : مبالغة في العصيان ، فالشيطان ليس عاصياً ، بل عَصِياً يعصي أوامر الله بلَدَدٍ وعناد .
ثم يقول : { ياأبت إني أَخَافُ }
(1/5556)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
مازال خليل الله يتلطف في دعوة أبيه فيقول : { يَمَسَّكَ عَذَابٌ } [ مريم : 45 ] ولم يقُلْ مثلاً : يصيبك . فهو لا يريد أنْ يصدمه بهذه الحقيقة ، والمسُّ : هو الالتصاق الخفيف ، وكأنه يقول له : إن أمرك يُهمني ، وأخاف عليك مجرد هبو التراب أن ينالك . وهذا منتهى الشفقة عليه والحرص على نجاته .
ثم يقول : { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } [ مريم : 45 ] أي : قريباً منه ، وتابعاً له يصيبك من العذاب مَا يصيبه ، وتُعذّب كما يُعذّب .
وهكذا انتهتْ هذه المحاورة التي احتوتْ أربعة نداءات حانية ، وجاءت نموذجاً فريداً للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فراعتْ مشاعر الأب الذي يدعوه ولده ويُقدِّم له النُّصْح ، ورتبت الأمور ترتيباً طبيعياً ، وسَلْسَلَتْها تسلْسُلاً لطيفاً لا يثير حفيظة السامع ولا يصدمه .
وقد راعى الحق تبارك وتعالى جوانب النفس البشرية فأمر أنْ تكونَ الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى لا تجمع على المدعو قسوة الدعوة ، وقسوة أنْ يترك ما أَلِف ، ويخرج منه إلى ما لم يألف .
فأنت حين تدعو شخصاً إلى الله فإنما تُخرِجه عن الفساد الذي أَلِفه ، وهو لم يألف الفساد إلا بعد أن اشتهاه أولاً ، ثم اعتاده بالفعل والممارسة ثانياً ، وهاتان مصيبتان آخذتان بزمامه ، فما أحوجه لأسلوب لَيِّن يستميل مشاعره ويعطفه نحوك فيستجيب لك .
وما أشبه الداعية في هذا الموقف بالذي يحتال ليخلص الثوب الحرير من الأشواك ، أما إنْ نهرته وقسوْتَ عليه فسوف يُعرض عنك وينصرف عن دعوتك ، ويظلّ على ما هو عليه من الفساد؛ لذلك قال تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] .
ويقولون : النصح ثقيل فلا تُرسِلْه جبلاً ، ولا تجعله جدلاً ، وقالوا : الحقائق مُرّة فاستعيروا لها خِفّة البيان .
وبعد أنْ أنهى إبراهيم مقالته يرد الأب قائلاً : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي }
(1/5557)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
الفعل ( رغب ) يحمل المعنى وضده حَسْب حرف الجر بعده ، نقول : رغب في كذا . أي : أحبه وذهب إليه ، ورَغب عن كذا أي : كرهه واعتزله ، فمعنى { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم } [ إبراهيم : 46 ] أي : تاركها إلى غيرها ، كما جاء في قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] أي : تركها إلى مِلَّة أخرى .
ونلاحظ أن الفعل رَغِب لم يأْتِ مقترناً بعده بفي إلا مرة واحدة ، وإنْ كانت ( في ) مُقدَّرة بعد الفعل ، وهذا في قوله تعالى عن نكاح يتامى النساء : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [ النساء : 127 ] .
والرغبة في الشيء تعني حُبه وعِشْقه ، والرغبة في الطريق الموصّل إليه ، إلا أنك لم تسلك هذا الطريق بالفعل ، ولم تأخذ بالأسباب التي تُوصّلك إلى ما ترغب فيه ، وهذا المعنى واضح في قصة أصحاب الجنة في سورة ( ن ) حيث يقول تعالى :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم } [ القلم : 1720 ] .
فقد اتفقوا على قَطْف ثمار بستانهم في الصباح ، ولم يقولوا : إن شاء الله ، فدمّرها الله وأهلكها وهم نائمون ، وفي الصباح انطلقوا إلى جنتهم وهم يقولون فيما بينهم :
{ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } [ القلم : 24 ] .
وهكذا قطعوا الطريق على أنفسهم حينما حَرَمُوا المسكين { فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ القلم : 2627 ] ثم تنبهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ ، وعادوا إلى صوابهم فقالو : { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [ القلم : 32 ] .
أي : راغبون في الطريق الموصّل إليه تعالى ، فقبل أنْ تقول : أنا راغب في الله . قل : أنا راغب إلى الله ، فالمسألة ليست حُباً فقط بل حُباً بثمن وسَعْي وعَمل يُوصِّلك إلى ما تحب . إذن : قبل أنْ تكونوا راغبين في ربكم ارغبوا إليه أولاً .
وفي موضع آخر يقول تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] أي : يعيبك في توزيعها { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] فهم إذن لا يحبون الله ، وإنما يحبون العطاء والعَرَض الزائل ، بدليل أنهم لما مُنِعُوا سخطوا وصرفوا نظرهم عن دين الله كمَنْ قال الله فيهم :
{ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ } [ الحج : 11 ] .
لذلك يُعدِّل لهم الحق سبحانه سلوكهم ، ويرشدهم إلى المنهج القويم : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] أي : آخذين الوسيلة الموصِّلة إليه ، فالذي يرغب في حب الله عليه أنْ يرغبَ في الطريق الموصّل إليه .
ثم يقول أبو إبراهيم : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } [ مريم : 46 ] أي : تترك هذه المسألة التي تدعو إليها . والرجْم : هو الرمي بالحجارة ، ويبدو أن عملية الرجم كانت طريقة للتعذيب الشديد ، كما في قوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } [ الكهف : 20 ] .
{ واهجرني مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] أي : ابتعد عني وفارقني { مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] المليّ : البُرْهة الطويلة من الزمن . ومنها الملاوة : الفترة الطويلة من الزمن ، والملوَان : الليل والنهار .
فماذا قال نبي الله إبراهيم لعمه بعد هذه القسوة؟ لم يخرج إبراهيم عن سَمْته العادل ، ولم يتعدَّ أدب الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة . قال : { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ }
(1/5558)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
وكأن إبراهيم عليه السلام يريد أنْ يَلفِتَ نظر عمه ، ويؤكد له أنه في خطر عظيم يستوجب العذاب من الله ، وهذا أمر يُحزِنه ولا يُرضيه ، وكيف يترك عمه دون أنْ يأخذَ بيده؟ فقال له أولاً : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } [ مريم : 47 ] أي : سلام مني أنا ، سلام أقابل به ما بدر منك فأمْري معك سلام ، فلن أقابلَك بمثل ما قُلْت ، ولن أُغلِظ لك ، ولن ينالك مني أذىً ، ولن أقول لك : أُفٍّ .
لكن السلام منِّي أنا لا يكفي ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ لك سلاماً أيضاً من الله تعالى؛ لأنك وقعت في أمر خطير لا يُغفر ويستوجب العذاب ، وأخشى ألاّ يكونَ لك سلام من الله .
لذلك قال بعدها : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] كأنه يعتذر عن قوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } [ مريم : 47 ] فأنا ما قُلْتُ لك : سلام عليك إلا وأنا أنوي أن أستغفرَ لك ربي ، حتى يتمّ لك السلام إنْ رجعتَ عن عقيدتك في عبادة الأصنام ، وهو بذلك يريد أنْ يُحنِّنه ويستميل قلبه .
ثم أخبر عن الاستغفار في المستقبل فلم يقُلْ استغفرتُ ، بل { سَأَسْتَغْفِرُ } [ مريم : 47 ] يريد أنْ يُبرىء استغفاره لعمه من المجاملة والنفاق والخداع ، وربما لو استغفرتُ لك الآن لظنِنتُ أنِّي أجاملك ، أما { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ } [ مريم : 47 ] أي : بعيداً عنك ليكون دعاءً عن ظَهْر غيب ، وهو أَرْجَى للقبول عند الله .
ثم يقول : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] يريد أنْ يُطمئِن عمه إلى أن له منزلة عند الله ، فإذا استغفر له ربه فإنه تعالى سيقبل منه .
وحَفياً : من الفعل حَفِيَ يَحْفيَ كرَضِي يرضى ، ويأتي بعده حرف جر يُحدِّد معناها . تقول : حفيٌّ به : أي بالغٍ في إكرامه إكراماً يستوعب متطلبات سعادته ، وقابله بالحفاوة : أي بالإكرام الذي يتناسب مع ما يُحقِّق له السعادة .
وهذا أمر نسبيّ يختلف باختلاف الناس ، فمنهم مَنْ تكون الحفاوة به مجرد أنْ تستقبلَه ولو على حصيرة ، وتُقدِّم له ولو كوباً من الشاي ، ومن الناس مَنْ يحتاج إلى الزينات والفُرُش الفاخرة والموائد الفخمة ليشعر بالحفاوة به .
ونقول : حَفِيٌّ عنه : أي بالغ في البحث عنه ليعرف أخباره ، وبلغ من ذلك مبلغاً شَقَّ عليه وأضناه ، وبالعامية يقولون : وصلتُ له بعدما حفيتُ ، ومن ذلك قوله تعالى عن الساعة : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 187 ] أي : كأنك معنيٌّ بالساعة ، مُغْرم بالبحث عنها ، دائم الكلام في شأنها .
إذن : المعنى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أي : أن ربي يبالغ في إكرامي إكراماً يُحقِّق سعادتي ، ومن سعادتي أن الله يغفر لك الذنب الكبير الذي تُصِرّ عليه ، وكأنه عليه السلام يُضخِّم أمرينْ : يُضخِّم الذنب الذي وقع فيه عمه ، وهو الكفر بالله ، ويُعظِّم الرب الذي سيستغفر لعمه عنده { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] .
(1/5559)
وما دام ربي حَفِيّاً بي فلن يخذلني ، كيف وقد جعلني نبياً واحتفى بي ، فكُنْ مطمئناً إنْ أنت تُبْتَ مما أنت عليه من المعتقدات الباطلة ، إنه سيغفر لك . وكأن إبراهيم عليه السلام يؤكد لعمه على منزلته عند ربه ، وما على عمه إلا أنْ يسمع كلامه ، ويستجيب لدعوته .
وظَلَّ إبراهيم عليه السلام يستغفر لعمه كما وعده ، إلى أنْ تبيَّن له أنه عدو لله فانصرف عند ذلك ، وتبرأ منه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] .
ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه قال لقومه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله }
(1/5560)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
اعتزل : ترك صحبة إلى خير منها ولو في اعتقاده ، وهنا يلفتنا الحق سبحانه إلى إن الإنسان حين يجادل في قضية ، ويرى عند خَصْمه لدداً وعناداً في الباطل ، لا يطيل معه الكلام حتى لا يُؤصِّل فيه العناد ، ويدعوه إلى كبرياء الغَلَبة ولو بالباطل .
لذلك ، فالحق تبارك وتعالى يُعلِّم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنْ أرادوا البحث في أمره صِدْقاً أو كذباً والعياذ بالله ، أنْ يبحثوه مَثْنى أو فُرَادى ، ولا يبحثوه بَحْثاً جماهيرياً غوغائياً؛ لأن العمل الغوغائي بعيد عن الموضوعية يستتر فيه الواحد في الجماعة ، وقد يحدث ما لا تُحمد عُقباه ولا يعرفه أحد .
والغوغائية لا يحكمها عقل ولا منطق ، والجمهور كما يقولون : عقله في أذنيه . وسبق أن قلنا : إن كليوباترا حين هُزِمت وحليفها صَوّروا هذه الهزيمة على أنها نصر ، كما حدث كثيراً على مَرِّ التاريخ ، وفيها يقول الشاعر :
أسْمَعُ الشَّعْب دُيُونُ ... كيْفَ يُوحُونَ إليْه
مَلأَ الجوَّ هِتافاً ... بحياتيْ قاتِليْه
أثَّر البُهتانُ فيه ... وَانْطلَي الزُّورُ عليْه
يَالَهُ مِنْ بَبَّغَاءٍ ... عقلُه في أُذُنيْه
إذن : فالجمهرة لا تُبدي رأياً ، ولا تصل إلى صواب .
يقول الحق سبحانه للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [ سبأ : 46 ] .
فبَحْث مثل هذا الأمر يحتاج إلى فرديْن يتبادلان النظر والفِكْر والدليل ويتقصيَّان المسألة ، فإنْ تغلّب أحدهما على الآخر كان الأمر بينهما دون ثالث يمكن أنْ يشمتَ في المغلوب ، أو يبحثه فرد واحد بينه وبين نفسه فينظر في شخص رسول الله ، وما هو عليه من أدب وخُلق ، وكيف يكون مع هذا مجنوناً؟ وهل رأينا عليه أمارات الجنون؟ والذين قالوا عنه : ساحر لماذا لم يسحرهم كما سحر التابعين له؟
إذن : لو أدار الشخص الواحد هذه الحقائق على ذِهْنه ، واستعرض الآراء المختلفة لاهتدى وحده إلى الصواب ، فالاعتزال أمر مطلوب إنْ وجد الإنسان البيئة غير صالحة لنقاش الباطل مع الحق لا نُؤصِّل الجدل والعناد في نفس الخَصْم .
لذلك يقول تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] .
أي : كانت الفرصة أمامكم لتتركوا هذه البُقْعة إلى غيرها من أرض الله الواسعة ، وكأن الحق تبارك وتعالى يُلفت نظرنا إلى أن الأرض كلها أرض الله ، فأرض الله الواسعة ليست هي مصر أو سوريا أو ألمانيا ، بل الأرض كلها بلا حواجز هي أرض الله ، فمَنْ ضاق به مكانٌ ذهب إلى غيره لا يمنعه مانع ، وهل يوجد هذا الآن؟ هل تستطيع أن تخترق هذه الحواجز ودونها نظم وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان .
(1/5561)
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] .
أي : الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام وهذا من المبادىء التي جعلها الخالق سبحانه للإنسانية ، فلما استحدثَ الإنسانُ الحواجز والحدود ، وأقام الأسوار والأسلاك ومنع الأنام من الحركة في أرض الله نشأ في الكون فساد كبير ، فإنْ ضاق بك موضع لا تجد بديلاً عنه في غيره ، وإنْ عِشْتَ في بيئة غير مستقيمة التكوين كتب عليك أنْ تشقى بها طوال حياتك .
وقلنا : إن هذه الحدود وتلك الحواجز أفرزتْ أرضاً بلا رجال ، ورجالاً بلا أرض ، ولو تكاملتْ هذه الطاقات لا ستقامتْ الدنيا .
ومسألة الاعتزال هذه ، أو الهجرة من أرض الباطل ، أو من بيئة لا ينتصر فيها الحق وردتْ في نصوص عِدَّة بالنسبة لسيدنا إبراهيم عليه السلام منها قوله تعالى :
{ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 6871 ] .
فترك إبراهيم الأرض التي استعصتْ على منهج الله إلى أرض أخرى ، وهاجر بدعوته إلى بيئة صالحة لها من أرض الشام .
نعود إلى اعتزال إبراهيم عليه السلام للقوم ، لا لطلب الرزق وسَعة العيش ، بل الاعتزال من أجل الله وفي سبيل مبدأ إيماني يدعو إليه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] وأول ما نلحظ أن في هذه النص عدولاً ، حيث كان الكلام عن العبادة : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } [ مريم : 42 ] ، { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] .
والقياس يقتضي أن يقول : وأعتزلكم وما تعبدون . . وأدعو ربي . أي : أعبده ، إلا أنه عدل عن العبادة هنا وقال : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } [ مريم : 48 ] فلماذا؟
قالوا : لأن الإنسان لا ينصرف عن ربه وعن وحدانيته تعالى إلا حين يستغني ، فإنْ ألجأتْهُ الأحداث واضطرته الظروف لا يجد ملجأ إلا إلى الله فيدعو . إذن : فالعبادة ستصل قَطْعاً إلى الدعاء ، وما دُمْتَ ستضطر إلى الدعاء فليكُنْ من بداية الأمر :
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] .
إذن : استخدم الدعاء بدل العبادة؛ لأنني أعبد الله في الرخاء ، فإنْ حدثتْ لي شِدَّةٌ لا أجد إلا هو أدعوه .
وقوله : { وَأَدْعُو رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } [ مريم : 48 ] أي : عسى ألاَّ أكون شقياً بسبب دعائي لربي؛ لأنه تبارك وتعالى لا يُشقي مَنْ عبده ودعاه ، فإنْ أردتَ المقابل فَقُلْ : الشقيُّ مَنْ لا يعبد الله ولا يدعوه .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ }
(1/5562)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
قوله : { وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ مريم : 49 ] لم يذكر هنا إسماعيل؛ لأن إسحق جاء جزاءً من الله لإبراهيم على صبره في مسألة ذَبْح إسماعيل ، وما حدث من تفويضهما الأمر لله تعالى ، والتسليم لقضائه وقَدرهِ ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا } [ الصافات : 103 ] أي : إبراهيم وإسماعيل { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 103107 ] .
ولم يقتصر الأمر على الفداء ، بل { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] فلما امتثل لأمر الله في الولد الأول وهبنا له الثاني .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } [ الأنبياء : 72 ] .
كأن الحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية ، ومبالغة في الإكرام .
ثم يتمنُّ الله على الجميع بأن يجعلَهم أنبياء { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] فليس الامتنان بأنْ وهب له إسحاق ومن بعده يعقوب ، بل بأنْ جعلهم أنبياء ، وهذه جاءت بشرى لإبراهيم ، وكان حظّه أنْ يرعى دعوة الله حياً ، ويطمع أنْ تكونَ في ذريته من بعده ، وكانت هذه هي فكرة زكريا عليه السلام فكلهم يحرصون على الذرية لا للعزوة والتكاثر وميراث عَرَضِ الدنيا ، بل لحمل منهج الله وامتداد الدعوة فيهم والقيام بواجبها .
انظر إلى قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] أي : حَمَّله تشريعات فقام بها على أتمِّ وجه وأدّاها على وجهها الصحيح ، فلما علم الله منه عِشْقه للتكليف أتمها عليه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] فتثور مسألة الإمامة في نفس إبراهيم ، ويطمع أنْ تكونَ في ذريته من بعده فيقول : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } [ البقرة : 124 ] لذلك يُعدِّل الحق سبحانه فكرة إبراهيم عن الإمامة ، ويضع المبدأ العام لها ، فهي ليستْ ميراثاً ، إنها تكليف له شروط .
{ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
فالظالمون لا يصلحون لهذه المهمة . فوعي إبراهيم عليه السلام هذا الدرس ، وأخذ هذا المبدأ ، وأراد أنْ يحتاط به في سؤاله لربه بعد ذلك ، فلما دعا ربه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } [ البقرة : 126 ] فاحتاط لأنْ يكونَ في بلده ظالمون ، فقال : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 126 ] .
لكن جاء قياس إبراهيم هنا في غير محله ، فعدَّل الله له المسألة؛ لأنه يتكلم في أمر خاص بعطاء الربوبية الذي يشمل المؤمنَ والكافر ، والطائعَ والعاصي ، فقد ضمن الله الرزق للجميع فلا داعي للاحتياط في عطاء الربوبية؛ لذلك أجابه ربه : { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } [ البقرة : 126 ] .
إذن : فهناك فارق بين العطاءين : عطاء الربوبية وعطاء الألوهية ، والإمامية في منهج الله ، فعطاء الربوبية رِزْق يُسَاق للجميع وخاضع للأسباب ، فمَنْ أخذ بأسبابه نال منه مَا يريد ، أما عطاء الألوهية فتكليف وطاعة وعبادة .
يقول تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا }
(1/5563)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قوله تعالى : { مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] المراد بالرحمة النبوة؛ لذلك لما قال أهل العظمة والجاه المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] وكأنهم استقلُّوا رسول الله أن يكون في هذه المنزلة ، رَدَّ عليهم القرآن : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] .
إذن : فعطاؤه تعالى في النبوات رحمةٌ أشاعها الله في ذرية إبراهيم .
وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } [ مريم : 50 ] أي : كلمة صدق وحق ثابت مطابق للواقع ، ولسان الصِّدْق يعني مَدْحاً في موضعه ، وثناءً بحق لا مجاملةَ فيه ، والثناء يكون باللسان ، وها نحن نذكر هذا الرْكب من الأنبياء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب بالثناء الحسَن والسيرة الطيبة ، ونأخذهم قدوة ، وهذا كله من لسان الصدق ، ويبدو أنها دعوةُ إبراهيم حين قال :
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين * واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 8384 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { واذكر فِي الكتاب موسى }
(1/5564)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
وهذا أيضاً ركْب من ركْب النبوات ، وقد أخذ قصة موسى عليه السلام حَيِّزاً كبيراً من كتاب الله لم تأخذه قصة نبي آخر ، مما دعا الناس إلى التساؤل عن سبب ذلك ، حتى بنو إسرائيل يُفضّلون أنفسهم على الناس بأنهم أكثر الأمم أنبياءً ، وهذا من غبائهم؛ لأن هذه تُحسَب عليهم لا لهم ، فكثرة الأنبياء فيهم دليل على عنادهم وغطرستهم مع أنبيائهم .
فما من أمة حيَّرتْ الأنبياء ، وآذتْهم كبني إسرائيل؛ لذلك كَثُرَ أنبياؤهم ، والأنبياء أطباء القِيَم وأُسَاة أمراضها ، فكثرتهم دليل تقشِّي المرض ، وأنه أصبح مرضاً عُضَالاً يحتاج في علاجه لا لطبيب واحد ، بل لفريق من الأطباء .
والبعض يظن أن قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ ، كما نقول نحن ونقصُّ : كان يا ما كان حدث كذا وكذا ، ولو كانت قصة موسى في القرآن مجرد حكاية تاريخ لجاءتْ مرة واحدة . لكنها ليست كذلك؛ لأن الحكمة من قَصَّها على رسول الله كما قال تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
إذن : فالهدف من هذا القَصَص تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقومه؛ لأنه سيتعرض لمواقف وشدائد كثيرة يحتاج فيها إلى تثبيت ومواساة وتسلية ، فكلما جَدَّ بينه وبين قومه أمر قال له ربه : اذكر موسى حين فعل كذا وكذا ، وأنت خاتم الرسل ، وأنت التاج بينهم ، فلا بُدَّ لك أنْ تتحمَّل وتصبر .
أما لو نزلت مثل هذه القصة مرة واحدة لكان التثبيت بها مرة واحدة ، وما أكثر الأحداث التي تحتاج إلى تثبيت في حياة الدعوة .
لذلك نجد خصوم الإسلام يتهمون القرآن بالتكرار في قصة موسى عليه السلام ، وهذا دليلٌ على قصورهم في فَهْم القرآن ، فهذه المواضع التي يروْنَ فيها تكراراً ما هي إلا لقطات مختلفة لموضوع واحد ، لكن لكل لقطة منها موقع وميلاد ، فإذا جاء موقعها وحان ميلادها نزلتْ .
ومما رأوا فيه تكراراً ، وليس كذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلام طفلاً : { عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ] ونتساءل : متى تستعر العداوة بين عدوين؟ إنْ كانت العداوة من طرف واحد فإن الطرف الآخر يقابلها بموضوعية ودون لَدَدٍ في الخصومة إلى أنْ تهدأ العداوة بينهما ، فهو عدو دون عداوة ، فحينما يراه صاحب العداوة على هذا الخُلق يصرف ما في نفسه من عداوة له ، كما قال تعالى :
{ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] .
أمّا إنْ كانت العداوة بين عدوَّيْن حقيقيين : هذا عدو وهذا عدو ، هنا تستعر العداوة ، وتزكو نارها ، ويحتدم بينهما صراع ، ولا بُدَّ أنْ يصرَع أحدهما الآخر .
والحق تبارك وتعالى حينما تكلّم عن موسى وفرعون ، جعل العداوة مرة من موسى في قوله تعالى :
(1/5565)
{ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
فالعداوة هنا من موسى ليفضح الله أمر فرعون ، فها هو يأخذ موسى ويُربِّيه ، وهو لا يعلم أنه عدو له ، وعلى يديْه ستكون نهايته غريقاً ، فالمقاييس عنده خاطئة ، وهو يدَّعِي الألوهية .
ومرة أخرى يُثبت العداوة من فرعون في قوله تعالى :
{ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ] .
فالعداوة هنا من فرعون : إذن : فالعداوة من الطرفين ، لذلك فالمعركة بينهما كانت حامية .
كذلك من المواضع التي ظنوا بها تكراراً قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] .
وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 3839 ] .
والمستشرقون أحدثوا ضجة حول هذه الآيات : لأنهم لا يفهمون أسلوب القرآن ، وليست لديهم الملَكَة العربية للتلقِّي عن الله ، فهناك فَرْق بين السياقين ، فالكلام الأول : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] هذه أحداث لم تقع بعد ، إنها ستحدث في المستقبل ، والكلام مجرد إعداد أم موسى للأحداث قبل أنْ تقعَ .
أمّا المعنى الثاني فهو مباشر للأحداث وقت وقوعها؛ لذلك جاء في عبارات مختصرة كأنها برقيات حاسمة لتناسب واقع الأحداث :
{ أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم } [ طه : 39 ] .
كما أن الآية الأولى ذكرت : { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] ولم تذكر التابوت كما في الآية الأخرى : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم } [ طه : 39 ] .
إذن : ليس في المسألة تكرار كما يدَّعي المغرضون؛ فكل منهما تتحدث عن حال معين ومرحلة من مراحل القصة .
ثم يقول تعالى : { واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [ مريم : 51 ] من خَلّصَ شيئا من أشياء ، أي : استخرج شيئاً من أشياء كانت مختلطة به ، كما نستخلص مثلاً العطور من الزهور ، فقد أخذت الجيد وتركت الرديء ، وبالنسبة للإنسان نقول : فلان مُخلص لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة لتخدم كل حركة في الحياة ، وكل مَلَكَة من ملَكَاته ، أو جهاز من أجهزته له مهمة يؤديها ، إلا أنها قد تدخل عليها أشياء ليست من مهمته ، أو تخرج عن غاياتها فتحدث فيه بعض الشوائب ، فيحتاج الإنسان لأنْ يُخلِّص نفسه من هذه الشوائب .
فمثلاً ، الحق تبارك وتعالى جعل التقاء الرجل والمرأة لهدف محدد ، وهو بقاء النوع؛ لذلك تجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا بالعقل والاختيار إذا أدى كُلُّ من الذكر والأنثى هذه المهمة لا يمكن أنْ تُمكِّن الأنثى الذكر منها ، وكذلك الذكر لا يأتي الأنثى إذا علم من رائحتها أنها حامل .
إذن : وقف الحيوان بهذه الغريزة عند مهمتها ، وهي حفظ النوع ، لكن الإنسان لم يقف بهذه الغريزة عند حدودها ، بل جعلها مُتعةً شخصية يأتي حِفْظ النوع تابعاً لها .
(1/5566)
وكذلك الحال في غريزة الطعام ، فالإنسان إذا جاع يحتاج بغريزته إلى أنْ يأكلَ ، والحكمة من ذلك استبقاء الحياة ، لا الامتلاء باللحم والشحم . فالحيوان يقف بهذه الغريزة عند حَدِّها ، فإذا شبع لا يمكن أنْ تُجبره على عود برسيم واحد فوق ما أكل .
أما في الإنسان فالأمر مختلف تماماً ، فيأكل الإنسان حتى الشِّبَع ، ثم حتى التُّخْمة ، ولا مانع بعد ذلك من الحلو والمشروبات وخلافه؛ لذلك وضع لنا الخالق سبحانه وتعالى المنهج الذي يُنظّم لنا هذه الغريزة ، فقال تعالى : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] .
وفي الحديث الشريف : " بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه ، فإن كان ولا بُدَّ فاعلاً ، فثُلث لطعامه ، وثُلث لشرابه ، وثُلث لنفَسِه " .
ومن الغرائز أيضاً غريزة حب الاستطلاع ، فالإنسان يحب أن يعرف ما عند الآخر ليحدث بين الناس الترقي اللازم لحركة الحياة ، ومعرفة أسرار الله في الكون ، وهذا هو الحد المقبول أما أن يتحول حب الاستطلاع إلى التجسس وتتبّع عورات الآخرين ، فهذا لا يُقبل ويُعَدُّ من شوائب النفوس ، يحتاج إلى أنْ نُخلِّص أنفسنا منه .
إذن : لكل غريزة حكمة ومهمة يجب ألاَّ نخرج عنها ، والمُخْلَص هو الذي يقف بغرائزه عند حَدِّها لا يتعدَّاها ويخلصها من الشوائب التي تحوط بها . وهذه الصفة إمّا أنْ يكرم الله بها العبد فيُخلِّصه من البداية من هذه الشوائب ، أو يجتهد هو ليُخلّص نفسه من شوائبها باتباعه لمنهج الله . هذا هو المُخْلَص : أي الذي خلص نفسه .
لذلك ، يقولون : من الناس مَنْ يصِل بطاعة الله إلى كرامة الله ، ومن الناس مَنْ يصل بكرامة الله إلى طاعة الله . وقد جعل الله تعالى الأنبياء مخْلَصين من بدايتهم ، ليكونوا جاهزين لهداية الناس ، ولا يُضيِّعون أوقاتهم في تخليص أنفسهم من شوائب الحياة وتجاربها .
ألم يستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة يُعلِّم الناس كيف يُخِلصون أنفسهم؟ فكيف إنْ كان النبي نفسه في حاجة لأنْ يُخلص نفسه؟
ولمكانة هؤلاء المخْلَصين ومنزلتهم تأدَّب إبليس وراعى هذه المنزلة حين قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 8283 ] .
لأن هؤلاء لا يقدر إبليس على غوايتهم .
ثم يقول تعالى : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم : 51 ] لأن من عباد الله مَنْ يكون مخْلَصاً دون أن يكون نبياً أو رسولاً كالعبد الصالح مثلاً؛ لذلك أخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه جمع له كل هذه الصفات .
والرسول : مَنْ أُوحي إليه بشرع يعمل به ويُؤْمَر بتبليغه لقومه ، أما النبي ، فهو مَنْ أُوحِي إليه بشرع يعمل به لكن لم يُؤْمَر بتبليغه . إذن : فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً؛ لأن النبي يعيش على منهج الرسول الذي يعاصره أو يسبقه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور }
(1/5567)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
قوله تعالى : { مِن جَانِبِ الطور الأيمن } [ مريم : 52 ] أيمن الطور ، أَمْ أيمن موسى؟ أيّ مكان لا يُقال له أيمن ولا أيسر ، إنما الأيمن والأيسر بالنسبة لك أو لغيرك ، فالذي تعتبره أنت يميناً يعتبره غيرُك يساراً ، ولا يُقال للمكان أيمن ولا أيسر إلا إذا قِسْته إلى شيء ثابت كالقِبْلة مثلاً فتقول : أيمن القبلة ، وأيسر القبلة ، وخلف القِبْلة ، وأمام القِبْلة .
إذن : فقوله : { مِن جَانِبِ الطور الأيمن } [ مريم : 52 ] أي : أيمن موسى ، وهو مُقبل على الجبل ، وهذه لقطة مختصرة من القصة جاءت مُفصَّلة في قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] .
وقوله : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] أي : قرَّبْناه لِنُنَاجيه بكلام . والنجيّ : هو المنَاجِي الذي يُسِرُّ القول إلى صاحبه ، كما جاء في الحديث الشريف : " إذا كنتم ثلاثة فلا ينتاجَ اثنان دون الآخر ، فإن ذلك يُحزِنه " .
وقد قرَّب الله تعالى موسى ليناجيه؛ لأن هذه خصوصية لموسى عليه السلام ، فكلام الله لموسى خاصٌّ به وحده لا يسمعه أحد غيره ، فإنْ قلتَ : فكيف يكلّمه الله بكلام ، ويسمى مناجاة؟ قالوا : لأنه تعالى أسمعه موسى ، وأخفاه عن غيره ، فصار مناجاة كما يتناجى اثنان سِراً . وهذا من طلاقة قدرته تعالى أن يُسمع هذا ، ولا يُسمع ذاك .
وبعض المفسرين يرى أن ( الأيمن ) ليس من اليمين ، ولكن من اليُمْن والبركة . و { وَقَرَّبْنَاهُ } [ مريم : 52 ] أي : من حضرة الحق تبارك وتعالى . لكن هل حضرة الحق قُرْب منه ، أم موسى هو الذي قَرُب من حضرة الحق سبحانه؟ كيف نقول إن الله قرب منه وهو سبحانه أقرب إليه من حبل الوريد ، فالتقريب إذن لموسى عليه السلام .
وهكذا جمع الحق تبارك وتعالى لموسى عدةٍ خصال ، حيث جعله مخلَصاً ورسولاً ونبياً ، وخَصَّه بالكلام والمناجاة ، ثم يزيده هِبةً أخرى في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ }
(1/5568)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
وهب الله لموسى أخاه هارون رحمةً بموسى؛ لأن هارون كان مُعيناً لأخيه ومسانداً له في مسألة الدعوة ، وهذه لم تحدث مع نبي آخر أن يجعل الله له معيناً في حمل هذه المهمة؛ لذلك قال موسى عليه السلام : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ] .
والرِّدْء : هو المعين . وهكذا أعطانا الحق تبارك وتعالى لقطة سريعة من موكب النبوة في قصة موسى ، ولمحة مُوجَزة هنا أتى تفصيلها في موضع آخر .
ثم يقول الحق سبحانه : { واذكر فِي الكتاب }
(1/5569)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } [ مريم : 54 ] ما الميزة هنا وكل الرسل كانوا صادقي الوعد؟ قالوا : لأن هناك صفة تبرز في شخص ويتميز بها ، وإن كانت موجودة في غيره ، فالذي يصدُق في وعد أعطاه ، أو كلمة قالها صدق في أمر يملكه ويتعلق به .
أما إسماعيل عليه السلام فكان صادق الوعد في أمر حياة أو موت ، أمر يتعلق بنفسه ، حين قال لأبيه : { ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] .
وليت الأمر جاء مباشرة ، إنما رآه غيره ، وربما كانت المسألة أيسَر لو أن الولد هو الذي رأى أباه يذبحه ، لكنها رُؤْيا رآها الأب ، والرؤيا لا يثبت بها حكم إلا عند الأنبياء . فكان إسماعيل دقيقاً في إجابته حينما أخبره أبوه كأنه يأخذ رأيه في هذا الأمر : { إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } [ الصافات : 102 ] .
فخاف إبراهيم عليه السلام أن يُقبل على ذَبْح ولده دون أن يخبره حتى لا تأتي عليه فترة يمتلىء غيظاً من أبيه إذا كان لا يعرف السبب ، فأحبَّ إبراهيم أن يكون استسلامُ ولده للذبح قُرْبَى منه لله ، له أجْرُها وثوابها .
قال إسماعيل عليه السلام لأبيه إبراهيم : { ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] .
والوعد الذي صدق فيه قوله : { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] وصدق إسماعيل في وعده ، واستسلم للذبح ، ولم يتردد ولم يتراجع؛ لذلك استحق أنْ يميزه ربه بهذه الصفة { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } [ مريم : 54 ] .
فلما رأى الحق تبارك وتعالى استسلام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لقضاء الله رفع عنه قضاءه وناداه : { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 104107 ] فكانت نتيجة الصبر على هذا الابتلاء أنْ فدى الله الذبيح ، وخلَّصه من الذبح ، ثم أكرم إبراهيم فوق الولد بولد آخر : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] .
وهذه لقطة قرآنية تُعلِّمنا أن المسلم إذا استسلم لقضاء الله ، ورَضِي بقدره فسوف يجني ثمار هذا الاستسلام ، والذي يطيل أمد القضاء على الناس أنهم لا يرضون به ، والحق تبارك وتعالى لا يجبره أحد ، فالقضاء نافذ نافذ ، رضيتَ به أم لم تَرْضَ .
وحين تسلم لله وترضى بقضائه يرفعه عنك ، أو يُبيّن لك وجه الخير فيه . إذن : عليك أن تحترم القدر وترضى به؛ لأنه من ربك الخالق الحكيم ، ولا يُرفع قضاء الله عن الخلق حتى يرضوا به .
وكثيراً ما نرى اعتراض الناس على قضاء الله خاصة عند موت الطفل الصغير ، فنراهم يُكثِرون عليه البكاء والعويل ، يقول أحدهم : إنه لم يتمتع بشبابه .
ونعجب من مثل هذه الجهالات : أيّ شباب؟ وأيَّة متعة هذه؟ وقد فارق في صِغَره دنيا باطلة زائلة ، ومتعة موقوتة إلى دار باقية ومتعة دائمة؟ كيف وقد فارق العيش مع المخلوق ، وذهب إلى رحاب الخالق سبحانه؟
إنه في نعيم لو عرفتَه لتمنيتَ أن تكون مكانه ، ويكفي أن هؤلاء الأطفال لا يُسألون ولا يُحاسبون ، وليس لهم مسكن خاص في الجنة؛ لأنهم طلقاء فيها يمرحون كما يشاؤون؛ لذلك يسمونهم ( دعاميص الجنة ) .
(1/5570)
وآخر يعترض لأن زميله في العمل رُقِّي حتى صار رئيساً له ، فإذا به يحقد عليه ويحقره ، وتشتعل نفسه عليه غضباً ، وكان عليه أن يتساءل قبل هذا كله : أأخذ زميله شيئاً من مُلْك الله دون قضائه وقدره ، إذن : فعليك إذا لم تحترم هذا الزميل أن تحترم قدر الله فيه ، فما أخذَ شيئاً غصباً عن الله .
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اسمعوا وأطيعوا ، ولو وُلِّى عليكم عبد حبشيّ ، كأنّ رأسَه زبيبة " .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة }
(1/5571)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
أي : من خصال إسماعيل العظيمة التي ذكرها الله تعالى له : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة } [ مريم : 55 ] أي : زوجته . والحق تبارك وتعالى لا يهتم بخَصْلة ولا يذكرها إلا إنْ كانت كبيرة عنده ، تساوي كونه صادقَ الوعد وكونه رسولاً ونبياً ، فمَنْ أراد أنْ يتصفَ بصفة من صفات النبوة ، فعليه أنْ يأمرَ أهله بالصلاة والزكاة .
لكن ، لماذا اختص أهله بالذات؟ اختص أهله لأنهم البيئة المباشرة التي إنْ صَلُحتْ للرجل صَلُحَ له بيته ، وصَلُحَتْ له ذريته ، إذا كان الرجل يلفت أهله إلى ذكر الله والصلاة خمس مرات في اليوم والليلة فإنه بذلك يسدُّ الطريق على الشيطان ، فليس له مجال في بيت يصلي أهله الخمس صلوات .
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " رحم الله امرأ استيقظ من الليل ، فصلَّى ركعتين ثم أيقظ أهله فإن امتنعتْ نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّتْ ركعتين ، ثم أيقظتْ زوجها ، فإنِ امتنع نضحتْ في وجهه الماء " .
إذن : فكل رجل وكل امراة يستطيع في كل ليلة أن يكون رسولاً لأهله ولبيئته يقوم فيها بمهمة الرسول؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل ، فليس بعد تشريعه تشريع ، وليس بعد كتابه كتاب؛ لأن أمته ستحمل رسالته من بعده ، وكل مؤمن منهم يعلم من الإسلام حُكْماً فهو خليفة لرسول الله في تبليغه .
كما قال تعالى : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] فالرسول يشهد أنه بلَّغكم ، وعليكم أنْ تشهدوا أنكم بلّغتُم الناس ، وما دُمْتم بلَّغتم الناس مَنْطِقاً ولفظاً فلا بُدَّ أنْ يكون سلوكاً أيضاً ، لأن لكم في رسول الله أسوة حسنة .
ودائماً ما يقرن الحق تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة ، والصلاة تأخذ بعض الوقت ، والزكاة تأخذ المال الذي هو فرع العمل الذي هو فرع الوقت ، فإنْ كانت الزكاة تأخذ نتيجة الوقت ، فالصلاة تأخذ الوقت نفسه . إذن : ففي الصلاة زكاة أبلغ من الزكاة .
وإنْ كان في الزكاة نماء المال وبركته وإنْ كانت في ظاهرها نقصاً ففي الصلاة نماء الوقت وبركته ، فإياك أنْ تقول : أنا مشغول ، ولا أجد وقتاً للصلاة؛ لأن الدقائق التي ستصلي فيها فَرْض ربك هي التي ستُشِيع البركة في وقتك كله .
كما أنك حين تقف بين يَدَيْ ربك في الصلاة تأخذ شحنة إيمانية نوارنية تُعينك على أداء مهمتك في الحياة ، وتعرض نفسك على ربِّك وخالقك وصانعك ، ولن تُعدم خيراً ينالك من هذا اللقاء .
ولك أنْ تتصوّر صنعةً تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم ، هل يصيبها عُطْل أو عَطَب؟! وإنْ كان المهندس الصانع يعالج بأشياء مادية فلأنه حِسِّيٌّ مشهود ، أما الخالق سبحانه فهو غَيْب يصلحك من حيث لا تدري .
وإنْ كان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة فهو حريص عليها من باب أَوْلَى .
وقوله تعالى : { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } [ مريم : 55 ] أي : رضي الله عنه ، ليس لخصال الخير التي وصفه بها ، بل من بدايته ، فقد رضي عنه فاختاره رسولاً ونبياً .
ثم يقول الحق سبحانه : { واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ }
(1/5572)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
ما زال القرآن يعطينا لقطاتٍ من موكب الرسالات والنبوات . وإدريس عليه السلام أوّل نبي بعد آدم عليه السلام ، فهو إدريس بن شيث بن آدم . وبعد إدريس جاء نوح ثم إبراهيم ، ومنه جاءت سلسلة النبوات المختلفة .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً } [ مريم : 56 ] .
تحدثنا عن معنى الصِّدِّيق في الكلام عن إبراهيم عليه السلام ، والصِّدِّيق هو الذي يبالغ في تصديق ما جاءه من الحق ، فيجعل الله له بذلك فُرْقاناً وإشراقاً يُميّز به الحق فلا يتصادم معه شيطان؛ لأن الشيطان قد ينفذ إلى عقلي وعقلك .
أما الوارد من الحق سبحانه وتعالى فلا يستطيع الشيطان أن يعارضه أو يدخل فيه ، لذلك فالصِّدِّيق وإن لم يكُنْ نبياً فهو مُلْحقِ بالأنبياء والشهداء ، كما قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] .
وكذلك كان إدريس عليه السلام ( نبياً ) ولم يقُلْ : رسولاً نبياً ، لأن بينه وبين آدم عليه السلام جيلين ، فكانت الرسالة لآدم ما زالت قائمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً }
(1/5573)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
مكاناً عالياً في السماء ، رِفْعه معنوية ، أو رِفْعة حِسّية ، خُذْها كما شئتَ ، لكن إياك أنْ تجادل : كيف رفعه؟ لأن الرِّفْعة من الله تعالى ، والذي خلقه هو الذي رفعه .
ثم يقول الحق سبحانه : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم }
(1/5574)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قوله تعالى : { أولئك } [ مريم : 58 ] أي : الذين تقدَّموا وسبق الحديث عنهم من الأنبياء والرسل { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } [ مريم : 58 ] أي : مباشرة مثل إدريس عليه السلام { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [ مريم : 58 ] الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة { وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } [ مريم : 58 ] أي : الذين جاءوا بعد نوح .
وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم .
الأول : فرع إسحق الذي جاء منه جمهرة النبوة ، بداية من يعقوب ، ثم يوسف ، ثم موسى وهارون ، ثم داود وسليمان ، ثم زكريا ويحيى ، ثم ذو الكفل ، ثم أيوب ، ثم النون .
والفرع الآخر : فرع إسماعيل عليه السلام الذي جاء منه جماع جواهر النبوة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَإِسْرَائِيلَ } [ مريم : 58 ] هو نبيّ الله يعقوب { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ } [ مريم : 58 ] الذي هديناهم واجتبيناهم . أي : اخترناهم واصطفيناهم للنبوة { إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .
لماذا قال { آيَاتُ الرحمن } [ مريم : 58 ] ولم يقُلْ : آيات الله؟ قالوا : لأن آيات الله تحمل منهجاً وتكليفاً ، وهذا يشقُّ على الناس ، فكأنه يقول لنا : إياكم أنْ تفهموا أن الله يُكلّفكم بالمشقة ، وإنما يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون ، ثم يسعدكم به في الآخرة؛ لذلك اختار هنا صفة الرحمانية .
وقوله : { خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] لم يقُل : سجدوا ، بل سقطوا بوجوههم سريعاً إلى الأرض . وهذا انفعال قَسْري طبيعي ، لا دَخْلَ للعقل فيه ولا للتفكير ، فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ بهدوء ونظام ، أما الذي يخرُّ فلا يفكر في ذلك ، وهذا أشبه بقوله تعالى : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] أي : سقط عليهم فجأة .
وهذا الانفعال يُسمُّونه " انفعال نزوعي " ناتج عن الوجدان ، والوجدان ناتج عن الإدراك ، وهذه مظاهر الشعور الثلاثة : الإدراك ، ثم الوجدان ، ثم النزوع . والإنسان له حواس يُدرِك بها : العين والأذن والأنف واللسان . . الخ .
فهذه وسائل إدراك المحسّات ، فإذا أدركتَ شيئاً بحواسِّك تجد له تأثيراً في نفسك ، إما حُباً وإماً بُغْضاً ، إما إعجاباً وإما انصرافاً ، وهذا الأثر في نفسك هو الوجدان ، ثم يصدر عن هذا الوجدان حركة هي " النزوع " .
فمثلاً ، لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا " إدراك " ، فإنْ أُعجبْتَ بها وسُ رِرْتَ فهذا " وجدان " ، فإنْ مددْتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع " . والشرع لا يحاسبك على الإدراك ولا على الوجدان ، لكن حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك : قفْ فهذه ليست لك ، ولا يمنعك الشارع ويتركك ، إنما يمنعك ويوحي لك بالحلِّ المناسب لنزوعك ، فعليك أنْ تزرع مثلها ، فتكون مِلْكاً لك أو على الأقل تستأذن صاحبها .
كذلك الحال فيمن تسمّع لكلام الله وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلاوة ومواجيد في نفسه ، وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي ، فلا يجد إلا أنْ يخر ساجداً لله تعالى .
(1/5575)
والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعاً ظاهرياً بل وأيضاً داخلياً ، ففاضت أعينهم بالدمع { سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .
وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع أُخَر ، كما في قوله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } [ الإسراء : 107 ] .
ومعنى : للأذقان : مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود؛ لأن السجود يكون أولاً على الجبهة ثم الأنف لكن على الأذقان ، فهذا سجود على حَقٍّ ، وليس كنقْر الديكَة كما يقولون .
إذن : فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة من الرسل ، وها هم الآن يسمعون القرآن؛ لذلك يقولون : { سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] .
ومن النزوع الانفعالي أيضاً قوله تعالى عن أهل الكتاب : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } [ المائدة : 83 ] .
وقوله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ] .
فلماذا يُؤثِّر الانفعال بالقرآن في كُلِّ هذه الحواس والأعضاء من جسم الإنسان؟ قالوا : لأن الذي خلق التكوين الإنساني هو الذي يتكلم ، والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي ، فإنه سبحانه لا يخاطب عقلك فقط ، بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك؛ لذلك تخِرُّ الأعضاء ساجدة ، وتدمع العيون ، وتقشعر الجلود ، وتلين القلوب ، كيف لا والمتكلم هو الله؟
ثم يقول الحق سبحانه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ }
(1/5576)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ مريم : 59 ] أي : أن المسائل لم تستمر على ما هي عليه من الكلام السابق ذِكْره ، بل خَلفَ هؤلاء القوم ( خَلْفٌ ) والخَلْف : هم القوم الذين يخلُفون الإنسان : أي : يأتون بعده أو من ورائهم .
وهناك فَرْق بين خَلْف وخَلَف : الأولى : بسكون اللام ويُراد بها الأشرار من عَقِب الإنسان وأولاده ، والأخرى : بفتح اللام ويُراد بها الأخيار . لذل ، فالشاعر حينما أراد أنْ يتحسَّر على أهل الخير الذي مَضَوْا قال :
ذَهَبَ الذِينَ يُعاشُ فِي أكنَافِهمْ ... وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجْرَبِ
فماذا تنتظر من هؤلاء الأشرار؟ لا بُدّ أنْ يأتي بعدهم صفات سوء { أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] إذن : هم خَلْف فاسد ، فأول ما أضاعوا أضاعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وأَوْلَى أركانه بالأداء .
صحيح أن الإسلام بُني على عِدّة أركان ، لكن بعض هذه الأركان قد يسقط عن المسلم ، ولا يُطْلب منه كالزكاة والحج والصيام ، فيبقى ركنان أساسيان لا يسقطان عن المسلم بحال من الأحوال ، هما : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة .
وسُئِلْنَا مرة من بعض إخواننا في الجزائر : لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج : الحاج فلان ، ولا نقول للمصلى : المصلى فلان ، أو المزكَّى فلان ، أو الصائم فلان؟
فقلت للسائل : لأن الحج تتم نعمة الله على العبد ، وحين نقول : الحاج فلان . فهذا إشعار وإعلام أن الله أتمَّ له النعمة ، واستوفى كل أركان الإسلام ، فمعنى أنه أدَّى فريضة الحج أنه مستطيع مالاً وصحة ، وما دام عنده مال فهو يُزكِّي ، وما دام عنده صحة فهو يصوم ، وهو بالطبع يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدي الصلاة ، وهكذا تمَّتْ له بالحج جميع أركان الإسلام .
ثم يقول تعالى : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] هذه العبارة أخذها المتمحّكون الذين يريدون أنْ يدخلوا على القرآن بنقد ، فقالوا : الغَيُّ هو الشر والضلال والعقائد الفاسدة ، وهذه حدثتْ منهم بالفعل في الدنيا فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فكيف يقول : فسوف يلقوْنه في المستقبل؟
لكن المراد بالغيّ هنا أي : جزاء الغي وعاقبته . كما لو قُلْت : أمْطرتْ السماء نباتاً ، فالسماء لم تُمطر النبات ، وإنما الماء الذي يُخرِج النبات ، كذلك غيّهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جَرَّ عليهم العذاب في الآخرة .
إذن : المعنى : فسوفَ يلقْونَ عذاباً وهلاكاً في الآخرة .
ومع ذلك ، فالحق تبارك وتعالى لرحمته بخَلْقه شرع لهم التوبة ، وفتح لهم بابها ، ويفرح بهم إنْ تابوا؛ لذلك فالذين اتصفُوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات لا ييأسون من رحمة الله ، مادام بابُ التوبة مفتوحاً .
وفَتْح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم الله بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات والانحرافات ، وإلاَّ لو أغقلنا الباب في وجوههم لَشقِيَ بهم المجتمع ، حيث سيتمادَوْن في باطلهم وغَيِّهم ، فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله .
والتوبة تكون من العبد ، وتكون من الرب تبارك وتعالى ، فتشريع التوبة وقبولها من الله وإحداث التوبة من العبد؛ لذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] أي : شرعها لهم ليتوبوا فيقبل توبتهم ، فهي من الله أولاً وأخيراً؛ لذلك يأتي هذا الاستثناء . { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً }
(1/5577)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
وللتوبة شروط يجب مراعاتها ، وهي : أن تُقلِع عن الذنب الذي تقع فيه ، وأن تندم على ما بدر منك ، وإنْ تنوي وتعزم عدم العودة إليه مرة أخرى . وليس معنى ذلك أنك إنْ عُدْتَ فلن تُقْبلَ منك التوبة ، فقد تتعرض لظروف تُوقِعك في الذنب مرة أخرى .
لكن المراد أنْ تعزم صادقاً عند التوبة عدم العَوْد ، فإنْ وقعت فيه مرة أخرى تكون عن غير قَصْد ودون إصرار . وإلاّ لو دبرتَ لهذه المسألة فقُلْت : أذنب ثم أتوب ، فمن يُدرِيك أن الله تعالى سيمهلك إلى أن تتوبَ؟ إذن : فبادر بها قبل فَوات أوانها .
هذه إذن شروط التوبة إنْ كانت في أمر بين العبد وربه ، فإنْ كانت تتعلق بالعباد فلا بُدَّ أنْ يتوفّر لها شرط آخر وهو رَدُّ المظالم إلى أهلها إنْ كانت ترد ، أو التبرع بها في وجوه الخير على أنْ ينويَ ثوابها لأصحابها ، إنْ كانت مظالم لا تُردُّ .
ثم يقول تعالى بعدها : { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [ مريم : 60 ] معنى : وآمن بعد أنْ تاب ، تعني أن ما أحدثه من معصية خدش إيمانه ، فيحتاج إلى تجديده . وهذا واضح في الحديث الشريف :
" لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .
فساعةَ مباشرة هذه المعاصي تنتنفي عن الإنسان صفة الإيمان؛ لأن إيمانه غاب في هذه اللحظة؛ لأنه لو استحضر الإيمان وما يلزمه من عقوبات الدنيا والآخرة ما وقع في هذه المعاصي .
لذلك قال : ( وَآمَنَ ) أي : جدَّد إيمانه ، وأعاده بعد توبته ، ثم { وَعَمِلَ صَالِحاً } [ مريم : 60 ] ليصلح به ما أفسده بفعل المعاصي .
والنتيجة : { فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] وفي موضع آخر ، كان جزاء مَنْ تاب وآمن وعمل صالحاً : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] .
فلماذا كُلُّ هذا الكرم من الله تعالى لأهل المعاصي الذين تابوا؟ قالوا : لأن الذي أَلِفَ الشهوة واعتاد المعصية ، وأدرك لذَّته فيها يحتاج إلى مجهود كبير في مجاهدة نفسه وكَبْحها ، على خلاف مَنْ لم يتعوّد عليها ، لذلك احتاج العاصون إلى حافز يدفعهم ليعودوا إلى ساحة ربهم .
لذلك قال سبحانه : { فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة } [ مريم : 60 ] دون أنْ يُعيَّروا بما فعلوه؛ لأنهم صَدَقُوا التوبة إلى الله { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] وبقدر ما تكون التوبة صادقة ، والندم عليها عظيماً ، وبقدر ما تلوم نفسَك ، وتسكب الدمْع على معصيتك بقدر ما يكون لك من الأجر والثواب ، وبقدر ما تُبدَّل سيئاتك حسناتٍ . وكُلُّ هذا بفضل الله وبرحمته .
ثم يقول الحق سبحانه : { جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن }
(1/5578)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } [ مريم : 61 ] أي : إقامة دائمة؛ لانك قد تجد في الدنيا جنات ، وتجد أسباب النعيم ، لكنه نعيم زائل ، إمّا أنْ تتركه أو يتركك . إذن : فكُلُّ نعيم الدنيا لا ضامنَ له .
وجنات عَدْن ليست هي مساكن أهل الجنة ، بل هي بساتين عمومية يتمتع بها الجميع ، بدليل أن الله تعالى عطف عليها في آية أخرى ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبةً ) في قوله تعالى : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله : { التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب } [ مريم : 61 ] والوعْد : إخبار بخير قبل أوانه؛ ليشجع الموعود على العمل لينالَ هذا الخير ، وضِدّه الوعيد : إخبار بشَرٍّ قبل أوانه ليحذره المتوعد ، ويتفادى الوقوع في أسبابه .
واختبار هنا اسم الرحمن ليُطمئِنَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي أن ربهم رحمن رحيم ، إنْ تابوا إليه قبلهم ، وإنْ وعدهم وَعْداً وَفَى . وقد وعدنا الله تعالى في قرآن فآمنّا بوعده غيْباً { وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب } [ مريم : 61 ] .
وحجة الإيمان بالغيب فيما لم يوجد بعد المشهد الذي نراه الآن ، فالكون الذي نشاهده قد خُلِق على هيئة مُهندسةٍ هندسةً لا يوجد أبدعُ منها ، فالذي خلق لنا هذا الكون العجيب المتناسق إذا أخبرنا عن نعيم آخر دائم في الآخرة ، فلا بُدَّ أن نُصدِّق ، ونأخذ من المشاهدَ لنا دليلاً على ما غاب عَنَّا؛ لذلك نؤمن بالآخرة إيماناً غيبياً ثقةً مِنَّا في قدرته تعالى التي رأينا طَرَفاً منها في الدنيا .
ثم يقول تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] فما دام الرحمن تبارك وتعالى هو الذي وعد ، فلا بُدَّ أن يكون وعدُه ( مَأْتِياً ) أي : مُحقّقاً وواقعاً لا شَكَّ فيه ، ووعْده تعالى لا يتخلَّف و ( مَأْتِياً ) أى نأتيه نحن ، فهي اسم مفعول .
وبعض العلماء يرى أن ( مَأتِياً ) بمعنى آتياً ، فجاء باسم المفعول ، وأراد اسم الفاعل ، لكن المعنى هنا واضح لا يحتاج إلى هذا التأويل؛ لأن وعد الله تعالى مُحقَّق ، والموعود به ثابت في مكانه ، والماهر هو الذي يسعى إليه ويسلك طريقه بالعمل الصالح حتى يصل إليه .
ثم يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة في الجنة : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً }
(1/5579)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
اللغو : هو الكلام الفُضولي الذي لا فائدة منه ، فهو يضيع الوقت ويُهْدِر طاقة المتكلم وطاقة المستمع ، وبعد ذلك لا طائلَ من ورائه ولا معنى له .
والكلام هنا عن الآخرة { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ مريم : 62 ] فإن كانوا قد سمعوا لَغْواً كثيراً في الدنيا فلا مجالَ للغو في الآخرة . ثم يستثني من عدم السماع { إِلاَّ سَلاَماً } [ مريم : 62 ] و السلام ليس من اللغو ، وهو تحية أهل الجنة وتحية الملائكة : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ يونس : 10 ] .
وقد يُرَادُ بالسلام السلامة من الآفات التي عاينوها في الدنيا ، وهم في الآخرة سالمون منها ، فلا عاهة ولا مرضَ ولا كَدَّ ولا نصبَ . لكن نرجح هنا المعنى الأول أي : التحية؛ لأن السلام في الآية مما يُسْمَع .
فإنْ قُلْتَ : فكيف يستثنى السلام من اللَّغْو؟ نقول : من أساليب اللغة : تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كأن نقول : لا عيبَ في فلان إلا أنه شجاع ، وكنت تنتظر أنْ نستثني من العيب عَيْباً ، لكن المعنى هنا : إنْ عددتَ الشجاعة عيباً ، ففي هذا الشخص عَيْب ، فقد نظرنا في هذا الشخص فلم نجد به عَيْباً ، إلا إذا ارتكبنا مُحَالاً وعددنا الشجاعة عيباً . وهكذا نؤكد مدحه بما يشبه الذم .
ومن ذلك قول الشاعر :
ولاَ عَيْبَ فِيهِم غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاع الكَتَائِبِ
ثم يقول تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] لم يقُل الحق سبحانه وتعالى : وعلينا رزقهم ، بل : ولهم زرقهم : أي أنه أمر قد تقرّر له وخُصِّص لهم ، فهو أمر مفروغ منه . والرزق : كُلُّ ما يُنتفع به ، وهو في الآخرة على قَدْر عمل صاحبه من خير في الدنيا .
ومن رحمة الله تعالى بعباده من أهل الجنة أنْ نزعَ ما في صدورهم من غِلٍّ ومن حسد ومن حقد ، فلا يحقد أحدٌ على أحد أفضل مرتبة منه ، ولا يشتهي من نعيم الجنة إلا على قَدْر عمله ودرجته ، فإنْ رأى مَنْ هو أفضل منه درجةً لا يجد في نفسه غِلاً منه ، أو حِقْداً عليه؛ لأن موجب الغِلِّ في الدنيا أنْ ترى مَنْ هو أفضل منك .
أما في الآخرة فسوف ترى هذه المسألة بمنظار آخر ، منظار النفس الصافية التي لا تعرف الغلَّ ، قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] .
فإنْ رأيت مَنْ هو أعلى منك درجةً فسوف تقول : إنه يستحق ما نال من الخير والنعيم ، فقد كان يجاهد نفسه وهواه في الدنيا . ويكفي في وَصْف ما في الجنة من الرزق والنعيم قوله تعالى : { فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } [ الزخرف : 71 ] .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عَيْن رأت ، ولا إذن سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر " .
(1/5580)
إذن : ففي الجنة أشياء لا تقع تحت إدراكنا؛ لذلك ليس في لغتنا ألفاظ تُعبِّر عن هذا النعيم؛ لأنك تضع في اللغة اللفظ الذي أدركتَ معناه ، وفي الجنة أشياء لا تدركها ولا عِلْمَ لك بها؛ لذلك حينما يريد الحق تبارك وتعالى أن يصِفَ لنا نعيم الجنة بصفة بما نعرف من نعيم الدينا : نخل وفاكهة ورمان ولحم طير وريحان .
ويقول : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] .
مع الفارق بين هذه الأشياء في الدنيا والآخرة . ويكفي أن تعرف الفرق بين خمر الدنيا وما فيها من سوء في طعمها ورائحتها واغتيالها للعقل ، وبين خمر الآخرة التي نفى الله عنها السوء ، فقال : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] .
وقوله : { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] فكيف يأتيهم رزقهم بُكْرة وعشياً ، وليس في الجنة وقت لا بُكْرة ولا عَشِياً ، لا لَيْل ولا نهار؟ نقول : إن الحق تبارك وتعالى يخاطبنا على قَدْر عقولنا ، وما نعرف نحن من مقاييس في الدنيا ، وإلاّ فنعيم الجنة دائم لا يرتبط بوقت ، كما قال سبحانه : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] .
وفي آية أخرى قال تعالى : { أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1011 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ }
(1/5581)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قوله : { تِلْكَ الجنة } [ مريم : 63 ] أي : التي يعطينا صور لها هي : { التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] أ ي : يرثونها ، فهل كان في الجنة أحد قبل هؤلاء ، فَهُم يرثونه؟
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره ، ومَنْ سيكفر باختياره ، علم مَنْ سيطيع ومَنْ سيعصي ، فلم يُرغِم سبحانه عباده على شيء ، إنما علم ما سيكون منهم بطلاقة علمه تعالى ، إلا أنه تعالى أعدَّ الجنة لتسع جميع الخَلْق إنْ أطاعوا ، وأعدَّ النار لتسع جميع الخَلْق إنْ عَصَوْا ، فلن يكون هناك إذن زحام ولا أزمة إسكان ، إنْ دخل الناس جميعاً الجنة ، أو دخلوا جميعاً النار .
إذن : حينما يدخل أهلُ النارِ النارَ ، أين تذهب أماكنهم التي أُعِدَّتْ لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل الجنة ، فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلاء .
ثم يقول رب العزة سبحانه : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ }
(1/5582)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر ، فبعد أنْ تحدَّث عن الجنة وأهلها عرض لأمر حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي ، وقلنا : إن الوحي ينزل بواسطة جبريل عليه السلام ، وهو مَلَكٌ ، على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بشر .
ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى الله عليه وسلم بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلاَّ بتقارب هذيْن الجنسين وعملية تغيير لا بُدَّ أنْ تطرأ على أحدهما ، إما أَنْ ينزل الملَكُ على صورة بشرية ، وإما أن يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه ، وذلك ما كان يحدث لرسول الله حين يأتيه الوحي .
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا التغيير فقال : " . . . فغطَّني حتى بلغ مني الجهْد . . . " وكان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقاً لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية ، ثم حينما يُسرِّي عنه تذهب هذه الأعراض .
وقد أخبر بعض الصحابة ، وكان يجلس بجوار رسول الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم يضع رُكْبته على رُكْبته ، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي : شعرتُ برُكْبة رسول الله وكأنها جبل .
وإذا أتاه الوحي وهودابة كانت الدابة تئط أي : تنخ من ثِقَل الوحي ، وقد قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] .
إذن : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشقُّ عليه ، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يقول : " زَمِّلوني زَمِّلوني " أو " دَثِّروني دَثِّروني " كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولاً .
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته ، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلاوة ما نزل من الوحي ، فيتشوق إليه من جديد ، كما يشتاق الإنسان لمكانٍ يحبه دونه الأشواك ومصاعب الطريق ، فالحب للشيء يحدث علمية كالتخدير ، فلا تشعر في سبيله بالتعب .
وقلنا : لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا : إن رَبَّ محمد قد قلاه يعني : أبغضه وتركه .
وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم ، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه : ساحر وكذاب؟ ففي البغض يتذكرون أنه له رباً منع عنه الوحي ، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا : من أين جاء بهذا الكلام؟
لذلك ، فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 14 ] إذن : كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله .
فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلاء درساً من خلال درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر ، هذا الأمر الكونيّ هو الزمن ، وهو ينقسم إلى ليل ونهار ، ولكل منهما مهمته التي خلقه الله من أجلها ، كما قال سبحانه :
(1/5583)
{ والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 12 ] .
فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار ، أو مهمة النهار إلى الليل .
ثم يرد عليهم قائلاً : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 14 ] .
والمعنى : إنْ كان النهار لحركة الحياة واستبقائها ، والليل للراحة والسكون ، فهما آيتان متكاملتان لا مُتضادتان ، وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعد ، بل سيأتي نهار آخر ، وستستمر حركة الحياة .
وكذلك الأمر إنْ فترَ الوحي عن رسول الله ، فلا تظنوا أنه انقطع إلىغير رَجْعة ، بل هي فترة ليرتاح فيها رسول الله ، كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار ، ومن هنا كانت الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] .
ونلحظ في هذا التعبير دِقّة الإعجاز في أداء القرآن ، حيث قال : { مَا وَدَّعَكَ } [ ضحى : 3 ] بكاف الخطاب؛ لأن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره ، أما في القِلَى فلم يقُلْ : قَلاَك . لأن القِلَى لا يكون إلا لمَنْ تكره .
ومعنى : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } الضحى : 4 ] الآخرة أي : الفترة الأخيرة من نزول الوحي خَيْر لك من الفترة الأولى؛ لأنها ستكون أوسع ، وستأتيك بلا تَعَب ولا مشقة ، وفعلاً نزلت جمهرة القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا كان الأمر في الآية التي نحن بصددها : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] فيقال : إنها نزلت حينما قال الكفار : إن ربَّ محمد قد قلاه ، أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة الأسئلة الثلاثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " سأخبركم غداً " لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يوماً ، فشقَّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] أي : الملائكة لا تنزل إلا بأمر ، ولا تغيب إلا بأمر .
ثم يقول الحق سبحانه تعالى : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } [ مريم : 64 ] .
قوله تعالى : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } [ مريم : 64 ] أي : الذي أمامنا { وَمَا خَلْفَنَا } [ مريم : 64 ] أي : في الخلف { وَمَا بَيْنَ ذلك } [ مريم : 64 ] أي : ما بين الأمام والخلف ، فماذا بين الأمام والخلف؟ ليس بين الأمام والخلف إلا أنت . فسبحانه وتعالى المالك ، الذي له الملك والمملوك ، وله المكان والمكين ، وله الزمان والزمين .
وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] هل يرسل الحق تبارك وتعالى رسولاً ، ثم ينساه هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزَّه عن الغفلة وعن النيسان .
ثم يقول الحق سبحانه : { رَّبُّ السماوات والأرض }
(1/5584)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
أولاً : ما علاقة قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] بقوله تعالى في هذه الآية : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } [ مريم : 65 ] ؟
قالوا : لأن هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه ، وما فيه من هندسة التكوين وإبداع الخلق قائم بقيومية الله تعالى عليه ، كما قال سبحانه : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] .
فلا تظن أن الكون قائم على قانون يُديره ، بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون ، والحق تبارك وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم . فما دام الأمر كذلك ، وأنه تعالى يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا ، وما بين ذلك ، وأنه تعالى قيُّوم لا ينسى ولا يغفل وبه يقوم الكون . فهو إذن يستحق العبادة والطاعة فيما أمر ، وقد أعطاك قبل أن يُكلّفك عطاء لا تستطيع أنت أن تفعله لنفسك ، ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أنْ يُكلِّفك بشيء من العبادات .
لذلك هنا يقول تعالى : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ } [ مريم : 65 ] وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية ، وأنه رَبٌّ واحد فقال : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } [ مريم : 65 ] .
وقال : { رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] .
وقال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] .
لأن القدماء ، ومنهم مثلاً قدماء المصريين كانوا يجعلون رباً للسماء ، ورباً للأرض ، ورباً للجو ، ورباً للأموات ، ورباً للزرع . . إلخ وما دام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على الربوبية . والعبادة : طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى ، وكيف لا نطيع الله ونحن خَلْقه وصَنْعته ، ونأكل رزقه ، ونتقلب في نعمه؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه : ( مَنْ يأكل لقمتي يسمع كلمتي ) .
ولا بُدَّ أن نعلم أن الله تعالى له الكمال المطلق قبل أنْ يخلق الخَلْق وبصفات الكمال خلق ، فلا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية . فإن قلتَ : فلماذا إذن يُكلِّف الخَلْق بالأمر والنهي؟ نقول : كلَّف الله الخَلْق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ولا تتصادم ، فيحدث في حياتهم الارتقاء ويسعدوا بها ، إنما لو تركهم وأهواءهم لَفسدتِ الحياة ، فأنت تبني وغيرك يهدم .
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " .
والحق تبارك وتعالى يقول : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } [ المؤمنون : 71 ] .
إذن : التشريعات جُعلَتْ لصالحنا نحن : { فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ } [ مريم : 65 ] لأن العبادة فيها مشقة ، فلا بُدَّ لها من صبر؛ لأنها تأمرك بأشياء يشقُّ عليك أنْ تفعلها ، وينهاك عَنْ أشياء يشقُّ عليك أن تتركها لأنك ألِفْتها .
والصبر يكون منا جميعاً ، يصبر كُلٌّ مِنَّا على الآخر؛ لأننا أبناء أغيار ، فإن صبرتَ على الأذى صبر الناس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول تعالى :
(1/5585)
{ وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ] .
والحق سبحانه وتعالى يُعلِّمنا : إن أذنب أحد في حَقْك ، أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن أغفر لك ذنبك ، واعفوَ عن سيئتك .
يقول تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 22 ] .
ولا تظن أن صبرك على أذى الآخرين أو غفرانك لهم تطوُّع من عندك؛ لأنه لن يضيع عليك عند الله ، وستُردُّ لك في سيئة تُغفَر لك . حتى مَنْ فُضِح مثلاً أو ادُعي عليه ظُلْماً لا يضيعها الله ، بل يدّخرها له في فضيحة سترها عليه ، فمَنْ فُضِح بما لم يفعل ، سُتر عليه ما فعل .
وقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] ؟ سبق أن تكلمنا في معنى ( السَّميّ ) وقد اختلف العلماء في معناها ، قالوا : السَّميُّ : الذي يُساميك ، أي : أنت تسمو وهو يسمو عليك ، أو السَّميّ : النظير والمثيل .
والحق سبحانه وتعالى ليس له سميٌّ يُساميه في صفات الكمال ، وليس له نظير أو مثيل أو شبيه ، بدليل قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 14 ] .
وللسميِّ معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى ، حيث قال تعالى : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [ مريم : 7 ] أي : لم يسبق أنْ تسمَّى أحد بهذا الاسم . وكذلك الحق تبارك وتعالى لم يتسمَّ أحدٌ باسمه ، لا قبل هذه الآية ، ولا بعد أنْ أطلقها رسول الله تحدّياً بين الكفار والملاحدة الذين يتجرؤون على الله . فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أنْ يُسمى ولده الله؟
الحقيقة أن هؤلاء وإنْ كانوا كفاراً وملاحدة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله ، ويعترفون بوجوده ، ويخافون من عاقبة هذه التسمية ، ولا يأمنون أنْ يصيبهم السوء بسببها .
إذن : لم تحدث ، ولم يجرؤ أحد عليها؛ لأن الله تعالى قالها وأعلنها تحدياً ، وإذا قال الله تعالى ، ملَكَ اختيار الخَلْق ، وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ }
(1/5586)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
ما المراد بالإنسان؟ الإنسان تُطلق ويُراد بها عموم أي إنسان مثل : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } [ المعارج : 19 ] ويُراد بها خصوصية لبعض الناس ، كما في قوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] فالمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أو قوله تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } [ آل عمران : 173 ] فالمراد : ناسٌ مخصوصون .
والمعنى هنا : { وَيَقُولُ الإنسان } [ مريم : 66 ] أي : الكافر الذي لا يؤمن بالآخرة ، ويستبعد الحياة بعد الموت : { أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [ مريم : 66 ] والاستفهام هنا للإنكار ، لكن هذه مسألة الردُّ عليها سَهْل مَيْسور ، فيقول تعالى : { أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان }
(1/5587)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
فلأنْ يُعادَ الإنسانُ من شيء أهونُ من إنْ يعاد من لا شيء؛ لذلك قال تعالى في توضيح هذه المسألة : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] مع أن الخالق سبحانه وتعالى لا يُقال في حقه تعالى هَيِّن وأهون ، أو صعب وأصعب ، ولكنه يحدثنا بما نفهم وبما نعلم في أعرافنا .
ففي عُرْفنا نحن أن تنشيء من موجود أسهل من أنْ تنشيء من عدم ، وإنْ كان فعل العبد يقوم على المعالجة ومزاولة الأسباب ، ففِعْل الخالق سبحانه إنما يكون بقوله للشيء " كُنْ فيكون " .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .
ولما سُئِل الإمام علي كرَّم الله وجهه : كيف يُحاسِب اللهُ الناسَ جميعاً في وقت واحد؟ قال : كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد .
فقوله : { أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان } [ مريم : 67 ] أي : لو تذكّر هذه الحقيقة ما كذَّب بالبعث ، وقد عولجت هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] .
فلو تذكَّر خَلْقه الأول ما ضرب لنا هذا المثل . ثم يأتي الجواب منطقياً : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] .
وهنا أيضاً يكون الدليل : { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [ مريم : 67 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين }
(1/5588)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين } [ مريم : 68 ] الحشر : أن يبعثهم الله من قبورهم ، ثم يسوقهم مجتمعين إلى النار هم والشياطين الذين كانوا يُغْرونهم بالمعصية ويُزينونها لهم .
{ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } [ مريم : 68 ] يقال : جثا يجثو فهو جَاثٍ . أي : ينزل على ركبتيه ، وهي دلالة على الذِّلَّة والانكسار والمهانة التي لا يَقْوى معها على القيام .
(1/5589)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
النزع : خَلْع الشيء من أصله بشدة ، ولا يقال : نزع إلا إذا كان المنزوع متماسكاً مع المنزوع منه ، ومن ذلك قوله تعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] كأنهم كانوا مُتمسّكين به حريصين عليه .
وقوله : { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } [ مريم : 69 ] أي : جماعة متشايعون على رأي باطل ، ويقتنعون به ، ويسايرون أصحابه : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] العتي : وهو الذي بلغ القمة في الجبروت والطغيان ، بحيث لا يقف أحد في وجهه ، كما قلنا كذلك في صفة الكِبَر { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] لأنه إذا جاء الكبر لا حيلةَ فيه ، ولا يقدر عليه أحد .
ومعلوم أن رسالات السماء لما نزلتْ على أهل الأرض كان هناك أناس يُضارون من هذه الرسالات في أنفسهم ، وفي أموالهم ، وفي مكانتهم وسيادتهم ، فرسالات الله جاءتْ لتؤكد حَقّاً ، وتثبت وحدانية الله ، وسواسية الخَلْق بالنسبة لمنهج الله .
وهناك طغاة وجَبَّارون وسادة لهم عبيد ، وفي الدنيا القوى والضعيف ، والغني والفقير ، والسليم والمريض ، فجاءت رسالات السماء لِتُحدِث استطراقاً للعبودية .
فَمن الذي يُضَار ويَغْضَب ويعادي رسالات السماء؟ إنهم هؤلاء الطغاة الجبارون ، أصحاب السلطة والمال والنفوذ ، ولا بُدَّ أن لهؤلاء أتباعاً يتبعونهم ويشايعونهم على باطلهم .
فإذا كان يوم القيامة ويوم الحساب ، فبمَنْ نبدأ؟ الأنكَى أن نبدا بهؤلاء الطغاة الجبابرة ، ونقدم هؤلاء السادة أمام تابعيهم حتى يروهم أذلاء صاغرين ، وقد كانوا في الدنيا طغاةً متكبرين ، كذلك لنقطع أمل التابعين في النجاة .
فربما ظَنُّوا أن هؤلاء الطغاة الجبابرة سيتدخلون ويدافعون عنهم ، فقد كانوا في الدنيا خدمهم ، وكانوا تابعين لهم ومناصرين ، فإذا ما أخذناهم أولاً وبدأنا بهم ، فقد قطعنا أمل التابعين في النجاة .
وقد ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ النمل : 83 ] أي : من كبارهم وطُغَاتهم ، ليرى التابعون مصارع المتبوعين ، ويشهد الضعفاء مصارع الأقوياء ، فينقطع أملهم في النجاة .
وفي حديث القرآن عن فرعون ، وقد بلغ قمة الطغيان والجبروت حيث ادَّعى الألوهية ، فقال عنه : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود } [ هود : 98 ] فهو قائدهم ومقدمتهم إلى جهنم ، كما كان قائدهم إلى الضلال في الدنيا ، فهو المعلم وهم المقلّدون .
فعليه إذن وزْران : ضلاله في نفسه ، ووزْر إضلاله لقومه ، كما جاء في قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 79 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين }
(1/5590)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
صلياً : اصطلاء واحتراقاً في النار من صَلِيَ يصْلَى : أي دخل النار وذاق حرَّها . أما : اصطلى أي : طلب هو النار ، كما في قوله تعالى : { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ النمل : 7 ] .
والمعنى : أننا نعرف مَنْ هو أَوْلى بدخول النار أولاً ، وكأن لهم في ذلك أولويات معروفة؛ لأنهم سيتجادلون في الآخرة ويتناقشون ويتلاومون وسيدور بينهم مشهد فظيع رَهيب يفضح ما اقترفوه .
فالتابع والمتبوع ، والعابد والمعبود ، كُلٌّ يُلقي باللائمة على الآخر ، اسمعهم وهم يقولون : { رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً } [ الأحزاب : 6768 ] .
وفي آية أخرى : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] .
وصدق الله العظيم حين قال : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }
(1/5591)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
وهذا خطاب عام لجميع الخلْق دون استثناء ، بدليل قوله تعالى بعدها : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } [ مريم : 72 ] إذن : فالورود هنا يشمل الأتقياء وغيرهم .
فما معنى الورود هنا؟ الورود أن تذهب إلى مصدر الماء للسقيا أي : أخْذ الماء دون أنْ تشرب منه ، كما في قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] أي : وصل إلى الماء .
إذن : معنى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أي : أنكم جميعاً مُتقون ومجرمون ، سترِدُون النار وتروْنها؛ لأن الصراط الذي يمرُّ عليه الجميع مضروب على مَتْن جهنم .
وقد ورد في ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال قال صلى الله عليه وسلم : " يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ، عليه حسك كحسك السعدان ، ثم يستجيز الناس ، فنَاجٍ مُسلَّم ، ومخدوش به ، ثم ناج ومحتبس به ، ومنكوس ومكدوس فيها " .
فإذا ما رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله ويعلم نعمته ورحمته به .
ومن العلماء مَنْ يرى أن ورد أي : أتى وشرب منه ويستدلون بقوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] أي : أدخلهم . لكن هذا يخالف النسق العربي الذي نزل القرآن به ، حيث يقول الشاعر :
وَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه ... وَضَعْنَا عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ
أي : حينما وصلوا إلى الماء ضربوا عنده خيامهم ، فساعةَ أنْ وصلوا إليه وضربوا عنده خيامهم لم يكونوا شَرِبوا منه ، أو أخذوا من مائه ، فمعنى الورود أي : الوصول إليه دون الشُّرب من مائه .
وأصحاب هذه الرأي الذين يقولون { وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] أي : داخلها يستدلون كذلك بقوله تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] يقولون : لو أن الورود مجرد الوصول إلى موضع الماء دون الشرب منه أو الدخول فيه ما قال تعالى : { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا } [ مريم : 72 ] ولِقَال : ثم يُنجِّي اللهُ الذين اتقوا ويُدخِل الظالمين . . لكن { وَّنَذَرُ الظالمين } [ مريم : 72 ] فيها الدليل على دخولهم جميعاً النار .
فعلى الرأي الأول : الورود بمعنى رؤية النار دون دخولها ، تكون الحكمة منه أن الله تعالى يمتنُّ على عباده المؤمنين فيُريهم النار وتسعيرها؛ ليعلموا فضل الله عليهم ، وماذا قدَّم لهم الإيمان بالله من النجاة من هذه النار ، كما قال تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] .
ويمكن فَهْم الآية على المعنى الآخر : الورود بمعنى الدخول؛ لأن الخالق سبحانه وتعالى خلق الأشياء ، وخلق لكل شيء طبيعةً تحكمه ، وهو سبحانه وحده القادر على تعطيل هذه الطبيعة وسلبها خصائصها .
كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلام ، فيكون دخول المؤمنين النارَ كما حدث مع إبراهيم ، وجَعْلها الله تعالى عليه بَرْداً وسلاماً ، وقد مكَّنكم الله منه ، فألقوه في النار ، وهي على طبيعتها بقانون الإحراق فيها ، ولم يُنزِل مثلاً على النار مطراً يُطفِئها ليوفر لهم كل أسباب الإحراق ، ومع ذلك ينجيه منها لتكون المعجزة ماثلةً أمام أعينهم .
(1/5592)
وكما سلب الله طبيعة الماء في قصة موسى عليه السلام فتجمد وتوقفت سيولته ، حتى صار كل فِرْقٍ كالطوْد العظيم ، فهو سبحانه القادر على تغيير طبائع الأشياء . إذن : لا مانع من دخول المؤمنين النارَ على طريقة إبراهيم عليه السلام { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] .
ثم يُنجِّي الله المؤمنين ، ويترك فيها الكافرين ، فيكون ذلك أنْكَى لهم وأغيظ .
ثم يقول تعالى : { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] الحتْم : هي الشيء الذي يقع لا محالةَ ، والعبد لا يستطيع أنْ يحكم بالحتمية على أيّ شيء؛ لأنه لا يملك المحتوم ولا المحتوم عليه . فقد تقول لصديقك : أحتم عليك أنْ تزورني غداً ، وأنت لا تملك من أسباب تحقيق هذه الزيارة شيئاً ، فمَنْ يدريك أن تعيشَ لغد؟ ومَنْ يدريك أن الظروف لن تتغير وتحُول دون حضور هذا الصديق؟
إذن : أنت لا تحتم على شيء ، إنما الذي يُحتِّم هو القادر على السيطرة على الأشياء بحيث لا يخرج شيء عن موارده .
فإنْ قلتَ : فمَنِ الذي حتَّم على الله؟ حتَّم الله على نفسه تعالى ، وليست هناك قوة أخرى حتَّمتْ عليه ، كما في قوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] .
ثم يؤكد هذا الحتم بقوله : { مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] أي : حكم لا رجعةَ فيه ، وحُكْم الله لا يُعدِّله أحد ، فهو حكم قاطع . فمثلاً : حينما قال كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة ، يريدون أنْ يتعايش الإيمان والكفر .
لكن الحق تبارك وتعالى يريد قَطْع العلاقات معهم بصورة نهائية قطعية ، لا تعرف هذه الحلول الوسط ، فقال سبحانه :
{ قُلْ ياأيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكفارون : 16 ] .
وقَطْع العلاقات هنا ليس كالذي نراه مثلاً بين دولتين ، تقطع كل منهما علاقتها سياسياً بالأخرى ، وقد تحكم الأوضاع بعد ذلك بالتصالح بينهما والعودة إلى ما كانا عليه ، إنما قَطْع العلاقات مع الكفار قَطْعاً حتمياً ودون رجعة ، وكأنه يقول لهم : إياكم أنْ تظنوا أننا قد نعيد العلاقات معكم مرة أخرى؛ لذلك تكرَّر النفي في هذه السورة ، حتى ظنّ البعض أنه تكرار؛ ذلك لأنهم يستقبلون القرآن بدون تدبُّر .
فالمراد الآن : لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وكذلك في المستقبل : ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . فلن يُرغمنا أحد على تعديل هذا القرار أو العودة إلى المصالحة .
لذلك أتى بعد سورة ( الكافرين ) سورة الحكم : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فلا ثانيَ له يُعدِّل عليه ، فكلامه تعالى وحكمه نهائي وحَتْماً مقضياً لا رجعةَ فيه ولا تعديل .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا }
(1/5593)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
جِثياً : من جَثَا يجثُو أي : قعد على رُكَبه دلالة على المهانة والتنكيل . ثم ينقلنا الحَق سبحانه إلى لقطة أخرى ، فيقول : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا }
(1/5594)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
هذا حوار دار بين المؤمنين والكافرين ، المؤمنين وكانوا عادةً هم الضعفاء الذين لا يقدرون حتى على حماية أنفسهم ، وليس لهم جاه ولا سيادة يحافظون عليها ، وجاء منهج الله في صالحهم يُسوِّي بين الناس جميعاً : السادة والعبيد ، والقوي والضعيف .
فطبيعي أنْ يُقابلَ هذا الدين بالتكذيب من كفار مكة ، أهل الجاه والسيادة ، وأهل القوة الذين يأخذون خَيْر الناس من حولهم ، أما الضعفاء فقد آمنُوا بدين الله في وقت لم يكن لديهم القوة الكافية لحماية أنفسهم ، فعندما نزل قَوْل الحق تبارك وتعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
قال عمر رضي الله عنه وما أدراك مَنْ هو عمر؟ قال : أيّ جمع هذا؟ وأيُّ هزيمة ، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟
وفي هذه الآونة ، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة . فلما جاء نصر الله للمؤمنين ، وتأييده لهم في بدر . قال عمر : صدق الله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
وفي هذا الحوار يُعيِّر الكفار المؤمنين بالله : ماذا أفادكم الإيمان بالله وها أنتم على حال من الضعف والهوان والذِّلَّة وضيق العيش؟ أيرضي رَبٌّ أن يكون المؤمنون به على هذه الحال ، وأعداؤه والكافرون به هم أهل الجاه والسيادة وسَعة الرزق؟
وهكذا فتَن الله بعضهم ببعض ، كما قال سبحانه : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ الأنعام : 53 ] .
فالمؤمن والكافر ، والغني والفقير ، والصحيح والمريض ، كُلٌّ منهم فتنة للآخر لِيُمحِّص الله الإيمان ، ويختبر اليقين في قلوب المؤمنين؛ لأن الله تعالى يعدهم لحمل رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا كلها في جميع أزمنتها وأماكنها ، فلا بُدَّ أن يختار لهذه المهمة أقوياء الإيمان الذين يدخلون في الإسلام ، ليس لمغنم دنيوي ، بل لحمل رسالته والقيام بأعبائه ، فهذا هو المؤمن المؤتمن على حَمْل منهج الله .
ومن ذلك ما نراه من أن مناهج الباطل في الدنيا مَنْ يدعو إليها يرشو المدعو ويعطيه ، أمّا منهج الله فيأخذ منه ليختبره وليُمحصه .
فكيف يكون الغني فتنة للفقير ، والفقير فتنة للغني؟ الغني مفتون بالفقير حيث هو في سَعَة من العيش والفقير في ضيق ، الغني يأكل حتى التُّخمة والفقير جائع ، ويرتدي الغني الفاخر من الثياب والفقير عريان . فهل سيعرف نعمة الله عليه ويؤدي حقها؟
والفقير مفتون بالغني حين يراه على هذه الحال ، فهل سيصبر على هذه الشدة؟ أم سيعترض على ما قدَّره الله له ، ويحقد على الغنيّ .
ولو علم الفقير أن الفقر درس تدريبي أُجْرِي لجنود الحق الذين يحملون منهج الله إلى خَلْق الله في كل زمان ومكان ، وأن هذه قسمة الله بين خَلْقه لَمَا اعترض على قسمة الله ، ولَمَا حقد على صاحب الغني .
(1/5595)
وكذلك يُفتَن الصحيح بالمريض والمريض بالصحيح ، فالصحيح يعيش مع نعمة الله بالعافية ، أما المريض فيعيش مع المنعم سبحانه ، كما جاء في الحديث القدسي : " يا ابْن آدم ، مرضْتُ فَلِم تعُدْني . فيقول : وكيف أعودك وأنت ربّ العاليمن؟ قال : أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْه؟ أما علمت أنك لو عُدَّته لوجدتني عنده " .
لذلك ترى أهل الأمراض من المؤمنين يتألم زُوَّارهم من أمراضهم ، في حين أنهم في أُنْس بالله يشغلهم عن أمراضهم وعن آلامهم ، ومَنِ الذي يزهد في معية الله؟ إذن : لو حقد المريض على السليم فهو مفتون به ، وكان يجب عليه أن يعلم : إنْ كان الصحيح في معية النعمة فهو في معية المنعِم سبحانه وتعالى .
وسيدنا نوح عليه السلام بعد أن لبث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كان جواب قومه : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } [ هود : 27 ] فكان أتباع نوح في نظرهم حثالة القوم ، ثم حاولوا أنْ يُغروه بهم ليطردهم ، فهم ضِعاف لا جاهَ له ولا سلطان ، فما كان منه إلا أنْ قال : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ هود : 29 ] .
وقال في آية أخرى : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } [ هود : 31 ] .
فعلى مَرِّ الأزمان واختلاف الرسالات كان الكفار تزدري أعينهم الفقراء والضعفاء المؤمنين ، ويحاولون طردهم وإخراجهم من ديارهم ، ألم يقل الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } [ الأنعام : 52 ] .
وهكذا جاء اللقطة التي معنا : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] .
قوله : { آيَاتُنَا بينات } [ مريم : 73 ] الآيات : جمع آية وهي الشيء العجيب الذي يتحدث به ، وتُطلق كما قلنا على الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله تعالى ، وتلفتنا إلى بديع صُنْعه كآيات الليل والنهار والشمس والقمر ، وتُطلق على المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول ، كما جاء في قوله تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 9093 ] .
كما تُطلق الآيات على آيات القرآن التي تحمل الأحكام ، وهذه هي المرادة هنا؛ لأن آيات القرآن تنطوي فيها كل الآيات .
(1/5596)
وقوله : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين } [ مريم : 73 ] أي : لقد ارتضينا حكمكم في هذه المسألة : نحن الكفار في سَعَة ، وأنتم يا أهلَ الإيمان في ضيق ، فأيّ الفريقين خير مقاماً؟ والله بمقاييسكم أنتم . فأنتم خير ، أمّا بمقياس الأعلى والأبقى فنحن .
والمقام بفتح الميم : اسم لمكان قيامك من الفعل : قام .
أما " مُقام " بضم الميم ، فمِنْ أقام . والمراد هنا { خَيْرٌ مَّقَاماً } [ مريم : 73 ] أي : مكاناً يقوم فيه على الآخر أي : بيت كبير وأثاث ومجلس يتباهى به على غيره .
{ وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] الإنسان عادةً له بيت يَأويه ، وله مجلس يَأوي إليه ، ويجلس فيه مع أصحابه وأحبابه يُسمُّونه " حجرة الجلوس " أو " المندرة " ، وفيها يجلس كبير القوم ومن حوله أهله وأتباعه ، كما نقول في العامية : ( عامل قعر مجلس ) ؛ لذلك إذا قام أنفضَّ المجلس كله؛ لأنهم تابعون له ، كما قال الشاعر :
وانفضَّ بَعْدَكَ يَا كُليْبُ المجلِسُ ... وهناك النادي ، وهو المكان الذي يجتمع فيه عظماء القوم والأعيان ، بدل أنْ يكون لكل منهم مجلسه الخاص ، كما نرى الآن : نادى الرياضيين ونادى القضاة . . إلخ إذن : فالنادي دليلٌ على أنهم متفقون ومتكاتفون ومتكتلون ضد الإسلام وضد الحق .
ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } [ العلق : 17 ] ومن ذلك ما كان يُسمَّى قبل الإسلام " دار الندوة " ، و كانوا يجتمعون فيها ليدبروا المكائد لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن النادي ما كان مأخوذاً لعمل المنكر والفاحشة والعياذ بالله ، فيجتمعون فيه لكُلِّ ما هو خبيث من شُرْب الخمر والرقص والفواحش ، كما في قَوْل الحق تبارك وتعالى : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } [ العنكبوت : 29 ] .
وفي هذا دليل على شيوع الفاحشة و القِحَةِ بين القادرين والمجاهرة بها ، فلم يكونوا يقترفونها سِرّاً ، بل في جَمْع من رُوَّاد هذه الأماكن .
والنادي أو المنتدَى مأخوذ من النَّدَى أي : الكرم ، ولما مدحَتْ المرأة العربية زوجها قالت : رَفيع العِماد ، كثير الرماد ، قريب البيت من الناد .
والمعنى : أن بيته أقرب البيوت إلى النادي ، فهو مَقْصد الناس في قضاء حاجياتهم .
إذن : كان قول الكفار للمؤمنين : { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] موضع فتنة للفريقين ، فقال المؤمنون : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] وقال الكفار : ما دام أن الله حبانا في الدنيا وهو الرزاق ، فلا بد أنْ يَحْبُوَنَا في الآخرة ، لكن لم تتعرض الآيات للقول المقابل من المؤمنين ، إنما جاء الرد عليهم من طريق آخر ، فقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ }
(1/5597)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
كم : خبرية تدل على الكثرة التي لا تُحصَى ، وأن المقول بعدها وقع كثيراً ، كأن يقول لك صاحبك : أنت ما عملتَ معي معروفاً أبداً ، فتُعدِّد له صنائع المعروف التي أسديتها إليه ، فتقول : كم فعلتُ معك كذا ، وكم فعلتُ كذا .
والقرن : هم الجماعة المتعايشون زماناً . بحيث تتداخل بينهم الأجيال ، فترى الجدَّ والأب والابن والحفيد معاً ، وقد قدَّروا القرن بمائة عام . كما يُطلَق القرن على الجماعة الذين يجتمعون على مُلك واحد ، أو رسالة واحدة مهما طال زمنهم كقوم نوح مثلاً .
والأثاث : هو فراش البيت ، وهذا أمر يتناسب وإمكانات صاحبه .
والرِّئْى : على وزن فِعْل ، ويراد به المفعول أي : المرئي ، كما جاء في قوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 107 ] فذبْح بمعنى : مذبوح .
وورد في قراءة أخرى : ( أحْسَنُ أثَاثاً وزِيّاً ) وهي غير بعيدة عن المعنى الأول : لأن الزيّ أيضاً من المرئي ، إلا أنه يتكوّن من الزي والذي يرتديه ، والمراد هنا جمال الشكل والهيئة ونضارة الشخص وهندامه ، وقد افتخر الكفار بذلك ، في حين كان المؤمنين شُعْثاً غُبْراً يرتدون المرقَّع والبالي من الثياب .
وقد جاء الاختلاف في بعض ألفاظ القرآن من قراءة الأخرى؛ لأن القرآن الكريم دُوِّن أول ما دُوِّن غير منقوط ولا مشكول اعتماداً على مَلَكَة العربي وفصاحته التي تُمكِّنه من توجيه الحرف حَسْب المعنى المناسب للسياق ، وظل كذلك إلى أن وضع له العلماء النقاط فوق الحروف في العصر الأموي . فمثلاً النَّبْرة في كلمةٍ دون نقط يحتمل أنْ تُقرأ من أعلى : نون أو تاء أو ثاء . ومن أسفل تقرأ : باء أو ياء .
والعربي لمعرفته بمواقع الألفاظ يستطيع تحديد الحرف المراد ، فكلمة ( رئْيَا ) تقرأ ( زيا ) والمعنى غير بعيد .
ومن ذلك كلمة { فَتَبَيَّنُواْ } [ النساء : 94 ] قرأها بعضهم ( فتثبتوا ) وكلمة { صِبْغَةَ } [ البقرة : 138 ] قرأها بعضهم ( صنعة ) ، ودليل فصاحتهم أن الاختلاف في مثل هذه الحروف لا يؤدي إلى اختلاف المعنى .
لذلك ، كان العربي قديماً يغضب إنْ كُتِب إليه كتاب مُشَكل ، لأن تشكيل الكلام كأنه اتهام له بالغباء وعدم معرفته باللغة . ومن هنا وجدنا العلماء الذين وضعوا قواعد اللغة ليسوا من العرب؛ لأن العربي في هذا الوقت كان يستنكف أن يضع للغة قواعد ، فهي بالنسبة له مَلَكَة معروفة لا تحتاج إلى دراسة أو تعليم . أما الأعاجم فلما دخلوا الإسلام ما كان لهم أنْ يتعلَّموا لغته إلا بهذه الدراسة لقواعدها .
والحق تبارك وتعالى يقول هنا : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] لأنهم قالوا : { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] يريد أنْ يُدلِّل على أنهم حَمْقَى لا ينظرون إلى واقع الحياة ليروا عاقبة مَنْ كانوا أعزَّ منهم مكاناً ومكانة ، وكيف صار الأمر إليهم؟
الحق تبارك وتعالى يردُّ على الكفار ادعاءهم الخيرية على المؤمنين ، فهذه الخيرية ليستْ بذاتيتكم ، بل هي عطاء من الله وفِتْنة ، حتى إذا أخذكم أخذكم عن عِزَّة وجاهٍ؛ ليكون أنكى لهم وأشدَّ وأغَيظ ، أما إنْ أخذهم على حال ذِلَّة وَهَوان لم يكن لأخذه هذا الأثر فيهم .
(1/5598)
فالحق سبحانه يُملي لهم بنعمه ليستشرفوا الخير ثم يأخذهم ، على حَدِّ قول الشاعر :
كَمَا أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمامَةً ... فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتجلَّتِ
فأطمعهم في البداية ، ثم أخذهم وخيَّب آمالهم في النهاية .
وضربنا لذلك مثلاً بالأسير الذي بلغ به العطش مَبْلغاً ، فطلب الماء ، فجاءه الحارس بالماء حتى كان على فِيهِ ، واستشرف الريِّ منعه وحرمه لتكون حسرته أشد ، وألمهُ أعظم ، ولو لم يأتِه بالماء لكان أهونَ عليه .
إذن : حينما تُجرون مُقارنة بينكم وبين المؤمنين وتُعيِّرونهم بما معكم من زينة الدنيا ، فقد قارنتم الوسائل وطرحتُم الغايات ، ومن الغباء أنْ نهتم بالوسائل وننسى الغايات ، فلكي تكون المقارنةُ صحيحة فقارنوا حالكم بحال المؤمنين ، بداية ونهاية .
ومثال ذلك : فلاح مجتهد في زراعته يعتني بها ويُعفِّر نفسه من تراب أرضه كل يوم ، وآخر ينعَم بالثياب النظيفة والجلوس على المقهى والتسكع هنا وهناك ، وينظر إلى صاحبه الذي أجهده العمل ، ويرى نفسه أفضل منه ، فإذا ما جاء وقت الحصاد وجد الأولُ ثمرة تعبه ونتيجة مجهوده ، وجلس الآخر حزيناً محروماً . فلا بُدَّ أن تأخذ في الاعتبار عند المقارنة الوسائل مع الغايات .
لذلك وُفِّق الشاعر حين قال :
ألاَ مَنْ يُرِينِي غَايتِي قَبْل مذْهَبِي ... ومِنْ أينْ والغَايَاتُ بَعْد المذَاهِبِ؟
وقد عزل الكفار الوسيلة في الدنيا عن الغاية في الآخرة ، فتباهوا وعَيَّروا المؤمنين : { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] .
وفي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } [ العنكبوت : 24 ] .
وهكذا اتفقوا على الإحراق ، ونجَّى الله نبيه وخيَّب سَعْيهم ، ثم كانت الغاية في الآخرة : { وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] .
فكان عليهم ألاَّ ينظروا إلى الوسيلة منفصلةً عن غايتها .
وهنا يردُّ الحق تبارك وتعالى على هؤلاء المغترِّين بنعمة الله :
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] وكما قال في آيات أخرى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 610 ] .
وهلاك هؤلاء وأمثالهم سَهْل لا يكلف الحق سبحانه إلا أنْ تهُبَّ عليهم عواصف الرمال ، فتطمس حضارتهم ، وتجعهلم أثراً بعد عَيْن .
فدعاهم إلى النظر في التاريخ ، والتأمّل في عاقبة أمثالهم من الكفرة والمكذبين ، وما عساه أنْ يُغني عنهم من المقام والندىّ الذي يتباهون به ، وهل وسائل الدنيا هذه تدفع عنهم الغاية التي تنتظرهم في الآخرة؟
وكأن الحق تبارك وتعالى لا يردّ عليهم بكلام نظري يقول : إن عاقبتكم كذا وكذا من العذاب ، بل يعطيهم مثالاً من الواقع .
(1/5599)
ويخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } [ غافر : 77 ] أي : من القهر والهزيمة والانكسار { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] فمَنْ أفلت من عذاب الدنيا ، فلن يفلت من عذاب الآخرة .
والقرآن حين يدعوهم إلى النظر في عاقبة من قبلهم { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } [ مريم : 74 ] فإنما يحثُّهم على أخْذ العِبْرة والعِظَة ممَّنْ سبقوهم ، ويستدل بواقع شيء حاضر على صِدْق غيْبٍ آتٍ ، فالحضارات التي سبقتهم والتي لم يوجد مثلها في البلاد ، وكان من صفاتها كذا وكذا ، ماذا حدث لهم؟ فهل أنتم أشدّ منهم قوة؟ وهل تمنعون عن أنفسكم ما نزل بغيركم من المكذِّبين؟
هذا من ناحية الواقع ، أما الغيب فيعرض له القرآن في مشهد آخر ، حيث يقول تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطفيين : 2933 ] .
هذا المشهد في الدنيا ، فما بالهم في الآخرة؟ : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } [ المطففين : 3435 ] .
ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى المؤمنين فيقول : { هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 36 ] .
يعني : بعد ما رأيتموه من عذابهم ، هل قدرنا أنْ نُجازيهم عَمَّا فعلوه بكم من استهزاء في الدنيا؟ وعلى كُلٍّ فإن استهزاءهم بكم في الدنيا موقوت الأجل ، أما ضِحْككم الآن عليهم فأمر أبديّ لا نهايةَ له . فأيُّ الفريقين خَيْر إذن؟
فإياكم أنْ تغرّكم ظواهر الأشياء ، أو تخدعكم بَرقات النعيم وانظروا إلى الغايات والنهايات؛ لذلك يقول سبحانه :
{ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] .
وفي سورة الأعراف لقطة أخرى من مواقف القيامة ، حيث يقول أصحاب الأعراف لأهل النار : { مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأعراف : 48 ] ثم يلتفتون إلى المؤمنين في الجنة : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } [ الأعراف : 49 ] فأين أنتم منهم الآن؟
(1/5600)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
قوله : ( قل ) أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم : { مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] أي : يُمهله ويستدرجه؛ لأنه رَبٌّ للجميع ، وبحكم ربوبيته يعطي المؤمن والكافر ، وكما يعين المؤمن بالنصر ، كذلك يعين الكافر بمراده ، كما في قوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] .
لأنهم ارتاحوا إليه ، ورَضُوا به ، وطلبوا منه المزيد .
{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن } [ مريم : 75 ] أي : في الدنيا وزينتها ، كما قال : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
وفي موضع آخر يقول : إياك أنْ تعجبك أموالهم وأولادهم؛ لأنها فتنة لهم ، يُعذِّبهم بها في الدنيا بالسَّعْي في جمع الأموال وتربية الأولاد ، ثم الحسرة على فقدهما ، ثم يُعذِّبهم بسببها في الآخرة : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .
ثم يقول تعالى : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة } [ مريم : 75 ] .
العذاب : عذاب الدنيا . أي : بنصر المؤمنين على الكافرين وإهانتهم وإذلالهم { وَإِمَّا الساعة } [ مريم : 75 ] أي : ما ينتظرهم من عذابها ، وعند ذلك : { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } [ مريم : 75 ] لكنه عِلْم لا يُجدي ، فقد فات أوانه ، فالموقف في الآخرة حيث لا استئناف للإيمان ، فالنكاية هنا أعظم والحسرة أشدّ .
لكن ، ما من مناسبة ذكر الجند هنا والكلام عن الآخرة؟ وماذا يُغني الجند في مثل هذا اليوم؟ قالوا : هذا تهكُّم بهم كما في قوله تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 2223 ] ، فهل أَخْذهم إلى النار هداية؟
ثم يلتفت إليهم : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } [ الصافات : 2530 ] .
أي : لم نُجبركم على شيء ، مجرد أنْ أشَرْنَا لكم أطعتمونا .
لذلك ، سيقولون في موضع آخر : { رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } [ فصلت : 29 ] .
(1/5601)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قلنا : إن للهداية معنيَيْن : هداية بمعنى الدلالة على الخير وبيان طريقه ، وهداية المعونة والتوفيق للإيمان ، فمَنْ صدّق في الأُولى أعانه الله على الأخرى ، ومن ذلك قوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
وقوله تعالى : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] الباقيات الصالحات : هي الأعمال الصالحة التي كانت منك خالصةً لوجه الله : { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] هذه هي الغاية التي ننتظرها ونسعى إليها ، فساعةَ أنْ تقارن السُّبل الشاقة فاقْرِنها بالغاية المسعدة ، فيهون عليك عناء العبادة ومشقّة التكليف .
وقوله : { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] أي : مرجعاً تُرَدُّ إليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ }
(1/5602)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
نلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا هذا الشخص الذي قال هذه المقولة ولم يُعيِّنه ، وإنْ كان معلوماً لرسول الله الذي خُوطب بهذا الكلام؛ وذلك لأن هذه المقولة يمكن أنْ تُقال في زماننا وفي كل زمان ، إذنْ : فليس المهم الشخص بل القول نفسه . وقد أخبر عنه أنه أمية بن خلف ، أو العاصي بن وائل السَّهْمي .
وقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } [ مريم : 77 ] يعني : ألم تَرَ هذا ، كأنه يستدلّ بالذي رآه على هذه القضية { الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] ويروي أنه قال : إنْ كان هناك بَعْثٌ فسوف أكون في الآخرة كما كنت في الدنيا ، صاحبَ مال وولد .
كما قال صاحب الجنة لأخيه : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] .
والإنسان لا يعتزّ إلا بما هو ذاتيّ فيه ، وليس له في ذاتيته شيء ، وكذلك لا يعتز بنعمة لا يقدر على صيانتها ، ولا يصون النعمة إلا المنعِم الوهاب سبحانه إذن : فَلِمَ الاغترار بها؟
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] .
ويقول : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الملك : 28 ] .
ثم يردُّ الحق تبارك وتعالى على هذه المقولة الكاذبة : { أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ }
(1/5603)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
يعني : أَقُلْتَ هذا القول مُتطوِّعاً به من عند نفسك ، أم اطلعتَ على الغيب ، فعرفتَ منه ما سيكون لك في الآخرة : { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 78 ] أي : أعطاه الله تعالى عهداً بأن يكون له في الآخرة كما له في الدنيا ، فإمّا هذه وإمّا هذه ، فأيُّهما توافرتْ لك حتى تجزم بهذا القول؟
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } [ القلم : 3539 ] .
والمراد : مَنْ يضمن لهم هذا الذي يدَّعونه؟
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أدخل على مؤمن سروراً فقد أخذ العهد من الله " ، " ومَنْ صلى الصلوات بفرائضها وفي وقتها فقد أخذ العهد من الله " .
فمَنْ هؤلاء الذين لهم عَهْد من الله تعالى ألاَّ يدخلهم النار؟
والعَهْد : الشيء الموثّق بين اثنين ، والعهد إنْ كان بين الناس فهو عَهْد غير موثوق به ، فقد ينفذ أو لا ينفذ؛ لأن الإنسانَ أبنُ أغيار ، ويمكن أنْ تحُول الظروف بينه وبين ما وعد به ، أما إنْ كان العهد من الله تعالى المالك لكل شيء ، وليست هناك قوة تبطل إرادته تعالى ، فهو العَهْد الحقّ الموثوق به ، والذي لا يتخلف أبداً .
فحين تعاهد ربك على الإيمان فإنك لا تضمن ما يطرأ عليك من الأغيار ، أما حين يعاهدك ربك على الجزاء ، فثِقْ أنه نافذ لا يُخلَف .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن ينصحَ الإمام علياً رضي الله عنه قال : " أدعو الله أن يجعل لك عهداً في قلوب المؤمنين " .
أي : حُباً ومودة في قلوبهم ، وما دام أن الله أعطاه هذا العهد ، فهو نافذ مُحقَّق .
واختار هنا اسم الرحمن لما فيه من صفة الرحمانية التي تناسب المعونة على الوفاء .
ثم يقول الحق سبحانه : { كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ }
(1/5604)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
كلا : أداة لنفي ما قيل قبلها وإبطاله ، أي : قوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 7778 ] ثم يأتي ما بعد كلا حُجة ، ودليلاً على النفي .
وقد ورد هذا الحرف ( كَلاَّ ) في قوله تعالى : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ * كَلاَّ } [ الفجر : 1517 ] .
فالحق تبارك وتعالى ينفي الكلام السابق؛ لأن النعمة وسَعَة الرزق ليست دليلَ إكرام ، كما أن الفقر وضِيق الرزق ليس دليلَ إهانةٍ ، فكلاهما ابتلاء واختبار كما أوضحتْ الآيات ، فإتيان النعمة في حَدِّ ذاته ليس هو النعمة إنما النعمة هي النجاح في الابتلاء في الحالتين .
فقد يعطيك الله المال فلا تصرفه فيما أحلَّ الله ، فيكون لك فتنة وتخفق في الاختبار ، إذن : لم يكرمك بالمال ، بل جعله لك وسيلة إغواء وإغراء ، فبيدك يتحوَّل المال إلى نعمة أو نقمة ، ويكون إكراماً أو إهانة .
وقوله تعالى :
{ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] .
لقد جاءت كلمة ( سَنَكْتُبُ ) حتى لا يؤاخذه سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنه فعله ، ولكن بما كتب عليه وليقرأه بنفسه ، وليكون حجة عليه ، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط ، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس ، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً .
يقول تعالى : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه ، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم ، أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها .
وقوله سبحانه : { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } [ مريم : 79 ] أي : يزيده في العذاب ، لأن المد هو أن تزيد الشيء ، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته ، ومرة تزيد عليه من غيره ، قد تأتي بخيط وتفرده إلى آخره ، وقد تصله بخيط آخر ، فتكون مددته من غيره ، فالله يزيده في العذاب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ }
(1/5605)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
أي : في حين ينتظر أنْ نزيدَه ونعطيه سنأخذ منه { وَنَرِثُهُ } [ مريم : 80 ] أي : نأخذ منه كما في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ] .
وقوله : { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } [ القصص : 58 ] .
فكأن قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ } [ مريم : 80 ] تقابل قوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً } [ مريم : 77 ] وقوله تعالى : { وَيَأْتِينَا فَرْداً } [ مريم : 80 ] تقابل { وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] ، فسيأتينا من القيامة فَرْداً ، ليس معه من أولاده أحد يدفع عنه .
ثم يقول الحق سبحانه : { واتخذوا مِن دُونِ الله }
(1/5606)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
آلهة : جمع إله ، وهو المعبود و الرب الذي أوجدك من عَدَم ، وأمدّك من عُدْم ، وتولاّك بالتربية ، فعطاء الألوهية تكليف وعبادة ، وعطاء الربوبية نِعَم وهِبَات . إذن : فمَنْ أَوْلى بعبادتك ومَنْ أحقّ بطاعتك؟
هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله آلهة من شمس ، أو قمر ، أو حجر ، أو شجر ، بماذا تعبَّدتكم هذه الآلهة؟ بماذا أمرتكم؟ وعن أي شيء نهتْكُم؟ وبماذا أنعمتْ عليك؟ وأين كانت وأنت جنين في بطن أمك؟
إن أباك الذي رباك وأنت صغير وتكفَّل بكل حاجياتك ، وأمك التي حملتْك في بطنها وسهرتْ على راحتك ، هما أوْلَى الناس بطاعتك ، ولا ينبغي أنْ تُقدِّم على أمرهما أمراً . أما أنْ يستحوذَ عليك آخرون ، ويكون لهم طاعتك وولاؤك دون أبويْك فهذا لا يجوز وأنت في رَيْعان شبابك وأَوْج قوتك .
لذلك ، من أصول التربية أنْ يُربّي الآباء أبناءهم على السمع والطاعة لهم ، ونُحذِّرهم من طاعة الآخرين خاصة غير المؤتمنين على التربية ، من العامة في الشارع ، أو أصدقاء السُّوء الذين يجرُّون الأبناء على مَا لا تُحمد عُقباه .
والآن نُحذّر أبناءنا من السَّيْر مع شخص مجهول ، أو قبول طعام ، أو شراب منه . وما نراه في عصرنا الحاضر يُغني عن الإطالة في هذه المسالة . هذه إذن مناعة يجب أنْ تُعطَى للأبناء ، كالمناعة ضد الأمراض تماماً .
وهكذا الحالُ فيمَنْ اتخذوا من دون الله آلهة وارتاحوا إلى إله لا تكليفَ له ولا مشقةَ في عبادته ، إله يتركهم يعبدونه كما يحلو لهم ، إنهم أخذوا عطاء الربوبية فتمتّعوا بنعمة الله ، وتركوا عطاء الألوهية فلم يعبدوه سبحانه وتعالى .
ولما كان الإنسان متديناً بطبعه فقد اختار هؤلاء ديناً على وَفْق أهوائهم وشهواتهم ، واتخذوا آلهة لا أمرَ لها ولا تكليفَ . ومن ذلك ما نراه من كثير من المثقفين الذين يأخذون دين الله على هواهم ، ويطيعون أعداء الله في قضايا بعيدة كل البُعْد عن دين الله ، وهم أصحاب ثقافة وعقول ناضجة ، ومع ذلك يُقنعون أنفسهم أنهم على دين وأنهم على الحق .
ثم يقول تعالى : { لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] العز : هو الغَلَبة والامتناع من الغير ، بحيث لا ينال أحد منه شيئاً ، يقولون : فلان عزيز أي : لا يُغلب .
ولنا أن نسأل : ما العزة في عبادة هذه الآلهة؟ وما الذي سيعود عليكم من عبادتها؟ لذلك يردُّ عليهم الحق تبارك وتعالى : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ }
(1/5607)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
كلا : تنفي أن يكون لهؤلاء عِزٌُّ في عبادة ما دون الله ، بل { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } [ مريم : 82 ] .
هذه الآلهة نفسها ستكفر بعبادتهم ، وتنكر أن تكون هي آلهة من دون الله ، وأكثر من ذلك { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] أي : في حين اتخاذها الكفار آلهة من دون الله وطلبوا العزة في عبادتها تنقلب عليهم ، وتكون ضِدّاً لهم وخَصْماً .
والضد : هو العدو المخالف لك ، والذي يحاول أنْ ينكِّل بك . وفي القرآن الكريم حوارات كثيرة بين هذه المعبودات ومَنْ عبدوها ، فمثلاً الذين عبدوا الملائكة واتخذوها آلهةً من دون الله : يسأل الله الملائكة : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } ؟ [ سبأ : 40 ] فيُجيبون : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] .
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5 ] .
إذن : ما ظنَّه الكفار عِزّاً ومَنَعة صار عليهم ضِدّاً وعداوة ، كالفتاة التي قالتْ لأبيها : يا أبتِ ما حملك على أنْ تقبلني مخطوبة لابن فلان؟ أي : ماذا أعجبك فيه؟ قال : يا بُنيّتي إنهم أهل عِزٍّ وأهل جاهٍ وشرف وأهل قوة ومنعة ، فقالت : يا أبتِ لقد قدَّرْتَ أن يكون بيني وبين ابنهم وُدٌّ ، ولم تٌقدِّر أن يكون بيني وبينه كراهية ، فإن حدثتْ الكراهية سيكون ما قلته ضدك ، وستشْقى أنت بهذا العزّ وبهذا الجاه .
ومن الناس من اتخذ من المال إلهاً ، على حَدِّ قَوْل الشاعر :
وَللمالِ قَوْمٌ إنْ بَدا المالُ قَائِلاً ... أنَا المالُ قالَ القومُ إيَّاكَ نعبُدُ
وهؤلاء الذين يعبدون المال ، ويروْن فيه القوة ، ويعتزُّون به لا يدرون أنه سيكون وَبَالاً ونَكالاً عليهم يوم القيامة : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 35 ] .
وهكذا ، كلما زاد حرصه على المال زاد كَيُّه . وتلحظ في الآية الترتيب الطبيعي لموقف السؤال حين يقف السائلُ الفقير أمام الغني اللئيم ، فأوَّل ما يطالع السائل يتغيّر وجهه ، ثم يُشيح عنه بوجهه ، فيعطيه جَنْبه ، ثم يُدير له ظهره مُعْرِضاً عنه ، وبنفسِ هذا الترتيب يكون العذاب ويكون الكيُّ والعياذ بالله . وينقلب المال الذي ظَنّ العزة فيه إلى نكَالٍ ووبَالٍ .
يقول تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] .
حتى الجوارح التي تمتعتْ بمعصيتك في الدنيا ستشهد عليك : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
ذلك لأنك غفلتَ عمَّنْ كان يجب ألاَّ تغفل عنه ، وذكرت مَنْ كان يجب ألاَّ تذكره ، فالإله الحق الذي غفلْتَ عنه يطلبك الآن ويحاسبك ، والإله الباطل الذي اتخذته يتخلى عنك ويُسلمِك للهلاك .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا }
(1/5608)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
الأزُّ : هو الهزُّ الشديد بعنف أي : تُزعجهم وتُهيجهم ، ومثْلُه النزغ في قوله سبحانه وتعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } [ الأعراف : 200 ] .
والأَزّ أو النَّزْغ يكون بالوسوسة والتسويل ليهيجه على المعصية والشر ، كما يأتي هذا المعنى أيضاً بلفظ الطائف ، كما في قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .
وهذه الآية : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين } [ مريم : 83 ] تثير سؤالاً : إذا كان الحق تبارك وتعالى يكره ما تفعله الشياطين بالإنسان المؤمن أو الكافر ، فلماذا أرسلهم الله عليه؟
أرسل الله الشياطين على الإنسان لمهمة يؤدونها ، هذه المهمة هي الابتلاء والاختبار ، كما قال تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] .
إذن : فهم يُؤدُّون مهمتهم التي خُلِقوا من أجلها ، فيقفوا للمؤمن ليصرفوه عن الإيمان فيُمحص الله المؤمنين بذلك ، ويُظهر صلابة مَنْ يثبت أمام كيد الشيطان .
وقلنا : إن للشيطان تاريخاً مع الإنسان ، بداية من آدم عليه السلام حين أَبَى أن يطيع أمر الله له بالسجود لآدم ، فطرده الله تعالى وأبعده من رحمته ، فأراد الشيطان أنْ ينتقمَ من ذرية آدم بسبب ما ناله من آدم ، فقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] .
وقال : { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] .
وهكذا أعلن عن منهجه وطريقته ، فهو يتربص لأصحاب الاستقامة ، أما أصحاب الطريق الأعوج فليسوا في حاجة إلى إضلاله وغوايته .
لذلك نراه يتهدد المؤمنين : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } [ الأعراف : 17 ] .
ومعلوم أن الجهات ست ، يأتي منها الشيطان إلا فوق وتحت؛ لأنهما مرتبطتان بعزِّ الألوهية من أعلى ، وذُلّ العبودية من أسفل ، حين يرفع العبد يديه لله ضارعاً وحين يخِرُّ لله ساجداً؛ لذلك أُغلِقَتْ دونه هاتان الجهتان؛ لأنهما جهتا طاعة وعبادة وهو لا يعمل إلا في الغفلة ينتهزها من الإنسان .
والمتأمل في مسألة الشيطان يجد أن هذه المعركة وهذا الصراع ليس بين الشيطان وربه تبارك وتعالى ، بل بين الشيطان والإنسان؛ لأنه حين قال لربه تعالى : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] التزم الأدب مع الله .
فالغواية ليست مهارة مني ، ولكن إغويهم بعزتك عن خَلْقك ، وترْكِكَ لهم الخيارَ ليؤمن مَنْ يؤمن ، ويكفر مَنْ يكفر ، هذه هي النافذة التي أنفذ منها إليهم ، بدليل أنه لا سلطانَ لي على أهلك وأوليائك الذين تستخلصهم وتصطفيهم : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 83 ] .
وهنا أيضاً يثار سؤال : إذا كان الشيطان لا يقعد إلا على الصراط المستقيم لِيُضلَّ أهله ، فلماذا يتعرَّض للكافر؟
نقول : لأن الكافر بطبعه وفطرته يميل إلى الإيمان وإلى الصراط المستقيم ، وها هو الكون يآياته أمامه يتأمله ، فربما قاده التأمل في كَوْن الله إلى الإيمان بالله؛ لذلك يقعد له الشيطان على هذا المسلْك مسلْك الفكر والتأمل لِيحُول بينه وبين الإيمان بالخالق عز وجل .
(1/5609)
فالشيطان ينزغك ، إما ليحرك فيك شهوة ، أو ليُنسِيك طاعة ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } [ الكهف : 63 ] .
وقال : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] .
وكثير من الإخوان يسألون : لماذا في الصلاة بالذات تُلِحُّ علينا مشاكل الحياة ومشاغل الدنيا؟
نقول : هذه ظاهرة صحية في الإيمان ، لأن الشيطان لولا علمه بأهمية الصلاة ، وأنها ستُقبل منك ويُغفر لك بها الذنوب ما أفسدها عليك ، لكن مشكلتنا الحقيقية أننا إذا أعطانا الشيطان طرفَ الخيط نتبعه ونغفل عن قَوْل ربنا تبارك وتعالى :
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } [ فصلت : 36 ] .
فما عليك ساعةَ أنْ تشعر أنك ستخرج عن خطِّ العبادة والإقامة بين يدي الله إلاَّ أنْ تقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، حتى وإنْ كنت تقرأ القرآن ، لك أنْ تقطعَ القراءة وتستعيذ بالله منه ، وساعةَ أن يعلم منك الانتباه لكيده وألاعيبه مرة بعد أخرى سينصرف عنك وييأس من الإيقاع بك .
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً باللص؛ لأنه لا يحوم حول البيت الخرب ، إنما يحوم حول البيت العامر ، فإذا ما اقترب منه تنبّه صاحب البيت وزجره ، فإذا به يلوذ بالفرار ، وربما قال اللص في نفسه : لعل صاحب البيت صاح مصادفة فيعاود مرة أخرى ، لكن صاحب الدار يقظٌ منتبه ، وعندها يفرُّ ولا يعود مرة أخرى .
ويجب أن نعلم أن من حيل الشيطان ومكائده أنه إذا عَزَّ عليه إغواؤك في باب ، أتاك من باب آخر؛ لأنه يعلم جيداً أن للناس مفاتيح ، ولكل منا نقطة ضعف يُؤتَى من ناحيتها ، فمن الناس مَنْ لا تستميله بقناطير الذهب ، إنما تستميله بكلمة مدح وثناء . وهذا اللعين لديه ( طفاشات ) مختلفة باختلاف الشخصيات .
لذلك من السهل عليك أنْ تُميِّز بين المعصية إنْ كانت من النفس أم من الشيطان : النفس تقف بك أمام شهوة واحدة تريدها بعينها ولا تقبل سواها ، فإنْ حاولتَ زحزحتها إلى شهوة أخرى أبتْ إلا ما تريد ، أما الشيطان فإنْ عزَّتْ عليك معصية دعاك إلى غيرها ، المهم أن يُوقِع بك .
فالحق تبارك وتعالى يُحذرنا الشيطان؛ لأنه يحارب في الإنسان فطرته الإيمانية التي تُلح عليه بأن للكون خالقاً قادراً ، والدليل على الوجود الإلهي دليل فطري لا يحتاج إلى فلسفة ، كما قال العربي قديماً : البعرة تدل على البعير ، والقدم تدل على المسير . . سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!
وكذلك ، فكل صاحب صنعة عالم بصنعته وخبير بدقائقها ومواطن العطب فيها ، فما بالك بالخالق سبحانه : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] .
إذن : فالأدلة الإيمانية أدلة فطرية يشترك فيها الفيلسوف وراعي الشاة ، بل ربما جاءت الفلسفة فعقَّدتْ الأدلة .
(1/5610)
ولنا وقفة مع قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين } [ مريم : 83 ] ومعلوم أن عمل الشيطان عمل مستتر ، كما قال تعالى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [ الأعراف : 27 ] .
فكيف يخاطب الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بقوله : { أَلَمْ تَرَ } [ مريم : 83 ] وهي مسألة لا يراها الإنسان؟
نقول : { أَلَمْ تَرَ } [ مريم : 83 ] بمعنى ألم تعلم؟ فعدَل عن العلم إلى الرؤيا ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة ، فكيف يخاطبه ربه عنها بقوله : { أَلَمْ تَرَ } [ الفيل : 1 ] ؟
ذلك ، ليدلك على أن إخبار الله لك أصحُّ من إخبار عينك لك؛ لأن رؤية العين بما تخدعك ، أمّا إعلام الله فهو صادق لا يخدعك أبداً . فعلمك من إخبار الله لك أَوْلَى وأوثق من علمك بحواسِّك .
والشياطين : جمعه شيطان ، وهو العاصي من الجنّ ، والجن خَلْق مقابل للإنسان قال الله عنهم : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } [ الجن : 11 ] فَمنْ هم دون الصالحين ، هم الشياطين .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ }
(1/5611)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
تمنّى النبي صلى الله عليه وسلم لو أن الله أراحه من رؤوس الكفر وأعداء الدعوة ، فقال تعالى : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [ مريم : 84 ] فالله يريد أنْ تطول أعمارهم ، وتسوء فعالهم ، وتكثر ذنوبهم ، فالكتبة يعدُّون عليهم ويُحْصُون ذنوبهم .
ومعنى : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [ مريم : 84 ] أنها مسألة ستنتهي؛ لأن كل ما يُعَدّ ينتهي ، إنما الشيء الذي لا يُحصَى ولا يَعُدُّ فلا ينتهي ، كما في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] .
لأن نِعَم الله لا تُحصَى ولا تُعَدُّ ولا تنتهي؛ لذلك سُبِقَتْ بإن التي تفيد الشكِّ ، فهي مسألة لا يجرؤ أحد عليها؛ لأن : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] .
وها نحن نرى علم الإحصاء وما وصل إليه من تقدّم حتى أصبح له جامعات وعلماء متخصصون أدخلوا الإحصاء في كل شيء ، لكن لم يفكر أحد منهم أنْ يُحصِي نِعَم الله في كَوْنه ، لماذا؟ لأن الإقبال على العَدِّ معناه ظن أنك تستطيع أنْ تنتهي ، وهم يعلمون تماماً أنهم مهما عَدُّوا ومهما أَحْصَوا فلن يصِلُّوا إلى نهاية .
إذن : { نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } [ مريم : 84 ] نُحصي سيئاتهم ونَعدُّ ذنوبهم قبل أن تنتهي أعمارهم ، وكلما طالت الأعمار كثرتْ الذنوب ، وكل ما ينتهي بالعدد ينتهي بالمُدد .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين }
(1/5612)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
الحق تبارك وتعالى أعطانا صوراً متعددة ومشاهد مختلفة ليوم القيامة ، فأعطانا صورة للمعبود الباطل ، وللعابدين للباطل ، وما حدث بين الطرفين من جدال ونقاش ، وأعطانا صورة لمن تعاونوا على الشر ، ولمَنْ تعاونوا على الخير . وهذه صورة أخرى تعرض للمتقين في ناحية ، والمجرمين في ناحية ، فما هي صورة المتقين؟
نحشر : أي : نجمع ، والوفد هم الجماعة ترِدُ على الملِك لأخْذ عطاياه ، جمعها وفود ، والواحد وافد . وهذه حال المتقين حين يجمعهم الله يوم القيامة وَفْداً لأخذ عطايا ربهم تبارك وتعالى . ولا تظن أنهم يُحشَرون ما شين مثلاً ، لا ، بل كل مؤمن تقي يركب ناقة لم يُرَ مثل حُسْنها ، رَحْلها من ذهب ، وأزمّتها من الزبرجد .
وفي المقابل يقول الحق تبارك وتعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ }
(1/5613)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
نسوق : والسائق يكون من الخلف ينهرهم ويزجرهم ، كما جاء في قوله تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] ولم يقل مثلاً : نقودهم؛ لأن القائد يكون من الأمام ، وربما غافله أحدهم وشرد منه .
وقوله تعالى : { وِرْداً } [ مريم : 86 ] الوِرْد : هو الذَّهَاب للماء لطلب الريِّ ، أما النار فمحلُّ اللظى والشُّواظ واللهب والحميم . فلماذا سُمِّي إتيان النار بحرِّها ورِدْاً؟
وهذا تهكُّم بهم ، كما جاء في آيات أخرى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه } [ الكهف : 29 ] .
وأنت ساعةَ تسمع ( يغاثوا ) تنتظر الخير وتأمل الرحمة ، لكن هؤلاء يُغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه .
وكذلك في قوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] في توبيخ عُتَاة الكفر والإجرام . ومنه قوله تعالى : { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 7 ] والبشرى لا تكون إلا بشيء . سَار .
إذن : فقوله تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] تهكُّم ، كما تقول للولد المهمل الذي أخفق في الامتحان : مبروك عليك السقوط .
ثم يقول تعالى : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ }
(1/5614)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
الكافر حين يباشر العذاب يطمع أول ما يطمع في أن يشفعَ له مبعوده ، ويُخرجه ممَّا هو فيه لكِنْ هيهات ، ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 56 ] .
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء يوم القيامة : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } [ مريم : 87 ] لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخذ الإذن بها { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] .
والعهد الذي تأخذه على الله بالشفاعة أنْ تُقدِّم من الحسنات ما يسع تكاليفك أنت ، ثم تزيد عليها ما يؤهلُك لأن تشفع للآخرين ، والخير لا يضيع عند الله ، فما زاد عن التكليف فهو في رصيدك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، ولا يهمل مثقال ذرة .
وعلى المؤمن مهما كان مُسْرفاً على نفسه ساعةَ يرى إنساناً مُقبلاً على الله مُستزيداً من الطاعات أنْ يدعوَ له بالمزيد ، وأن يفرح به؛ لأن فائض طاعاته لعله يعود عليك ، ولعلك تحتاج شفاعته في يوم من الأيام . أما مَنْ يحلو لهم الاستهزاء والسخرية من أهل الطاعات ، كما أخبر الحق تبارك وتعالى :
{ إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } [ المطفيين : 2932 ] .
فكيف ستقابل أهل الطاعات ، وتطمع في شفاعتهم بعدما كان منك؟ فإنْ لم تكُنْ طائعاً فلا أقلَّ من أنْ تحب الطائعين وتتمسح بهم ، فهذه في حَدِّ ذاتها حسنةٌ لك ترجو نفعها يوم القيامة .
وما أشبه الشفاعة في الآخرة بما حدث بيننا من شفاعة في الدنيا ، فحين يستعصي عليك قضاءُ مصلحة يقولون لك : اذهب إلى فلان وسوف يقضيها لك . وفعلاً يذهب معك فلان هذا ، ويقضي لك حاجتك ، فلماذا قُضِيتْ على يديه هو؟ لا بُد أن له عند صاحب الحاجة هذه أياديَ لا يستطيع معها أنْ يرد له طلباً .
إذن : لا بُدَّ لمن يشفع أن يكون له رصيد من الطاعات يسمح له بالشفاعة ، وإذا تأملت لوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مَنْ قدّم رصيداً إيمانياً وسع تكليفه وتكليف أمته ، ألم يخبر عنه ربه بقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] لذلك وجبت له الشفاعة ، وأُذِن له فيها .
والحق تبارك وتعالى لا يغفل الرصيد في خَلقه أبداً ، فكل ما قدَّمت من طاعات فوق ما كلَّفك الله به مُدَّخَر لك ، حتى إن الإنسان إذا اتُّهِم ظلماً ، وعُوقِب على عمل لم يرتكبه فإن الله يدَّخرها له ويستر عليه ما ارتكبه فعلاً فلا يُعاقب عليه .
(1/5615)
فالعهد إذن في قوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] أن تدخل مع ربك في مقام الإحسان ، ولا يدخل هذا المقام إلا مَنْ أدَّى ما عليه من تكليف ، وإلا فكيف تكون مُحسِناً وأنت مٌقصِّر في مقام الإيمان؟
وأقرأ إنْ شئت قول الله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } [ الذاريات : 1516 ] ما العلة؟ { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 1619 ] .
فالمحسن مَنْ يُؤدِّي من الطاعات فوق ما فرض الله عليه ، ومن جنس ما فرض ، فالله تعالى لم يُكلِّفنا بقيام الليل والاستغفار بالأسحار ، ولم يفرض علينا صدقة للسائل والمحروم ، ولا بُدَّ أنْ نُفرِّق هنا بين ( حق ) و ( حق معلوم ) هنا قال ( حق ) فقط؛ لأن الكلام عن الصدقة أما الحق المعلوم ففي الزكاة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن }
(1/5616)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
هذا الكلام منهم عبث وافتراء؛ لأنه متى كان اتخاذ هذا الولد؟ في أيِّ قَرْن من القرون من ميلاد المسيح عليه السلام؟ إن هذه المقولة لم تأْتِ إلا بعد ثلاثمائة سنة من ميلاد المسيح ، فما الموقف قبلها؟ وما الذي زاد في مُلْك الله بعد أنْ جاء هذا الولد؟
الشمس هي الشمس ، والنجوم هي النجوم ، والهواء هو الهواء ، إذن : موضوعية اتخاذ الولد هذه عبث؛ لأنه لم يَزِدْ شيء في المْلك على يد هذا الولد ، ولم تكن عند الله تعالى صفة مُعطلة اكتملتْ بمجىء الولد؛ لأن الصفات الكمالية لله تعالى موجودة قبل أنْ يخلق أيَّ شيء .
فهو سبحانه وتعالى خالق قبل أن يَخْلق ، ورازق قبل أنْ يَرزُق ، ومُحْيٍ قبل أنْ يحيى ، ومميت قبل أن يميت . فالبصفات أوجد هذه الأشياء ، فصفات الكمال فيه سبحانه موجودة قبل متعلقاتها .
وضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى بالشاعر الذي قال قصيدة . وقلنا : إنه قال القصيدة لأنه شاعر بدايةً ، ولولا أنه شاعر ما قالها .
لذلك يرد الحق سبحانه على هذا الافتراء بقوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ] .
وهنا يرد عليهم بقوله : { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً }
(1/5617)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
والإدّ : المتناهي في النكْر والفظاعة ، وهو الأمر المستبشع ، من : آده الأمر . أي : أثقله ولم يَقْو عليه ، ومنه قوله تعالى في آية الكرسي : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] أي : لا يثقل عليه .
لكن ، لماذا جعل هذا الأمر إدّاً ومنكراً فظيعا؟
قالوا : لأن اتخاذ الولد له مقاصد ، فالولد يُتخذ ليكون لك عِزْوة وقوة؛ أو ليكون امتداداً لكل بعد موتك ، والحق سبحانه وتعالى هو العزيز ، الذي لا يحتاج إلى أحد ، وهو الباقي الدائم الذي لا يحتاج إلى امتداد .
إذن : فاتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا عِلةَ له ، كما أن اتخاذ الولد لله تعالى ينفي سواسية العبودية له سبحانه .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ }
(1/5618)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
أي : فلسنا نحن فحسْب الذين ننكر هذا الأمر ، بل الجماد غير المكلف أيضاً ينكره ، فالسموات بقوتها وعظمها تتفطر أي : تتشقق ، وتكاد تكون مِزَعاً لهوْلِ ما قيل ، تقرب أن تنفطر لكن لماذا لم تنفطر بالفعل؟ لم تنفطر؛ لأن الله يمسكها : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] .
وفي الحديث القدسي : " قالت السماء يا رب ائذن لي أنْ أسقط كِسَفاً على ابن آدم ، فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الأرض : يارب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب ائذن لي أن أخِرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك . وقالت البحار : يا ربّ ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك . فقال لهم : دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم ، فإن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم " .
فما العِلَّة في أن السماء تقرب أن تنفطر ، والأرض تقرب أن تنشق ، والجبال تقرب أن تخِرَّ؟
(1/5619)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
هذه هي العلة والحيثية التي من أجلها يكاد الكونُ كلُّه أن يتزلزل ، ويثور غاضباً لهذه المقولة الشنيعة .
ثم يعقب الحق سبحانه فيقول : { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ } .
(1/5620)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
وعلينا هنا أنْ نُفرق بين نَفْي الحدث ونفي انبغاء الحدث ، فمثلاً في قول الحق تبارك وتعالى في شأن نبيه صلى الله عليه وسلم : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] فنفى عنه قَوْل الشعر ، ونفي عنه انبغاء ذلك له ، فقد يظن ظانٌّ أن النبي لا يستطيع أن يقول شعراً ، أو أن أدوات الشعر من اللغة ورِقَّة الإحساس غير متوافرة لديه صلى الله عليه وسلم ، لكن رسول الله قادر على قَوْل الشعر إنْ أراد ، فهو قادر على الحدث ، إلا أنه لا ينبغي له .
كذلك في قوله تعالى : { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] فإنْ أراد سبحانه وتعالى أن يكون له ولد لَكانَ ذلك ، كما جاء في قوله تبارك وتعالى : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] .
أي : إن كان له سبحانه ولد فعلى العَيْن والرأس ، إنما هذه مسألة ما أرادها الحق سبحانه ، وما تنبغي له ، فكيف أدَّعي أنا أن لله ولداً هكذا من عندي؟
وما حاجته تعالى للولد ، وقد قال في الآية بعدها : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض }
(1/5621)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
ذلك لأن الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان ، وجعل له منطقة اختيار يفعل أو لا يفعل ، يؤمن أو لا يؤمن ، وكذلك جعل فيه منطقة قَهْر ، فالكافر الذي أَلِف الكفر ، وتعوَّد عليه ، وتمرد على الطاعة والإيمان ، هل يستطيع أنْ يتمرّد مثلاً على المرض أو يتمرَّد على الموت ، أو على الفقر؟
إذن : فأنت مُختار في شيء وعَبْد في أشياء ، كما أن منطقة الاختيار هذه لك في الدنيا ، وليست لك في الآخرة . وسبق أنْ فرَّقنا بين العباد والعبيد ، فالجميع : المؤمن والكافر عبيد لله تعالى ، أما العباد فهم الذين تنازلوا عن اختيارهم ومرادهم لمراد ربهم ، فجاءت كُلُّ تصرفاتهم وفقاً لما يريده الله .
وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .
ومعنى : { إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] أي : في الآخرة ، حيث تُلْغَى منطقة الاختيار ، ولا يستطيع أحد الخروج عن مراد الله تعالى ، ويسلب الملك من الجميع ، فيقول تعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وهو سبحانه القادر على العطاء ، القادر على السلب : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ }
(1/5622)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
الإحصاء : هو العَدُّ ، وكانوا قديماً يستخدمون الحصَى أو النوى في العَدِّ ، لكن النوى فرع ملكية النخل ، فقد لا يتوفر للجميع؛ لذلك كانوا يستخدمون الحصَى ، ومنه كلمة الإحصاء .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة }
(1/5623)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
أي . وحده ، ليس معه أهل أو أولاد أو عِزْوة ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 3437 ] .
فكل مشغول بحاله ، ذاهل عن أقرب الناس إليه : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] .
وتأمَّل قوله : { آتِيهِ } [ مريم : 95 ] فالعبد هو الذي يأتي بنفسه مُخْتاراً لا يُؤْتَى به ، فكأن الجميع منضبط على وقت معلوم ، إذا جاء يُهْرَع الجميع طواعيةً إلى الله عز وجل .
ثم يقول رب العزة سبحانه : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ }
(1/5624)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
وُداً : مودة ومحبة تقوم على الإيمان ، وتقود إلى شدة التعلّق ، وقد جعل الحق تبارك وتعالى كَوْنه أسباباً لهذه المحبة والمودة ، كأنْ ترى إنساناً يُحبك ويتودّد إليك ، فساعةَ تراه مُقبلاً عليك تقوم له وتبشُّ في وجهه ، وتُفسِح له في المجلس ، ثم تسأل عنه إنْ غاب ، وتعوده إنْ مرض ، وتشاركه الأفراح وتواسيه في الأحزان وتؤازره عند الشدائد ، فهذه المودة ناشئة عن حُبٍّ ومودة سابقة .
وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة ، فهذه أسباب المودة في الدنيا بين الخَلْق جميعاً مؤمنهم وكافرهم ، أمّا هنا : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] .
أي : بدون سبب من أسباب المودة هذه ، مودة بدون قرابة ، وبدون مصالح مشتركة أو صداقة ، وهذه المودة بين الذين آمنوا ، كأنْ ترى شخصاً لأول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه ، وتقول له : إني أحبك لله .
هذه محبة جعلها الله بين المؤمنين ، فضلاً منه سبحانه وتكرُّماً ، لا بسبب من أسباب المودة المعروفة .
لذلك قال هرم بن حَيَّان رحمه الله : إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل عليه بقلبه وأسكنه فيه ، وأبعد عن قلبه الأغيار ، وسلَّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات العقائد وينبوع الصالحات وقدَّمه لربه إلا فتح له قلوب المؤمنين جميعاً .
كما جاء في الحديث القدسي :
" ما أقبل عليَّ عبد بقلبه إلا أقلبتُ عليه بقلوب المؤمنين جميعاً " أي : بالمودة والرحمة دون أسباب .
وفي الحديث القدسي : " إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء : إنني أحببتُ فلاناً فأحبُّوه ، وينادي حبريل في الأرض : إن الله أحبَّ فلاناً فأحبوه . ويوضع له القبول في الأرض " .
فيحبه كل مَنْ رآه عطية من الله وفضلاً ، دون سبب من أسباب المودة ، وإنْ كنتَ قد تبرعتَ لله تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها ، فإنه تعالى وهب لك ما يملك من قلوب الناس جميعاً ، فهي في يده تعالى يُوجِّهها كيف يشاء .
وقد علَّمنا ربنا تبارك وتعالى في قوله : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [ النساء : 86 ] أن نرد الجميل بأحسن منه ، فإنْ لم نقدر على الأحسن فلا أقلَّ من الرد بالمثل ، فإنْ كان هذا عطاء العبد ، فما بالك بعطاء الرب؟
ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف : " من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
والعَوْن يقتضي مُعيناً ومُعَاناً ، ولا بُدّ أن يكون المعين أقوى من المعان ، فيفيض عليه من فضل ما عنده : صحة ، أو قدرة ، أو غنىً ، أو علماً .
(1/5625)
وإعانةُ العبد لأخيه محدودة بقدراته وإمكاناته ، أمّا معونة الله لعبده فغير محدودة؛ لأنها تناسب قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى .
وهكذا عوَّدنا ربنا تبارك وتعالى حين نُضحِّي بالقليل أنْ يعطينا الكثير وبلا حدود ، فضلاً من الله وكرماً . ألم تَرَ أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها ، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف؟ أليست هذه تجارة مع الله رابحة ، كما قال سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] .
وقال عنها : { تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] .
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتُؤلّف بيننا ، ثم يمنحنا سبحانه الثمن .
إذن : العملية الإيمانية لا تظن أنها إيثار ، بل الإيمان أثره ، وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما عند الله من مضاعفة الأجر ، فالإيمان إذن أنانية عالية .
والحق سبحانه وتعالى يريد منا أنْ نعودَ على غيرنا بفضل ما نملك ، كما جاء في الحديث : " مَنْ كان عنده فضل مال فليعُدْ به على مَنْ لا مالَ له . . . " .
واعلم أن الله سيُعوِّضك خيراً مما أعطيْتَ . ومثال ذلك ولله المثل الأعلى : هَبْ أن عندك ولدين ، أعطيتَ لكل منهما مصروفة ، فالأول اشترى به حلوى أكل منها ، وأعطى رفاقه ، والآخر بدّد مصروفه فيما لا يُجدي من ألعاب أو خلافه ، فأيهما تعطي بعد ذلك؟ كذلك الحق سبحانه يعاملنا هذه المعاملة .
ويقول الحق سبحانه : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ }
(1/5626)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
الفاء هنا تفيد : ترتيب شيء على شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب ، فالمعنى : بشِّر المتقين ، وأنذر القوم اللُّد لأننا يسرنا لك القرآن .
ويسَّرنا القرآن : أي : طوعناه لك حِفْظاً وأداءً وإلقاء معانٍ ، فأنت تُوظِّفه في المهمة التي نزل من أجلها .
وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة ، كقوله تعالى في سورة القمر : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 ] .
والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه ، فترى الآية تأتي في سورة بنص ، وتأتي في نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر ، فالمسألة إذن ليست ( أكلاشيه ) ثابت ، وليست عملية ميكانيكية صماء ، إنه كلام رب .
خُذْ مثلاً قوله تعالى :
{ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ المدثر : 5455 ] .
وفي آية آخرى : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان : 29 ] .
مرة يقول : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } [ الإنسان : 29 ] ومرة يقول : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } [ عبس : 11 ] .
ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة ( الرحمن ) حيث يقول الحق تبارك وتعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم يأتي الحديث عنهما : فيهما كذا ، فيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى قاصرات الطرف فيقول : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف } [ الرحمن : 56 ] .
وكذلك في : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] فيهما كذا وفيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى الحور العين فيقول : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] .
ولك أنْ تتساءل : الحديث هنا عن الجنتين ، فلماذا عدل السياق عن ( فيهما ) إلى ( فيهن ) في هذه النعمة بالذات؟
قالوا : لأن نعيم الجنة مشترك ، يصح أنْ يشترك فيه الجميع إلا في نعمة الحور العين ، فلها خصوصيتها ، فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجال ، ففي هذه المسألة يكون لكل منها جنته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد .
لذلك " لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة رأى فيها قصراً فابتعد عنه ، فلما سُئِل عن ذلك صلى الله عليه وسلم قال : " إنه لعمر ، وأنا أعرف غَيْرة عمر " .
فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن ، وإلى هذه الدرجة تكون دِقَّة التعبير في القرآن الكريم .
ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسَّره لَمَا حفظه أحد فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآيات ، وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة ، ويظل يقرؤها كما هي ، ولولا أن الله قال له : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ما تيسّر له ذلك .
ونحن في حفْظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً ، فالصبي في سنِّ السابعة يستطيع حفْظ القرآن وتجويده ، فإنْ غفل عنه بعد ذلك تَفلَّتَ منه ، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه .
إذن : مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة ، بل معونة حافظ ، فإن كنت على وُدًّ وأُلْفة بكتاب الله ظلَّ معك ، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك ، كما جاء في الحديث الشريف :
(1/5627)
" تعاهدوا القرآن ، فو الذي نفسي بيده لَهُو أشدُّ تفصّياً من الإبل في عُقَلها " .
ذلك؛ لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق ، إنما حروف القرآن ملائكة تُصفّ ، فتكون كلمة ، وتكون آية ، فإنْ وددتَ الحرف ، وودتَ الكلمة والآية ، ودَّتْك الملائكة ، وتراصتْ عند قراءتك .
ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إنْ أعلمتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتخطىء ، فإنْ أعدتَ القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك .
وتلحظ هنا أن القرآن لم يأْتِ باللفظ الصريح ، إنما جاء بضمير الغيبة في { يَسَّرْنَاهُ } [ مريم : 97 ] لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فضمير الغيبة هنا لا يعود إلا على الله تعالى .
وقوله : { بِلِسَانِكَ } [ مريم : 97 ] أي : بلغتك ، فجعلناه قرآنا عربياً في أمة عربية؛ ليفهموا عنك البلاغ عن الله في البشارة والنذارة ، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم .
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } [ فصلت : 44 ] .
وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] .
والإنذار : التحذير من شَرِّ سيقع في المستقبل ، واللَّدَد : عُنْف الخصومة ، وشراسة العداوة ، نقول : فلان عنده لَدَد أي : يبالغ في الخصومة ، ولا يخضع للحجة والإقناع ، ومهما حاولتَ معه يُصِرُّ على خصومته .
ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ }
(1/5628)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
الحق تبارك وتعالى يُسرِّي عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يلاقي من عنت في سبيل دعوته ، كأنه يقول له : إياك أنْ ينالَ منك بُغْض القوم لك وكُرههم لمنهج الله ، إياك أنْ تتضاءلَ أمام جبروتهم في عنادك ، فهؤلاء ليسوا أعزَّ من سابقيهم من المكذبين ، الذين أهلكهم الله ، إنما أستبقى هؤلاء لأن لهم مهمة معك .
وسبق أن أوضحنا أن الذين نجوْا من القتل من الكفار في بعض الغزوات ، وحزن المسلمون لنجاتهم ، كان منهم فيما بَعْد سيف الله المسلول خالد بن الوليد .
يقول تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } [ مريم : 98 ] .
كم : خبرية تفيد الكثرة ، من قرن : من أمة { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] لأننا أخذناهم فلم نُبق منهم أثراً يحس .
ووسائل الحِسَّ أو الإدراك كما هو معروف : العين للرؤية ، والأذن للسمع ، والأنف للشمّ ، واللسان للتذوق ، واليد للمس ، فبأيّ آداة من أدوات الحسّ لا تجد لهم أثراً .
وقوله : { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] الركْز : الصوت الخفيّ ، الذي لا تكاد تسمعه . وهذه سُنَّة الله في المكذبين من الأمم السابقة كما قال سبحانه : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } [ الدخان : 37 ] .
أين عاد وثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلَق مثلها في البلاد؟ وأين فرعون ذو الأوتاد؟ فكل جبار مهما عَلَتْ حضارته ما استطاع أنْ يُبقي هذه الحضارة؛ لأن الله تعالى أراد لها أنْ تزول ، وهل كفار مكة أشدّ من كل هؤلاء؟
لذلك حين تسمع هذا السؤال : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] لا يسَعْك إلاَّ أنْ تُجيب : لا أحسُّ منهم من أحد ، ولا أسمع لهم ركزاً .
(1/5629)
طه (1)
تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطَّعة في بدايات السور ، ولا مانع هنا أنْ نشير إلى ما ورد في ( طه ) ، فالبعض يرى أنها حروف متصلة ، وهي اسم من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وآخرون يروْنَ أنها حروف مُقطّعة مثل ( الم ) ومثل ( يس ) فهي حروف مُقطّعة ، إلا أنها صادفتْ اسماً من الأسماء كما في ( ن ) حرف وهو اسم للحوت : { وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } [ الأنبياء : 87 ] و ( ق ) حرف ، وهو اسم لجبل اسمه جبل قاف .
إذن : لا مانع أن تدل هذه الحروف على اسم من الأسماء ، فتكون ( طه ) اسماً من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ، وأن بعدها : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] .
لكن تلاحظ هنا مفارقة ، حيث نطق الطاء والهاء بدون الهمزة ، مع أنها حروف مقطعة مثل الف لام ميم ، لكن لم ينطق الحرف كاملاً ، لأنهم كانوا يستثقلون الهَمْز فيُخَفِّفونها ، كما في ذئب يقولون : ذيب وفي بئر ، يقولون : بير . وهذا النطق يُرجح القول بأنها اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم .
وسبق أنْ أوضحنا أن فواتح السور بالحروف المقطّعة تختلف عن باقي آيات القرآن ، فكُلُّ آيات القرآن من بدايته لنهايته بُنيَتْ على الوَصْل ، وإنْ كان لك أن تقف؛ لذلك فكل المصاحف تُبنَى على الوَصْل في الآيات وفي السور ، فتنطق آخر السورة على الوصل ببسم الله الرحمن الرحيم في السورة التي بعدها .
تقول : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] ( بسم الله الرحمن الرحيم ) حتى في آخر سور القرآن ونهايته تقول : { مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 6 ] ( بسم الله الرحمن الرحيم ) مع أنها آخر كلمة في القرآن ، وماذا سيقول بعدها؟ لكنها جاءت على الوَصْل إشارة إلى أن القرآن موصولٌ أوَّله بآخره ، لا ينعزل بعضه عن بعض ، فإياك أن تجفوَهُ ، أو تظن أنك أنهيته؛ لأن نهايته موصولة ببدايته؛ فنقرأ { مِنَ الجنة والناس } { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } الحمدُ للهِ رب العالمين . . . .
إذن : فالقرآن كله في كل جملة وكل آية وكل سورة مبنيٌّ على الوَصْل ، إلا في فواتح السور بالحروف المقطّعة تُبنَى على الوقف ( ألف لام ميم ) ، وهذا وجه من وجوه الإعجاز ، وأن القرآن ليس ميكانيكا ، بل كلام مُعْجِز من ربِّ العالمين .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوضح استقلالية هذه الحروف بذاتها ، فقال " تعلموا هذا القرآن ، فإنكم تؤجرون بتلاوته ، بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ، بكل حرف عشر حسنات " .
يقول الحق سبحانة : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن }
(1/5630)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
الشقاء : هو التعب والنَّصَب والكدّ ، فالحق سبحانه ينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم التعب بسبب إنزال القرآن عليه ، إذن : فما المقابل؟ المقابل : أنزلنا عليك القرآن لتسعد ، تسعد أولاً بأن اصطفاك لأن تكون أَهْلاً لنزول القرآن عليك ، وتسعد بأن تحمل نفسك أولاً على منهج الله وفِعْل الخير كل الخير .
فلماذا إذن جاءتْ كلمة { لتشقى } [ طه : 2 ] ؟ .
هذا كلام الكفار أمثال أبي جهل ، ومُطعِم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، والوليد بن المغيرة حينما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : لقد أشقيتَ نفسك بهذه الدعوة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني رحمة للعالمين " .
فقد بعث رسول الله ليسعد ويسعد معه قومه والناس أجمعين لا ليشقى ويُشقِي معه الناس . لكن من أين جاء الكفار بمسألة الشقاء هذه؟ المؤمن لو نظر إلى منهج الله الذي نزل به القرآن لوجده يتدخل في إراداته واختياراته ، ويقف أمام شهواته ، فيأمره بما يكره وما يشقُّ على نفسه ، ويمنعه مما يألَف ومما يحب .
إذن : فمنهج الله ضد مرادات الاختيار ، وهذا يُتعِب النفس ويشقُّ عليها إذا عُزِلَتْ الوسيلة عن غايتها ، فنظرت إلى الدنيا والتكليف منفصلاً عن الآخرة والجزاء .
أمّا المؤمن فيقرن بين الوسيلة والغاية ، ويتعب في الدنيا على أمل الثواب في الآخرة ، فيسعد بمنهج الله ، لا يشقى به أبداً . كالتلميذ الذي يتحمل مشقّة الدرس والتحصيل؛ لأنه يستحضر فَرْحة الفوز والنجاح آخر العام .
من هنا رأى هؤلاء الكفار في منهج الله مشقة وتعباً ، لأنهم عزلوا الوسيلة عن غايتها؛ لذلك شعروا بالمشقة ، في حين شعر المؤمنون بلذة العبادة ومتعة التكليف من الله ، وهذه المسألة هي التي جعلتهم يتخذون آلهةً لا مطالبَ لها ، ولا منهج ، ولا تكليف ، آلهة يعبدونها على هواهم ، ويسيرون في ظلها على حَلِّ شعورهم .
لذلك أوضح القرآن أنهم مغفلون في هذه المسألة ، فقال : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] .
أو يكون الشقاء : تعرُّضه لِعُتاة قريش وصناديدها الذين سخروا منه ، وآذوه وسلَّطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم ، يشتمونه ويرمونه بالحجارة ، وهو صلى الله عليه وسلم يُشقِي نفسه بدعوتهم والحرص على هدايتهم .
والحق تبارك وتعالى ينفي الشقاء بهذا المعنى أيضاً : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] أي : لتُشقي نفسك معهم ، إنما أنزلناه لتبليغهم فحسب ، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً في مثل قوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] وقوله : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] .
وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً ولله المثَل الأعلى برجل عنده عبدان : ربط أحدهما إليه بحبل ، وأطلق الآخر حُراً ، فإذا ما دعاهما فاستجابا لأمره ، فأيهما أطوع له ، وأكثر احتراماً لأمره؟
لا شكَّ أنه الحر الطليق؛ لأنه جاء مختاراً ، في حين كان قادراً على العصيان .
(1/5631)
وكذلك ربك تبارك وتعالى يريد منك أن تأتيه حُراً مختاراً مؤمناً ، وأنت قادر ألاَّ تؤمن .
والبعض يحلو لهم نقد الإسلام واتهام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : إن رسول الله يخطىء والله يُصوِّب له ، ونتعجب : وما يضيركم أنتم؟ طالما أن ربه هو الذي يُصوِّب له ، هل أنتم الذين صَوَّبتم لرسول الله!؟ ثم مَنْ أخبركم بخطأ رسول الله؟ أليس هو الذي أخبركم؟ أليس هذا من قوة أمانته في التبليغ ويجب أن تحمد له؟
إذن : فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أنْ يُربِّيه ربه؛ لذلك يقول : " إنما أنا بشر يَرِد عليَّ يعني من الحق فأقول : أنا لست كأحدكم ، ويُؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم " .
وقد تمحَّك هؤلاء كثيراً في قصة عبد الله بن أم مكتوم ، حينما انشغل عنه رسول الله بكبار قريش ، والمتأمل في هذه القصة يجد أن ابن أم مكتوم كان رجلاً مؤمناً جاء ليستفهم من رسول الله عن شيء ، فالكلام معه ميسور وأمر سَهْل ، أمّا هؤلاء فهم رؤوس الكفر وكبار القوم ، ولديهم مع ذلك لَدَد في خصومتهم للإسلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحرص على هدايتهم ويُرهِق نفسه في جدالهم أملاً في أنْ يهدي الله بهم مَنْ دونهم .
إذن : النبي في هذا الموقف اختار لنفسه الأصعب ، وربه يعاتبه على ذلك ، فهو عِتَاب لصالحه ، له لا عليه .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى }
(1/5632)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
أي : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، وإنما أنزلناه ( تذكرةً ) أي تذكيراً ( لمَنْ يَخْشَى ) الخشية : خَوْف بمهابة؛ لأن الخوفَ قد يكون خوفاً دون مهابة ، أمّا الخوف من الله فخوْف ومهابة معاً .
(1/5633)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
تنزيلاً : مصدر أي : أنزلناه تنزيلاً ، وقد ورد في نزول القرآن : أنزلناه ، ونزلناه ونزل ، يقول تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر * لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 14 ] .
لأن القرآن أخذ أدواراً عِدَّة في النزول ، فقد كان في اللوح المحفوظ ، فأراد الله له أن يباشر القرآن مهمته في الوجود ، فأنزله من اللوح المحفوظ مرة واحدة إلى السماء الدنيا . فأنزله أي الله تعالى ثم تَنزَّل مُفرَّقاً حسْب الأحداث من السماء الدنيا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به جبريل : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
وقوله تعالى : { مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى } [ طه : 4 ] .
خَصَّ السموات والأرض ، لأنها من أعظم خَلْق الله ، وقد أعدهما الله ليستقبلا الإنسان ، فالإنسان طرأ على كَوْن مُعَدٍّ جاهز لاستقباله ، فكان عليه ساعة أنْ يرى هذا الكون المُعدَّ لخدمته بأرضه وسمائه ، ولا قدرة له على تسيير شيء منها ، كان عليه أن يُعمِلَ عقله ، ويستدل بها على الموجد سبحانه وتعالى .
كأن الحق تبارك وتعالى يقول لك : إذا كان الخالق سبحانه قد أعدَّ لك الكون بما يُقيم حياتك المادية ، أيترك حياتك المعنوية بدون عطاء؟
والخالق عز وجل خلق هذا الكون بهندسة قيومية عادلة حكيمة تُوفِّر لخليفته في الأرض استبقاءَ حياته ، وتعطيه كل ما يحتاج إليه بقدر دقيق ، واستبقاء الحياة يحتاج إلى طعام وشراب وهواء ، وقد أعطاها الله للإنسان بحكمة بالغة .
فالطعام يحتاجه الإنسان ، ويستطيع أنْ يصبر عليه شهراً ، دون أن يأكل ، ويحتاج إلى الماء ولكن لا يستطيع أنْ يصبر عليه أكثر من عشرة أيام ، ويحتاج إلى الهواء ولكن لا يصبر عليه لحظةً تستغرق عِدَّة أنفاس .
لذلك ، فمن رحمته تعالى بعباده أنْ يمتلك بعضُ الناس القوتَ ، فالوقت أمامك طويل لتحتالَ على كَسْبه ، وقليلاً ما يملك أحدٌ الماءَ ، أما الهواء الذي لا صَبْر لك عليه ، فمن حكمة الله أنه لا يملكه أحد ، وإلا لو منع أحد عنك الهواء لمُتَّ قبل أنْ يرضى عنك .
فمن حكمة الله أنْ خلق جسمك يستقبل مُقوِّمات استبقاء الحياة فترة من الزمن تتسع للحيلة وللعطف من الغير ، وحين تأكل يأخذ الجسم ما يحتاجه على قَدْر الطاقة المبذولة ، وما فاض يُختزَن في جسمك على شكل دُهْن يُغذِّي الجسم حين لا يتوفر الطعام .
ومن عجائب قدرة الله أن هذه المادة الدُّهنية تتحول تلقائياً إلى أي مادة أخرى يحتاجها الجسم ، فإن احتاج الحديد تتحول كيماوياً إلى الحديد ، وإن احتاج الزرنيخ تتحول كيماوياً إلى زرنيخ ، وهي في الواقع مادة واحدة ، فمَنْ يقدر على هذه العملية غيره تعالى؟
وبعد أنْ أعطاك ما يستبقي حياتك من الطعام والشراب والهواء أعطاك ما يستبقي نوعك بالزواج والتناسل .
وقوله تعالى : { السماوات العلى } [ طه : 4 ] العلا : جمع عُليا ، كما نقول في جمع كبرى : كُبَر { إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر } [ المدثر : 35 ] .
وهكذا تكتمل مُقوِّمات التكوين العالي لخليفة الله في الأرض ، فكما أعطاه ما يقيم حياته ونوعه بخَلْق السموات والأرض ، أعطاه ما يُقيم معنوياته بنزول القرآن الذي يحرس حركاتنا من شراسة الشهوات ، فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأرض والسموات العلا .
والصفة البارزة في هذا التكوين العالي للإنسان هي صِفَة الرحمانية؛ لذلك قال بعدها : { الرحمن عَلَى العرش }
(1/5634)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
فالآية السابقة أعطتْنا مظهراً من مظاهر العطف والرحمة ، وهذه تعطينا مظهراً من مظاهر القَهْر والغَلَبة ، واستواء الرحمن تبارك وتعالى على العرش يُؤخَذ في إطار .
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
وسبق أن تكلمنا في الصفات المشتركة بين الحق سبحانه وبين خَلْقه ، فلَكَ سمعٌ وبصر ، ولله سمع وبصر ، لكن إياك أنْ تظن أن سمع الله كسمْعك ، أو أن بصره كبصرك .
كذلك في مسألة الاستواء على العرش ، فاللحقِّ سبحانه استواء على عرشه ، لكنه ليس كاستوائك أنت على الكرسي مثلاً .
والعرش في عُرْف العرب هو سرير المْلك ، وهل يجلس الملك على سريره ليباشر أمر مملكته ويدير شئونها إلا بعد أ نْ يستتبَّ له الأمر؟
وكذلك الخالق جَلَّ وعلا خلق الكون بأرضه وسمائه ، وخلق الخَلْق ، وأنزل القرآن لينظم حياتهم ، وبعد أن استتبَّ له الأمر لم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكياً ، ولم ينعزل عن كَوْنه وعن خَلْقه؛ لأنهم في حاجة إلى قيوميته تعالى في خَلْقه .
ألم يقل الحق سبحانه في الحديث القدسي : " يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم ، لأنِّي قَيُّوم لا أنام " .
فكوْنُ الله ليس آلةً تعمل من تلقاء نفسها ، وإنما هو قائم بقيوميته عليه لا يخرج عنها؛ لذلك كانت المعجزات التي تخرق نواميس الكون دليلاً على هذه القيومية .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض }
(1/5635)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
الحق تبارك وتعالى يمتنُّ بما يملكه سبحانه في السموات وفي الأرض وما تحت الثرى ، والله تعالى لا يمتنُّ إلا بملكية الشيء النفيس الذي يُنتفع به .
وكأنه سبحانه يلفت أنظار خَلْقه إلى ما في الكون من مُقوِّمات حياتهم المادية ليبحثوا عنها ، ويستنبطوا ما ادَّخره لهم من أسرار وثروات في السموات والأرض ، والناظر في حضارات الأمم يجد أنها جاءت إما حَفْريات الأرض ، أو من أسرار الفضاء الأعلى في عصر الفضاء .
ولو فهم المسلمون هذه الآية منذ نزلت لَعلموا أن في الأرض وتحت الثرى وهو : ( التراب ) كنوزاً وثروات ما عرفوها إلا في العصر الحديث بعد الاكتشافات والحفريات ، فوجدنا البترول والمعادن والأحجار الثمينة ، كلها تحت الثَّرى مطمورةً تنتظر مَنْ يُنقِّب عنها وينتفع بها .
وقد أوضح العلماء أن هذه الثروات موزعة في أرض الله بالتساوي ، بحيث لو أخذتَ قطاعاتٍ متساوية من أراض مختلفة لوجدتَ أن الثروات بها متساوية : هذه بها ماء ، وهذه مزروعات ، وهذه معادن ، وهذه بترول وهكذا . فهي أشبه بالبطيخة حين تقسمها إلى قِطع متساوية من السطح إلى المركز .
لذلك يقول تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] .
إذن : فالخير موجود ينتظر القَدَر ليظهر لنا وننتفع به .
ثم يقول تبارك وتعالى : { وَإِن تَجْهَرْ بالقول }
(1/5636)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
الحق سبحانه وتعالى حينما يطلب من رسوله أن يذكر يريد منه أن يُذكِّر تذكيراً مرتبطاً بنيته ، لا ليقطع العَتْب عنه نفسه ، فالمسألة ليست جهراً بالتذكير .
وإذا كان تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنني سأحرس سرك كما أحرس علانيتك ، وأن الجهر عندي مثل السر ، بل وأخفى من السر ، وهو صلى الله عليه وسلم مؤتمن على الرسالة فإنه تعالى يقول أيضاً لأمته : إياكم أن تقولوا كلاماً ظاهره فيه الرحمة ، ونيتكم غير مستقرة عليه؛ لأن الله كما يعلم الجهر يعلم السر ، وما هو أخفى من السر .
وتكلمنا عن الجهر ، وهو أن تُسمع مَنْ يريد أن يسمع ، والسر : أن تخصَّ واحداً بأن تضع في أذنه كلاماً لا تحب أن يشيع عند الناس ، وتهمس في أذنه بأنك المأمون على هذا الكلام ، وأنت ترتاح نفسياً حينما تُلقِي بسرِّك إلى مَنْ تثق فيه ، وتأمن أَلاَّ يذيعه ، وهناك في حياة كل منا أمور تضيق النفس بها ، فلا بُدَّ لك أن تُنفِّسَ عن نفسك ، كما قال الشاعر :
وَلاَ بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي مُرُوءَةٍ ... يوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أَوْ يتوجَّعُ
فأنت إذن في حاجة لمَنْ يسمع منك ليريحك ، ويُنفِّس عنك ، ولا يفضحك بما أسررْتَ إليه .
ومعنى { وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] أي : أَخْفى من السر ، فإنْ كان سِرُّك قد خرج من فمك إلى أذن سامعك ، فهناك ما هو أَخْفَى من السر ، أي : ما احتفظتَ به لنفسك ولم تتفوَّه به لأحد .
لذلك يقول تعالى : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ الملك : 13 ] أي : مكنوناتها قبل أن تصير كلاماً .
وقال أيضاً : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] فوسوسة النفس ، وذات الصدور هي الأَخْفى من السر ، فلديْنَا إذن جَهْر ، وسِرٌّ ، وأخفى من السر ، لكن بعض العارفين يقول : وهناك في علم الله ما هو أخْفى من الأَخفى ، فما هو؟ يقول : إنه تعالى يعلم ما سيكون في النفس قبل أن يكون .
وبعد ذلك جاء الحق سبحانه بالكلمة التي بعث عليها الرسل جميعاً : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ }
(1/5637)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
هذه الكلمة ( لا إله إلا هو ) هي قمة العقيدة ، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : " خير ما قلته أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله " .
وما دام لا إله إلا الله ، فهو سبحانه المؤْتَمن عليك ، فليس هناك إله آخر يُعقِّب عليه ، فاعمل لوجهه يكْفك كل الأوجه وتريح نفسك أن تتنازعك قوى شتى ومختلفة ، ويُغنيك عن كل غنى .
" وحينما دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم مع أبي بكر رضي الله عنه لم يفهم من كلامهما شيئاً ، فقال : يا رسول الله أنا لا أُحسن دندنتك ولا دندنة أبي بكر ، أنا لا أعرف إلا : لا إله إلا الله محمد رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " حَوْلَها ندندن يا أخا العرب " .
فهي الأساس والمركز الذي يدور حوله الإسلام .
وكلمة ( اللهُ ) عَلَم على واجب الوجود بكل صفات الكمال له ، فهو الله الموجود ، الله القادر ، الله العالم ، الله الحيّ ، الله المحيي ، الله الضار . فكل هذه صفات له سبحانه ، لكن هذه الصفات لما بلغتْ حَدَّ الكمال فيه تعالى أصبحتْ كالاسم العَلَم ، بحيث إذا أُطلِق الخالق لا ينصرف إلا له ، والرازق لا ينصرف إلا له .
وقد يشترك الخلْق مع الخالق في بعض الصفات ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم } [ النساء : 8 ] .
فالإنسان أيضاً يرزق ، لكن رزقه من باطن رزق الله ، فهو سبحانه الرازق الأعلى ، ومن بَحْره يغترف الجميع .
وكما في قوله تعالى : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وقال تعالى : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت : 17 ] .
ومعنى ذلك أن هناك خالقين غيره سبحانه ، ومعنى الخَلْق : الإيجاد من عدم ، فالذي جاء بالرمل وصنع منه كوباً فهو خالق للكوب ، فأنت أوجدتَ شيئاً من عدم ، والله تعالى أوجد شيئاً من عدم ، ولكنك أوجدت من موجود الله قبل أن توجد أنتَ ، فهو إذن أحسن الخالقين في حين لم يضِنّ عليك ربك بأنْ ينصفك ويسميك خالقاً . وهذا يوجب عليك أنْ تنصفه سبحانه وتقول { أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
وأيضاً ، فإن الله تعالى إذا احترم إيجادك لمعدوم فسمَّاك خالقاً له ، ولم يَضِنّ عليك فأعطاك صفة من صفاته إنما أخبرك أنه أحسن الخالقين؛ لأنك تُوجِد معدوماً يظل على إيجادك ويجمد على هذه الحالة ، لكن الخالق سبحانه وتعالى يُوجِد معدوماً ويمنحه الحياة ، ويجعله يتلقى بمثله ويُنجب ، فهل يستطيع الإنسان الذي أوجد كوباً أن يجعل منه ذكراً وأنثى ينتجان لنا الأكواب؟! وهل يكبر الكوب الصغير ، أو يتألم إنْ كُسِر مثلاً؟!
إذن : فالخالق سبحانه هو أحسن الخالقين ، وكذلك هو خير الرازقين ، وخَيْر الوارثين ، وخَيْر الماكرين .
(1/5638)
وقوله تعالى : { لَهُ الأسمآء الحسنى } [ طه : 8 ] الحُسْنى : صيغة تفضيل للمؤنث مثل : كُبْرى ، تقابل " أحسن " للمذكر . إذن : فهناك أسماء حسنة هي أسماء الخَلْق ، أما أسماء الله فحسنى؛ لأنها بلغتْ القمة في الكمال ، ولأن الأسماء والصفات التي تنطبق عليها موجودة في الخالق الأعلى سبحانه ، فحين تقول في أسماء الله تعالى ( الرازق ) فهي الصفة الحُسْنى لا الحسنة .
لذلك لما أراد رجل يُدْعى ( سعد ) أن يشاور أباه في خطبة ابنته حسنى وقد تقدم لها رجلان : حسن وأحسن . فقال له أبوه ( فحسنى يا سعد للأحسن ) .
وقال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] فلم يقل : حسنة ، لأنهم أحسنوا فاستحقوا الحُسْنى بل وزيادة .
وأسماء الله تعالى هي في الحقيقة صفات ، إلا أنها لما أُطلِقت على الحق تبارك وتعالى أصبحتْ أسماء . ولَكَ أنْ تُسمَّى فتاة زنجية ( قمر ) وتسمى قِزْماً ( الطويل ) لأن الاسم إذا أُطلِق عَلَماً على الغير انحلَّ عن معناه الأصلي ولزم العَلَمية فقط ، لكن أسماء الله بقيتْ على معناها الأصلي حتى بعد أنْ أصبحتْ عَلَماً على الله تعالى ، فهي إذن أسماء حُسْنى .
وبعد أن تكلَّم الحق تبارك وتعالى عن الرسول الخاتم صاحب المنهج الخاتم فليس بعده نبي وليس بعد منهجه منهج أراد سبحانه أنْ يُسلّيه تسليةً تُبيّن مركزه في موكب الرسالات ، وأنْ يعطيه نموذجاً لمن سبقوه من الرسل ، وكيف أن كل رسول تعب على قَدْر رسالته ، فإنْ كانت الرسالات السابقة محدودة الزمان محدودة المكان ، ومع ذلك تعب أصحابها في سبيلها ، فما بالك برسول جاء لكل الزمان ولكل المكان؟ لا بُدَّ أنه سيواجه من المتاعب مثل هؤلاء جميعاً .
إذن : فوطَّن نفسك يا محمد على أنك ستلْقَى من المتاعب والصعاب ما يناسب عظمتك في الرسالة وخاتميتك للأنبياء ، وامتداد رسالتك في الزمان إلى أنْ تقومَ الساعة ، وفي المكان إلى ما اتسعتْ الأرض .
لذلك اختار الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم نبياً من أُولي العزم؛ لأنه جاء لبني إسرائيل وجاء لفرعون ، وقد كان بنو إسرائيل قوماً ماديين ، أما فرعون فقد ادَّعى الألوهية ، اختار موسى عليه السلام ليقصّ على رسول الله قصته ويُسلِّيه فيما يواجهه من متاعب الدعوة ، كما قال تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ هود : 120 ] .
وقال تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } [ الأحقاف : 9 ] .
فأنت يا محمد كغيرك من الرسل ، وقد وجدوا من المشقة على قَدْر رسالاتهم ، وسوف تجد أنت أيضاً من المشقة على قَدْر رسالتك . ونضرب لذلك مثلاً بالتلميذ الذي يكتفي بالإعدادية وآخر بالثانوية أو الجامعة ، وآخر يسعى للدكتوراة ، فلا شَكَّ أن كلاّ منهم يبذل من الجهد على قَدْر مهمته .
لذلك يقول تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى }
(1/5639)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
إذا جاء الاستفهام من الله تعالى فاعلم أنه استفهام على غير حقيقته ، فلا يُرَاد هنا طب الفهم ، لأن أخبار محمد تأتيه من ربه عز وجل فكيف يستفهم منه . إنما المراد بالاستفهام هنا التشويق لما سيأتي كما تقول لصاحبك : هل بلغك ما حدث بالأمس؟ فيُشوِّقه لسماع ما حدث .
والحديث : أي الخبر عنه سواء أكان بالوحي ، أو بغير الوحي ، كأن حكيت له قصة موسى عليه السلام . . فهل بلغتْك هذه القصة؟ اسمعها الآن مني : { إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ }
(1/5640)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
نلحظ هنا أن السياق لم يذكر قصة موسى من أولها لما قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] ثم خروجه من المدينة خائفاً وذهابه إلى شعيب . . الخ ، وإنما قصد إلى مَنَاط الأمر ، وهي الرسالة مباشرة .
وقوله : { إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } [ طه : 10 ] آنست : أي أبصرت ، وشعرت بشيء يستأنس به ويُفرَح به ويُطمأن إليه ، ومقابلها ( توجست ) للشر الذي يخاف منه كما في قوله : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } [ طه : 67 ] .
( لَعلَّى ) رجاء أنْ أجدَ فيها القبس ، وهو شعلة النار التي تُتَّخذ من النار إنْ إدركت النار وهي ذات لَهَب ، فتأخذ منها عوداً مشتعلاً مثل الشمعة .
وفي سياق آخر قال : ( جذوة ) وهي النار حينما ينطفىء لهبها ويبقى منها جمرات يمكن أن تشعل منها النار . وفي موضع آخر قال : { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] .
وهذه كلها صور متعددة ، وحالات للنار ، ليس فيها تعارض كما يحلو للبعض أن يقول ، فموسى عليه السلام حينما قال { لعلي آتِيكُمْ } [ طه : 10 ] يرجو أن يجد القبس ، لكن لا يدري حال النار عندما يأتيها ، أتكون قَبَساً أم جَذوة؟
وقد طلب موسى عليه السلام القَبَس لأهله؛ لأنهم كانوا في ليلة مطيرة شديدة البرد ، وهم غرباء لا يعلمون شيئاً عن المكان ، فهو غير مطروق لهم فيسيرون لا يعرفون لهم اتجاهاً ، فماذا يفعل موسى عليه السلام ومعه زوجته وولده الصغير وخادمه؟
إنهم في أمسِّ الحاجة للنار ، إما للتدفئة في هذا الجو القارس ، وإما لطلب هداية الطريق ، لذلك قال : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } [ طه : 10 ] أي : هادياً يدلّنا على الطريق .
وفي موضع آخر قال : { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] .
لذلك لما أبصر موسى عليه السلام النار أسرع إليها بعد أنْ طمأن أهله : { امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] .
وهذه المسألة من قصة موسى كانت مثَارَ تشكيك من خصوم الإسلام ، حيث وجدوا سياقات مختلفة لقصة واحدة ، فمرة يقول : { امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ } [ طه : 10 ] ، وفي موضع آخر يقول : { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] .
ومرة يقول : ( قَبَس ) وأخرى يقول ( بِشهَابٍ قَبَسٍ ) ومرة ( بجَذْوَة ) ومرة يقول : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } [ طه : 10 ] ومرة يقول : { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [ القصص : 29 ] .
والمتأمل في الموقف الذي يعيشه الآن موسى وامرأته وولده الصغير وخادمه في هذا المكان المنقطع وقد أكفهرَّ عليهم الجو ، يجد اختلاف السياق هنا أمراً طبيعياً ، فكلُّ منهم يستقبل الخبر من موسى بشكل خاص ، فلما رأى النار وأخبرهم بها أراد أنْ يُطمئنهم فقال : { سَآتِيكُمْ } [ النمل : 7 ] فلما رآهم مُتعلِّقين به يقولون : لا تتركنا في هذا المكان قال : { امكثوا } [ طه : 10 ] وربما قال هذه لزوجه وولده وقال هذه لخادمه . فلا بُدَّ أنهم راجعوه . فاختلفت الأقوال حول الموقف الواحد .
كذلك في قوله : قَبَسٍ أو جَذْوةٍ لأنه حين قال : { لعلي آتِيكُمْ } [ طه : 10 ] يرجو أن يجد هناك القبس ، لكن لعله يذهب فيجد النار جَذْوة . وفي مرة أخرى يجزم فيقول : { سَآتِيكُمْ } [ النمل : 7 ] .
إذن : هي لقطات مختلفة تُكوِّن نسيج القصة الكاملة ، وتعددتْ الكلمات لأن الموقف قابلٌ للمراجعة ، ولا ينتهي بكلمة واحدة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ }
(1/5641)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
يقال : إن موسى عليه السلام لما أتاها وجد نوراً يتلألأ في شجرة ، لكن لا خضرةُ الشجرة تؤثر في النور فتبهته ، ولا النورُ يطغي على خضرة الشجرة فيمنع عنها الخضرة ، فهي إذن مسألة عجيبة لا يقدر عليها إلا الله .
فكانت هذه النار هي أول الإيناس لموسى في هذا المكان الموحِش ، وكأن هذا المنظر العجيب الذي رآه إعداد إلهي لموسى حتى يتلقَّى عن ربه ، فليستْ المسألة مجرد منظر طبيعي .
وقوله تعالى : { نُودِيَ ياموسى } [ طه : 11 ] أي : في هذه الدهشة { نُودِيَ } [ طه : 11 ] فالذي يناديه يعرفه تماماً؛ لذلك ناداه باسمه { ياموسى } [ طه : 11 ] وما دام الأمر كذلك فطَمع الخير فيه موجود ، وبدأ موسى يطمئن إلى مصدر النداء ، ويأنَسُ به ، ويبحث عن مصدر هذا الصوت ، ولا يعرف من أين هو؛ لذلك اعتبرها مسألة عجيبة مثل منظر الشجرة التي ينبعث منها النور .
{ إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ }
(1/5642)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
فساعة أنْ كلَّمه ربه : { إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] أزال ما في نفسه من العجب والدهشة لما رآه وسمعه ، وعلم أنها من الله تعالى فاطمأنَّ واستبشر أنْ يرى عجائب أخرى؟
ونلحظ في قوله تعالى : { إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] أن الحق تبارك وتعالى حينما يتحدَّث عن ذاته تعالى يتحدث بضمير المفرد { إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] وحينما يتحدث عن فِعْله يتحدث بصيغة الجمع ، كما في قوله عز وجل : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } [ مريم : 40 ] .
فلماذا تكلَّم عن الفعل بصيغة الجمع ، في حين يدعونا إلى توحيده وعدم الإشراك به؟ قالوا : الكلام عن ذاته تعالى لا بُدَّ فيه من التوحيد ، كما في : { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] .
لكن في الفعل يتكلم بصيغة الجمع؛ لأن الفعل يحتاج إلى صفات متعددة وإمكانات شتَّى ، يحتاج إلى إرادة تريده ، وقدرة على تنفيذه وإمكانات وعلم وحكمة .
إذن : كل صفات الحق تتكاتف في الفعل؛ لذلك جاء الحديث عنه بصيغة الجمع ، ويقولون في النون في قوله : { نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] { نَرِثُ الأرض } [ مريم : 40 ] أنها : نون التعظيم .
وقد جاء الخطاب لموسى بلفظ الربوبية { إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] لإيناس موسى؛ لأن الربوبية عطاء ، فخطابه ( بربك ) أي الذي يتولّى رعايتك وتربيتك ، وقد خلقك من عَدَم ، وأمدك من عُدم ، ولم يقُلْ : إني أنا الله؛ لأن الألوهية مطلوبها تكليف وعبادة وتقييد للحركة بافعل كذا ولا تفعل كذا .
وقوله تعالى : { إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] أي : ربك أنت بالذات لا الرب المطلق؛ لأن الرسل مختلفون عن الخَلْقِ جميعاً ، فلهم تربية مخصوصة ، كما قال تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] وقال : { واصطنعتك لِنَفْسِي } [ طه : 41 ] .
إذن : فالحق تبارك وتعالى يُربِّي الرسل تربيةً تناسب المهمة التي سيقومون بها .
وقوله تعالى : { فاخلع نَعْلَيْكَ } [ طه : 12 ] هذا أول أمر ، وخَلْعِ النعل للتواضع وإظهار المهابة؛ ولأن المكان مُقدَّس والعلة { إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى } [ طه : 12 ] فاخلع نعليك حتى لا تفصل بينك وبين مباشرة ذرات هذا التراب .
ومن ذلك ما نراه في مدينة رسول الله من أناس يمشون بها حافيي الأقدام ، يقول أحدهم : لَعلِّي أصادف بقدمي موضع قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { طُوًى } [ طه : 12 ] اسم الوادي وهذا كلام عام جاء تحديده في موضع آخر ، فقال سبحانه : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة } [ القصص : 30 ] .
والبعض يرى في الآية تكراراً ، وليست الآية كذلك ، إنما هو تأسيس لكلام جديد يُوضِّح ويُحدِّد مكان الوادي المقدس طوى أين هو ، فإنْ قلتَ : أين طوى؟ يقول لك : في الواد الأيمن ، لكن الواد الأيمن نفسه طويل ، فأين منه هذا المكان؟ يقول لك : عند البقعة المباركة من الشجرة .
إذن : فالآية الثانية تحدد لك المكان ، كما تقول أنت : أسكن في حي كذا ، وفي شارع كذا ، في رقم كذا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَنَا اخترتك فاستمع }
(1/5643)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
أي : وإنْ كنتُ رباً لك ورباً للكافرين فسوف أزيدك خصوصية لك { وَأَنَا اخترتك } [ طه : 13 ] أي : للرسالة ، والله أعلم حيث يجعل رسالته .
لذلك لم نزل القرآن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اعترض كفار مكة على القرآن ، ولم يجدوا فيه عيباً فيما يدعو إليه من أخلاق فاضلة ومُثل عليا ، ولم يجدوا فيه مَأْخذاً في أسلوبه ، وهم أمة ألِفتْ الأسلوب الجيد ، وعَشقَتْ آذانها فصاحة الكلام ، فتوجهوا بنقدهم إلى رسول الله فقالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
فكلُّ اعتراضهم أنْ ينزلَ القرآن على محمد بالذات؛ لذلك رَدَّ عليهم القرآن بما يكشف غباءهم في هذه المسألة ، فقال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] كيف ونحن قد قسمنا بينهم معيشتهم الأدْنى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } [ الزخرف : 32 ] .
وهم يريدون أنْ يقسموا رحمة الله فيقولون : نزل هذا على هذا ، وهذا على هذا؟
ثم يقول تعالى : { فاستمع لِمَا يوحى } [ طه : 13 ] مادة : سمع . منها : سمع ، واستمع وتسمَّع . قولنا : سمع أي مصادفة وأنت تسير في الطريق تسمع كلاماً كثيراً . منه ما يُهمك وما لا يهمك ، فليس على الأذن حجاب يمنع السمع كالجفْنِ للعين ، مثلاً حين ترى منظراً لا تحبه .
إذن : أنت تسمع كل ما يصل إلى أذنك ، فليس لك فيه خيار .
إنما : استمع أنْ تتكلَّف السماع ، والمتكلم حُر في أنْ يتكلم أو لا يتكلم .
وتسمَّع . أي : تكلّف أشدّ تكلّفاً لكي يسمع .
لذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يخبر أنه ستُعم بلوى الغِنَاء ، وستنتشر الأجهزة التي ستشيع هذه البلوى ، وتصبها في كل الآذان رَغْماً عنها يقول : " مَنْ تسمَّع إلى قَيْنة صب الآنك في أذنيه " .
أي : تكلَّف أنْ يسمع ، وتعمَّد أن يوجه جهاز الراديو أو التلفزيون إلى هذا الغناء ، ولم يقُل : سمع ، وإلاّ فالجميع يناله من هذا الشر رَغْماً عنه .
وهنا قال تعالى : ( فَاسْتَمِعْ ) ولم يقُلْ : تسمَّع : لأنه لا يقترح على الله تعالى أنْ يتكلم ، ومعنى : استمع أي : جَنِّد كلَّ جوارحك ، وهيىء كُلَّ حواسّك لأن تسمع ، فإنْ كانت الأذن للسمع ، فهناك حواسّ أخرى يمكن أنْ تشغلها عن الانتباه ، فالعين تبصر ، والأنف يشمّ ، واللسان يتكلم .
فعليك أنْ تُجنِّد كل الحواسّ لكي تسمع ، وتستحضر قلبك لتعي ما تسمعه ، وتنفذ ما طلب منك؛ لذلك حين تخاطب صاحبك فتجده مُنْشغِلاً عنك تقول : كأنك لست معنا . لماذا؟ لأن جارحة من جوارحه شردتْ ، فشغلتْه عن السماع .
وقوله تعالى : { لِمَا يوحى } [ طه : 13 ] الوحي عموماً : إعلام بخفاء من أيٍّ لأيٍّ في أيٍّ ، خيراً كان أم شراً ، أمّا الوحي الشرعي فهو : إعلام من الله إلى رسول أرسله بمنهج خَيْر للعباد ، فإنْ كان الوحي من الله إلى أم موسى مثلاً ، أو إلى الحواريين فليس هذا من الوحي الشرعي .
(1/5644)
وهكذا تحدَّدَتْ من أيٍّ لأيٍّ في أيٍّ .
لكن ، كيف ينزل الوحي من الله تعالى على الرسول؟ كيف تلتقى الألوهية في عُلُوِّها بالبشرية في دُنوها؟ إذن : لا بُدَّ من واسطة؛ لذلك قال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } [ الحج : 75 ] .
فالمصطفى من الملائكة يتقبَّل من الله ، ويعطي للمصطفى من البشر؛ لأن الأعلى لا يمكن أنْ يلتقي بالأدنى مباشرة { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } [ الشورى : 51 ] .
فاستعداد الإنسان وطبيعته لا تُؤهّله لهذا اللقاء ، كيف ولما تجلَّى الحق سبحانه للجبل جعله دَكّاً ، ومن عظمته سبحانه أننا لا نراه ولا نتكلم معه مباشرة ، ولا نُحِسّه بأيّ حاسة من حواسنا ، ولو حُسَّ الإله بأيِّ حاسة ما استحق أنْ يكونَ إلهاً .
وكيف يُحَسُّ الحق تبارك وتعالى ومن خَلْقه وصَنْعته مَا لا يُحَسُّ ، كالروح مثلاً؟ فنحن لا نعلم كُنْهها ، ولا أين هي ، ولا نُحِسّها بأيّ حاسّة من حواسنا ، فإذا كانت الروح المخلوقة لم نستطع أنْ ندركها ، فكيف ندرك خالقها؟
الحق الذي يدَّعيه الناس ويتمسَّحون فيه ، ويفخر كل منهم أنه يقول كلمة الحق ، وكذلك العدل وغيرها من المعاني : أتدركها ، أتعرف لها شكلاً؟ فكيف إذن تطمع في أنْ تدرك الخالق عز وجل؟
إذن : من عظمته سبحانه أنه لا تدركه الحواس ، ولا يلتقي بالخَلْق لقاءً مباشراً ، فالمصطفى من الملائكة يأخذ عن الله ، ويعطي للمصطفى من الخَلْق ، ثم المصطفى من الخَلْق يعطي للخَلْق ، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجهد ، ويتصبَّب جبينه عَرَقاً في أول الوحي؟
ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يحجبَ الوحي عن رسوله فترة ليستريح من مباشرة المَلِك له ، وبانقطاع الوحي تبقى لرسول الله حلاوة ما أوحي إليه ويتشوّق إلى الوحي من جديد ، فيهون عليه ما يلاقي في سبيله من مشقة؛ لأن انشغال القلب بالشيء يُنسي متاعبه؟ .
وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي يُسمَع حوله دَوِيٌّ كدَويِّ النحل ، ولو صادف أن رسول الله وضع رجله على أحد أصحابه حين نزول الوحي عليه فكان الصحابي يشعر كأنها جبل ، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ وتئن من ثِقَله .
وقد مثّلنا للواسطة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية بالتيار الكهربائي حين نُوصِّله بمصباح صغير لا يتحمل قوة التيار ، فيضعون له جهازاً ينظم التيار ، ويعطي للمصباح على قَدْر حاجته وإلاّ يحترق .
ثم يقول الحق سبحانه : { إنني أَنَا الله }
(1/5645)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
في الآية قبل السابقة خاطبه ربه : { إني أَنَاْ رَبُّكَ } [ طه : 12 ] ليُطمئنه ويُؤنسه بأنه المربِّي العطوف ، يعطي حتى للكافر الذي يعصاه ، لكن هنا يخاطبه بقوله : { إنني أَنَا الله } [ طه : 14 ] أي : صاحب التكاليف ، والمعبود المطاع في الأمر والنهي ، وأوّل هذه التكاليف وقمّتها ، والينبوع الذي يصدر عنه كل السلوك الإيماني : { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ } [ طه : 14 ] .
لذلك قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : " خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله " .
وما دام لا إله إلا هو فلا يصح أنْ نتلقَّى الأمر والنهي إلاَّ منه ، ولا نعتمد إلا عليه ، ولا يشغل قلوبنا غيره ، وهو سبحانه يريد منا أنْ نكون وكلاء : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] .
فالناصح الفطن الذي لا يتوكل على أحد غير الله ، فربما توكّلت على أحد غيره ، فأصبحت فلم تجده ، وصدق الشاعر حين قال :
اجْعَلْ بربِّكَ كُلَّ عِزِّكَ ... يسْتقِرُّ وَيثبتُ
فَإِذَا اعْتَززْتَ بمَنْ يموتُ ... فإنَّ عِزَّكَ ميِّتُ
فكأن الحق سبحانه في قوله : { لا إله إلا أَنَاْ } [ طه : 14 ] يقول لموسى : لا تخفْ ، فلن تتلقى أوامر من غيري ، كما قال سبحانه في أية أخرى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] .
أي : لذهبَ هؤلاء الذي يدَّعُون الألوهية إلى الله يجادلونه أو يتودَّدون إليه ، ولم يحدث شيء من هذا .
ويشترط فيمن يُعطي الأوامر ويُشرِّع ويُقنِّن ألاَّ ينتفع بشيء من ذلك ، وأن تكون أوامره ونواهيه لمصلحة المأمورين ، ومن هنا يختلف قانون الله عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه المصالح والأغراض ، فمثلاً إنْ كان المشرِّع والمقنِّن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق الرأسماليين ، وإن كان من هؤلاء رفعهم فوق العمال .
وكذلك ألاَّ يغيب عنه شيء يمكن أنْ يُستدرك فيما بعد ، وهذه الشروط لا توجد إلا في التشريع الإلهي ، فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق الخَلْق .
لذلك قال بعدها : { فاعبدني } [ طه : 14 ] بطاعة أوامري واجتناب نواهيَّ ، فليس لي هَوَى فيما آمرك به ، إنما هي مصلحتك وسلامتك .
ومعنى العبادة : الناس يظنون أنها الصلاة والزكاة والصوم والحج ، إنما للعبادة معنى أوسع من ذلك بكثير ، فكلُّ حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة ، فهي عبادة كما نقول في القاعدة : كُلُّ ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب .
فالصلاة مثلاً لا تتم إلا بستْر العورة ، وعليك أنْ تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك : كم يد ساهمتْ فيها منذ كانتْ بذرة في الأرض ، إلى أنْ أصبحتْ قماشاً رقيقاً يستر عورتك؟ فكلُّ واحد من هؤلاء كان في عبادة وهو يُؤدِّي مهمته في هذه المسألة .
(1/5646)
كذلك رغيف العيش الذي تأكله ، صنبور المياه الذي تتوضأ منه ، كم وراءها من أيادٍ وعمال ومصانع وعلماء وإمكانات جُنِّدَتْ لخدمتك ، لتتمكن من أداء حركتك في الحياة؟
لذلك ، فالحق تبارك وتعالى حينما يُحدِّثنا عن الصلاة يوم الجمعة يقول : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 910 ] .
وهكذا أخرجنا إلى الصلاة من عمل ، وبعد الصلاة أمرنا بالعمل والسعي والانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ، فمخالفة الأمر في : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] كمخالفة الأمر في : { فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] .
وخَصَّ البيع هنا؛ لأن البائع أحرص على بيْعه من المشتري على شرائه ، وربما كان من مصلحة المشتري ألاَّ يشتري؟
فالإسلام إذن لا يعرف التكاسل ، ولا يرضى بالتنبلة والقعود ، ومَنْ أراد السكون فلا ينتفع بحركة متحرِّك .
وسيدنا عمر رضي الله عنه حينما رأى رجلاً يقيم بالمسجد لا يفارقه سأل : ومَنْ ينفق عليه؟ قالوا : أخوه ، قال : أخوه أعبد منه . لماذا؟ لأنه يسهم في حركة الحياة ويوسع المنفعة على الناس .
إذن : فكلُّ عمل نافع عبادة شريطة أنْ تتوفر له النية ، فالكافر يعمل وفي نيته أنْ يرزق نفسه ، فلو فعل المؤمن كذلك ، فما الفرق بينهما؟ المؤمن يعمل ، نعم لِيقوتَ نفسه ، وأيضاً ليُيسِّر لإخوانه قُوتَهم وحركة حياتهم . فسائق التاكسي مثلاً إذا عمل بمبلغ يكفيه ، ثم انصرف إلى بيته ، وأوقف سيارته ، فمَنْ للمريض الذي يحتاج مَنْ يُوصِّله للطبيب؟ والبائع لو اكتسب رزقه ، ثم أغلق دكانه مَنْ يبيع للناس؟
إذن : اعمل لنفسك ، وفي بالك أيضاً مصلحة الغير وحاجتهم ، فإنْ فعلتَ ذلك فأنت في عبادة . تعمل على قَدْر طاقتك ، لا على قَدْر حاجتك ، ثم تأخذ حاجتك من منتوج الطاقة ، والباقي يُرَدُّ على الناس إما في صورة صدقة ، وإما بثمن ، وحَسْبك أنْ يسرت له السبيل .
إذن : نقول : العبادة كل حركة تؤدي خدمة في الكون نيتك فيها لله .
ثم يقول تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] فلماذا خَصَّ الصلاة دون سائر العبادات؟
قالوا : لأن الصلاة هي العبادة الدائمة التي لا تنحلّ عن المؤمن ، ما دام فيه نَفَس ، فالزكاة مثلاً تسقط عن الفقير ، والصيام يسقط عن المريض ، والحج يسقط عن غير المستطيع ، أمّا الصلاة فلا عذر أبداً يبيح تركها ، فتصلي قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً ، فإنْ لم تستطيع تصلي ، ولو إيماءً برأسك أو بجفونك ، فإنْ لم تستطع فحَسْبُك أن تخطرها على قلبك ، ما دام لك وَعْي ، فهي لا تسقط عنك بحال .
كذلك ، فالصلاة عبادة مُتكرِّرة : خمس مرات في اليوم والليلة؛ لتذكرك باستمرار إنْ أنستْك مشاغل الحياة رب هذه الحياة ، وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم .
(1/5647)
وما بالك بآلة تُعرَض على صانعها هكذا ، أيمكن أن يحدث بها عُطّْل أو عَطَب؟
أما الزكاة فهي كل عام ، أو كل محصول ، والصوم شهر في العام ، والحج مرة واحدة في العمر .
لذلك ، كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حَزَبه أمر قام إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه وخالقه عز وجل ، ونحن نصنع هذا في الصنعة المادية حين نعرض الآلة على صانعها ومهندسها الذي يعرف قانون صيانتها .
وفي الحديث الشريف : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " .
وسبق أن ذكرنا أن للصلاة أهميتها؛ لأنها تُذكِّرك بربك كل يوم خمس مرات ، وتُذكِّرك أيضاً بنفسك ، وبقَدر الله في الآخرين حين ترى الرئيس ومرؤوسه جَنْباً إلى جَنْب في صفوف الصلاة ، فإنْ جئتَ قبل رئيسك جلستَ في الصف الأول ، وجلس هو خلفك ، ثم تراه وهو منُكسِر ذليل لله تعالى ، وهو يعرف أنك تراه على هذه الهيئة فيكون ذلك أدْعى لتواضعه معك وعدم تعاليه عليك بعد ذلك .
وكم رأينا من أصحاب مناصب وقيادة يبكون عند الحرم ، ويتعلقون بأستار الكعبة وعند المتلزم ، وهو العظيم الذي يعمل له الناس ألف حساب . ففي الصلاة إذن استطراق للعبودية لله تعالى .
لذلك من أخطر ما مُنِي به المسلمون أنْ تجعلَ في المسجد أماكن خاصة لنوعية معينة يُخلَى لها المكَان ، ويصاحبها الحرس حتى في بيت الله ، ثم يأتي في آخر الوقت ويجلس في الصف الأول ، وآخر يفرش سجادته ليحجز بها مكاناً لحين حضوره ، فيجد المكان خالياً .
وينبغي على عامة المسلمين أن يرفضوا هذا السلوك ، وعليك أنْ تُنحِّي سجادته جانباً ، وتجلس أنت؛ لأن أولوية الجلوس بأولوية الحضور ، فقد صفها الله في المسجد إقبالاً عليه . وهذه العادة السيئة تُوقع صاحبها في كثير من المحظورات ، حيث يتخطى رقاب الناس ، ويُميِّز نفسه عنهم دون حق ، ويحدث انتقاص عبودي في بيت الله .
ولأهمية الصلاة ومكانتها بين العبادات تميِّزت في فرضها بما يناسب أهميتها ، فكُلُّ العبادات فُرِضَتْ بالوحي إلا الصلاة ، فقد استدعى الحق رسوله الصدق ليبلغه بها مباشرة لأهميتها .
وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى بالرئيس إذا أراد أنْ يُبلِّغ مرؤوسه أمراً يكتب إليه ، فإنْ كان الأمر مهماً اتصل به تليفونياً ، فإنْ كان أهمّ استدعاه إليه لِيُبلِّغه بنفسه . ولما قرَّبه الله إليه بفرض الصلاة جعل الصلاة تقرُّباً لعباده إلى الله .
وقوله : { وَأَقِمِ الصلاة لذكري } [ طه : 14 ] أقام الشيء : جعله قائماً على أُسس محكمة ، فإقامة الصلاة أن تؤديها مُحكَمة كاملة الأركان غير ناقصة .
{ لذكري } [ طه : 14 ] أي : لتذكري؛ لأن دوام ورتابة النعمة قد تُنسيك المنعم ، فحين تسمع نداء ( الله أكبر ) ، وترى الناس تُهرَع إلى بيوت الله لا يشغلهم عنها شاغل تتذكر إنْ كنتَ ناسياً ، وينتبه قلبك إنْ كنتَ غافلاً .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا }
(1/5648)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
أي : مع ما سبق وَطِّنْ نفسك على أن الساعة آتية لا محالةَ ، والساعة هنا هي عمر الكون كله ، أمّا أعمار المكين في الكون فمتفاوته ، كل حسب أجله ، فمَنْ مات فقد قامت قيامته وانتهت المسألة بالنسبة له .
إذن : نقول : الساعة نوعان : ساعة لكُلٍّ منا ، وهي عمره وأجَله الذي لا يعلم متى سيكون ، وساعة للكون كله ، وهي القيامة الكبرى .
فقوله تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَة } [ طه : 15 ] أي : اجعل ذلك في بالك دائماً ، ومادام الموت سينقلك إليها سريعاً فإياك أنْ تقول : سأموت قريباً ، أما القيامة فبعد آلاف أو ملايين السنين؛ لأن الزمن مُلغىً بعد الموت ، كيف؟
الزمن لا يضبطه إلا الحدث ، فإن انعدم الحدث فقد انعدم الزمن ، كما يحدث لنا في النوم ، وهل تستطيع أنْ تُحدِّد الوقت الذي نمْتَه؟ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .
والعبد الذي أماته الله مائة عام لما بعثه قال : يوماً أو بعض يوم ، وكذلك قال أهل الكهف بعد ثلاثمائة سنة وتسع ، لأن يوماً أو بعض يوم هي أقْصى ما يمكن تصوُّره للنائم حين ينام؛ لذلك نقول : " مَنْ مات فقد قامت قيامته " .
ومن حكمته سبحانه أن أخفى الساعة ، أخفاها للفرد ، وأخفاها للجميع؛ وربما لو عرف الإنسان ساعته لقال : أفعل ما أريد ثم أتوب قبل الموت؛ لذلك أخفاها الحق تبارك وتعالى لنكون على حذر أنْ نلقى الله على حال معصية .
وكذلك أخفى الساعة الكبرى ، حتى لا تأخذ ما ليس لك من خَلْق الله ، وتنتفع به ظُلْماً وعدواناً ، وتعلم أنك إنْ سرقتَ سترجع إلى الله فيحاسبك ، فما دُمْتَ سترجع إلى الله فاستقِمْ وعَدِّل من سلوكك ، كما يقول أهل الريف ( ارع مساوي ) .
وقوله تعالى : { آتِيَةٌ } [ طه : 15 ] أي : ليس مَأْتِياً بها ، فهي الآتية ، مع أن الحق تبارك وتعالى هو الذي سيأتي بها ، لكن المعنى ( آتية ) كأنها منضبطة ( أوتوماتيكيا ) ، فإنْ جاء وقتها حدثتْ .
وقوله تعالى : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] كاد : أي : قَرُب مثل : كاد زيد أن يجيء أي : قَرُب لكنه لم يأْتِ بعد ، فالمراد : أقرب أن أخفيها ، فلا يعلم أحد موعدها ، فإذا ما وقعتْ فقد عرفناها . كما قال تعالى : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] .
وقد تكون { أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] بمعنى آخر ، فبعض الأفعال الثلاثية تُعطى عكس معناها عند تضعيف الحرف الثاني منها ، كما في : مرض أي : أصابه المرض . ومرَّضه الطبيب . أي : عالجه وأزال مرضه . وقَشَرتُ الشيء أي : جعلْتُ له قشرة ، وقشَّرتُ البرتقالة أزلْتُ قِشْرها .
ومن ذلك قوله تعالى : { تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً }
(1/5649)
[ يوسف : 85 ] والحَرض : هو الهلاك . من : حَرِض مثل : تَعب .
وقوله تعالى : { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } [ الأنفال : 65 ] .
ومعنى ( حَرِّض ) حثَّهم على القتال ، الذي يُزيل عنهم الهلاك أمام الكفار؛ لأنهم إنْ لم يجاهدوا هلكوا ، فَحرِض : هلك ، وحرَّض : أزال الهلاك .
وقد يأتي مضاد الفعل بزيادة الهمزة على الفعل مثل : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] فالقاسط من قسط . أي : الجائر بالكفر .
أما في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ المائدة : 42 ] فالمقسط من أقسط : العادل الذي يُزيل الجوْرَ . وإنْ كانت المادة واحدة هي ( قَسَط ) فالمصدر مختلف نقول : قسط قِسْطاً أي : عدل ، وقسط قَسْطاً وقسوطاً يعني : جار . فهذه الهمزة في أقسط تسمى " همزة الإزالة " .
ومن الفعل الثلاثي قَسَطَ يستعمل منها : القسط والميزان والفرق بين قَسَط وأقسط : قسط أي : عدل من أول الأمر وبادىء ذي بَدْء ، إنما أقسط : إذا وجد ظُلْماً فرفعه وأزاله ، فزاد على العدل أنْ أزال جَوْراً .
وأيضاً الفعل ( عجم ) عجم الأمر : أخفاه ، وأعجمه : أزال خفاءه . ومن ذلك كلمة المعجم الذي يزيل خفاء الكلمات ويُوضِّحها .
وكذلك في قوله تعالى : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] خفى بمعنى : استتر وأخفاها : أزال خفاءها ، ولا يُزَال خفاء الشيء إلا بإعلانه .
ثم يقول تعالى : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } [ طه : 15 ] .
وإلا لو لم يكُنْ في الآخرة حساب وجزاء لَكَان الذين أسرفوا على أنفسهم وعربدوا في الوجود أكثر حظاً من المؤمنين المتلزمين بمنهج الله؛ لذلك في نقاشنا مع الشيوعيين قُلْنا لهم : لقد قتلتم مَنْ أدركتموه من أعدائكم من الرأسماليين ، فما بال مَنْ مات ولم تدركوه؟ وكيف يفلت منكم هؤلاء؟
لقد كان أَوْلَى بكم أن تؤمنوا بمكان آخر لا يفلت منه هؤلاء ، وينالون فيه جزاءهم ، إنها الآخرة التي تُجزَى فيها كُلُّ نفس بما تسعى .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ }
(1/5650)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
كأن الحق تبارك وتعالى يعطي لموسى عليه السلام مناعة لما سيقوله الكافرون الذين يُشكِّكون في الآخرة ويخافون منها ، وغرضهم أنْ يكون هذا كذباً فليست الآخرة في صالحهم ، ومن حظهم إنكارها .
فإياك أنْ تصغي إليهم حين يصدونك عنها ، يقولون : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } [ الصافات : 1617 ] .
ولماذا يستبعدها هؤلاء؟ أليس الذي خلقهم مِنْ لا شيء بقادر على أنْ يعيدهم بعد أن صاروا عِظاماً؟
والحق سبحانه يقول : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وهذا قياس على قَدْر أفهامكم وما تعارفتم عليه من هَيِّن وأهْوَن ، أما بالنسبة للحق تبارك وتعالى فليس هناك هيِّن وأهون منه؛ لأن أمره بين الكاف والنون؟
لكن لماذا يصدُّ الكفار عن الآخرة ، والإيمان بها؟ لأنهم يعلمون أنهم سَيُجازون بما عملوا ، وهذه مسألة صعبة عليهم ، ومن مصلحتهم أن تكون الآخرة كذباً .
وصدق أبو العلاء المعري حين قال :
زَعَمَ المنجَّمُ والطبيبُ كِلاَهُمَا ... لاَ تُحْشَرُ الأجْسَادُ قُلْتُ إليْكُمَا
إنْ صَحَّ قَولكُمَا فلسْتُ بخَاسِرٍ ... أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخسَارُ عليكُمَا
أي أن المؤمن بالبعث إن لم يكسب فلن يخسر ، أما أنتم أيها المنكرون فخاسرون .
وقوله تعالى : { فتردى } [ طه : 16 ] أي : تهلك من الردَى ، وهو الهلاك .
وهكذا جاء الكلام من الله تعالى لموسى عليه السلام أولاً : البداية إيماناً بالله وحده لا شريك له ، وهذه القمة الأولى ، ثم جاء بالقمة الأخيرة ، وهي البعث فالأمر إذن منه بداية ، وإليه نهاية : { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ } [ طه : 14 ] إلى أنْ قال : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] .
وبعد ذلك شرح لنا الحق سبحانه بَدْء إيحائه لرسوله موسى عليه السلام : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى }
(1/5651)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
ما : استفهامية . والتاء بعدها إشارة لشيء مؤنَّت ، هو الذي يمسكه موسى في يده ، والكاف للخطاب ، كأنه قال له : ما هذا الشيء الذي معك؟ والجواب عن هذا السؤال يتم بكلمة واحدة : عَصَا .
أمّا موسى عليه السلام فهو يعرف أن الله تعالى هو الذي يسأل ، ولا يَخْفَى عليه ما في يده ، ولكنه كلام الإيناس؛ لأن الموقف صعب عليه ، ويريد ربه أنْ يُطمئنَه ويُؤنِسَه .
وإذا كان الإيناس من الله ، فعلى العبد أنْ يستغلّ هذه الفرصة ويُطيل أمدَ الائتناس بالله عز وجل ، ولا يقطع مجال الكلام هكذا بكلمة واحدة؛ لذلك رد موسى عليه السلام : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا }
(1/5652)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قال موسى : { قَالَ هِيَ عَصَايَ } [ طه : 18 ] ، ثم يفتح لنفسه مجالاً آخر للكلام : { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } [ طه : 18 ] وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد ، فيحاول الاختصار : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] .
وكان موسى ينتظر سؤالاً يقول : وما هذه المآرب؟ ليُطيل أُنْسه بربه ، وإذا كان الخطاب مع الله فلا يُنهِيه إلا زاهد في الله .
وللعصا تاريخ طويل مع الإنسان ، فهي لازمة من لوازم التأديب والرياضة ، ولازمة من لوازم الأسفار ، ولها أهميتها في الرعي . . الخ وهنا يذكر موسى عليه السلام بعض هذه الفوائد يقول :
{ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [ طه : 18 ] أي : أعتمد عليها ، وأستند عندما أمشي ، والإنسان يحتاج إلى الأعتماد على عصا عند السير وعند التعب؛ لأنه يحتاج إلى طاقتين : طاقة للحركة والمشي ، وطاقة لحمل الجسم والعصا تساعده في حَمْل ثقل جسمه ، خاصة إنْ كان مُتْعباً لا تقوَى قدماه على حَمْله .
فقوله : { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [ طه : 18 ] أي : أعتمد عليها حين المشي وحين أقف لرعي الغنم فأستند عليها ، والاتكاء يراوح الإنسان بين قدميْه فيُريح القدم التي تعبتْ ، وينتقل من جنب إلى جنب .
والإنسان إذا ما استقرّ جسمه على شيء لمدة طويلة تنسدّ مسامّ الجسم في هذا المكان ، ولا تسمح بإفراز العرق ، فيُسبِّب ذلك ضرراً بالغاً نراه في المرضى الذين يلازمون الفراش لمدة طويلة ، ويظهر هذا الضرر في صورة قرحة يسمونها " قرحة الفراش "؛ لذلك ينصح الأطباء هؤلاء المرضى بأن يُغيِّروا من وضْعِهم ، فلا ينامون على جنب واحد .
لذلك شاءت قدرة الله عز وجل أنْ يُقلِّب أهل الكهف في نومهم من جَنْب إلى جَنْب ، كما قال سبحانه : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } [ الكهف : 18 ] .
لذلك إذا وقف الإنسان طويلاً ، أو جلس طويلاً ولم يجد له متكأ تراه قَلِقاً غير مستقر ، ومن هنا كان المتَّكأ من مظاهر النعمة والترف في الدنيا وفي الآخرة ، كما قال تعالى في شأن امرأة العزيز : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [ يوسف : 31 ] .
وقال عن نعيم الآخرة : { مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } [ الطور : 20 ] .
وقال : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] .
وقال الحق تبارك وتعالى : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [ الرحمن : 76 ] .
فالاتكاء وسيلة من وسائل الراحة ، وعلى الإنسان أنْ يُغيٍِّر مُتكاهُ من جنب إلى جنب حتى لا يتعرّض لما يسمى ب " قرحة الفراش " .
ومن فوائد العصا : { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } [ طه : 18 ] أي : أضرب بها أوراق الشجر فتتساقط فتأكلها الغنم والماشية؛ لأن الراعي يمشي بها في الصحراء ، فتأكل من العِذْي ، وهو النبات الطبيعي الذي لم يزرعه أحد ، ولا يسقيه إلا المطر ، فإن انتهى هذا العُشْب اتجه الراعي إلى الشجر العالي فيُسقِِط ورقه لتأكله الغنم ، فيحتاج إلى العصا ليؤدي بها هذه المهمة .
(1/5653)
إذن : قوله : { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [ طه : 18 ] لراحته هو ، و { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } [ طه : 18 ] لخدمة الرعية ، وفيها سياسة إدارة الرزق كلها للماشية وللناس ، ورَعْي الغنم وسياستها تدريب على سياسة الأمة بأسْرها؛ لذلك ما بعث الله من نبي إلا ورَعَى الغنم ليتعلم من سياسة الماشية سياسة الإنسان .
وفي الحديث الشريف : " ما بعث الله من نبي إلا ورعى الغنم ، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " .
ولما أحسَّ موسى عليه السلام أنه أطال في خطاب ربه عز وجل أجمل فقال : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] أي : منافع .
وقد حاول العلماء جزاهم الله عَنَّا خيراً البحث في هذه المآرب الأخرى التي لم يذكرها موسى عليه السلام ، فتأملوا حال الرعاة ، وما وظيفة العصا في حياتهم فوجدوا لها منافع أخرى غير ما ذكر .
من هذه المنافع أن الراعي البدائي يضع عصاه على كتفه ويُعلِّق عليها زاده من الطعام والشراب ، وبعض الرعاة يستغل وقته أيضاً في الصيد ، فيحتاج إلى أدوات مثل : القوس ، والنبل ، والسهام والمخلاة التي يجمع فيها صَيْده ، فتراه يضع عصاه على كتفه هكذا بالعرض ، ويُعلِّق عليها هذه الأدوات من الجانبين .
فإذا ما اشتدت حرارة الشمس ولم يجد ظلالاً غرز عصاه في الأرض ، وألقى بثوبه عليها فجعل منها مثل الخيمة أو المظلة تقيه حرارة الجو . فإن احتاج للماء ذهب للبئر ، وربما وجده غائر الماء لا يبلغه الدلو فيحتاج للعصا يربطها ويُطيل بها الحبل ، إلى غير ذلك من المنافع .
وبعض العلماء يقولون : لقد كان موسى عليه السلام ينتظر أن يسأله ربه عن هذه المآرب ليطيل الحديث معه ، لكن الحق سبحانه لم يسأله عن ذلك؛ لأنه سينقله إلى شيء أهم من مسألة العصا ، فما ذكْرتَه يا موسى مهمة العصا معك ، أمّا أنا فأريد أنْ أخبرك بمهمتها معي :
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ أَلْقِهَا ياموسى }
(1/5654)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
ارْم بها على الأرض ، وهو هنا إلقاء الدُّرْبة والتمرين على لقاء فرعون ، وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام ، لم تعد للتوكؤ والهش على الغنم ، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حية ، قال الحق سبحانه : { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ }
(1/5655)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
وهذه نَقْلة كبيرة في مسألة العصا ، فقد كان في الإمكان لإثبات المعجزة أنْ تتحوَّل العصا ، وهي عود جاف من الخشب إلى شجرة خضراء ، لكن الحق تبارك وتعالى يُجرِي لموسى هذه المعجزة؛ لأنه سيحتاج إليها فيما بعد ، ولو تحولتْ العصا إلى شجرة خضراء فسوف تستقر في مكانها ، أما حين تتحول إلى حيّة فهي حيوان مُتحَرِّك ، تجري هنا وهناك ، وهذا ما سيحتاجه موسى في معركته القادمة .
ألقى موسى عصاه { فَإِذَا هِيَ } [ طه : 20 ] إذا هنا فجائية كما تقول : خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب . وحينما ألقى موسى العصا سرعان ما تحولت وهي جافة يابسة إلى حيّة ، وحيّة تسعى ليستْ جامدة ميتة ، أليست هذه مفاجأة؟
وطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام مما رآه ، فطمأنه ربه فقال : { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ }
(1/5656)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
أي : امسكها بيدك ، وسوف نعيدها في الحال { سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ] أي : كما كانت عصا يابسة جافة في يدك ، وقال : { لاَ تَخَفْ } [ طه : 21 ] لما ظهر عليه من أمارات الخوف . وقد أخبر عن خوفه في آية أخرى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } [ طه : 67 ] .
وكانت هذه المسألة تدريباً لموسى عليه السلام وتجربةً ، فللعصا مهمة في رسالته ، وسوف تكون هي معجزته في صراعه مع فرعون حين يضرب بها البحر وفي دعوته لبني إسرائيل حين يضرب بها الحجر فيتفجّر منه الماء .
وقد عالج القرآن هذه القصة في لقطات مختلفة ، فمرة يقول عن العصا كأنها ثعبان . ومرة يقول : حيّة . وأخرى يقول : جان؛ لذلك اعترض البعض على هذه الاختلافات ، فأيها كانت العصا؟
الحقيقة أنها صور مختلفة للعصا حينما انقلبتْ ، فمن ناحية قتْلتها المميتة هي حية ، ومن ناحية ضخامتها ثعبان ، ومن ناحية خِفَّة حركتها جان ، وكل هذه الخصائص كانت في العصا ، وحين تجمع كل هذه اللقطات تعطيك الصورة الكاملة للعصا بعد أنْ صارت حية . فآيات القرآن إذن تتكامل لترسم الصورة المرادة للحق تبارك وتعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ }
(1/5657)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
اليد معروفة ، والجناح للطائر ، ويقابله في الإنسان الذراع بداية من العَضُد ، والحق سبحانه حينما أوصانا بالوالدين قال : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } [ الإسراء : 24 ] يعني : تواضع لهما ، ولا تتعالَ عليهما .
وفي موضع آخر قال تعالى : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ القصص : 32 ] .
والجَيْب : طَوْق القميص ، سُمِّي جَيْباً؛ لأنهم كانوا في الماضي يجعلون الجيب الذي يضعون به النقود أو خلافه في داخل الثوب ، ليكون بعيداً عن يد السارق ، فإذا ما احتاج الإنسان شيئاً في جَيْبه يُدخِل يده من طَوْق القميص ليصل إلى الجيْب فسُمِّي الطوق جيباً . وهذا من مظاهر التكامل بين الآيات .
والمعنى هنا : اضمم كف يدك اليمنى ، وأدْخله من طَوْق قميصك إلى تحت عَضُدك الأيسر { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ طه : 22 ] أي : ساعة أنْ تُخرِج يدك تجدها بيضاء ، لها ضوء ولمعان وبريق وشعاع .
ومعلوم أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون ، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حينما طُلِب منه أنْ يَصف الرسل الذين لقيهم في رحلة الإسراء والمعراج ، فقال : " أما موسى ، فرجل آدم طُوَال ، كأنه من رجال أزدشنوءة . . . . " .
أي : أسمر شديد الطول؛ لان طُوَال يعني : أكثر طولاً من الطويل .
ومن هنا كان بياضُ اليد ونورها في سُمْرة لونه آيةً من آيات الله ، ولو كان موسى أبيض اللون ما ظهر بياضُ يده .
وقوله : { مِنْ غَيْرِ سواء } [ طه : 22 ] أي : من غير مرض ، فقد يكون البياض في السُّمرة مرضاً والعياذ بالله كالبرص مثلاً . فنفى عنه ذلك .
وقوله تعالى : { آيَةً أخرى } [ طه : 22 ] أي : معجزة ، لكنه لم يقُلْ شيئاً عن الآية الأولى ، فدلَّ ذلك على أن العصا كانت الآية الأولى ، واليد الآية الأخرى .
ثم يقول الحق سبحانه : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى }
(1/5658)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
أي : نُريك الآيات العجيبة عندنا؛ لتكون مقدمة لك ، فحين نأمرك بشيء من هذا القبيل فاعلم أن الذي يأمرك ربُّ لن يغشَّك ، ولن يتخلى عنك ، وسوف يُؤيدك وينصرك ، فلا ترتَعْ ولا تخف أو تتراجع .
وكأن الحق تبارك وتعالى يُعِدُّ نبيه موسى للقاء مرتقب مع عدوه فرعون الذي ادعى الألوهية .
ثم بعد هذه الشحنة والتجربة العملية يقول له : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى }
(1/5659)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
فلماذا أرسله إلى فرعون أولاً ، ولم يرسله إلى قومه؟ قالوا : لأن فرعون فعل فعلاً فظيعاً ، حيث ادعى الألوهية ، وهي القمة في الاعتداء ، ثم استعبد بني إسرائيل ، فلا بُدَّ أن نُصفِّي الموقف أولاً مع فرعون .
لذلك حدثت معجزة العصا في ثلاثة مواقف .
الأول : وكان لِدُرْبة موسى ورياضته على هذه العملية ، وكانت هذه المرة بين موسى وربه عز وجل تدريباً ، حتى إذا أتى وقت مزاولتها أمام فرعون لم يتهيِّب منها أو يتراجع ، بل باشرها بقلب ثابت واثق .
والثاني : كان مع فرعون بمفرده ترويعاً له .
والثالث : مع السَّحَرة تجميعاً .
فكُلُّ موقف من هذه المواقف كان لحكمة وله دور ، وليس في المسألة تكرار كما يدَّعي البعض .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ طغى } [ طه : 24 ] الطغيان : مجاوزة الحدّ ، ومجاوزة الحدِّ يكون بأخْذ ما ليس لك والمبالغة في ذلك ، وليْتَه أخذ من المساوي له من العباد ، إنما أخذ ما ليس له من صفات الله عز وجل .
ولما سمع موسى اسم فرعون ، تذكَّر ما كان من أمره في مصر ، وأنه تربَّى في بيت هذا الفرعون الذي ادَّعى الألوهية ، فكيف سيواجهه .
كما تذكَّر قصة الرجل الذي وكَزه فقتله ، ثم خرج منها خائفاً يترقب ، فلما شعر موسى أن العبء ثقيل قال : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي }
(1/5660)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
كأنه قال : يا رب أنا سأنفّذ أوامرك؛ لكني لا أريد أنْ أُقبل على هذه المهمة وأنا منقبض الصدر منْ ناحيتها؛ لأن انقباضَ الصدر من الشيء يُهدِر الطاقة ويُبدِّدها ، ويعين الأحداث على النفس .
لذلك دعا موسى بهذا الدعاء : { رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي } [ طه : 25 ] ليوفر قوته لأداء هذه المهمة الصعبة التي تحتاج إلى مجهود يناسبها ، ومعنى ذلك أنه انقبض صدره من لقاء فرعون للأسباب الذي ذُكِرت .
ثم قال : { وَيَسِّرْ لي أَمْرِي }
(1/5661)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
لأن شَرْح الصدر في هذه المسألة لا يكفي ، فشَرْح الصدر من جهة الفاعل ، وقد يجد من القليل لَدَداً شديداً وعناداً؛ لذلك قال بعدها : { وَيَسِّرْ لي أَمْرِي } [ طه : 26 ] فلا أجد لَدَداً وطغياناً من فرعون ، فتيسير الامر من جهة القابل للفعل بعد شرح الصدر عند الفاعل .
(1/5662)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
لأن الكلام وتبليغ الرسالة يحتاج إلى منطق ولسان مُنطلِق بالكلام ، وكان موسى عليه السلام لديه رُتَّة أو حُبْسَة في لسانه ، فلا ينطلق في الكلام .
وكانت هذه الرُّتَّة أيضاً في لسان الحسين بن علي رضي الله عنهما وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الحسين يضحك ويقول : " ورثها عن عمه موسى " .
وتلحظ دِقَّة التعبير في قوله : { مِّن لِّسَانِي } [ طه : 27 ] ولم يقل : احلل عقدة لساني . فقد يُفهم منها أنه مُتمرِّد على قَدَر الله من حُبسة لسانه ، إنما هو لا يعترض ويطلب مجرد جزءٍ من لسانه ، يمَكِّنه من القيام بمهمته في التبليغ .
(1/5663)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
هذه هي العِلّة في طلبه ، ولولاها ما طلب انطلاقة اللسان . والفقه هو أن يفهموا الكلام والحديث عنه .
ويواصل موسى عليه السلام ما يراه مُعيناً له على أداء مهمته : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي }
(1/5664)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
وزيراً : أي : معيناً وظهيراً . والحق سبحانه وتعالى لما أراد أنْ يُخوِّف الناس من الآخرة قال : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } [ القيامة : 1112 ] .
أي : لا ملجأ ولا معين تفزع إليه إلا الله ، فالوزير من ( وَزَر ) ، ويطلب الوزير حين لا يستطيع صاحب الأمر القيام به بمفرده ، فيحتاج إلى مَنْ يعينه على أمره ، وهو وزير إنْ كان ناصحاً أميناً يُعين صاحبه بصِدْق ، فإنْ كان غاشَّاً لئيماً يعمل لصالح نفسه ، فليس بوزير ، بل هو ( وِزْر ) ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] .
وفي الحديث النبوي الشريف : " خَيْر الملوك ملك جعل الله له وزيراً ، إنْ نسي ذكَّره ، وإنْ نوى على خير مجرد نيّة أعانه ، وإن أراد شرّاً كفَّه . . . " .
تلك علامات الوزير الناصح للرعية كما بيَّنتها سياسة السماء؛ لأن لكل حاكم بطانتين : واحدة تأمر بالمعروف ، وأخرى تأمر بالمنكر كما جاء في الحديث الشريف .
فإنْ كانت هذه هي سياسة السماء ، فماذا عن سياسة البشر؟
يقول أنو شروان : إياكم أنْ تفهموا أن أحداً مِنَّا يستغني عن أحد ، فلكُلِّ واحد مهمته ، فإنْ زدت في شيء فقد نقصت في أشياء ، جعلها الله في غيرك ليكمل بها نقصك ، فالمعايشة مشتركة ، لكن هذه المشاركة تفرضها الضرورة لا التفضّل ، وإلاَّ لو لم يتفضّل عليك غيرك فماذا تفعل؟
وسبق أن ضربنا مثلاً لحاجة الناس بعضهم لبعض ، قلنا : ماذا يحدث لو امتنع رجال الصرف الصحي أو الكناسون عن العمل لعدة أيام؟ أما لو غاب الوزراء لعدة أيام فلن يحدث شيء .
إذن : لا تظن أنك أفضل من الآخرين؛ لأن لكل منهم مهمة يؤديها ، فإنْ كنتَ خيراً منه في هذه فهو خير منك في هذه؛ لأن مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر ، فإنْ قلتَ : فلماذا وُجِد التفاوت بين الناس؟
قالوا : لتكون هناك ضرورة في حاجة بعضنا لبعض ، فلو تساوَى الجميع لقلنا لجماعة منا : تفضّلوا بكنس الشوارع يوم كذا فلن يتفضلوا ، أما إنْ ألجأتْهم الحاجة إلى مثل هذا العمل فسوف يسارعون إليه ، كما نرى الآن في أشقَّ المهن وأصعب المهام التي ينفر منها الناس بل ويحتقرونها ترى صاحبها مُقبلاً عليها حريصاً على القيام بها ، رغم ما فيها من مشقّة ، بل ويغضب إنْ لم يجد فرصة للعمل ، لماذا؟ لأنه مصدر قُوته وقُوت عياله .
وبهذه النظرة لا يتعالى أحد أو يستكبر ليحدث في المجتمع توازن استطراقي .
وقوله : { مِّنْ أَهْلِي } [ طه : 29 ] أي : ليكون مأموناً عليَّ .
وهذا المطلب من موسى عليه السلام يشير لأدب عال من آداب النبوة ، وقد اختار الله موسى للرسالة ، فلماذا يشرك معه أخاه في هذه المهمة؟ إذن : موسى لا يريد أنْ يفخَر بالرسالة ، أو يتعالى بها ، أو يطغى ، إنما يريد أن يقوم بها على أكمل وجه؛ لذلك يحاول أنْ يُكمل ما فيه من نقص بأخيه ليُعينه على تبليغ رسالته ، ولو أراد الاستئثار بالرسالة ما طلب هذا الطلب .
وهذا نموذج يجب أنْ يُحتذَى ، فإنْ كُلِّفت بأمر فوق طاقتك فلا غبارَ عليك أن تستعين عليه بغيرك ، فهذا دليل على إخلاصك للمهمة التي كُلِّفت بها .
(1/5665)
هَارُونَ أَخِي (30)
فاختار أخاه هارون ليعينه في مهمة الرسالة .
ثم أوضح العلّةَ في ذلك ، فقال في آية آخرى : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القصص : 34 ] .
وهكذا يتكامل موسى وهارون ويُعوِّض كل منهم النقص في أخيه . ويُقال : إن هارون عليه السلام كان يمتاز على موسى في أمور آخرى ، فكان به لِينٌ وحِلْم ، وكان موسى حاداً سريع الغضب ، فكان هارون للِّين ، وموسى للشدة .
ويتضح هذا حينما عاد موسى إلى قومه ، وقد تركهم في صُحْبة أخيه هارون فعبدوا العجل فاشتد غضبه ، كما قال تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } [ الأعراف : 150 ] .
تم احتدّ على أخيه ، وجذبه من ذَقْنه ، وظهرتْ حِدَّته . وقَسْوته ، فماذا قال هارون؟ { قَالَ ابن أُمَّ } [ الأعراف : 150 ] ليستعطفه ويُذكِّره برأفة الأم وحنانها { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] ، كأنه يقول لأخيه : اضربني كما تريد ، لكن لا تروعني في لحيتي ، وفي رأسي .
إذن : فالفصاحة في هارون تجبر العُقدة في لسان موسى ، واللين يجبر الشدة والحدة . وأيضاً فإن موسى عليه السلام كان أسمر اللون ، أجعد الشعر ، أقنى الأنف ، أما هارون فكان أبيض اللون ، مُرْسَل الشعر ، وسيم التقاطيع والملامح ، ترتاح له الأبصار ، فمَنْ لم يرتَحْ لموسى ارتاح لهارون .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن ينزل الوحي عليه في صورة دِحيْة الكلبي ، وكان رضي الله عنه وسيماً ، ترتاح له العين لرؤيته ، فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه في هذه الصورة لِيُؤنسه .
وموسى عليه السلام مع ما تميَّز به أخوه هارون عليه من هذه الصفات لم يحقد على أخيه ، ولم ينظر إليه على أنه أفضل منه ، إنما جعل صفات أخيه مكملة لصفاته ، والجميع من أجل أداء الرسالة وتبليغها على وجهها الأكمل ، فلم ينظر إلى نفسه ونجاحه هو ، وإنما إلى نجاح المهمة التي كلّفه الله بها .
ويجب أنْ يشيعَ هذا الخُلق بين الناس ، فإنْ رأيت خَصْلةَ خَيْر في غيرك ، أو وجهاً من وجوه الكمال في غيرك ، فاحمد الله عليها ، واعلم أنها سيعود عليك نفعها ، وستجبر ما عندك من نقص فلا تحقد عليه؛ لأنه سيتحمل ما فيك من قصور ، وتنتفع أنت بخيره .
ثم يقول الحق سبحانه أن موسى عليه السلام قال : { اشدد بِهِ أَزْرِي }
(1/5666)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
الأَزْر : القوة . وكأن موسى عليه السلام عرف أن حَمْل الرسالة إلى فرعون وإلى قومه من بعده عملية شاقة ، فقال لله : أعطني أخي يساعدني في هذه المشقة .
(1/5667)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
قوله : ( وَأشْرِكْهُ ) أي : أنت يا ربّ ، ليس أنا الذي أشركه تفضُّلاً مني عليه ، فأراد موسى عليه السلام أن يكون الفضل من الله ، وأن يكون التكليف أيضاً من الله حتى لا يعترض هارون أو يتضجر عند مباشرة أمر الدعوة .
لذلك لما ذَهَبا إلى فرعون قالا : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] ولم يقُلْ موسى : إن هارون تابع له بل هو مثله تماماً مُرْسَل من الله ، وإذا تكلَّم موسى تكلَّم عنه وعن هارون .
فلما دعا موسى على قومه : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
جاءت الإجابة من الله : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] ؛ لأن الدعاء كان من موسى ، وهارون يُؤمِّن عليه ، والمؤمِّن أحد الداعيَيْن .
ثم يقول الحق سبحانه عن هارون وموسى أنهما قالا : { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً }
(1/5668)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
فهذه هي العِلّة في مشاركة هارون لأخيه في مهمته ، لا طلباً لراحة نفسه ، وإنما لتتضافر جهودهما في طاعة الله ، وتسبيحه وذِكْره .
والتسبيح : تقديس الله وتنزيهه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً ، ذاتاً . فلا ذات مثل ذاته تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] لا في الذات ، ولا في الصفات ولا في الأفعال ، فلا تقل : إن سَمْع الله كسَمْعك ، أو أن بصره تعالى كبصرك ، أو أن فِعْله كفِعلْك .
والمعنى : نُسبِّحك ونُقدِّسك تقديساً يرفعك إلى مستوى الألوهية الثابتة لك ، فلا نزيد شيئاً من عندنا .
وقوله : { نُسَبِّحَكَ كَثِيراً } [ طه : 33 ] أي : دائماً ، فكأن التسبيح يُورِث المسبِّح لذة في نفسه ، والطاعة من الطائع تُورثه لذة في نفسه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " . . . وجُعِلتْ قرّة عيني في الصلاة " .
وكان صلى الله عليه وسلم " إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة " .
(1/5669)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
فأنت قيُّوم علينا ، مُطلع على أفعالنا ، أنؤدّيها على الوجه الأكمل ، أم نُقصِّر فيها؟
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى }
(1/5670)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
سُؤْل : أي : الشيء المسئول مثل ( خُبز ) أي : مخبوز ، فالمراد : أعطيناك ما سألتَ ، بل وأعطيناك قبل أن تسأل ، بل وقبل أن تعرف كيف تسأل : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى }
(1/5671)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
( مّننا ) من المنة ، وهي العطاء بلا مقابل على خلاف الجزاء ، وهو العطاء مقابل عمل { مَرَّةً أخرى } [ طه : 37 ] إذن : هناك مرة أولى ، لكن المراد بالمنّة هنا ما حدث من الوحي إلى أم موسى وهو صغير ، فهي في الحقيقة المنّة الأولى إنما قال هنا { مَرَّةً أخرى } [ طه : 37 ] هذا ترتيب ذكري حَسْب ذِكْر الأحداث .
فمتى كانت هذه المنّة؟
(1/5672)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
إذ : يعني وقت أنْ أوحينا إلى أمك ما يُوحَى . فكانت هذه هي المنة الأولى عليك حين وُلدت في عام ، يقتل فيه فرعون الذكور ، فمنَّنا عليك لما قلنا لأمك : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] .
ومعنى { مَا يوحى } [ طه : 38 ] أي : أمراً عظيماً لك أن تقدره أنت فتذهب فيها نفسك كل مذهب ، كما جاء في قوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] ويُفصِّل الحق سبحانه هذا الوحي لأم موسى ، فيقول تعالى : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت }
(1/5673)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
هذا ما أوحينا به إلى أم موسى .
واليمُّ : البحر الكبير ، سواء أكان مالحاً أم عَذْباً ، فلما تكلّم الحق سبحانه عن فرعون قال : { فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم } [ الأعراف : 136 ] والمراد : البحر الأحمر ، أما موسى فقد وُلِد في مصر وأُلْقِي تابوته في النيل ، وكان على النيل قصر فرعون .
وبالله . . أي أم هذه التي تُصدِّق هذه الكلام : إنْ خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليم؟ وكيف يمكن لها أن تنقذه من هلاك مظنون وترمي به في هلاك مُتيقّن؟
ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر الله ، ولم تتراجع ، وهذا هو الفرق بين وارد الرحمن ووارد الشيطان ، وارد الرحمن لا تجد النفس له ردّاً ، بل تتلقاه على أنه قضية مُسلَّمة ، فوارد الشيطان لا يجرؤ أن يزاحم وارد الرحمن ، فأخذتْ الأم الوليد وأَلْقَتْه كما أوحى إليها ربها .
وتلحظ في هذه الآيات أن آية القصص لم تذكر شيئاً عن مسألة التابوت : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] هكذا مباشرة .
قالوا : لأن الحق سبحانه تكلم عن الغاية التي تخيف ، وهي الرَّمي في اليم ، وطبيعي في حنان الأم أنْ تحتال لولدها وتعمل على نجاته ، فتصنع له مثل هذا التابوت ، وتُعِدّه إعداداً مناسباً للطَفْو على صفحة الماء .
فالكلام هنا لإعداد الأم وتهيئتها لحين الحادثة ، وفَرْق بين الخطاب للإعداد قبل الحادثة والخطاب حين الحادثة ، فسوف يكون للأمومة ترتيب ووسائل تساعد على النجاة ، صنعتْ له صندوقاً جعلت فيه مَهْداً ليّناً واحتاطتْ للأمر ، ثم يطمئنها الحق سبحانه على ولدها : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } [ القصص : 7 ] فسوف نُنجيه؛ لأن له مهمة عندي { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] .
فإذا ما جاء وقت التنفيذ جاء الأمر في عبارات سريعة متلاحقة : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } [ طه : 39 ] .
لذلك ، تجد السياق في الآية الأولى هادئاً رتيباً يناسب مرحلة الإعداد ، أما في التنفيذ فقد جاء السياق سريعاً متلاحقاً يناسب سرعة التنفيذ ، فكأن الحق سبحانه أوحى إاليها : أسرعي إلى الأمر الذي سبق أنْ أوحيتُه إليك ، هذا الكلام في الحبْكة الأخيرة لهذه المسألة .
وقوله تعالى : { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } [ طه : 39 ] أي : تحمله الأمواج وتسير به ، وكأن لديها أوامر أن تُدخِله في المجرى الموصِّل لقصر فرعون .
فعندنا إذن لموسى ثلاثة إلقاءات : إلقاء الرحمة والحنان في التابوت ، وإلقاء التابوت في اليم تنفيذاً لأمر الله ، وإلقاء اليَمِّ للتابوت عند قصر فرعون .
وقوله تعالى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ] ( عَدُو لِي ) أي : لله تعالى؛ لأن فرعون ادعى الألوهية ، ( وَعَدُوٌّ لَهُ ) أي : لموسى؛ لأنه سيقف في وجهه ويُوقفه عند حَدِّه .
وفي الآية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه ، فإذا أراد شيئاً قضاه ، ولو حتى على يد أعدائه وهم غافلون ، فمَنْ يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعُتوه وتقتيله للذكور من أولاد بني إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته ، بل ويُحبه ويجد له قبولاً في نفسه .
(1/5674)
وهل التقطه فرعون بداية ليكون له عَدواً؟ أم التقطه ليكون ابناً؟ كما قالت زوجته آسية : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ القصص : 9 ] .
إذن : كانت محبة ، إلا أنها آلتْ إلى العداوة فيما بعد ، آلتْ إلى أن يكون موسى هو العدو الذي ستُربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويضُ ملكك على يديه؛ لذلك سيقول فرعون : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] .
ومسألة العداوة هذه استغلها المشككون في القرآن واتهموه بالتكرار في قوله تعالى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 39 ] ثم قال في آية أخرى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
والمتأمل في الآيتين يجد أن العداوة في الآية الأولى من جانب فرعون لموسى وربه تبارك وتعالى ، أما العداوة في الآية الثانية فمن جانب موسى لفرعون ، وهكذا تكون العداوة متبادلة ، وهذا يضمن شراستها واستمرارها ، وهذا مُرَاد في هذه القصة .
أمّا إنْ كانت العداوة من جانب واحد ، فلربما تسامح غير العدو وخَجِل العدو فتكون المصالحة . والعداوة بين موسى وفرعون ينبغي أن تكونَ شرسة؛ لأنها عداوة في قضية القِمَّة ، وهي التوحيد .
ولكن ، لماذا لم يُلفِت مجيء موسى على هذه الحالة انتباه فرعون فيسأل عن حكايته ويبحث في أمره؟ إنها إرادة الله التي لا يُعجِزها شيء ، فتحبه زوجة فرعون ، وتقول : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] ؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعدها : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] .
فأحبته آسية امرأة فرعون لما رأته ، وأحبَّه فرعون لما رآه ، وهذه محبة من الله بلا سبب للمحبة؛ لأن المحبة لها أسباب بين الناس ، فتحب شخصاً لأنك تودّه ، أو لأنه قريب لك أو صديق ، أو أسْدى لك معروفاً ، وقد يكون الحب من الله دون سبب من هذه الأسباب ، فلا سببَ له إلا إرادة الله .
فمعنى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] وليس فيك ما يُوجب المحبة ، وليس لديك أسبابها ، خاصة وقد كان موسى عليه السلام أسمر اللون ، أجعد الشعر ، أقنى الأنف ، أكتف ، وكأن هذه الخِلْقة جاءت تمهيداً لهذه المحبة ، وإثباتاً لإرادة الله التي طوَّعَتْ فرعون لمحبة موسى ، كما قال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] .
وهكذا ، حوَّل الله قلب فرعون ، وأدخل فيه محبة موسى ليُمرِّر هذه المسألة على هذا المغفل الكبير ، فجعله يأخذ عدوه ويُربِّيه في بيته ، ولم يكن في موسى الوسامة والجمال الذي يجذب إليه القلوب .
ثم يقول سبحانه : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] أي : تُربَّى على عَيْن الله وفي رعايته ، وإنْ كان الواقع أنه يُربّى في بيت فرعون ، فالحق تبارك وتعالى يرعاه ، فإنْ تعرَّض لشيء في التربية تدخّل ربُّه عز وجل ليعلمه ويُربّيه .
(1/5675)
ومن هذه المواقف أن فرعون كان يجلس وزوجته آسية ، ومعهما موسى صغير يلعب ، فإذا به يمسك بلحية فرعون ويجذبها بشدة أغاظته ، فأمر بقتله ، فتدخلّت امرأته قائلة : إنه ما يزال صغيراً لا يفقه شيئاً ، إنه لا يعرف التمرة من الجمرة .
فأتوا له بتمرة وجمرة ليمتحنوه ، فأزاح الله يده عن التمرة إلى الجمرة لِيُفوّت المسألة على هذا المغفل الكبير ، بل وأكثر من هذا ، فأخذها موسى رغم حرارتها حتى وضعها في فمه ، فلدغتْ لسانه ، وسبَّبت له هذه العُقْدة في لسانه التي اشتكى منها فيما بعد .
وكأن الحق تبارك وتعالى يُطمئِن نبيه موسى عليه السلام : لا تخف ، فأنت تحت عيني وفي رعايتي ، وإنْ فعلوا بك شيئاً سأتدخل ، وفي آية أخرى قال : { واصطنعتك لِنَفْسِي } [ طه : 41 ] فأنا أرعاك وأحافظ عليك؛ لأن لك مهمة عندي .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِذْ تمشي أُخْتُكَ }
(1/5676)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
إذن : كان لأخت موسى دور في قصته ، كما قال تعالى في موضع آخر : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ القصص : 11 ] .
والمراد : تتبعيه بعد أنْ علمتِ نجاته من اليمّ ، فتتبعته ، وعرفتْ أنه في بيت فرعون ، ثم حرَّم الله عليه المراضع ، فكان يعَافُ المرضعات ، وهنا تدخلت أخته لتقول : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } [ طه : 40 ] وهذا الترتيب لا يقدر عليه إلا الله .
ويقول تعالى : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ } [ طه : 40 ] حين نستقرىء مادة ( رجع ) في القرآن نجدها تأتي مرة لازمة كما في : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } [ الأعراف : 150 ]
وتأتي متعدية كما في : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ } [ طه : 40 ] وفي : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } [ التوبة : 83 ] .
والفَرْق بين اللازم والمتعدِّي أن اللازم رجع بذاته ، أمّا المتعدي فقد أرجعه غيره ، فالرجوع أن تصير إلى حال كنتَ عليها وتركتها ، فإنْ رجعت بنفسك دون دوافع حملتْك على الرجوع فالفعل لازم ، فإنْ كانت هناك أمور دفعتْك للرجوع فالفعل مُتعَدٍّ .
ومثل رجعك : أرجعك ، إلا أن رجعك : الرجوع في ظاهر الأمر منك من دون دوافع منك . وأرجعك : أي رَغْماً عن إرادتك .
وقوله : { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } [ طه : 40 ] تقرُّ العين أي : تثبت؛ لأن التطلعات إما أن تكون معنوية أو حِسِّية ، فالإنسان لديه أمانٍ يتطلع إلى تحقيقها ، فإذا ما تحققت نقول : لم يعُدْ يتطلع إلى شيء .
وكذلك في الشيء الحسِّيِّ ، فالعرب يقولون للشيء الجميل : قيد النواظر . أي : يقيد العين فلا تتحول عنه؛ لأن الإنسان لا يتحول عن الجميل إلا إذا رأى ما هو أجمل ، وهذا ما يسمونه قُرَّة العين . يعني الشيء الحسن الذي تستقر عنده العين ، ولا تطلب عليه مزيداً في الحُسْن .
ثم يقول تعالى : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [ طه : 40 ] وهذه مِنَّة أخرى من مِنَن الله تعالى على موسى عليه السلام ، فمِنَنُ الله عليه كثيرة كما قال : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } [ طه : 37 ] فهي مرة ، لكن هناك مرات .
ومسألة القتل هذه وردتْ في قوله تعالى : { وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } [ القصص : 15 ] .
وخرج من المدينة خائفاً يترقب الناس لئلا يلحقوا به فيقتلوه ، وهذا معنى { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } [ طه : 40 ] أي : من القتل ، أو من الإمساك بك { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [ طه : 40 ] أي : عرَّضناك لمحن كثيرة ، ثم نجيناك منها ، أولها : أنك وُلِدْت في عام يُقتل فيه الأطفال ، ثم رمتْكَ أمك في اليم ، ثم ما حدث منه مع فرعون لما جذبه من ذقنه .
ثم يقول تعالى : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } [ طه : 40 ] ذكر الله تعالى مدة مُكْثه في أهل مدين على أنها من مننه على موسى مع أنه كان فيها أجيراً ، وقال عن نفسه :
(1/5677)
{ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
وفي مدين تعرّف على شعيب عليه السلام ، وتزوج من ابنته وأنجب منها ولداً ، وموسى في هذا كله غريب عن وطنه ، بعيد عن أمه ، فلما أراد الله له الرسالة شَوَّقه إلى وطنه ورؤية أمه ، وقَدَّر له العودة؛ فقال تعالى : { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } [ طه : 40 ] .
أي : على قَدَر من اصطفائك ، فقَدَر الله هو الذي حرَّك في قلبك الشوق للعودة ، وحملك على أنْ تمشي في الطريق غير المأهول ، وتتحمل مشقة البرد وعناء السفر ، قَدَر الله هو الذي حرّك فيك خاطر الشوق لأمك ، ففي طريق العودة وفي طُوىً أنت على موعد مع الاصطفاء والرسالة .
لذلك ، فإن الشاعر الذي مدح الخليفة قال له :
جاء الخِلاَفَةَ أوْ كانتْ لَهُ قَدَراً ... كَما أتَى ربَّه مُوسَى عَلَى قَدَرِ
ثم يقول الحق سبحانه لموسى : { واصطنعتك لِنَفْسِي }
(1/5678)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
أي : نجّيْتك وحافظت عليك؛ لأنني أُعِدُّك لمهمة عندي ، هي إرسالك رسولاً بمنهجي إلى فرعون وإلى قومك .
وقد حاول العلماء إحصاء المطالب التي طلبها موسى عليه السلام من ربه فوجدوها ثمانية : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي * واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشدد بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } [ طه : 2534 ] .
ثم وجدوا أن الله تعالى أعطاه ثمانية أخرى دون سؤال منه : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني * إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } [ طه : 3840 ] .
فإنْ كان موسى عليه السلام قد طلب من ربه ثمانية مطالب فقد أعطاه ربه عز وجل ثمانية أخرى دون أن يسألها موسى؛ ليجمع له بين العطاء بالسؤال ، والعطاء تكرُّماً من غير سؤال؛ لأنك إنْ سألت الله فأعطاك دَلَّ ذلك على قدرته تعالى في إجابة طلبك ، لكن إنْ أعطاك بدون سؤال منك دَلَّ ذلك على محبته لك .
ثم يقول الحق سبحانه : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ }
(1/5679)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{ بِآيَاتِي } [ طه : 42 ] الآيات هنا هي المعجزات الباهرات التي تبهر فرعون ، فلن تذهبا مُجرَّديْن ، بل معكما دليل على صِدْق الرسالة التي تحملونها إليه : { لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [ طه : 42 ] من التَّواني أي : الفتور أو التقصير؛ لأنني أعددتكما الإعداد المناسب لهذه المهمة الشاقة ، فإياكم والتهاون فيها ، فإنْ حدث منكما تقصير فهو تقصير في الأداء ، لا في الإعداد .
ومعنى : { فِي ذِكْرِي } [ طه : 42 ] أي : لأكُنْ دائماً على بالكما ، فأنا الذي أرسلتُ ، وأنا الذي أيدتُ بالمعجزات ، وأنا الذي أرعاكما وأرقبكما ، وأنا الذي سأجازيكما فلا يَغبْ ذلك عنكما .
ثم يقول الحق سبحانه : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ }
(1/5680)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
وهل هناك طغيان فوق ادعاء أنه رَبٌّ؟ وقد قال تعالى في موضع آخر : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } [ يونس : 83 ] والمسرف : هو الذي يتجاوز الحدود ، وهو قد تجاوز في إسرافه وادَّعى الألوهية ، فعَلاَ في الأرض علوَّ طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين .
(1/5681)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
هذا لفرعون بعد أنْ طغى ، ومن الذي حكم عليه بالطغيان؟ حين تحكم أنت عليه بالطغيان فهو طغيان يناسب قدرات وإمكانات البشر ، أمّا أن يقول عنه الحق تبارك وتعالى { إِنَّهُ طغى } [ طه : 43 ] فلا بُدَّ أنه تجاوز كل الحدود ، وبلغ قمة الطغيان ، فربُّنا هو الذي يقول .
فقوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] فلا بُدَّ أنْ تعطيه فُسْحة كي يرى حُجَجك وآياتك ، ولا تبادره بعنف وغِلْضة ، وقالوا : النصح ثقيل ، فلا ترسله جبلاً ، ولا تجعله جدلاً ، ولا تجمع على المنصوح شدتين : أنْ تُخرِجه مما ألف بما يكره ، بل تُخرِجه مما ألِف بما يحب .
وهذا منهج في الدعوة واضح وثابت ، كما في قوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] .
لأنك تخلعه مما اعتاد وألف ، وتُخرجه عَمَّا أحبَّ من حرية واستهتار في الشهوات والملذات ، ثم تُقيِّده بالمنهج ، فليكُنْ ذلك برفق ولُطْف .
وهذه سياسة يستخدمها البشر الآن في مجال الدواء ، فبعد أن كان الدواء مُرّاً يعافُه المرضى ، توصلوا الآن إلى برشمة الدواء المر وتغليفه بطبقة حلوة المذاق حتى تتم علمية البَلْع ، ويتجاوز الدواء منطقة المذاق .
وكذلك الحال في مرارة الحق والنصيحة ، عليك أنْ تُغلِّفها بالقول اللين اللطيف .
وقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] لعل : رجاء ، فكيف يقول الحق تبارك وتعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] وفي عِلْمه تعالى أنه لن يتذكَّر ولن يخشى ، وسيموت كافراً غريقاً؟
قالوا : لأن الحق سبحانه يريد لموسى أن يدخل على فرعون دخول الواثق من أنه سيهتدي ، لا دخولَ اليائس من هدايته ، لتكون لديه الطاقة الكافية لمناقشته وعَرْض الحجج عليه ، أمّا لو دخل وهو يعلم هذه النتيجة لكان محبطاً لا يرى من كلامه فائدة ، كما يقولون ( ضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانه ) .
فالحق سبحانه يعلم ما سيكون من أمر فرعون ، لكنْ يريد أنْ يقيمَ الحجة عليه { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] .
وقوله : { يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] كأن الإنسان إذا ما ترك شراسة تفكيره ، وغُمة شهواته في نفسه ، لا بُدَّ أنْ يهتدي بفطرته إلى وجود الله أو ( يتذكر ) عالم الذَّر ، والعهد الذي أخذه الله عليه يوم أنْ قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] .
والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهوِّدانه ، أو يُنصِّرانه ، أو يُمجِّسانه " .
فلو تذكّر الإنسان ، وجرَّد نفسه من هواها لا بُدَّ له أنْ يهتدي إلى وجود الله ، لكن الحق سبحانه وتعالى جعل للغفلة مجالاً ، وأرسل الرسل للتذكير؛ لذلك قال : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [ النساء : 165 ] ولم يقل : بادئين .
أمّا مسألة الإيمان بالله فكان ينبغي أن تكون واضحة معروفة للناس أن هناك إيماناً بإله خالق قادر فقط ينتظرون ما يطلبه منهم وما يتعبّدهم به .
(1/5682)
ماذا تفعل؟ وماذا تترك؟ وهذه هي مهمة الرسل .
وسبق أن ضربنا مثلاً برجل انقطعت به السُّبل في صحراء دَويَّة ، لا يجد ماءً ولا طعاماً ، حتى أشرف على الهلاك ، ثم غلبه النوم فنام ، فلما استيقظ إذا بمائدة عليها ألوان الطعام والشراب . بالله قبل أنْ يمد يده للطعام ، ألاَ يسأل : مَنْ أتى إليه به؟
وهكذا الإنسان ، طرأ على كون مُعَدٍّ لاستقباله : أرض ، وسماء ، وشمس ، وقمر ، وزرع ، ومياه ، وهواء . أليس جديراً به أن يسأل : من الذي خلق هذا الكون البديع؟ فلو تذكرتَ ما طرأتَ عليه من الخير في الدنيا لا نتهيتَ إلى الإيمان .
فمعنى : { يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] أي : النعم السابقة فيؤمن بالمنعم { أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] يخاف العقوبة اللاحقة ، فيؤمن بالله الذي تصير إليه الأمور في الآخرة .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى عنهما : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ }
(1/5683)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
الخوف : شعور في النفس يُحرِّك فيك المهابة من شيء ، ومِمَّ يخافان؟ { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [ طه : 45 ] يفرط : أي : يتجاوز الحد . . ومضادها : فرَّط يعني : قصّر في الأمر؛ لذلك يقولون : الوسط فضيلة بين إفراط وتفريط .
ومَنْ أفرط يقولون : فَرَس فارط عندما يسبق في المضمار . ويقولون : حاز قَصْب السبق ، وكانوا يضعون في نهاية المضمار قصبة يركزونها في الأرض ، والفارس الذي يلتقطها أولاً هو الفائز ، والفرس فارط يعني : سبق الحدِّ المعمول له ، لا مجرد أن يسبق غيره .
لذلك عندما يُحدِّثنا القرآن عن الحدود ، يقول مرة : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] أي : إياك أن تسبق الحد الذي وُضِع لك ومرة أخرى يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] ففي المحلّلات قال { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] قِفُوا على الحدِّ لا تسبقوه ، وفي المحرمات قال { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] لأنك لو اقتربتَ منها وقعتَ فيها .
فالمعنى إذن { يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [ طه : 45 ] يتجاوز الحدّ ، وربما عاجلنا بالقتل قبل أن نقول شيئاً فيسبق قتلُه لنا كلامنا له .
وقوله تعالى : { أَوْ أَن يطغى } [ طه : 45 ] فلا يكتفي بقتلنا ، بل ويخوض في حَقِّ ربنا ، أو يقول كلاماً لا يليق ، كما سبق له أن ادَّعى الألوهية .
ومن واجب الدعاة ألاَّ يَصِلوا مع المدعوين إلى درجة أن يخوضوا في حقِّ الله تبارك وتعالى؛ لذلك فالحق سبحانه يُؤدِّب المؤمنين به بأدب الدعوة في مجابهة هؤلاء فيقول : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ }
(1/5684)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
أي : لن أسلمكما ولن أترككما ، وأنا معكما أسمع وأرى؛ لأن الحركة إما قول يُسمع ، أو فعل يُرى ، فاطمئنّا ، لأننا سنحفظكما ، وقد قال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171173 ] .
وهذه سُنة من سُنَن الله تعالى ، فإنْ رأيتَ جنداً من الجنود منسوبين لله تعالى وهُزِمُوا ، فاعلم أنهم انحلوا عن الجندية لله ، وإلا فوعْد الله لجنوده لا يمكن أن يتخلف أبداً .
والدليل على ذلك ما حدث للمسلمين في أُحُد ، صحيح أن المسلمين هُزِموا في هذه الغزوة؛ لأنهم انحرفوا عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه عندما قال للرماة : " لاتتركوا أماكنكم على أيّ حال من الأحوال " لكن بمجرد أنْ رأوا بوادر النصر تركوا أماكنهم ، ونزلوا لجَمْع الغنائم ، فالتف من خلفهم خالد بن الوليد وألحق بهم الهزيمة ، وإن انهزم المسلمون فقد انتصر الإسلام؛ لأنهم لما خالفوا أوامر رسولهم انهزموا ، وبالله لو انتصروا مع المخالفة أكان يستقيم لرسول الله أمر بعد ذلك؟
ففي الآية التي معنا يطمئنهم الحق تبارك وتعالى حتى لا يخافا ، فقدرة الله ستحفظهما ، وسوف تتدخل إنْ لزمَ الأمر كما تدخلْت في مسألة التمرة والجمرة ، وهو صغير في بيت فرعون .
ثم يقول لهما الحق سبحانه وتعالى : { فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ }
(1/5685)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
ونلحظ هنا أنهما لم يواجهاه بما ادعاه من الألوهية مرة واحدة ، إنما أشارا إلى مقام الربوبية { رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] وهذه هِزّة قوية تزلزل فرعون ، ثم تحوّلا إلى مسألة أخرى ، وهي قضية بني إسرائيل ، وكان فرعون يُسخِّرهم في خدمته ويُعذِّبهم ويشقّ عليهم .
{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } [ طه : 47 ] فقد جئنا لنأخذ أولادنا وننقذهم من هذا العذاب { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ } [ طه : 47 ] أي : معجزة { مِّن رَّبِّكَ } [ طه : 47 ] فأعادوا عليه هذه الكلمة مرة أخرى .
وقد علّمهما الحق سبحانه كيف يدخلون على فرعون؟ وكيف يتحدثون معه في أمر لا يمسّ كبرياءه وألوهيته .
وبنو إسرائيل هم البقية الباقية من يوسف عليه السلام وإخوته ، لما جاءوا إلى مصر في أيام العزيز الذي قرَّب يوسف وجعله على خزائن الأرض ، كما قال تعالى في قصة يوسف : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 5455 ] .
وقوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] وهذه ليست تحية؛ لأنك تُحيي مَنْ كان مُتبعاً للهدى ، وتدعو له بالسلام ، فإنْ لم يكُنْ كذلك فهي نهاية للكلام .
لذلك كان يكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى المقوقس عظيم القبط ، وإلى هرقل عظيم الروم ، يقول : " اسلم تسلم ، يؤتِكَ الله أجرك مرتين ، فإنْ توليت فإنما عليك إثم الأريسيين والسلام على مَنِ اتبع الهدى " .
قال موسى وهارون لفرعون : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ }
(1/5686)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
فأعطاه هنا القضية النهائية : جاءنا في الوحي أن مَنْ كذّب وتولّى فله العذاب ، ومعنى { أُوحِيَ إِلَيْنَآ } [ طه : 48 ] أي : من ربك .
فلما سمع فرعون هذه المقولة أحب أنْ يدخل معهما في متاهات يشغلهم بها ، ويطيل الجدل ليُرتِّب أفكاره ، وينظر ما يقول : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى }
(1/5687)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
ووجّه الخطاب إلى الرئيس الأصلي في هذه المهمة ، وهو موسى عليه السلام .
(1/5688)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
معنى { ا أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } [ طه : 50 ] أي : كل ما في الوجود ، خلقه الله لمهمة ، فجاء خَلْقه مناسباً للمهمة التي خُلِق لها { ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] أي : دلّ كل شيء على القيام بمهمته ويسّره لها .
والحق سبحانه أعطى كل شيء ( خَلْقَهُ ) الخَلْق يُطلَق ، ويُراد به المخلوق ، فالمخلوق شيء لا بُدَّ له من مادة ، لا بُدَّ أن يكون له صورة وشكل ، له لون ورائحة ، له عناصر ليؤدي مهمته .
فإذا أراد الله سبحانه خَلْق شيء يقْدِر له كل هذه الأشياء فأمدَّ العين كي تبصر ، والأنف كي يشم ، واللسان كي يتذوق ، ثم هدى كل شيء إلى الأمر المراد به لتمام مهمته ، بدون أي تدخّل فيه من أحد .
وإذا كان الإنسان ، وهو المقدور للقادر الأعلى يستطيع أن يصنع مثلاً القنبلة الزمنية ، ويضبطها على وقت ، فتؤدي مهمتها بعد ذلك تلقائياً دون اتصال الصانع بها .
فالحق سبحانه خلق كل شيء وأقدره على أنْ يُؤدِّي مهمته على الوجه الأكمل تأدية تلقائية غريزية ، فالحيوانات التي نتهمها بالغباء ، ونقول عنها : " بهائم " هي في الحقيقة ليست كذلك ، وقد أعطانا الحق سبحانه وتعالى صورة لها في مسألة الغراب الذي بعثه الله ليُعلِّم ولد آدم كيف يواري سوءة أخيه كما قال سبحانه : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } [ المائدة : 31 ] .
فكيف صنع الغراب هذا الصنيع؟ صنعة بالغريزة التي جعلها الله فيه ، ولو تأملتَ الحمار الذي يضربون به المثل في الغباء حين تريده أنْ يتخطى ( قناة ) مثلاً ، تراه ينظر إليها ويُقدِّر مسافتها ، فإن استطاع أنْ يتخطاها قفز دون تردد ، وإنْ كانت فوق إمكانياته تراجع ، ولم يُقْدِم مهما ضربته أو أجبرته على تخطيها ، هذه هي الغريزة الفِطْرية .
لذلك تجد المخلوقات غير المختارة لا تخطىء؛ لأنها محكومة بالغريزة ، وليس لها عقل يدعو إلى هوىً ، وليس لها اختيار بين البدائل مثل العقل الإلكتروني الذي يعطيك ما أودعته فيه لا يزيد عليه ولا ينقص ، أما الإنسان فيمكن أنْ يُغيّر الحقيقة ، ويُخفِي ما تريده منه ، لأن له عقلاً يفاضل : قُلْ هذه ، ولا تقُلْ هذه ، وهذا ما ميّز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات .
كذلك ، ترى الحيوان إذا شبع يتمنع عن الطعام ولا يمكن أن تؤكله عود برسيم واحد مهما حاولتَ ، إنما الإنسان صاحب العقل والهوى يقول لك : ( أرها الألوان تريك الأركان ) ، فلا مانع بعد أن أكل حتى التخمة من تذوُّق أصناف شتّى من الحلوى والفاكهة وخلافه .
وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه وتعالى أنه : { ا أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .
(1/5689)
خذ مثلاً الأذن ، وكيف هي محكمة التركيب مناسبة لتلقي الأصوات ، ففي الأذن من الخارج تجاعيد وتعاريج تتلقى الأصوات العالية ، فتُخفّف من حِدّتها حتى تصل إلى الطبلة الرقيقة هادئة ، وإلاَّ خرقتها الأصوات وأصَمّتها ، وكذلك جعلها لله لِصدِّ الرياح حتى إذا هبت لم تجد الأذن هكذا عارية فتؤذيها .
وكذلك العَيْن ، كم بها من آيات لله ، فقد خلقها الله بقدر ، من هذه الآيات أن حرارتها إنْ زادت عن 12 درجة تفسد ، وأرنبة الأنف إنْ زادت عن 9 درجات لا تؤدي مهمتها ، مع أن في الجسم عضواً حرارته 40 درجة هو الكبد ، والحرارة الكلية للإنسان 37 درجة ، تكون ثابتة في المناطق الباردة حيث الجليد كما هي في المناطق الحارة ، لا ترتفع ولا تنخفض إلا لعِلَّة أو آفة في الجسم .
إذن : كل شيء في الوجود خلقه الله بقدر وحكمة وكيفية لأداء مهمته ، كما قال في آية أخرى : { الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 23 ] .
اللسان مثلاً جعل الله به حَلَمات متعددة ، كل واحدة منها تتذوّق طَعْماً معيناً ، فواحدة للحلو ، وواحدة للمُرِّ ، وواحدة للحريف ، وهكذا ، وجميعها في هذه المساحة الضيقة متجاورة ومتلاصقة بقَدْر دقيق ومُعْجز .
الأنف وما فيه من مادة مُخاطية عالقة لا تسيل منك ، وشعيرات دقيقة ، ذلك لكي يحدث لهواء الشهيق عملية تصفية وتكييف قبل أن يصل إلى الرئتين؛ لذلك لا ينبغي أنْ نقصَّ الشعيرات التي بداخل الأنف؛ لأن لها مهمة .
عضلة القلب وما تحتويه من أُذَيْن وبُطَيْن ، ومداخل للدم ، ومخارج محكمة دقيقة تعمل ميكانيكياً ، ولا تتوقف ولا تتعطل لمدة 140 أو 120 سنة ، تعمل تلقائياً حتى وأنت نائم ، فأيّ آلة يمكن أنْ تُؤدِّي هذه المهمة؟
والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أَخْذ بني إسرائيل ، وإنقاذهم من طغيان فرعون ، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية ، أما أصل مهمة موسى فكان : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } [ طه : 47 ] .
والحق سبحانه حين يعرض قضية الإيمان يعرضها مبدوءة بالدليل دليل البدء الذي جاء في قوله تعالى : { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] لأن ، فرعون الذي ادعى الألوهية لا بُدَّ أن يكون له مألوهون ، وهم خَلْق مثله ، وهو يعتزّ بملكه وماله من أرض مصر ونيلها وخيراتها حتى قال :
{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي } [ الزخرف : 51 ] .
فأراد الحق سبحانه وتعالى أنْ يرد عليه : ألَكَ شيء في خَلْق هؤلاء المألوهين لك؟
وما أشبهَ موقف فرعون أمام هذه الحجة بموقف النمروذ أمام نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما قال له : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .
فلم يجد النمروذ إلا الجدل والسفسطة ، فلجأ إلى حيلة المفلسين ، وجاء برجلين فقال : أنا أحكم على هذا بالموت وأعفو عن هذا؛ لذلك لما أحسَّ إبراهيم عليه السلام منه المراوغة والجدال نقله إلى مسألة لا يستطيع منها فكاكاً .
(1/5690)
{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ البقرة : 258 ] .
إذن : فالردُّ إلى قضية الخلق الأول دليل لا يمكن لأحد ردُّه ، حتى فرعون ذاته لم يدَّعِ أنه خلق شيئاً ، إنما تجبّر وتكبّر وادّعى الألوهية فقط على مألوه لم يخلقه ، ولم يخلق نفسه ، ولم يخلق الملْك الذي يعتز به .
ولما كان دليل الخلق الابتدائي هو الدليل المقنع ، لم يكن لفرعون رَدٌّ عليه؛ لذلك لما سمع هذه المسألةَ { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] لم يستطع أنْ ينقضَ هذا الدليل ، فأراد أنْ يُخرِج الحوار من دليل الجد إلى مسألة أخرى يهرب إليها ، مسألة فرعية لا قيمة لها : { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى }
(1/5691)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
أي : ما شأن الأمم السابقة؟ لكن ما دَخْل القرون الأولى بما نتكلّم فيه؟ كلمة البال : هو الفكر ، نقول : خطر ببالي . أي : بفكري ، ولا يأتي في الفكر وبُؤْرة الشعور إلا الأمر المهم .
لكن ، سرعان ما أحسَّ موسى بمراوغة فرعون ، ومحاولة الهرب من الموضوع الأساسي فسَدَّ عليه الباب .
(1/5692)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
فهذه المسألة ليست من اختصاصي؛ لأن الذي يُسأل عن القرون الأولى هو الذي يُجازيها ، وينبغي أنْ يعلم حالها ، وما هي عليه من الإيمان أو الكفر؛ لِيُجازيها على ذلك ، إذن : هذا سؤال لا موضعَ له ، إنه مجرد هَزْل ومهاترة وهروب ، فلا يعلم حال القرون الأولى إلا الله؛ لأن سبحانه هو الذي سَيُجازيها .
ومعنى { فِي كِتَابٍ } [ طه : 52 ] أي : سجّلها في كتاب ، يطلع عليه الملائكة المدبرات أمراً؛ ليمارسوا مهمتهم التي جعهلم الله لها ، وليس المقصود من الكتاب أن الله يطّلع عليه ويعلم ما فيه؛ لأنه سبحانه { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] .
ثم أرجعه موسى إلى القضية الأولى قضية الخلق ، ولكن بصورة تفصيلية : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً }
(1/5693)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
مَهْداً : من التمهيد وتوطئة الشيء ليكون صالحاً لمهمته ، كما تفعل في فراشك قبل أن تنام ، ومن ذلك يسمى فراش الطفل مَهْداً؛ لأنك تُمهِّده له وتُسوّيه ، وتزيل عنه ما يقلقه أو يزعجه ليستقر في مَهْده ويستريح .
ولا بُدَّ لك أنْ تقوم له بهذه المهمة؛ لأنه يعيش بغريزتك أنت ، إلا أن تتنبه غرائزه لمثل هذه الأمور ، فيقوم بها بنفسه؛ لذلك لزمك في هذه الفترة رعايته وتربيته والعناية به .
فمعنى { جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } [ طه : 53 ] أي : سوَّاها ومهَّدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها .
وليس معنى مهّدها جعلها مستوية ، إنما سوّاها لمهمتها ، وإلا ففي الأرض جبال ومرتفعات ووديان ، وبدونها لا يستقيم لنا العيش عليها ، فتسويتها تقتضي إصلاحها للعيش عليها ، سواء بالاستواء أو التعرّج أو الارتفاع أو الانخفاض .
فمثلاً في الأرض المستوية نجد الطرق مستوية ومستقيمة ، أما في المناطق الجبلية فهي مُتعرّجة مُلتوية؛ لأنها لا تكون إلا كذلك ، ولها ميزة في التوائها أنك لا تواجه الشمس لفترة طويلة ، بل تراوح بين مواجهة الشمس مرة والظل أخرى .
وسبق أن ضربنا مثلاً بالخطّاف الذي نصنعه من الحديد ، فلو جعلناه مستقيماً ما أدَّى مهمته ، إذن : فاستقامته في كَوْنه مُعْوجاً فتقول : سويته ليؤدي مهمته ، ولو كان مستقيماً ما جذب الشيء المراد جَذْبه به .
إذن : نقول التسوية : جَعْل الشيء صالحاً لمهمته ، سواء أكان بالاعتدال أو الاعوجاج ، سواء أكان بالأمْت أو بالاستقامة .
ثم يقول تعالى : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [ طه : 53 ] أي : طرقاً ممهدة تُوصّلكم إلى مهماتكم بسهولة .
سلك : بمعنى دخل ، وتأتي متعدية ، تقول : سلك فلان الطريق . وقال تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] فالمخاطبون مَسْلوكون في سقر يعني : داخلون ، وقال : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [ القصص : 32 ] أي : أدْخِلْها .
فتعديها إلى المفعول الداخل أو للمدخول فيه ، فقوله : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [ طه : 53 ] متعدية للمدخول فيه أي : عديت المخاطب إلى المدخول فيه ، فأنتم دخلتم ، والسُّبل مدخول فيه . إذن : المفعول مرة يكون المسلوك ، ومرة يكون المسلوك فيه .
وحينما تسير في الطرق الصحراوية تجدها مختلفة على قَدْر طاقة السير فيها ، فمنها الضيّق على قَدْر القدم للشخص الواحد ، ومنها المتسع الذي تسير فيه الجمال المحمّلة أو السيارات ، فسلك لكم طرقاً مختلفة ومتنوعة على قَدْر المهمة التي تؤدونها .
ثم يقول تعالى : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى } [ طه : 53 ] .
وهذه أيضاً من مسألة الخَلْق التي لا يدعيها أحد؛ لأنها دَعْوى مردودة على مدعيها ، فأنت يا مَنْ تدّعي الألوهية أخرِجْ لنا شيئاً من ذلك ، إرِنَا نوعاً من النبات فلن يقدر ، وبذلك لزمتْه الحجة .
كما أن إنزال الماء من السماء ليس لأحد عمل فيه ، لكن عندما يخرج النبات قد يكون لنا عمل مثل الحَرْث والبَذْر والسَّقْي وخلافه ، لكن هذا العمل مستمد من الأسباب التي خلقها الله لك؛ لذلك لما تكلم عن الماء قال ( أنْزَلَ ) فلا دَخْل لأحد فيه ، ولما تكلم عن إخراج النبات قال ( أَخْرَجْنَا ) لأنه تتكاتف فيه صفات كثيرة ، تساعد في عملية إخراجه ، وكأن الحق تبارك وتعالى يحترم عملك السَّببي ويُقدِّره .
(1/5694)
اقرأ قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 6364 ] فأثبت لهم عملاً ، واحترم مجهودهم ، إنما لما حرثتم من أين لكم بالبذور؟ فإذا ما تتبعت سِلْسِلة البذور القبلية لانتهتْ بك إلى نبات لا قَبْلَ له . كما لو تتبعتَ سلسلة الإنسان لوجدتها تنتهي إلى أب ، لا أب له إلا مَنْ خلقه .
وأنت بعد أن ألقيتَ البذرة في الأرض وسقيْتها ، ألَكَ حيلة في إنباتها ونُموّها يوماً بعد يوم؟ أأمسكْتَ بها وجذبْتها لتنمو؟ أم أنها قدرة القادر { الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 23 ] .
لذلك يقول تعالى بعدها : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] ، فإنْ كانت هذه صنعتكم فحافظوا عليها .
كما حدث مع قارون حينما قال عن نعمة الله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] .
فما دام الأمر كذلك فحافظ عليه يا قارون بما عندك من العلم ، فلما خسف الله به وبداره الأرض دَلَّ ذلك على كذبه في مقولته .
ونلحظ في قوله تعالى : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] أنه مؤكد باللام ، لماذا؟ لأن لك شبهة عمل في مسألة الزرع ، قد تُطمِعك وتجعلك مُتردّداً في القبول . إنما حينما تكلم عن الماء قال :
{ أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 6870 ] .
هكذا بدون توكيد؛ لأنها مسألة لا يدَّعيها أحد لنفسه .
وقوله تعالى : { أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى } [ طه : 53 ] لم يقل : نباتاً فقط . بل أزواجاً؛ لأن الله تعالى يريد أن تتكاثر الأشياء ، والتكاثر لا بُدَّ له من زوجين : ذكر وأنثى . وكما أن الإنسان يتكاثر ، كذلك باقي المخلوقات؛ لأن الحق تبارك وتعالى خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها ، ولا بُدَّ لهذه الأقوات أن تكفي كل مَنْ يعيش علىهذه الأرض .
فإذا ضاقت الأرض ، ولم تُخرِج ما يكفينا ، وجاع الناس ، فلنعلم أن التقصير مِنّا نحن البشر من استصلاح الأرض وزراعتها؛ لذلك حينما حدث عندنا ضيق في الغذاء خرجنا إلى الصحراء نستصلحها ، وقد بدأت الآن تُؤتي ثمارها ونرى خيرها ، والآن عرفنا أننا كنا في غفلة طوال المدة السابقة ، فتكاثرنا ولم نُكثِّر ما حولنا من الرقعة الزراعية .
والذكر والأنثى ليسا في النبات فحسْب ، بل في كل ما خلق الله : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] .
فالزوجية في كل شيء ، عَلِمته أو لم تعلمه ، حتى في الجمادات ، هناك السالب والموجب والألكترونيات والأيونات في الذرة ، وهكذا كلما تكاثر البشر تكاثر العطاء .
وقوله تعالى : { مِّن نَّبَاتٍ شتى } [ طه : 53 ] شتى مثل : مرضى جمع مريض فشتى جمع شتيت . يعني أشياء كثيرة مختلفة ومتفرقة ، ليست في الأنواع فقط ، بل في النوع الواحد هناك اختلاف .
فلو ذهبت مثلاً إلى سوق التمور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أنواعاً كثيرة ، مختلفة الأشكال والطُّعوم والأحجام ، كلها تحت مُسمّى واحد هو : التمر . وهكذا لو تأملتَ باقي الأنواع من المزروعات .
ثم يذكر الحق تبارك وتعالى العِلَّة في إخراج النبات : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ }
(1/5695)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
( كُلُوا ) : تدل على أن الخالق عز وجل خلق الحياة ، وخلق مقومات الحياة ، وأولها القوت من الطعام والشراب ، وهذه المقوّمات تناسبت فيها الملكية مع الأهمية ، فالقوت أولاً ، ثم الماء ، ثم الهواء .
فأنت تحتاج الطعام وتستطيع أن تصبر عليه شهراً على قَدْر ما يختزن في جسمك من شحم ولحم ، يتغذّى منها الجسم في حالة فقد الطعام؛ لأنك حين تأكل تستهلك جزءاً من الطعام في حركتك ، ثم يُختزن الباقي في صورة دهون هي مخزن الغذاء في الجسم ، فإذا ما نفد الدُّهْن امتصَّ الجسم غذاءه من اللحم ، ثم من العظم ، فهو آخر مخازن الغذاء في جسم الإنسان .
لذلك لما أراد سيدنا زكريا عليه السلام أن يعبر عن ضعفه ، قال : { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } [ مريم : 4 ] .
لذلك تجد كثيراً ما يُتملّك الغذاء؛ لأنك تصبر عليه مدة طويلة تُمكِّنك من الاحتيال في طلبه ، أو تُمكِّن غيرك من مساعدتك حين يعلم أنك محصور جوعان .
أما الماء فلا تصبر عليه أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة؛ لذلك قليلاً ما يُملِّك الماء لأحد .
أما الهواء فلا تصبر عليه أكثر من نفَس واحد ، فمن رحمة الله بعباده ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد ، وإلاّ لو غضب عليك صاحب الهواء ، فمنعه عنك لمتّ قبل أنْ يرضى عنك ، وليس هناك وقت تحتال في طلبه .
وقوله تعالى : { وارعوا أَنْعَامَكُمْ } [ طه : 54 ] لأنها تحتاج أيضاً إلى القُوت ، وقال تعالى في أية أخرى : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 33 ] ثم يصبّ الجميع في أن يكون متاعاً للإنسان الذي سخّر الله له كل هذا الكون .
وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } [ طه : 54 ] .
آيات : عجائب . والنُّهَى : جمع نُهية مثل قُرَبْ جمع : قُرْبة . والنُّهَى : العقول ، وقد سمّاها الله تعالى أيضاً الألباب ، وبها تتم عملية التدبير في الاختيارات .
والعقل من العقال الذي تعقل به الدابة حتى لا تشرد منك ، وكذلك العقل لم يُخلَق لك كي تشطح به كما تحب ، إنما لتعقل غرائزك ، وتحكمها على قَدْر مهمتها في حياتك ، فغريزة الأكل مثلاً لبقاء الحياة ، وعلى قَدّْر طاقة الجسم ، فإنْ زادت كانت شراهة مفسدة .
وقد جُعل حُبُّ الاستطلاع للنظر في الكون وكَشْف أسراره وآيات الله فيه ، فلا ينبغي أنْ تتعدّى ذلك ، فتتجسس على خَلْق الله .
وسُمِّيَتْ العقول كذلك النُّهَى ، لأنها تنهي عن مثل هذه الشطحات . إذن : فلا بد للإنسان من عقل يعقل غرائزه ، حتى لا تتعدى المهمة التي جُعلَتْ لها ، ويُوقِفها عند حَدِّها المطلوب منها ، وإلا انطلقتْ وعربدتْ في الكون ، لا بُدَّ للإنسان من نُهية تنهاه وتقول له : لا لشهوات النفس وأهوائها ، وإلاّ فكيف تُطلِق العنان لشهواتك ، ولست وحدك في الكون؟ وما الحال لو أطلق غيرك العنان لشهواتهم؟
وسُمِّي العقل لُبّاً ، ليشير لك إلى حقائق الإشياء لا إلى قشورها ، ولتكون أبعد نظراً .
(1/5696)
وأعمق فكراً في الأمور . فحين يأمرك أن تعطي شيئاً من فضل مالك للفقراء ، فسطحية التفكير تقول : لا كيف أتعب وأعرق في جمعه ، ثم أعطيه للفقير؟ وهو لم يفعل شيئاً؟
أماحين تتعمق في فَهْم الحكمة من هذا الأمر تجد أن الحق تبارك وتعالى قال لك : أعط المحتاجين الآن وأنت قادر حتى إذا ما احتجتَ تجد مَنْ يعطيك ، فقد يصبر الغني فقيراً ، أو الصحيح سقيماً ، أو القوي ضعيفاً ، فهذه سنة دائرة في الخَلْق متداولة عليهم .
وحين تنظر إلى تقييد الشرع لشهواتك ، فلا تنسَ أنه قيَّد غيرك أيضاً بنفس المنهج وبنفس التكاليف . فحين يقول لك : لا تنظر إلى محارم الناس وأنت فرد فهو في نفس الأمر يكون قد أمر الناس جميعاً ألاّ ينظروا إلى حرماتك .
وهكذا جعل الخالق عز وجل آلة العقل هذه ، لا لنعربد بها في الكون ، إنما لنضبط بها الغرائز والسلوك ، ونحرسها من شراسة الأهواء ، فيعتدل المجتمع ويسْلَم أفراده .
وإلاَّ فإذا سمحتَ لنفسك بالسرقة ، فاسمح للآخرين بالسرقة منك!! إذن : فمن مصلحتك أنت أنْ يوجد تقنين ينهاك ، ومنهج يُنظِّم حياتك وحياة الآخرين .
والحق سبحانه يقول : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }
(1/5697)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
نلحظ هنا أن موسى عليه السلام يعرض على فرعون قضايا لا تخصُّ فرعون وحده ، إنما تمنع أنْ يوجد فرعون آخر .
وقوله : { مِنْهَا } [ طه : 55 ] أي : من الأرض التي سبق أنْ قال عنها : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } [ طه : 53 ] .
ثم ذكر لنا مع الأرض مراحل ثلاث : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } [ طه : 55 ] .
وفي آية أخرى يذكر مرحلة رابعة ، فيقول : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ الأعراف : 25 ] .
بذلك تكون المراحل أربعة : منها خلقناكم ، وفيها تحيَوْن ، وإليها تُرجعون بالموت ، ومنها نُخرجكم بالبعث .
فقوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } [ طه : 55 ] الخلْق قِسْمان : خَلْق أولي ، وخَلْق ثانوي ، الخلق الأَوليّ في أدم عليه السلام ، وقد خُلِق من الطين أي : من الأرض . ثم الخَلْق الثاني ، وجاء من التناسل ، وإذا كان الخَلْق الأَوْلي من طين ، فكل ما ينشأ عنه يُعَدّ كذلك؛ لأنه الأصل الأول .
ويمكن أن نُوجِّه الكلام توجيهاً آخر ، فنقول : التناسل يتولد من ميكروبات الذكورة وبويضات الأنوثة ، وهذه في الأصل من الطعام والشراب ، وأصله أيضاً من الأرض . إذن : فأنت من الأرض بواسطة أو بغير واسطة .
وإنْ كانت قضية الخَلْق هذه قضية غيبية ، فقد ترك الخالق في كونه عقولاً تبحث وتنظر في الكون ، وتعطينا الدليل على صِدْق هذه القضية ، فلما حلّل العلماء طينة الأرض وجدوها ستة عشر عنصراً تبدأ بالأكسوجين ، وتنتهي بالمنجنيز ، وحين حلّلوا عناصر الإنسان وجدوها نفس العناصر الستة عشر ، ليثبتوا بذلك البحث التحليلي صِدْق قضية الخَلْق التي أخبر عنها الخالق عز وجل .
وقوله : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ طه : 55 ] هذه مرحلة مشاهدة ، فكُلُّ مَنْ يموت مِنّا ندفنه في الأرض؛ لذلك يقول الشاعر :
إنْ سَئِمْتَ الحياةَ فَارْجِعْ إلَى ... الأرْضِ تَنَمْ آمِناً مِنَ الأوْصَاب
هِيَ أُمُّ أحْنَى عَليْكَ مِنَ الأم ... التي خَلَّفتْك للإتْعَابِ
فبعد أن تُنقض بنية الإنسان بالموت لا يسارع إلى مواراته التراب إلا أقرب الناس إليه ، فترى المرأة التي مات وحيدها ، وأحب الناس إليها ، والتي كانت لا تطيق فراقه ليلة واحدة ، لا تطيق وجوده الآن ، بل تسارع به إلى أمه الأصلية ( الأرض ) .
وذلك لأن الجسد بعد أنْ فارقته الروح سرعان ما يتحول إلى جيفة لا تطاق حتى من أمه وأقرب الناس إليه ، أما الأرض فإنها تحتضنه وتمتصُّ كل مافيه من أذى .
ومن العجائب في نَقْض بنية الإنسان بالموت أنها تتم على عكس بنائه ، فعندما تكلم الخالق عز وجل عن الخلق الأول للإنسان قال : إنه خلق من تراب ، ومن طين ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصال كالفخار . وقلنا : إن هذه كلها أطوار للمادة الواحدة ، ثم بعد ذلك ينفخ الخالق فيه الروح ، فتدبّ فيه الحياة .
فإذا ما تأملنا الموت لوجدناه على عكس هذا الترتيب ، كما أنك لو بنيتَ عمارة من عِدَّة أدوار ، فآخر الأدوار بناءً أولها هَدْماً .
(1/5698)
كذلك الموت بالنسبة للإنسان يبدأ بنزع الروح التي وُضِعَتْ فيه آخراً ، ثم يتصلّب الجسد و ( يشضب ) كالصلصال ثم يرمّ ، ويُنتن كالحمأ المسنون ، ثم يتبخر ما فيه من ماء ، وتتحلل باقي العناصر ، فتصير إلى التراب .
ثم يقول تعالى : { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } [ طه : 55 ] أي : مرة أخرى بالبعث يوم القيامة ، وهذا الإخراج له نظام خاصّ يختلف عن الإخراج الأول؛ لأنه سيبدأ بعودة الروح ، ثم يكتمل لها الجسد .
هذه كلها قضايا كونية تُلْقَى على فرعون عَلَّها تُثنيه عَمَّا هو عليه من ادّعاء الألوهية ، والألوهية تقتضي مألوهاً ، فالإله معبود له عابد ، فكيف يَدّعي الألوهية ، وليس له في الربوبية شيء؟ فلا يستحق الألوهية والعبادة إلا مَنْ له الربوبية أولاً ، وفي الأمثال : ( اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي ) .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا }
(1/5699)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
الآيات : الأمور العجيبة ، كما نقول : فلان آية في الذكاء ، آية في الحسن ، آية في الكرم . يعني : عجيب في بابه ، وسبق أنْ قسّمنا آيات الله إلى : آيات كونية كالشمس والقمر ، وآيات لإثبات صِدْق الرسُل ، وهي المعجزات وآيات القرآن الكريم ، والتي تسمى حاملة الأحكام .
لكن آيات الله عز وجل كثيرة ولا تُحصى ، فهل المراد هنا أن فرعون رأى كل آيات الله؟ لا؛ لأن المراد هنا الآيات الإضافية ، وهي الآيات التسعة التي جعلها الله حُجّة لموسى وهارون ، ودليلاً على صِدْقهما ، كما قال سبحانه :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] .
وهي : العصا واليد والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم والسنين والنقص من الثمرات . تلك هي الآيات التي أراها الله لفرعون .
والكلية في قوله : { آيَاتِنَا كُلَّهَا } [ طه : 56 ] كلية إضافية . أي : كل الآيات الخاصة به كما تقول لولدك ( لقد أحضرتُ لك كل شي ) وليس المقصود أنك أتيتَ له بكل ما في الوجود ، إنما هي كلية إضافية تعني كل شيء تحتاج إليه .
ومع ذلك كانت النتيجة { فَكَذَّبَ وأبى } [ طه : 56 ] كذَّب : يعني نسبها إلى الكذب ، والكذب قَوْل لا واقعَ له ، وكان تكذيبه لموسى عِلَّة إبائه { وأبى } [ طه : 56 ] امتنعَ عن الإيمان بما جاء به موسى .
ولو ناقشنا فرعون في تكذيبه لموسى عندما قال : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .
لما كذبتَ يا فرعون؟ الحق سبحانه قال : خلقتُ هذا الكون بما فيه ، ولم يَأْتِ أحد لينقضَ هذا القول ، أو يدَّعيه لنفسه ، حتى أنت يا مَنْ ادعيْتَ الألوهية لم تدَّعِ خَلْق شيء ، فهي إذن قضية مُسلَّم بها للخالق عز وجل لم ينازعه فيها أحد ، فأنت إذن كاذب في تكذيبك لموسى ، وفي إبائك الإيمان به .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا }
(1/5700)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
عاش المصريون قديماً على ضفاف النيل؛ لذلك يقولون : مصر هِبَة النيل ، حتى إذا ما انحسر الماء بذروا البذور وانتظروها طوال العام ، ليس لهم عمل ينشغلون به ، وهذه الحياة الرتيبة عوَّدتهم على شيء من الكسل ، إلا أنهم أحبُّوا هذا المكان ، ولو قلت لواحد منهم : اترك هذه الأرض لمدة يوم أو يومين يثور عليك ويغضب .
لذلك استغلّ فرعون ارتباط قومه بأرض مصر ، وحاول أن يستعدي هؤلاء الذين يمثّل عليهم أنه إله ، يستعديهم على موسى وهارون فقال مقولته هذه { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى } [ طه : 57 ] .
وهنا ثار القوم ، لا لألوهية فرعون المهددة ، إنما دفاعاً عن مصلحتهم الاقتصادية ، وما ينتفعون به على ضفاف هذه النيل المبارك ، الذي لا يضنّ عليهم في فيضانه ولا في انحساره ، فكان القوم يسمونه : ميمون الغَدَوات والروحَات ، ويجري بالزيادة والنقصان كجرْي الشمس والقمر ، له أوان .
وهكذا نقل فرعون مجال الخلاف مع موسى وهارون إلى رعيته ، فأصبحت المسألة بين موسى وهارون وبين رعية فرعون؛ لأنه خاف من كلام موسى ومِمّا يعرضه من قضايا إنْ فهمها القوم كشفوا زَيْفه ، وتنمَّروا عليه ، وثاروا على حكمه ، ورفضوا ألوهيته لهم ، فأدخلهم طرفاً في هذا الخلاف .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ }
(1/5701)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
فسمَّى فرعون ما جاء به موسى سِحْراً؛ لذلك قال { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } [ طه : 58 ] وهذه التسمية خاطئة في حق موسى ، وإنْ كانت صحيحة بالنسبة لقوم فرعون . فما الفرق إذن بين ما جاء به موسى وما جاء به قوم فرعون؟
السحر لا يقلب حقيقة الشيء ، بل يظل الشيء على حقيقته ، ويكون السحر للرائي ، فيرى الأشياء على غير حقيقتها ، كما قال تعالى : { سحروا أَعْيُنَ الناس } [ الأعراف : 116 ] فلما ألقى السحرةُ حبالهم كانت حبالاً في الحقيقة ، وإنْ رآها الناظر حيّات وثعابين تسعى ، أما عصا موسى فعندما ألقاها انقلبت حية حقيقية ، بدليل أنه لما رآها كذلك خاف منها .
وقوله : { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [ طه : 58 ] أي : نتفق على موعد لا يُخلفه واحد منّا { مَكَاناً سُوًى } [ طه : 58 ] أي : مُسْتوياً؛ لأنه سيكون مشهداً للناس جميعاً فتستوي فيه مرائي النظارة ، بحيث لا تحجب الرؤية عن أحد . أو ( سُوىً ) يعني : سواء بالنسبة لنا ولك ، كما نقول : نلتقي في منتصف الطريق ، لا أنا أتعب ولا أنت .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة }
(1/5702)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
معلوم أن الحدث يحتاج إلى مُحدِث له ، ويحتاج إلى مكان يقع عليه ، ويحتاج إلى زمان يحدث فيه ، وقد عرفنا المحدِث لهذا اللقاء ، وهما موسى وهارون من ناحية ، وفرعون وسحرته من ناحية .
وقد حدد فرعون المكان ، فقال { مَكَاناً سُوًى } [ طه : 58 ] بقي الزمان لإتمام الحدث؛ لذلك حدده موسى ، فقال : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } [ طه : 59 ] ؛ لأن الحدث لا يتم إلا في زمان ومكان .
لذلك لا نقول : متى الله ولا : أين الله؟ فالحق تبارك وتعالى ليس حَدَثاً ، ومتى وأين مخلوقة لله تعالى ، فكيف يحدُّه الزمان أو المكان؟
وقول موسى { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } [ طه : 59 ] ولم يقُلْ : يوم الاثنين أو الثلاثاء مثلاً ، ويوم الزينة يوم يجتمع فيه كل سُكَّان مصر ، يظهر أنه يوم وفاء النيل ، فيخرجون في زينتهم مسرورين بفيضان النيل وكثرة خيره وبركاته ، وما زالت مصر تحتفل بهذا اليوم .
وكان القاضي لا يقضي بأمر الخراج إلا بعد أنْ يطّلع على مقياس النيل ، فإنْ رآه يُوفي بريٍّ البلاد حدَّد الخراج وإلاَّ فلا .
لكن ، لماذا اختار موسى هذه اليوم بالذات؟ لماذا لم يحدد أي يوم آخر؟ ذلك؛ لأن موسى عليه السلام كان على ثقة تامة بنصر الله له ، ويريد أن تكون فضيحة فرعون على هذا الملأ ، ووسط هذه الجمع ، فمِثْل هذا التجمع فرصة لا يضيعها موسى؛ لأن النفس في هذا اليوم تكون مسرورة منبسطة ، فهي أقرب في السرور لقبول الحق من أيٍّ وقت آخر .
وقوله : { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] أي : ضاحين ، ويوم الزينة يمكن أن يكون في الصباح الباكر ، أو في آخر النهار ، لكن موسى متمكِّن واثق من الفوز ، يريد أن يتم هذا اللقاء في وضح النهار ، حتى يشهده الجميع .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ }
(1/5703)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
تولى : أي : ترك موسى و انصرف ليُدبِّر شأنه { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ] الكيد : التدبير الخفي للخَصْم ، والتدبير الخفيّ هنا ليس دليلَ قوة ، بل دليل ضَعْف؛ لأنه قوةَ له على المجابهة الواضحة ، مثل الذي يدسُّ السُّم للآخر لعدم قدرته على مواجهته .
إذن : الكيد دليل ضَعْف؛ لذلك نفهم من قوله تعالى عن النساء : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] أنه ليس دليلاً على قوة المرأة ، إنما دليلٌ على ضعفها ، فكما أن كيدهُنّ عظيم ، فكذلك ضعفُهن عظيم .
فمعنى { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [ طه : 60 ] أدار فِكْره على ألوان الكَيْد المختلفة ، ليختار منها ما هو أنكَى لخَصْمه ، كما جاء في آية أخرى في شَأْنِ نوح عليه السلام { فأجمعوا أَمْرَكُمْ } [ يونس : 71 ] .
وكأن الأمر الذي هو بصدده يتطلب وجهات نظر متعددة : نفعل كذا ، أو نفعل كذا؟ ثم ينتهي من هذه المشاورة إلى رَأْي يجمع كل الاحتمالات ، بحيث لا يفاجئه شيء بعد أنْ احتاط لكل الوجوه .
فالمعنى : اتفِقُوا على الخطة الواضحة التي تُوحِّد آراءكم عند تحقيق الهدف .
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام : { وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب } [ يوسف : 15 ] . أي : اتفقوا على هذا الرأي ، وأجمعوا عليه ، بعد أن قال أحدهم { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً } [ يوسف : 9 ] ، فكان الرأي النهائي أنْ يجعلوه في غيابة الجب .
فهُمْ على آية حال سلالة نُبوة ، لم يتأصل الشرُّ في طباعهم؛ لذلك يتضاءل شرُّهم من القتل إلى الإلقاء في متاهات الأرض إلى أهْوَن هذه الأخطار ، أنْ يُلْقوه في الجُبِّ ، وهذه صفة الأخيار ، أما الأشرار الذين تأصل الشر في نفوسهم وتعمّق ، فشرُّهم يتزايد ويتنامى ، فيقول أحدهم : أريد أنْ أقابل فلاناً ، فأبصق في وجهه ، أو أضربه ، أو أُقطّعه ، بل رصاصة تقضي عليه فيُصعِّد ما عنده من الشر .
وبعد ذلك يرجُونَ له النجاة ، فيقولون : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] .
ثم يقول تعالى في شأن فرعون : { ثُمَّ أتى } [ طه : 60 ] أي : أتى الموعد الذي سبق تحديده ، مكاناً وزماناً .
ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن وقائع هذا اليوم ، فيقول : { قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ }
(1/5704)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
لما رأى موسى السحرة أراد أنْ يُحذِّرهم مِمَّا هم مُقبِلون عليه ، وأنْ يعطيهم المناهي التي تمنعهم ، فذكَّرهم بأن لهم رباً سيحاسبهم كما تقول لشخص ، تراه مُقْدِماً على جريمة ، لو فعلتَ كذا سأُبلغ عنك الشرطة ، وستُعاقب بكذا وكذا ، وتُذكّره بعاقبة جريمته .
{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً } [ طه : 61 ] افترى أي : جاء بالفِرْية ، وهي تعمُّد الكذب { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] يعني : يستأصلكم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } [ طه : 61 ] أي : خسر .
ثم يقول الحق سبحانه : { فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ }
(1/5705)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
يبدو أن تخويفَ موسى لهم بقوله : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] قد أثَّر فيهم وأخافهم { فتنازعوا أَمْرَهُمْ } [ طه : 62 ] أخذوا يتساومون القَوْل ويتبادلون الآراء .
{ وَأَسَرُّواْ النجوى } [ طه : 62 ] تحدثوا سِراً ، وهذا دليل خوفهم من كلام موسى ، ودليل ما فيهم من استعداد للخير ، لكن انتهى رأيهم إلى الاستمرار في الشوط إلى آخره .
(1/5706)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
توقف العلماء طويلاً حول هذه الآية ، لأن فيها قراءتين ( إنْ هذان ) بسكون ( إنْ ) والأخرى ( إنَّ هذان ) بالتشديد .
والقراءة التي نحن عليها قراءة حفص { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] و ( إنْ ) شرطية إنْ دخلت على الفعل ، كما نقول : إنْ زارني زيد أكرمته ، وتأتي نافية بمعنى ما ، كما في قوله تعالى : { الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] .
فالمعنى : ما أمهاتهم إلا اللائي وَلَدْنهم . كذلك في قوله تعالى : { إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] فالمعنى : ما هذان إلا ساحران ، فتكون اللام في { لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] بمعنى إلا . كأنك قُلْتَ : ما هذان إلا ساحران .
وتأتي اللام بمعنى إلا ، إذا اختلفنا مثلاً على شيء ، كل واحد مِنّا يدَّعيه لنفسه ، فيأتي الحكم يقول : لَزَيدُ أحقُّ به ، كأنه قال : ما هذا الشيء إلا لزيد . إذن : اللام تأتي بمعنى إلا .
وعلى القراءة الثانية بالتشديد ( إنَّ هذان لساحران ) فإنَّ حرف ناسخ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر ، تقول : إنَّ زيداً مجتهدٌ ، أما في الآية بهذه القراءة : ( إنّ هذان لساحران ) جاء اسم إنَّ هذان بالرفع بالألف؛ لأنه مثنى ، والقاعدة تقتضي أن نقول ( هذين ) .
فكيف يتم توجيه إنَّ المشددة الناسخة وبعدها الاسم مرفوع؟
قالوا : هذه لغة كنانة إحدى قبائل العرب ، وكان لكل قبيلة لهجتها الخاصة ولغتها المشهورة فيقولون : جعجعة خزاعة ، وطُمْطُمانيّة حِمْيَر ، وتَلْتلة بَهْراء ، وفحفحة هذيل . . الخ .
ولما نزل القرآن نزل على جمهرة اللغة القرشية؛ لأن لغات العرب جميعها كانت تصبُّ في لغة قريش في مواسم الحج والشعر والتجارة وغيرها ، فكانت لغة قريش هي السائدة بين لغات كل هذه القبائل؛ لذلك نزل بها القرآن ، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أن يكون للقبائل الأخرى نصيب ، فجاءت بعض ألفاض القرآن على لهجات العرب المختلفة للدلالة على أن القرآن ليس لقريش وحدها ، ليجعل لها السيادة على العرب ، وإنما جاء للجميع .
ومن لهجات القبائل التي نزل بها القرآن لهجة كنانة التي تلزم المثنى الألف في كل أحواله رَفْعاً ونَصْباً وجراً . وشاهدهم في كتب النحو قول شاعرهم :
وَاهَاً لِسَلْمى ثُمَّ وَاَهَا وَاهَا ... يَا ليْتَ عَيْناهَا لَنَا وَافَاهَا
هِيَ المُنَى لَوْ أنَّنَا نِلْناهَا ... ومَوْضِع الخُلْخال من قَدمَاهَا
إنَّ أبَاهَا وأبَا أَبَاهَا ... قَدْ بلغَا في المجْدِ غَايتَاهَا
فقال : إنَّ أباها . ولم يقل : إنَّ أبيها؛ لأنه يُلزِم المثنى الألف .
إذن : لم ينزل القرآن بلغة قريش على أنها لغة سيادة ، وإنما لأنها تنطوي على زُبْدة فصاحات لغات الجزيرة كلها ، وكانت لغة قريش تصفَّى في مواسم الشعر والأدب في عكاظ وذى المجنّة وغيرها .
نعود إلى قول الحق تبارك وتعالى : { قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } [ طه : 63 ] ويبدو أن استعداء فرعون لقومه على موسى وهارون جاء بنتيجة ونالتْ حيلته من نفوسهم؛ لذلك يُردِّدون نفس كلام المعلم الكبير فرعون ، فيتهمون موسى وهارون بالسحر .
وقولهم : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } [ طه : 63 ] طريقتهم المثلى . أي : ما ارتضاه القوم للعيش عليه ، والمذهب والطريق الذي سلكوه . والمراد بالطريقة المثلى التي ساروا عليها أنهم اتخذوا واحداً منهم إلهاً يعبدونه ويأتمرون بأمر ، تلك هي الطريقة المثلى!! والمثلى : أي الفاضلة مُذكّرها أمثل .
(1/5707)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
أي : تنبهوا واشحذوا كل أذهانكم ، وكل فنونكم ، وحركاتكم في السحر حتى لا يتمكنا من هذين الأمرين : إخراجكم من أرضكم ، والقضاء على طريقتكم المثلى .
وهذا قَوْل بعضهم لبعض { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] فلا يُخفِي أحد فناً من فنون السحر ، وليُقدّم كُلُّ مِنّا ما عنده؛ لأن عادة أهل الحِرَف أن يوجد بينهم تحاسد ، فلا يُظهر الواحد منهم كل ما عنده مرة واحدة ، أو يحاول أنْ يُخفي ما عنده حتى لا يطلع عليه الآخر ، لكن في مثل هذا الموقف لا بُدَّ لهم من تضافر الجهود فالموقف حرِج ستعمُّ بلواه الجميع إنْ فشلنا في هذه المهمة .
وقوله : { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } [ طه : 64 ] يعني : مجتمعين كأنكم يد واحدة ، فهذا أهْيَبُ لكم وأدْخَلُ للرعب في قلوب خصمكم ، كما أننا إذا جِئْنَا سوياً لم يتمكن أحد من التراجع ، فيكون بعضنا رقيباً على بعض .
{ وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } [ طه : 64 ] أفلح : فاز ، كما في قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وهذا اللفظ مأخوذ من فلح الأرض ومنه الفلاحة؛ لأن الفلاح إذا شقَّ الأرض أو حرثَها ورعاها تعطيه خيرها ، فحركتُه فيها حركة ميمونة مباركة .
لذلك ، لما أراد الحق تبارك وتعالى أن يُبيِّن لنا مضاعفة الأجر والثواب على الصدقة وعلى فعل الخير ضرب لنا مثلاً بالزرع ، فقال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي كل هذا العطاء ، فما بالك بعطاء الخالق لهذه الأرض؟ لذلك عقب المثل بقوله تعالى : { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 261 ] .
ثم أُخِذَتْ كلمة الفلاح عَلماً على كل فلاح ، ولو لم يكن فيه صِلَة بالأرض؛ لأن قصارى كل حركات الحياة أن تضمن للإنسان بقاء نَوْعه بالأكل ، والأرض مصدر هذا كله ، فكانت لذلك مصدراً للفوز .
وقوله : { مَنِ استعلى } [ طه : 64 ] أي : طلب العُلو على خَصْمه . لكن هل الفلاَح يكون لمن طلب العلو أم لمن علا بالفعل؟ طبعاً يكون لمن علا ، إذن : مَنْ عَلاَ بالفعل لا بُدَّ أنْ يشحذَ ذِهْنه على أن يطلب العلو على خصمه ، فمهما علا الخصم استعلى عليه أي : طلب العُلو ، إذن : قبل علا استعلى .
ثم يقول الحق سبحانه عن السحرة : { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ }
(1/5708)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
تُلْقي : ترمي . والمراد أن يرمي واحد منهم ما أعدّه من سحر ، فاختار موسى أنْ يُلْقُوا هم أولاً .
(1/5709)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
لأنهم إنْ ألقوا سِحْرهم كانت للعصا مهمة حين يلقيها موسى ، فأراد أن يكون للعصا حركة بعد أن تنقلب إلى ثعبان أو حية أو جان ، وإلا لو ألقى هو أولاً ، فماذا سيكون عملها؟
وقد ألهم الله تعالى سحرة فرعون هذه الأدب في معركتهم مع موسى ، فخيَّروه بين أنْ يلقي هو ، أو يلقوا هُمْ ، والله تبارك وتعالى يحُول بين المرء وقلبه ، فألهمهم ذلك مع أنهم خصومه ، وأنطقهم بما يؤيد صاحب المعجزة الخالدة ، فقالوا : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } [ طه : 65 ] .
وقد اختار موسى عليه السلام أنْ يُلقي أخيراً؛ لأن التجربة التي مَرَّ بها في طوى مع ربه عز وجل لما قال له ربه : { قَالَ أَلْقِهَا ياموسى } [ طه : 19 ] .
فلما ألقى موسى عصاه انقلبتْ إلى حيَّة تسعى ورأى هو حركتها ، لكن لم يكُنْ بهذه التجربة شيء تلقفه العصا ، فإذا ألقى موسى أولاً وتحوَّلَتْ العصا حية أو ثعباناً ، فما الفرق بينها وبين حبال السحرة التي تحولتْ أمامهم إلى حيَّات وثعابين؟
إذن : لا بُدَّ من شيء يُميِّز عصا موسى كمعجزة عن سِحْر السحرة وشعوذتهم؛ لذلك اختار موسى أنْ يُلقي هو آخراً بإلهام من الله حتى تلقف عصاه ما يأفكون ، فما يُلقَف لا بُدَّ أن يسبق ما يَلْقُف .
فمن حيث الحركة أمام الناظرين لا فَرْقَ بين عصا موسى وحبال السحرة وعِصِيهم ، فكلها تتحرك ، إنما تميزت عصا موسى بأنها تلقف ما يصنعون من السحر ، وتتتبع حبالهم وعِصيَّهم ، وتقفز هنا وهناك ، فلها إذن عَيْن تبصر ، ثم تلقف سحرهم في جوفها ، ومع ذلك تظل كما هي لا تنتفخ بطنها مثلاً ، وهذا هو موضع المعجزة في عصا موسى عليه السلام .
وقوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] إذن : فحركة العِصِيّ والحبال ليستْ حركة حقيقية ، إنما هي تخيُّل { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } [ طه : 66 ] فيراها تسعى ، وهي ليست كذلك .
وقد قال تعالى عن هؤلاء السحرة : { سحروا أَعْيُنَ الناس } [ الأعراف : 116 ] فجاءوا بأعمال تخيُّلية خادعة بأيِّ وسيلة كانت ، فالبعض يقول مثلاً : إنهم وضعوا بها الزئبق ، فلما حَمِيَتْ عليه الشمس تمدّد ، فصارتْ الأشياء تتلوّى وتتحرك ، فأياً كانت وسائلهم فهي مجرد تخيُّلات ، أمَّا الساحر نفسه فيراها حِبَالاً على حقيقتها ، وهذا هو الفرق بين سِحْر السحرة ، ومعجزة عصا موسى .
والسحر يختلف عن الحِيَل التي تعتمد على خِفَّة الحركة والألاعيب والخُدَع ، فالسحر أقرب ما يكون إلى الحقيقة في نظر الرائي ، كما قال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر } [ البقرة : 102 ] .
إذن : هو فَنُّ يُتعلم ، يعطي التخييل بواسطة تسخير الجنِّ ، فهم الذين يقومون بكل هذه الحركات ، فهي إذن ليستْ حيلاً ولا خفة حركة ، إنما هي عملية لها أصول وقواعد تُدرَّس وتُتعَلَّم .
(1/5710)
والخالق عز وجل حينما يعرض علينا قضية السحر ، وأنه عبارة عن تَسخير الشياطين لخدمة الساحر ، ويجعل لكل منهما القدرة على مضرّة الآخرين : الساحر بالسحر ، والشياطين بما لديهم من قوة التشكّل في الأشكال المختلفة والنفاذ من الحواجز؛ لأن الجن خُلِقُوا من النار ، والنار لها شفافية تنفذ خلال الجدار مثلاً .
أما الإنسان فَخُلِق من الطين ، والطين له كثافة ، وضربنا مثلاً لنقرب هذه المسألة ، قلنا : هَبْ أنك تجلس خلف جدار ، ووراء هذا الجدار تفاحة مثلاً وهي من الطينية المتجمدة ، أيصل إليك من التفاحة شيء؟ إنما لو خلف الجدار نار فسوف تشعر من خلال الجدار بحرارتها . هذه إذن خصوصيات جعلها الخالق عز وجل للشياطين فضلاً عن أنهم يرونكُم من حيث لا ترونهم .
لكن ، كان من لُطْف القدير بنا أن جعل لنا ما يحمينا من الشياطين ، فجعل الحق تبارك وتعالى حين يتشكَّلون في الأشكال المختلفة تحكمهم هذه الأشكال ، بمعنى لو أن الشيطان تشكّل لك في صورة إنسان فقد حكمتْه هذه الصورة ، فلو أطلقتَ عليه الرصاص في هذه اللحظة لقتلتَه فعلاً .
لذلك؛ فالشيطان يخاف منك أكثر مما تخاف منه ، ولا يظهرون لنا إلا ومضة ولمحة سريعة خَوْفاً أن يكون الرائي له على عِلْم بهذه المسألة فيمسك به وساعتها لن يفلت منك .
وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً وقال : " لقد هممت أن أربطه بسارية المسجد ، يلعب به غلمان المدينة ، إلا أنني ذكرت دعوة أخي سليمان { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } [ ص : 35 ] " .
إذن : الحق سبحانه أعطاهم خصوصية التشكّل كما يحبون ، إنما قيدهم بما يشكّلون به ، كأنه يقول له : إذا تركتَ طبيعتك وتشكَّلْت بصورة أخرى فارْضَ بأنْ تحكمك هذه الصورة ، وأن يتحكم فيك الأضعف منك ، وإلا لَفزَّعوا الناس وأرهبوهم ، ولم نسلم من شَرَّهم .
وكذلك الحال مع الساحر نفسه ، فلديه بالسحر والطلاسم أن يُسخِّر الجن يفعلون له ما يريد ، وهذه خصوصية تفوق بها قدرتُه قدرةَ الآخرين ، ولديه بالسحر فُرْصة لا تتوفر لغيره من عامة الناس ، فليس بينه وبين تكافؤ في الفُرص .
والله عز وجل يريد لخَلْقه أنْ تتكافأ فُرَصهم في حركة الحياة فيقول الساحر : إياك أن تفهم أن ما يسَّرته لك من تسخير الأقوى منك ليقدر على ما لا تقدر عليه يفيدك بشيء . أو أنك أخذتَ بالسحر فرصةً على غيرك ، بل العكس هو الصحيح فلن تجنيَ من سِحْرك إلا الضرر والشقاء ، فالسحر فتنة للإنسان ، كما أنه فتنة للجن .
لذلك يقول تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }
(1/5711)
[ البقرة : 102 ] .
والفتنة هنا معناها أن نختبر استعماله لمدى مَا اعدَّه الله له ، أيستعمله في الخير أم في الشر؟ فإنْ قُلْتَ : أتَعلَّم السحر لأستعمله في الخير . نقول : هذا كلامك ساعة التحمُّل ، ولا تضمن نفسك ساعة الأداء . كما قلنا سابقاً في تحمُّل الأمانة حين تقبلها ساعة التحمل ، وأنت واثق من قدرتك على أدائها في وقتها ، ومطمئنٌ إلى سلامة نيتك في تحمُّلها ، أما وقت الأداء فربما يطرأ عليك ما يُغيّر نيتك .
وكما جاء في قول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
فاخترْنَ التسخير على الاختيار وحَمْل الأمانة؛ لأنهن لا يضمَنَّ القيام بها .
وقد أعذر الله تعالى إلى السحرة في قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 ] .
كأن الساحر مآله إلى الكفر؛ لأنه ابن أهواء وأغيار ، لا يستطيع أن يتحكّم في نفسه فيُسخِّر قوة السحر في الخير ، كما أن الله تعالى إذا أراد أن يُسخِّر القوى للخير : أيُسخِّر الطائع؟ أم يُسخِّر العاصي؟ سيُسخِّر الطائع ، والجن الطائع لا يرضى أبداً بهذه المسألة .
إذن : لن يستطيع الساحر إلا تسخير الجن العاصي ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] .
لذلك تلاحظ أن كل الذين يشتغلون بهذه العملية على سَمْتهم الغضب ، وعلى سحنتهم آثار الذنوب وشُؤْمها ، ينفر منهم مَنْ رآهم ، يعيشون في أضيق صور العيش ، فترى الساحر يأخذ من هذا ، ويأخذ من هذا ، ويبتز الناس ويخدعهم ، ومع ذلك تراه شحاذاً يعيش في ضيق ، ويموت كافراً مُبْعَداً من رحمة الله حتى أولاده من بعده لا يَسْلمَون من شُؤْمه ، وصدق الله العظيم حين قال : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] .
كما أن في حياة السحرة لفتة ، يجب أن نلتفت إليها ، وهي أن السحرة الذين يصنعون السحر للناس ويخدعونهم : من أين يرتزقون؟ من عامة الناس الذين لا يفهمون في السحر شيئاً ، ولو أنه أفلح بالسحر لأغنى نفسه عن أنْ تمتد يده إلى هذا ، فيأخذ منه عدة جنيهات ، وإلى هذا يطلب منه أشياء غريبة يُوهمه أن مسألته لن تُحّل إلا بها .
ولماذا لم يستخدم سحره في سرقة خزينة مثلاً ويريح نفسه من هذا العناء ، وإنْ قال : كيف وهي أموال الناس والسطو عليها سرقة ، فليذهب إلى الرِّكاز وكنوز الأرض فليست مملوكة لأحد .
نعود إلى سحرة فرعون؛ أياً كان سحرهم أمِنْ نوع الألاعيب وخِفّة الحركة وخداع الناظرين؟ أم من نوع السحر الذي علّمته الشياطين من زمن سليمان عليه السلام فهو سحر لن يقف أمام معجزة باهرة جاءت على يد موسى لإثبات صدقه .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً }
(1/5712)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
أوجس : من الإيجاس ، وهو تحرّك شيء مخيف في القلب لا يتعدّى إلى الجوارح ، فإنْ تعدى إلى الجوارح يتحول إلى عمل نزوعي ، كأن يهرب أو يجري ، فالعمل النزوعي يأتي بعد الإحساس الوجداني؛ لذلك يقول بعدها : { فِي نَفْسِهِ } [ طه : 67 ] .
وقد شعر موسى عليه السلام بالخوف لما رأى حبال السحرة وعِصيّهم تتحول أمام النظارة إلى حيَّات وثعابين ، وربما اكتفى المشاهدون بما رأَوْه فهرجوا عليه وأنهوا الموقف على هذا أنْ يتمكّن هو من عمل شيء . فإنْ قُلْت : فلماذا لم يُلْقِ عصاه وتنتهي المسألة؟ نقول : لأن أوامره من الله أولاً بأول ، وهو معه يتتبعه سماعاً ورؤية ، فتأتيه التعاليم جديدة مباشرة .
(1/5713)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
هذا حكم الله عز وجل يأتي موسى على هيئة برقية مختصرة { أَنتَ الأعلى } [ طه : 68 ] أنت المنصور الفائز فاطمئن ، لكن تتحرك في موسى بشريته : منصور كيف؟
وهنا يأتيه الأمر العملي التنفيذي بعد هذا الوعد النظري ، وكأن الحق سبحانه متتبع لكل حركات نبيه موسى ، ولم يتركه يباشر هذه المسألة وحده ، إنما كان معه يسمع ويرى ، فيردُّ على السماع بما يناسبه ، ويردُّ على الرؤية بما يناسبها . ودائماً يرهف النبي سمعه وقلبه إلى ما يُلْقي عليه من توجيهات ربه عز وجل؛ لذلك خاطبه ربه بقوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] .
فسيأتيك الرد المناسب في حينه . إذن : الحق سبحانه لم يخبر موسى بمهمته مع فرعون ثم تركه يباشرها بنفسه ، وإنما تمَّتْ هذه المسألة بتوجيهات مباشرة من الله تعالى .
(1/5714)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
وهذا أصل المعجزة في عصا موسى ، أن تلقف وتبتلع ما يأفكون من السحر وكلمة { تَلْقَفْ } [ طه : 69 ] تعطيك الصورة الحركية السريعة التي تُشبه لمح البصر ، تقول : تلقفتُه يعني أخذتُه بسرعة وشدة ، وهذه هي العِلّة في العصا أن تلقف ما صنعوا من السحر { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] والكَيْد : التدبير الخفيّ للتغلُّب على الخَصْم ، لكن ماذا يفعل كَيْد الساحر وألاعيبه وتلفيقه أمام قدرة الرب تبارك وتعالى؟
ثم يقول تعالى : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } [ طه : 69 ] سبق أنْ تكلّمنا في مسألة فَلاَح الساحر ، وأنه مهما أوُتِي من قدرة على تسخير الجن لعمل شيء فوق طاقة الإنس ، فلن يعطيه ذلك مَيْزةً على غيره ، ولن تكون له قدرة على شيء .
فإياكم أن تظنوا أن الله تعالى ملَّك مصالحكم لهؤلاء ، صحيح هو يفعل ، أما الإصابة والأذى فبإذن الله وتحت عنايته : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 102 ] وهذه القضية لا تنسحب على الساحر فحسب ، إنما على الوجود كله ، وإلى أنْ تقوم الساعة .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً }
(1/5715)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
قال الزجاج في هذا الموقف : عجيب أمر هؤلاء ، فقد ألقوا حبالهم وعِصيّهم للكفر والجحود ، فإذا بهم يُلْقُون أنفسهم للشكر والسجود .
نعم ، لقد دخلوا كافرين فجرة فخرجوا مؤمنين بررة ، لأنهم جاءوا بكل ما لديهم من الكَيْد ، وجمعوا صَفْوة السحر وأساتذته ممنْ يَعْلمون السحر جيداً ، ولا تنطلي عليهم حركات السحرة وألاعيبهم ، فلما رَأوا العصا وما فعلتْ بسحرهم لم يخالطهم شكٌّ في أنها معجزة بعيدة عَمّا يصنعونه من السحر؛ لذلك سارعوا ولم يترددوا في إعلان إيمانهم بموسى وهارون .
وهذا يدلُّنا على أن الفطرة الإيمانية في النفس قد تطمسها الأهواء ، فإذا ما تيقظتْ الفطرة الإيمانية وأُزيلَتْ عنها الغشاوة سارعتْ إلى الإيمان وتأثرتْ به .
لقد سارع السحرة إلى الإيمان ، وكان له هَوىً في نفوسهم ، بدليل أنهم سيقولون فيما بعد : { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } [ السحر : 73 ] فكانوا مكرهين ، كانوا أيضاً مُسخَّرين ، بدليل قولهم : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين } [ الأعراف : 113 ] .
كأنهم كانوا لا يأخذون على السحر أجراً ، فلما كانت هذه المهمة صعبة طلبوا عليها أجراً ، فهي معركة تتوقف عليها مكانته بين قومه ، أما ممارستهم للسحر إرهاباً للناس وتخويفاً لمن تُسوِّل له نفسه الخروج والتمرد على فرعون ، فكان سُخْرة ، لا يتقاضَوْن عليه أجراً .
لذلك لم يعارض فرعون سحرته في طلبهم ، بل زادهم منحة أخرى { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } [ الأعراف : 114 ] فسوف تكونون سدنة الفرعونية ، يريد أنْ يشحن هِمَمهم ، ويشحذَ عزائمهم ، حتى لا يدخروا وُسْعاً في فَنِّ السحر في هذه المعركة .
إذن : فطباعهم وفطرتهم تأبى هذا الفعل ، وتعلم أنه كذب وتلفيق ، لكن مذا يفعلون وكبيرهم يأمرهم به ، بل ويُكرههم عليه ، ويلزمهم أنْ يُعلِّموا غيرهم ، لماذا؟ لأن السحر والشعوذة والتلفيق هي رأس ماله وبضاعته التي يسعى إلى ترويجها ، فعليها يقوم مُلْكه وتُبْنى ألوهيته .
وقوله تعالى : { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً } [ طه : 70 ] فَرْق بين { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ } [ الشعراء : 44 ] وهذا منهم عمل اختياري ، وبين { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً } [ طه : 70 ] : يعني على غير اختيارهم وعلى غير إرادتهم ، كأن صَوْلة الحق فاجأتْ صحوة الفطرة ، فلم يملكوا إلا أنْ خرُّوا لله ساجدين ، فالإلقاء هنا عمل تلقائي دون تفكير منهم ودون شعور ، فقد فاجأهم الحق الواضح والمعجزة الباهرة في عصا موسى ، لأنها ليستْ سِحْراً فهم أعلم الناس بالسحر .
ونلحظ في هذه الآية أنها جاءت بصيغة الجمع؛ أُلقى السحرةُ ، قالوا ، آمنا . لتدل على أنهم كانوا يَداً واحدة لم يشذْ منهم واحد ، مما يدل على أنهم كانوا مكرهين مُسخَّرين .
كما أن إعلان إيمانهم جاء بالفعل المرئي المشاهد للجميع { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً } [ طه : 70 ] ، ثم بالقول المسموع { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] وفي آية أخرى : { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ }
(1/5716)
[ الشعراء : 4748 ] .
ونعلم أن موسى عليه السلام هو الأصل ، ثم أُرسِل معه أخوه هارون ، ولما عرضَ القرآن موقف السحرة مع موسى حكى قولهم : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] وقولهم : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 4748 ] .
لذلك كانت هذه المسألة مثارَ جَدَل من خصوم الإسلام ، يقولون : ماذا قال السحرة بالضبط؟ أقالوا الأولى أم الثانية؟
ولك أن تتصور جمهرة السحرة الذين حضروا هذه المعركة ، فكان رؤساؤهم وصفوتهم سبعين ساحراً ، فما بالك بالمرؤوسين؟ إذن : هم كثيرون ، فهل يُعقل مع هذه الكثرة وهذه الجمهرة أن يتحدوا في الحركة وفي القول؟ أم يكون لكل منهم انفعاله الخاص على حَسْب مداركه الإيمانية؟
لا شَكَّ أنهم لم يتفقوا على قول واحد ، فمنهم مَنْ قال { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] وآخرون قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 4748 ] .
كذلك كان منهم سطحيّ العبارة ، فقال { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 4748 ] ولم يفطن إلى أن فرعون قد ادّعى الألوهية وقال أنا ربكم الأعلى فربما يُفهم من قوله { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 48 ] أنه فرعون ، فهو الذي ربّى موسى وهو صغير .
وآخر قد فطن إلى هذه المسألة ، فكان أدقَّ في التعبير ، وأبعد موسى عن هذه الشبهة ، فقال : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] وجاء أولاً بهارُون الذي لا علاقة لفرعون بتربيته ، ولا فضل له عليه ، ثم جاء بعده بموسى .
إذن : هذه أقوال متعددة ولقطات مختلفة لمجتمع جماهيري لا تنضبط حركاته ، ولا تتفق تعبيراته ، وقد حكاها القرآن كما كانت فليس لأحد بعد ذلك أن يقول : إنْ كان القول الأول صحيحاً ، فالقول الآخر خطأ أو العكس .
وما أشبه هذا الموقف الآن بمباراة رياضية يشهدها الآلاف ويُعلِّقون عليها ، تُرى أتتفق تعبيراتهم في وصف هذه المباراة؟
نقول : إذن ، تعددت اللقطات وتعددت الأقوال للقصة الواحدة لينقل لنا القرآن كل ما حدث .
ثم يقص الحق سبحانه رد فعل فرعون على ما حدث ، فيقول : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ . . . }
(1/5717)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
طبيعي أن يشتاط فرعون غضباً بعدما سمعه من سحرته ، فقد جمعهم لينصروه فإذا بهم يخذلونه ، بل ويُقوِّضون عرشه من أساسه فيؤمنون بإله غيره ، ويا ليتهم لما خذلوه سكتوا ، إنما يعلنونها صريحة عالية مدوية : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] .
{ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ . . . } [ طه : 71 ] فمع الخيبة التي مُنِي بها ما يزال يتمسك بفرعونيته وألوهيته ، ويهرب من الاستخزاء الذي حاق به ، يريد أن يعطي للقوم صورة المتماسك الذي لم تُؤثّر فيه هذه الأحداث ، فقال { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] فأنا كبيركم الذي علّمكم السحر ، وكان عليكم أنْ تحترموا أستاذيته ، وقد كنت سآذنُ لكم .
وكلمة ( آمنتم ) مادتها : أمِنَ . وقد أخذت حيزاً كبيراً في القرآن الكريم ، والأصل فيها : أمِنَ فلان آمناً يعني : اطمأن . فليس هناك ما يُخوّفه . لكن هذه المادة تأتي مرة ثلاثية ( أَمِنَ ) وتأتي مزيدة بالهمزة ( آمن ) .
وهذا الفعل يأتي متعدياً إلى المفعول مباشرة ، كما في قوله تعالى { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 34 ] يعني : آمن سكان مكة من الخوف .
وقد يتعدى بالباء كما في : آمنت بالله ، أو يتعدى باللام كما في قوله تعالى : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] وآمن له يعني : صدَّقه فيما جاء به .
إذن : لدينا : آمَنَهُ يعني أعطاه الأمن ، وآمن به : يعني اعتقده ، وآمن له : يعني صَدَّقه .
وقد تأتي أَمن وآمن بمعنى واحد ، كما في قول سيدنا يعقوب : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] .
فلماذا اختلفت الصيغة من آمن إلى أمِن؟
قالوا : لأن قوله { كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] كانت تجربة أولى ، فجاء الفعل ( أَمن ) مُجرّداً على خلاف الحال في المرة الثانية ، فقد احتاجت إلى نوع من الاحتياط للأمر ، فقال { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ } [ يوسف : 64 ] فزاد الهمزة للاحتياط .
فمعنى قول فرعون : { آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ] يعني أي : صدَّقتموه .
وتأمل هنا بلاغة القرآن في هذا التعبير { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] ومَنِ الذي يقولها؟ إنه فرعون الآمر الناهي في قومه يتحدث الآن عن الإذن . وفَرْق بين أمر وأذن ، أمر بالشيء يعني : أنه يحب ما أمر به ، ويجب عليك أنت التنفيذ . أما الإذن فقد يكون في أمر لا يحبه ولا يريده ، فهو الآن يأذن؛ لأنه لا يقدر على الأمر .
وما دُمْتُمْ قد آمنتم له قبل أن آذن لكم فلا بُدَّ أن يكون هو كبيركم الذي علّمكم السحر ، فكان وفاؤكم له ، واحترمتم هذا الكِبَر وساعدتموه على الفوز .
وهذا من فرعون سوء تعليل لواقع الإيمان ، ففي نظره أن موسى تفوّق عليهم ، لا لأنه يُجيد فنَّ السحر أكثر منهم ، إنما تفوّق عليهم لأنهم جاملوه وتواطأوا معه؛ لأنه كبيرهم ومُعلِّمهم .
(1/5718)
لذلك يتهدَّدهم قائلا : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
جاء هذا التهديد والوعيد جزاءً لهم؛ لأنهم في نظره هزموه وخذوله في معركته الفاصلة أمام موسى عليه السلام ، ومعنى : { مِّنْ خِلاَفٍ } [ طه : 71 ] الخِلاَف أن يأتي شيء على خلاف شيء آخر ، والكلام هنا عن الأيدي والأرجل ، فيكون المراد اليد اليمنى مع الرِّجْل اليسرى ، أو اليد اليُسْرى مع الرِّجْل اليُمْنى .
وقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] المعروف أن التَّصلْيب يكون على الجذوع؛ لذلك حاول بعض المفسرين الخروج من هذا الإشكال فقالوا : ( في ) هنا بمعنى ( على ) . لكن هذا تفسير لا يليق بالأسلوب الأعلى للبيان القرآنيّ ، ويجب أن نتفق أولاً على معنى التصليب : وهو أن تأتي بالمصلوب عليه وهو الخشب أو الحديد مثلاً ، ثم تأتي بالشخص المراد صَلْبه ، وتربطه في هذا القائم رباطاً قوياً ، ثم تشدّ عليه بقوة .
ولك أنْ تُجرِّب هذه المسألة ، فتربط مثلاً عود كبريت على إصبعك ، ثم تشدُّ عليه الرباط بقوة ، وسوف تجد أن العود يدخل في اللحم ، ساعتها تقول : العود في إصبعك ، لا على إصبعك .
إذن قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ( في ) هنا على معناها الأصلي للدلالة على المبالغة في الصَّلْب تصليباً قوياً ، بحيث يدخل المصلوب في المصلوب فيه ، كأنه ليس عليه ، بل داخل فيه .
ثم يقول : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } [ طه : 71 ] أينا : المراد فرعون وموسى ، أو فرعون ورب موسى الذي أرسله { أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } [ طه : 71 ] فجمع في العذاب شدته من حيث الكيفية ، ودوامه وبقاءه في الزمن . ولم يذكر القرآن شيئاً عن تهديد فرعون ، أفعله أم لا؟ والأقرب أنه نفّذ ما هدد به .
وكان من المفروض في تهديد فرعون أن يأخذ من قلوب السَّحرة ويُرهبهم ، فيحاولون على الأقل الاعتذار عَمَّا حدث ، لكن شيئاً من هذا لم يحدث ، بل قالوا ما أهاجه أكثر : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا . . . }
(1/5719)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
الإيثار : تفضيل شيء على شيء في مجال متساوٍ تقول : آثرتُ فلاناً على فلان ، وهما في منزلة واحدة ، أو أن معك شيئاً ليس معك غيره ، ثم جاءك فقير فآثرْتَهُ على نفسك .
ومنه قوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] .
فقولهم : { لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا . . . } [ طه : 72 ] لأنه قال { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } [ طه : 71 ] أنا أمْ موسى؟ فالمعركة في نظره مع موسى ، فأرادوا أنْ يُواجهوه بهذه الحقيقة التي اتضحتْ لهم جميعاً ، وهي أن المعركة ليستْ مع موسى ، بل مع آيات الله البينات التي أُرسِل بها موسى ، ولن نُفضّلك على آيات الله التي جاءتْنا واضحة بيِّنة .
ولما رأى السحرة معجزة العصا كانوا هم أكثَر القوم إيماناً ، وقد وَضُحَ عُمْق إيمانهم لما قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] ولم يقولوا : آمنا بموسى وهارون ، إذن : فإيمانهم صحيح صادق من أول وَهْلة .
وقد تعرضنا لهذه المسألة في قصة سليمان مع ملكة سبأ ، حين قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } [ النمل : 44 ] فأنا وهو مسلمان لله ، ولم تقل : أسلمت لسليمان ، فهناك رب أعلى ، الجميع مُسلِّم له .
إذن : فقوْل السَّحَرة لفرعون : { لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا } [ طه : 72 ] تعبير دقيق وواعٍ وحكيم لا تلحظ فيه ذاتية موسى إنما تلحظُ البينة التي جاء بها موسى من الله .
لذلك يقول تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } [ البينة : 1 ] ثم يُبين عند منْ جاءت البينة : { رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } [ البينة : 2 ] .
فالارتقاء من الرسول إلى البينة إلى مَنْ أعطى له البينة ، فهذه مراحل ثلاث .
والبينات ، هي الأمور الواضحة التي تحسم كل جَدَلٍ حولها ، فلا تقبل الجدل والمهاترات؛ لأن حجتها جليّة واضحة .
وقولهم : { والذي فَطَرَنَا } [ طه : 72 ] أي : ولن نُؤثرك أيضاً على الله الذي فطرنا ، أو تكون { والذي فَطَرَنَا } [ طه : 72 ] قسم على ما يقولون ، كما تقول : لن أفعل كذا والذي خلقك ، فأنت تُقسِم ألاَّ تفعل هذا الشيء .
وهذه حيثية عدم الرجوع فيما قالوه وهو الإيمان بربِّ هارون وموسى .
ثم لم يَفُتْهم الإشارة إلى مسألة التهديدات الفرعونية : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
لذلك يقولون : { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] أي : نفَّذ ما حكمتَ به من تقطيع الأيدي والأرجل ، أو أقْضِ ما أنت قاض من أمور أخرى ، وافعل ما تريد فلم تعُدْ تخيفنا هذه التهديدات { إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ } [ طه : 72 ] .
فأنت إنسان يمكن أن تموتَ في أي وقت ، فما تقضي إلا مُدَّة حياتك ، وربما يأتي من بعدك مَنْ هو أفضل منك فلا يدّعي ما ادَّعيْته من الألوهية .
وهَبْ أن مَنْ جاء بعدك كان على شاكلتك ، فحياته أيضاً منتهية ، وحتى لو ظَلَّ ما سننته للناس من ادعاء الألوهية إلى يوم القيامة ، وامتدّ طغيان غيرك من بعدك ، فالمسألة ستنتهي ، ولو حتى بقيام الساعة .
كما سبق أن قُلْنا : إن نعيم الدنيا مهما بلغ فيتهدده أمران : إما أن تفوته أو يفوتك ، أما نعيم الآخرة فنعيم بَاقٍ دائم ، لا تفوته ولا يفوتك .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا . . . }
(1/5720)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
فما دُمْنا رجعنا من الإيمان بالبشر إلى الإيمان بخالق البشر ، فهذا رُشْدٌ في تفكيرنا لا يصح أنْ تلومنَا عليه ، ثم أوضحوا حيثية إيمانهم { لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } [ طه : 73 ] فالإيمان بالله سينفعنا ، وسيغفر لنا الخطايا وهي كثيرة ، وسيغفر لنا ما أكرهتنا عليه من مسألة السحر ، فقد صنعوا السحر مُكْرهين ، ومارسوه مُجْبرين ، فهو عمل لا يوافق طبيعتهم ولا تكوينهم ولا فطرتهم .
وما أكثر ما يُكْره الناس على أمور لا يرضونها ، وينفذون أوامر وهم غير مقتنعين بها ، خاصة في عصور الطُّغَاة والجبّارين ، وقد سمعنا كثيراً عن السَّجانين في المعتقلات ، فكان بعضهم تأتيه الأوامر بتعذيب فلان ، فلماذا يفعل وهو يعلم أنه بريء مظلوم ، ولا يطاوعه قلبه في تعذيبه ، فكان يدخل على المسجون ويقول له : اصرخ بأعلى صوتك ، ويُمثِّل أنه يضربه .
ثم يقولون : { والله خَيْرٌ وأبقى } [ طه : 73 ] فأنت ستزول ، بل دنياك كلها ستزول بمَنْ جاء بعدك من الطُّغَاة ، ولن يبقى إلا الله ، وهو سبحانه يُمتِّع كل خَلْقه بالأسباب في الدنيا ، أما في الآخرة فلن يعيشوا بالأسباب . إنما بالمسبب عز وجل دون أسباب .
لذلك إذا خطر الشيء ببالك تجده بين يديك ، وهذا نعيم الآخرة ، ولن تصل إليه حضارات الدنيا مهما بلغتْ من التطور .
لذلك في قوله تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } [ يونس : 24 ] ، فمهما ظَنَّ البشر أنهم قادرون على كل شيء في دُنْياهم فهم ضُعفاء لا يستطيعون الحفاظ على ما توصّلوا إليه .
إذن : اجعل الله تبارك وتعالى في بالك دائماً يكُنْ لك عِوَضاً عن فائت ، واستح أنْ يطلع عليك وأنت تعصيه . وقد ورد في الحديث القدسي : " إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟! " .
ولما سُئل أحد العارفين : فيم أفنيتَ عمرك؟ قال : في أربعة أشياء : علمتُ أنِّي لا أخلو من نظر الله تعالى طَرْفة عَيْن ، فاستحييتُ أن أعصيه ، وعلمتُّ أنَّ لي رِزْقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعتُ به ، وعلمتُ أن عليَّ ديناً لا يُؤدِّيه عنِّي غيري فاشتغلتُ به ، وعلمتُ أن لي أَجَلاً يبادرني فبادرته .
وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع ، فقال : اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك ، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه .
وهكذا جمعتْ هذه الأقوالُ الثمانية الدينَ كله .
ثم يُقدِّم السحرة الذين أعلنوا إيمانهم حيثيات هذا الإيمان ، فقالوا : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً . . . }
(1/5721)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
قوله : { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } [ طه : 74 ] يعني مُجرِّماً عمل الجريمة ، والجريمة أنْ تكسر قانوناً من قوانين الحق عز وجل كما يفعل البشر في قوانينهم ، فيضعون عقوبة لمَنْ يخرج عن هذه القوانين ، لكن ينبغي أن تُعيِّن هذه الجريمة وتُعلَن على الناس ، فإذا ما وقع أحد في الجريمة فقد أعذر من أنذر .
إذن : لا يمكن أن تعاقب إلا بجريمة ، ولا توجد جريمة إلا بنص .
وقوله : { يَأْتِ } أي : هو الذي سيأتي رغم إجرامه ، ورغم ما ينتظره من العذاب . لكن لماذا خاطبوه بلفظ الإجرام؟ لأنه قال : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ولم يفعلوا أكثر من أنْ قالوا كلمة الحق ، فأيُّنا إذنْ المجرم؟
وقوله تعالى : { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ طه : 74 ] لأن الموت سَيُريحهم من العذاب؛ لذلك يتمنَّوْنَ الموت ، كما جاء في قوله تعالى : { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] فيأتي رده { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] .
وفَرْقٌ بين عذاب وموت ، فالموت إنهاء للحياة ، وليس بعد الموت إيلام ، أمَّا العذاب فلا ينشأ إلا مع الحياة؛ لأنه إيلام حَيٍّ .
لذلك ، فالحق تبارك وتعالى لما عرض لهذه المسألة في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وأن سليمان قال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] فالعذاب شيء ، و الذبح شيء آخر؛ لأنه إنهاء للحياة الحاسة .
ومعنى : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ طه : 74 ] أن هناك مرحلة وحلقة بين الموت والحياة ، حيث لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياةً سالمة من العذاب ، فبقاؤهم في جهنم في هذه المرحلة ، التي لا هي موت ولا هي حياة .
(1/5722)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
فكأنهم كانوا يشيرون بقولهم : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } [ طه : 74 ] إلى فرعون ، والآن يشيرون إلى أنفسهم ، وما سلكوه من طريق الإيمان { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات } [ طه : 75 ] .
فجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان هو الينبوع الوجداني الذي تصدر عنه الحركات النزوعية على وَفْق المنهج الذي آمنت به ، وإلا فما فائدة أنْ تؤمنَ بشيء ، ولا تعمل له ، وكثيراً ما جمع القرآن بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
وقوله : { فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى } [ طه : 75 ] الدرجات أي : درجات الجنة ، فالجنة درجات ، بعضها فوق بعض ، أما النار فدركات ، بعضها تحت بعض .
وقد جعل الحق تبارك وتعالى الجنة درجات؛ لأن أهلها متفاوتون في الأعمال ، كما أنهم متفاوتون حتى في العمل الواحد؛ لأن مناط الإخلاص في العمل متفاوت .
لذلك جاء في الأثر : " الناس على خطر إلا العالمون ، والعالمون على خطر إلا العاملون ، والعاملون على خطر إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم " .
والعُلاَ : جمع عُليا . فما الدرجات العُلاَ؟
(1/5723)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
عدن : أي إقامة . مِنْ عَدَنَ في المكان : أقام فيه ، فالمراد جنات أعِدَّتْ لإقامتك ، وفرْق بين أنْ تُعِد المكان للإقامة وأنْ تُعِدَّ مكاناً لعابر ، كما أن المكان يختلف إعداده وترفه حَسْب المُعِدْ وإمكاناته ، فالإنسان العادي يُعِد مكاناً غير الذي يعده عظيم من العظماء ، فما بالك إذنْ بمكان أعدّه لك ربك عز وجل بقدراته وإمكاناته؟
وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } [ طه : 76 ] .
نعلم أن الماء من أهم مقومات الحياة الدنيا ، فبه تنبت الأرض النبات ، وفيه تذوب العناصر الغذائية ، وبدونه لا تقوم لنا حياة على وجه الأرض . والحق سبحانه وتعالى ساعةَ يُنزِل مطراً من السماء قد لا ينتفع بالمطر مَنْ نزل عليه المطر ، فربما نزل على جبل مثلاً ، فالنيل الذي نحيا على مائه يأتي من أين؟ من الحبشة وغيرها .
لذلك جعل الخالق عز وجل كلمة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ طه : 76 ] رمزاً للخضرة وللنضارة وللنماء وللحياة السعيدة الهانئة ، حتى الإنسان وإنْ لم يكُنْ محتاجاً للطعام بأنْ كان شبعان مثلاً ، يجد لذة في النظر إلى الطبيعة الخضراء ، وما فيها من زرع وورود وزهور ، فليس الزرع للأكل فقط ، بل للنظر أيضاً ، وإنْ كنتَ تأكل في اليوم ثلاث مرات ، والأكل غذاء للجسم ، فأنت تتمتع بالمنظر الجميل وتُسَرُّ به كلما نظرتَ إليه ، والنظر متعة للروح ، وسرور للنفس .
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا : لا تقصروا انتفاعكم بنعم الله على ما تملكون ، فتقول مثلاً : لا آكل هذه الفاكهة لأنها ليست مِلْكي ، لأن هناك متعةً أخرى : { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } [ الأنعام : 99 ] فقبل أن تأكل انظر ، فالنظر متعة ، وغذاء مستمر .
فقوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ طه : 76 ] لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخُضْرة والخِصْب والإيناع ، و { مِن تَحْتِهَا } [ طه : 76 ] أي : أن الماء ذاتيّ فيها ، ونابع منها ، ليس جارياً إليك من مكان آخر ، ربما يُمنَع عنك أن تُحرم منه .
لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } [ التوبة : 100 ] فتحتها أنهار جارية ، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر .
ونسب الجريان إلى النهر ، لا إلى الماء للمبالغة . فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء .
ثم يقول تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا } [ طه : 76 ] وهذا هو التأمين الحقّ للنعيم؛ لأن آفة النعم أنْ تزولَ ، إمّا بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي ، أما نعيم الجنة فقد سَلَّمه الله تعالى من هذه الآفة ، فهو خالد بَاقٍ ، لا يزول ولا يُزال عنه .
{ وذلك جَزَآءُ مَن تزكى } [ طه : 76 ] الزكاة : تُطلَق على الطهارة وعلى النماء ، فالطهارة : أن يكون الشيء في ذاته طاهراً ، والنماء : أنْ توجَد فيه خصوصية نمو فيزيد عَمَّا تراه أنت عليه .
(1/5724)
كما ترى مثلاً الورد الصناعي والورد الطبيعي في البستان ، وفيه المائية والنضارة والرائحة الطيبة والألوان المختلفة والنمو ، وكلها صفات ذاتية في الوردة ، على خلاف الورد الصناعي فهو جامد على حالة واحدة .
وهذا هو الفرق بين صَنْعة البشر وصَنْعة الخالق للبشر؛ لذلك كانت صنعة الله أخلد وأبقى ، وصدق الله العظيم حين قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
وتلحظ أنه لم يَضِنّ عليك بصفة الخَلْق؛ لأنك استعملتَ الأسباب وأَعلمتَ الفكر ، فكان لك شيء من الخلق ، لكن ربَّك أحسنُ الخالقين؛ لأنك خلقتَ من باطن خِلْقته ، خلقتَ من موجود ، وهو سبحانه يخلق من عدم ، خلقتَ شيئاً جامداً لا حياة فيه ، وخلق سبحانه شيئاً نامياً ، يتكاثر بذاته .
ومن هنا سُمِّي المال الذي تُخرجه للفقراء زكاةً؛ لأنه يُطهِّر الباقي ويُنمِّيه . ومن العجائب أن الله تعالى سَمّى ما يخرج من المال زكاة ونماءً ، وسَمَّى زيادة الربا مَحْقاً .
فمعنى : { وذلك جَزَآءُ مَن تزكى } [ طه : 76 ] أي : تطهَّر من المعاصي ، ثم نَمَّى نفسه ، ومعنى التنمية هنا ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق ، فهو مؤمن بداية ، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقي يوماً بعد يوم ، وكلما ازداد إيمانه ازداد قُرْبه من ربه ، وازدادت فيوضات الله عليه . والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة .
إذن : زكَّى نفسه : طهَّرها أولاً ، ثم يُنمِّيها ثانياً ، كمَنْ يريد التجارة ، فعليه أولاً أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم يُنمِّيه ، لكن لا تأتي برأس المال مُدنّساً ثم تُنمِّيه بما فيه من دَنَسٍ .
وكلما نَمَّى الإنسانُ إيمانَهُ ارتقى في درجاته ، فكانت له الدرجات العُلاَ في الآخرة .
(1/5725)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
كان هذا الوحي لموسى عليه السلام بعد أنِ انتهت المعركة ، وانتصر فيها معسكر الإيمان ، أما فرعون فقد خسر سلاحاً من أهمِّ أسلحته وجانباً كبيراً من سَطْوته وجبروته .
وهنا جمع موسى بني إسرائيل ، وهم بقايا ذرية آل يعقوب ليذهب بهم إلى أرض الميعاد ، وسرعان ما أعدَّ فرعون جيشه وجمع جموعه ، وسار خلفهم يتبعهم إلى ساحل البحر ، فإذا بموسى وقومه مُحَاصرين : البحر من أمامهم ، وفرعون بجيشه من خلفهم ، وليس لهم مَخْرج من هذا المأزق .
هذا حُكْم القضايا البشرية المنعزلة عن ربِّ البشر ، أما في نظر المؤمن فلها حَلٌّ؛ لأن قضاياه ليست بمعزل عن ربه وخالقه؛ لأنه مؤمن حين تصيبه مصيبة ، أو يمسه مكروه ينظر فإذا ربُّه يرعاه ، فيلجأ إليه ، ويرتاح في كَنَفِه .
لذلك يقولون : لا كَرْبَ وأنت ربٌّ ، وما دام لي رب ألجأ إليه فليست هناك معضلة ، المعضلة فيمن ليس له رَبٌّ يلجأ إليه .
وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى لو أن إنساناً معه في جيبه جنيه ، فسقط منه في الطريق ، فإذا لم يكُنْ عنده غيره يحزن أمّا إنْ كان لديه مال آخر فسوف يجد فيه عِوَضاً عَمَّا ضاع منه ، هذا الرصيد الذي تحتفظ به هو إيمانك بالله .
وهنا جاء الأمر من الله تعالى لموسى عليه السلام ليُخرجه وقومه من هذا المأزق : { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } [ طه : 77 ] .
أَسْرِ : من الإسراء ليلاً . أي : السير؛ لأنه أستر للسائر .
وقوله : { بِعِبَادِي } [ طه : 77 ] كملة " عبد " تُجمع على " عبيد " و " عباد " والفَرْق بينهما أن كل مَنْ في الكون عبيد لله تعالى؛ لأنهم وإنْ كانوا مختارين في أشياء ، فهم مقهورون في أشياء أخرى ، فالذي تعوَّد باختياره على مخالفة منهج الله ، وله دُرْبة على ذلك ، فله قَهْريات مثل المرض أو الموت .
أما العباد فهم الصَّفْوة التي اختارت مراد الله على مرادها ، واختياره على اختيارها ، فإنْ خيَّرهم : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] خرجوا عن اختيارهم لاختيار ربهم .
لذلك نسبهم الله إليه فقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] وقال عنهم : { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقال : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] .
ويقول الحق سبحانه : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } [ طه : 77 ] أي : يابساً جافاً وسط الماء .
والضرب : إيقاع شيء من ضارب بآلة على مضروب ، ومنه ضرَب العملة أي : سكَّها وختمها ، فبعد أنْ كان قطعةَ معدن أصبح عملة متداولة .
وضرب موسى البحر بعصاه فانفلق البحر وانحسر الماء عن طريق جافّ صالح للمشي بالأقدام ، وهذه مسألة لا يتصورها قانون البشر؛ لذلك يُطمئنه ربه { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } [ طه : 77 ] أي : من فرعون أنْ يُدرِككَ { وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] أي : غرقاً من البحر؛ لأن الطريق مضروب أي : مُعَد ومُمهَّد وصالح لهذه المهمة .
(1/5726)
وهذه معجزة أخرى لعصا موسى التي ألقاها ، فصارت حية تسعى ، وضرب بها البحر فانفلق فصار ما تحت العصا طريقاً يابساً ، وما حولها جبالاً { كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] وهي التي ضرب بها الحجر فانبجس منه الماء .
والسياق هنا لم يذكر شيئاً عن الحوار الذي دار بين موسى وقومه حينما وقعوا في هذه الضائقة ، لكن جاء في لقطة أخرى من القصة حيث قال تعالى : { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 6162 ] .
وبتعدد اللقطات في القرآن تكتمل الصورة العامة للقصة ، وليس في ذلك تكرار كما يتوهّم البعض .
فقبل أنْ يُوحِي إليه : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } [ طه : 77 ] قال القوم : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فقال : ( كَلاّ ) . لكن كيف يقولها قَوْلة الواثق وما يخافون منه محتمل أنْ يقع بعد لحظة؟
نقول : لأنه لم يقل ( كَلاَّ ) من عنده ، لم يَقُلها بقانون البشر ، إنما بقانون خالق البشر { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] فأنا لا أغالطكم ، ولسْتُ بمعزل عن السماء وتوجيه ربي .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ . . . }
(1/5727)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
قوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] غشيهم يعني : غطّاهم الماء ، وقد أبهم هذا الحدث للدلالة على فظاعته وهَوْله ، وأنه فوق الحَصْر والوصف ، كأن تقول في الأمر الذي لا تقدر على تفصيله : حصل ما حصل .
وفي لقطة أخرى لهذه الحادثة يُبيِّن الحق تبارك وتعالى أن موسى عليه السلام بعد أن عبر بقومه آمناً أراد باجتهاده وترجيحاته الإيمانية أن يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته فلا يتمكن فرعون من اللحاق به ، لكن توجيهات ربه لها شأن آخر . فأوحى الله إليه : { واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان : 24 ] .
أي : اتركه كما هو لا تُعِدْه إلى استطراق سيولته ، فكما أنجيتك بالماء سأتلف عدوك بالماء ، فسبحان مَنْ يُنجِي ويُهلك بالشيء الواحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ }
(1/5728)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
وسبق أن قال فرعون لقومه . { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] .
فأين سبيل الرشاد الذي تحدَّث عنه فرعون بعدَ أنْ أطبق الله عليهم البحر؟ لقد سُقْتهم إلى الهلاك ، ولم تسلك بهم مناط النجاة والهداية . فأنت إذن كاذب في ادعاء سبيل الرشاد؛ لأنك أضللتَهم ما هديتهم ، وأهلكتهم ما نجَّيتهم .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ . . . }
(1/5729)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
لله عز وجل على بني إسرائيل منَنٌ كثيرة ونِعَم لا تُعَدُّ ، كان مقتضى العبادية التي وصفهم بها { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } [ طه : 77 ] أَن يُنَفِّذوا منهج ربهم ، ويذكروا نعمه ذِكْراً لا يغيب عن بالهم أبداً ، بحيث كلما تحركتْ نفوسهم إلى مخالفة ذكروا نعمةً من نِعَم الله عليهم ، تذكّروا أنهم غير متطوعين بالإيمان ، إنما يردُّون لله ما عليهم من نِعَم وآلاء .
والحق تبارك وتعالى هنا يذكِّرهم ببعض نعَمه ، ويناديهم بأحبِّ نداء { يابني إِسْرَائِيلَ } [ طه : 80 ] وإسرائيل يعني عند الله ، عبده المخلص ، كما تقول لصاحبك : يا ابن الرجل الطيب . . الورع ، فالحق يُذكِّرهم بأصلهم الطيب ، ينسبهم إلى نبي من أنبيائه . كأنه يلفت أنظارهم أنه لا يليق بكم المخالفة ، ولا الخروج عن المنهج . وأنتم سلالة هذا الرجل الصالح .
وقوله تعالى : { قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ } [ طه : 80 ] أي : من فرعون الذي استذلكم ، وذبح أبناءكم ، واستحي نساءكم ويُسخِّرهم في الأعمال دون أجر ، وفعل بكم الأفاعيل ، ثم { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن } [ طه : 80 ] لتأخذوا المنهج السليم لحركة الحياة . إذن : خلَّصْناكم من أذى ، وواعدناكم لنعمة .
{ وَوَاعَدْنَاكُمْ } [ طه : 80 ] واعد : مفاعلة لا تكون إلا من طرفيْن مثل : شارك وخاصم ، فهل كان الوَعْد من جانبهما معاً : الله عز وجل وبني إسرائيل؟ الوَعْد كان من الله تعالى ، لكن لم يقُلْ القرآن : وعدناكم . بل أشرك بني إسرائيل في الوعد ، وهذا يُنبِّهنا إلى أنه إذا وعدك إنسان بشيء ووافقتَ ، فكأنك دخلتَ في الوعد .
وجانب الطور الأيمن : مكان تلقِّي منهج السماء ، وهو مكان بعيد في الصحراء ، لا زرعَ فيه ولا ماء؛ لذلك يضمن لهم ربُّهم عز وجل ما يُقِيتهم { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ طه : 80 ] .
المنّ : سائل أبيض يشبه العسل ، يتساقط مثل قطرات بلورية تشبه الندى على ورق الأشجار ، وفي الصباح يجمعونه كطعام حلو . وهذه النعمة ما زالت موجودة في العراق مثلاً ، وتقوم عليها صناعة كبيرة هي صناعة المنّ .
والسَّلْوى : طائر يشبه طائر السَّمان .
وهكذا وفَّر لهم الحق تبارك وتعالى مُقوِّمات الحياة بهذه المادة السُّكَّرية لذيذة الطعم تجمع بين القشدة مع عسل النحل ، وطائر شهي دون تعب منهم ، ودون مجهود ، بل يروْنَه بين أيديهم مُعَدّاً جاهزاً ، وكان المنتظر منهم أن يشكروا نعمة الله عليهم ، لكنهم اعترضوا عليها فقالوا :
{ لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] .
وفي سورة البقرة ذكر مع هذه النعمة التي صاحبتهم في جَدْب الصحراء نعمة أخرى ، فقال تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] أي : حَمْيانكم من وهج الشمس وحرارتها حين تسيرون في هذه الصحراء .
ونلحظ اختلاف السياق هنا { نَزَّلْنَا } ، وفي البقرة قال : { أنْزَلْنَا } ؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى يعالج الموضوع في لقطات مختلفة من جميع زواياه ، فقوله { أنْزَلْنَا } تدل على التعدِّي الأول للفعل ، وقد يأتي لمرة واحدة ، إنما { نَزَّلنَا } فتدلُّ على التوالي في الإنزال .
وأهل الريف في بلادنا يُطلِقون المنَّ على مادة تميل إلى الحمرة الداكنة ، ثم تتحول إلى السواد ، تسقط على النبات ، لكنها ليست نعمةً ، بل تُعَدُّ آفة من الآفات الضارة بالنبات .
ثم يقول الحق سبحانه : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . . }
(1/5730)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
الطعام والشراب والهواء مُقوِّمات الحياة التي ضمنها الله عز وجل لنا ، والأمر بالأكل هنا للإباحة ، وليست فَرْضاً عليك أنْ تأكل إلا إذا أردتَ الإضراب عن الطعام إضراباً يضرُّ بحياتك فعندها تُجبر عليه .
وقوله : { مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ طه : 81 ] خصَّ الطيبات؛ لأن الرزق : منه الطيب ، ومنه غير الطيّب ، فالرزق : كُلّ ما انتفعتَ به ولو كان حراماً . بمعنى أن ما نِلْتَه من الحرام هو أيضاً من رزقك إلا أنك تعجَّلته بالحرام ، ولو صبرْتَ عليه وعففْتَ نفسك عنه لَنِلْتَ أضعافه من الحلال .
ثم يقول تعالى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } [ طه : 81 ] وفي آية البقرة { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] فكأن ظلمَ النفس عِلَّته أنهم طَغَوْا في الأكل من الرزق .
والطغيان : من طغى الشيء إذا زاد عن حَدِّه المألوف الذي ينتفع به ، ومنه طغيان الماء إذا زاد عن الحدِّ الذي يزيل الشَّرق والعطش إلى حَدِّ أنه يُغرق ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] أي : تجاوز الحد الذي ينتفع به إلى العَطَب والهلاك .
وهكذا في أي حَدٍّ ، لكن كيف تتأتى مجاوزة الحد في الطعام والأقوات؟
الحق تبارك وتعالى لما خلق الأرض قدَّر فيها أقواتها إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [ فصلت : 10 ] .
فاطمئنوا إلى هذه المسألة ، وإذا رأيتم الأرض لا تعطي فلا تتهموها ، إنما اتهموا أنفسكم بالتقصير والتكاسل عن عمارة الأرض وزراعتها ، كما أمركم الله : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ] .
وقد غفلنا زمناً عن هذه المسألة ، حتى فاجأتنا الأحداث بكثرة العدد وقِلَّة المدد ، فكان الخروج إلى الصحراء وتعميرها .
وما دام أن الخالق عز وجل خلق لنا أرزاقنا ومُقوِّمات حياتنا ، وجعلها مناسبة لهذا الإنسان الذي كرّمه وجعله خليفة له في الأرض ، وجعل لهذا الرزق ولهذه المقوّمات حدوداً حدّها وبيَّنها هي ( الحلال ) ، فلا ينبغي لك بعد ذلك أن تتعدى هذه الحدود ، وتطغى في تناول طعامك وشرابك .
ونحن نرى حتى الآلات التي صنعها البشر ، لكل منها وقودها الخاص ، وإذا أعطيتها غيره لا تؤدي مهمتها ، فمثلاً لو وضعت للطائرة سولاراً لا تتحرك ، فليس هو الوقود المناسب لطبيعتها .
إذن : حدودك في مُقوِّمات حياتك الحلال ، ولو استقرأنا ما أحلَّ الله وما حرَّم لوجدنا الأصل في الأشياء أنها حلال ، والكثير هو المحلل لك ، أما المحرم عليك فهو القليل المحصور الذي يمكن تحديده .
لذلك يقول عز وجل : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] ولم يقُلْ مثلاً في آية أخرى : تعالوا أَتْلُ ما أحل الله لكم؛ لأنها مسألة تطول ولا تحصى .
إذن : ساعةَ أعطاك ربك قال لك : هذا رِزْقُك الحلال الخالص ، ومنه وقودك ومُقوِّمات حياتك ، وبه بقاؤك ونشاط حركتك .
(1/5731)
فلا تتعدَّ الحلال على كثرته إلى الحرام على قِلَّته وانحصاره في عِدَّة أنواع ، بيَّنها لك وحذَّرك منها .
وبالغذاء تتم في الجسم عملية ( الأَيْض ) يعني : الهدم والبناء ، وهي عملية مستمرة في كل لحظة من لحظاتك ، فإياك أنْ تبني ذَرَّة من ذراتك من الحرام؛ لأن ذرة الحرام هذه تظل تُشاغبك وتُلِح عليك كي تُوقِعك في أصلها .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، ثم يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، فأنَّى يُستجاب لذلك " .
ذلك لأن ذرات بنائه غير منسجمة ، لأنها نَمتْ على وقودٍ ما أحله الله له .
لذلك تسمع من بعض المتمحكين : ما دام أن الله خلق الخنزير فلماذا حرَّمه؟ نقول : لقد فهمتَ أن كل مخلوق خُلِق ليؤكل ، وهذا غير صحيح ، فالله خلق البترول الذي تعمل به الآلات ، أتستطيع أن تشربه كالسيارة؟
إذن : فَرْق بين شيء مخلوق لشيء ، وأنت توجهه لشيء آخر ، هذه تسمى إحالة أي : تحويل الشيء إلى غير ما جُعِل له ، وهذا هو الطغيان في القُوت؛ لأنك نقلتَ الحرام إلى الحلال .
وقد يأتي الطغيان في صورة أخرى ، كأن تأكل ما أحلَّ الله من الطيبات ، لكنك تحصل عليها بطريق غير مشروع ، وتُعوِّد نفسك الكسل عن الكسْب الحلال ، فتأخذ مجهود غيرك وتعيش عالةً عليه ، فإلى جانب أنك تتغذَّى على الحرام فأنت أيضاً تُزهّد غيرك في الحركة والإنتاج والمِلك ، وما فائدة أن يتعب الإنسان ويأخذ غيره ثمرة تعبه؟
وقد أخذ الطغيان بهذا المعنى صُوراً متعددة في مجتمعاتنا ، فيمكن أن ندرج تحته : الغصب ، والخطف ، والسرقة ، والاختلاس ، والرشوة ، وخيانة الأمانة ، وخداع مَن استأجرك إلى غير ذلك من أخْذ أموال الناس بالباطل ودون وَجْه حق ، وكل عمل من هذه التعديات له صورته .
فالخطف : أنْ تخطف مال غيرك دون أنْ يكون في متناول يد المخطوف منه ثم تَفِر منه ، فإنْ كان في متناول يده وأنت غالبته عليه ، وأخذته عُنْوةً فهو غَصْب مأخوذ من : غَصْب الجلد عن الشاة أي : سلخه عنها . فإنْ كان أخذ المال خُفْية وهو في حِرْزه فهي سرقة . وإن كنت مُؤتمناً على مال بين يديك فأخذتَ منه خفية فهو اختلاس . . الخ .
إذن : أحل الله لك أشياءً ، وحرَّم عليك أخرى ، فإنْ كان الشيء في ذاته حلالاً فلا تأخذه إلا بحقِّه حتى يحترم كل مِنّا عمل الآخر وحركته في الحياة وملكيته للأشياء ، وبذلك تستقيم بِنَا حركة الحياة ، ويسعد الجميع ونعين المنفق ، ونأخذ على يد المتسبِّب البلطجي .
(1/5732)
وللإسلام منهج قويم في القضاء على مسألة البطالة ، تأخذ منه بعض النظم الحديثة الآن ، وهو أن الشرع يأمر للقضاء على البطالة أن تحفر بئراً وتطُمَّها : أي احفرها وأرْدِمها ثم اعْطِ الأجير فيها أجره . كيف هذا؟ تحفر البئر ولا تستفيد منها وتردمها فما الفائدة؟ ولماذا لم نعط الأجير أجره دون حفر ودون ردم؟
قالوا : حتى لا يتعوَّد على الخمول والكسل ، وحتى لا يأكل إلاّ من عرقه وكَدَّه ، وإلا فسد المجتمع .
وللطغيان في القوت صورة أخرى ، هي أن تستخدم القوت الذي جعله الله طاقة لك في حركة الحياة النافعة ، فإذا بك تصرف هذه الطاقة التي أنعم الله بها عليك في معصيته .
وهكذا ، كان الطغيان هو علّة { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } [ النحل : 118 ] أي : بالعقوبة { ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] أي : بالطغيان .
ثم يقول تعالى : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه : 81 ] الفعل : حَلَّ ، يحلّ يأتي بمعنى : صار حلالاً ، كما تقول للسارق : حلال فيه السجن . وتأتي حلَّ يحل بمعنى : نزل في المكان ، تقول : حَلَّ بالمكان أي : نزل به . فيكون المعنى : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } [ طه : 81 ] أي : صار حلالاً ، ووجب لكم ، أو بمعنى : ينزل بكم . وقد يكون المعنى أعمَّ من هذا كله .
والغضب انفعال نفسيٌّ يُحدِث تغييراً في كيماوية الجسم ، فترى الغاضب قد انتفختْ أوداجه واحمرَّ وجهه ، وتغيّرت ملامحه ، فهذه أغيار تصاحب هذا الانفعال . فهل غضب الله عز وجل من هذا النوع؟
بالطبع لا؛ لأنه تعالى ليس عنده أغيار ، وإذا كان الغضب يتناسب وقدرة الغاضب على العذاب ، فما بالك إنْ كان الغضب من الله؟
ثم يقول تعالى : { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى } [ طه : 81 ] مادة : هَوَى لها استعمالان ، الأول : هَوَى يهْوِي : يعني سقط من أَعْلى سقوطاً لا إرادةَ له في منعه ، كأن يسقطَ فجأة من على السطح مثلاً ، ومن ذلك قوله :
هُوِىّ الدلو أَسْلَمَها الرِّشَاء ... إذا انقطع الحبل الذي يُخرِج الدَّلُو .
والآخر : هَوِىَ يَهْوَى : أي أحبَّ .
فيكون المعنى { فَقَدْ هوى } [ طه : 81 ] سقط إلى القاع سقوطاً لا يبقى له قيمة في الحياة ، أو هَوَى في الدنيا ، ويَهوي في الآخرة ، كما جاء في قوله تعالى : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 9 ] فأمه ومصدر الحنان له هاوية ، فكيف به إذا هوى في الهاوية؟
هذه كلها عِظَات ومواعظ للمؤمن ، يُبيِّنها الحق سبحانه وتعالى له كي يبني حركة حياته على ضَوْئها وهُدَاها .
ولما كان الإنسان عُرْضة لأغيار لا يثبتُ على حال يتقلَّب بين عافية ومرض ، بين غِنىً وفقرٍ ، فكُلُّ ما فيه موهوب له لا ذاتيّ فيه ، لذلك إياك أن تحزن حين يفوتك شيء من النعمة؛ لأنها لن تبقى ولن تدوم ، وهَبْ أنك بلغتَ قمة النعيم ، فماذا تنتظر إلا أنْ تزول ، كما قال الشاعر :
(1/5733)
إذَا تَمَّ شَيْءٌ بَدَا نَقْصُه ... تَرقَّبْ زَوَالاً إِذَا قِيلَ تَمّ
فإذا تَمَّ لك الشيء ، وأنت ابْنُ أغيار ، ولا يدوم لك حال فلا بُدَّ لك أن تنحدر إلى الناحية الأخرى .
فكأن نقْصَ الإنسان في آماله في الحياة هي تميمة حراسة النِّعَم ، وما فيه من نَقْص أو عيب يدفع عنه حَسَد الحاسد ، كما قال الشاعر في المدح :
شَخَصَ الأنَامُ إلى كَمَالِكَ ... فَاسْتِعذْ مِنْ شَرِّ أعينهِمْ بِعيْبٍ وَاحِدٍ
أي : أن الأعين متطلعة إليك ، فاصرفها عنك ، ولو بعيب واحد يذكره الناس وينشغلون به .
وفي الريف يعيش بعض الفلاحين على الفطرة ، فإنْ رُزِق أحدهم بولد جميل وسيم يُلفِت نظر الناس إليه . وتراهم يتعمدون إهمال شكله ونظافته ، أو يضعونَ له ( فاسوخة ) دَفْعاً للحسد وللعين .
لذلك فالمرأة التي دخلت على الخليفة ، فقالت له : أتمَّ الله عليك نعمته ، وأقرَّ عينك ، ففهم الحضور أنها تدعو له ، فلما خرجتْ قال الخليفة : أعرفتم ما قالت المرأة؟ قالوا : تدعو لك ، قال : بل تدعو عليَّ ، فقد أرادت بقولها : أتمَّ الله عليك نعمته تريد أزالها؛ لأن النعمة إذا تمت لم يَبْقَ لها إلا الزوال ، وقولها : أقَرَّ الله عينكَ تريد : أسكنها عن الحركة .
إذن : لا تغضَب إنْ قالوا عنك : ناقص في كذا ، فهذا النقص هو تميمة الكمال ، ويريدها الله لك لمصلحتك أنت .
وما دام الإنسان ابن أغيار ، فلا بُدَّ أنْ يغفل عن منهج الله ، فتكون له سَقَطات وهَفَوات تحتاج إلى غفران؛ لذلك يقول تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ . . . }
(1/5734)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
غفار : صيغة مبالغة من غفر ، فإذا أثبت المبالغة فالترتيب اللغوي بالتالي يُثبتِ الأقلَّ وهو غافر ، هذا في الإثبات : وكذلك في النفي في مثل قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] فنفى المبالغة في الظلم ، فهل يعني ذلك أنه تعالى يمكن أن يكون ظالماً؟
والشيء يُبالغ فيه لأمرين : الأول : أن تبالغ في نفس الحدث ، كأن تأكلَ رغيفاً في الوجبة أو رغيفين ، وآخر يأكل خمسة أرغفة ، فهذه منه مبالغة في نفس الحدث وهو الأكل ، والثاني : قد تكون المبالغة بتكرار الحدَث ، فالعادة أن نأكل ثلاث مرات ، وهناك مَنْ يأكل سِتّ وجبات ، ونسميه ( أكول ) أي : كثير الأكل ، لا في الوجبة الواحدة ، إنما في عدد الوجبات .
فمعنى ( غَفَّارٌ ) غافر لي ، وغافر لك ، وغافر لهذا وهذا . . غافر لكل الخَلْق ، فتكررت مغفرته عز وجل لخَلْقه .
وقد شرع الحق سبحانه وتعالى المغفرة والتوبة ليحمي المجتمعات من شرار الناس فيها ، فالشرير إذا ارتكب جريمة ولم يجد له فرصة للمغفرة والتوبة ، فإنه يستمرىء الجريمة ، بل ويبالغ فيها .
أما إذا فُتِح له باب التوبة والمغفرة فإن هذا يرحم المجتمع من شراسة أصحاب السوء .
والله عز وجل ليس غافراً للذنوب فحسب ، بل هو غفار لها ، وكلما عدت إليه غفر لك ، ولكن وَطِّن نفسك أنك إذا فعلت الذنب وتُبْت منه فلا تعد إليه ، ولا ترتب وتخطط لمعصيتك على أمل أن تتوب ، فما يدريك أن تعيش إلى أن تتوب؟
والمغفرة تكون { لِّمَن تَابَ وَآمَنَ } [ طه : 82 ] وما دام قال { تَابَ وَآمَنَ } [ طه : 82 ] فلا بُدَّ أن التوبة هنا عن الكُفْر ، ثم أنشأ إيماناً بالله وبرسوله . والإيمان هو الينبوع الذي يصدر عنه السُّلوك البشري ، وهذا يقتضي أن تسمع كلامه وتُنفِّذ أوامره ، وتجتنب نواهيه ، وهذا هو المراد بقوله { وَعَمِلَ صَالِحَاً } [ طه : 82 ] .
لكن ، أليس العمل الصالح هداية؟ فلماذا قال بعدها { ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] قالوا : لأن الهداية أنْ تستمر على هذا العمل الصالح ، وأنْ تستزيدَ منه ، كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ . . . }
(1/5735)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
نقول : ما أعجلك؟ يعني : ما أسرع بك؟ لماذا جئتَ قبل موعدك؟ وكان موسى عليه السلام على موعد مع ربه عز وجل ليتلقى عنه المنهج ، والمفروض في هذا اللقاء أنْ يأتيَ معه مجموعة من صَفْوة قومه ورؤسائهم ، فتعجل موسى موعد ربه ، وذهب دون قومه ، فقال له : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى } [ طه : 83 ] أي : أسرعتَ وتعجَّلْتَ وجِئْتَ بدونهم .
فقال موسى عليه السلام : { قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي . . . }
(1/5736)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
أي : قادمين خلفي وسيتبعونني ، أما أنا فقد { عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] تعجَّلْتُ في المثول بين يديك لترضى .
وقد تعجَّل موسى إلى ميقات ربه ، وسبق قومه لحكمة ، فالإنسان حين يأمر غيره بأمر فيه مشقّة على النفس وتقييد لشهواتها ، لا بُدَّ أن يبدأ بنفسه يقول : أنا لست بنجْوَةٍ عن هذا الأمر ، بل أنا أول مَنْ أُنفِّذ ما آمركم به ، وسوف أسبقكم إليه .
لذلك يقول القائد الفاتح طارق بن زياد لجنوده : " واعلموا أني إذا التقى الفريقان مُقبِل بنفسي على طاغية القوم لزريق فقاتله إن شاء الله ، فإن قتلته فقد كُفيتم أمره " وهكذا تكون القيادة قدوة ومثَلاً كما يقولون في الأمثال ( اعمل كذا وإيدي في إيدك ) وهنا يقول : يدي قبل يدك .
فموسى عليه السلام يقول : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] ترضى أن منهجك يُطبِّق من جهتي كرسول مؤتمن عليه ، ومن جهة قومي؛ لأنهم حين يروني قد تعجلت للقائك في الموعد يعلمون أن في ذلك خيراً لهم ، وإلا ما سبقتهم إليه . وبذلك يسود منهج الله ويُمكَّن في الأرض ، وإذا ساد منهج الله رضي الله . عن خليفته في الأرض .
ثم يُخبر الحق تبارك وتعالى نبيه موسى عليه السلام بما كان من قومه بعد مفارقته لهم من مسألة عبادة العجل .
(1/5737)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
الفتنة : ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن الفتنة تعني الاختبار ، ونتيجته هي التي تُحمَد أو تُذمّ ، كما لو دخل التلميذ الامتحان فإنْ وُفِّق فهذا خير له ، وإنْ أخفق فهذا خير للناس ، كيف؟
قالوا : لأن هناك أشياءَ إنْ تحققتْ مصلحة الفرد فيها انهدمتْ مصلحة الجماعة . فلو تمكَّن التلميذ المهمل الكَسُول من النجاح دون مذاكرة ودون مجهود ، فقد نال انتفاعاً شخصياً ، وإنْ كان انتفاعاً أحمق ، إلا أنه سيعطي الآخرين إشارة ، ويُوحِي لهم بعدم المسئولية ، ويفرز في المجتمع الإحباط والخمول ، وكفى بهذا خسارة للمجتمع .
وقد جاءتْ الفتنة بهذا المعنى في قول الحق تبارك وتعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] .
إذن : لا بد من الاختبار لكي يعطي كل إنسان حسب نتيجته ، فإن سأل سائل : وهل يختبر الله عباده ليعلَم حالهم؟ نقول : بل ليعلم الناس حالهم ، وتتكشف حقائقهم فيعاملونهم على أساسها : هذا منافق ، وهذا مخلص ، وهذا كذاب ، فيمكنك أنْ تحتاط في معاملتهم .
إذن : الاختبار لا ليعلم الله ، ولكن ليعلم خَلْق الله .
أو : لأن الاختبار من الله لِقطْع الحجة على المختبر ، كأن يقول : لو أعطاني الله مالاً فسأفعل به كذا وكذا من وجوه الخير ، فإذا ما وُضِع في الاختبار الحقيقي وأُعطِى المال أمسك وبَخِل ، ولو تركه الله دون مال لَقال : لو عندي كنتُ فعلت كذا وكذا .
فهناك عِلْم واقع من الله ، أو علم من خَلْق الله لكل مَنْ يفتن ، فإنْ كان مُحْسِناً يقتدون به ، ويقبلون عليه ، ويحبونه ويستمعون إليه ، وإلاَّ انصرفوا عنه . فالاختبار إذن قَصْده المجتمع وسلامته .
وقد سَمَّى الحق سبحانه ما حدث من بني إسرائيل في غياب موسى من عبادة العجل سماه فتنة ، ثم نسبها إلى نفسه { فَتَنَّا } [ طه : 85 ] أي : اختبرنا .
ثم يقول تعالى : { وَأَضَلَّهُمُ السامري } [ طه : 85 ] أضلهم : سلك بهم غير طريق الحق ، وسلوك غير طريق الحق قد يكون للذاتية المحضة ، فيحمل الإنسان فيها وِزْر نفسه فقط ، وقد تتعدَّى إلى الآخرين فيسلك بهم طريق الضلال ، فيحمل وزْره ووِزْر غيره مِمَّنْ أضلّهم .
وفي هذه المسألة يقول تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } [ النحل : 25 ] .
مع أن الله تعالى قال في أية أخرى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] .
وهذه من المسائل التي توقَّف عندها بعض المستشرقين ، محاولين اتهام القرآن وأسلوبه بالتناقض ، وما ذلك منهم إلا لعدم فَهْمهم للغة القرآن واتخاذها صناعة لا مَلَكة ، ولو فَهِموا القرآن لَعَلِموا الفرق بين أن يضل الإنسان في ذاته ، وبين أن يتسبب في إضلال غيره .
والسامري : اسمه موسى السامري ، ويُرْوَى أن أمه وضعته في صحراء لا حياة فيها ، ثم ماتت في نفاسها ، فظل الولد بدون أم ترعاه ، فكان جبريل عليه السلام يتعهده ويربِّيه إلى أن شبَّ .
وقد عبَّر الشاعر عن هذه اللقطة وما فيها من مفارقات بين موسى عليه السلام وموسى السامري ، فقال :
إِذَا لَمْ تُصَادِفْ فِي بَنِيكَ عِنَايةً ... فَقَدْ كذَبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤمِّل
فَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كَافِر ... وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ
ثم يقول الحق سبحانه : { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ . . . }
(1/5738)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
رَجَع : تُستعمل لازمة . مثل : رجع فلان إلى الحق . ومُتعدِّية مثل { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } [ التوبة : 83 ] والمعنى فيهما مختلف .
هنا رجع موسى أي : حين سمع ما حدث لقومه من فتنة السامري { غَضْبَانَ أَسِفاً } [ طه : 86 ] أي : شديد الحزن على ما حدث { قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } [ طه : 86 ] الوعْد الحسن أن الله يعطيهم التوراة ، وفيها أصول حركة الحياة ، وبها تَحسُن حياتنا في الدنيا ، ويحسُن ثوابنا في الآخرة .
وقوله : { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } [ طه : 86 ] .
يعني : أطال عهدي بكم ، وأصبح بعيداً لدرجة أنْ تنسَوْه ولم أَغبْ عنكم إلا مُدَّة يسيرة . قال الله عنها : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ] .
ثم يقول : { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } [ طه : 86 ] .
وما دام أن عهدي بكم قريب لا يحدث فيه النسيان ، فلا بُدَّ أنكم تريدون العصيان ، وتبغُون غضب الله ، وإلاّ فالمسألة لا تستحق ، فبمجرد أنْ أغيبَ عنكم تنتكسون هذه النكسة ، وإن كان هذا حال القوم ورسولُهم ما زال بين أظهرهم ، فما بالهم بعد موته؟
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أذلك وأنا بين ظَهْرانيكم؟ " .
أي : ما هذا الذي يحدث منكم ، وأنا ما زلت موجوداً بينكم؟
وقوله : { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } [ طه : 86 ] وفي آية أخرى قال : { بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي } [ الأعراف : 150 ] فكأنه كان له معهم وَعْد وكلام ، فقد أوصاهم قبل أن يُفارقهم أنْ يسلكوا طريق هارون ، وأن يطيعوا أوامره إلى أنْ يعود إليهم ، فهارون هو الذي سيخلفه من بعده في قومه ، وهو شريكه في الرسالة ، وله مهابة الرسول وطاعته واجبة .
هذا هو الوَعْد الذي أخلفوه مع نبيهم موسى عليه السلام .
(1/5739)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
مادة " ملك " لها صور ثلاثة ، لكل منها معنى ، وليست بمعنى واحد كما يدَّعِي البعض ، فتأتي مَلْك بفتح الميم ، ومِلْك بكسرها ، ومُلْك بضم الميم ، وجميعها تفيد الحيازة والتملُّك ، إلا أن مَلْك تعني تملك الإنسان لنفسه وذاته وإرادته ، دون أنْ يملكَ شيئاً آخر مِمَّا حوله .
ومِلْك : لتملك ما هو خارج عن ذاتك .
ومُلْك : أنْ تملك شيئاً ، وتملك مَنْ ملكه .
إذن : هذه الثلاثة ليستْ مترادفات بمعنى واحد . فقوله تعالى : { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } [ طه : 87 ] أي : بإرادتنا ، بل أمور أخرى خارجة عن إرادتنا حملتنا على إخلاف الوعد ، فما هذه الأمور الخارجة عن إرادتكم؟
قالوا : { ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم } [ طه : 87 ] ( أَوْزَاراً ) جمع وِزْر ، وهو الشيء الثقيل على النفس ، ويطلق الوِزْر على الإثم؛ لأنه ثقيل على النفس ثِقَلاً يتعدىَ إلى الآخرة أيضاً ، حيث لا ينتهي ألم الحمْل فيها؛ لذلك يقول تعالى : { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } [ طه : 101 ] .
وكانت هذه الأوزار من زينة القوم : أي : قوم فرعون . وقالوا إنهم كانوا في أعيادهم يستعيرون الحُليّ من جيرانهم ومعارفهم من قوم فرعون يتزيَّنون بها . فلماذا لم يردُّوا الأمانات هذه إلى أصحابها قبل أنْ يخرجُوا إلى الميقات الذي واعدهم عليه؟
قالوا : لأنهم أرادوا أنْ يُسِرُّوا ساعة خروجهم حتى لا يستعد لهم أعداؤهم ، وصدُّوهم عن الخروج فأعجلوا عن رَدِّها .
وقال قوم : إن هذه الزينات والحليّ كانت مما قذف به البحر بعد أنْ غرق فرعون وقومه ، ولكن هذا القول مردود؛ لأنهم إنْ أخذوها بعد أنْ ألْقَى بها البحر فسوف تكون أسلاباً لا أوزاراً .
ثم يقول تعالى : { فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري } [ طه : 87 ] .
إذا أُطلِقَتْ الزينة تنصرف عادةً إلى الذهب ، والقَذْف هو الرَّمْي بشدة ، وكأن الرامي يتأفَف أنْ يحمل المرمىّ ، وفي ذلك دلالة على أن بني إسرائيل ما يزال عندهم خميرة إيمان فتألموا وحزنوا لأنهم لم يردُّوا الأمانات إلى أهلها .
لذلك دخل عليهم السامري من هذه الناحية ، فأفهمهم : إنكم لن تبرأوا من هذه المعصية إلا أنْ ترمُوا بهذه الزينة في النار ، وهو يقصد شيئاً آخر ، هو أنْ ينصهر الذهب ، ويُخرِج ما فيه من الشوائب { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري } [ طه : 87 ] أي : ألقى ما معه من الحُليّ ، لكن فَرْق بين القَذْف والإلقاء ، الإلقاء فيه لُطْف وتمهُّل ، فهو كبيرهم ومُعلِّمهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ . . . }
(1/5740)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
أي : أخرج لهم من هذا الذهب المنصهر { عِجْلاً جَسَداً } [ طه : 88 ] كلمة جسد وردتْ أيضاً في القرآن في قصة سليمان عليه السلام ، حيث قال تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] .
وقد أعطى الله سليمان مُلْكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده ، فسخَّر له الطير والجنَّ والإنس والريح يأتمرون بأمره ، ويبدو أنه أخذه شيء من الزَّهْو أو الغرور ، فأراد الحق سبحانه أنْ يلفته إلى مانح هذا الملْك ويُذكِّره بأن هذا الملْك لا يقوم بذاته ، إنما بأمر الله القادر على أن يُقعِدك على كُرسيِّك جسداً ، لا حركة فيه ولا قدرة له حتى على جوارحه وذاته .
كما ترى الرجل والعياذ بالله قد أصابه شلل كُليٌّ أقعده جسداً ، لا حركة فيه ، ولا إرادةَ على جوارحه ، فإذا لم تكن له إرادة على جارحة واحدة من جوارحه ، أفتكون له إرادة على الخارج عنه من طير أو إنس أو جن؟
فلا تغتر بأنْ جعل الله لك إمْره على كل الأجناس؛ لأنه قادر أنْ يسلبكَ هذا كله .
ويُروَى أن سليمان عليه السلام ركب بساط الريح يحمله إلى حيث يريد ، كما قال تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [ سبأ : 12 ] فَداخلَه شيء من الفخر والزَّهْو ، فسمع من تحته مَنْ يقول : يا سليمان هكذا دون ألقاب أُمِرْنا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله ، ثم رَدَّه حيث كان .
لذلك استغفر سليمان عليه السلام وأناب .
وكذلك نرى الإنسان ساعة أن يموتَ أولَ ما يُنسَى منه اسمه ، فيقولون : الجثة : الجثة هنا ، ماذا فعلتم بالجثة ، ثم تُنسَى هذه أيضاً بمجرد أن يُوضَع في نعشه فيقولون الخشبة : أين الخشبة الآن ، انتظروا الخشبة . . سبحان الله بمجرد أنْ يأخذ الخالق عز وجل سِرَّه من العبد صار جثة ، وصار خشبة ، فما هذه الدنيا التي تكون نهايتها هكذا؟
ففي قوله تعالى { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } [ طه : 88 ] أي : لا حركة فيه ، فهو مجرد تمثال . صُنِع على هيئة معينة ، بحيث يستقبل الريح ، فيحدث فيه صفيراً يشبه الخوار أي : صوت البقر .
لكن ، لماذا فكَّر السامري هذا التفكير ، واختار مسألة العجل هذه؟
قالوا : لأن السامري استغلَّ تشوُّق بني إسرائيل ، وميلهم إلى الصنمية والوثنية ، وأنها متأصلة فيهم . ألم يقولوا لنبيهم عليه السلام وما زالت أقدامهم مُبتلة من البحر بعد أن أنجاهم الله من فرعون ، وكان جديراً بهم شكر الله ، فإذا بهم يقولون وقد أَتَوْا على قوم يعكفون على أصنام لهم : { ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
فجاءهم بهذا العجل ، وقد ترقَّى به من الصنمية ، فجعله جسداً ، وجعل له خواراً وصَوْتاً مسموعاً .
ثم يقول تعالى : { فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ } [ طه : 88 ] أي : نسي السامري خميرة الإيمان في نفسه ، ونسي أن هذا العمل خروجٌ عن الإيمان إلى الكفر ، ولَيْتَه يكفر في ذاته ، إنما هو يكفر ويُكفِّر الناس . لا بُدَّ أنه نسي ، فلو كان على ذُكْر من الإيمان ومن عاقبه عمله وخيبة ما أقدم عليه ما فعل .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ }
(1/5741)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
أي : كيف يعبدون هذا العجل ، وهو لا يردّ عليهم جواباً ، ولا يملك له شيئاً ، كما قال تعالى في آية أخرى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [ الشعراء : 6973 ] .
فَمنْ كان لديه ذرة من عقل لا يُقدم على هذه المسألة؛ لذلك فالحق سبحانه يناقش هؤلاء : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] .
أي : أخبرونا بالطريق الذي يحملكم على الكفر ، كأنها مسألة عجيبة لا يقبلها العقل ولا يُقرُّها . ألم يخطر ببال هؤلاء الذين عبدوا العجل أنه لا يردّ عليهم إنْ سألوه ، ولا يملك لهم ضَرَّاً إنْ كفروا به ، ولا نفعاً إن آمنوا به وعبدوه .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ }
(1/5742)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
وكان هارون عليه السلام خليفة لأخيه في غَيْبته ، كما قال تعالى : { وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] .
اخْلُفْنِي واعمل الصالح ، فكان هذا تفويضاً من موسى لأخيه هارون أن يقضي في القوم بما يراه مناسباً ، وأنْ يُقدِّر المصلحة كما يرى . وقد شُفِع هذا التفويض لهارون أمام أخيه بعد ذلك .
فقوله تعالى : { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } [ طه : 90 ] .
وهكذا وعظهم هارون على قَدْر استطاعته ، وبيّن لهم أن مسألة العِجْل هذه اختبار من الله . وكان تقديره في هذه القضية ألاَّ يدخل مع هؤلاء في معركة؛ لأن القومَ كانوا جميعاً ثلاثمائة ألف ، عبد العجل منهم أثنا عشر ألفاً ، ولو جعلها هارون عليه السلام معركة لأفْنى كل هذا العدد .
لذلك اكتفى بالوعظ { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي } [ طه : 90 ] كما أخذتم العهد عند موسى .
(1/5743)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
{ لَن نَّبْرَحَ } [ طه : 91 ] . أي سنظل عل هذا الحال ، البعض يظن أنها للمكان فقط ، إنما هي حَسْب ما تتعلق به ، تقول : لا أبرح سائراً حتى أصِلَ لغرضي ، ولا أبرح هذه المكان فقد تكون للمكان ، وقد تكون للحال . كما ورد في القرآن :
للمكان والإقامة في قوله : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي } [ يوسف : 80 ] .
وللحال في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } [ الكهف : 60 ] أي : لا أبرح السير .
فالمعنى { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } [ طه : 91 ] سنظلّ على عبادته حتى يرجع موسى ، فلن نمكثَ هذه الفترة دون إلهٍ .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا }
(1/5744)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
هذا حوار دار بين موسى وأخيه هارون { مَا مَنَعَكَ } [ طه : 92 ] وقد وردتْ هذه الكلمة في القرآن بأُسْلوبين : الأول : قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] أي : ما منعك من السجود .
والآخر : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] . أي : ما منعك أن لا تسجد؛ لأن المانع قد يكون قَهْراً عنك ، وأنت لا تريد أن تفعل ، وقد يأتي آخر فيُقنِعك أن تفعل . فمَرّة يُرغِمك : أنت لا تريد أنْ تسجد يقول لك : اسجد . إذن : منعك أن تسجد يعني قهراً عنك ، لكن أقنعك أن تسجد أنت باختيارك فقد منعك ألاَّ تسجد .
إذن : مرة من النفس ، ومرة من الغير ، وهكذا يلتقي الأسلوبان .
فقوله : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 9293 ] أي : من اتباعي ، لكن هل موسى عليه السلام هنا يستفهم؟ الحقيقة أنه لا يريد الاستفهام ، فقد تخاطب إنساناً بذنب ، وأنت لا تعلم ذنبه ، إنما تخاطبه بصورة الذَّنْب لتسمع الردَّ منه ، فيكون رَدًَاً على مَنْ يعترض عليه .
ومن ذلك ما كان من سيدنا عمر رضي الله عنه عند الحجر الأسود ، فلما قَبَّله قال : " اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنِّي رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبَّلتُك " .
إذن : قبّله عمر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّله ، إلا أنه جاء بهذا الكلام ليعطينا الجواب المستمر على مَرِّ التاريخ لكل مَنْ يسأل عن تقبيل الحجر .
وهنا أثارها موسى شبهة؛ كي نسمع نحن الجواب ، ولنسمع الردّ من صاحب الشأن باقياً سائراً في طول الأزمان .
(1/5745)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
إذن : صاحبَ خطابَ موسى لأخيه هارون فعْل نزوعيٌّ وحركة ، فهمناها من قول هارون : { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] .
ثم ذكر العلة { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ] يقصد قول أخيه : { اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] .
فذكّره بالتفويض الذي أعطاه إياه . وقد اجتهد هارون حَسْب رؤيته للموقف ، ونأى بالقوم عن معركة ربما انتهتْ بالقضاء على خَِلِية الإيمان في بني إسرائيل ، اجتهد في إطار { وَأَصْلِحْ } [ الأعراف : 142 ] .
إذن : أثار موسى هذه القضية مع أخيه ، لا ليسمع هو الرد ، وإنما ليُسمع الدنيا كلّها على مَرِّ التاريخ .
ثم ينقل موسى الخطاب إلى رأس هذه الفتنة : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري }
(1/5746)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
أي : ما شأنك؟ وما قصتك؟
والخَطْب : يُقال في الحدّث المهم الذي يُسمُّونه الحدَث الجلَل ، والذي يُقال فيه " خطب " ، فليس هو الحدث العابر الذي لا يقف عنده أحد .
ومن ذلك قوله تعالى : { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } [ يوسف : 51 ] .
وما حكاه القرآن من قول موسى عليه السلام لابنتَيْ شعيب : { مَا خَطْبُكُمَا } [ القصص : 23 ] .
ثم يقول الحق سبحانه عن السامري : { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ }
(1/5747)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
مادة : بَصُر منها أبصرت للرؤية الحسية ، وبصرت للرؤية العلمية أي : بمعنى علمتُ .
فمعنى { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } [ طه : 96 ] يعني : اقتنعتُ بأمر هم غير مقتنعين به ، فأنا فعلتُ وهم قَلَّدوني فيما فعلتُ من مسألة العِجْل .
وقد أدَّى به اجتهاده إلى صناعة العجل؛ لأنه رأى قومه يحبون الأصنام ، وسبق أنْ طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً لما رأوا قوماً يعبدون الأصنام ، فانتهز السامريُّ فرصة غياب موسى ، وقال لهم : سأصنع لكم ما لم يستطع موسى صناعته ، بل وأزيدكم فيه ، لقد طلبتم مجرد صنم من حجارة إنما أنا سأجعل لكم عِجْلاً جَسَداً من الذهب ، وله صوت وخُوَار مسموع .
وقوله : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا } [ طه : 96 ] قبض على الشيء : أخذه بجُمْع يده . ومثلها : قَبصَ .
وقوله : { مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] للعلماء في هذه المسألة روايات متعددة . منها : أن السامري حين كان جبريل عليه السلام يتعَهَّده وهو صغير ، كان يأتيه على جواد فلاحظ السامري أن الجواد كلما مَرَّ على شيء اخضرّ مكان حافره ، ودَبَّتْ الحياة فيه ، لذلك : فأصحاب هذا القول رأؤا أن العجل كان حقيقياً ، وله صوت طبيعي ليس مجرد مرور الهواء من خلاله .
ورَأْى آخر يقول : { مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] الرسول كما نعلم هو المبلِّغ لشرع الله المباشر للمبلّغ ، أما جبريل فهو رسول للرسول ، ولم يَرَه أحد فأُطلِقت الرسول على حامل المنهج إلى المتكلّم به ، لكنها قد تُطلق ويُراد بها التهكّم ، كما جاء في قوله تعالى : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله } [ المنافقون : 7 ] فيقولون : رسول الله تهكماً لا إيماناً بها .
وكذلك في قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] .
إذن : قد يُرَاد بها التهكّم .
لكن ، ما المراد بأثر الرسول؟ الرسول جاء لِيُبلِّغ شرعاً من الله ، وهذا هو أثره الذي يبقى من بعده . فيكون المعنى : قبضتُ قبضة من شرع الرسول ، قبضة من قمته ، وهي مسألة الإله الواحد الأحد المعبود ، لا صنمَ ولا خلافه .
وقوله تعالى : { فَنَبَذْتُهَا } [ طه : 96 ] أي : أبعدتُها وطرحتها عن مُخيِّلتي ، ثم تركتُ لنفسي العنان في أن تفكر فيما وراء هذا .
بدليل أنه قال بعدها { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } [ طه : 96 ] أي : زيَّنتها لي ، وألجأتني إلى معصية . فلا يقال : سوَّلَتْ لي نفسي الطاعة ، إنما المعصية وهي أن يأخذ شيئاً من أثر الرسول ووَحْيه الذي جاء به من الله ، ثم يطرحه عن منهجه ويُبعده عن فِكْره ، ثم يسير بِمَحْض اختياره .
ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ }
(1/5748)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
كان ردّ موسى عليه السلام على هذه الفعْلة من السامري : جزاؤك أن تذهب ، ويكون قولك الملازم لك { لاَ مِسَاسَ } [ طه : 97 ] والمِسَاس أي : المسّ . المعنى يحتمل : لا مساس مِنّي لأحد ، أو لا مساسَ من أحد لي .
ذلك لأن الذين يفترون الكذب ويدَّعُون أن لهم رسالة ولهم مهمة الأنبياء ، حظُّهم من هذا كله أن تكون لهم سُلْطة زمنية ومكانة في قلوب الناس ، وأن يكون لهم مذهب وأتباع وأشياع .
لذلك تراهم دائماً في سبيل الوصول إلى هذه الغاية يتحللون من المنهج الحق ، ويستبدلونه بمناهج حَسْب أهوائهم ، فيميلون إلى تسهيل المنهج وتبسيطه ، ويُعطون لأتباعهم حريةً ما أنزل الله بها من سلطان ، كالذي خرج علينا يُبيح للناس الاختلاط بين الرجال والنساء .
ومن العجيب أن تجد لهذه الأفكار أَنصاراً يؤمنون بها ويُطبِّقونها ، لا من عامة الناس ، بل من المثقفين وأصحاب المناصب . فكيف تحجب عنهم المرأة ، وهي نصف المجتمع؟
إذن : ما أجملَ هذ الدين ومَا أيسره على الناس ، فقد جاء على وَفْق أهوائهم وشهواتهم ، ووسَّع لهم المسائل ، فالنفس تميل بطبعها إلى التدين؛ لأنها مفطورة عليه ، لكن تريد هذا الدين سَهْلاً لا مشقةَ فيه ، حتى وإنْ خالف منهج الله .
لذلك تجد مثلاً مسيلمة وسجاح وغيرهما من مُدَّعِي النبوة يُخفِّفون عن أتباعهم تكاليف الشرع في الصلاة والصوم ، أما الزكاة فهي ثقيلة على النفس فلا داعيَ لها . وإلاَّ فما الميْزة التي جاءوا بها ليتبعهم الناس؟ وما وسائل التشجيع لاتباع الدين الجديد؟
وهكذا يصبح لهؤلاء سُلْطة زمنية ومكانة ، وأتباع ، وجمهور ، إذن : الذي أفسد حياته أن يجد العِزَّ والمكانة في انصياع الناس له وتبعيتهم لأفكاره ، فيعاقبه الله بهم ، ويجعل ذُلَّه على أيديهم وفتنته من ناحيتهم ، فهم الذين أعانوه على هذا الباطل ، فإذا به يكرههم ويبتعد بنفسه عنهم ، لدرجة أن يقول { لاَ مِسَاسَ } [ طه : 97 ] كأنه يفِرُّ منهم يقول : إياك أنْ تقربَ مِنِّي أو تمسِّني .
لقد تحول القُرْب والمحبة إلى بُعْد وعداوة ، هذه الجمهرة التي كانت حوله وكان فيها عِزُّه وتسلُّطه يفرُّ منها الآن ، فهي سبب كَبْوته ، وهي التي أعانَتْه على معصية الله .
وهكذا ، كانت نهاية السامريّ أن ينعزل عن مجتمعه ، ويهيم على وجهه في البراري ، ويفرّ من الناس ، فلا يمسّه أحد ، بعد أنْ صدمه الحق ، وواجهتْه صَوْلته .
وما أشبهَ هذا الموقف بما يحدث لشاب متفوق مستقيم يُغريه أهل الباطل ، ويجذبونه إلى طريقهم ، وبعد أن انخرط في سِلْكهم وذاق لذة باطلهم وضلالهم إذَا به يصحو على صدمة الحق التي تُفيقه ، ولكن بعد أن خسر الكثير ، فتراه بعد ذلك يفِرُّ من هذه الصُّحْبة وينأى بنفسه عن مجرد الاقتراب منهم .
لذلك من الذين اختاروا دينهم وَفْق أهوائهم عبدة الأصنام ، فإن كانت العبادة أنْ يطيع العابدُ معبوده ، فما أيسرَ عبادة الأصنام؛ لأنها آلهة بدون تكليف ، وعبادة بدون مشقة ، لا تقيد لك حركة ، ولا تمنعك من شهوة ، وإلا فماذا أعدَّتْ الأصنام من ثواب لمَنْ عبدها؟ وماذا أعدَّتْ من عذاب لمن كفر بها .
(1/5749)
فكأن الحق تبارك وتعالى قال للسامري : ستُعاقب بنفس المجتمع الذي كنت تريد منه العِزّة والسُّلْطة والسيطرة والذكر ، فتتبرأ أنت منهم وتفرّ من جوارهم ، ولا تتحمل أنْ يمسَّك أحد منهم ، فهم سبب بلائك ، ومصدر فتنتك ، كما قال تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] .
فأخلاءُ الباطل ، وصُحْبَة السوء الذين يجتمعون على معصية الله في سهرات مُحرَّمة عليهم أنْ يحذروا هذا اللقاء . أما الخُلّة الحقيقية الصادقة فهي للمتقين ، الذين يأتمرون بالحق ، ويتواصَوْن بطاعة الله .
وفَرْق بين مَنْ يقاسمك الكأس ومَنْ يكسرها ويُريقها قبل أنْ تذوقها ، فَرْق بين مَنْ يلهيك عن الصلاة ومَنْ يحثُّك عليها ، فَرْق بين مَنْ يُسعِدك الآن بمعصية ومَنْ يحملك على مشقّة الطاعة ، فانظر وتأمَّلْ .
ثم يقول : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } [ طه : 97 ] أي : ما ينتظرك من عذاب الآخرة .
{ وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } [ طه : 97 ] .
( عَاكِفاً ) أي : مقيماً على عبادته ، والاعتكاف : الإقامة في المسجد ، والانقطاع عن المجتمع الخارجي .
ومعنى { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } [ طه : 97 ] أي : نُصيِّره كالمحروق ، بأنْ نبردَه بالمبرد حتى يصبح فُتاتاً وذرات متناثرة ، بحيث يمكن أن نذروه في الهواء { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } [ طه : 97 ] أي : نذروه كما يفعل الفلاحون حين يذرون الحبوب لفَصْل القِشْر عنها بآلة تسمى ( المنسف ) تشبه الغربال ، وقد استبدلوا هذه الأدوات البدائية الآن بآلات ميكانيكية حديثة تُؤدِّي نفس الغرض .
ذلك لأن إلهَ السَّامري كان هذا العجل الذي اتخذه من ذهب ، فلا يناسبه الحرق في النار ، إنما نريد له عملية أخرى ، تذهب به من أصله ، فلا نُبقِي له على أثر . وهذا هو إلهك الذي عبدته إنْ أفلح كان يدافع عن نفسه ويحمي رُوحَه .
وبعد أن بَيَّن الحق سبحانه وَجْه البطلان فيما فعله السامري ، ومَنْ تبعه من القوم ، عاد لِيذكِّرهم بمنطقه الحق وجادة الطريق ، وأن كلَّ ما فعلوه هراء في هراء :
{ إِنَّمَآ إلهكم الله }
(1/5750)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
الحق تبارك وتعالى حينما يقول : { لا إله إِلاَّ هُوَ } [ طه : 98 ] نقولها نحن هكذا ، ونشهد بها ، فقد تعلَّمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمعها من ربه ونقلها إلينا ، فهي الشهادة بالوحدانية الحقّة ، شهادة من الله لذاته أولاً : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] .
فهذه شهادة الذات للذات قبل أنْ يخلق شاهداً يشهد بها . ثم شهدتْ له بذلك الملائكة شهادةَ المشهد أنه لا إله غيره ، ثم شهد بذلك أولو العلم شهادة استدلال بالمخلوقات التي رأوْها على أبدع نظام وأعجبه ، ولا يمكن أن ينشأ هذا كله إلا عن إله قادر .
وقد سلمتْ لله تعالى هذه الدَّعوْى؛ لأنها قضية صادقة شَهِد بها سبحانه لنفسه ، وشَهِد بها الملائكة وأولو العلم ولم يَقُمْ لها معارض يدِّعِيها لنفسه .
وإلا والعياذ بالله أين ذلك الإله الذي أخذ الله تعالى منه الألوهية؟ فإما أنْ يكون لا يعلم ، أو عَلِم بذلك ولم يعترض ، وفي كلتا الحالتين لا يستحق أن يكون إلهاً . والدَّعْوى إذا لم تُجْبَه بمعارض فقد سلمتْ لصاحبها ، إلى أن يُوجَد المعارض .
وكأن الحق سبحانه قال : لا إله إلا أنا ، وأنا خالق الكون كله ومُدبِّر أمره ، ولم يَأْتِ أحد حتى من الكفار يدَّعي شيئاً من هذا . وقد ضربنا لهذه المسألة مثلاً ولله المثل الأعلى : هَبْ أنه نزل عندك مجموعة ضيوف وزوار ، وبعد انصرافهم وجدتَ حافظة نقود فسألتَ عن صاحبها ، فلم يدَّعِها أحد إلى أنْ قال واحد منهم : هي لي ، إذن : فهو صاحبها ، وهو أحقُّ بها حيث لم يَقُمْ له معارض .
لذلك يقول تعالى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] .
يعني إنْ كان هناك آلهة أخرى فلا بُدَّ أنْ يذهبوا إلى صاحب العرش ، إما ليخضعوا له ويستلهموا منه القدرة على فِعْل الأشياء ، أو ليُحاسبوه ويُحاكموه : كيف يدَّعي الألوهية وهم آلهة؟ ولم يحدث شيء من هذا كله ، ولا أقام أحد دليلاً على أنه إله ، والدَّعْوى إذا لم يَقُمْ عليها دليل فهي باطلة .
وينفي الحق سبحانه وجود آلهة أخرى ، فيقول في موضع آخر : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] .
فهذا إله للسماء ، وهذا إله للأرض ، وهذا الجن ، وهذا الإنس . . إلخ ، وبذلك تكون الميْزة في أحدهم نقصاً في الآخر ، والقدرة في أحدهم عجزاً في الآخر ، وهذا لا يليق في صفات الألوهية .
ونلحظ هنا في قوله تعالى : { إِنَّمَآ إلهكم الله } [ طه : 98 ] أن كلمة ( إله ) لا تعني ( الله ) ، وإلا لو كان إلهاً بمعنى الله لأصبح المعنى : إنما الله الله .
(1/5751)
إذن : هناك فَرْق بين اللفظين : الله عَلَم على واجب الوجود الأعلى ، أما الإله فهو المعبود المطاع فيما يأمر ، فالمعنى : أن المعبود المطاع فيما يأمر به هو الله خالق هذا الوجود ، وصاحب الوجود الأعلى .
فالله تعالى هو المعبود المطاع بحقٍّ ، لأن هناك معبوداً ومطاعاً لكن بالباطل ، كالذين يعبدون الشمس والقمر والأشجار والأحجار ويُسمُّونهم آلهة ، فإذا كانت العبادة إطاعة أمر ونهي المعبود ، فبماذا أمرتْهم هذه الآلهة؟ وعن أيِّ شيء نهتْهم؟ وماذا أعدَّتْ لمن عبدها أو لمن كفر بها؟ إذن : هي معبودة ، لكن بالباطل؛ لأنها آلهة بلا منهج .
وكلمة { إِنَّمَآ } [ طه : 98 ] لا تأتي إلا استدراكاً على باطل ، وتريد أن تُصوِّبه ، كأن تقول : إنما الذي حضر زيد ، فلا تقولها إلا لمن ادَّعى أن الذي حضر غير زيد ، فكأنك تقول : لا ، فلان لم يحضر ، إنما الذي حضر زيد .
فلا بُدَّ أن قوله تعالى : { إِنَّمَآ إلهكم الله } [ طه : 98 ] جاء رداً على كلام قيل يدَّعي أن هناك إلهاً آخر ، وإنما لا تُقال إلا إذا ادُّعِيَ أمر يخالف ما بعدها ، فتنفي الأمر الأول ، وتُثبت ما بعدها .
وهنا يقول : { إِنَّمَآ إلهكم الله } [ طه : 98 ] لأن السامريَّ لما صنع لهم العجل قال : { هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] فكذَّبه الله واستدرك بالحقِّ على الباطل : { إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ } [ طه : 98 ] .
ثم أضاف الحق تبارك وتعالى ما يُفرِّق بين إله الحق وإله الباطل ، فقال : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه : 98 ] لأنه سبحانه هو الإله الحق ، وهذه أيضاً رَدٌّ على السامريّ وما اتخذه إلهاً من دون الله ، فالعجل الذي اتخذه لا عِلمَ عنده ، وكذلك السامري الذي أمر الناس بعبادته ، فلو كان عنده علم لعرفَ أن عِجْله سيُحرق ويُنسَف وتذروه الرياح ، ولعرفَ العاقبة التي انتهى إليها من قوله للقوم ( لا مساس ) ، وأنه سينزل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، فلو علم هذه الحقائق ما أقدمَ على هذه المسألة .
ووسع علم الله لكل شيء يعني : مَنْ أطاع ومَنْ عصى ، لكن من رحمته تعالى بنا ألاَّ يحاسبنا عَمَّا علم منّا ، بل يعلمنا حين ندعوه أن نقول : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] فسبقتْ رحمته تعالى سيئاتنا وذنوبنا ، وسبقت عذابه ونقمته ، وفي موضع آخر يقول عز وجل : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] .
فلو وقفنا عند { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه : 98 ] لأتعبتْنا هذه المسألة؛ لأنه سيجازينا عن السيئة وعن الحسنة ، ومَنْ يطيق هذا؟
ثم يُبيِّن الحق سبحانه حكمة القَصَص في القرآن ، والقَصَص لون من التاريخ ، وليس مطلق التاريخ ، القصص تاريخ لشيء مشهود يهمني وتفيدني معرفته ، وإلا فمن التاريخ أن نقول : كان في مكان كذا رجل يبيع كذا ، وكان يفعل كذا أو كذا .
(1/5752)
إذن : فالقصص حدث بارز ، وله تأثيره فيمَنْ سمعه ، وبه تحدث الموعظة ، ومنه تؤخذ العبرة .
والتاريخ هو ربط الأحداث بأزمنتها ، فحين تربط أيَّ حدث بزمنه فقد أرَّخْتَ له ، فإذا كان حَدَثاً متميزاً نسميه قصة تُروَى ، فإنْ كانت قصة شهيرة تعلو على القصص كله نسميها سيرة ، لذلك خُصَّ باسم السيرة تاريخ قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن القَصَص شيء مميز ، أما السيرة فهي أميز ، ورسول الله خاتم الأنبياء؛ لذلك نقول عن تاريخه سيرة ولا نقول قصة؛ لأن واقعه في الحياة كان سَيْراً على منهج الله ، وعليه نزل القرآن ، وكان خُلقه القرآن .
والقصص يأتي مرة بالحدث ، ثم تدور حوله الأشخاص ، أو يأتي بشخصية واحدة تدور حولها الأحداث ، فإذا أردتَ أن تؤرخ للثورة العرابية مثلاً وضعت الحدث أولاً ، ثم ذكرتَ الأشخاص التي تدور حوله ، فإنْ أردتَ التأريخ لشخصية عرابي وضعت الشخصية أولاً ، ثم أدرت حولها الأحداث .
وقَصص القرآن يختلف عن غيره من الحكايات والقصص التي نسمعها ونحكيها من وضع البشر وتأليفهم ، فهي قصص مُخْتَرعة تُبنى على عُقْدة وَحلِّها ، فيأخذ القاصُّ حدثاً ، ثم ينسخ حوله أحداثاً من خياله .
وبذلك يكونون قد أخذوا من القصص اسمه ، وعدلوا عن مُسمَّاه ، فهم يُسمُّون هذا النسيج قصة ، وليست كذلك؛ لأن قصة من قصَّ الأثر اي : مشى على أثره وعلى أقدامه ، لا يميل عنها ولا يحيد هنا أو هناك .
فالقصة إذن التزام حدثيٌّ دقيق لا يحتمل التأليف أو التزييف ، وهذا هو الفَرْق بين قَصَص القرآن الذي سماه الحق سبحانه وتعالى : { القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] و { أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] وبين قَصَص البشر وتآليفهم .
القصص الحقُّ وأحسن القصص؛ لأنه ملتزم بالحقيقة لا يتجاوزها ، وله غاية سامية أَسْمى من قَصَص دنياكم ، فقَصَص الدنيا غايته وخلاصته إن أفلح أن يحميك من أحداث الدنيا ، أما قصص القرآن فحمايته أوسع؛ لأنه يحميك في الدنيا والآخرة .
فإنْ رأيتَ في قصص القرآن تكراراً فاعلم أنه لهدف وغاية ، وأنها لقطات شتَّى لجوانب الحدَث الواحد ، فإذا ما تجمعتْ لديك كل اللقطات أعطتك الصورة الكاملة للحدث .
وهنا يقول تعالى : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ }
(1/5753)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
وفي موضع آخر قال تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
فكأن فؤاده صلى الله عليه وسلم كان في حاجة إلى تثبيت؛ لأنه سيتناول كل أحداث الحياة ، وسيتعرض لما تشيب لهَوْله الرؤوس ، ألم يَقُلْ الحق تبارك وتعالى عن الرسل قبله : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } [ البقرة : 214 ] .
ألم يُضطهد رسول الله والمؤمنون ويُضربوا ويُحاصروا في الشِّعْب بلا مأوى ولا طعام ، حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر؟
فهذه أحداث وشدائد تضطرب النفس البشرية حين تستقبلها ، ولا بُدَّ لها من تأييد السماء لتثبت على الإيمان؛ لذلك يقصُّ الحق تبارك وتعالى على رسوله قصص مَنْ سبقوه في موكب الرسالات ليقول له : لست يا محمد بِدْعاً من الرسل ، فقد تحملوا من المشاق كيت وكيت ، وأنت سيدهم ، فلا بُدَّ أنْ تتحمل من المشاقِّ ما يتناسب ومكانتك ، فوطِّن نفسك على هذا .
فقوله تعالى : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [ طه : 99 ] ( كذلِكَ ) : أي : كما قصصنا عليك قصة موسى وهارون وفرعون والسامريّ نقصُّ عليك قصصاً آخر من أنباء مَنْ سبقُوك من الرسل .
وأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر الهام العظيم ، فلا يُقال للأمر التافه نبأ . ومن ذلك قوله تعالى عن يوم القيامة : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 12 ] إنما يُقال " خبر " في أي شيء .
ثم يقول تعالى : { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } [ طه : 99 ] .
وأكد الإتيان بأنه { مِن لَّدُنَّا } [ طه : 99 ] أي : من عندنا ، فلم يَقُلْ مثلاً : آتيناك ذِكْراً . وهذا له معنى؛ لأن كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين نزلت ورُويتْ بالمعنى ، ثم صاغها أصحابها بألفاظ من عند أنفسهم ، أمَّا القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي نزل بلفظه ومعناه؛ لذلك قال { مِن لَّدُنَّا } [ طه : 99 ] أي : مباشرة من الله لرسوله .
والمتأمّل في تبليغ الرسول وتلقِّيه عن ربه يجد أنه يحافظ على لفظ القرآن ، لا يُخْفى منه حرفاً واحداً ، كما في قوله تعالى مثلاً : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فكان يكفي في تبليغ هذه العبارة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أحد ، لكنه يقول نصّ ما جاءه من ربه مباشرة .
أرأيتَ لو قلت لولدك : اذهب إلى عمك وقُلْ له : أبي سيزورك غداً ، ألاَ يكفي أن يقول الولد : أبي سيزورك غداً؟
إذن : فالقرآن الذي بين آيدينا هو نفسه كلام الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يتغير فيه حرف واحد لا بالزيادة ولا بالنقصان؛ لأنه نصُّ الإعجاز ، وما دام نص الإعجاز فلا بُدَّ أنْ يظلَّ كما قاله الله .
ومعنى { ذِكْراً } [ طه : 99 ] للذكْر معان متعددة ، فيُطلق الذكر ، ويُراد به القرآن ، كما في قوله تعالى :
(1/5754)
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
ويُطلَق ويُراد به الصِّيت والشَّرف والجاه في الدنيا ، كما في قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي : شرفكم ورِفْعتكم بين الناس ، وقال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] .
وقد يقول قائل : كيف يكون القرآن ذكراً وشرفاً للعرب ، وقد أبان عجزهم ، وأظهر ما فيهم من عِيٍّ؟ وهل يكون للمغلوب صِيت وشَرف .
نقول : كونهم مغلوبين للحق شهادة بأنهم أقوياء ، فالقرآن أعجز العرب وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان ، والحق سبحانه وتعالى حين يتحدى لا يتحدى الضعيف ، إنما يتحدى القوي ، ومن الفخر أن تقول : غلبت البطل الفلاني ، لكن أيّ فخر في أن تقول : غلبت أيّ إنسان عادي؟
وكذلك يُطلَق الذكْر على كل كتاب أنزله الله تعالى ، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] أي : أهل الذكر قبلكم ، وهم أهل التوراة وأهل الإنجيل .
ويُطلَق الذكر ، ويُراد به فعل العمل الصالح والجزاء من الله عليه ، كما قال تعالى : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] أي : اذكروني بالطاعة أذكركم بالخير .
ويأتي الذكْر بمعنى التسبيح والتحميد ، وبمعنى التذكُّر والاعتبار ، فله إذن معانٍ متعددة يُحدِّدها السياق .
لكن ، لماذا اختار كلمة ( ذكر ) ولم يقل مثلاً كتاباً؟
قالوا : لأن الذكْر معناه أن تذكر الشيء بداية؛ لأنه أمر مهم لا يُنسَى ، وهو ذِكْر لأنه يُسْتلهم ، ومن الذكر الاعتبار والتذكير ، والشيء لا يُذكر إلا إذا كان له أهمية ، هذه الأهمية تتناسب مع الأمر من حيث مُدّة أهميته ومقدار أهميته ، وكل ذكر لشيء في الدنيا قصارى أمره أنْ يعطيك خير الدنيا ، أمّا القرآن فهو الذكر الذي يعطيك خير الدنيا والآخرة؛ لذلك فهو أهم ذكر يجب أنْ يظلَّ على بالك لا يُنسى أبداً .
إذن : فالقرآن ذِكْر ذُكر أولاً ، وذِكْر يُذكَر ثانياً ، ويستلهم ذكراً يشمل الزمن كله في الدنيا وفي الآخرة .
ثم يصف الحق تبارك وتعالى هذا الذكر ، فيقول : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ }
(1/5755)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
أعرض : نعرف أن الطول أبعد المسافات ، وأن العرض أقصر المسافات؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أن يُصوِّر لنا اتساع مُلْكه سبحانه قال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ آل عمران : 133 ] فأتى بالأوسع للأقل ، فإن كان عَرْضها السموات والأرض ، فما بالك بطولها؟ لا بُدَّ أنه لا نهاية له .
والإنسان مِنّا له طول ، وله عرض ، ولا يميز العرض إلا الكتفان ، ودائماً مرآهما من الخلف ، لا من الأمام؛ لذلك نجد الخياط إذا أراد أنْ يقيس لك الثوب قاسه من الخلف ، فعَرْض الإنسان مؤخرته من أعلى .
وبذلك يكون أعرض عن كذا ، يعني : تركه وذهب بعيداً عنه ، أو : أعطاه ظهره وانصرف عنه .
ومن ذلك ما نقوله ( اديني عرض كتافك ) يعني : در وجهك وانصرف عني ، فإنْ كان جالساً نقول ( انقُضْ طولك أو اطول ) أي : قم وأَرِني طولك ، كي تريني عرض أكتافك وتنصرف عني .
والحق سبحانه وتعالى ، يعطينا صورة من الإعراض للذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله ، فيقول : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 35 ] .
وهكذا ترى ترتيب العذاب حسْب ترتيب الإعراض ، فأول ما واجهه السائل قَطَّب جبهته ، وكشَّر وبدَتْ عليه ملامح الغضب والضيق ، ثم أدار له جنبه ، ثم أعطاه ظهره وانصرف عنه .
والوِزْر : الحِمْل الثقيل ، وليْتَه في الدنيا فيمكنك أن تتخلص منه ، إما بأنْ يُوضع عنك ، وإما أنْ تفوته بالموت ، إنما الوِزْر هنا في الآخرة؛ لذلك فهو وزر ثقيل لا ينحط عنك ولا تفوته بالموت ، فهو حِمْل لا نهايةَ له ولا أملَ في الخلاص منه . فهو ثقيل ممتد الإيلام ، فقد يكون الحمل ثقيلاً إلا أنه مُحبَّب إلى النفس ، كمَنْ يحمل شيئاً نافعاً له ، أمّا هنا فحِمْل ثقيل مكروه .
وبعد ذلك يستدرك به على العقوبة ، فالذي يأثم يُقال : أتى وزراً .
{ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ }
(1/5756)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
ساء : قبح ذلك الحمل يوم القيامة؛ لأن الحمل قد لا يكون قبيحاً إنْ كان خيراً ، وإن كان شراً فقد يحمله صاحبه في الدنيا ويزول عنه أمّا الوزر فحِمْل سيىء قبيح ، لأنه في دار الخُلْد التي لا نهايةَ لها .
فمتى يكون ذلك؟
(1/5757)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
وهو يوم القيامة ، والصور : هو البوق الذي يُنفخ فيه النفخة الأولى والثانية ، كما جاء في قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] .
وقوله تعالى : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] .
أي : نجمعهم ونسوقهم زُرْقاً ، والزُّرْقة هي لونهم ، كما ترى شخصاً احتقن وجهه ، وازرقَّ لونه بسبب شيء تعرَّض له ، هذه الزُّرْقة نتيجة لعدم السلام والانسجام في كيماوية الجسم من الداخل ، فهو انفعال داخلي يظهر أثره على البشرة الخارجية ، فكأن هَوْلَ القيامة وأحداثها تُحدِث لهم هذه الزرقة .
والبعض يفسر { زُرْقاً } [ طه : 102 ] أي : عُمْياً ، ومن الزُّرْقة مَا ينشأ عنها العمى ، ومنها المياه الزرقاء التي تصيب العين وقد تسبب العمى .
(1/5758)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
أي : في هذه الحال التي يُحشرون فيها زرقاً { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } [ طه : 103 ] أي : يُسِرُّون الكلام ، ويهمس بعضهم إلى بعض ، لا يجرؤ أحد منهم أنْ يجهر بصوته من هَوْل ما يرى ، والخائف حينما يلاقي من عدوه مَا لا قِبلَ له به يُخفِي صوته حتى لا يُنبهه إلى مكانه؛ أو : لأن الأمر مَهوُل لدرجة الهلع الذي لا يجد معه طاقة للكلام ، فليس في وُسْعه أكثر من الهَمْس .
فما وجه التخافت؟ وبِمَ يتخافتون؟
يُسِرُّ بعضهم إلى بعض { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] يقول بعضهم لبعض : ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام ، ثم يُوضِّح القرآن بعد ذلك أن العشرة هذه كلامهم السطحي ، بدليل قوله في الآية بعدها : { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] .
فانتهت العشرة إلى يوم واحد ، ثم ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله تعالى حكاية عنهم : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] فكُلُّ ما ينتهي فهو قصير .
إذن : أقوال متباينة تميل إلى التقليل؛ كأن الدنيا على سَعة عمرها ما هي إلا ساعة : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] .
وما هذا التقليل لمدة لُبْثهم في الدنيا إلا لإفلاسهم وقِلَّة الخير الذي قدَّموه فيها ، لقد غفلوا فيها ، فخرجوا منها بلا ثمرة؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عُذْراً في انخفاض الظرف الزمني الذي يسَع الأحداث ، كأنه لم يكُنْ لديهم وقت لعمل الخير؟؟
ثم يقول الحق سبحانه : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ }
(1/5759)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
الحق تبارك وتعالى يقصُّ على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ما سيكون من أمر هؤلاء المجرمين في الآخرة ، فإذا ما وقعتْ القيامة جاءت الصورة كما حكاها الله لرسوله هي هي؛ ذلك لأن الله تعالى وسع كل شيء علماً .
وهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم أمر في اخيتارهم ، وقد سمعوا ذلك من رسول الله ، وبوسعهم ألاَّ يقولوا ، لكن إذا جاءت القيامة فسوف يقولونه بالحرف الواحد لا يُغيِّرون منه شيئاً .
وقوله : { أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } [ طه : 104 ] يعني : أحسنهم حُكْماً .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال }
(1/5760)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
تكلمنا عن ( يسألونك ) في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] .
والسؤال استفهام يعني : طلب فَهْم يحتاج إلى جواب ، والسؤال إما أن يكون من جاهل لعالم ، كالتلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب ، أو : من عالم لجاهل ، كالأستاذ يسأل تلميذه ليعرف مكانته من العلم وإقراره بما يعلم .
وهذه المسألة حَلَّتْ لنا إشكالاً كان المستشرقون يُوغلون فيه ، يقولون : بينما الحق تبارك وتعالى يقول : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] يقول في آية أخرى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] فالأولى تنفي السؤال ، والثانية تُثبته؛ لذلك اتهموا القرآن بالتضارب بين آياته .
وهؤلاء معذورون ، فليست لديهم المَلَكة العربية لفَهْم الأداء القرآني ، وبيان هذه الإشكال أن السؤال يرِدُ في اللغة إمَّا لتعلمَ ما جهلتَ ، وإما لتقرير المجيب بما تعلم أنت ليكون حجة عليه .
فالحق سبحانه حين يقول : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] أي : سؤالَ إقرار ، لا سؤالَ استفهام ، فحين ينفي السؤال ينفي سؤال العلم من جهة المتكلم ، وحين يثبت السؤال فهو سؤال التقرير .
والحدث مرة يُنفَى ، ومرة يُثبت ، لكن جهة النفي مُنفكَّة عن جهة الإثبات ، فمثلاً الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } [ الأنفال : 17 ] .
فنفى الرمي في الأولى ، وأثبته في الثانية ، والحدث واحد ، المثَبت له والمنفيّ عنه واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم . فكيف نخرج من هذا الإشكال؟ أرمَى الرسول أم لم يَرْمِ؟
ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً بالأب الذي جلس بجوار ولده كي يذاكر دروسه ، فأخذ الولد يذاكر ، ويُقلِّب صفحات الكتاب ، وحين أراد الأب اختبار مدى ما حصَّل من معلومات لم يجد عنده شيئاً ، فقال للولد : ذاكرت وما ذاكرت . ذاكرت يعني : فعلت فِعْل المذاكر ، وما ذاكرت لأنك لم تُحصِّل شيئاً .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رمى ، أيمكنه أنْ يُوصل هذه الرمية إلى أعين الجيش كله؟ إذن : فرسول الله أخذ قبضة من التراب ورمى بها ناحية الجيش ، إنما قدرة الله هي التي أوصلتْ حفنة التراب هذه وذَرَّتْها في أعيُنِ الأعداء جميعاً .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 26 ] فنفتْ عنهم العلم ، وفي آية أخرى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] فأثبتتْ لهم عِلْماً .
نعود إلى قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] وحينما استعرضنا ( يَسْألُونَكَ ) في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقاً ب ( قُلْ ) كما في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] .
وقوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وهكذا في كل الآيات ، ما عدا قوله تعالى هنا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] فاقترن الفعل ( قُلْ ) بالفاء ، لماذا؟
قالوا : لأن السؤال في كُلِّ هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل ، فكان الجواب بقُلْ .
(1/5761)
مثل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى } [ البقرة : 222 ] أما { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } [ طه : 105 ] قال في الجواب { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] ؛ لأنه حَدَثٌ لم يقع بَعْد .
والحق سبحانه وتعالى يُخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيُسَأل هذا السؤال ، فكأن الفاء هنا دَلَّتْ على شرط مُقدّر ، بمعنى : إنْ سألوك بالفعل فقُلْ : كذا وكذا .
إذن : السؤال عن الجبال لم يكُنْ وقت نزول الآية ، أمَّا الأسئلة الأخرى فكانت موجودة ، وسُئِلت لرسول الله قبل نزول آياتها .
وقد تأتي إجابة السؤال بدون ( قُلْ ) كما في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [ البقرة : 186 ] ولم يقُلْ هنا ( قُلْ أو فقُلْ ) لأنها تدُّل على الواسطة بين الله تعالى وبين عباده ، وكأن الحق سبحانه يُوضّح أنه قريب من عباده حتى عن الجواب بقُلْ .
وقد تتعجب : كيف تأتي في القرآن كل هذه الأسئلة لرسول الله مع أن القرآن كتاب منهج جاء بتكاليف قد تشقُّ على الناس؛ لأنه يلزمهم بأمور تخالف ما يشتهون ، فكان المفروض ألاَّ يسألوا عن الأمور التي لم ينزل فيها حكم .
نقول : دَلَّتْ أسئلتهم هذه على عِشْقهم لأحكام الله وتكاليفه ، فالأشياء التي كانت عاداتٍ لهم في الجاهلية يريدون الآن أنْ يُؤدُّوها على طريقة الإسلام على أنها عبادة ، لا مجرد عادة جاهلية .
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن السؤال فقال : " دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " .
ومع ذلك سألوا وأرادوا أنْ تُبنَى حياتهم على منهج القرآن من الله ، لا على أنه إِلْف عادة كانت له في الجاهلية ، إذن : هذه الأسئلة ترسيمُ للأمر من جانب الحق سبحانه وتعالى .
وقوله تعالى : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] تكلمنا عن هذا المعنى في قوله تعالى : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } [ طه : 97 ] فالمراد : نُفتِّتها ونذروها في الهواء ، وأكَّد النسف ، فقال { نَسْفاً } [ طه : 97 ] ليؤكد أن الجبل سيتفتت إلى ذرات صغيرة يذروها الهواء .
فقد يتصوَّر البعض أنْ الجبال تُهَدُّ ، وتتحول إلى كُتَل صخرية كما نُفجِّر نحن الصخور الآن إلى قطع كبيرة؛ لذلك أكّد على النسف ، وأن الجبال ستكون ذرات تتطاير؛ لذلك قال في آية أخرى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] أي : كالصوف المندوف .
لكن ، لماذا ذكر الجبال بالذات؟
قالوا : لأن الإنسان يرى أنه ابْنُ أغيار في ذاته ، وابن أغيار فيما حوله مِمَّا يخدمه من حيوان أو نبات ، فيرى الحيوان يموت أو يُذبَح ، ويرى النبات يذبل ثم يجفّ ويتفتَّت ، والإنسان نفسه يموت وينتهي .
إذن : كل ما يراه حوله بيِّن فيه التغيير والانتهاء ، إلا الجبال يراها راسية ثابتة ، لا يلحقها تغيير ظاهر على مرِّ العصور .
لذلك يُضرب بها المثل في الثبات ، كما في قوله الحق سبحانه وتعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } [ إبراهيم : 46 ] .
فالجبال مظهر للثبات ، فقد يتساءل الإنسان عن هذا الخلْق الثابت المستقر ، ماذا سيفعل الله به؟
ثم يقول الحق سبحانه : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً }
(1/5762)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{ قَاعاً صَفْصَفاً } [ طه : 106 ] : أرضاً مستوية مَلْساء لا نباتَ فيها ولا بناء ، والضمير في { فَيَذَرُهَا } [ طه : 106 ] يعود على الأرض لا على الجبال؛ لأن الجبال لا تكون قاعاً صفصفاً ، أمّا الأرض مكان الجبال فتصير ملساء مستوية ، لا بناءَ فيها ولا جبال ، فالأرض شيءٌ والجبال فوقها شيء آخر .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 910 ] .
فالضمير في { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [ فصلت : 10 ] لا يعود على الأرض ، إنما على الجبال . لأن الجبال في الحقيقة هي مخازن القُوت ومصدر الخِصْب للأرض ، التي هي مصدر القوت ، فالإنسان مخلوق من الأرض ، واستبقاء حياته من الأرض ، فالنبات قوت الإنسان وللحيوان ، والنبات والحيوان قوت للإنسان .
إذن : لا بُدَّ للأرض من خُصُوبة تساعدها وتُمدّها بعناصر الغذاء ، ولو أن الخالق عز وجل جعل الأرض هكذا طبقةً واحدة بها المخصّبات لانتهتْ هذه الطبقة بعد عدة سنوات ، ولأجدبتْ الأرض بعد ذلك .
إذن : خلق اللهُ الجبالَ لحكمة ، وجعلها مصدراً للخصب الذي يمد الأرض مَدَداً دائماً ومستمراً ما بقيتْ الحياة على الأرض ، ومن هذا تتضح لنا حكمة الخالق سبحانه في أن تكون الجبال صَخْراً أصمّ ، فإذا ما تعرضت لعوامل التعرية على مَرَّ السنين تتفتتْ منها الطبقة الخارجية نتيجة لتغيُّر الظروف المناخية من حرارة وبرودة .
ثم تأتي الأمطار وتعمل في الصخر عمل المَبْرَد ، وتُكوِّن ما يسمى بالغِرْيَن ، فتحمل هذا الفتات إلى الوِدْيان ومجاري الأنهار ، وتُوزِّعه على طبقة الأرض ، فتزيدها خِصْباً تدريجياً كل عام ، وإلاَّ لو كانت الجبال هَشَّة غير متماسكة لانهالتْ في عدة أعوام ، ولم تُؤَدِّ هذا الغرض . لذلك نقول : إن الجبال هي مصدر القوت ، وليست الأرض .
ألاَ ترى أن خصوبة الوادي والدلتا جاءت من طمي النيل ، والغِرْين الذي يحمله الماء من أعالى أفريقيا . وهذا الغِرْيَن الذي يُنحَتُ من الجبال هو الذي يُسبب الزيادة في رقعة اليابسة ، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة في المدن المطِلَّة على البحر ، فبعد أن كانت على شاطئه أصبحت الآن داخل الياسبة .
وقد مثَّلْنَا سابقاً للجبل بأنه مُثلث قاعدته إلى أسفل ، والوادي مُثلث قاعدته إلى أعلى ، فكل نحْتٍ في الجبل زيادة في الوادي ، وكأن الخالق عز وجل جعل هذه الظاهرة لتتناسبَ مع زيادة السكان في الأرض .
وقد حُذِف العائد في { فَيَذَرُهَا } [ طه : 106 ] اعتماداً على ذِهْن السامع ونباهته إلى أنه لا يكون إلا ذلك ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فلم يذكر عائد الضمير ( هو ) لأنه إذا قيل لا ينصرف إلا إلى الحق سبحانه وتعالى ، وإنْ لم يتقدم اسمه .
وكما في قوله تعالى : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] والمراد : الشمس التي غابت ، ففاتتْ سليمان عليه السلام الصلاة ، ولم تذكر الآية شيئاً عن الشمس .
كذلك في : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] أي : على الأرض ولم تذكرها الآية ، كذلك هنا ( فَيذَرُهَا ) أي الأرض .
(1/5763)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
أي : كأنها مُسْتوية على " ميزان الماء " لا ترى فيها اعوجاجاً ولا ( أَمْتاً ) يعني : منخفض ومرتفع ، فهي مستوية استواءً تاماً ، كما نفعل نحن في الجدار ، ونحرص على استوائه .
لذلك نرى المهندس إذا أراد استلام مبنى من المقاول يعتمد إما على شعاع الضوء؛ لأنه مستقيم ويكشف له أدنى عَيْب في الجدار أو على ذرات التراب؛ لأنها تسقط على استقامتها ، وبعد عدة أيام تستطيع أن تلاحظ من ذرات التراب ما في الجدار من التواءات أو نتوءات .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي }
(1/5764)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
الداعي : المنادي ، كالمؤذِّن الذي كثيراً ما دعا الناس إلى حضرة الله تعالى في الصلاة ، فمنهم مَنْ أجاب النداء ، ومنهم مَنْ تأبَّى وأعرض ، أما الداعي في الآخرة ، وهو الذي ينفخ في الصور فلن يتأبَّى عليه أحد ، ولن يمتنع عن إجابته أحد .
وقوله : { لاَ عِوَجَ لَهُ } [ طه : 108 ] لأننا نرى داعي الدنيا حين يُنادِي في جَمْع الناس ، يتجه يميناً ويتجه يساراً ، ويدور ليُسمع في كُلِّ الاتجاهات ، فإذا لم يَصِلْ صوته إلى كل الآذان استيعاباً يستعمل مُكبِّر الصوت مثلاً ، أما الداعي في الآخرة فليس له عوج هنا أو هناك؛ لأنه يُسمِع الجميع ، ويصل صوته إلى كل الآذان ، دون انحراف أو ميْل .
ثم يقول تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] هذا الهمْسُ الذي قال عنه في الآيات السابقة : { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } [ طه : 103 ] .
ونعرف أن كل تجمُّع كبير لا تستطيع أنْ تضبط فيه جَلبة الصوت ، فما بالك بجَمْع القيامة من لَدُنْ آدم عليه السلام حتى قيام الساعة ، ومع ذلك : { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] فلماذا كتمت هذه الأصوات التي طالما قالتْ ما تحب ، وطالما كان لها جلبة وضجيج؟
الموقف الآن مختلف ، والهَوْل عظيم ، لا يجرؤ أحد من الهَوْل على رَفْع صوته ، والجميع كُلٌّ منشغل بحاله ، مُفكّر فيما هو قادم عليه ، فإنْ تحدّثوا تحدّثوا سِرّاً ومخافتة : ماذا حدث؟ ماذا جرى؟
وكذلك نحن في أوقات الشدائد لا نستطيع الجهر بها ، كما حدث لما مات سعد زغلول رحمه الله وكان أحمد شوقي وقتها في لبنان ، فسمع الناسَ يتخافتون ، ويهمس بعضهم إلى بعض بأن سعداً قد مات ، ولا يجرؤ أحد أن يجهر بها لِهَوْل هذا الحادث على النفوس ، فقال شوقي :
يَطأُ الآذَانَ هَمْساَ والشِّفَاهَا ... قُلْتُ يا قَوْم اجمعُوا أحْلامكُمْ ... كُلُّ نَفْسٍ في وَريديْها رَدَاهَا
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة }
(1/5765)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
والشفاعة تقتضي مشفوعاً له وهو الإنسان . وشافعاً وهو الأعلى منزلةً ، ومشفوعاً عنده : والمشفوع عنده لا يسمح بالشفاعة هكذا ترتجلها من نفسك ، إنما لا بُدَّ أنْ يأذنَ لك بها ، وأنْ يضعَك في مقام ومرتبة الشفاعة ، وهذا شَرْط في الشافع .
وقوله تعالى : { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] هذه للمشفوع له ، أن يقول قولاً يرضى الله عنه وإنْ قصَّر في جهة أخرى وخَيْر ما يقوله العبد ويرضى عنه الله أن يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فهذه مَقُولة مَرْضيَّة عند الله ، وهي الأمل الذي يُتعلق به ، والبُشّْرى لأهل المعاصي؛ لأنها كفيلة أن تُدخِلهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا كان لديك خَصْلة سيئة ، أو نقطة ضعف في تاريخك تراها عقبةً فلا تيأس ، وانظر إلى زاوية أخرى في نفسك تكون أقوى ، فأكثِرْ بها الحسنات ، لأن الحسنات يُذهِبْن السيئات .
(1/5766)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
معنى { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [ طه : 110 ] ما أمامهم ، ويعلم ما خلفهم ، أما أنت فلا تحيط به عِلْماً ، ولا تعرف إلا ما يُخبرك به ، إلا أن تكون هناك مقدمات تستنبط منها ، لأن ما ستره الحق في الكون كثير ، منه ما جعل له مقدمات ، فمَنْ ألمَّ بهذه المقدمات يصل إليها .
ومع ذلك لا يقال له : عَلِم غيباً . إنما اكتشف غيباً بمقدمات أعطاها له الحق سبحانه وتعالى ، كما نعطي التلميذ تمريناً هندسياً ، ونذكر له المعطيات ، فيستدل بالمعطيات على المطلوب .
والكون ملىء بالأشياء والظواهر التي إنْ تأملناها وبحثْناها ولم نُعرِض عنها وجدنا فيها كثيراً من الأسرار ، فبالنظر في ظواهر الكون اكتشفوا عصر البخار ويسَّروا الحركة على الناس ، وبالنظر في ظواهر الكون اكتشف أرشميدس قانون الأجسام الطافية ، واكتشفوا البنسلين . . إلخ .
هذه كلها ظواهر موجودة في كون الله ، كانت تنتظر مَنْ يُنقِّب عنها ويكتشفها؛ لذلك ينعى علينا الحق تبارك وتعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
فلو التفتوا إليها الالتفات الحق لانتفعوا بها .
لكن هناك أشياء استأثر الله تعالى بعلمها ، وقد يعطيها لمن أحبَّ من عباده ، ويُطلِعهم عليها ، أو تظل في علم الله لا يعرفها أحد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم }
(1/5767)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
الوجه أشرف وأكرم شيء في تكوين الإنسان ، وهو الذي يُعطِي الشخص سِمَته المميزة؛ لذلك يحميه الإنسان ويحفظه ، ألاَ ترى لو أصاب وجهك غُبَار أو تراب أو طين مثلاً تمسحه بيدك ، لم تزِدْ على أنك جعلْتَ ما في وجهك في يدك لماذا؟ لأنه أشرف شيء فيك .
لذلك ، كان السجود لله تعالى في الصلاة علامة الخضوع والخشوع والذلَّة والانكسار له عز وجل ، ورضيتَ أن تضع أشرف جزءٍ فيك على الأرض وتباشر به التراب ، والإنسان لا يعنُو بوجهه إلا لمَنْ يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه يستحقُّ هذا السجود ، وأن السجود له وحده يحميه من السجود لغيره ، كما قال الشاعر :
والسُّجُودُ الذِي تَجْتَوِيِه ... مِن أُلُوفِ السُّجُودِ فيهِ نَجَاةُ
فاسْجُدْ لواحد يكْفك السجود لسواه ، واعمل لوجه واحد يكْفك كل الأوْجُه .
وقوله : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [ طه : 111 ] حمل : يعني أخذه عبئاً ثقيلاً عليه . والظلم في أصله أنْ تأخذَ خيراً ليس لك لتنتفع به وتزيد ما عندك ، فأنت في الظاهر تزداد كما تظن ، إنما الحقيقة أنك تُحمِّل نفسك وِزْراً وحملاً ثقيلاً ، سوف تنوء به ، وازددْتَ إثماً لا خيراً .
والظلم مراتب ودرجات ، أدناها أنْ تأخذ ما ليس لك وإن كان حقيراً لا قيمة له ، أو تظلم غيرك بأنْ تتناوله في عِرْضه ، ثم ترقى الظلم إلى أنْ تصلَ به إلى القمة ، وهو الشرك بالله ، كما قال سبحانه : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وهو عظيم؛ لأنك أخذتَ حقّاً لله تعالى ، وأعطيته لغيره .
إذن : فحاول أن تَسْلَم من هذه الآفة؛ لأن الله قال فيها : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات }
(1/5768)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
الصالحات : هي الأعمال التي تعود بالخير عليك أو على غيرك ، وأضعفُ الإيمان في عمل الصالح أن تترك الصالح في ذاته على صلاحه فلا تفسده ، كأن تجد بئراً يشرب منه الناس فلا تطمسه ولا تلوثه . فإنْ رقيت العمل الصالح فيمكنك أن تزيد من صلاحه ، فتبنى حوله جداراً يحميه أو تجعل له غطاءً . . إلخ .
ومن رحمة الله بنا أنه سبحانه حينما حثَّنا على العمل الصالح قال : { مِنَ الصالحات } [ طه : 112 ] ومن هنا للتبعيض ، فيكفي أنْ تفعل بعض الصالحات؛ لأن طاقة الإنسان لا تسع كل الصالحات ولا تقوى عليها ، فحسْبُك أن تأخذ منها طرفاً ، وآخر يأخذ طرفاً ، فإذا ما تجمعتْ كل هذه الأطراف من العمل الصالح من الخلق كوَّنَتْ لنا الصلاح الكامل .
كما سبق أن ذكرنا أن ليس بوسع أحد منا أن يجمع الكمال المحمدي في أخلاقه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " الخير فيَّ حقاً وفي أمتي إلى يوم القيامة " .
ففي كل فرد من أفراد الأمة خصلة من خصال الخير ، بحيث إذا تجمعت خصال الكمال في الخلق أعطتنا الكمال المحمدي .
وقوله : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ طه : 112 ] لأن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح ، فإنْ جاء العمل الصالح من غير المؤمن أخذ أجره في الدنيا ذِكْراً وشُهْرة وتخليداً لذكراه ، فقد عمل ليقال وقد قيل ، وانتهتْ المسألة .
ثم يقول تعالى : { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] والظلم هنا غير الظلم في قوله تعالى : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [ طه : 111 ] فالظلم هنا من الإنسان لنفسه أو لغيره ، إنما { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] أي : ظُلْماً يقع عليه ، بألاَّ يأخذ حقه على عمله ، بمعنى أننا لا نعاقبه على سيئة لم يعملها ، ولا نضيع عليه ثواب حسنة عملها؛ لأن الحق سبحانه لا يظلم الناس مثقال ذرة .
{ وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] الهَضْم يعني النقصان ، فلا ننقصه أجره وثوابه ، ومنه هضم الطعام ، فكمية الطعام التي نأكلها تُهضَم ثم تُمتصّ ، وتتحول إلى سائل دموي ، فتأخذ حَيِّزاً أقل ، ومنه نقول : فلان مهضوم الحق . يعني : كان له حق فلم يأخذه .
لكن ، ما فائدة عطف ( هَضْماً ) على ( ظُلْماً ) فنَفْي الظلم نَفْي للهضم؟ نقول : لأنه مرة يُبطل الثواب نهائياً ، ومرة يُقلِّل الجزاء على الثواب .
ثم يقول الحق سبحانه : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }
(1/5769)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
( كَذَلِكَ ) أي : كالإنزال الذي أنزلناه إلى الأمم السابقة ، فكما أرسلنا إليهم رُسُلاً أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلاً ، إلا أنْ فارق الرسالات أنهم بُعِثُوا لزمان محدود ، في مكان محدود ، وبُعثْتَ للناس كافّة ، وللزمان كافة إلى أنْ تقوم الساعة .
ونفهم من كلمة { أَنزَلْنَاهُ } [ طه : 113 ] أن المُنزَّل أعلى من المُنزَّل عليه ، فالإنزال من شيء عالٍ ، وكأن الحق تبارك وتعالى يلفت أنظارنا ويُصعِّد هممنا ، فيقول : لا تهبطوا إلى مستوى تشريع الأرض؛ لأنه يُقنِّن للحاضر ويجهل المستقبل ، ويتحكم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك .
لذلك ، حين ينادينا إلى منهجه العلوي يقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ } [ الأنعام : 151 ] يعني : اعلوا وخُذُوا منهجكم من أعلى ، لا من الأرض .
{ قُرْآناً } [ طه : 113 ] يعني : مقروء ، كما قال { كِتَاباً } [ الأنبياء : 10 ] يعني : مكتوب ، ليُحفظ في الصدور وفي السطور . وقال { قُرْآناً عَرَبِيّاً } [ طه : 113 ] مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرْسَل إلى الناس كافة في امتداد الزمان والمكان ، والقرآن نزل معجزة للجميع .
قالوا : لأنه صلى الله عليه وسلم هو المباشر لهذه الأمة العربية التي ستستقبل أول دعوة له ، فلا بُدَّ أنْ تأتي المعجزة بلسانها ، كما أن معجزة القرآن ليستْ للعرب وحدهم ، إنما تحدٍّ للإنس والجن على امتداد الزمان المكان .
كما قال سبحانه : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] .
فالقرآن تحدٍّ لكل الأجناس : الروسي ، والأمريكي ، والياباني ، والدنيا كلها ، ومعهم الجن أيضاً . لكن لماذا والجن أيضاً داخل في مجال التحدي؟
قالوا : لأن العرب قديماً كانوا يعتقدون أن لكل شاعر أو خطيب مفوه شيطاناً يمُدُّه ويُوحِي إليه؛ لذلك أدخل الجن أيضاً في هذا المجال .
وقد يقول قائل : وكيف نتحدّى بالقرآن غير العرب وهو بلسان عربي ، فهو حجة على العرب دون غيرهم؟
نقول : وهل إعجاز القرآن من حيث أسلوبه العربي وأدائه البياني فقط؟ لا ، فجوانب الإعجاز في القرآن كثيرة لا تختلف فيها اللغات ، فهل تختلف اللغات في التقنين لخير المجتمع؟ ألم يأْتِ القرآن بمنهج في أمة بدوية أمية يغزو أكبر حضارتين معاصرتين له ، هما حضارة فارس في الشرق ، وحضارة الروم في الغرب؟ ألم تكُنْ هذه الظاهرة جديرةً بالتأمل والبحث؟
ثم الكونيات التي تحدَّث القرآن عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً ، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن .
إذن : طبيعي أن يأتي القرآن عربياً؛ لأنه نزل على رسول عربي ، وفي أمة عربية ، والحق سبحانه يقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] .
فهم الذين يستقبلون الدعوة ، وينفعلون لها ، ويقتنعون بها ، ثم ينساحون بها في شتَّى بقاع الأرض ، ومن العجيب أنهم بدعوة القرآن أقنعوا الدنيا التي لا تعرف العربية ، أقنعوها بالمبادىء والمناهج التي جاء بها القرآن؛ لأنها مبادىء ومناهج لا تخلتف عليها اللغات .
(1/5770)
ثم يقول تعالى : { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } [ طه : 113 ] أي : حينما ينذر القرآن بشيء يُصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة ، ويُكرَّر الإنذار لينبه أهل الغفلة .
يعني : لوَّنا فيه كل أساليب الوعد والوعيد ، فكل أسلوب يصادف هوى في نفس أحد المستقبلين ، فخطابنا الأهواء كلها بكل مستوياتها ، فالعالم والجاهل ومتوسط الفكر ، الكل يجد في القرآن مَا يناسبه؛ لأنه يُشرِّع للجميع ، للفيلسوف وللعامي ، فلا بُدَّ أنْ يكون في القرآن تصريفٌ لكل ألوان الملكات ليقنع الجميع .
وفي القرآن وَعْد ووعيد ، فلكل منهما أهْل ، ومَنْ لم يَأْتِ بالإغراء بالخير يأتي بأن ينزعه بالقوة والجبروت ، كما قال الشاعر :
أَنَاةٌ فَإِنْ لم تُغْنِ عَقَّبَ بعدَها وَعِيداً ... فَإنْ لم يُغْن أغنَتْ عَزَائمهُ
وفي الأثر : " إن الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن " .
والإنذار والتخويف نعمة من الله ، كما ورد في سورة الرحمن ، حيث يقول تعالى : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 1921 ] فهذه نعم من الله .
أما قوله : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 3536 ] فما النعمة في النار والشُّواظ؟
النعمة أن ينذرك الله بها ويحذرك منها ، قبل أنْ تقعَ فيها ، ويعظك بها وأنت ما زلتَ في فترة المهلة والتدارك ، فلا يأخذك على غِرَّة ولا يتركك على غفلتك . كما تُحذِّر ولدك : إنْ أهملتَ دروسك فسوف تفشل في الامتحان فيحتقرك زملائك ، ويحدث لك كيت وكيت ، فلم يترك ولده على غَفْلته وإهماله ، إلى أنْ يداهمه الامتحان ويُفاجِئه الفشل ، أليستْ هذه نعمة؟ أليستْ نصيحة مهمة؟
والتصريف : يعني التحويل والتغيير بأساليب شتَّى لتناسب استقبال الأمزجة المختلفة عند نزول القرآن لعلها تصادف وَعْياً واهتماماً { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [ طه : 113 ] .
{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ طه : 113 ] الاتقاء عادة يكون للشر والمعاصي المهلكة ، أو يُحدِث لهم الذكْر والشرف والرفعة بفعل الخيرات ، وهذا من ارتقاءات الطاعة .
ذلك لأن التكليف قسمان : قسم ينهاك عن معصية ، وقسم يأمرك بطاعة ، فينهاك عن شُرْب الخمر ، ويأمرك بالصلاة ، فهم يتقون الأول ، ويُحدِث لهم ذِكْراً يوصيهم بعمل الثاني . وما دام القرآن نازلاً من أعلى فلا بُدَّ أن يقول بعدها : { فتعالى الله الملك الحق }
(1/5771)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{ تعالى } [ طه : 114 ] تنزّه وارتفع عن كل ما يُشبه الحادث ، تعالى ذاتاً ، فليستْ هناك ذاتٌ كذاته ، وتعالى صفاتاً فليست هناك صفة كصفته ، فإنْ وُجِدَتْ صفة في الخَلْق تشبه صفة في الخالق سبحانه ، فخُذْها في ضوء { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
فالحق سبحانه لا يضنُّ على عبده أنْ يُسميه خالقاً إنْ أوجد شيئاً من عدم ، إنما لما تكلم عن خَلْقه سبحانه ، قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنين : 14 ] .
فأنت خالق ، لكن ربَّك أحسَنُ الخالقين ، فأنت خلقتَ من موجود أمّا ربك عز وجل فقد خلق من العدم ، أنت خلقتَ شيئاً جامداً على حالة واحدة ، والله خلق خَلْقاً حياً نامياً ، يُحسُّ ويتحرك ويتكاثر ، وسبق أنْ مثَّلنا لذلك ولله المثل الأعلى بصانع الأكواب الزجاجية من الرمال ، وأوضحنا الفرق بين خَلْق وخَلْق .
وقوله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق } [ طه : 114 ] تلفتنا إلى ضرورة التطلع إلى أعلى في التشريع . فما الذي يُجبرك أنْ تأخذ تشريعاً من عبد مثلك؟ ولماذا يأخذ هو تشريعك؟ إذن : لا بُدَّ أن يكون المشرِّع أعلى من المشرَّع له .
ومن ألفاظ تنزيه الله التي لا تُقال إلا له سبحانه كلمة ( سبحان الله ) أسمعتَ بشراً يقولها لبشر؟ وهناك كفرة وملاحدة ومنكرون للألوهية ومعاندون ، ومع ذلك لم يقُلْها أحد مَدْحاً في أحد .
كذلك كلمة ( تعالى وتبارك ) لا تُقال إلا لله ، فنقول : ( تباركت ربنا وتعاليت ) أي : وحدك لا شريك لك .
فقوله : { فتعالى الله } [ طه : 114 ] علا قَدْره وارتفع التنزيه ارتفاعاً لا يوصل إليه ، أمّا التعالي في البشر فيما بينهم فأمْر ممقوتٌ؛ أما تعالى الحق سبحانه فمن مصلحة الخلق ، وهذه اللفتة يُعَبِّر عنها أهل الريف ، يقولون ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) ؛ لأن الكبير هو الذي سيأخذ بيد الضعيف ويدكّ طغيان القوى ، فإذا لم يكُنْ لنا كبير نختلف ونضيع .
إذن : من مصلحة الكون كله أنْ يكونَ الله متعالياً ، والحق ليس متعالياً علينا ، بل متعالٍ من أجلنا ولصالحنا ، فأيُّ مُتعالٍ أو جبار من البشر عندما يعلم أن الله أعلى منه يندكّ جبروته وتعاليه ، وأيّ ضعيف يعلم أن له سنداً أعلى لا يناله أحد ، فيطمئن ويعيش آمناً وبذلك يحدث التوازن الاجتماعي بين الناس .
ونحن نحب عبوديتنا لله عز وجل ، وإنْ كانت العبودية كلمة بغيضة مكروهة حين تكون عبودية الخَلْق للخَلْق فيأخذ السيد خَيْر عبده ، إلا أن العبودية لله شرف وكرامة؛ لأن العبد لله هو الذي يأخذ خَيْر سيده ، فأنا عبد لله وعبوديتي له لصالحي أنا ، ولن أزيد في مُلْكه شيئاً ، ولن ينتفع من ورائي بشيء؛ لأنه سبحانه زوال مُلْكه وزوال سلطانه في الكون قبل أن يخلق الخَلْق ، فبقدرته وعظمته خلق ، وقبل أنْ توجد أنت أيها الإنسان الطاغي المتمرد أوجد لك الكون كله بما فيه .
(1/5772)
فأنت بإيمانك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله ، كما جاء في الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني ، ولن تملكوا ضري فتضروني . . " فأنا إنْ تصرَّفْتُ فيكم فلمصلحتكم ، لا يعود عليَّ من ذلك شيء .
وقوله تعالى : { الملك الحق } [ طه : 114 ] لأن هناك ملوكاً كثيرين ، أثبتَ الله لهم الملْك وسمَّاهم مُلُوكاً ، كما قال سبحانه : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ } [ يوسف : 50 ] وقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك } [ البقرة : 258 ] .
إذن : في الدنيا ملوك ، لكنهم ليسوا مُلوكاً بحق ، الملك بحق هو الله؛ لأن ملوك الدنيا ملوك في مُلْك موهوب لهم من الله ، فيمكن أن يفوت مُلْكَه ، أو يفوته المْلكُ ، وأيُّ مُلْك هذا الذي لا يملكه صاحبه؟ أيّ مُلْك هذا الذي يُسلب منك بانقلاب أو بطلقة رصاص؟
إذن : الملِك الحق هو الله ، وإن ملَّك بعض الخلق شئون بعض لمصلحتهم ، فهو سبحانه الذي يهَب الملْك ، وهو الذي ينزعه إن أراد : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] .
فالحق سبحانه له الملْك الحق ، ويهَبُ من مُلْكه لمَنْ يشاء ، لكن يظل المَلِك وما مَلَكه في قبضة الله؛ لأنه سبحانه قيُّوم على خَلْقه لا يخرج أحد عن قيوميته .
وقد نسمع مَنْ يسبُّ الملوك والرؤساء ، ومَنْ يخوض في حقهم ، وهو لا يدري أن مُلْكهم من الله ، فهو سبحانه الذي ملّكهم وفوَّضهم ، ولم يأخذ أحد منه مُلْكاً رَغْماً عن الله ، فلا تعترض على اختيار الله واحترم مَنْ فوَّضه الله في أمرك ، واعلم أن في ذلك مصلحة البلاد والعباد ، ومَنْ يدريك لعلَّ الطاغية منهم يصبح غَداً واحداً من الرعية .
إذن : الحق سبحانه ملَّك بعض الناس أمْر بعض : هذا يتصرف في هذا ، وهذا يملك هذا لتسير حركة الكون ، فإذا كانت القيامة ، قال عز وجل : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] هذا هو الملْك الحق .
ومن عظمته في التعالى أنه يريحك هو سبحانه بعمله لك ، فيقول لك : نَمْ مِلْءَ جفونك ، فأنا لا تأخذني سِنَة ولا نوم ، نَمْ فلكَ رب قيوم قائم على أمرك يرعاك ويحرسك .
ومن معاني { الملك الحق } [ طه : 114 ] أي : الثابت الذي لا يتغير ، وكُلُّ ظاهرة من ظواهر القوة في الكون تتغير إلا قوة الحق تبارك وتعالى لذلك يُلقِي سبحانه أوامره وهو واثق أنها ستُنفذ؛ لأنه سبحانه مِلكٌ حقّ ، بيده ناصية الأمور كلها ، فلو لم يكُنْ سبحانه كذلك ، فكيف يقول للشيء : كُنْ فيكون؟ فلا يعصاه أحد ، ولا يخرج عن طَوْعه مخلوق ، فيقول له : كُنْ فلا يكون .
فالحق تبارك وتعالى أنزل القرآن عربياً ، وصرَّف فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً؛ لأنه من حقه أن يكون له ذلك؛ لأنه مَلِك حق ليس له هوى فيما شرع؛ لذلك يجب أن تقبل تشريعه ، فلا يطعن في القوانين إلا أن تصدر عن هوى ، فإنْ قنَّن رأسمالي أعطَى الامتياز للرأسماليين ، وإنْ قنَّن فقير أعطى الامتياز للفقراء ، والله عز وجل لا ينحاز لأحد على حساب أحد .
(1/5773)
وأيضاً يجب في المقنِّن أن يكون عالماً بمستجدَّات الأمور في المستقبل ، حتى لا يستدرك أحد على قانون فيُغيِّره كما يحدث معنا الآن ، وتضطرنا الأحداث إلى تغيير القانون؛ لأننا ساعة شرعناه غابتْ عنا هذه الأحداث ، ولم نحتط لها؛ لذلك لا استدراكَ على قانون السماء أبداً .
وطالما أن الحق سبحانه وتعالى هو { الملك الحق } [ طه : 114 ] فلا بُدَّ أنْ يضمن للخلق أنْ يصلهم الكتاب والمنهج كما قاله سبحانه ، لا تغيير فيه؛ لذلك قال عز وجل : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
نحن الذين سنحفظه؛ لأن البشر جُرِّبوا في حِفْظ مناهج السماء ، ولم يكونوا أمناء عليها ، فغيَّروا في التوراة وفي الإنجيل وفي الكتب المقدَّسة ، إما بأن يكتموا بعض ما أنزل الله ، وإما أنْ ينسُوا بعضه ، والذي ذكروه لم يتركوه على حاله بل حرَّفوه . وإنْ قُبِل منهم هذا كله فلا يُقبَل منهم أنْ يفتَرُوا على الله فيُؤلِّفون من عندهم ، ويقولون : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 78 ] .
ذلك لأن الحفْظ للمنهج كان موكولاً للبشر تكليفاً ، والتكليف عُرْضَة لأنْ يُطَاع ، ولأن يُعْصَى ، كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } [ المائدة : 44 ] .
أي : طلب منهم أن يحفظوها بهذا الأمر التكليفي ، فعَصَوْه نسياناً ، وكتماناً ، وتحريفاً ، وزيادة؛ لذلك تولّى الحق تبارك وتعالى حفْظ القرآن؛ لأنه الكتاب الخاتم الذي لا استدراكَ عليه ، وضمن سبحانه للقرآن ألاَّ يُحرَّف بأيِّ وجه من أَوْجُه التحريف .
فاطمئنوا إلى أن القرآن كتاب الله الذي بين أيديكم هو كلام الله الذي جاء من علمه تعالى في اللوح المحفوظ الذي قال عنه : { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 7879 ] .
ثم نزل به الروح الأمين ، وهو مُؤتَمن عليه لم يتصرَّف فيه ، ثم نزل على قلب سيد المرسلين الذي قال الله عنه : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 4445 ] .
إذن : حُفِظ القرآن عِلْماً في اللوح المحفوظ ، وحُفِظ في أمانة مَنْ نزل به من السماء ، وحُفِظ في مَنْ استقبله وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا حجةَ لنا بعد أن جمع الحق سبحانه وتعالى للقرآن كُلَّ ألوان الحفظ .
لذلك كان ولا بُدَّ حين يُنزِل الله القرآن على رسوله أن يقول له : { فتعالى الله الملك الحق } [ طه : 114 ] فليست هناك حقيقة بعد هذا أبداً ، وليس هناك شيء ثابت ثبوتَ الحق سبحانه وتعالى .
(1/5774)
ثم يقول تعالى { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] وهذه مُقدِّمات ليطمئن رسول الله على حِفْظ القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي ، فيحاول إعادته كلمة كلمة . فإذا قال الوحي مثلاً : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ } [ الجن : 1 ] فيأخذ الرسول من تكرارها في سِرَّه ويُردِّدها خلف جبريل عليه السلام مخافة أنْ ينساها لشدة حِرْصه على القرآن .
فنهاه الله عن هذه العجلة { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } [ طه : 114 ] أي : لا تتعجل ، ولا تنشغل بالتكرار والترديد ، فسوف يأتيك نُضْجها حين تكتمل ، فلا تَخْشَ أنْ يفوتك شيءٌ منه طالما أنني تكفَّلْتُ بحِفْظه؛ لذلك يقول له في موضع آخر : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] .
فاطمئن ولا تقلق على هذه المسألة؛ لأن شغلك بحفظ كلمة قد يُفوِّت عليك أخرى .
والعَجَلة أنْ تُخرِج الحدث قبل نُضْجه ، كأن تقطف الثمرة قبل نُضْجها وقبل أوانها ، وعند الأكل تُفَاجأ بأنها لم تَسْتَوِ بعد ، أو تتعجل قَطْفها وهي صغيرة لا تكفي شخصاً واحداً ، ولو تركتها لأوانها لكانت كافية لعدة أشخاص .
والقرآن كلام في مستوى عَالٍ من البلاغة ، وليس كلاماً مألوفاً له يسهُل عليه حِفْظه؛ لذلك كان حريصاً على الحِفْظ والتثبيت .
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذه المسألة : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } [ القيامة : 1618 ] أي : لما تكتمل الآيات فلكَ أنْ تقرأها كما تحب .
وهذه الظاهرة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، نبي ينزل عليه عدة أرباع من القرآن ، أو السورة كاملة ، ثم حيث يُسري عنه الوحي يعيدها كما أُنزِلتْ عليه ، ولك أن تأتي بأكثر الناس قدرة على الحفظ ، واقرأ عليه المدة عشر دقائق مثلاً من أي كتاب أو أي كلام ، ثم اطلب منه إعادة ما سمع فلن يستطيع .
أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأمر الكَتبة بكتابة القرآن ، ثم يمليه عليهم كما سمعه ، لا يُغير منه حرفاً واحداً ، بل ويُملي الآيات في موضعها من السور المختلفة فيقول : " ضعوا هذه في سورة كذا ، وهذه في سورة كذا " .
ولو أن السورة نزلت كاملة مرة واحدة لكان الأمر إلى حَدٍّ ما سهلاً ، إنما تنزل الآيات متفرقة ، فإذا ما قرأ صلى الله عليه وسلم في الصلاة مثلاً قرأ بسورة واحدة نزلتْ آياتها متفرقة ، هذه نزلت اليوم ، وهذه نزلت بالأمس ، وهكذا ، ومع ذلك يقرؤها مُرتَّبة آية آية .
وقوله تعالى بعدها : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 19 ] وخاطب النبي في آية أخرى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] فالبيان من الله تعالى والتبيين من النبي صلى الله عليه وسلم .
(1/5775)
ومعنى : { مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] أي : انتظر حتى يسري عنك ، لكن كيف يعرف الرسول ذلك؟ كيف يعرف أن الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي قد زالتْ؟ والصحابة يصفون حال النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه فيقولون : كنا نسمع حول رأسه كغطيط النحل ، وكان جبينه يتفصد عرقاً ، ويبلغ منه الجهد مبلغاً ، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ برسول الله؛ لأن الله تعالى قال : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] .
إذن : هناك آيات مادية تعرض لرسول الله عند نزول الوحي؛ لأن الوَحْي من مَلَك له طبيعته التكوينية التي تختلف وطبيعة النبي البشرية ، فلكي يتم اللقاء بينهما مباشرة لا بُدَّ أنْ يحدث بينهما نوعٌ من التقارب في الطبيعة ، فإمّا أن يتحول الملَك من صورته الملائكية إلى صورة بشرية ، أو ينتقل رسول الله من حالته البشرية إلى حالة ملائكية ارتقائية حتى يتلقّى عن الملك .
لذلك ، كانت تحدث لرسول الله تغييرات كيماوية في طبيعته ، هذه التغييرات هي التي تجعله يتصبَّبُ عَرَقاً حتى يقول : " زملوني زملوني " أو " دثروني دثروني " لما حدث في تكوينه من تفاعل .
فكان الوحي شاقاً على رسول الله خاصة في أوله ، فأراد الحق سبحانه أنْ يُخفِّف عن رسوله هذه المشقة ، وأنْ يُريحه فترة من نزول الوحي ليريحه من ناحية وليُشوِّقه للوحي من ناحية أخرى ، فقال تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [ الشرح : 13 ] والوِزْر هو الحِمْل الثقيل الذي كان يحمله رسول الله في نزول الوحي عليه .
فلما فتر الوحي عن رسول الله شمتَ به الأعداء ، وقالوا : إن ربَّ محمد قد قلاه . سبحان الله ، أفي الجَفْوة تذكرون أن لمحمد رباً؟ ألستم القائلين له : كذاب وساحر؟ والآن أصبح له رب لأنه قلاه؟
وما فهم الكفار أن فتور الوحي لحكمة عالية ، أرادها ربُّ محمد ، هي أنْ يرتاح نفسياً من مشقة هذه التغيرات الكيماوية في تكوينه ، وأنْ تتجدد طاقته ، ويزداد شوقه للقاء جبريل من جديد ، والشَّوْق إلى الشيء يُهوِّن الصعاب في سبيله . كما يسير المحب إلى حبيبه ، لا تمنعه مشاقّ الطريق .
فردَّ الله على الكافر : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 15 ] .
فنفى عن رسوله ما قاله الكفار ، ثم عدَّل عبارتهم : إن ربَّ محمد قد قلاه فقال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] هكذا بكاف الخطاب؛ لأن التوديع قد يكون للحبيب .
أمَّا في قوله : { وَمَا قلى } [ الضحى : 3 ] فلم يأْتِ هنا بكاف الخطاب حتى مع النفي ، فلم يقُلْ ( وما قلاك ) ؛ لأن النفي مع ضمير المخاطب يُشْعِر بإمكانية حدوث الكُره لرسول الله .
(1/5776)
كما لو قلت : أنا لم أرَ شيخ الأزهر يشرب الخمر ، أمدحتَ شيخ الأزهر بهذا القول أم ذَمَمْته؟ الحقيقة أنك ذممته؛ لأنك جعلته مظنة أن يحدث منه ذلك .
فهذا التعبير القرآني يعطي لرسول الله منزلته العالية ومكانته عند ربه عز وجل .
لكن ، ما الحكمة في أن الحق تبارك وتعالى أقسم في هذه المسألة بالضحى وبالليل إذا سَجَى؟ وما صلتهما بموضوع غياب الوحي عن رسول الله؟
الله عز وجل يريد بقوله : { والضحى * والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 12 ] أن يرد هؤلاء إلى ظاهرة كونية مُشَاهدة ومُعْتَرف بها عند الجميع ، وهي أن الله خلق النهار وجعله مَحلاً للحركة والنشاط والسعي ، وخلق الليل وجعله مَحَلاً للراحة والسكون ، فيرتاح الإنسان في الليل ليعاود نشاطه في الصباح من جديد .
وهكذا أمر الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أجهده الوحي احتاج إلى وقت يرتاح فيه ، لا لتنتهي المسألة بلا عودة ، بل ليُجدِّد نشاط النبي ، ويُشوِّقه للوحي من جديد؛ لذلك بشَّره بقوله : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 4 ] أي : انتظر يا محمد ، فسوف يأتيك خير كثير .
فالحق سبحانه يُرجِعهم إلى ظواهر الكون ، وإلى الطبيعة التي يعيشون عليها ، فأنتم ترتاحون من عَناء النهار بسكون الليل ، فلماذا تنكرون على محمد أن يرتاح من عناء الوحي ومشقته؟ وهل راحتكم في سكون الليل تعني دوام الليل وعدم عودة النهار؟
وقوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] هذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم للاستزادة من العلم ، فما دُمْتَ أنت يا رب الحافظ فزِدْني منه ، ذلك لأن رسول الله سيحتاج إلى علم تقوم عليه حركة الحياة من لَدُنْه إلى أن تقوم الساعة ، عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة ، فلا بُدَّ له أنْ يُعَدَّ الإعدادَ اللازم لهذه المهمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ }
(1/5777)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
كأن الحق تبارك وتعالى يُعزِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له : اقبلهم على عِلاَّتهم ، فهُمْ أولاد آدم ، والعصيان أمر وارد فيهم ، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسى ، فإذا نسى هؤلاء فاقبل منهم فهم أولاد " نسَّاي " .
لذلك ، إذا أوصيتَ أحداً بعمل شيء فلم يَقُمْ به ، فلا تغضب ، وارجع الأمر إلى هذه المسألة ، والتمس له عُذْراً .
وقوله : { عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ } [ طه : 115 ] أي : أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا ، وقلنا كل شيء .
{ مِن قَبْلُ } [ طه : 115 ] هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن ، وقد حسمتْ لنا مواقف عدة ، منها قوله هنا عن آدم والمراد : خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الذي كلّفه الله مباشرة ، ليس بواسطة رسول الله ، وكلّفه بأمر واحد ، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد : كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه بأمر واحد ، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد : كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه الشجرة ، هذا هو التكليف ، ومع ذلك نسى آدم ما أُمِر به .
إذن : حينما يأتي التكليف بواسطة رسول ، وبأمور كثيرة ، فمَنْ نسى من ولد آدم فيجب أنْ نعذره ونلتمس له عذراً ، ولكثرة النيسان في ذرية آدم قال تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ } [ طه : 82 ] بالمبالغة؛ لأن الجميع عُرْضَة للنسيان وعُرْضة للخطأ ، فالأمر إذن يحتاج إلى مغفرة كثيرة .
كذلك جاءتْ ( من قبل ) في قوله تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ } [ البقرة : 91 ] .
فكان لها دور ومَغْزى ، فلو قال الحق سبحانه : فَلِمَ تقتلون أنبياء الله؟ فحسْب ، فربما جرَّأهم على الاعتداء على رسول الله أنْ يقتلوه ، أو يفهم منها رسول الله أنه عُرْضة للقتل كما حدث مع سابقيه من الأنبياء . لذلك قيَّدها الحق تبارك وتعالى وجعلها شيئاً من الماضي الذي لن يكون ، فهذا شيء حدث من قبل ، وليس هذا زمانه .
وقوله : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] أي : نسي العَهْد ، هذه واحدة . { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] ليس عنده عزيمة قوية تُعينه على المضيِّ والثبات في الأمر .
فالحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمْر فيه نفع لك تتهافت عليه ، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتك تأبَّيْتَ وخالفتَ ، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضيّ فيه والثبات عليه ، فإنْ أقبلتَ على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرتَ فيه وتأملتَ : كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذلٌّ آجل مستمر ، فالعَزْم هنا ألاَّ تغريك الشهوة .
ألا ترى أن الله تعالى سمَّى الرسل أصحاب الدعوات والرسالات الهامة في تاريخ البشرية { أُوْلُواْ العزم } [ الأحقاف : 35 ] لأنهم سيتحملون مشاقَ ومهامَ صعبة تحتاج إلى ثبات وصبر على التكليف .
(1/5778)
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } [ البقرة : 63 ] أي : عزيمة تدفع إلى الطاعات ، وتمنع من المعاصي .
ومسألة نسيان العبد للمنهيات التي يترتب عليها عقاب وعذاب أثارتْ عند الناس مشكلة في القضاء والقدر ، فتسمع البعض يقول : ما دام أن الله تعالى كتب عليَّ هذا الفعل فَلِمَ يعاقبني عليه؟
ونعجب لهذه المقولة ، ولماذا لم تَقُلْ أيضاً : لماذا يثيبني على هذا الفعل ، ما دام قد كتبه عليَّ؟ لماذا توقفتَ في الأولى و ( بلعْت ) الأخرى ، بالطبع؛ لأن الأولى ليست في صالحك . إذن ، عليك أن تتعامل مع ربك معاملة واحدة ، وتقيس الأمور بمقياس واحد .
والعهد الذي أخذه الله على آدم أنْ يأكل رَغَداً من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذَّره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } [ البقرة : 35 ] .
وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى أمّا المحرمات فقليلة معدودة محصورة؛ لذلك حينما يُحدِّثنا الحق سبحانه عن التكليف يقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] فالمحرَّمات هي التي يمكن حصرها ، أما المحللات فخارجة عن نطاق الحَصْر .
ونلحظ أن الله تعالى حينما يُحذِّرنا من المحرمات لا يُحذِّرنا من مباشرتها ، بلْ مِن مجرد الاقتراب منها { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] ولم يقُلْ : لا تأكلا منها؛ ليظل الإنسان بعيداً عن منطقة الخطر ومظنّة الفِعْل .
وحينما يُحدِّثنا ربُّنا عن حدوده التي حدَّهَا لنا يقول في الحدّ المحلَّل : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] وفي الحدِّ المحّرم يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] ذلك لأن مَنْ حامَ حول الحِمَى يوشك أنْ يقع فيه .
وقد كان للعلماء كلام طويل حول ما نسيه آدم عليه السلام ، فمنهم مَنْ قال : نسى ( كُل من هذه ولا تقرب هذه ) ، وعلى هذا الرأي لم يَنْسَ آدم لأنه نفَّذ الأمر فأكل مِمّا أحله الله له ، أما كونه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فليس في هذه أيضاً نسيان؛ لأن إبليس ذكّره بهذا النهي فقال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } [ الأعراف : 20 ] .
فحينما أكل آدم من الشجرة لم يكُنْ ناسياً ما نهاه الله عنه . إذن : ما المقصود بالنسيان هنا؟
المقصود أن آدم عليه السلام نسى ما أخبره الله به من عداوة إبليس لعنه الله حين قال له : { إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى } [ طه : 117 ] .
والفكر البشري لا بُدَّ أن تفوتَهُ بعض المسائل ، ولو كان عند الإنسان يقظه وحَذَر ما انطلى عليه تغفيل إبليس ، فتراه يُذكِّر آدمَ بالنهي ولم يَدَعْهُ في غفلته ثم يحاول إقناعه : إنْ أكلتُما من هذه الشجرة فسوف تكونَا ملَكين ، أو تكونَا من الخالدين .
(1/5779)
وما دُمْتَ أنت يا أبليس بهذا الذكاء ، فلماذا لم تأكل أنت من الشجرة وتكون مَلَكاً أو تكون من الخالدين؟ لماذا تضاءلت فصْرتَ أرنباً تقول : { أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأعراف : 14 ] .
إذن : هذا نموذج من تغفيل إبليس لآدم وذريته من بعده ، يلفتنا الله تعالى إليه يقول : تيقظوا واحذروا ، فعداوته لكم مُسْبقة منذ سجد الجميع لآدم تكريماً ، وأَبَى هو أن يسجد .
فكان على آدم أنْ يُحذِّر عدوه ، وأنْ يتحصَّن له بسوء الظن فيه ، فينظر في قوله ويفكر في كلامه ويفتش في اقتراحه .
والبعض يقول : إن خطأ آدم ناتج عن نسيان ، فهو خطأ غير مُتعَمَّد ، والنسيان مرفوع ، كما جاء في الحديث الشريف : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
فهل كان النسيان قديماً لا يُرْفَع ، ورُفِع لهذه الأمة إكْراماً لها؟ فأصحاب هذا القول يلتمسون العُذْر لآدم عليه السلام ، لكن كيف وقد كلَّفه ربُّه مباشرة ، وكلَّفه بأمر واحد ، فالمسألة لا تحتمل نسياناً ، فإذا نسي آدم مع وحدة التكليف وكَوْنه من الله مباشرة ، فهذا على آية حال جريمة .
ثم يقص الحق سبحانه علينا قصة آدم مع إبليس : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ }
(1/5780)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
الحق تبارك وتعالى يقصُّ علينا قصة آدم عليه السلام ، لكن نلاحظ أنه سبحانه أعطانا مُجْمل القصة ومُوجزها في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] وأصلْ القصة وترتيبها الطبيعي أنه سبحانه يقول : خلقْتُ آدم بيدي وصوَّرته ، وكذا وكذا ، ثم أمرْتُ الملائكة بالسجود له ثم قلت له : كذا . . . .
وعَرْض القصة بهذه الطريقة أسلوبٌ من أساليب التشويق يصنعه الآن المؤلفون والكُتَّاب في قصصهم ، فيعطوننا في بداية القصة لقطة لنهايتها؛ لإثارة الرغبة في تتبُّع أحداثها ، ثم يعود فيعرض لك القصة من بدايتها تفصيلاً ، إذن : هذا لوْنٌ من ألوان الإثارة والتشويق والتنبيه .
ومن ذلك أسلوب القرآن في قصة أهل الكهف ، حيث ذكر القصة مُوجَزة فقال : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } [ الكهف : 912 ] .
ثم أخذ في عَرْضها تفصيلاً : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } [ الكهف : 13 ] .
وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن ، ففي قصة لوط عليه السلام يبدأ بنهاية القصة وما حاق بهم من العذاب : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } [ القمر : 3334 ] .
ثم يعود إلى تفصيل الأحداث : { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بالنذر * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 3637 ] .
ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى في قصة موسى وفرعون : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } [ الأعراف : 103 ] أي : من بعد موكب الرسالات إلى فرعون وملَئِه فظلموا بها ، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ، هذا مُجمل القصة ، ثم يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتفصيل : { وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } [ الأعراف : 104 ] .
وهكذا أسلوب القرآن في قصة آدم عليه السلام ، يعطينا مُجْمل القصة ، ثم يُفصِّلها : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا } [ طه : 116 ] يعني : إذكر إذ قُلْنا للملائكة { اسجدوا لأَدَمَ } [ البقرة : 34 ] .
وقبل أن نخوضَ في قصة أبينا آدم عليه السلام يجب أن نشير إلى أنها تكررتْ كثيراً في القرآن ، لكن هذا التكرار مقصود لحكمة ، ولا يعني إعادة الأحداث ، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمع في النهاية لتعطيك القصة الكاملة من جميع زواياها .
كما أن الهدف من قَصَص القرآن تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشدائد ، سيحتاج في كل منها إلى تثبيت ، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصة مرة واحدة ، كما في قصة يوسف عليه السلام مثلاً .
(1/5781)
قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا } [ طه : 116 ] البعض يعترض يقول : كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم ، هم سجدوا لآدم ، لكن ما سجدوا من عند أنفسهم ، بل بأمر الله لهم ، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم ، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله . ولقائل هذا الكلام : أأنت مَلِكيٌّ أكثر من الملك؟ يعني : أأنت ربانيّ أكثر من الربّ؟
وما معنى السجود؟ السجود معناه : الخضوع ، كما جاء في قوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [ يوسف : 100 ] أي : سجودَ تعظيم وخضوع ، لا سجودَ عبادة .
وآدم عليه السلام هو خليفة الله في الأرض ، لكنه ليس الوحيد عليها ، فعلى الأرض مخلوقات كثيرة منها المحسّ ، كالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء والأرض والجبال ، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة ، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة التي تدير خفى هذا الكون ، فمنهم الحفظة والكتبة ، ومنهم المكلَّفون بالريح وبالمطر . . إلخ من الأمور التي تخدم الخَلْق . فلا بُدَّ إذن أن يخضع الجميع لهذا المخدوم الآتي .
وقد يحلو للبعض أن يقول : لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى ربه ، فأنزلنا من الجنة إلى الأرض . نقول : يجب أن نفهم عن الله تعالى ، فالحق تبارك وتعالى لم يخلق آدم للجنة التي هي دار الخُلْد ، إنما خلقه ليكون خليفة له في الأرض ، كما قال سبحانه : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] .
فأوّل بلاغ من الله عن آدم أنه خالقه للأرض لا للجنة . والجنة ، وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النعيم الأُخْروي فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدنيا ، كما جاء في قول الحق سبحانه :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [ القلم : 17 ] .
وقوله : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ } [ الكهف : 32 ] .
إذن : تُطلَق الجنة على شيء في الدنيا يضمُّ كل ما تطلبه النفس وسمَّوْها الجنة؛ لأنها تستر بشجرها وكثافتها مَنْ يدخل فيها ، أو جنة لأنها تكفي الإنسان ولا تُحوجه إلى شيء غيرها .
فلا تظلموا آدم بأنه أخرجكم من الجنة؛ لأنه لم يكُنْ في جنة الخُلْد ، إنما في مكان أعدَّه الله له ، وأراد أنْ يُعطيه في هذا المكان درساً ، ويُدرِّبه على القيام بمهمته في الحياة وخلافته في الأرض .
أرأيتَ ما نفعله الآن من إقامة معسكرات للتدريب في شتى مجالات الحياة ، وفيها نتكفّل بمعيشة المتدرب وإقامته ورعايته .
إنها أماكن مُعدَّة للتدريب على المهام المختلفة : رياضية ، أو علمية ، أو عسكرية . . الخ .
هكذا كانت جنة آدم مكاناً لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمته كخليفة لله في الأرض ، فأدخله الله في هذه التجربة العملية التطبيقية ، وأعطاه فيها نموذجاً للتكليف بالأمر والنهي ، وحذَّره من عدوه الذي سيتربص به وبذريته من بعده ، وكشف له بعض أساليبه في الإضلال والإغواء .
(1/5782)
وهذه هي خلاصة منهج الله في الأرض ، وما من رسول إلا وجاء بمثل هذا المنهج : أمر ، ونهي ، وتكليف ، وتحذير من الشيطان ووسوسته حتى يُخرِجنا عن أمر الله ونَهْيه .
وبعد هذا ( الكورس ) التدريبي في الجنة عَلِم آدم بالتطبيق العملي أن الشيطان عدوه ، وأنه سيُغريه ويخدعه ، ثم بعد هذه التجربة أنزله الله ليباشر مهمته في الأرض ، فيكون من عدوه على ذِكْر وحذر .
والبعض يقف طويلاً عند مسألة عصيان آدم : كيف يعصي الله وهو نبي؟ ويذكرون قوله تعالى : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] .
نقول : ما دام أن آدم عليه السلام هو خليفة الله في أرضه ، ومنه أَنْسَالُ الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة ، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء ، من نسله الرسل والمرسل إليهم . إذن : فهو بذاته يمثل الخَلْق الآتي كله بجميع أنواعه المعصومين وغير المعصومين .
كما أن آدم عليه السلام مرَّ بهذه التجربة قبل أن يُنبأ ، ومَرَّ بها بعد أن نُبىء ، بدليل قوله تعالى : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } [ طه : 121122 ] .
فكان الاجتباء والعصمة بعد التجريب ، ثم لما أُهبِط آدم وعدوه إلى الأرض خاطبه ربه : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] .
وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام ، ومثَّل آدم الدَّوْريْن : دَوْر العصمة والنبوة بعدما اجتباه ربه ، ودَوْر البشر العادي غير المعصوم والمعرَّض للنسيان وللمخالفة كأيِّ إنسان من أناس الأرض .
ينبغي إذن أن نفهم أن آدم خُلِق للأرض وعمارتها ، وقد هيَّأها الله لآدم وذريته من بعده ، وأعدَّها بكُلِّ مقوِّمات الحياة ومُقوِّمات بقاء النوع ، فمَنْ أراد ترف الحياة فليُعمل عقله في هذه المقوّمات وليستنبط منها ما يريد .
لقد ذكرنا أن في الكون مُلكاً وملكوتاً : الملْك هو الظاهر الذي نراه ونشاهده ، والملكوت ما خفى عنّا وراء هذا الملْك ، ومن الملكوت أشياء تؤدي مهمتها في حياتنا دون أنْ نراها ، فمثلاً ظاهرة الجاذبية الأرضية التي تتدخل في أمور كثيرة في حياتنا ، كانت في حجاب الملكوت لا نراها ولا نعرف عنها شيئاً ، ثم لما اهتدتْ إليها العقول و اكتشفتْها عرفنا أن هناك ما يسمى بالجاذبية .
ومن الملكوت الملائكة الموكّلون ، كما قال تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] .
ومنهم الكَتَبة : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] .
فلما خلق الله آدم ، وخلق الملائكة الموكلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسجود له؛ لأنهم سيكونون في خدمته ، فالسجود طاعة لأمر الله ، وخضوع للخليفة الذي سيعمر الأرض .
وقوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى } [ طه : 116 ] وفي آية أخرى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر }
(1/5783)
[ ص : 74 ] .
وقد أوضح الحق سبحانه سبب رَفْض إبليس للسجود لآدم بقوله : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ]
أي : لا سبب لامتناعك إلا الاستكبار على السجود ، أو تكون من العالين . أي : الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود ، فكأن الأمر كان للملائكة خاصة هم الموكّلون بخدمة آدم ، أمّا العالون فهم الملائكة المهيّمون ، ولا علاقة لهم بآدم ، وربما لا يدرُون به .
ومن الأساليب التي أثارتْ جَدَلاً حول بلاغة القرآن لدى المستشرقون قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] وقوله في موضع آخر : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] فأيُّ التعبيريْن بليغ؟ وإنْ كان أحدهما بليغاً فالآخر غير بليغ .
وهذا كله ناتج عن قصور في فَهْم لغة القرآن ، وعدم وجود الملَكة العربية عند هؤلاء ، فهناك فَرْق بين أنك تريد أن تسجدَ ويأتي مَنْ يقول لك : لا تسجد ، وبين أنْ يُقنعك شخص بألاَّ تسجد . فقوله : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] كنت تريد السجود وواحد منعك ، وقوله : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] يعني : أمرك ألاَّ تسجد ، وأقنعك وأنت اقتنعتَ .
ومن المسائل التي أثيرتْ حول هذه القصة : أكان إبليس من الملائكة فشمله الأمر بالسجود؟ وكيف يكون من الملائكة وهم لا يعصُون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون؟ وإذا لم يكُنْ مَلَكاً فماذا أدخله في الأمر؟
ولتوضيح هذه المسألة نقول : خلق الله الثَّقليْن : الجن والإنس ، وجعلهم مختارين في كثير من الأمور ، ومقهورين في بعض الأمور ، ليثبت طلاقة قدرته تعالى في خَلْقه ، فإنْ كنتَ مختاراً في أمور التكليف وفي استطاعتك أنْ تطيع أو أنْ تعصي ، فليس من اختيارك أنْ تكون صحيحاً أو مريضاً ، طويلاً أو قصيراً ، فقيراً أو غنياً ، ليس في اختيارك أنْ تحيا أو تموت .
والحق تبارك وتعالى لا يُكلِّفك بافعل كذا ولا تفعل كذا ، إلا إذا خلقك صالحاً للفعل ولعدم الفعل ، هذا في أمور التكليف وما عداه أمور قَهْرية لا اختيارَ لك فيها هي القدريات .
لذلك نقول للذين أَلِفُوا التمرد وتعوَّدوا الخروج على أحكام الله في التكليفات : لماذا لا تتَمردوا أيضاً على القدريات ما دُمْتم قد أَلِفْتم المخالفة؟ إذن : أنت مقهور وعَبْد رَغماً عنك .
لذلك ، إذا كان المختار طائعاً يلزم نفسه بمنهج ربه ، بل ويتنازل عن اختياره لاختيار الله ، فمنزلته عند الله كبيرة ، وهي أفضل من المَلَك ، لأن المَلك يطيع وهو مرغم . ومن هنا يأتي الفرْق بين عباد وعبيد ، فالكل في القهر عبيد ، لكن العباد هم الذين تركوا اختيارهم لاختيار ربهم .
ومن هنا نقول : إن إبليس من الجن ، وليس من الملائكة؛ لأنه أُمِر فامتنع فعُوقِب ، وإنْ كان الأمر في الأصل للملائكة .
وقد حسم القرآن هذه القضية حين قال : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] وهذا نصٌّ صريح لا جدالَ حوله .
فإنْ قُلْتَ : فلماذا شمله الأمر بالسجود ، وهو ليس مَلَكاً؟
نقول : لأن إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً ، وقد شهد عملية خَلْق آدم ، وكان يُدْعَي " طاووس الملائكة " لأنه ألزم نفسه في الأمور الاختيارية ففاق بذلك الملائكة ، وصار يزهو عليهم ويجلس في مجلسهم ، فلما جاء الأمر للملائكة بالسجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين :
الأولى : إنْ كان أعلى منهم منزلةً وهو طاووسهم الذي ألزم نفسه الطاعة رغم اختياره فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم ، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذات؟
الأخرى : إنْ كان أقلّ منهم ، فالأمر للأعلى لا بُدَّ أنْ يشمل الأدنى ، كما لو أمرتَ الوزراء مثلاً بالقيام لرئيس الجمهورية ، وبينهم وكلاء ومديرون ، فطبيعيٌّ أنْ يشملهم الامر .
(1/5784)
ثم يقول الحق : { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ }
(1/5785)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
قوله تعالى : { وَلِزَوْجِكَ } [ طه : 117 ] كلمة الزوج لا تعني اثنين كما يظن البعض ، الزوج فرد واحد معه مثله ، فليس صحيحاً أن نقول : توأم إنما توأمان ، فكل منهما توأم للآخر؛ لذلك يقول تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] .
مَلْحَظ آخر في قوله تعالى : { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة } [ طه : 117 ] الخطاب لآدم وزوجه يُحذِّرهما من إغواء إبليس وكَيْده ، ثم يقول { فتشقى } [ طه : 117 ] بصيغة الإفراد ، ولم يقُل : فتشقيَا . لماذا؟ لأن مسئولية الكَدْح والحركة للرجل أمَّا المرأة فهي السكن المريح المنشِّط لصاحب الحركة ، على خلاف ما نرى في مجتمعنا من الحرص على عمل المرأة بحجة المساعدة في تبعات الحياة .
(1/5786)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
فقد أعددْتُ لك الجنة ، وجعلتُ لك فيها كل ما تحتاجه ، وأبَحْتُ لك كل نعيمها ونهيتُك عن شيء واحد منها ، ولك علينا { أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى } [ طه : 118 ] فلن تجوع فيها؛ لأن فيها كل الثمرات { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } [ البقرة : 35 ] .
ونلحظ هنا أن الله تعالى تكفَّل لهما بشيء ظاهر يُلبِّي غريزة ظاهرة هي اللباس والتستُّر ، وغريزة باطنة هي غريزة الطعام .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا }
(1/5787)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
( تظمأ ) يعني : تعطش ، و ( تضحى ) : أي : لا تتعرض لحرارة الشمس اللافحة ، فتكفّل لهما ربهما أيضاً بغريزة باطنة هي العطش ، وغريزة ظاهرة هي ألاَّ تلفحك حرارة الشمس .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان }
(1/5788)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
نلحظ أن الحق سبحانه اختار لعمل الشيطان اسماً يناسب الإغراء بالشيء ، وهي كلمة ( الوَسْوَسة ) هي في الأصل صوت الحليّ أي : الذهب الذي تتحلَّى به النساء ، كما نقول : نقيق الضفادع ، وصهيل الخيل ، وخُوار البقر ، ونهيق الحمير ، وثغاء الشاة ، وخرير الماء ، وحفيف الشجر .
وكذلك الوسوسة اسم لصوت الحليّ الذي يجذب الأسماع ، ويُغرِي بالتطلع إليه ، وكأن الحق سبحانه يُحذِّرنا أن الشيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتزيين .
فما الذي وَسوس به إلى آدم؟
{ قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] .
ونعجب لإبليس : ما دُمْت تعرف شجرة الخُلْد والملْك الذي لا يبلى ، لماذا لم تأكل أنت منها وتحوز هذه الميزة؟
(1/5789)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
أي : بعد أن أكلا من هذه الشجرة ظهرتْ لهما سوءآتهما ، والسَّوْأة هي العورة أي : المكان الذي يستحي الإنسان أن ينكشف منه ، والمراد القُبُل والدُّبُر في الرجل والمرأة . ولكل من القُبل والدُّبر مهمة ، وبهما يتخلص الجسم من الفضلات ، الماء من ناحية الكُلى والحالب والمثانة عن طريق القُبل ، وبقايا وفضلات الطعام الناتجة عن حركة الهَضْم وعملية الأَيْض ، وهذه تخرج عن طريق الدُّبُر .
لكن ، متى أحسَّ آدم وزوجه بسوءاتهما ، أبعد الأكل عموماً من شجر الجنة ، أم بعد الأكل من هذه الشجرة بالذات؟
الحق تبارك وتعالى رتَّب ظهور العورة على الأكل من الشجرة التي نهاهما عنها { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [ طه : 121 ] فقبْل الأكل من هذه الشجرة لم يعرفا عورتيهما ، ولم يعرفا عملية الإخراج هذه؛ لأن الغذاء كان طاهيه ربُّه ، فيعطي القدرة والحياة دون أن يخلف في الجسم أيَّ فضلات .
لكن ، لما خالفوا وأكلوا من الشجرة بدأ الطعام يختمر وتحدث له عملية الهضم التي نعرفها ، فكانت المرة الأولى التي يلاحظ فيها آدم وزوجه مسألة الفضلات ، ويلتفتان إلى عورتيهما : ما هذا الذي يخرج منها؟
وهنا مسألة رمزية ينبغي الالتفات إليها ، فحين ترى عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عُطل .
إذن : لم يعرف آدم وزوجه فضلات الطعام وما ينتج عنه من ريح وأشياء مُنفَّرة قذرة إلا بعد المخالفة ، وهنا تحيَّرا ، ماذا يفعلان؟ ولم يكن أمامهما إلا ورق الشجر { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } [ طه : 121 ] .
أي : أخذا يلصقان الورق على عورتيهما لسترها هكذا بالفطرة ، وإلا ما الذي جعل هاتين الفتحتين عورة دون غيرهما من فتحات الجسم كالأنف والفم مثلاً؟
قالوا : لأن فَتْحتيْ القُبُل والدُّبُر يخرج منهما شيء قذر كريه يحرص المرء على سَتْره ، ومن العجيب أن الإنسان وهو حيوان ناطق فضَّله الله ، وحين يأكل يأكل باختيار ، أمّا الحيوان فيأكل بغريزته ، ومع ذلك يتجاوز الإنسان الحد في مأكله ومشربه ، فيأكل أنواعاً مختلفة ، ويأكل أكثر من حاجته ويأكل بعدما شبع ، على خلاف الحيوان المحكوم بالغريزة .
ولذلك ترى رائحة الفضلات في الإنسان قذرة مُنفّرة ، ولا فائدة منها في شيء ، أما فضلات الحيوان فلا تكاد تشمُّ لها رائحة ، ويمكن الاستفادة منها فيجعلونها وقوداً أو سماداً طبيعياً . وبعد ذلك نتهم الحيوان ونقول : إنه بهيم . . إلخ .
وقوله تعالى : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] أي : فيما قبل النبوة ، وفي مرحلة التدريب ، والإنسان في هذه المرحلة عُرْضة لأنْ يصيب ، ولأنْ يخطىء ، فإنْ أخطأ في هذه المرحلة لا تضربه بل تُصوِّب له الخطأ . كالتلميذ في فترة الدراسة ، إنْ أخطأ صوَّب له المعلم ، أما في الامتحان فيحاسبه .
ومعنى : { فغوى } [ طه : 121 ] يعني : لم يُصِبْ الحقيقة ، كما يقولون لمن تاه في الصحراء غاوٍ أي : تائه . ثم تأتي المرحلة الأخرى : مرحلة العِصْمة .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ }
(1/5790)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
إذن : مثَّل آدم دَوْر الإنسان العادي الذي يطيع ويعصي ، ويسمع كلام الشيطان ، لكن ربه شرعَ له التوبة كما قال سبحانه : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] .
إذن : عصى آدم وهو إنسان عادي وليس وهو نبي كما يقول البعض .
فقوله : { ثُمَّ اجتباه } [ طه : 122 ] هذه بداية لمرحلة النبوة في حياة آدم عليه السلام ، و ( ثُمَّ ) تعني الترتيب مع التراخي { اجتباه } [ طه : 122 ] اصطفاه ربه .
ولم يقل الحق سبحانه : ثم اجتباه الله ، إنما { اجتباه رَبُّهُ } [ طه : 122 ] لأن الرب المتولي للتربية والرعاية ، ومن تمام التربية الإعداد للمهمة ، ومن ضمن إعداد آدم لمهمته أنْ يمرَّ بهذه التجربة ، وهذا التدريب في الجنة .
{ وهدى } [ طه : 122 ] المراد بالهداية قوله : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً }
(1/5791)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
أي : اهبطا إلى الأرض وامضوا فيها على ضوء التجربة الماضية ، واعلما أن هناك أمراً ونهياً وعدواً يوسوس ويُزيِّن ويُغوِي حتى يظهر عوراتكم ، وكأنه عز وجل يعطي آدم المناعة الكافية له ولذريته من بعده لتستقيم لهم حركة الحياة في ظل التكاليف؛ لأن التكاليف إما أمر وإما نهي ، والشيطان هو الذي يفسد علينا هذه التكاليف .
ومع ذلك لا ننسى طَرَفاً آخر هو النفس الأمَّارة التي تُحرِّكك نحو المعصية والمخالفة . إذن : ليس عدوك الشيطان فحسب فتجعله شماعة تُعلّق عليها كل معاصيك ، فهناك مَعَاصٍ لا يدخل عليك الشيطان بها إلا عن طريق النفس ، وإلا إبليس لما غوى؟ مَنْ أغواه؟ ومَنْ وسوس له؟
وقوله : { اهبطا } [ طه : 123 ] بصيغة التثنية أمر لاثنين : آدم مطمور فيه ذريته ، وإبليس مطمور فيه ذريته ، فقوله : { اهبطا } [ طه : 123 ] إشارة إلى الأصل ، وقوله في موضع آخر : { اهبطوا } [ البقرة : 38 ] إشارة إلى ما يتفرّع عن هذا الأصل .
وقوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ البقرة : 36 ] أي : بعض عدو للبعض الآخر ، وكلمة ( بعض ) لها دَوْر كبير في القرآن ، والمراد : أنت عدو الشيطان إنْ كنتَ طائعاً ، والشيطان عدوك إنْ كنتَ طائعاً . فإنْ كنتَ عاصياً فلا عداوة إذن؛ لأن الشيطان يريدك عاصياً . وحين لا يُعيِّن البعض تكون العداوة متبادلة ، فالبعض شائع في الجميع .
كما في قوله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الزخرف : 32 ] فمَن المرفوع؟ ومَنْ المرفوع عليه؟ أصحاب النظرة السطحية يفهمون أن الغنيَّ مرفوع على الفقير .
والمعنى أوسع من هذا بكثير ، فكُلُّ الخَلْق بالنسبة للحق سبحانه سواء ، ومهمات الحياة تحتاج قدرات كثيرة ومواهب متعددة؛ لذلك لا تتجمع المواهب في شخص ، ويُحرم منها آخر ، بل ينشر الخالق عز وجل المواهب بين خَلْقه ، فهذا ماهر في شيء ، وذاك ماهر في شيء آخر ، وهكذا ليحتاج الناس بعضهم لبعض ، ويتم الربْط بين أفراد المجتمع ، ويحدث بينهما الانسجام اللازم لحركة الحياة .
إذن : كُلُّ بعض في الوجود مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر ، فليكُنْ الإنسان مُؤدَّباً في حركة حياته لا يتعالى على غيره لأنه نبغ في شيء ، ولينظر إلى ما نبغ فيه الآخرون ، وإلى ما تميَّزوا به حتى لا يسخَر قوم من قوم ، عسى أن يكونوا خيراً منهم ، وربما لديهم من المواهب ما لم يتوفّر لك .
لكن ما دام بعضكم لبعض عدواً أي : آدم مطمور فيه ذريته ، وإبليس مطمور فيه ذريته ، فَمنْ سيكون . الحَكَم؟ الحَكَم بينهما منهج الله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ طه : 123 ] فإياكم أنْ تجعلوا الهدى من عندكم؛ لأن الهدى إنْ كان من عندكم فلن ينفع ولن يفلح .
(1/5792)
{ فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ] فكأن هدى الله ومنهجه هو ( كتالوج ) سلامة الإنسان وقانون صيانته . ألاَ ترى الصانع من البشر حين يرفق بصنعته ( كتالوجاً ) يضم تعليمات عن تشغيلها وصيانتها ، فإن اتبعتَ هذه التعليمات خدمتْك هذه الآلة وأدَّتْ لك مهمتها دون تعطّل .
وكما أن هذا ( الكتالوج ) لا يضعه إلا صانع الآلة ، فكذلك الخالق عز وجل لا يضع لخَلْقه قانونهم وهَدْيَهم إلا هو سبحانه ، فإنْ وضعه آخر فهذا افتئات على الله عز وجل ، وكما لو ذهبتَ إلى الجزار تقول له : ضَعْ لي التعليمات اللازمة لصيانة ( الميكروفون ) !!
إذن : الفساد في الكون يحدث حينما نخرج عن منهج الله ، ونعتدى على قانونه وتشريعه ، ونرتضي بهَدْي غير هَدْيه؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ] فإنْ كانت هذه نتيجة مَنِ اتبع هدى الله وعاقبة السير على منهجه تعالى ، فما عاقبة مَنْ أعرض عنه؟ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي }
(1/5793)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
والإعراض : هو الانصراف ، وأن تعطيه عَرْض أكتافك كما ذكرنا من قبل .
وقوله : { مَعِيشَةً ضَنكاً } [ طه : 124 ] الضنْك هو الضيق الشديد الذي تحاول أنْ تُفلتَ منه هنا أو هناك فلا تستطيع ، والمعيشة الضَّنْك هذه تأتي مَنْ أعرض عن الله ، لأن مَنْ آمن بإله إنْ عَزَّتْ عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبداً؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يُخرِجه مما هو فيه .
أما غير المؤمن فحينما تضيف به الأسباب وتُعجِزه لا يجد مَنْ يلجأ إليه فينتحر . المؤمن يقول : لي ربٌّ يرزقني ويُفرِّج كَرْبي ، كما يقول عز وجل : { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] .
لذلك يقولون : لا كَرْب وأنت رَبٌّ ، وإذا كان الولد لا يحمل هَمّاً في وجود أبيه فله أبٌ يكفيه متاعب الحياة ومشاقها ، فلا يدري بأزمات ولا غلاء أسعار ، ولا يحمل هَمَّ شيء ، فما بالُكَ بمَنْ له رَبٌّ؟
وسبق أنْ ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى ، قلنا : هَبْ أن معك جنيهاً ثم سقط من جيبك ، أو ضاع منك فسوف تحزن عليه إنْ لم يكُنْ معك غيره ، فإنْ كان معك غيره فلن تحزن عليه ، فإن كان لديك حساب في البنك فكأن شيئاً لم يحدث . وهكذا المؤمن لديه في إيمانه بربه الرصيد الأعلى الذي يُعوِّضه عن كل شيء .
والحق تبارك وتعالى أعطانا مثالاً لهذا الرصيد الإيماني في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، حينما حُوصِر موسى وقومه بين البحر من أمامهم وفرعون بجنوده من خلفهم ، وأيقن القوم أنهم مُدْركون ، ماذا قال نبي الله موسى؟
قال : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] هكذا بملْء فيه يقولها قَوْلةَ الواثق مع أنها قَوْلة يمكن أن تكذب بعد لحظات ، لكنه الإيمان الذي تطمئن به القلوب ، والرصيد الذي يثِقُ فيه كُلُّ مؤمن .
إذن : مَنْ آمن بالله واتبع هُدَاه فلن يكون أبداً في ضَنْكٍ أو شِدَّة ، فإنْ نزلت به شِدَّة فلن تُخرِج عَزْمه عن الرضى ، واللجوء إلى ربه .
ومن آيات الإعجاز القرآني في مسألة الضيق ، قوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } [ الأنعام : 125 ] .
فمن أين عرف محمد صلى الله عليه وسلم أن مَنْ يصعِّد في السماء يضيق صدره؟ وهل صَعَد أحد إلى السماء في هذا الوقت وجَرَّب هذه المسألة؟ ومعنى ضيق الصدر أن حيِّز الرئة التي هي آلة التنفس يضيق بمرض أو مجهود زائد أو غيره ، ألاَ ترى أنك لو صعدتَ سُلَّماً مرتفعاً تنهج ، معنى ذلك أن الرئة وهي خزينة الهواء لا تجد الهواء الكافي الذي يتناسب والحركة المبذولة ، وعندها تزداد حركة التنفس لتُعوِّض نَقْص الهواء .
والآن وبعد غزو الفضاء عرفنا مسألة ضيق التنفّس في طبقات الجو العليا مما يضطرهم إلى أخذ أنابيب الأكسجين وغيرها من آلات التنفس .
(1/5794)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
وكلمة { أعمى } [ طه : 125 ] جاءت في قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] .
والمراد بالعَمَى ألاَّ تُدرِكَ المبصَرات ، وقد توجد المبصَرات ولا تتجه لها بالرؤية ، فكأنك أعمى لا ترى ، وكذلك المعرِض عن الآيات الذي لا يتأملها ، فهو أعمى لا يراها .
لذلك في الآخرة يقول تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] فساعةَ يُبعَث الكافرون يُفزَّعون بالبعث الذي كانوا ينكرونه ويضطربون اضطراباً ، يحاول كل منهم أن يرى منفذاً وطريقاً للنجاة ، ولكن هيهات ، فقد سلبهم الله منافذ الإدراك كلها ، وسَدَّ في وجوههم كل طرق النجاة ، والإنسان يهتدي إلى طريقه بذاته وبعيونه ، فإنْ كان أعمى أمكنه أنْ ينادي على مَنْ يأخذ بيده ، فإنْ كان أيضاً أبكم ، فلربما سمع مَنْ يناديه ويُحذره ويُدِله ، فإنْ كان أصمَّ لا يسمع؟
إذن : سُدَّتْ أمامه كل وسائل النجاة ، فهو أعمى لا يبصر النجاة بذاته ، وأبكم لا يستطيع أنْ يستغيث بمَنْ ينقذه ، وهو أيضاً أصمّ لا يسمع مَنْ يتطوع بإرشاده أو تحذيره .
وقد وجد كثير من المشككين في هذه الآية شيئاً ظاهرياً يطعنون به على أسلوب القرآن ، حيث يقول هنا : { قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى } [ طه : 125 ] وفي موضع آخر يقول : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] فنفى عنهم الرؤية في آية ، وأثبتها لهم في آية أخرى .
وفاتَ هؤلاء المتمحِّكين أَن الإنسانَ بعد البعث يمرُّ بمراحل عِدَّة : فساعةَ يُحشرون من قبورهم يكونون عُمْياً حتى لا يهتدوا إلى طريق النجاة ، لكن بعد ذلك يُريهم الله بإيلام آخر ما يتعذبون به من النار .
وهذا الذي حآق بهم كِفَاءٌ لما صنعوه ، فقد قدَّموا هم العمى والصمم والبكم في الدنيا ، فلما دعاهم الرسول إلى الله صَمُّوا آذانهم ، واستغشوا ثيابهم .
(1/5795)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
أي : نعاملك كما عاملتنا ، فننساك كما نسيت آياتنا .
والآيات جمع آية ، وهي الأمر العجيب ، وتُطلق على الآيات الكونية التي تلفت إلى المكوِّن سبحانه ، وتُطلَق على المعجزات التي تؤيد الرسل ، وتثبت صِدْق بلاغهم عن الله ، وإنْ كانت الآيات الكونية تُلفِت إلى قدرة الخالق عز وجل وحكمته ، فالرسول هو الذي يدلُّ الناس على هذه القوة ، وعلى صاحب هذه الحكمة والقدرة التي يبحث عنها العقل .
أيها المؤمنون هذه القوة هي الله ، والله يريد منك كذا وكذا ، فإنْ أطعتَه فَلَك من الأجر كذا وكذا ، وإنْ عصيتَه فعقابك كذا وكذا ، ثم يؤيد الرسول بالمعجزات التي تدلُّ على صِدْقه في البلاغ عن ربه .
وتُطلَق الآيات على آيات الكتاب الحاملة للأحكام وللمنهج .
وأنت كذَّبْتَ بكل هذه الآيات ولم تلتفت إليها ، فلما نسيت آيات الله كان جزاءَك النسيان جزاءً وفَاقاً . والنسيان هنا يعني الترك ، وإلا فالنسيان الذي يقابله الذكر مُعْفىً عنه ومعذور صاحبه .
أما قوله : { وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 126 ] أي تُنسَى في النعيم وفي الجنة ، لكنك لا تُنسى في العقاب والجزاء .
ثم يقول الحق سبحانه : { وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ }
(1/5796)