الكتاب : تفسير الشعراوي
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
في هذا القول يمتنُّ علينا سبحانه بأنه جعل لنا في الأرض وسائل للعيش؛ ولم يكتَفِ بذلك ، بل جعل فيها رزقَ ما نطعمه نحن من الكائنات التي تخدمنا؛ ومن نبات وحيوان ، ووقود ، وما يلهمنا إياه لنطور حياتنا من أساليب الزراعة والصناعة؛ وفوق ذلك أعطانا الذرية التي تَقَرُّ بها العين ، وكل ذلك خاضع لمشيئته وتصرُّفه .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا . . . }
(1/4750)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
وقوله الحق : { وَإِن مِّن شَيْءٍ . . . } [ الحجر : 21 ]
أي : أنه لا يوجد جنس من الأجناس إلا وله خزائنُ عند الله سبحانه ، فالشيء الذي قد تعتبره تافهاً له خزائن؛ وكذلك الشيء النفيس ، وهو سبحانه يُنزِل كل شيء بقدَرٍ؛ حتى الاكتشافات العلمية يُنزِلها بقدَرٍ .
وحين نحتاج إلى أيِّ شيء مخزون في أسرار الكون؛ فنحن نُعمِل عقولنا الممنوحة لنا من الله لنكتشف هذا الشيء . والمثل هو الوقود وكُنا قديماً نستخدم خشب الأشجار والحطب .
وسبحانه هو القائل : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون } [ الواقعة : 71-72 ]
واتسعت احتياجات البشر فاكتشفوا الفحم الذي كان أصله نباتاً مطموراً أو حيواناً مطموراً في الأرض؛ ثم اكتُشِف البترول ، وهكذا .
أي : أنه سبحانه لن يُنشِئ فيها جديداً ، بل أعدَّ سبحانه كل شيء في الأرض ، وقدَّر فيها الأقوات من قبل أنْ ينزِل آدم عليه السلام إلى الأرض من جنة التدريبِ لِيعمُرَ الأرض ، ويكون خليفة لله فيها ، هو وذريته كلها إلى أن تقومَ الساعة .
فإذا شكوْنَا من شيء فهذا مَرْجعه إلى التكاسل وعدم حُسْن استثمار ما خلقه الله لنا وقدَّره من أرزاقنا في الأرض . ونرى التعاسة في كوكب الأرض رغم التقدُّم العلمي والتِّقني؛ ذلك أننا نستخدم ما كنزه الحق سبحانه ليكون مجال سعادة لنا في الحروب والتنافر .
ولو أن ما يُصرف على الحروب؛ تم توجيهه إلى تنمية المجتمعات المختلفة لَعاشَ الجميع في وفرة حقيقية . ولكن سوء التنظيم وسوء التوزيع الذي نقوم به نحن البشر هو المُسبِّب الأول لتعاسة الإنسان في الأرض؛ ذلك أنه سبحانه قد جعل الأرض كلها للأنام ، فمن يجد ضيقاً في موقع ما من الأرض فليتجه إلى موقع آخر .
ولكن العوامل السياسية وغير ذلك من الخلافات بين الناس تجعل في أماكن في الأرض؛ رجالاً بلا عمل؛ وتجعل في أماكن أخرى ثروة بلا استثمار؛ ونتجاهل قوله سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ . . . } [ الحجر : 21 ]
فلكل شيء في الأرض خزائن؛ والخزينة هي المكان الذي تُدَّخر فيه الأشياء النفيسة ، والكون كله مخلوق على هيئة أن الحق سبحانه قدَّر في الأرض أقواتاً لكل الكائنات من لَدُن آدم إلى أن تقومَ الساعة .
فإنْ حدث تضييق في الرزق فاعلموا أن حقاً من حقوق الله قد ضُيِّع ، إما لأنكم أهملتم استصلاحَ الأرض وإحياء مواتها بقدر ما يزيد تعداد السكان في الأرض ، وإما أنكم قد كنزتُم ما أخذتُم من الأرض ، وضننتُم بِمَا اكتنزتموه على سواكم .
فإنْ رأيتَ فقيراً مُضيَّعاً فاعلم أن هناك غنياً قد ضَنَّ عليه بما أفاض الله على الغني من رزق ، وإنْ رأيت عاجزاً عن إدراك أسباب حياته فاعلم أن واحداً آخر قد ضَنَّ عليه بقُوتِه .
(1/4751)
وإنْ رأيت جاهلاً فاعلم أن عالماً قد ضَنَّ عليه بعلمه . وإنْ رأيت أخْرقَ فاعلم أن حكيماً قد ضَنَّ عليه بحكمته؛ فكُلّ شيء مخزون في الحياة؛ حتى تسلم حركة الحياة؛ سلامةً تؤدي إلى التسانُد والتعاضُد؛ لا إلى التعانُد والتضارب .
ونعلم أنه سبحانه قد أَعدَّ لنا الكون بكُل ما فيه قبل أنْ يخلقنا؛ ولم يُكلِّفنا قبل البلوغ؛ ذلك أنه عَلِم ألاً أن التكليف يُحدّد اختيار الإنسان لكثير من الأشياء التي تتعلق بكل ملَكاتِ النفس؛ قُوتاً ومَشْرباً ومَلْبساً ومسكناً وضَبْطاً للأهواء ، كي لا ننساقَ في إرضاء الغرائز على حساب القِيمَ .
وشاء سبحانه ألاَّ يكون التكليف إلا بعد البلوغ؛ حتى يستوفي ملكاتُ النفس القوةَ والاقتدارَ ، ويكون قادراً على إنجاب مثيل له ، ولكي يكون هذا التكليف حُجَّة على الإنسان ، هذا الذي طَمَر له الحق سبحانه كل شيء إمَّا في الأرض؛ أو كان طمراً في النوع ، أو في الجنس .
وكُلُّ شيء في الكون موزون ، إما أن يكون جِنْساً ، أو نَوْعاً ، أو أفراداً؛ والميزان الذي توجد به كل تلك العطاءات؛ إنما شاء به الحق سبحانه أن يهبَ الرب للكل؛ وليوافق الكثرة؛ وليعيش الإنسان في حضْن الإيمان . وهكذا يكون عطاء الله لنا عطاءَ ربوبيةٍ ، وعطاءَ ألوهيةٍ ، والذكيّ حقاً هو مَنْ يأخذ العطاءين معاً لتستقيم حياته .
والحق سبحانه هو القائل : { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق وَكَانَ الإنسان قَتُوراً } [ الإسراء : 100 ]
وذلك ليوضح لنا الحق سبحانه أن الإنسان يظنُّ أن ذاتيته هي الأصل ، وأن نفعيته هي الأصل ، وحتى في قضايا الدين؛ قد يتبع العبد قوله الحق : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } [ الحشر : 9 ]
ومَنْ يفعل ذلك إنما يفعل في ظاهر الأمر أنه يُؤْثِر الغيرَ على نفسه؛ ولكن الواقع الحقيقي أنه يطمع فيما أعدَّه الله له من حُسْن جزاء في الدنيا وفي الآخرة .
إذن : فأَصْل العملية الدينية أيضاً هو الذات؛ ولذلك نجد مَنْ يقول : أنا أُحِب الإيمان؛ لأن فيه الخيرية ، يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ]
وفيه أنانية ذكية تتيح لصاحبها أَخْذ الثواب على كل عمل يقوم به لغيره ، وهذا لون من الأنانية الذكية النافعة؛ لأنها انانية باقية ، ولها عائد إيماني .
ونعلم أن الحق سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم أثرياء؛ ولم يجعل يداً عليا ويداً سفلي ، لكنه سبحانه لم يشأ ذلك؛ ليجعل الإنسان ابْنَ أغيار؛ ويعدل فيه ميزان الإيمان ، ولِيدُكّ غرور الذات على الذات ، وليتعلم الإنسان أن غروره على ربِّه لن ينال من الله شيئاً ، ولن يأتي للإنسان بأي شيء .
وكل مظاهر القوة في الإنسان ليست من عند الإنسان ، وليست ذاتية فيه ، بل هي موهوبة له من الله؛ وهكذا شاء الحق سبحانه أنْ يُهذِّب الناس لِيُحسِنوا التعامل مع بعضهم البعض .
ولذلك أوضح سبحانه أن عنده خزائنَ كل شيء ، ولو شاء لألقى ما فيها عليهم مرة واحدة؛ ولكنه لم يُرد ذلك ليؤكد للإنسان أنه ابْنُ أغيارٍ؛ ولِيلفتَهم إلى مُعْطي كل النعم .
كما أن رتابة النعمة قد تُنسِي الإنسانَ حلاوة الاستمتاع بها ، وعلى سبيل المثال أنت لا تجد إنساناً يتذكّر عَيْنه إلا إذا آلمتْه؛ وبذلك يتذكر نعمة البصر ، بل وقد يكون فَقْد النعمة هو المُلفِت للنعمة ، وذلك لكي لا ينسي أحد أنه سبحانه هو المُنعِم .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ . . . }
(1/4752)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
والإرسال هو الدَّفْع للشيء من حَيّز إلى حَيِّز آخر ، وحين يقول سبحانه إنه أرسل الرياح؛ نجد أنها مُرْسلَة من كُلّ مكان إلى كُلّ مكان؛ فهي مُرْسَلة من هنا إلى هناك ، ومن هناك إلى هنا .
وهكذا يكون كل مكان؛ هو موقع لإرسال الرياح؛ وكل مكان هو موقع لاستقبالهم؛ ولذلك نجد الرياح وهي تسير في دَوْرة مستمرة؛ ولو سكنتْ لمَا تحرَّك الهواء ، ولأُصِيبتْ البشرية بالكثير من الأرض؛ ذلك أن الرياح تُجدّد الهواء ، وتُنظِّف الأمكنة من الرُّكود الذي يُمكِن أن تصيرَ إليه .
ونعلم أن القرآن حين يتكلم عن الرياح بصيغة الجمع فهو حديث عن خير ، والمثل هو قول الحق سبحانه : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ . . . } [ الأعراف : 57 ]
أما إذا أُفرد وجاء بكلمة " ريح " فهي للعذاب ، مثل قوله : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ]
وهنا يقول الحق سبحانه : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ . . . } [ الحجر : 22 ]
ولواقح جمع لاقحة ، وتُطلَق في اللغة مرَّة على الناقة التي في بطنها جنين؛ ومرة تُطلَق على اللاقح الذي يلقح الغير ليصير فيه جنين؛ لأن الحق سبحانه شاء أن يتكاثر كل ما في الكون؛ وجعل من كُلٍّ زوجين اثنين؛ إما يتكاثر أو تتولد منه الطاقة؛ كالسالب والموجب في الكهرباء .
وهو القائل سبحانه : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا . . . } [ يس : 36 ]
ثم عَدَّد لنا فقال : { . . . مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 22 ]
وهناك أشياء لا يُدركها الإنسان مثل شجرة الجُمَّيز؛ التي لا يعلم الشخص الذي لم يدرس علم النبات كيف تتكاثر لتنبت وتُثمِر ، ويعلم العالِم أن هناك شجرةَ جُميز تلعب دور الأنثى ، وشجرةً أخرى تلعب دور الذَّكَر .
وكذلك شجرة التوت؛ وهناك شجرة لا تُعرَف فيه الأنثى من الذَّكر؛ لأنه مكمور توجد به الأُنثى والذَّكَر ، وقد لا تعرف أنت ذلك؛ لأن الحق سبحانه جعل اللُّقاحةَ خفيفةً للغاية؛ لتحملَها الريحُ من مكان إلى مكان .
ونحن لم نَرَ كيف يتم لقاح شجرة الزيتون؛ أو شجرة المانجو ، أو شجرة الجوافة ، وذلك لنأخذ من ذلك عبرةً على دِقّة صَنْعته سبحانه .
والمثَل الذي أضربه دائماً هو المياه التي تسقط على جبلٍ ما؛ وبعد أيام قليلة تجد الجبل وقد امتلأ بالحشائش الخضراء؛ ومعنى هذا أن الجبل كانت توجد به بذور تلك الحشائش التي انتظرتْ الماء لِتُنبت .
وتعرّف العلماء على أن الذكورة بعد أن تنضج في النبات فهي تنكشف وتنتظر الرياح والجو المناسب والبيئة المناسبة لتنقلها من مكان إلى مكان .
ولهذا نجد بعضاً من الجبال وهي خضراء بعد هبوب الرياح وسقوط المطر؛ ذلك أن حبوب اللقاح انتقلت بالرياح ، وجاء المطر لتجد النباتات فرصةً للنمو .
وقد تجد جبلاً من الجبال نصفه أخضر ونصفه جَدْب؛ لأن الرياحَ نقلتْ للنصف الأخضر حبوبَ اللقاح ، ولم تنقل الحبوب للنصف الثاني من الجبل؛ ولذلك نجد الحق سبحانه قد جعل للرياح دورةً تنتقل بها من مكان لمكان ، وتدور فيها بكل الأماكن .
(1/4753)
ويتابع سبحانه في نفس الآية : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً . . . } [ الحجر : 22 ]
وقد تبيّن لنا أن المياه نفسها تنشأ من عملية تلقيح؛ وبه ذكورة وأنوثة .
وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه : { . . . فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ]
أي : أنكم لن تخزنوا المياه لأنكم غير مأمونين عليه ، وإذا كان الله قد هدانا إلى أن نخزنَ المياه ، فذلك من عطاء الله؛ فلا يقولنّ أحد : لقد بنينا السدود؛ بل قُلْ : هدانا الله لِنبنيها؛ بعد أن يسقطَ المطر؛ ذلك أن المطر لو لم يسقط لَمَا استطعنا تخزينَ المياه .
وعلى هذا يكون سبحانه هو الذي خزنَ المياه حين أنزله من السماء بعد أنْ هدانا لنبنيَ السدود .
وأنت حين تريد كوباً من الماء المُقطّر؛ تذهب إلى الصيدلي لِيُسخِّن الماء في جهاز مُعيّن؛ ويُحوّله إلى بخار ، ثم يُكثّف هذا البخار لِيصِيرَ ماء مُقطّراً ، وكل ذلك يتمّ في الكون ، وأنت لا تدري به .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ . . . }
(1/4754)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
وفي ظاهر الأمر كان من المُمْكِن أن يقول الحق : " إنّا نُميت ونُحيي "؛ لأنه سبحانه يخاطبنا ونحن أحياء ، ولكن الحق سبحانه أراد بهذا القول أن يلفتنا أن ننظر إلى الموت الأول ، وهو العدم المَحْض الذي أنشأنا منه ، وهو سبحانه القائل : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ]
والكلام في تفصيل الموت يجب أن نُفرّق فيه بين العدم المَحْض والعدم بعد وجود؛ فالعدم المَحْض هو ما كان قبل أن نُخلَق؛ ثم أوجدنا الله لنكون أحياء؛ ثم يميتنا من بعد ذلك ، ثم يبعثنا من بعد ذلك للحساب .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يكون الكلام عن الموت الذي يحدث بعد أن يهبَنا اللهُ الحياةُ ، ثم نقضي ما كتبه لنا من أجَل .
ثم يُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله : { . . . وَنَحْنُ الوارثون } [ الحجر : 23 ]
وهذا القول يعني أن هناك تركة كبيرة؛ وهي هذا الكون الذي خلقه سبحانه ليستخلفنا فيه . ونحن لم نُضِفْ شيئاً لهذا الكون الذي خلقه الله؛ لأنك إنْ نظرتَ إلى كمية المياه أو الغذاء التي في الكون ، وكُل مقومات الحياة لَمَا وجدتَ شيئاً يزيد أو ينقص؛ فالماء تشربه لِيرويِكَ ، ثم يخرج عرقاً وبولاً؛ ومن بعد الموت يتحلّل الجسم ليتبخرَ منه الماء ، وهذا يجري على كل الكائنات .
وحين يتناول الحق سبحانه في هذه الآية أَمْر الموت والحياة وعودة الكون في النهاية إلى مُنْشئِه سبحانه؛ فهو يُحدّثنا عن أمرين يعتوران حياة كل موجود؛ هما الحياة والموت ، وكلاهما يجري على كُلِّ الكائنات؛ فكُلّ شيء له مدة يَحْياها ، وأجل يقضيه .
وكل شيء يبدأ مهمة في الحياة فهو يُولّد؛ وكل شيء يُنهِي مهمته في الحياة بحسب ما قدره الله له فهو يموت؛ وإنْ كنا نحن البشر بحدود إدراكنا لا نعي ذلك .
وهو سبحانه القائل : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . . } [ القصص : 88 ]
إذن : فكُلّ شيء يُطلَق عليه " شيء " مصيره إلى هلاك؛ ومعنى ذلك أنه كان حياً؛ ودليلنا على أنه كان حياً هو قول الحق : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . . } [ الأنفال : 42 ]
وهكذا نعلم أن كل ما له مهمة في الحياة له حياة تناسبه؛ وفَوْر أن تنتهي المهمة فهو يهلك ويموت ، والحق سبحانه وتعالى يرث كل شيء بعد أن يهلك كل مَنْ له حياة ، وهو سبحانه القائل : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ]
وهو بذلك يرث التارك والمتروك؛ وهو الخالق لكل شيء . ويختلف ميراث الحق سبحانه عن ميراث الخَلْق؛ بأن المخلوق حين يرث آخر؛ فهو يُودِعه التراب أولاً ، ثم يرث ما ترك؛ أما الحق سبحانه فهو يرث الاثنين معاً ، المخلوق وما ترك .
(1/4755)
ولذلك نحن نرى مَنْ يعز عليهم ميت؛ قد يُمسِكون بالخشبة التي تحمل الجثة ، ويرفضون من فَرْط المحبة أن تخرج من منزله؛ ولو تركناه لهم لمدة أسبوع ورمّت الجثة؛ سيتوسّلون لِمَنْ يحمل الجثث أن يحملَه لِيُوارِيه التراب ، ثم يبدأون في مناقشة ما يرثونه من الفقيد .
وهم بذلك يَرِثون المتروك بعد أن أودعوا التارك للتراب ، وإذا كان التارك من الذين أحسنوا الإيمان والعمل فيدخل حياة جديدة هي أرغد بالتأكيد من حياته الدنيا؛ ولَسوفَ يأكل ويشرب دون أن يتعبَ ، وكل ما تمر على ذهنه رغبة فهي تتحقّق له ، فهو في ضيافة المُنعِم الأعلى .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين . . . }
(1/4756)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
والمُستقدم هو مَنْ تقدّم بالحياة والموت؛ وهم مَنْ قبلنا من بشر وأُمَم . والمُسْتأخِر هو مَنْ سيأتي من بعدنا . وسبحانه يعلَمُنَا بحكم أنه علم من قَبْل كلّ مستأخر؛ أي : أنه عَلِم بنا من قبل أنْ نُوجد؛ ويعلم بنا من بَعْد أن نرحلَ؛ فعِلْمه كامل وأزليّ؛ وفائدة هذا العلم أنه سيترتب عليه الجزاء؛ فنحن حين أخذنا الحياة والرزق لم نُفلت بهما بعيداً؛ بل نجد الله قد عَلم أزلاً بما فعل كل مِنّا .
وهناك مَنْ يقول إن هناك معنًى آخر؛ بأن الحق سبحانه يكتب مَنْ يسرع إلى الصلاة ويتقدم إليها فَوْر أن يسمع النداء لها ، ويعلم مَنْ يتأخر عن القيام بأداء الصلاة ، ذلك أن تأثير كلمة " الله اكبر " فيها من اليقظة والانتباه ما يُذكّرنا بأن الله أكبر من كُلِّ ما يشغلك .
ونعلم أن من إعجازات الأذان أنه جعل النداء باسم " الله أكبر "؛ ولم يَقُلْ : الله كبير؛ وذلك احتراماً لما يشغلنا في الدنيا من موضوعات قد نراها كبيرة؛ ذلك أن الدنيا لا يجب أن تُهَان؛ لأنها المَعْبر إلى الجزاء القادم في الآخرة .
ولذلك أقول دائماً : إن الدنيا أهم من أن تُنسَى؛ وفي نفس الوقت هي أتفه من أنْ تكون غاية ، فأنت في الدنيا تضرب في الأرض وتسعى لِقُوتِك وقُوتِ مَنْ تعول؛ وليُعينك هذا القوتُ على العبادة .
لذلك فلا يحتقر أحد الدنيا؛ بل ليشكر الله ويدعوه أنْ يوُفّقه فيها ، وأن يبذلَ كل جَهْد في سبيل نجاحه في عمله؛ فالعمل الطيب ينال عليه العبدُ حُسْن الجزاء؛ وفَوْر أن يسمعَ المؤمن " الله أكبر "؛ فعليه أن يتجهَ إلى مَنْ هو أكبر فعلاً ، وهو الحق سبحانه ، وأن يؤدي الصلاة . هذا هو المعنى المُستقى من المستقدِم للصلاة والمُسْتأخِر عنها .
وهناك من العلماء مَنْ رأى ملاحظَ شتَّى في الآية الكريمة فمعناها قد يكون عاماً يشمل الزمن كله؛ وقد تكون بمعنى خاص كمعنى المستقدم للصلاة والمستأخِر عنها .
وقد يكون المعنى أشدَّ خصوصية من ذلك؛ فنحن حين نُصلّي نقف صفوفاً ، ويقف الرجال أولاً؛ ثم الأطفال؛ ثم النساء؛ ومن الرجال مَنْ يتقدّم الصفوف كَيْلا تقع عيونه على امرأة؛ ومنهم مَنْ قد يتحايل ويقف في الصفوف الأخيرة ليرى النساء؛ فأوضح الحق سبحانه أن مثل هذه الأمور لا تفوت عليه ، فهو العالم بالأسرار وأخفى منها .
أو : أن يكون المعنى هو المُستقدمين إلى الجهاد في سبيل الله أو المتأخرين عن الجهاد في سبيله . ومَنْ يموت حَتْف أنفه أي : على فراشه لا دَخْلَ له بهذه المسألة .
أما إنْ دعا داعي الجهاد ، ويُقدِّم نفسه للحرب ويُقاتل وينال الشهادة ، فالحق سبحانه وتعالى يعلم مَنْ تقدّم إلى لقائه محبةً وجهاداً لِرفعة شأن الدين .
(1/4757)
وقد يكون في ظاهر الأمر وفي عيون غيره مِمَّنْ يكرهون الحياة؛ ولكنه في حقيقة الأمر مُحِبّ للحياة بأكثر مِمَّنْ يدّعون حُبّها؛ لأنه امتلك اليقين الإيماني بأن خالقَ الدنيا يستحق أن ينالَ الجهاد في سبيل القِيم التي أرادها منهاجاً ينعدل به ميزان الكون؛ وإن استشهد فقد وعده سبحانه الخُلْد في الجنة ونعيمها .
" ونجد أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادْعُ لي يا رسول الله أن أستشهد؛ فيردّ عليه النبي الكريم : " متعنا بنفسك يا أبا بكر " .
وعلى ذلك لا يكون المستأخر هنا محلَّ لَوْم؛ لأن الإيمان يحتاج لِمَنْ يصونه ويُثبّته؛ كما يحتاج إلى مَنْ يؤكد أن الإيمان بالله أعزُّ من الحياة نفسها؛ وهو المُتقدّم للقتال ، وينال الشهادةَ في سبيل الله .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ . . . }
(1/4758)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
أي : أن المُتولّي تربيتك يا محمد لن يترك مَنْ خاصموك وعاندوك ، وأهانوك وآذوْكَ دون عقاب .
وكلمة : { يَحْشُرُهُمْ } [ الحجر : 25 ]
تكفي كدليل على أن الله يقفُ لهم بالمرصاد ، فهم قد أنكروا البعث؛ ولم يجرؤ أحدهم أن يُنكِر الموت ، وإذا كان الحق سبحانه قد سبق وعبَّر عن البعث بقوله الحق : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 15-16 ]
فهم كانوا قد غفلوا عن الإعداد لِمَا بعد الموت ، وكأنهم يشكُّون في أنه قادم ، وجاء لهم بخبر الموت كأمر حتميّ ، وسبقتْه ( هو ) لتؤكد أنه سوف يحدث ، فالحشر منسوب لله سبحانه ، وهو قادر عليه ، كما قدر على الإحياء من عدم ، فلا وَجْهَ للشك أو الإنكار .
ثم جاء لهم بخبر البعث الذي يشكُّون فيه؛ وهو أمر سبق وأنْ ساق عليه سبحانه الأدلة الواضحة .
ولذلك جاء بالخبر المصحوب بضمير الفصل : { يَحْشُرُهُمْ . . . } [ الحجر : 25 ]
وسبحانه يُجرِي الأمور كلها بحكمة واقتدار ، فهو العليم بما تتطلبه الحكمة عِلْماً يحيط بكل الزوايا والجهات .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان . . . }
(1/4759)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
وسبحانه يتكلّم هنا عن خَلْق الإنسان من بعد أن تكلم عن خَلْق الكون وما أعدَّه له فيه ، وليستقبل الكون الخليفةَ لله؛ فيوضح أنه قد خلقه من الصَّلصال ، وهو الطين اليابس .
وجاء سبحانه بخبر الخَلْق في هذه السورة التي تضمنت خبر مَدِّ الأرض؛ ومَجِيء الرياح ، وكيفية إنزال الماء من السماء؛ وكيف قَدَّر في الأرض الرزق ، وجعل في الأرض رواسي ، وجعل كُلّ شيء موزوناً .
وهو سبحانه قد استهلَّ السورة بقوله : { . . . تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ]
أي : أنه افتتح السورة بالكلام عن حارس القِيم للحركة الإنسانية؛ ثم تكلّم عن المادة التي منها الحياة؛ وبذلك شمل الحديثُ الكلام عن المُقوِّم الأساسي للقيم وهو القرآن ، والكلام عن مُقوِّم المادة؛ وكان ذلك أمراً طبيعياً؛ ودَلّلْتُ عليه سابقاً بحديثي عن مُصمِّم أي جهاز من الأجهزة الحديثة؛ حيث يحدد أولاً الغرض منه؛ ثم يضع جدولاً وبرنامجاً لصيانة كل جهاز من تلك الأجهزة .
وهكذا كان خَلْق الله للإنسان الذي شاء له سبحانه أن يكون خليفته في الأرض ، ووضع له مُقوِّمات مادة ومُقوّمات قِيم؛ وجاء بالحديث عن مُقوِّمات القِيَم أولاً؛ لأنها ستمدّ حياة الإنسان لتكون حياة لا تنتهي ، وهي الحياة في الدنيا والآخرة .
وهذا القول يُوضِّح لنا أن آدم ليس هو أول من استعمر الأرض؛ بل كان هناك خَلْق من قَبْل آدم ، فإذا حدَّثنا علماء الجيولوجيا والحفريات عن أن هناك ما يدل على وجود بعض من الكائنات المطمورة تثبت أنه كانت هناك حياة منذ خمسين ألف قرن من الزمان .
فنحن نقول له : إن قولك صحيح .
وحين يسمع البعض قَوْل هؤلاء العلماء يقولون : لا بُدَّ أن تلك الحيوانات كانت موجودة في زمن آدم عليه السلام ، وهؤلاء يتجاهلون أن الحق سبحانه لم يَقُلْ لنا أن آدم هو أول مَنْ عَمَر الأرض ، بل شاء سبحانه أن يخلقنا ويعطينا مهمة الاستخلاف في الأرض .
والحق سبحانه هو القائل : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 16-17 ]
أي : أن خَلْق غيرنا أمر وارد ، وكذلك الخَلْق من قبلنا أمرٌ وارد .
ونعلم أن خَلْق آدم قد أخذ لقطات متعددة في القرآن الكريم؛ تُؤدّي في مجموعها إلى القصة بكل أحداثها وأركانها ، ولم يكُنْ ذلك تكراراً في القرآن الكريم ، ولكن جاء القرآن بكل لَقْطة في الموقع المناسب لها؛ ذلك أنه ليس كتاب تاريخ للبشر؛ بل كتاب قِيَم ومنهج ، ويريد أن يُؤسّس في البشر القيم التي تحميهم وتصونهم من أيّ انحراف ، ويريد أن يُربِّيَ فيهم المهابة .
وقد تناول الحق سبحانه كيفية خَلْق الإنسان في الكثير من سُور القرآن : البقرة؛ الأعراف؛ الحجر؛ الإسراء؛ الكهف؛ وسورة ص .
قال سبحانه على سبيل المثال في سورة البقرة :
(1/4760)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ]
وجاء هذا القول من الله للملائكة ساعةَ خَلْق الله لآدم ، من قبل أن تبدأ مسألة نزول آدم للأرض .
وقد أخذتْ مسألة خَلْق الإنسان جدلاً طويلاً من الذين يريدون أن يستدركوا على القرآن متسائلين : كيف يقول مرة : إن الإنسان مخلوق من ماء؛ ومرة من طين؛ ومرة من صلصال كالفخار؟
ونقول : إن ذلك كله حديث عن مراحل الخَلْق ، وهو سبحانه أعلم بمَنْ خلق ، كما خلق السماوات والأرض ، ولم يُشهِد الحق أحداً من الخلق كيف خلق المخلوقات : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ]
ومن رحمته سبحانه أنه ترك في مُحسَّات الحياة وماديتها ما يُثبِت صِدْقه في غيبيّاته؛ فإذا قال مرّة : إنه خلق كل شيء من الماء؛ فهو صادق فيما قال؛ لأن الماء يُكوِّن أغلبَ الجسد البشري على سبيل المثال .
وإذا أوضح أنه خلق الإنسان من طين ، فالتراب إذا اختلط بالماء صار طيناً ، وإذا مرّ على الطين وقتٌ صار صلصالاً ، وإذا قال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ]
وكُلُّ هذا من الأمور الغيبية؛ التي يشرحها لنا نقضُها في الواقع المادي الملموس ، فحين يحدث الموت وهو نَقْض الحياة نجد الروح هي أول ما يخرج من الجسم؛ وكانت هي آخر ما دخل الجسم أثناء الخَلْق .
ومن بعد ذلك تبدأ الحيوية في الرحيل عن الجثمان؛ فيتحول الجثمان إلى ما يشبه الصَّلْصال؛ ثم يتبخّر الماء من الجثمان؛ ليصير من بعد ذلك تراباً .
وهكذا نشهد في الموت نقض الحياة كيفية بَدْء مراحل الخَلْق وهي معكوسة؛ فالماء أولاً ثم التراب؛ ثم الطين؛ ثم الصلصال الذي يشبه الحمأ المسنون؛ ثم نَفْخ الروح .
وقد صدق الحق سبحانه حين أوضح لنا في النقيض المادي ، ما أبلغنا عنه في العالم الغيب .
وعلى ذلك أيضاً نجد أن الذين يضعون التكهنات بأن الشمس خُلِقَتْ قبل الأرض؛ وكانت الأرض جزءاً من الشمس ثم انفصلت عنها؛ على هؤلاء أن يعلموا أن ما يقولونه هو أمر لم يشاهدوه ، وهي أمور لا يمكن أن يدرسها أحد في معمل تجريبي؛ وقد قال القرآن عن أهل هذا اللغو : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ]
وهم قد أعانوا على تأكيد إعجازية القرآن الذي أسماهُم المُضلِّين؛ لأنهم يغوون الناس عن الحق إلى الباطل .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ . . . }
(1/4761)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
ونعلم أن كلمة ( السَّمُوم ) هي اللهب الذي لا دُخانَ له ، ويُسمّونه " السَّموم " لأنه يتلصَّص في الدخول إلى مسَامِّ الإنسان .
وهكذا نرى أن للعنصر تأثيراً في مُقوِّمات حياة الكائنات ، فالمخلوق من طين له صفات الطينية ، والمخلوق من نارٍ له صفات النارية؛ ولذلك كان قانون الجن أخفَّ وأشدَّ من قانون الإنس .
والحق سبحانه يقول : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . . . } [ الأعراف : 27 ]
وهكذا نعلم أن قانون خَلْق الجن من عنصر النار التي لا لهبَ لها يوضح لنا أن له قدرات تختلف عن قدرات الإنسان .
ذلك أن مهمته في الحياة تختلف عن مهمة الإنسان ، ولا تصنع له خيريةً أو أفضلية ، لأن المهام حين تتعدد في الأشياء؛ تمنع المقارنة بين الكائنات .
والمَثلُ على ذلك هو غلبة مَنْ عنده عِلْم بالكتاب على عفريت الجن؛ حين سأل سليمان عليه السلام عمَّن يأتيه بعرش بلقيس : { قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 38 ]
وقال عفريت من الجن : إنه قادر على أن يأتي بالعرش قبل أن يقومَ سليمان من مُقَامه ، ولكن مَنْ عنده عِلْم بالكتاب قال : إنه قادر أنْ يأتيَ بعرش بلقيس قبل أن يرتدَّ طَرْف سليمان؛ وهكذا غلب مَنْ عنده علم بالكتاب قدرة عفريت الجن .
وقد قصَّ علينا الحق سبحانه هذا في كتابه الكريم ، فقال : { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي . . . } [ النمل : 39-40 ]
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ . . . }
(1/4762)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
وعرفنا في مواقع متفرقة من خواطرنا كيف نفهم هذه الآية . ونعلم أن البشر في زماننا حين يريدون صُنْع تمثال ما ، فَهُم يَخْلِطون التراب بالماء ليصير طيناً؛ ثم يتركونه إلى أنْ يختمرَ ، ويصيرَ كالصَّلْصَال ، ومن بعد ذلك يُشكل المَثَّالُ ملامح مَنْ يُريد أن يصنع له تمثالاً .
والتماثيل تكون على هيئة واحدة ، ولا قدرةَ لها ، عَكْس الإنسان المخلوق بيد الله ، والذي يملك بفعل النفْخ فيه من روح الله ماَ لاَ يملكه أيُّ كائن صنعتْه مهارة الإنسان؛ ذلك أن إعجازَ وطلاقةَ قدرةِ الخالق لا يمكن أن تستوي مع قدرة المخلوق المحدودة .
وهناك حديث يقول فيه صلى الله عليه وسلم : " خلق الله عز وجل آدم على صورته ، ستون ذراعاً " .
واختلف العلماء في مرجع الضمير في هذا الحديث؛ أيعود إلى صورة آدم؟ أم يعود إلى آدم؟
فمن العلماء من قال : إن الضمير يعود إلى آدم؛ بمعنى أن الله لم يخلقه طفلا ، ثم كبر؛ بل خلقه على الصورة الناضجة؛ وتلفَّت آدم فوجد نفسه على تلك الصورة الناضجة؛ وأنه لم يكُنْ موجوداً من قبل ذلك بساعة؛ لذلك تلفَّت إلى المُوجِد له .
والذين قالوا : إن الحق سبحانه خلق الإنسان على صورته ، وأن الضمير يعود إلى الله؛ فذلك لأن الحق قد جعل الإنسان خليفة له في الأرض؛ وأعطاه من قدرته قدرةً؛ ومن عِلْمه علماً؛ ومن حكمته حكمة ، ومن قاهريته قهراً .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " تخلقوا بأخلاق الله " .
فخلق آدم داخلٌ في كينونته . يقول الحق : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ]
وأمام الكينونة ينتفي التعليل ، ولم يبق إلا الإيمان بالخالق .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ . . . }
(1/4763)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
والتسوية تعني جَعْل الشيء صالحاً للمهمة التي تُرَاد له . وشاء سبحانه أن يُسوِّيَ الإنسان في صورة تسمح لنفخ الروح فيه . والنفخ من روح الله لا يعني أن النفخ قد تَمَّ بدفع الحياة عن طريق الهواء في فَمِ آدم ، ولكن الأمر تمثيلٌ لانتشار الروح في جميع أجزاء الجسد .
وقد اختلف العلماء في تعريف الروح ، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر؛ لأن الحق سبحانه هو القائل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ]
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { فَسَجَدَ الملائكة . . . }
(1/4764)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
وقد سجدوا جميعاً في حركة واحدة؛ ذلك أنه لا اختيارَ لهم في تنفيذ ما يُؤمرون به ، فمن بَعْد أن خلق اللهُ آدمَ جاء تكريم الحق سبحانه له بقوله للملائكة : { اسجدوا لأَدَمََ . . . } [ طه : 116 ]
وسجدت الملائكة التي كلَّفها الله برعاية وتدبير هذا المخلوق الجديد ، وهم المُدبِّرات أمراً والحفظة ، ومَنْ لهم علاقة بهذا المخلوق الجديد .
وقوله الحق : { . . . فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ]
يعني أن عملية السجود قد حدثت بصورة مباشرة وحاسمة وسريعة ، وكان سجودهم هو طاعة للآمر الأعلى؛ لا طاعة لآدم .
وقول الحق سبحانه : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ]
يعني الملائكة الأعلى من البشر ، ذلك أن هناك ملائكةً أعلى منهم؛ وهم الملائكة المُهِيمون المتفرِّغون للتسبيح فقط .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن . . . }
(1/4765)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
وهكذا جاء الحديث هنا عن إبليس؛ بالاستثناء وبالعقاب الذي نزل عليه؛ فكأن الأمرَ قد شَمله ، وقد أخذتْ هذه المسألة جدلاً طويلاً بين العلماء .
وكان من الواجب أن يحكمَ هذا الجدلَ أمران :
الأمر الأول : أن النصَّ سيد الأحكام .
والأمر الثاني : أن شيئاً لا نصَّ فيه؛ فنحن نأخذه بالقياس والالتزام . وإذا تعارض نصٌّ مع التزام؛ فنحن نُؤول الالتزام إلى ما يُؤول النص .
وإذا كان إبليس قد عُوقِب؛ فذلك لأنه استثنى من السجود امتناعاً وإباءً واستكباراً؛ فهل هذا يعني أن إبليس من الملائكة؟
لا . ذلك أن هناك نصاً صريحاً يقول في الحق سبحانه : { فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . . } [ الكهف : 50 ]
وهكذا حسم الحق سبحانه الأمر بأن إبليس ليس من الملائكة؛ بل هو من الجنّ؛ والجن جنس مختار كالإنس؛ يمكن أن يُطيع ، ويمكن أن يَعصِي .
وكونه سَمِع الأمر بالسجود؛ فمعنى ذلك أنه كان في نفس الحَضْرة للملائكة؛ ومعنى هذا أنه كان من قبل ذلك قد التزم التزاماً يرفعه إلى مستوى الحضور مع الملائكة؛ ذلك أنه مُخْتار يستطيع أن يطيع ، ويملك أن يعصي ، ولكن التزامه الذي اختاره جعله في صفوف الملائكة .
وقالت كتب الأثر : إنهم كانوا يُسمُّونه طاووس الملائكة مختالاً بطاعته ، وهو الذي وهبه الله الاختيار ، لأنه قدر على نفسه وحمل نفسه على طاعة ربه ، لذلك كان مجلسه مع الملائكة تكريماً له؛ لأنه يجلس مع الأطهار ، لكنه ليس مَلاكاً .
وبعض العلماء صَنَّفوه بمُسْتوًى أعلى من الملائكة؛ والبعض الآخر صَنَّفه بأنه أقلُّ من الملائكة؛ لأنه من الجنِّ؛ ولكن الأمر المُتفق عليه أنه لم يكُنْ ملاكاً بنصِّ القرآن ، وسواء أكان أعلى أم أَدْنى ، فقد كان عليه الالتزام بما يصدر من الحق سبحانه .
ونجد الحق سبحانه وهو يعرض هذه المسألة ، يقول مرة ( أبىَ ) ، ومرة ( استكبر ) ، ومرة يجمع بين الإباء والاستكبار .
والإباء يعني أنه يرفض أن ينفذ الأمر بدون تعال . والاستكبار هو التأبِّي بالكيفية ، وهنا كانت العقوبة تعليلاً لعملية الإباء والاستكبار ، وكيف ردّ أمر الحق أورده سبحانه مرة بقول إبليس : { . . . لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 33 ]
وقوله : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ]
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين }
(1/4766)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
وتقول " ما لك؟ " في الشيء العجيب الذي تريد أن تعرف كيف وقع ، وكأن هذا تساؤلٌ عن أمر مخالف لِمَا اختاره إبليس؛ الذي وهبه الله خاصية الاختيار ، وقد اختار أن يكون على الطاعة .
ولنلحظ أن المتكلم هنا هو الله؛ وهو الذي يعلم أنه خلق إبليس بخاصية الاختيار؛ فله أن يطيعَ ، وله أنْ يعصيَ . وهو سبحانه هنا يُوضِّح ما علمه أزلاً عن إبليس؛ وشاء سبحانه إبراز هذا ليكون حجة على إبليس يوم القيامة .
ويتابع سبحانه : { قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ . . . }
(1/4767)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
وهكذا أفصح إبليس عما يُكِنّه من فَهْم خاطئ لطبيعة العناصر؛ فقد توهَّم أن الطينَ والصلصال أقلُّ مرتبة من النار التي خلقه منها الله . وامتناع إبليس عن السجود إذن امتناع مُعلَّل؛ وكأن إبليس قد فَهِم أن عنصر المخلوقية هو الذي يعطي التمايز؛ وتجاهل أن الأمر هو إرادة المُعنصِر الذي يُرتِّب المراتب بحكمته ، وليس على هَوى أحدٍ من المخلوقات .
ثم من قال : إن النارَ أفضلُ من الطين؟ ونحن نعلم أنه لا يُقال في شيء إنه أفضل من الآخر إلا إذا استوتْ المصلحة فيهما؛ والنار لها جهة استخدام ، والطين له استخدام مختلف؛ وأيٌّ منهما له مهمة تختلف عن مهمة الآخر .
ومن توجيه الله في فضائل الخَلْق أن مَنْ يطلي الأشياء بالذهب لا يختلف عنده سبحانه عن الذي يعجن الطين ليصنعَ منه الفخار ، فلا يفضلُ أحدهما الآخرَ إلا بإتقان مهمته .
وهكذا أفصح إبليس أن الذي زَيَّن له عدم الامتثال لأمر السجود هو قناعته بأن هناك عنصراً افضل من عنصر .
ويأتي الأمر بالعقاب من الحق سبحانه؛ فيقول تعالى : { قَالَ فاخرج مِنْهَا . . . }
(1/4768)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
وهكذا صدر الأمر بطرْدِ إبليس من حضرة الله بالملأ الأعلى؛ وصدر العقاب بأنه مطرود من كل خَيْر ، وأَصْل المسألة أنها الرَّجْم بالحجارة .
وقد حدث ذلك لردِّه أمر الله سبحانه ، واستكباره ، ولقناعته أن النار التي خُلِق منها أفضلُ من الطين الذي خُلِق منه آدم ، ولم يلتفت إلى أن لكل مخلوق مُهمة ، وكل كائن يؤدي مُهِمته هو مُساوٍ للآخر .
وقد شاء الحق سبحانه ذلك ليزاول كل كائن الأسباب التي وُجِد من أجلها؛ فآدم قد خلقه الله ليجعله خليفة في الأرض؛ ذلك أنه سبحانه يباشر الأمر في السَّببيات بواسطة ما خلق .
فالنار على سبيل المثال تتسبَّب في إنضاج الطعام؛ لأنه سبحانه هو الذي شاء ذلك ، وجعلها سبباً في إنضاج الطعام . ومزاولة الحق سبحانه لأشياء كثيرة في المُسبِّبات معناه أن المخلوقات تُؤدِّي المهامَّ التي أرادها سبحانه لها في الوجود .
والمؤمن الحق هو مَنْ يرى في الأسباب التي في الكون؛ أنها عطاء من الله ، وأن يده مَمْدودة له بتلك الأسباب .
وبعد أن طرد الحق سبحانه إبليس من حضرته سيُقرر سبحانه الحكم الذي أصدره عليه في قوله : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة . . . }
(1/4769)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
وفي هذا القول ما يؤكد أن الجن أيضاً يموتون؛ ولهم آجَال مثلنا ، وفي هذا الحكم بالطرد تأكيدٌ على أنه سبحانه لن يُوفِّقه إلى توبة ، ولا يعفو عنه في النهاية .
ولكن إبليس يحاول الالتفاف؛ فيأتي ما جاء على لسانه : { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي . . . }
(1/4770)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
وكأن إبليس بهذا القول أراد أن يُفْلِتَ من الموت ، ولكن مثل هذا المَكْر لا يجوز على الله أو معه ، فإذا كان إبليس قد أراد أنْ يظلَّ في الدنيا إلى يوم بَعْث البشر؛ فذلك دليلٌ على أمنيته بالهروب من الموت .
ويقول الحق سبحانه رداً على دعاء إبليس : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ . . . }
(1/4771)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
ولحظةَ أنْ يسمعَ إبليسُ ذلك يظن أنه قد أفلتَ من الموت؛ إذ لا مَوْتَ بعد البعث ، ويتوهم أن دعوته قد أُجيبت ، وكأنه قد أفلتَ بغروره الذي ظَنَّ به أن يتسع له الوقت ليأخذ الثأر من بني آدم؛ فعدم سجوده لآدم هو الذي وضعه في هذا الموقف العصيب .
ولو كان إبليس يملك ذرة من وَعْي لَعِلم أن الاستكبار والتوهم بأن عنصر النار افضل من الطين هما السبب وراء ما حاق به من الطرد .
ولكن تأتي من بعد ذلك مباشرة الآية التي تتضمن عدم إفلاته من الموت؛ فيقول سبحانه : { إلى يَوْمِ الوقت . . . }
(1/4772)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
أي : أن إبليس سيذوق الموت أيضاً؛ لأن كل المخلوقات ستذوق الموت من قبل أن تقوم القيامة ، مصداقاً لقوله الحق : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله . . . } [ الزمر : 68 ]
وكذلك قوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ]
وهكذا لم يُفلتْ إبليس من الموت .
ولقائل أنْ يسألَ : كيف كلّمه الله؟
ونقول : لم يُكلِّمه الله تشريفاً أو تكريماً؛ بل غلَّظ له العقاب ، كما أن للحق سبحانه ملائكة يمكنهم أن يُبلِّغوا ما شاء لمَنْ شاء .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ . . . }
(1/4773)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
وقول الشيطان : { رَبِّ . . . } [ الحجر : 39 ]
هو إقرار بالربوبية؛ ولكن هذا الإقرار متبوع بعد الاعتراف بأنه قد سبّب لنفسه الطَّرد واللعنة؛ فقد قال : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي . . . } [ الحجر : 39 ]
والحق سبحانه لم يُغوِه؛ بل أعطاه الاختيار الذي كان له به أن يؤمن ويطيع ، أو يعصي ويُعاقب ، فسبحانه قد مَكّن إبليس من الاختيار بين الفعل وعدم الفعل؛ فخالف إبليسُ أمرَ الله وعصاه .
ويتابع إبليس : { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض . . . } [ الحجر : 39 ]
وفي هذا إيضاح أن كُلّ وسوسة للشيطان تقتصر فقط على الحياة المترفة . وفي الأشياء التي تُدمّر العافية ، كمَنْ يشرب الخمر ، أو يتناول المخدرات ، أو يتجه إلى كل ما يُغضب الله بالانحراف .
ولذلك نجد أن مَنْ يحيا بدخْلٍ يكفيه الضرورات؛ فهو يَأْمن على نفسه من الانحراف . ونقول أيضاً لمَنْ يحاولون أن يضبطوا موازينهم المالية : إن الاستقامة لا تُكلّف؛ ولن تتجه بك إلى الانحراف .
وتزيين الشيطان لن يكون في الأمور الحلال؛ لأن كل الضرورات لم يُحرِّمها الحق سبحانه؛ بل يكون التزيين دائماً في غير الضرورات ، ولذلك فالاستقامة عملية اقتصادية ، تُوفّر على الإنسان مشقة التكلفة العالية من ألوان الإنحراف .
ولذلك نجد المسرفين على أنفسهم يحسدون مَنْ هم على الاستقامة ، ويحاولون أَخْذهم إلى طريق الانحراف؛ لأن كل منحرف إنما يلوم نفسه متسائلاً : لماذا أخيب وحدي؛ ولا يخيب معي مثل هذا المستقيم؟ وتمتلئ نفسه بالاحتقار لنفسه .
وكذلك كان إبليس في حُمْق رده على الله ، ولكنه ينتبه إلى مكانته ومكانة ربه؛ أيدخل في معركة مع الله ، أم مع أبناء آدم الذي خلقه سبحانه كخليفة ليعمر الأرض؟
لقد حدّد إبليس موقعه من الصراع ، فقال : { . . . فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ]
وهذا يعني أن مجالَ معركته مع الخَلْق لا مع الخالق؛ لذلك قال : { . . . وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ]
وكلمة ( أجمعين ) تفيد الإحاطةَ لكل الأفراد ، وهذا فوق قدرته بعد أنْ عرف مُقَامه من نفسه ومن ربه ، فقال ما جاء به الحق سبحانه في الآية التالية : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ . . . }
(1/4774)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
فهؤلاء العباد الذين خلَّصتهم لنفسك يا ربّ؛ فلن أقدر عليهم؛ لأنك أخذتهم من طريق الغواية؛ لأنهم أحسنوا الإيمان ، وقد وصلوا إلى مرتبة من الإخلاص التعبُّدي درجةً يصعب بها على الشيطان غوايتهم .
ويقول أهل المعرفة والإشراق : " أنت تصل بطاعة الله إلى كرامة الله " .
ولو شاء الله أن يكون جميع خَلْقه مهديين ما استطاع أحد أنْ يُضلّهم ، ولكن عِزَّة الله عن خَلْقه هي التي أفسحت المجالَ للإغواء ، ولذلك نجد إبليس يُقِرّ بعجزه عن غواية مَنْ أخلصوا لله العبادة .
ونجد رد الحق سبحانه على إبليس واضحاً لا لَبْس فيه ، ولا قبول لِمَا قد يظنُّه إبليس مجاملةً منه لله ، فيقول سبحانه في الآية التالية : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ . . . }
(1/4775)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
وهكذا أوضح الحق سبحانه أن صراطه المستقيم هو الذي يقود العباد إلى الطاعة؛ فليس في الأمر تفضُّل من إبليس الذي سبق له أنْ حدَّد المواقع والاتجاهات التي سيأتي منها لغواية البشر ، حيث قال الحق سبحانه ما جاء على لسان إبليس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ]
في ذلك القول حدَّد إبليس جهات الغواية التي يأتي منها وترك " الفَوْق " و " التَّحْت " ، لذلك نقول : إن العبد إذا استحضر دائماً عُلُوَّ عِزّة الربوبية ، وذُلّ العبودية؛ فالشيطان لا يدخل له أبداً .
ويواصل الحق سبحانه قوله المبلغ عنه لنا : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ . . . }
(1/4776)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
وهكذا أصدر الحق سبحانه حُكْمه بألاَّ يكون لإبليس سلطان على مَنْ أخلص لله عبادة ، وأمر إبليس ألاَّ يتعرض لهم؛ فسبحانه هو الذي يَصُونهم منه؛ إلا مَنْ ضَلَّ عن هدى الله سبحانه ، وهم مَنْ يستطيع إبليس غوايتهم .
وهكذا نجد أن " الغاوين " هي ضد " عبادي " ، وهم الذين اصطفاهم الله من الوقوع تحت سلطان الشيطان؛ لأنهم أخلصوا وخَلَّصوا نفسهم لله ، وسنجد إبليس وهو ينطق يوم القيامة أمام الغاوين : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ . . . } [ إبراهيم : 22 ]
ومن نِعَم الله علينا أن أخبرنا الحق سبحانه بكلّ ذلك في الدنيا ، ولسوف يُقِر الشيطان بهذا كله في اليوم الآخر؛ ذلك أنه لم يملك سلطاناً يقهرنا به في الدنيا ، بل مجرد إشارة ونَزْغ؛ ولا يملك سلطانَ إقناع ليجعلنا نفعل ما ينزغ به إلينا .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما يُؤكّد أن جزاء الغاوين قَاسٍ أليم : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ . . . }
(1/4777)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
ولأن المصير لهؤلاء هو جهنم؛ فعلى العبد الذكيّ أن يستحضرَ هذا الجزاء وقتَ الاختيار للفعل؛ كي لا يرتكب حماقةَ الفعل الذي يُزيّنه له الشيطان ، أو تُلِح عليه به نفسه . ولو أن المُسرِف على نفسه استحضر العقوبة لحظةَ ارتكاب المعصية لَماَ أقدم عليها ، ولكن المُسْرف على نفسه لا يقرِن المعصية بالعقوبة؛ لأنه يغفل النتائج عن المقدمات .
ولذلك أقول دائماً : هَبْ أن إنساناً قد استولتْ عليه شراسة الغريزة الجنسية ، وعرف عنه الناس ذلك ، وأعدّوا له مَا يشاء من رغبات ، وأحضروا له أجملَ النساء؛ وسهّلوا له المكان المناسب للمعصية بما فيه من طعام وشراب .
وقالوا : هذا كله ذلك ، شَرْط أن تعرف أيضاً ماذا ينتظرك . وأضاءوا له من بعد ذلك قَبْواً في المنزل؛ به فرن مشتعل . ويقولون له : بعد أنْ تَفْرُغ من لَذّتِك ستدخل في هذا الفرن المشتعل . ماذا سيصنع هذا الإنسان؟
لابُدّ أنه سيرفض الإقدام على المعصية التي تقودهم إلى الجحيم .
وهكذا نعلم أن مَنْ يرتكب المعاصي إنما يستبطِئ العقوبة ، والذكيّ حقاً هو مَنْ يُصدِّق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه " الموت القيامة ، فمن مات فقد قامت قيامته " . ولا أحدَ يعلم متى يموت .
ويُبيِّن الحق سبحانه من بعد ذلك مراتبَ الجحيم ، فيقول : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ . . . }
(1/4778)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
وفي جهنمَ يكون مَوْعِد هؤلاء الغَاوين ، ومعهم إبليس الذي أَبَى واستكبر ، وصَمَّم على غواية البشر ، وألوان العذاب ستختلف ، ولكن جماعة لهم جريمة يُقْرنون بها معاً . فمَنْ يشربون الخمر سيكونون معاً؛ ومَنْ يلعبون الميسر يكونون معاً .
ولكُلّ باب من أبواب جهنم جماعة تدخل منه ربطَتْ بينهم في الدنيا معصيةٌ ما؛ وجمعهم في الدنيا وَلاءٌ ما ، وتكوّنتْ من بينهم صداقاتٌ في الدنيا ، واشتركوا بالمخالطة؛ ولذلك فعليهم الاشتراك في العقوبة والنكال . وهكذا يتحقق قول الحق سبحانه : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ]
وفي الجحيم أماكن تَأويهم؛ فقِسْم يذهب إلى اللظى؛ وآخر إلى الحُطَمة؛ وثالث إلى سَقَر ، ورابع إلى السَّعير ، وخامس إلى الهاوية .
وكل جُزْء له قِسْم مُعيَّن به؛ وفي كل قسم دَركَات ، لأن الجنة درجات ، والنار دركات تنزل إلى أسفل .
ويأتي الحق سبحانه بالمقابل؛ لأن ذِكْر المقابل كما نعلم يُعطي الكافر حَسْرة؛ ويعطي المؤمن بشارةً بأنه لم يكُنْ من العاصين ، ويقول : { إِنَّ المتقين فِي . . . }
(1/4779)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
والمُتقِي هو الذي يحولُ بين ما يُحبّ وما يكره؛ ويحاول ألاَّ يصيب مَنْ يحب ما يكره . وتتعدى التقوى إلى متقابلاتٍ ، فنجد الحق سبحانه يقول : { اتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله . . . } [ البقرة : 282 ]
ويقول أيضاً : { فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة . . . } [ البقرة : 24 ]
وقلنا من قَبْل : إن الحقَّ سبحانه له صفاتُ جلال ، وصفات كمال وجمال . يَهَبُ بصفات الكمال والجمال العطايا ، ويهَبُ بصفات الجلال البَلايا؛ فهو غفّار ، وهو قهار ، وهو عَفْو ، وهو مُنْتِقم .
وعلينا أن نجعلَ بيننا وبين صفات الجلال وقاية؛ وأن نجعل بيننا وبين صفات الجمال قُرْبى؛ والطريق أن نتبعَ منهجه؛ فلا ندخل النار التي هي جُنْد من جنود الله .
وهنا يقول الحق سبحانه : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الحجر : 45 ]
وهم الذين لم يرتكبوا المعاصي بعد أن آمنوا بالله ورسوله واتبعوا منهجه . وإنْ كانت المعصية قد غلبتْ بعضهم ، وتابوا عنها واستغفروا الله؛ فقد يغفر الله لهم ، وقد يُبدّل سيئاتِهم حسناتٍ .
ومَنْ يدخل الجنة سيجد فيها العيون والمقصود بها الأنهار؛ والحق سبحانه هو القائل : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ . . . } [ محمد : 15 ]
ولعل هناك عيوناً ومنابعَ لا يعلمها إلا الحق سبحانه .
ويقول الحق سبحانه : { ادخلوها . . . }
(1/4780)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
وهنا يدعوهم الحق سبحانه بالدخول إلى الجنة في سلام الأمن والاطمئنان . ونحن نعلم أن سلامَ الدنيا والاطمئنان فيها مُختلِف عن سلام الجنة؛ فسلامُ الدنيا يعكره خوف افتقاد النعمة ، أو أن يفوت الإنسانُ تلك النعمة بالموت . ونعلم أن كل نعيم في الدنيا إلى زوال .
أما نعيم الآخرة فهو نعيم مقيم .
ويتابع سبحانه ما ينتظر أهل الجنة : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ . . . }
(1/4781)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
وهكذا يُخرِج الحق سبحانه من صدورهم أيَّ حقد وعداوة . ويرون أخلاء الدنيا في المعاصي وهم مُمْتلئون بالغِلّ ، بينما هم قد طهَّرهم الحق سبحانه من كل ما كان يكرهه في الآخرة ، ويحيا كل منهم مع أزواج مُطهَّرة . ويجمعهم الحق بلا تنافس ، ولا يشعر أيٌّ منهم بحسد لغيره .
والغِلُّ كما نعلم هو الحقد الذي يسكُن النفوس ، ونعلم أن البعض من المسلمين قد تختلف وُجهات نظرهم في الحياة ، ولكنهم على إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
والمثل أن علياً كرم الله وجهه وأرضاه دخل موقعه الجمل ، وكان في المعسكر المقابل طلحةُ والزبير رضي الله عنهما؛ وكلاهما مُبشَّر بالجنة ، وكان لكل جانب دليل يُغلّبه .
" ولحظةَ أنْ قامت المعركة جاء وَجْه علي كرَّم الله وجهه في وَجْه الزبير؛ فيقول علي رضي الله عنه : تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتما تمرَّان عليَّ ، سلَّم النبي وقلْتَ أنت : لا يفارق ابنَ أبي طالب زَهْوُه ، فنظر إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لك : " إنك تقاتل علياً وأنتَ ظالم له " . فرمى الزبير بالسلاح ، وانتهى من الحرب .
ودخل طلحة بن عبيد الله على عليٍّ كرم الله وجهه ؛ فقال عليٌّ رضوان الله عليه : يجعل لي الله ولأبيك في هذه الآية نصيباً " فقال أحد الجالسين : إن الله أعدل من أنْ يجمعَ بينك وبين طلحة في الجنة . فقال عليٌّ : وفيما نزل إذنْ قوله الحق :
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .
وكلمة " نزعنا " تدل على أن تغلغل العمليات الحِقْدية في النفوس يكون عميقاً ، وأن خَلْعها في اليوم الآخر يكون خَلْعاً من الجذور ، وينظر المؤمن إلى المؤمن مثله؛ والذي عاداه في الدنيا نظرتُه إلى مُحسِن له؛ لأنه بالعداوة والمنافسة جعله يخاف أن يقع عَيْب منه .
ذلك أن المؤمن في الآخرة يذكر مُعْطيات الأشياء ، ويجعلهم الحق سبحانه إخواناً؛ فَرُبَّ أخٍ لك لم تَلِدْه أمُّك ، والحق سبحانه هو القائل في موقع آخر : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [ آل عمران : 103 ] .
وقد يكون لك أخ لا تكرهه ولا تحقد عليه؛ ولكنك لا تُجالسه ولا تُسامره؛ لأن الأخوة أنواع . وقد تكون أخوة طيبة ممتلئة بالاحترام لكن أياً منكما لا يسعى إلى الآخر ، ويجمعكم الحق سبحانه في الآخرة على سُرُر متقابلين .
وسأل سائل : وماذا لو كانت منزلة أحدهما في الجنة أعلى من منزلة الآخر؟ ونقول : إن فَضل الحق المطلق يرفع منزلة الأَدْنى إلى منزلة الأعلى ، وهما يتزاوران .
وهكذا يختلف حال الآخرة عن حال الدنيا ، فالإنسان في الدنيا يعيش ما قال عنه الحق سبحانه : { ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [ الانشقاق : 6 ] .
ولكن الحال في الآخرة يختلف ، وينطبق عليه قول الحق سبحانه في الآية التالية : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا . . . } .
(1/4782)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
وحياتُكَ في الآخرة إنْ أصلحتَ عملك وكنت من المؤمنين - تختلف عن حياتك في الدنيا؛ فأنت تعلم أنك في الدنيا تَحْيا مع أسباب الله المَمْدودة لك؛ وتضرب في الأرض من أجل الرزق ، وتجتهد وتتعب من أجل أَنْ يهبكَ اللهُ ما في الأسباب من عطاء .
وحينئذ تصبح من المُفْلِحِين الذين يهديهم الله جنته . يقول الحق جل عُلاَه : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ * أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 4-5 ] .
وشاء الحق سبحانه أن يأتي بلفظ المُفْلِح كصفة للمؤمن في الجنة ، لأن المؤمن قد حرثَ الدنيا بالعمل الصالح وبذل جهده ليقيمَ منهج الله في الأرض ، ونصَبَ قامته ، ونعلم أن نَصْب القَامَة يدلُّ على أن مَنْ يعمل قد أصابه التعب ، وذلك في الحياة الدنيا .
أما في الجنة ، فيقول الحق :
{ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] .
أي : لا يصيبهم فيها تعب ، ولا يُخْرَجون من الجنة ، ذلك أنهم قد نَالُوا فيها الخلود .
وهكذا تكلَّم سبحانه عن الغَاوين ، وقد كانوا أخلاَّء في الدنيا يمرحُون فيها بالمعاصي؛ وهم مَنْ ينتظرهم عقابُ الجحيم . وتكلَّم عن العباد المُخلصين الذين سيدخلون الجنة؛ ومنهم مَنِ اختلفتْ رُؤَاه في الدنيا ، ولم يربط بينهم تآلفٌ أو محبّة؛ لكنهم يدخلون الجنة ، وتتصافَى قلوبهم من أيِّ خلاف قد سبق في الدنيا .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { نَبِّىءْ عِبَادِي . . . } .
(1/4783)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والإنباء هو الإخبار بأمر له خطورته وعظمته؛ ولا يقال ( نبيء ) في خبر بسيط . وسبق أن قال الحق سبحانه عن هذا النبأ : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 1-2 ] .
وقال سبحانه أيضاً عن النبأ : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ ص : 67-68 ] .
ونفهم من القول الكريم أنه الإخبار بنبأ الآخرة ما سوف يحدثُ فيها ، وهنا يأتي سبحانه بخبر غُفْرانه ورحمته الذي يختصُّ به عباده المخلصين المُتقِين الذين يدخلون الجنة ، ويتمتَّعون بخيْراتها خالدين فيها .
ولقائل أنْ يسأل : أليستْ المغفرة تقتضي ذَنْباً؟
ونقول : إن الحق سبحانه خلقنا ويعلم أن للنفس هواجسَ؛ ولا يمكن أنْ تسلمَ النفس من بعض الأخطاء والذنوب والوسوسة؛ بدليل أنه سبحانه قد حَرَّم الكثير من الأفعال على المسلم؛ حمايةً للفرد وحمايةً للمجتمع أيضاً ، ليعيش المجتمع في الاستقرار الآمن .
فقد حرَّم الحق سبحانه على المسلم السرقة والزِّنَا وشُرْب الخمر ، وغيرها من المُوبِقات والخطايا ، والهواجس التي تقوده إلى الإفساد في الأرض ، وما دام قد حرَّم كل ذلك فهذا يعني أنها سوف تقع ، ونزل منهجه سبحانه مُحرِّماً ومُجَرِّماً لمن يفعل ذلك ، كما يُلزم كل المؤمنين به بضرورة تجنُّب هذه الخطايا .
وهنا يُوضِّح سبحانه أن مَنْ يغفل من المؤمنين ويرتكب معصية ثم يتوب عنها ، عليه ألاَّ يُؤرِّق نفسه بتلك الغفلات؛ فسبحانه رءوفٌ رحيم .
ونحن حين نقرأ العربية التي قد شرَّف اللهُ أهلَها بنزول القرآن بها ، نجد أقسامَ الكلام إما شِعْراً أو نَثْراً ، والشعر له وَزْن وقافية ، وله نَغَم وموسيقى ، أما النثر فليس له تلك الصِّفات ، بل قد يكون مَسْجوعاً أو غَيْرَ مسجوع .
وإنْ تكلمتَ بكلام نثريٍّ وجِئْتَ في وسطه ببيت من الشعر ، فالذي يسمعك يُمكِنه أن يلحظ هذا الفارقَ بين الشعر والنثر . ولكن القرآن كلامُ ربٍّ قادر؛ لذلك أنت تجد هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وتقرؤها وكأنها بَيْتٌ من الشعر فهي موزونة مُقفَّاة :
" نَبِّيء عِبَادِي أَنِّي أنَا الغفورُ الرَّحيمُ "
ووزنها من بَحْر المُجْتث ولكنها تأتي وَسْط آيات من قبلها ومن بعدها فلا تشعر بالفارق ، ولا تشعر أنك انتقلتَ من نثرٍ إلى شعٍر ، ومن شعر إلى نثر؛ لأن تضامن المعاني مع جمال الأسلوب يعطينا جلال التأثير المعجز ، وتلك من أسرار عظمة القرآن .
ثم يقول الحق سبحانه فيما يخص الكافرين أهل الغواية : { وَأَنَّ عَذَابِي . . . } .
(1/4784)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
وهكذا يكتمل النبأ بالمغفرة لِمَن آمنوا؛ والعذاب لِمَنْ كفروا ، وكانوا من أهل الغواية . ونلحظ أنه سبحانه لم يُشدِّد في تأكيد العذاب ، ذلك أن رحمته سبقتْ غضبه ، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائةَ رحمة ، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة ، وأرسل في خلَقْه كلِّهم رحمةً واحدةً ، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة؛ ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب؛ لم يأمن من النار " .
ونلحظ أن الآيتين السابقتين يشرحهما قَوْل الحق سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } [ الرعد : 6 ] .
ولذلك نرى أن الآيتين قد نبَّهتا إلى مَقَامي الرجاء والخوف ، وعلى المؤمن أنْ يجمعَ بينهما ، وألاَّ يُؤجِّل العمل الصالح وتكاليف الإيمان ، وأن يستغفر من المعاصي؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعامل الناس بالفضل لمن أخلص النية وأحسن الطوية . لذلك يقول الحديث : " لمَّا قضى الله الخَلْق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي " .
ثم ينقلنا الحق سبحانه من بعد الحديث عن الصفات الجلالية والجمالية في الغفران والرحمة والانتقام إلي مسألة حسِّية واقعية تُوضِّح كل تلك الصفات ، فيتكلم عن إبراهيم عليه السلام ويعطيه البُشْرى ، ثم ينتقل لابن أخيه لوط فيعطيه النجاة ، ويُنزِل بأهله العقاب .
يقول الحق سبحانه : { وَنَبِّئْهُمْ عَن . . } .
(1/4785)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
وكلمة ( ضيف ) تدلُّ على المائل لغيره لقِرَىً أو استئناس ، ويُسمونه " المُنْضوي " لأنه ينضوي إلى غيره لطلب القِرَى ، ولطلب الأمن . ومن معاني المُنْضوي أنه مالَ ناحية الضَّوْء .
وكان الكرماء من العرب من أهل السماحة؛ لا تقتصر سماحتهم على مَنْ يطرقون بابهم ، ولكنهم يُعلِنون عن أنفسهم بالنار ليراها مَنْ يسير في الطريق ليهتدي إليهم .
وكلنا قرأنا ما قال حاتم الطائي للعبد الذي يخدمه :
أَوْقِد النارَ فإنَّ الليْلَ لَيْل قُرّ ... والريحُ يَا غُلامُ ريحُ صِرّ ... إنْ جلبت لنَا ضَيْفاً فأنت حُر ... وهكذا نعرف أصلَ كلمة انضوى . أي : تَبِع الضوء .
وكلمة ( ضيف ) لفظ مُفْرد يُطلَق على المفرد والمُثنَّى والجمع ، إناثاً أو ذكوراً ، فيُقال : جاءني ضيف فأكرمته ، ويقال : جاءني ضيف فأكرمتها ، ويقال : جاءني ضيف فأكرمتهما ، وجاءني ضيف فأكرمتهم ، وجاءني ضيف فأكرمتهُنَّ .
وكلُّ ذلك لأن كلمة " ضيف " قامت مقام المصدر . ولكن هناك من أهل العربية مَنْ يجمعون " ضيف " على " أضياف "؛ ويجمعون " ضيف " على " ضيوف " ، أو يجمعون " ضيف " على " ضِيفان " .
ولننتبه إلى أن الضيفَ إذا أُطلِق على جَمْع؛ فمعناه أن فرداً قد جاء ومعه غيره ، وإذا جاءت جماعة ، ثم تبعتْهَا جماعة أخرى نقول : وجاءت ضيف أخرى .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نعلم أنهم ليسوا ضيفاً من الآية التي تليها؛ التي قال فيها الحق سبحانه : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ . . . } .
(1/4786)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
ونلحظ أن كلمة ( سلاماً ) جاءت هنا بالنَّصبْ ، ومعناها نُسلّم سلاماً ، وتعني سلاماً متجدداً . ولكنه في آية أخرى يقول : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذاريات : 25 ] .
ونعلم أن القرآن يأتي بالقصة عَبْر لقطات مُوّزعة بين الآيات؛ فإذا جمعتَها رسمَتْ لك ملامح القصة كاملة .
ولذلك نجد الحق سبحانه هنا لا يذكر أن إبراهيم قد رَدَّ سلامهم؛ وأيضاً لم يذكر تقديمه للعجل المَشْويّ لهم؛ لأنه ذكر ذلك في موقع آخر من القرآن .
إذن : فمِنْ تلك الآية نعلم أن إبراهيم عليه السلام قد ردَّ السلام ، وجاء هذا السلام مرفوعاً ، فلماذا جاء السلام في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها منصوباً؟
أي : قالوا هم : { سَلاماً } [ الحجر : 52 ] .
وكان لا بُدَّ من رَدٍّ ، وهو ما جاءتْ به الآية الثانية : { قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذاريات : 25 ] .
والسلام الذي صدر من الملائكة لإبراهيم هو سلام مُتجدّد؛ بينما السلام الذي صدر منه جاء في صيغة جملة اسمية مُثْبتة؛ ويدلُّ على الثبوت .
إذا رَدَّ إبراهيم عليه السلام أقوى من سلام الملائكة؛ لأنه يُوضِّح أن أخلاق المنهج أنْ يردَّ المؤمنُ التحيةَ بأحسنَ منها؛ لا أنْ يردّها فقط ، فجاء رَدُّه يحمل سلاماً استمرارياً ، بينما سلامُهم كان سلاماً تجددياً ، والفرق بين سلام إبراهيم عليه السلام وسلام الملائكة : أن سلام الملائكة يتحدد بمقتضى الحال ، أما سلام إبراهيم فهو منهج لدعوته ودعوة الرسل .
ويأتي من بعد ذلك كلام إبراهيم عليه السلام :
{ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } [ الحجر : 52 ] .
وجاء في آية أخرى أنه : { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [ هود : 70 ] .
وفي موقع آخر من القرآن يقول : { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذاريات : 25 ] .
فلماذا أوجسَ منهم خِيفةَ؟ ولماذا قال لهم : إنهم قومْ مُنْكَرون؟ ولماذا قال :
{ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } [ الحجر : 52 ] .
لقد جاءوا له دون أن يتعرّف عليهم ، وقدَّم لهم الطعام فرأى أيديهم لا تصل إليه ولا تقربه كما قال سبحانه : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 70 ] .
ذلك أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنه إذا قَدِم ضَيْفاً وقُدِّم إليه الطعام ، ورفض أن يأكل فعلَى المرء ألاَّ يتوقع منه الخير؛ وأن ينتظر المكاره .
وحين عَلِم أنهم قد أرسلوا إلى قوم لوط؛ وطمأنوه بالخبر الطيب الذي أرسلهم به الله اطمأنتْ نفسه؛ وفي ذلك تأتي الآية القادمة : { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ . . } .
(1/4787)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
هكذا طمأنت الملائكة إبراهيم عليه السلام ، وهَدَّأَتْ من رَوْعه ، وأزالتْ مخاوفه ، وقد حملوا له البشارة بأن الحق سبحانه سيرزقه بغلام سيصير إلي مرتبة أن يكون كثير العِلْم .
ويستقبل إبراهيم عليه السلام الخبر بطريقة تحمل من الاندهاش الكثيرَ ، فيقول ما ذكره الحق سبحانه : { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي . . } .
(1/4788)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
ونعلم أن الحق - سبحانه وتعالى - يخلق الخَلْق على أنحاء مُتعدّدة؛ حتى يعلمَ المخلوق أن خَلْقه لا ضرورة أن يكونَ بطريقة محددة؛ بل طلاقة القدرة أن يأتي المخلوق كما يشاء الله .
والشائع أن يُولَد الولد من أبٍ وأم؛ ذكر وأنثى . أو بدون الأمرين معاً مثل آدم عليه السلام ، ثُمَّ خلق حواء من ذكر فقط ، وكما خلق عيسى من أم فقط ، وخلق محمداً صلى الله عليه وسلم من ذكرٍ وأنثى .
وفي الآية التي نحن بصددها نجد إبراهيم عليه السلام يتعجب كيف يُبشِّرونه بغلام ، وهو على هذه الدرجة من الكِبَر ، في قوله تعالى :
{ على أَن مَّسَّنِيَ الكبر } [ الحجر : 54 ] .
يعني أن " على " هنا جاءت بمعنى " مع " أي : أنه يعيش مع الكِبَر؛ ويرى أنه من الصعب أنْ يجتمعَ الكِبَر مع القدرة على الإِنجاب .
وأقول دائما : إن كلمة ( على ) لها عطاءاتٌ واسعة في القرآن الكريم ، فهي تترك مرة ويأتي الحق سبحانه بغيرها لتؤدي معنًى مُعيناً؛ مثل قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] .
والصَّلْب إنما يكون على جذوع النخل؛ ولكن الحق سبحانه جاء ب ( في ) بدلاً من ( على ) ليدلَّ على أن الصَّلْبَ سيكون عنيفاً ، بحيث تتدخل الأيدي والأرجُل المَصْلوبة في جذوع النخل .
وهنا يقول الحق سبحانه :
{ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر } [ الحجر : 54 ] .
أي : أَتُبشِّرونني بالغلام العليم مع أنِّي كبير في العمر؛ والمفهوم أن الكِبَر والتقدُّم في العمر لا يتأتَّى معه القدرة على الإنجاب .
وهكذا تأتي " على " بمعنى " مع " . أي : كيف تُبشِّرونني بالغلام مع أنِّي كبير في العمر ، وقد قال قولته هذه مُؤمِناً بقدرة الله؛ فإبراهيم أيضاً هو الذي أورد الحق سبحانه قَوْلاً له : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } [ إبراهيم : 39 ] .
وكأن الكِبَر لا يتناسب مع الإنجاب ، ويأتي رَدُّ الملائكة على إبراهيم خليل الرحمن : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ } .
(1/4789)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
وكأن الملائكة تقول له : لسنا نحن الذين صنعنا ذلك ، ولكِنَّا نُبلغك ببشارة شاءها الله لك؛ فلا تكُنْ من اليائسين .
ونفس القصة تكررتْ من بعد إبراهيم مع ذكريا - عليه السلام - في إنجابه ليحيى ، حين دعا زكريا رَبّه أن يهبَه غلاماً : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] .
وجاءته البشارة بيحيى ، وقد قال زكريا لربه : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] .
وإن شئت أن تعرفَ سِرَّ عطاءات الأسلوب القرآني فاقرأ قَوْل الحق سبحانه رداً على زكريا : { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] .
ولم يَقُلِ الحق سبحانه أصلحناكم أنتم الاثنين؛ وفي ذلك إشارة إلي أن العطبَ كان في الزوجة؛ وقد أثبت العلم من بعد ذلك أن قدرة الرجل على الإخصاب لا يُحدِّدها عمر ، ولكن قدرةَ المرأة على أن تحمل مُحدّدة بعمر مُعين .
ثم إذا تأملنا قوله الحق : { وَوَهَبْنَا } [ الأنبياء : 90 ] .
نجد أنها تُثبِت طلاقةَ قدرة الله سبحانه فيما وَهَب؛ وفي إصلاح مَا فسد؛ فسبحانه لا يُعْوزِه شيء؛ قادر جَلَّ شأنه على الوَهْب؛ وقادر على أن يُهيئَ الأسباب ليتحققَ ما يَهبه .
وهنا تقول الملائكة لإبراهيم :
{ بَشَّرْنَاكَ بالحق } [ الحجر : 55 ] أي : أنهم ليسوا المسئولين عن البشارة ، بل عن صدق البشارة؛ ولذلك قالوا له من بعد ذلك :
{ فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } [ الحجر : 55 ] .
ويأتي الحق سبحانه بما رَدَّ به إبراهيم عليه السلام : { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ . . } .
(1/4790)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
وهنا يعلن إبراهيم - عليه السلام - أنه لم يقنط من رحمة ربه؛ ولكنه التعجب من طلاقة التعجب من طلاقة القدرة التي توحي بالوحدانية القادرة ، لا لذات وقوع الحَدث؛ ولكن لكيفية الوقوع ، ففي كيفية الوقوع إعجاب فيه تأمل ، ذلك أن إبراهيم - عليه السلام - يعلم عِلْم اليقين طلاقة قدرة الله؛ فقد سبق أن قال له : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى . . } [ البقرة : 260 ] .
ولنلحظ أنه لم يسأله " أتحيي الموتى " ، بل كان سؤاله عن الكيفية التي يُحْيى بها الله المَوْتى؛ ولذلك لسأله الحق سبحانه : { أَوَلَمْ تُؤْمِن . . . } [ البقرة : 260 ] .
وكان رَدّ إبراهيم -عليه السلام - : { بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] .
وحدثتْ تجربة عندما أُمر إبراهيم بأن يأخذ أربعة من الطير ثم يقطعهن ويلقي على كل جبل جزءاً ، ثم يدعوهن فيأتينه سعياً ، لذلك فلم يكُنْ إبراهيم قانطاً من رحمة ربه ، بل كان متسائلاً عن الكيفية التي يُجرِي الله بها رحمته .
ولم تكن تلك المحادثة بين إبراهيم والملائكة فقط ، بل اشتركت فيه زَوْجه سارة؛ إذ أن الحق سبحانه قد قال في سورة هود : { ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } [ هود : 72-73 ] .
وهكذا نجد أن القرآن يُكمِل بعضُه بعضاً؛ وكل لَقْطة تأتي في موقعها؛ وحين نجمع اللقطات تكتمل لنا القصة .
وهنا في سورة الحجر نجد سؤالاً من إبراهيم - عليه السلام - للملائكة التي حملتْ له بُشْرى الإنجاب عن المُهمَّة الأساسية لمجيئهم ، الذي تسبَّب في أن يتوجَّس منهم خِيفةً؛ فقد نظر إليهم ، وشعر أنهم قد جاءوا بأمر آخر غير البشارةَ بالغلام؛ لأن البشارةَ يكفي فيها مَلَكٌ واحد .
أما هؤلاء فهم كثيرون على تلك المُهِمة ، فيقول سبحانه هذا السؤال الذي سأله إبراهيم - عليه السلام - : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ . . . } .
(1/4791)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
أي : ما هو الأمر العظيم الذي جِئْتم من أجله؛ لأن الخَطْب هو الحَدث الجَلل الذي ينتاب الإنسان؟ وسُمِّي خَطْباً لأنه يشغل بال الناس جميعاً فيتخاطبون به ، وكلما التقتْ جماعة من البشر بجماعة أخرى فَهُمْ يتحدثون في هذا الأمر .
ولذلك سُمِّيتْ رغبة الزواج بين رجل وامرأة وَتَقدّمه لأهلها طَلباً لِيَدها " خِطْبة "؛ لأنه أمر جلَلَ وهَامّ؛ ذلك أن أحداً لو نظر إلى المرأة؛ ورآه واحدٌ من أهلها لَثَار من الغَيْرة؛ ولكن ما أن يدقَّ البابَ طالباً يدَها ، فالأمر يختلف؛ لأن أهلها يستقبلون مَنْ يتقدّم للزواج الاستقبالَ الحسن؛ ويقال : " جدعَ الحلالُ أنْفَ الغَيْرة " .
وهنا قال إبراهيم عليه السلام للملائكة : ما خَطْبكم أيها المُرْسلون؟ أي : لأيِّ أمر جَلَلٍ أتيتُم؟
ويأتي الجواب من الملائكة في قول الحق سبحانه : { قَالُواْ إِنَّآ . . . } .
(1/4792)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
ونعلم أن كلمة " القوم " مأخوذةٌ من القيام ، وهُم القوم الذين يقومون للأحداث؛ ويُقصد بهم الرجال ، دون النساء لأن النساء لا يَقُمْنَ للأحداث؛ والحق سبحانه هو الذي يُفصِّل هذا الأمر في قوله : { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] .
فلو أن كلمة " القوم " تُطلَق على النساء؛ لَوصفَ بها الحق سبحانه النساء أيضاً؛ وذلك كي نعلم أن الرجال فقط هم الذين يقومون للأحداث؛ ولنعلم أن للمرأة منزلتها في رعاية أسرتها؛ فلا تقوم إلا بما يخصُّ هذا البيت .
وهنا أخبرتْ الملائكة إبراهيم عليه السلام أنهم مُرْسَلون إلى قوم مُجرمين؛ وهم قوم لوط الذين أرهقوا لوطاً بالتكذيب وبالمعاصي التي أدمنوها .
ولكن الحق سبحانه يستثني آل لوط من جريمة قوم لوط ، فقد كانت أغلبية قوم لوط من الفاسدين ، فيقول سبحانه : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ . . } .
(1/4793)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
وهذا استثناءٌ لآل لُوطٍ من المجرمين . والمُجرِم هو المُنقطِع عن الحق ، والجريمة هي الانقطاع عن الحق لانتصار الباطل ، غلب اسم القوم على الجماعة المُجْرمين ، وهكذا كان الاستثناء من هؤلاء المجرمين . الذين أجرموا في حق منهج الله ، والقيم التي نادى بها لوط عليه السلام .
وهكذا كان الإرسال للإنجاء لمن آمن والإهلاك لمن أعرض ونأى بجانبه في مهمة واحدة .
ثم يأتي استثناء جديد؛ حيث يقرر الحق سبحانه أن امرأة لوط سيشملها الإهلاك ، فيقول سبحانه : { إِلاَّ امرأته . . } .
(1/4794)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
ونعلم في اللغة أنه إذا توالتْ استثناءات على مُستثنى منه؛ نأخذ المُسْتثنى الأول من المُسْتثنى منه ، والمستثنى الثاني نأخذه من المستثنى الأول ، والمستثنى الثالث نأخذه من المستثنى الثاني .
والمثل أن يقول لك من تدينه " لك عشرة جنيهات إلا أربعة " أي : أنه أقرَّ بأن لك ستة جنيهات؛ ولكنك تنظر إليه لعلَّه يتذكر كم سدَّد إليك؟ فيقول : " لك إلا درهماً " وهكذا يكون قد أقرَّ بسبعة دراهم كَدَيْن؛ بعد أنْ كان قد أقرَّ بستة؛ ذلك أنه قال : " لك عشرة جنيهات إلا أربعة " ، ثم أضاف : " إلا درهماً " .
وهكذا يكون قد استثنى من الأربعة الجنيهات التي قال إنه سَدَّدها لك جنيهاً آخر؛ وبذلك يكون ما سدده من دين ثلاث جنيهات ، وبقي عنده سبعة جنيهات .
والحق سبحانه هنا يستثني امرأة لوط من الذين استثناهم من قبل للنجاة ، وهم آل لوط ، والملائكة التي تقوم ذلك لم تُقدِّر الأمر بإهلاك امرأة لوط؛ بل هي تُنفِّذ التقدير الأعلى؛ فسبحانه هو مَنْ قدَّر وأمر :
{ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } [ الحجر : 60 ] .
والغابر هنا بمعنى داخل؛ أو هو من أسماء الأضداد؛ وهي لن تنجو؛ لأن مَنْ تقررتْ نجاتهم سيتركون القرية؛ وسيهلك مَنْ يبقى فيها ، وامرأة لُوط من الباقين في العذاب والاستثناء من النفي إثبات؛ ومن الإثبات نفي ، فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين .
وتنتقل السورة من إبراهيم إلى لوط - عليه السلام - فيقول الحق سبحانه : { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ . . } .
(1/4795)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
وهكذا قال لوط عليه السلام للملائكة عندما وصلوا إليه ، فقد كان مشهدهم غايةً في الجمال؛ ويعلم أن قومه يُعَانُون من الغلمانية ، ويحترفون الفاحشة الشاذة؛ لذلك نجد الحق سبحانه يقول عن معاملته للملائكة في موقع آخر من القرآن : { سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } [ هود : 77 ] .
ذلك أن لوطاً عَلِم أن قومه سيطمعون في هؤلاء المُرْد ، لذلك ما أنْ جاءوه حتى أعلن لهم أنه غَيْر مرغوب فيهم؛ ولم يرحب بهم ، ذلك أنهم قد دخلوا عليه في صورة شبان تضيء ملامحهم بالحُسْن الشديد؛ مما قد يُسبِّب غواية لقومه .
كما أنهم قد دخلوا عليه ، وليس على ملامحهم أيّ أثر للسفر؛ كما أنهم ليسوا من أهل المنطقة التي يعيش فيها؛ لذلك أنكرهم .
ويقول سبحانه ما جاء على لسان الملائكة لحظةَ أن طمأنوا لوطاً كشفوا له عن مهمتهم : { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ . . . } .
(1/4796)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وهكذا أعلنوا للوط سبب قدومهم إليه؛ كي يُنزِلوا العقابَ بالقوم الذين أرهقوه ، وكانوا يشكُّون في قدرة الحق سبحانه أنْ يأخذهم أَخْذَ عزيز مُقْتدر ، وفي هذا تَسْرية عنه .
ثم يُؤكِّدون ذلك بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم : { وَآتَيْنَاكَ بالحق . . . } .
(1/4797)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
أي : جِئْنا لك بأمر عذابهم الصادر من الحقِّ سبحانه؛ فلا مجالَ للشكِّ أو الامتراء ، ونحن صادقون فيما نُبلِّغك به .
ويقولون له من بعد ذلك : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ . . . } .
(1/4798)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
أي : سِرْ أنت وأهلك في جزء من الليل . ومرة يُقَال " سرى " ، ومرة يُقال " أسرى "؛ ويلتقيان في المعنى . ولكن " أسرى " تأتي في موقع آخر من القرآن ، وتكون مُتعدِّية مثل قول الحق : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] .
وقولهم هنا ( أسر بأهلك ) هو تعبير مُهذّب عن صُحْبة النساء والأبناء . ونجد في ريفنا المصري مَنْ لا يتكلم أبداً في حديثه عن المرأة أو البنات؛ فيقول الواحد منهم " قال الأولاد كذا " ، فكأن اسم المرأة مبنيٌّ على السَّتْر دائماً ، وكذلك نجد كثيراً من الأحكام تكون المرأة مَطْمورة في حكم الرجل إلا في الأمر المُتعلِّق بها .
وهنا يقول الحق سبحانه :
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل . . . } [ الحجر : 65 ] .
وكلمة " قطع " هي اسم جمع ، والمقصود هو أن يخرج لوطٌ بأهله في جُزْء من الليل ، أو من آخر الليل ، فهذا هو منهج الإنجاء الذي أخبر به الملائكة لوطاً ، ليتبعه هو وأهله والمؤمنون به ، وأوصوه أن يتبعَ أدبار قومه بقولهم :
{ واتبع أَدْبَارَهُمْ . . . } [ الحجر : 65 ] .
أي : أن يكون في المُؤخّرة ، وفي ذلك حَثٌّ لهم على السُّرعة .
وكان من طبيعة العرب أنهم إذا كانوا في مكان ويرحلون منه؛ فكل منهم يحمل رَحْلَه على ناقته؛ وأهله فيها فوق الناقة ويبتدئون السير ، ويتخلف رئيس القوم ، واسمه " مُعقِّب " كي يرقُب إنْ كان أحد من القوم قد تخلَّف أو تعثَّر أو ترك شيئاً من متاعه ، ويُسمُّون هذا الشخص " مُعقِّب " .
وهنا تأمر الملائكة لوطاً أن يكون مُعقّباً لأهله والمؤمنين به؛ لِيحثّهم على السير بسرعة؛ ثم لِينفذ أمراً آخرَ يأمره به الحق سبحانه :
{ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ . . . } [ الحجر : 65 ] .
وتنفيذ الأمر بعدم الالتفات يقتضي أن يكون لوط في مُؤخّرة القوم؛ ذلك أن الالتفاتَ يأخذ وَقْتاً ، ويُقلّل من سرعة مَنْ يلتفت؛ كما أن الالتفاتَ إلى موقع انتمائهم من الأرض قد يُثير الحنين إلى مواقع التَّذكار وأرض المَنْشأ ، وكل ذلك قد يُعطّل حركة القوم جميعهم؛ لذلك جاء الأمر الإلهي :
{ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } [ الحجر : 65 ] .
أو : أن الحق سبحانه يريد ألاَّ يلتفت أحدٌ خَلْفه حتى لا يشهدَ العذاب ، أو مقدمة العذاب الذي يقع على القوم ، فتأخذه بهم شفقة .
ونحن نعلم قول الحق سبحانه في إقامة أيِّ حدِّ من الحدود التي أنزلها : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] .
فلو أن أحداً قد التفتَ إلى العذاب ، أو مُقدِّمة العذاب؛ فقد يحِنّ إليهم ، أو يعطف عليهم رغم أن عذابهم بسبب ذنب كبير ، فقد ارتكبوا جريمة كبيرة؛ ونعلم أن بشاعة الجريمة تبهت؛ وقد يبقى في النفس عِظَم أَلَمِ العقوبة لحظة توقيعِها على المُجرم .
أو : أن الحق سبحانه يريد أن يعجل بالقوم الناجين قبل أنْ يوجد ، ولو التفزيع الذي هو مقدمة تعذيب القوم الذين كفروا من هَوْل هذا العذاب القادم .
وهكذا كان الأمر بالإسراء بالقوم الذين قرر الحق سبحانه نجاتهم ، والكيفية هي أن يكون الخروج في جزء من الليل ، وأنْ يتبعَ لوطٌ أدبارهم ، وألا يلتفتَ أحد من الناجين خَلْفه؛ ليمضي هؤلاء الناجون حيث يأمرهم الحق سبحانه . وقيل : إن الجهة هي الشام .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ . . . } .
(1/4799)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
وقوله الحق : { وَقَضَيْنَآ . . } [ الحجر : 66 ] .
أي : أوحينا . وسبحانه تكلَّم من قَبْل عن الإنجاء للمؤمنين من آل لوط؛ ثم تكلَّم عن عذاب الكافرين المنحرفين؛ والأمر الذي قضى به الحق سبحانه أنْ يُبيدَ هؤلاء المنحرفين . وقَطْع الدَّابر هو الخَلْع من الجذور .
ولذلك يقول القرآن : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ } [ الأنعام : 45 ] .
وهكذا نفهم أن قَطْع الدابر هو أنْ يأخذَهم الحق سبحانه أَخْذ عزيز مقتدر فلا يُبقِى منهم أحداً . وموعد ذلك هو الصباح ، فبعد أنْ خرج لوط ومَنْ معه بجزء من الليل وتمَّتْ نجاتهم يأتي الأمر بإهلاك المنحرفين في الصباح .
والأَخْذ بالصُّبح هو مبدأ من مبادئ الحروب؛ ويُقال : إن أغلب الحروب تبدأ عند أول خيط من خيوط الشمس .
والحق سبحانه يقول : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } [ الصافات : 177 ] .
وهكذا شاء الحق سبحانه أنْ يأخذَهم وهُمْ في استرخاء؛ ولا يملكون قُدْرة على المقاومة .
وقَوْل الحق سبحانه هنا :
{ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] .
لا يتناقض مع قوله عنهم في موقع آخر : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ } [ الحجر : 73 ] .
فكأن بَدْء الصيحة كان صُبْحاً ، ونهايتهم كانت في الشروق . وهكذا رسم الحق سبحانه الصورة واضحة أمام لُوطٍ من قبل أنْ يبدأ التنفيذ؛ فهكذا أخبرتْ الملائكة لوطاً بما سوف يجري .
ويعود الحق سبحانه بعد ذلك إلى قوم لوط الذين لا يعرفون ما سوف يحدث لهم ، فيقول سبحانه : { وَجَآءَ أَهْلُ المدينة . . . } .
(1/4800)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
وعندما عَلِم أهل المدينة من قوم لُوطٍ بوصول وَفْد من الشبان الحِسَان المُرْد عند لوط جاءوا مُستبشرين فَرِحين . وكان حُسْنهم مضربَ الأمثال؛ وكأن كُلاً منهم ينطبق عليه قَوْله الحق عن يوسف عليه السلام : { مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] .
وقوله سبحانه :
{ وَجَآءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ } [ الحجر : 67 ] .
يجمع لقطات مُركّبة عن الأمر الفاحش الشائع فيما بينهم ، وكانوا يستبشرون بفعله ويَفْرحون به؛ فهم مَنْ ينطبق عليهم قوله الحق : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 79 ] .
وكان لوط يعلم هذا الأمر فيهم ، ويعلم ما سوف يَحيق بهم؛ وأراد أنْ يجعل بينهم وبين فِعْل الفاحشة مع الملائكة سَدّاً؛ فهم في ضيافته وفي جواره ، والتقاليد تقتضي أنْ يأخذَ الضيف كرامة المُضيف ، وأيّ إهانة تلحق بالضيف هي إهانة للمُضيف ، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان لوط : { قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ . . } .
(1/4801)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
والفضيحة هي هَتْك المساتير التي يستحيي منها الإنسان ، فالإنسان قد يفعل أشياءَ يستحي أنْ يعملها عنه غيره . والحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا أن نتخلَّق بخُلُقه؛ جعل من كُلِّ صفات الجمال والجلال نصيباً يعطيه لخَلْقه .
ولكن هناك بعضاً من صفاته يذكرها ولا يأتي بمقابل لها؛ فهو قد قال مثلاً " الضَّارّ " ومقابلها " النافع " وقال " الباسط " ومقابلها " القابض " وقال " المُعِزّ " ومقابلها " المُذِلّ " . ومن أسمائه " الستار " ولم يَأْتِ بالمقابل وهو " الفاضح "؛ لماذا لم يَأْتِ بهذا المقابل؟
لأنه سبحانه شاء أنْ يحميَ الكون؛ لكي يستمتع كُلّ فَرْد بحسنات المُسيء ، لأنك لو علمتَ سيئاته قد تبصُق عليه؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يستر المُسيء ، ويُظهِر حسناته فقط .
وقد قال لوط لقومه بعد أن نهاهم عن الاقتراب الشائن من ضيوفه : { واتقوا الله . . . } .
(1/4802)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
أي : ضَعوا بينكم وبين عقاب الحق لكم وقاية؛ ولا تكونوا سبباً في إحساسي بالخِزي والعار أمام ضيوفي بسبب ما تَرغبُون فيه من الفاحشة .
والاتقاء من الوقاية ، والوقاية هي الاحتراس والبعد من الشر ، لذلك يقول الحق سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] .
أي : اجعلوا بينكم وبين النار وقاية ، واحترسوا من أن تقعوا فيها ، بالابتعاد عن المحظورات ، فإن فِعْل المحذور طريق إلى النار ، والابتعاد عنه وقاية منها ، ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم والقرآن كله كلام الله .
يقول : { واتقوا الله } [ البقرة : 194 ] .
ويقول : { واتقوا النار } [ آل عمران : 131 ] .
كيف نأخذ سلوكاً واحداً تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟
والمعنى : لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تُعذَّبوا في النار ، فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي ، وإن فعلتَ المأمورات ، ورضيتَ بالمقدورات ، وابتعدت عن المحذورات ، فقد اتقيت الله .
ولكنهم لم يستجيبوا له ، بدليل أنهم تَمادَوْا في غِيِّهم وقالوا ما أورده الحق سبحانه : { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ . . . } .
(1/4803)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
أي : أَلَمْ نُحذِّرك من قَبْل من ضيافة الشبان الذين يتمَّيزون بالحُسْن ، ولأنك قُمْتَ باستضافة هؤلاء الشبان؛ فلا بُدَّ لنا من أنْ نفعلَ معهم ما نحب من الفاحشة ، وكانوا يتعرَّضون لكل غريب بالسوء .
وحاول لوط أن ينهاهم قَدْر استطاعته؛ ولكنهم رفضوا أنْ يُجِير ضيوفه من عدوانهم الفاحش ، وطلبوا منه أن يتركهم وشأنهم ، ليفسدوا في الكون كما يشاءون ، فلا تتكلم ولا تعترض على شيء مما نفعل ، وهذه لغة أهل الضلال والفساد .
وحاول لوط عليه السلام أنْ يُثنيهم عن ذلك بأن قال لهم ، ما جاء به الحق سبحانه : { قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي . . . } .
(1/4804)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
أي : أنكم إنْ كُنتم مُصرِّين على ارتكاب الفاحشة؛ فلماذا لا تتزوجون من بناتي؟ ولقد حاول البعضُ أن يقولوا : إنه عرض بناته عليهم ليرتكبوا معهن الفاحشة؛ وحاشا الله أن يصدر مثل هذا الفعل عن رسول ، بل هو قد عرض عليهم أن يتزوجوا النساء .
ثم إن لوطاً كانت له ابنتان اثنتان ، وهو قد قال :
{ هَؤُلآءِ بَنَاتِي . . } [ الحجر : 71 ] .
أي : أنه تحدث عن جمع كثير؛ ذلك أن ابنتيه لا تصلحان إلا للزواج من اثنين من هذا الجمع الكثيف من رجال تلك المدينة ، ونعلم أن بنات كل القوم الذين يوجد فيهم رسول يُعتبرْنَ من بناته .
ولذلك يقول الحق سبحانه ما يُوضّح ذلك في آية أخرى . { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165-166 ] .
أي : أن لوطاً أراد أنْ يردَّ هؤلاء الشواذ إلى دائرة الصواب ، والفعل الطيب . وذيَّل كلامه :
{ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ الحجر : 71 ] .
ليوحي لهم بالشكِّ في أنهم سيُهينون ضيوفه بهذا الأسلوب المَمْجوج والمرفوض .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ . . . } .
(1/4805)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . و " عَمْرُك " معناها السنُّ المُحدَّد للإنسان لاستقامة الحياة ، ومرة تنطق " عُمْرك " ومرة تنطق " عَمْرك " ، ولكنهم في القَسَم يختارون كلمة " عَمْرك " ، وهذا يماثل قولنا في الحياة اليومية " وحياتك " .
ومن هذا القول الكريم الذي يُحدِّث به الحق سبحانه رسوله استدلَّ أهل الإشراق والمعرفة أن الحق سبحانه قد كرَّم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بأنه حين ناداه لم يُنَادِهِ باسمه العلنيّ " يا محمد " أو " يا أحمد " كما نادى كل رُسُله ، ولكنه لم يُنَادِ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بقوله : { ياأيها الرسول } [ المائدة : 67 ] .
أو : { ياأيها النبي } [ الممتحنة : 12 ] .
وفي هذا تكريمٌ عظيم ، وهنا في هذه الآية نجد تكريماً آخر ، فسبحانه يُقسِم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم . ونعلم أن الحق سبحانه يُقسِم بما شاء على ما شاء ، أقسم بالشمس وبمواقع النجوم وبالنجم إذا هَوَى .
فهو الخالق العليم بكل ما خلق؛ ولا يعرف عظمة المخلوق إلا خالقه ، وهو العالم بمُهمة كل كائن خلقه ، لكنه أمرنا ألاَّ نُقسِم إلاَّ به؛ لأننا نجل حقائق الأشياء مُكْتملةً .
وقد أقسم سبحانه بكل شيء في الوجود ، إلا أنه لم يُقسِم أبداً بأيِّ إنسان إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقال هنا :
{ لَعَمْرُكَ } [ الحجر : 72 ] بحياتك يا محمد إنهم في سَكْرة يعمهون .
والسكرة هي التخديرة العقلية التي تحدث لمن يختلّ إدراكهم بفعل عقيدة فاسدة ، أو عادة شاذة ، أو بتناول مادة تثير الاضطراب في الوعي .
و { يَعْمَهُونَ . . } [ الحجر : 72 ] .
أي : يضطربون باختيارهم .
ويأتي العقاب؛ فيقول الحق سبحانه : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة . . . } .
(1/4806)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
وسبق أنْ أخبرنا سبحانه أنه سيقطع دابرهم وهم مصبحون ، وهنا يخبرنا أن الصيحة أخذتهم وهم مُشْرقون ، ونحن نرى هذه الأيام بعضاً من الألعاب كلعبة " الكاراتيه " تصدر صيحة من اللاعب في مواجهة خَصْمه لِيُزيد من رُعبْه .
كما نرى في تدريبات الصاعقة العسكرية؛ نوعاً من الصرخات ، هدفها أنْ يُدخِل المقاتل الرُّعْب في قلب عدوه .
وكل ما يتطلب إرهاب الخَصْم يبدأ بصيحة تُفقِده توازنه الفكري؛ ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] .
ومرّة يُسمّيها الحق سبحانه بالطاغية؛ فيقول : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا . . . } .
(1/4807)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
وما دام عاليها قد صار أسفلها ، فهذا لَوْنٌ من الانتقام المُنظّم المُوجّه؛ ولو لم يكن انتقاماً مُنظّماً؛ لانقلب بعضُ ما في تلك المدينة على الجانب الأيمن أو الأيسر .
ولكن شاء الحق سبحانه أن يأتي لنا بصورة ما حدث ، لِيدلَنا على قدرته على أنْ يفعلَ ما شاء كما يشاء . وأمطرهم الحق سبحانه بحجارة من سجيل؛ كتلك التي أمطر بها مَنْ هاجموا الكعبة في عام ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهي حجارة صُنِعَتْ من طين لا يعلم كُنْهَه إلا الله سبحانه ، والطين إذا تحجَّر سُمّي " سجيلاً " .
والحق سبحانه هو القائل عن نفس هذا الموقف في سورة الذاريات : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] .
وقد أرسل الحق سبحانه تلك الحجارة عليهم لِيُبيدهم ، فلا يُبقِي منهم أحداً .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ . . . } .
(1/4808)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وهكذا كان العذاب الذي أنزله الحق سبحانه بقوم لوط آية واضحة للمُتوسِّمين . والمُتوسِّم هو الذي يُدرك حقائق المَسْتور بمكْشُوف المظهور . ويُقال " توسَّمْتُ في فلان كذا " أي : أخذ من الظاهر حقيقة الباطن .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } [ الفتح : 29 ] .
أي : ساعةَ تراهم ترى أن الملامح تُوَضِّح ما في الأعماق من إيمان .
ويقول سبحانه أيضاً : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] .
وهكذا نعرف أن المُتوسِّم هو صاحب الفَراسة التي تكشف مكنون الأعماق . وها هو صلى الله عليه وسلم يقول : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " .
وتحمل الذاكرة العربية حكاية الأعرابي الذي فقد جمله ، فذهب إلى قيم الناحية أي : عمدة المكان وقال له : " ضاع جملي ، وأخشى أن يكون قد سرقه أحد " . وبينما هو يُحدِّث القيِّم جاء واحد ، وقال له : أجملك أعور؟ أجاب صاحب الجمل : نعم ، وقال له : أجملك أبتَر؟ أي : لا ذَيْل له ، أجاب صاحب الجمل : نعم . فسأل الرجل سؤالا ثالثاً : أجملك أشول؟ أي : يعرج قليلاً عندما يسير؛ فأجاب الرجل : نعم ، والله هو جَمَلِي .
وأراد قيِّم الحي أن يعلم كيف عرف الرجل الذي حضر كل هذه العلامات التي في الجمل ، فسأله : وما أدراك بكل تلك العلامات؟
قال الرجل : لقد رأيتُه في الطريق ، وعرفتُ أنه أعورُ ، ذلك أنه كان يأكل العُشبْ الجاف من جهة ، ولا يلتفت إلى العُشْب الأخضر في الجهة الأخرى ، ولو كان يرى بعينيه الاثنتين لرأى العُشْب الأخضر .
وعرفت أنه أبتر مقطوع الذيل نتيجة أن بَعْره لم يتبعثر مثل غيره من الجمال التي لها ذَيْل غير مقطوع .
وعرفت أنه أشول؛ لأن أثر ساقه اليمنى أكثر عُمْقاً في الأرض من أثر ساقه اليسرى . وهكذا شرحت الذاكرة العربية معنى كلمة " المتوسم " .
ثم يُبيِّن الحق سبحانه مكان مدينة قوم لوط ، فيقول من بعد ذلك : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ . . . } .
(1/4809)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
أي : أنها على طريق ثابت تمرُّون عليه إنْ ذهبتُم ناحية هذا المكان ، وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
فهذه المدينة إذنْ في طريق ثابت؛ لن تُضيّعه عوامل التَّعْرية أو الأغيار ، ولن تضيعه تلك العوامل إلا إذا شاء الحق سبحانه له أن يكون مُحْكَم التكوين ومُحكمَ التثبيت . وهو ما يُسمَّى " سدوم " .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً . . . } .
(1/4810)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
وقد قال من قبل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] .
فكأن من مسئوليات المؤمن أنْ يتفحَّص في أدبار الأشياء ، وأنْ يتعرّف على الأشياء بسيماها ، وأن يمتلكَ فراسة الإيمان التي قال عنها صلى الله عليه وسلم : " اتقوا فراسةَ المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله " .
وهكذا يُنهِي الحق سبحانه هنا قصة لوط؛ وما وقع عليهم من عذاب يجب أن يتعظَ به المؤمنون؛ فقد نالوا جزاءَ ما فعلوا من فاحشة .
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك نَقْلة أخرى؛ إلى أهل مَدْين ، وهم قوم شُعَيب . وهم أصحاب الأيكة ، يقول سبحانه : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ . . . } .
(1/4811)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
و " الأَيْك " هو الشجر المُلْتف الكثير الأغصان . ونعلم أن شعيباً عليه السلام قد بُعِث لأهل مدين وأصحاب الأيكة ، وهي مكان قريب من مدين ، وكان أهل مدين قد ظلموا أنفسهم بالشرك .
وقد قال الحق سبحانه : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] .
وقال عن أصحاب الأيكة : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 176-177 ] .
وهكذا نعلم أن شعيباً قد بُعِث لأُمتين مُتجاورتين .
ويقول سبحانه عن هاتين الأُمتين : { فانتقمنا مِنْهُمْ . . . } .
(1/4812)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
ويُقال : إن ما كان يفصل بين مدين وأصحاب الأيكة هو هذا الشجر المُلْتف الكثيف القريب من البحر . ولذلك نجد هنا الدليل على أن شعيباً عليه السلام قد بُعِث إلى أُمتين هو قوله الحق :
{ وَإِنَّهُمَا . . } [ الحجر : 79 ] .
وقد انتقم الله من الأُمتين الظالمتين؛ مَدْين وأصحاب الأيكة .
ويقول الحق سبحانه :
{ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 79 ] .
والإمام هو ما يُؤتَم به في الرأي والفتيا ، أو في الحركات والسَّكنات؛ أو : في الطريق المُوصِّل إلى الغايات ، ويُسمَّى " إمام " لأنه يدلُّ على الأماكن أو الغايات التي نريد أن نصل إليها ، ذلك أنه يعلم كل جزئية من هذا الطريق .
وفيما يبدو أن أصحاب الأَيْكة قد تَمادَوْا في الظُّلْم والكفر ، وإذا كان سبحانه قد أخذ أهل مَدْين بالصيحة والرجفة؛ فقد أخذ أصحاب الأيكة بأن سلط عليهم الحَرَّ سبعة أيام لا يُظِلهم منه ظِلٌّ؛ ثم أرسل سحابة وتمنَّوْا أن تُمطر ، وأمطرتْ ناراً فأكلتهم ، كما قالت كتب الأثر .
وهذا هو العذاب الذي قال فيه الحق سبحانه : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الشعراء : 189 ] .
وهكذا تكون تلك العِبَر بمثابة الإمام الذي يقود إلى التبصُّر بعواقب الظلم والشرك .
وينقلنا الحق سبحانه إلى خبر قوم آخرين ، فيقول تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ . . } .
(1/4813)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
وأصحاب الحِجْر هم قوم صالح ، وكانت المنطقة التي يقيمون فيها كلها من الحجارة؛ ولا يزال مُقَامهم معروفاً في المسافة بين خيبر وتبوك . وقال فيهم الحق سبحانه : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 128-129 ] .
وهم قد كذّبوا نبيهم " صالح " وكان تكذيبهم له يتضمن تكذيب كل الرسل ، ذلك أن الرسل يتواردون على وحدانية الله ، ويتفقون في الأحكام العامة الشاملة ، ولا يختلف الأنبياء إلا في الجزئيات المناسبة لكل بيئة من البيئات التي يعيشون فيها .
فبيئة : تعبد الأصنام ، فيُثبِت لهم نبيُّهم أن الأصنام لا تستحق أن تُعبد .
وبيئة أخرى : تُطفِّف الكيْل والميزان؛ فيأتي رسولهم بما ينهاهم عن ذلك .
وبيئة ثالثة : ترتكب الفواحش فيُحذِّرهم نبيهم من تلك الفواحش .
وهكذا اختلف الرسل في الجزئيات المناسبة لكل بيئة؛ لكنهم لم يختلفوا في المنهج الكُليّ الخاص بالتوحيد والمنهج ، وقد قال الحق سبحانه عن قوم صالح أنهم كذَّبوا المُرْسلين؛ بمعنى أنهم كذّبوا صالحاً فيما جاء به من دعوة التوحيد التي جاء بها كل الرسل .
ويقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك : { وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا . . . } .
(1/4814)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
وهنا يُوجِز الحق - سبحانه وتعالى - ما أرسل به نبيهم صالح من آيات تدعوهم إلى التوحيد بالله ، وصِدْق بلاغ صالح عليه السلام الذي تمثَّل في الناقة ، التي حذَّرهم صالحَ أنْ يقربوها بسوء كَيْلا يأخذهم العذاب الأليم .
لكنهم كذَّبوا وأعرضوا عنه ، ولم يلتفتوا إلى الآيات التي خلقها الحق سبحانه في الكون من ليل ونهار ، وشمس وقمر ، واختلاف الألْسُنِ والألوان بين البشر .
ونعلم أن الآيات تأتي دائماً بمعنى المُعْجزات الدَّالة على صدْق الرسول ، أو : آيات الكون ، أو : آيات المنهج المُبلَّغ عن الله ، تكون آية الرسول من هؤلاء من نوع ما نبَغ فيه القوم المُرْسَل إليهم؛ لكنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثلها .
وعادةً ما تثير هذه الآية خاصيَّة التحدِّي الموجودة في الإنسان ، ولكن أحداً من قوم الرسل أيّ رسول لا يُفلِح في أن يأتي بمثل آية الرسول المرسل إليهم .
ويقول الحق سبحانه عن قوم صالح :
{ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [ الحجر : 81 ] .
أي : تكبَّروا وأعرضوا عن المنهج الذي جاءهم به صَالح ، والإعراض هو أنْ تُعطِي الشيء عَرْضك بأن تبتعدَ عنه ولا تُقبِل عليه ، ولو أنك أقبلتَ عليه لَوجدتَ فيه الخير لك .
وأنت حين تُقبِل على آيات الله ستجد أنها تدعوك للتفكُّر ، فتؤمن أن لها خالقاً فتلتزم بتعاليم المنهج الذي جاء به الرسول .
وأنت حين تُفكِّر في الحكمة من الطاعة ستجد أنها تُريحك من قلق الاعتماد على أحد غير خالقك ، لكن لو أخذتَ المسائل بسطحية؛ فلن تنتهي إلى الإيمان .
ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر من القرآن الكريم : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
وفي هذا تكليفٌ للمؤمن كُل مؤمن أن يُمعِنَ النظر في آيات الكون لعلَّه يستنبط منها ما يفيد غيره .
وأنت لو نظرتَ إلى كل المُخْترعات التي في الكون لوجدتَّها نتيجةً للإقبال عليها من قِبَل عالم أراد أنْ يكتشفَ فيها ما يُريح غيره به .
والمثل في اكتشاف قُوَّة البخار التي بدأ بها عَصْر من الطاقة واختراع المُعدات التي تعمل بتلك الطاقة ، وحرّك بها القطار والسفينة؛ مثلما سبقها إنسان آخر واخترع العجلة لِيُسهّل على البشر حَمْل الأثقال .
وإذا كان هذا في أمر الكَوْنيّات؛ فأنت أيضاً إذا تأملتَ آيات الأحكام في " افعل " و " لا تفعل " ستجدها تفيدُك في حياتك ومستقبلك ، والمثَل على ذلك هو الزكاة؛ فأنت تدفع جزءً يسيراً من عائد عملك لغيرك مِمَّنْ لا يَقْوَى على العمل ، وستجد أن غيرك يعطيك إنْ حدث لك احتياج؛ ذلك أنك من الأغيار .
ويتابع الحق سبحانه قوله عن قوم صالح : { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ . . } .
(1/4815)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
وهنا يمتنُّ عليهم بأن منحهم حضارةً ، ووهبهم مهارة البناء والتقدُّم في العمارة؛ وأخذوا في بناء بيوتهم في الأحجار ، ومن الأحجار التي كانت توجد بالوادي الذي يقيمون فيه ، وقطعوا تلك الأحجار بطريقة تُتيح لهم بناء البيوت والقُصور الآمنة من أغيار التقلُّبات الجوية وغيرها .
ونعلم أن مَنْ يعيش في خَيْمة يعاني من قِلَّة الأمن؛ أما مَنْ يبني بيته من الطوب اللَّبن؛ فهو اكثر أمْناً مِمَّنْ في الخيمة ، وإنْ كان أقلَّ أماناً من الذي يبني بيته من الأسمنت المُسلَّح ، وهكذا يكون أَمنْ النفس البشرية في سكنها واستقرارها من قوة الشيء الذي يحيطه .
وإذا كان قوم صالح قد أقاموا بيوتهم من الحجارة فهي بالتأكيد اكثر أَمْناً من غيرهم ، ونجد نبيهم صالحاً ، وقد قال لهم ما أورده الحق سبحانه في كتابه الكريم : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 74 ] .
ولكنهم طَغَوْا وبَغَوْا وأنكروا ما جاء به صالح - عليه السلام - فما كان من الحق سبحانه إلا أنْ أرسلَ عليهم صيحةً تأخذهم .
وقال الحق سبحانه : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة . . . . } .
(1/4816)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
وهم إذا كانوا قد اتخذوا من جبليّة الموقع أَمْناً لهم؛ فقد جاءت الصيحة من الحق سبحانه لِتدكَّ فوق رؤوسهم ما صنعوا ، وقد قال الحق سبحانه عنهم من قبل في سورة هود : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ هود : 67 ] .
وقال سبحانه عنهم أيضاً : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ الأعراف : 78 ] .
والرَّجْفة هي الزلزلة ، والصَّيْحة هي بعض من توابع الزلزلة ، ذلك أن الزلزلة تُحدِث تموجاً في الهواء يؤدي إلى حدوث أصوات قوية تعصف بمَنْ يسمعها .
وهم حسب قَوْل الحق سبحانه قد تمتَّعوا ثلاثة أيام قبل أنْ تأخذهم الصَّيْحة كَوَعْد نبيهم صالح عليه السلام لهم : { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] .
ويقول الحق سبحانه عن حالهم بعد أنْ أخذتهم الصَّيْحة : { فَمَآ أغنى . . . } .
(1/4817)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
وهكذا لم تنفعهم الحصون في حمايتهم من قدَر الله ، ونعلم أن قدر الله أو عقابه لا يمكن أنْ يمنعه مانعٌ مهما كان؛ فهو القائل : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] .
وهكذا لا يمكن أن يحميَ الإنسانُ نفسَه مما قَدَّره الله له ، أو مِمَّا يشاء الحق أن يُنزِله على الإنسان كعقاب .
وسبحانه القائل : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } [ آل عمران : 154 ] .
وهكذا خَرُّوا جميعاً في قاع الهلاك ، ولم تَحْمِهِم حصونهم من العذاب الذي قدَّره سبحانه .
وبعد ذلك ينقلنا الحق سبحانه إلى الآيات الكونية؛ فيقول : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات . . } .
(1/4818)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
والحقُّ هو الشيء الثابت الذي لا تَعْتوره الأغيار ، والمثَل هو نظام المجرَّات وحركة الشمس والقمر؛ تجدها مُنْضبِطة؛ ذلك أن الإنسان لا يتدخَّل فيها ، وليس للإنسان - صاحب الأغيار - معه أيُّ اختيار .
ولذلك نجد أن الفسادَ لا ينشأ في الكون من النواميس العُلْيا ، ولكن من الأمور التي يتدخَّل فيها الإنسان ، وليس معنى ذلك أنْ يتوقفَ الإنسانُ عن الحركة في الأرض؛ ولكن عليه أنْ يرعى منهج الله ، ويمتنع عَمَّا نهى عنه وأنْ يطيعَ ما أمره به .
وأنت لو طبَّقْتَ أوامر الحق سبحانه في " افعل " و " لا تفعل " لاستقامتْ الدنيا في الأمور التي لكَ دَخْل فيها كانتظام الأمور التي ليس لك دَخْل فيها .
واقرأ إنْ شِئْتَ قَوْله الحق : { الرحمن * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان * الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ * والنجم والشجر يَسْجُدَانِ * والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان } [ الرحمن : 1-8 ] .
فإن كنتم تريدون أن تنتظمَ أموركم في الحياة الدنيا؛ فلا تطغَوْا في ميزان أيِّ شيء .
وهنا يُذكِّرنا الحق سبحانه ألاَّ نقعَ في خطأ الوهم بأننا سنأخذ نِعَم الدنيا دون ضابط أو رابط؛ فالحساب قادم لا محالة ، ولذلك قال الحق سبحانه : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } [ الزخرف : 41-42 ] .
أي : مَا قدّره الله سيقع دون أنْ يَصُدَّه شيء مهما كان ، وإمَّا ترى ذلك في حياتك ، أو تراه لحظة البَعْث .
والدليل هو ما حاق بمَنْ كفروا وظلموا وكذَّبوا الرسل ، وعاثوا في الأرض مُفْسدين . وأهلكهم الحق سبحانه بعذابه تطهيراً للأرض مِنْ فسادهم ، هذا جزاؤهم في الدنيا ، وهناك جزاء آخر في اليوم الآخر .
وفي هذا القول تَسلْية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو حين يُعْلِمه الله ما حاقَ بالأمم السابقة التي كذَّبت الرسل؛ هانتْ عليه المتاعب والمشاقّ التي عاناها من قومه ، وليسهُلَ عليه من بعد ذلك أن يتذرَّع بالصبر الجميل ، حتى يأتي وَعْدُه سبحانه ، وليس عليك يا محمد أنْ تُحمّل نفسك ما لاَ تطيق .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ . . . . } .
(1/4819)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
وقد جاء سبحانه هنا بالاسم الذي خلق به من عَدَم ، وأمدَّ من عُدْم . وقيُّومية الربوبية هي التي تمدُّ كل الكون برزقه وترعاه؛ فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الكون ، وهو الذي يرعاه .
وكلمة : { رَبَّكَ . . } [ الحجر : 86 ] .
تُوحي بأنه إنْ أصابك شيءٌ بسبب دعوتك ، وبسبب كنود قومك أمامك وعدائهم لك ، فربُّكَ يا محمد لن يتركهم .
والرب كما نعلم هو مَنْ يتولَّى تربية الشي إلي ما يعطيه مناط الكمال ، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط ، ولكنه ينطبق على الدنيا والآخرة .
وقوله : { الخلاق } [ الحجر : 86 ] .
مبالغة في الخَلْق ، وهي امتداد صفة الخَلْق في كل ما يمكن أنْ يخلق ، لأنه سبحانه هو الذي أعدَّ كل مادة يكون منها أيّ خَلْق ، وأعدّ العقل الذي يُفكِّر في أيِّ خلق ، وأعدَّ الطاقة التي تفعل ، وأعدَّ التفاعل بين الطاقة والمادة والعقل المُخطَّط لذلك .
وما يفعله الإنسان المخلوق هو التوليف بين ما خلقه الله من مواد ، وإنْ وُجِد خلاق من البشر؛ فهو وحده سبحانه الذي يهب إنساناً ما أفكاراً لينفذها ، ثم يأتي مَنْ هو أذكى منه لِيُطوِّرها .
ولذلك قال الحق سبحانه : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .
وهكذا رأينا كل المخترعات البشرية تتطوَّر؛ والمثَل على ذلك هو آلة الحياكة التي صارت تعمل الآن آلياً بعد أن كانت المرأة تجلس عليها لِتكدَّ في ضَبْطها ، وكذلك غسَّالة الملابس ، وغسالة الأطباق والسيارات والطائرات .
ونلحظ أن كل ما خلقه الله يمكن أن يُستفاد من عادمه مثل رَوَث البهائم؛ الذي يُستخدم كسماد ، أما عادم السيارات مثلاً فهو يُلوِّث الجو . وشاشة التلفزيون تُصدِر من الإشعاعات مَا يضر العين ، وتَمَّ بحْثُ ذلك لتلافي الآثار الجانبية في مثل تلك الأدوات التي يسهل الإنسان بها حياتها .
أما ما يخلقه الله فلا توجد له آثار جانبية؛ فسبحانه ليس صاحب عِلْم مُكْتسب أو ممنوح؛ بل العلم صفة ذاتية فيه .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً . . . } .
(1/4820)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
وهنا يمتنُّ الحق سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يكفيه أنْ أنزلَ عليه القرآن الكتاب المعجزة ، والمنهج الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه . فالقرآن يضمُّ كمالاتِ الحق التي لا تنتهي؛ فإذا كان سبحانه قد أعطاك ذلك ، فهو أيضاً يتحمَّل عنك كُلَّ ما يُؤلِمك .
والحق سبحانه هو القائل : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] .
ويقول له الحق أيضاً : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ } [ الأنعام : 33 ] .
وأزاح الحق سبحانه عنه هموم اتهامهم له بأنه ساحر أو مجنون؛ وقال له سبحانه : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .
ويكشف له سبحانه : إنهم يؤمنون أنك يا محمد صادق ، ولكنهم يتظاهرون بتكذيبك .
ويتمثَّل امتنانُ الحق سبحانه على رسوله أنه أنزل عليه السَّبْع المثاني ، واتفق العلماء على أن كلمة " المثاني " تعني فاتحة الكتاب ، فلا يُثنَّى في الصلاة إلا فاتحة الكتاب .
ونجده سبحانه يَصِف القرآنَ بالعظيم؛ وهو سبحانه يحكم بعظمة القرآن على ضَوْء مقاييسه المُطْلقة؛ وهي مقاييس العظمة عنده سبحانه .
والمثَل الآخر على ذلك وَصفْه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] .
وهذا حُكْم بالمقاييس العُلْيا للعظمة ، وهكذا يصبح كُلّ متاع الدنيا أقلَّ مِمَّا وهبه الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا ينظرَنَّ أحدٌ إلى ما أُعطِىَ غيره؛ فقد وهبه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ونلحظ أن الحق سبحانه قد عطف القرآن على السَّبْع المثاني ، وهو عَطْف عام على خَاصٍّ؛ كما قال الحق سبحانه : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] .
ونفهم من هذا القول أن الصلاة تضمُّ الصلاة الوُسْطى أيضاً ، وكذلك مثل قول الحق ما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } [ نوح : 28 ] .
وهكذا نرى عَطْف عام على خاص ، وعَطْف خاص على عام .
أو : أنْ نقولَ : إن كلمة " قرآن " تُطلَق على الكتاب الكريم المُنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول آية في القرآن إلى آخر آية فيه ، ويُطلق أيضاً على الآية الواحدة من القرآن؛ فقول الحق سبحانه : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] .
هي آية من القرآن؛ وتُسمَّى أيضاً قرآناً .
ونجده سبحانه يقول : { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] .
ونحن في الفجر لا نقرأ كل القرآن ، بل بعضاً منه ، ولكن ما نقرؤه يُسمَّى قرآناً ، وكذلك يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] .
وهو لا يقرأ كُلَّ القرآن بل بعضه ، إذن : فكلُّ آية من القرآن قرآن .
وقد أعطى الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم السَّبْع المثاني والقرآن العظيم ، وتلك هي قِمَّة العطايا؛ فلله عطاءاتٌ متعددة؛ عطاءات تشمل الكافر والمؤمن ، وتشمل الطائع والعاصي ، وعطاءات خاصة بمَنْ آمن به؛ وتلك عطاءات الألوهية لمَنْ سمع كلام ربِّه في " افعل " و " لا تفعل " .
(1/4821)
وسبحانه يمتد عطاؤه من الخَلْق إلى شَرْبة الماء ، إلى وجبة الطعام ، وإلى الملابس ، وإلى المَسْكن ، وكل عطاء له عُمْر ، ويسمو العطاء عند الإنسان بسُمو عمر العطاء ، فكل عطاء يمتدُّ عمره يكون هو العطاء السعيد .
فإذا كان عطاء الربوبية يتعلَّق بمُعْطيات المادة وقوام الحياة؛ فإن عطاءات القرآن تشمل الدنيا والآخرة؛ وإذا كان ما يُنغِّص أيَّ عطاء في الدنيا أن الإنسانَ يُفارقه بالموت ، أو أن يذوي هذا العطاء في ذاته؛ فعطاء القرآن لا ينفد في الدنيا والآخرة .
ونعلم أن الآخرة لا نهايةَ لها على عكس الدنيا التي لا يطول عمرك فيها بعمرها ، بل بالأجل المُحدَّد لك فيها .
وإذا كانت عطاءاتُ القرآن تحرس القيم التي تهبُك عطاءات الحياة التي لا تفنَى وهي الحياة الآخرة؛ فهذا هو أَسْمى عطاء ، وإياك أن تتطلعَ إلى نعمة موقوتة عند أحد منهم من نِعَم الدنيا الفانية؛ لأن مَنْ أُعطِي القرآن وظنَّ أن غيره قد أُعْطِي خيراً منه؛ فقد حقر ما عَظَّم الله .
وما دام الحق سبحانه قد أعطاك هذا العطاء العظيم ، فيترتب عليه قوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ . . . } .
(1/4822)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
والمَدُّ : هو مَطُّ الشيء وزيادته . وللعيْن مسافات تُرَى فيها المرائي؛ كُل عَيْن حَسْب قدرتها ، فهناك مَنْ يتمتع ببصر قوي وحادّ ، وهناك مَنْ ليس كذلك .
ويتراوح الناس في قدرة إبصارهم حسب توصيف وضعه الأطباء؛ ليعالجوا ذلك على قَدْر استطاعتهم العلمية . وفي المثَل اليومي نسمع مَنْ يقول " فلان عنده بُعْد نظر " أي : يملك قدرة على أن يقيسَ رُدود الأفعال ، ويتوقّع ما سوف يحدث ، وما يترتَّب على نتائج أيِّ فعل .
والمراد بمَدِّ العين ليس إخراج حبة العين ومدِّها؛ ولكن المراد إدامة النظر والإمعان ، ولكن الحق سبحانه عبَّر في القرآن هذا التعبير ، وكأن الإنسان سيخرج حبَّة عينه ليجري بها ، وليُمعِن النظر ، وهذا ما يفهم من منطوق الآية ، والمنطوق يشير إلى المفهوم المراد ، وهذا عين الإعجاز .
وكلمة " متاع " تفيد أن شيئاً يُتمتَّع به وينتهي ، ولذلك يُوصَف متاع الدنيا في القرآن بأنه متَاعُ الغرور ، أي : أنه متاع موقوت بلحظة .
وقول الحق سبحانه :
{ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ . . . } [ الحجر : 88 ] .
هي جَمْع زَوْج ، وسبق أنْ أوضحنا أن كلمة " زوج " هي مفرد ، والذكَر والأنثى حين يتلاقيان يصبح اسمهما زوجين ، والحق سبحانه هو القائل : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا } [ يس : 36 ] .
والأزواج كلُّها تعني الفرد ، ومعه الفرد من كل صنف من الأصناف . المراد بكلمة أزواج هنا أن المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا شِلَلاً شِللاً؛ ضال ومضل؛ وضال آخر معه مُضِل .
ولحظة الحساب سيقول كل منهم : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] .
وهكذا كانت كلمة " أزواج " تدل على أصناف متعددة من الذين يقفون معاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومُنكِرين لمنهجه .
وفي موقع آخر من القرآن يكشف سبحانه عَمَّنْ أغوتْهم الشياطين ، ويحشرهم الحق سبحانه مع الشياطين في نار جهنم : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس } [ الأنعام : 128 ] .
أي : يا معشرَ الجنِّ قد استطعتُم أنْ تُوحوا لكثير من الإنس بالغواية والمعصية ، ليكونوا أولياءكم ، وهكذا نجد أن كل جماعة تتفق على شيء نُسمِّيهم أزواجاً .
وهنا يُوضِّح الحق سبحانه : إياكَ أنْ تَمُدَّ عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم ، لأننا أعطيناك أعلى عطاءٍ ، وهو معجزة القرآن حارس القيم ، والذي يضمُّ النَّهْج القويم .
ويتابع سبحانه :
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [ الحجر : 88 ] .
ويُقال : حزنت منه ، وحَزِنت عليه ، وحَزِنت له؛ فمَنْ ناله ما يُحزن ، ولم يَصْدُر عنك هذا السبب في حزنه؛ فأنت تقول له " حَزِنت لك " .
وآخر ارتكب فِعْلاً يُسِيء إلى نفسه؛ فأنت تحزن عليه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَزِن عليهم؛ فقد كان يُحِبّ أنْ يؤمنوا ، وأنْ يتمتعوا بالنعمة التي يتمتع هو بها .
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم :
(1/4823)
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
فمِنْ رأفته صلى الله عليه وسلم صَعُبَ على نفسه أنْ ينَال قومه مشقةٌ؛ فالرحمة والرأفة مصدرها ما وهبه الله إياه من فَهْم لقيمة نعمة الإيمان .
وفي آية أخرى يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
أي : أنه لن ينقصَ منك شيء في حالة عدم إيمانهم ، ولن يزيدك إيمانهم أجراً؛ ذلك أن عليك البلاغَ فقط؛ فلماذا تحزن على عدم إيمانهم؟
وقول الحق سبحانه هنا :
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [ الحجر : 88 ] .
دليل على أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يُؤمِن قومه ، محبةً فيهم ، وليتعرَّفوا على حلاوة الإيمان بالله . وكان صلى الله عليه وسلم يتألم ويحز في نفسه عدم إيمانهم ، لدرجة أن الحق سبحانه قال له في آية أخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ] .
وهنا يُوضِّح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن إيمانهم ليس أمراً صعباً عليه سبحانه؛ ذلك أنه قادر أنْ ينزِّل آية من السماء تجعلهم خاضعين؛ مؤمنين؛ لكنه سبحانه يحب أن يأتيه خَلْقُه محبةً ، وأن يُحسِنوا استخدام ما وهبهم من خاصية الاختيار .
فسبحانه لا يقهر أحداً على الإيمان به؛ فالإيمان عَمَل قلوب ، وسبحانه لا يريد قوالب ، وإنما يريد قلوباً خاشعة ، ولو شاء سبحانه من خَلْقه أنْ يأتوه طواعية؛ فالقهر من القاهر يُثبِت له القدرة ، ولكن أنْ يأتيَ الخَلْق إلى خالقهم طواعية؛ فهذا يُثبت له المحبوبية .
والحق سبحانه يريد أن يكون الإيمان نابعاً من محبوبية العابد للمعبود؛ ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ . . . } [ الحجر : 88 ] .
ثم يُوجِّه له الأمر بأنْ يُوجّه طاقة الحنان والمودَّة التي في قلبه إلى مَنْ يستحقها ، وهم المؤمنون برسالته صلى الله عليه وسلم ؛ وعليه أنْ يخفضَ جناحه للمؤمنين .
فكُلُّ حركة من الإنسان هي نزوع يتحرَّك من بعد وُجدْان ، والوُجْدان يُولِّد طاقة داخلية تُهيئ للنزوع وتدفع إليه ، فإن حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لعدم إيمان صناديد قريش برسالته؛ فهذا الحُزْن إنما يخصم ويأخذ من طاقته؛ فيأتيه الأمر من الحق سبحانه أن يُوفِّر طاقته ، وأنْ يُوجِّهها لمَنْ آمن به؛ وأن يخفِضَ جناحه لهم .
وخَفْض الجناح هو التواضُع؛ ذلك أن الجناحَ هو الجانب ، فحين يأتيك إنسانٌ تريد أنْ تتكبَّر عليه؛ فهو يقول " فلان لَوَى عنِّي جانبه " .
وهكذا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يتواضع مع المؤمنين؛ وأنْ يتوجه إليهم لا باستقامة قالبه ، بل أن ينزل هذا القالب قليلاً
وكلمة : { واخفض جَنَاحَكَ .
(1/4824)
. . } [ الحجر : 88 ] مأخوذة من خَفْض جناح الطائر ، فالطائر يرفع جناحه عند الطيران ، ولكن ما أنْ يلمسَ هذا الطائر فَرْخَه الصغير حتى يَخفِض جناحه له ليضمه إليه .
إذن : فالطاقة التي كنتَ تُوجِّهها يا رسول الله إلى مَنْ لا يستحق؛ عليك أنْ تُوجِّهها لِمَنْ يستحقها ، فيكفيك أن تُبلِّغ الناس جميعاً برسالتك؛ ومَنْ يؤمن منهم هو مَنْ يستحق طاقةَ حنانِك ورحمتك .
وخَفْض الجناح لِمَنْ آمن برسالتك لا يورثه كِبْراً عليك؛ بل يزيده أدباً معك .
وقد جاء في الأثر : " إذا عَزَّ أخوك فَهُنْه " أي : أنك إذا رأيتَ أخاك في وضع يعِزّ عليك ، فَهُنْ له أنت .
ومن قبل الإسلام قال الشاعر العربي :
صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ ... وقُلْنا القَوْمُ إخْوانُ
عَسَى الأيامُ أنْ يَرْجِعْ ... نَ قَوْماً كَالذِي كَانُوا
فَلمَّا صَرَّح الشَّر ... فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ
مَشَيْنَا مِشْيَةَ الليْثِ ... غَدا والليْثُ غَضْبَان
بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ ... وتَخْضِيعٌ وإقرانُ
وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ ... غَدَا والزِّق مَلآنُ
وَفِي الشَّرِّ نَجَاة حِي ... ينَ لاَ يُنجِيكَ إحسَانُ
وَبعضُ الحلمِ عِنْدَ الجَه ... لِ لِلْذلةِ إذْعَانُ
ونجد القرآن حينما يطبع خلق المؤمن بالله وبالمنهج؛ لا يطبعه بطابع واحد يتعامل به مع كل الناس ، بل يجعل طَبْعه الخُلقي مطابقاً لموقف الناس منه ، فيقول : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] .
ويقول أيضاً في وصف المؤمنين : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
وهكذا لم يطبع المؤمن على الشدة والعزة ، بل جعله يتفاعل مع المواقف؛ فالموقف الذي يحتاج إلى الشدة فهو يشتد فيه؛ والموقف الذي يحتاج إلى لِينٍ فهو يلين فيه .
والحكمة الشاعرة تقول :
وَوَضْعُ النَّدى في مَوضْعِ السَّيف بالعلي مضر ... كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضعِ النَّدَى
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَقُلْ إني . . . } .
(1/4825)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
ونعلم أن الرسل مُبشرِّين ومُنذرِين؛ ولسائل أنْ يقولَ : ولماذا تأتي صيغة الإنذار دائماً؟ وأقول : إن مَنْ يؤمن هو مَنْ يتلقَّى البشارة؛ أما مَنْ عليه أنْ يتوقَّع النِّذارة فهو الكافر المُنكِر .
وفي الإنذار تخويفٌ بشيء ينالُ منك في المستقبل؛ وعليك أنْ تَعُد العُدَّة لتبتعد بنفسك أن تكون فيه ، والتبشير يكون بأمر تتمناه النَّفْس . وبالإنذار والتبشير يتضح الموقف بجلاء ، ويُحَاط الإنسان بكل قضايا الحياة؛ ويتضح مسَار كُل أمرٍ من الأُمورِ .
وبذلك يكون الحق سبحانه في الآيتين السابقتين قد امتنَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد آتاه السبع المثاني والقرآن العظيم؛ ولذلك يوصيه ألاَّ تطمح نفسه إلى ما أوتي بعضٌ من الكفار من جاه ومال ، فالقرآن عزُّ الدنيا والآخرة .
ويوصيه كذلك بألا يحزنَ عليهم نتيجة انصرافهم عن دعوته ، فليس عليه إلا البلاغ ، وأن يتواضعَ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ليزداد ارتباطهم به ، فهم خير من كل الكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم . ثم يُوصيه الحق سبحانه أن يُبلغ الجميع أنه نذير وبشير ، يوضح ما جاء في القرآن من خير يعُمَّ على المؤمنين ، وعقاب ينزل على الكافرين .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنما مثَلي ومثَل ما بعثني اللهُ به كمثَلِ رجلٍ أتى قوماً فقال : يا قوم ، إني رأيتُ الجيشَ بعينيَّ ، وإني أنا النذير العُرْيان ، فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فَأدْلجوا فانطلقوا على مهلهِم فَنجَوْا ، وكذَّبت طائفة منهم ، فأصبحوا مكانهم فصبَّحهم الجيش ، فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثَل مَنْ أطاعني فاتَّبع ما جِئْتُ به ، ومثَل مَنْ عصاني وكذَّب بما جئتُ به من الحقِّ " .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { كَمَآ أَنْزَلْنَا . . . } .
(1/4826)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
ونعلم أنه سبحانه قد أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ، واستقبله الناس استقباليْنِ : فمنهم مَنِ استمع إلى القرآن فتبصَّر قول الحق وآمن ، وفي هؤلاء قال الحق سبحانه : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ المائدة : 83 ] .
والصنف الآخر استمع إلى القرآن ، فكانت قلوبهم كالحجارة ، وفيهم قال الحق سبحانه : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ] .
ذلك أن قلوبهم مُمْتلئة بالكفر؛ وقد دخلوا ومعهم حكم مُسْبق ، فلم يقيموا ميزانَ العدل ليقيسوا به فائدة ما يسمعون .
ولذلك أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن ، فالمسألة لها سوابق مع غيرك من الرسل؛ فقد نزل كل رسول بكتاب يحمل المنهج ، ولكن الناس استقبلوا تلك الكتب كاستقبال قومك لِمَا نزل إليك بين كافر ومؤمن ، واختلفوا في أمور الكُتب المنزَّلة إلى رسلهم .
وكان انقسامهم كانقسام قومك حول الكتاب المُنزَّل إليك ، فلا تحزنْ إنِ اتهموك بأنك ساحرٌ ، أو أن ما نزل إليك كتابُ شعر ، أو أنك تمارس الكهانة؛ أو فقدوا القدرة على الحكم عليك واتهموك بالجنون .
وهكذا قَسَّموا القرآن المُنزَّل من الله سبحانه إلى أقسام هي : السِّحْر ، والكهانة ، والشعر ، والجنون ، كما فعل من قبلهم أقوام أخرى :
فمنهم مَنْ قال ، وأثبته القرآن عليهم : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .
وهكذا تعلم يا رسول الله أنك لست بِدْعاً من الرسل ، ذلك أن الرسل لا يأتون أقوامهم إلا وقد طَمَّ الفساد والبلاء ، ولا يوجد فساد إلا بانتفاع واحد بالفساد بينما يضرُّ بالآخرين .
وإذا ما جاء رسول ليصلح هذا الفساد يهُبُّ أهل الاستفادة من الفساد ليقاوموه ويضعوا أمامه العراقيل؛ مثلما حدث معك يا رسول الله حين قال بعضهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] .
ومثل هذا القول إنما يدلُّ على أنهم لو صَفُّوا نفوسهم ، واستمعوا للقرآن لاهتدوا؛ لذلك يقول لهم سادتهم : { والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] .
أي : شَوِّشوا عليه .
وهكذا فالاقتسام الذي استقبل به الكفار القرآن سبق وأنْ حدث مع الرسل الذين سبقوك .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { الذين جَعَلُواْ . . . } .
(1/4827)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
وكلمة ( عضين ) تعني القطع؛ فيُقال للجزار حين يذبح الشاة أو العجل أنه قد جعله عِضين . أي : فصَل كُلَّ ذراع عن الآخر ، وكذلك قطع الفخذ؛ أي : أنه جعل الذبيحة قِطَعاً قِطَعاً بعد أنْ كانت أعضاء مُتصلة .
وكذلك كان القرآن حينما نزل كياناً واحداً؛ فأراد بعض من الكفار أن يُقطِّعوه إلى أجزاء . والمقصود هنا هم جماعة من اليهود وجماعة من النصارى الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أنْ يُقطِّعوا القرآن كما فعلوا مع الكتابين اللذين نزلا على موسى ، وهما التوراة؛ والإنجيل الذي جاء به عيسى .
وقد قال الحق سبحانه فيهما : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 13 ] .
أي : أن بعضاً من اليهود قد نَسُوا بعضاً من التوراة ، وكذلك نسى البعض من أتباع عيسى بعضاً من الإنجيل الذي نزل عليه .
وإنْ وجدنا لهم العذر في النسيان؛ فماذا عن الذي كتموه من تلك الكتب؟ وماذا عن الذي بدَّلوه وحرَّفوه من كلمات تلك الكتب؟ وماذا عن الذي أضافوه عليه ، ولم ينزل من عند الله؟ وقد فضح سبحانه كل ذلك في القرآن .
أو : أن اليهود استقبلوا القرآن استقبالَ مَنْ يُصدِّق بعضه مِمَّا لا يتعبهم ، وكذَّبوه في البعض الذي يتعبهم ، فقد كذَّبوا مثلاً أن كتابهم قد بشَّرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام .
وهكذا نرى كيف حاولوا أن يجعلوا القرآن عِضين ، أي : قطعاً مفصولة عن بعضها البعض ، وقد حاولوا ذلك بعد أن تبيَّن لهم أن القرآن مُؤثِّر وفاعل .
وشاء الحق سبحانه للقرآن أن يحمل النذارة والبشارة؛ فالرسول نذير بالقرآن المبين الواضح لِمَنِ اقتسموا الأمر بالنسبة لمحمد - عليه الصلاة والسلام - فقِسْم منهم تفرَّغ للاستهزاء بمحمد ومَنْ آمنوا معه؛ وجماعة أخرى قسَّمتْ أعضاءها ليجلسوا على أبواب مكة أثناء موسم الحج ، ويستقبلون القادمين للحج من البلاد المختلفة ليحذروهم من الاستماع لمحمد عليه الصلاة والسلام .
ومن هؤلاء مَنْ وصف الرسولَ صلى الله عليه وسم بالجنون؛ ومنهم مَنْ وصف القرآن بأنه شِعْر؛ ومنهم مَنْ وصفَ الرسول بأنه ساحر .
ثم يقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ . . . } .
(1/4828)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)
وهنا يُقسِم الحق سبحانه بصفة الربوبية التي تعهدتْ رسوله بالتربية والرعاية ليكون أهلاً للرسالة أنه لن يُسلِمه لأحد ، وهو سبحانه مَنْ قال : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] .
أي : أن كل رسول هو مصنوع ومَحْميّ بإرادته سبحانه؛ وتلك عناية الحماية للمنهجية الخاصة ، وعناية المصطفين الذين يحملونَ رسالته إلى الخَلْق؛ فقد رزق سبحانه خَلْقه جميعاً؛ والرسل إنما يأتون لمهمة تبليغ المنهج الذي يُدير حركة الحياة؛ لذلك لا بُدَّ أن يُوفّر لهم الحق سبحانه عناية من نوع خاص .
وقَوْل الحق سبحانه هنا :
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] .
يُبيِّن لنا أنه سيسألهم سبحانه عن أدقِّ التفاصيل؛ ومجرد توجيه السؤال إليهم فيه لَوْن من العذاب .
ويحاول البعض مِمَّنْ يريدون أنْ يعثروا على تعارض في القرآن أن يقولوا : كيف يقولَ الله مرة : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .
ويقول في اكثر من موقع بالقرآن أنه سيسأل هؤلاء المُكذِّبين؛ فكيف يُثبِت السؤالَ مرة ، وينفيه مرة أخرى؟
ونقول لهؤلاء : أنتم تستقبلون القرآن بسطحية شديدة ، فهذا الذي تقولون إنه تعارض إنما هو مجرد ظاهر من الأمر ، وليس تعارضاً في حقيقة الأمر .
ونحن نعلم أن السؤال أيّ سؤال له مُهِمتان ، المُهِمة الأولى : أن تعلم ما تجهل . والمهمة الثانية : لتقرَّ بما تعلم .
والحق سبحانه حين ينفي سؤالاً فهو ينفي أن أحداً سيُخبره بما لا يعلم سبحانه؛ وحين يثبت السؤال؛ فهذا يعني أنه سيسألهم سؤالَ الإقرار .
وهكذا نعلم أن القرآن إذا أثبت حدثاً مرة ونفَاهُ مرة أخرى ، فاعلم أن الجهة مُنفكّة ، أي : أن جهة النفي غَيْر جهة الإثبات ، وكُلٌّ منهما لها معنًى مختلف .
وقوله هنا :
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] .
يعني أن الضَّال والمُضِلْ ، والتابع والمتبوع سَيُسألون عَمَّا عملوا . ثم يقول الحق سبحانه : { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
(1/4829)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
والعمل كما نعلم هو اتجاه جارحة إلى مُتعلّقها؛ فجارحةُ العين مُتعلِّقها أنْ ترى؛ وجارحةُ اللسان مُتعلِّقها أن تتكلم ، وجارحةُ اليد إما أنْ تُربّت ، وإما أنَ تبطشَ .
وهكذا فكُلُّ ما تصنعه ملكَاتُ الإدراك في النفس البشرية نُسمِّيه عملاً . وسبق أن علمنا أن العمل ينقسم إلى قول وفعل .
ويقول الحق سبحانه : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] .
أي : تذكَّروا أن الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء ، وأن كل ما تعملونه يعلمه ، وأنكم ملاقونه يوم القيامة ومحتاجون إلى رحمته ومغفرته .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ . . . } .
(1/4830)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
أي : افرغ لِمُهمتك؛ فالصّدع تصنع شقاً في متماسك ، كما نشق زجاجاً بالمشرط الخاص بذلك ، أو ونحن نصنع شقاً في حائط . والرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء لِيشقَّ الكفر ويهدم الفساد القوي المتماسك الذي يَقْوي بقوة صناديد قريش .
وقد شاع ذلك المصطلح " الصدع " في الزجاج؛ لأن أيَّ شقٍّ في أيِّ شيء من الممكن أنْ يلتئمَ إلا في الزجاج؛ لأنه يصعب أن يجمع الإنسان الفتافيت والقطع الصغيرة التي تنتج من صدعه ، وقد جاء الإيمان ليصدع بنيان الكفر والفساد المتماسك .
وقول الحق سبحانه :
{ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } [ الحجر : 94 ] .
أي : أَعْطِهم عرض كتفيك ، ولا تسأل عنهم؛ فَهُم لن يُسلِموا لك ، ذلك أنهم مستفيدون من الفساد الذي جِئْتَ أنت لتهدمه ، ولكنهم سيأتون لك تباعاً بعد أن تتثبت دعوتُك ، وتصل قلوبهم إلى تيقُّن أن ما جئتَ به هو الحق .
والمثَل هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص؛ فقد قالا : " لقد استقر الأمر لمحمد ، ولم تَعُدْ معارضتنا له تفيد أحداً " ، ودخلاَ الإسلام .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ . . . } .
(1/4831)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
فبعد أنْ قال له : { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } [ الحجر : 94 ] .
وبعد أن ثبت لكل مَنْ عاش تلك الفترة أن كل مُستهزيء بمحمد صلى الله عليه وسلم قد ناله عقاب من السماء . فها هو ذا الوليد بن المغيرة الذي يتبختَّر في ثيابه؛ فيسير على قطعة من الحديد ، فيأنَفُ أن ينحنيَ لِيُخلّص ثوبه الذي اشتبك بقطعة الحديد؛ فتُجرح قدمه وتُصاب بالغرغرينا ويقطعونها له ، ثم تنتشر الغرغرينا في كُلِّ جسده إلي أنْ يموتَ .
وها هو الثاني الأسود بن عبد يغوث يُصاب بمرض في عينيه؛ ويُصاب بالعمَى ، وكذلك الحارث بن الطلاطلة ، والعاصي بن وائل .
وكل مستهزيء برسول الله صلى الله عليه وسلم قد ناله عقابٌ ما ، ومَنْ لم تُصِبْه عاهة أو آفة صرعتْه سيوف المسلمين في بدر ، لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدد المواقع التي سيلْقى فيها كل واحد من صناديد قريش حَتْفه؛ فقال : هنا مصرع فلان ، وهناك مصرع فلان .
وقد أوضح صلى الله عليه وسلم تلك المواقع من قبل أن تبدأ المعركة ، ونعلم أن الحرب تتطلب كَراً وفَراً ، ولكن ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدث بالضبط .
ويُحدِّد الحق سبحانه نوعية هؤلاء المستهزئين بقوله : { الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله . . . } .
(1/4832)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
أي : أن هؤلاء المشركين الذين يَهْزءون بك لهم عذابهم؛ ذلك أنهم أشركوا بالله سبحانه ، وحين يقول الحق سبحانه :
{ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر : 96 ] .
ففي هذا القول استيعاب لكل الأزمنة ، أي : سيعلمون الآن ومن بعد الآن ، فكلمة " سوف " تتسع لكل المراحل ، فالحق سبحانه لم يأخذهم جميعاً في مرحلة واحدة ، بل أخذهم على فترات .
فحين يأخذ المُتطرِّف في الإيذاء؛ قد يرتدع مَنْ يُؤذِي ، ويتراجع عن الاستمرار في الإيذاء ، وقد يتحوّل بعضهم إلى الإيمان؛ فمَنْ كانت شِدّته على رسول الله صلى الله عليه وسلم تصبح تلك الشدة في جانب الرسول صلى الله عليه وسلم .
وها هو المثَلُ واضح في عكرمة بن أبي جهل؛ يُصَاب في موقعة اليرموك؛ فيضع رأسه على فَخذِ خالد بن الوليد ويسأله : يا خالد ، أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيرد خالد : " نعم " . فيُسلِم الروح مُطْمئناً .
وهؤلاء المستهزئون؛ قد أشركوا بالله؛ فلم تنفعهم الآلهة التي أشركوها مع الله شيئاً ، وحين يتأكد لهم ذلك؛ فَهُمْ يتأكدون من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أبلغ عن الحق سبحانه .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ . . . } .
(1/4833)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
وفي هذا القول الكريم يتجلَّى تقدير الحق سبحانه لمشاعر النبوة ، فالحق يُكلِّفه أنْ يفعلَ كذا وكذا ، وسبحانه يعلم أيضاً ما يعانيه صلى الله عليه وسلم في تنفيذ أوامر الحق سبحانه .
ورد هذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .
فأنت يا رسولَ الله أكرم من أنْ تكذبَ ، فقد شهدوا لك بحُسْن الصدق عبر معايشتهم لك من قبل الرسالة .
وهنا يقول سبحانه :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] .
ومعنى ضيق الصدر أنْ يقِلّ الهواء الداخل عَبْر عملية التنفُّس إلى الرئتين؛ فمن هذا الهواء تستخلص الرئتان الأوكسجين؛ وتطرد ثاني أوكسيد الكربون؛ ويعمل الأكسجين على أنْ يُؤكسِدَ الغذاء لِينتجَ الطاقة؛ فإنْ ضاق الصَّدْر صارت الطاقة قليلة .
والمثَل يتضح لِمَنْ يصعدون السُّلَّم العالي لأيّ منزل أو أيّ مكان؛ ويجدون أنفسهم ينهجون؛ والسبب في هذا النهجَ هو أن الرئة تريد أنْ تُسرِعِ بالتقاط كمية الهواء أكبر من تلك التي تصل إليها ، فيعمل القلب بشدة اكثر كي يُتيح للرئةِ أن تسحبَ كمية أكبر من الهواء .
أما مَنْ يكون صدره واسعاً فهو يسحب ما شاء من الهواء الذي يتيح للرئة أن تأخذَ الكمية التي تحتاجها من الهواء ، فلا ينهج صاحب الصدر الواسع .
فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يُكذِّبه أحد ، أو يستهزيء به أحد كان يضيق صَدْره فتضيق كمية الهواء اللازمة للحركة؛ ولذلك يُطمئِنه الحق سبحانه أن مَدَده له لا ينتهي .
وأنت تلحظ عملية ضيق الصدر في نفسك حين يُضايقك أحد فتثور عليه؛ فيقول لك : لماذا يضيق صدرك؟ وَسِّع صدرك قليلاً .
والحق سبحانه يقول في موقع آخر : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] .
أي : يُوسّع صدره ، وتزداد قدرته على فَهْم المعاني التي جاء بها الدين الحنيف .
ويقول أيضاً : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } [ الأنعام : 125 ] .
وهنا نجد أن الحق سبحانه يشرح عملية الصعود وكأن فيها مجاهدةً ومكابدةً ، وهذا يخالف المسألة المعروفة بأنك إذا صعدتَ إلى أعلى وجدتَ الهواء اكثرَ نقاءً .
وقد ثبت أن الإنسان كلما صعد إلى أعلى في الفضاء فلن يجد هواء .
ويدلُّ الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسم على علاج لمسألة ضيق الصدر حين يُحزنه أو يؤلمه مُكذّب ، أو مُسْتهزيء؛ فيقول سبحانه : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ . . } .
(1/4834)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وهكذا يمكن أن تُذْهب عنك أيَّ ضيق ، أن تسبح الله . وإذا ما جافاكَ البِشْر أو ضايقك الخَلْق؛ فاعلم أنك قادر على الأُنْس بالله عن طريق التسبيح؛ ولن تجد أرحم منه سبحانه ، وأنت حين تُسبِّح ربك فأنت تُنزِّهه عن كُلِّ شيء وتحمده ، لتعيش في كَنَف رحمته .
ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143-144 ] .
ولذلك إذا ضاق صدرك في الأسباب فاذهب إلى المُسبِّب .
ونحن دائماً نقرن التسبيح بالحمد ، فالتنزيه يكون عن النقائص في الذات أو في الصفات أو في الأفعال ، وسبحانه كاملٌ في ذاته وصفاته وأفعاله ، فذاتُه لا تُشْبِه أيَّ ذات ، وصفاته أزلية مُطْلقة ، أما صفات الخَلْق فهي موهبة منه وحادثة .
وأفعال الحق لا حاكمَ لها إلا مشيئته سبحانه ، ولذلك نجده جَلَّ وعَلا يقول في مسألة التسبيح : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا . . } [ يس : 36 ] .
وهو القائل : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } ( الروم : 17 ] .
وكُلٌّ من المساء والصباح آية منه سبحانه؛ فحين تغيب الشمس ، فهذا إذْنٌ بالراحة ، وحين تصبح الشمس فهذا إِذْنٌ بالانطلاق إلى العمل ، وتسبيح المخلوق للخالق هو الأمر الذي لا يشارك اللهَ فيه أحدٌ من خَلْقه أبداً .
فكأن سَلْوى المؤمن حين تضيق به أسباب الحياة أنْ يفزَع إلى ربه من قسوة الخَلْق؛ ليجد الراحة النفسية؛ لأنه يَأْوي إلى رُكْن شديد .
ونجد بعضاً من العارفين بالله وهم يشرحون هذه القضية ليوجدوا عند النفس الإيمانية عزاءً عن جَفْوة الخَلْق لهم؛ فيقولون : " إذا أوحشك من خَلْقه فاعلم أنه يريد أن يُؤنسك به " .
وأنت حين تُسبِّح الله فأنت تُقِرّ بأن ذاته ليستْ كذاتِك ، وصفاته ليست كصفاتك ، وأفعاله ليست كأفعالك؛ وكل ذلك لصالحك أنت؛ فقدرتك وقدرة غيرك من البشر هي قدرة عَجْز وأغيار؛ أما قدرته سبحانه فهي ذاتية فيه ومُطْلقة وأَزلية ، وهو الذي يأتيك بكُل النِّعم .
ولهذا فعليك أنْ تصحبَ التنزيه بالحمد ، فأنت تحمد ربك لأنه مُنزَّه عن أنْ يكونَ مثلك ، والحمد لله واجب في كل وقت؛ فسبحانه الذي خلق المواهب كلها لِتخدُمَك ، وحين ترى صاحب موهبة وتغبطه عليها ، وتحمد الله أنه سبحانه قد وهبه تلك الموهبة؛ فخيْرُ تلك النعمة يصِل إليك .
وحين تُسبِّح بحمد الله؛ فسبحانه لا يُخلِف وَعْده لك بكل الخير؛ فَكُلُّنا قد نُخلِف الوعد رغماً عَنَّا ، لأننا أغيار؛ أما سبحانه فلا يُخلِف وعده أبداً؛ ولذلك تغمرك النعمة كلما سبَّحْتَ الله وحمدته .
وزِدْ خضوعاً للمُنْعِم ، فاسجُدْ امتثالاً لأمره تعالى :
{ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } [ الحجر : 98 ] .
فالسجود هو المَظْهر الواسع للخضوع ، ووجه الإنسان كما نعلم هو ما تظهر به الوجاهة؛ وبه تَلْقَى الناس؛ وهو أول ما تدفع عنه أيَّ شيء يُلوِّثه أو ينال من رضاك عنه .
ومَنْ يسجد بأرقى ما فيه؛ فهذا خضوع يُعطي عِزّة ، ومَنْ يخضع لله شكراً له على نعمه فسبحانه يعطيه من العزة ما يكفيه كل أَوْجُه السجود ، وكُلُّنا نذكر قَوْل الشاعر :
وَالسُّجود الذِي تَْجتوِيه فِيهِ ... مِْن أُلوفِ السُّجودِ نََجاةٌ
والسجود هو قمة الخضوع للحق سبحانه . والإنسان يكره لفظ العبودية؛ لأن تاريخ البشرية حمل كثيراً من المظالم نتيجة عبودية البشر للبشر . وهذا النوع من العبودية يعطي كما نعلم خَيْر العبد للسيد؛ ولكن العبوديةَ لله تعطي خَيْره سبحانه للعباد ، وفي ذلك قِمَّة التكريم للإنسان .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { واعبد رَبَّكَ . . . } .
(1/4835)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
ونعرف أن العبادة هي إطاعة العابد لأوامر المعبود إيجاباً أو سَلْباً ، وتطبيق " افعل " و " لا تفعل " ، وكثيرٌ من الناس يظنون أن العبادة هي الأمور الظاهرية في الأركان الخمسة من شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقامة الصلاة؛ وإيتاء الزكاة؛ وصوم رمضان؛ وحِجّ البيت لِمَن استطاع إليه سبيلاً .
ونقول : لا ، فهذه هي الأُسس التي تقوم عليها العبادة . أي : أنها البِنْية التي تقوم عليها بقية العبادة ، وهكذا تصبح العبادة هي ، كُل ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب ، أي : أن حركة الحياة كلها حتى كَنْس الشوارع ، وإماطة الأذى عن الطريق هي عبادة ، كل ما يُقصد به نَفْع الناس عبادة ، كي لا يصبح المسلمون عالة على غيرهم .
وفي إقامة الأركان إظهارٌ لقوة المسلمين ، حين يُظهِرون كامل الولاء لله بإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد ، فيترك المسلم عمله فَوْر أنْ يسمع النداء ب " الله أكبر " فيخرج المسلم من صراعات الحياة ، ويعلن الولاء للخالق المنعم .
وحين يصوم المسلم شهراً في السنة؛ فهو يُعلِن الولاء للخالق الأكرم ، ويصوم عن أشياء كثيرة كانت مُبَاحة؛ وأوَّل ما يأتي موعد الإمساك من قَبْل صلاة الفجر بقليل؛ فهو يمتنع فوراً .
وهذا الامتثال لأوامر الحق سبحانه يُذكِّرك بنعمه عليك؛ فأنت في يومك العادي لا تقرب المُحرَّمات التي أخذتْ وقتاً أثناء بدايات الدين إلى أن امتنع عنها المسلمون ، فلا أحدَ من المسلمين يُفكِّر في شُرْب الخمر؛ ولا أحدَ منهم يُفكِّر في لعب المَيْسِر ، وانطبعتْ تلك الأمور؛ وصارتْ عادة سلوكية في إلْف ورتَابة عند غالبية المسلمين مِمَّنْ يُنفِّذون شريعة الله ، ويُطبّقون " افعل " و " لا تفعل " .
وعندما يأتي الصوم فأنت تمتنع عن أشياء هي حلال لك طوال العالم ، وتقضي أي نهار في رمضان ونفسُك تستشرف سماع أذان المغرب لِتُفطر .
وهكذا تمتثل للأمر بالامتناع والإمساك والأمر بالإفطار ، وذلك لِيعُوّدك على الكثير من الطاعات التي تصير عند المؤمنين عادةً؛ وسبحانه يريد أنْ يُديم عليك لذَّة التكليف العبادي .
وبعْضٌ من الناس يذهبون مذاهب الخطأ عندما يفسرون بأهوائهم قوله الحق :
{ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 99 ] .
ويقول الواحد من هؤلاء مخادعاً الغير " لقد وصلت إلى مرتبة اليقين " ، ويمتنع عن أداء الفروض من صلاة وصوم وزكاة وحِجِّ إلى بيت الله الحرام رغم استطاعته ، ويدَّعِي أن التكليف قد سقط عنه؛ لأن اليقين قد وصله .
ونقول لمن يدَّعي ذلك : أَتُخادع الله ورسوله؟ وكُلُّنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظَلَّ يُؤدِّي الفرائض حتى آخر يوم في حياته . وكُلُّنا يعلم أن اليقين المُتفق عليه والمُتيقن من كل البشر ، ولا خلافَ عليه أبداً هو الموت .
(1/4836)
أما اليقين بالغيبيات فهو من خُصوصيات المؤمن؛ فما أنْ بلغه أمرها من القرآن فقد صَدَّقها ، ولم يسأل كيف يتأتَّى أمرُها . والمثَلُ الواضح هو أبو بكر الصديق حينما كانوا يُحدِّثونه بالأمر الغريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يقول " مادام قد قال فقد صدق " .
أما الكافر والعياذ بالله فهو يشكُّ في كل شيء غيبيّ أو حتى ماديّ ما لم يكن محسوساً لديه ، ولكن ما أنْ يأتيه الموت حتى يعلمَ أنه اليقين الوحيد .
ولذلك نجد عمر بن عبد العزيز يقول : " ما رأيت يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت " .
وكلنا نتيقن أننا سوف نموت؛ لكِنَّا نُزحزِح مسألة اليقين هذه بعيداً عَنَّا رَغْم أنها واقعةٌ لا محالةَ . فإذا ما جاء الموت ، نقول : ها هي اللحظة التي لا ينفع فيها شيء إلا عمل الإنسان إنْ كان مؤمناً مُؤدِّياً لحقوق الله .
ولذلك أقول دائماً : إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكداً ، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديد ، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به .
أما عَيْن اليقين؛ فهي التي ترى الحدث فتتيقّنه ، أو هو أمر حقيقيّ يدخل إلى قلبك فَتُصدقه ، وهكذا يكون لليقين مراحل : أمر تُصدِّقه تَصديقاً جازماً فلا يطفو إلى الذهن لِيُناقَش من جديد ، وله مصادر عِلْم مِمَّنْ تثق بصدقه ، أو : إجماع من أناس لا يجتمعون على الكذب أبداً؛ وهذا هو " علم اليقين "؛ فإنْ رأيتَ الأمر بعينيك فهذا هو حق اليقين .
والمؤمن يُرتِّب تصديقه وتيقّنه على ما بلغه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وها هو الإمام عليّ كرَّم الله وجهه وأرضاه يقول : " ولو أن الحجاب قد انكشف عن الأمور التي حدثنا بها رسول الله غيباً ما ازددتُ يقيناً " .
" وها هو سيدنا حارثة رضي الله عنه يقول : " كأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون ، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم " .
وذلك هو اليقين كما آمنَ به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/4837)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
هكذا تبدأ السورة الجليلة؛ مُوضِّحةً أن قضاءَ الله وحُكْمه بنصر الرسول والمؤمنين لا شَكَّ فيه ولا محَالة؛ وأن هزيمة أهل الكفر قادمة ، ولا مَفرَّ منها إنْ هُم استمرُّوا على الكفر .
وقد سبق أنْ أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما نَزل عليه من آيات الكتاب؛ أنذرهم في السورة السابقة ببعض العذاب الدنيوي ، كنصر الإيمان على الكفر ، وأنذرهم مِنْ قَبْل أيضاً ببعض العذاب في الآخرة ، كقوْل الحق سبحانه : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] .
وكذلك قوله الحق : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
وهكذا وعد الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يهزِم معسكر الكفر ، وأنْ ينصرَ معسكر الإيمان؛ وإما أنْ يرى ذلك بعينيه أو إنْ قبض الحق أجلَه فسيراها في الآخرة .
وعن حال الرسول صلى الله عليه وسلم قال سبحانه : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } [ الحجر : 95 ] .
وأنذر الحق سبحانه أهل الشرك بأنهم في جهنم في اليوم الآخر ، وهنا يقول سبحانه :
{ أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] .
وهذا إيضاحٌ بمرحلة من مراحل الإخبار بما يُنذِرون به ، كما قال مرة : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] .
أي : اقتربتْ ساعة القيامة التي يكون من بعدها حسابُ الآخرة والعذاب لِمَنْ كفر ، والجنة لِمَنْ آمنَ وعمِل صالحاً ، فاقترابُ الساعة غَيْر مُخيف في ذاته ، بل مُخيف لِمَا فيه من الحساب والعقاب .
وقيل : إن أهلَ الكُفْر لحظة أنْ سَمِعوا قول الحق سبحانه : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] .
قالوا : " فلننتظر قليلاً؛ فقد يكون ما يُبلِّغ به محمد صحيحاً " وبعد أن انتظروا بعضاً من الوقت ، ولم تَأْتِ الساعة كما بَشَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قالوا : انتظرنا ولم تَأْتِ الساعة ، فنزل قول الحق سبحانه : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] .
وهذا حديث عن الأمر الذي سيحدث فوْرَ قيام الساعة ، فَهَادنُوا وانتظروا قليلاً ، ثم قالوا : أيْنَ الحساب إذن؟ فنزل قوله تعالى :
{ أتى أَمْرُ الله . . } [ النحل : 1 ] .
وساعة سَمِع الكُلُّ ذلك فَزِعوا؛ بمن فيهم من المسلمين؛ وجاء الإسعاف في قوله من بعد ذلك :
{ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } [ النحل : 1 ] .
أي : أن الأمر الذي يُعلنه محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلم ميعادَه إلا الله سبحانه؛ واطمأنَّ المسلمون .
وكُلُّ حدث من الأحداث كما نعلم يحتاج كُلٌّ منها لظرفيْن؛ ظرْفِ زمانٍ؛ وظرْفِ مكان . والأفعال التي تدلُّ على هذه الظروف إما فِعْل مَاض؛ فظرْفُه كان قبل أن نتكلَم ، وفعلٌ مضارع . أي : أنه حَلَّ ، إلا إنْ كان مقروناً ب " س " أو ب " سوف " .
أي : أن الفعل سيقع في مستقبل قريب إنْ كان مقروناً ب " س " أو في المستقبل غير المحدد والبعيد إن كان مسبوقاً ب " سوف " ، وهكذا تكون الأفعال ماضياً ، وحاضراً ، ومستقبلاً .
(1/4838)
وكلمة ( أتى ) تدلُّ على أن الذي يُخبرك به وهو الله سبحانه إنما يُخبِرك بشيء قد حدث قبل الكلام ، وهو يُخبِر به ، والبشر قد يتكلَّمون عن أشياءَ وقعتْ؛ ويُخبِرون بها بعضَهم البعض .
ولكن المتكلِّم هنا هو الحقُّ سبحانه؛ وهو حين يتكلَّم بالقرآن فهو سبحانه لا ينقص عِلْمه أبداً ، وهو علم أَزَليٌّ ، وهو قادر على أن يأتيَ المستقبل وَفْق ما قال ، وقد أعدَّ توقيت ومكان كُل شيء من قبل أنْ يخلقَ؛ وهو سبحانه خالق من قبل أن يخلق أي شيء؛ فالخَلْق صفة ذاتية فيه؛ وهو مُنزَّه في كل شيء؛ ولذلك قال :
{ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ } [ النحل : 1 ] .
أي : أنه العليمُ بزمن وقوع كُلِّ حدَث ، وقد ثبت التسبيح له ذاتاً من قَبْل أن يوجد الخَلْق؛ فهو القائل : { يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] .
ثم خلق السماوات وخلق الأرض وغيرهما .
أي : أنه مُسبِّح به من قَبْل خَلْق السماوات والأرض ، وهو القائل سبحانه : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الحشر : 1 ] .
ولكن هل انتهى التسبيح؟ لا ، بل التسبيح مُستمِرٌّ أبداً ، فهو القائل : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] .
إذن : فقد ثبتتْ له " السُّبْحَانية " في ذاته ، ثم وجد الملائكة يُسبِّحون الليلَ والنهارَ ولا يفترُون ، ثم خلق السماء والأرض ، فسبَّح ما فيهما وما بينهما؛ وجاء خَلْقه يُسبِّحون أيضاً فيا مَنْ آمنتَ بالله إلهاً سَبِّح كما سَبَّحَ كُلُّ الكون .
ولقائل أنْ يسألَ : وما علاقة " سبحانه وتعالى " بما يُشرِكون؟ ونعلم أنهم أشركوا بالله آلهةً لا تُكلِّفهم بتكليف تعبُّدي ، ولم تُنزِل منهجاً؛ بل تُحلِّل لهم كُلَّ مُحرَّم ، وتنهاهم عن بعضٍ من الحلال ، وتخلوْا بذلك عن اتباع ما جاء به الرُّسل مُبلِّغين عن الله من تكليف يحمل مشقَّة الإيمان .
وهؤلاء هم مَنْ سيلقوْنَ الله ، وتسألهم الملائكة : أين هم الشركاء الذين عبدتموهم مع الله؟ ولن يدفَع عنهم أحدٌ هَوْلَ ما يلاقونه من العذاب .
وهكذا تعرَّفْنا على أن تنزيه الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً هو أمر ثابتٌ له قَبْل أنْ يُوجَد شيء ، وأمرٌ قد ثبت له بعد الملائكة ، وثبتَ له بعد وجود السماوات والأرض . وهو أمر طلب الله من العبد المُخيَّر أن يفعله؛ وانقسم العبادُ قسمين ، قِسْم آمن وسبَّح ، وقِسْم له يُسبِّح فتعالى عنهم الحق سبحانه لأنهم مُشْركون .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { يُنَزِّلُ الملائكة . . . } .
(1/4839)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
وساعة نقرأ قوله { يُنَزِّلُ } فالكلمة تُوحِي وتُوضِّح أن هناك عُلواً يمكن أن ينزِلَ منه شيء على أسفل . والمَثلُ الذي أُحِبّ أنْ أضربه هنا لأوضحَ هذا الأمر هو قَوْل الحق سبحانه : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } [ الأنعام : 151 ] .
أي : أقبلوا لتسمعوا مِنِّي التكليفَ الذي نزل لكم مِمَّنْ هو أعلى منكم ، ولا تظلُّوا في حضيض الأرض وتشريعاتها ، بل تَساموا وخُذوا الأمر مِمَّنْ لا هَوى لَه في أموركم ، وهو الحق الأعلى .
أما مَنْ ينزلون فَهُم الملائكة ، ونعلم أن الملائكة خَلْق غيبيّ آمنَّا به؛ لأن الله سبحانه قد أخبرنا بوجودهم . وكُلَّ ما غاب عن الذِّهْن ودليله السماع مِمَّنْ تثق بصدقه ، وقد أبلغنا صلى الله عليه وسلم ما نزلَ به القرآن وأنبأنا بوجود الملائكة ، وأن الحق سبحانه قد خلقهم؛ ورغم أننا لا نراهم إلا أننا نُصدِّق ما جاء به البلاغ عن الحق من الصادق الصَّدُوق محمد صلى الله عليه وسلم .
وحين يقول الحق سبحانه :
{ يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ النحل : 2 ] .
فنحن نعلم أنه لا يمكن أنْ ينزلَ شيءٌ من أعلى إلى الأدْنى إلا بواسطة المُقربات . وقد اختار الحق سبحانه ملكاً من الملائكة لِيُبلّغ رُسُله بالوحي من الله ، والملائكة كما أخبرنا الحق سبحانه : { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26-27 ] .
ويقول في آية أخرى : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
وهم من نور ، ولا تصيبهم الأغيار ، ولا شهوةَ لهم فلا يتناكحون ولا يتناسلون؛ وهم أقربُ إلى الصَّفَاء . وهم مَنْ يُمكِنهم التلقِّي من الأعلى ويبلغون الأَدْنى .
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن القرآن : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
وهنا يقول الحق سبحانه :
{ يُنَزِّلُ الملائكة } [ النحل : 2 ] .
والآية الإجمالية التي تشرح ذلك هو قَوْلُ الحق سبحانه : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ الحج : 75 ] .
أي : أنه سبحانه يختار ملائكة قادرين على التلقّي منه لِيُعْطوا المصطفين من الناس؛ لِيُبلِّغ هؤلاء المُصْطفين عن الله لبقية الناس .
ذلك أن العُلْويات العالية لا يملك الكائن الأَدْنى طاقة ليتحمَّل ما تتنزَّل به الأمور العُلْوية مباشرة من الحق سبحانه .
وسبق أنْ شبَّهتْ ذلك بالمُحوّل الذي نستخدمه في الكهرباء لينقل من الطاقة العالية إلى الأَدْنى من المصابيح ، " وكُلّنا يعلم ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم حين تلقَّى الوحي عبر جبريل عليه السلام " فَضمَّني حتى بلغ مِنَّي الجهد " وتفصد جبينه الطاهر عرقاً ، وعاد إلى بيته ليقول " زملوني زملوني " و " دثروني دثروني " .
ذلك أن طاقة عُلْوية نزلت على طاقة بشرية ، على الرغم من أن طاقة رسول الله هي طاقة مُصْطفاة . ثم يألف الرسول الوحي وتخفّ عنه مِثْل تلك الأعباء ، وينزل عليه قوله الحق :
(1/4840)
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 1-6 ] .
ثم يفتر الوحي لبعض من الوقت لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم يشتاق إليه ، فلماذا اشتاق للوحي وهو مَنْ قال " دثِّروني دثِّروني "؟
لقد كان فُتور الوحي بسبب أنْ يتعوّد محمد صلى الله عليه وسلم على متاعب نُزول المَلَك؛ فتزولُ متاعب الالتقاء وتبقى حلاوة ما يبلغ به .
وقال بعض من الأغبياء : " إن ربَّ محمد قد قلاه " .
فينزل قوله سبحانه : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 3-5 ] .
وكلمة الروح وردتْ في القرآن بمعَانٍ متعددة ، فهي مرَّة الروح التي بها الحياة في المادة ليحدث بها الحسّ والحركة : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] .
وهذا النفْخ في المادة يحدثُ للمؤمن والكافر ، وهناك رُوح أُخْرى تعطي حياةً أعلى من الحياة الموقوتة : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] .
إذن : فالملائكة تنزل بالبلاغ عن الله بما فيه حياة أَرْقى من الحياة التي نعيش بها ونتحرَّك على الأرض . وهكذا تكون هناك رُوحان لا روحٌ واحدة؛ رُوح للحِسِّ والحركة؛ وروح تُعطي القِيم التي تقودنا إلى حياة أخرى أَرْقى من الحياة التي نحياها؛ حياةٌ لا فناءَ فيها .
ولذلك يُسمَّى الحق سبحانه القرآن روحاً؛ فيقول : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] .
ويُسمَّى الحق سبحانه الملَكَ الذي ينزل بالقرآن روحاً ، فيقول : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } [ الشعراء : 193-194 ] .
ويشرح الحق سبحانه أن القرآن روحٌ تعطينا حياةً أَرْقى ، فيقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
أي : يدخل بكم إلى الحياة الأبدية التي لا موْتَ فيها ولا خَوْف أن تفقد النعمة أو تذهب عنك النعمةُ .
وهنا يُبلِّغنا سبحانه أن القرآن ينزل مع الملائكة :
{ يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] .
أي : تنزيلاً صادراً بأمره سبحانه ، ويقول الحق سبحانه في موقع آخر : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] .
والسَّطْحيون لا يلتفتون إلى أنَّ معنى : { مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] .
هنا تعني أنهم يحفظُونه بأمر من الله .
والأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو ما جاء في الآية الأولى منها : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] .
وهذا الأمر هو نتيجة لِمَا يشاؤه الله من حياة للناس على الأرض ، ونعلم أن الحق سبحانه له أوامر مُتعدِّدة يجمعها إبراز المعدوم إلى الوجود؛ فهو سبحانه القائل : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
(1/4841)
[ النحل : 40 ] .
فإذا شاء أمراً جزئياً فهو يقول له : كُنْ فيكون ، وإذا أراد منهجاً؛ فهو يُنزله ، وإذا أراد حساباً وعقاباً وساعةً؛ فهو القائل { أتى أَمْرُ الله } وهكذا نفهم أن معنى { أَمْرُ الله } هو { كُنْ فَيَكُونُ } أي : إخراج المعدوم إلى حَيِّز الوجود؛ سواء أكان معدوماً جزئياً ، أو معدوماً كلياً ، أو معدوماً أزلياً .
وكُلّ ذلك اسمه أمر ، ولحظةَ أنْ يأمرَ الله؛ فنحن نَثِقُ أن مأمور الله يبرز؛ ولذلك قال سبحانه : { إِذَا السمآء انشقت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 1-2 ] .
أي : أنها لم تسمع الأمر فقط؛ بل نفّذتْه فَوْر صدوره؛ دون أَدْنى ذرة من تخلُّف ، فأمْر الله يُنفَّذ فَوْر صدوره من الحق سبحانه ، أما أَمْر البشر فهو عُرْضَة لأنْ يُطَاع ، وعُرْضَة لأنْ يُعصَى .
وسبحانه يُنزِّل الملائكة بالرُّوح على مَنْ يشاء لِيُنذِروا؛ ولم يَأْتِ الحق سبحانه بالبشارة هنا؛ لأن الحديث مُوجّه للكفار في قوله : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } [ النحل : 1 ] .
ونزَّه ذاته قائلاً :
{ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 1 ] .
أو : أن الحق يُنبّه رسوله ، إنْ دخلتَ عليهم فُفسِّر لهم مُبْهَم ما لا يعرفون . وهم لا يعرفون كيفية الاصطفاء . وهو الحق الأعلم بمَنْ يصطفي .
ومشيئته الاصطفاء والاجتباء والاختيار إنما تتِمّ بمواصفات الحق سبحانه؛ فهو القائل : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . . . } [ الأنعام : 124 ] .
وعُلِم أن الكافرين قد قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
وقال الحق سبحانه في رَدِّه عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] .
فإذا كان الحق سبحانه قد قَسَّم بين الخَلْق أرزاقهم في معيشتهم المادية؛ وإذا كان سبحانه قد رفع بعضهم فوق بَعْض درجات؛ وهو مَنْ يجعل المرفوع مخفوضاً؛ ويجعل المخفوضَ مرفوعاً ، فكيف يأتي هؤلاء في الأمور القِيَميّة المُتعلِّقة بالروح وبالمنهج ، ويحاولون التعديل على الله؛ ويقولون " نريد فلاناً ولا نريد فلاناً "؟
أو : أن الحق سبحانه يوضِّح لرسوله : بعد أنْ شرحتَ لهؤلاء أمر الوحي ، فعليك أنْ تُبلِّغهم كلمة الله :
{ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } [ النحل : 2 ] .
وما دام لا يوجد إلهٌ آخر فعلى الرسول أن يُسْدِي لهم النصيحة؛ بأن يقصروا على أنفسهم حَيْرة البحث عن إله ، ويُوضِّح لهم أنْ لا إله إلا هو؛ وعليهم أنْ يتقوه .
وفي هذا حنان من الحق على الخَلْق ، وهو الحق الذي منع الكائنات التي تعجبتْ ورفضتْ كُفْر بَعْضٍ من البشر بالله؛ وطلبتْ أن تنتقمَ من الإنسان ، وقال لهم : " لو خلقتموهم لرحمتموهم ، دَعُوني وخَلْقي؛ إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبُهم؛ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم " .
وقَوْل الحق سبحانه :
{ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } [ النحل : 2 ] .
هو جماعُ عقائدِ السماء للأرض؛ وجماعُ التعبُّداتِ التي طلبها الله من خَلْقه لِيُنظِّم لهم حركة الحياة مُتساندةً لا مُتعاندةً .
فكأن :
{ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } [ النحل : 2 ] .
(1/4842)
هي تفسيرٌ لِمَا أنزله الله على الملائكة من الرُّوح التي قُلْنا من قبل : إنها الروح الثانية التي يَجِيء بها الوَحْي؛ وتحمِلُ منهجَ الله ليضمن لِلْمُعتنِق حياة لا يزول نَعيمها ولا المُتنعِّم بها؛ وهي غَيْر الروح الأولى التي إذا نفخها الحق في الإنسان ، فالحياة تدبُّ فيه حركةً وحِساً ولكنها إلي الفناء .
وكأن الحق سبحانه من رحمته بخَلْقه أن أنزلَ لهم المنهج الذي يهديهم الحياة الباقية بدلاً من أنْ يظلُّوا أَسْرى الحياة الفانية وحدها .
ومن رحمته أيضاً أن حذرهم من المصير السيئ الذي ينتظر مَنْ يكفر به؛ ومثل هذا التحذير لا يصدر إلا مِنْ مُحبٍّ؛ فسبحانه يُحِب خَلْقه ، ويُحِب منهم أنْ يكونوا إليه مخلصين مؤمنين ، ويحب لهم أنْ ينعموا في آخرة لا أسبابَ فيها؛ لأنهم سيعيشون فيها بكلمة " كُنْ " من المُسبّب .
فإذا قال لهم { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ . . } [ النحل : 2 ] فهو يُوضِّح أنه لا إله غيره ، فلا تشركوا بي شيئاً ، ولا تكذبوا الرسل وعليكم بتطبيق منهجي الذي يُنظِّم حياتكم وأُجازي عليه في الآخرة .
وإياكم أنْ تغترُّوا بأنِّي خلقتُ الأسباب مُسخرة لكم؛ فأنا أستطيع أن أقبض هذه الأسباب؛ فقد أردتُ الحياة بلاءً واختباراً؛ وفي الآخرة لا سُلْطان للأسباب أبداً : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وظاهر الأمر أن المُلْك لله في الآخرة ، والحقيقة أن المُلْك لله دائماً في الدنيا وفي الآخرة؛ ولكنه شاء أنْ يجعلَ الأسباب المخلوقة بمشيئته تستجيب للإنسان؛ فإياك أنْ تظنَّ أنك أصبحتَ قادراً؛ فأنت في الحياة تملك أشياء ، ويملكك مَلِك أو حاكم مثلك؛ فسُنَّة الكون أنْ يوجدَ نظامٌ يحكم الجميع .
ولكن الآخرة يختلف الأمر فيها؛ فلا مُلْكَ لأحدٍ غير الله ، بل إن الأعضاء نفسها لا تسير بإرادة أصحابها بل بإرادة الحق ، تلك الأعضاء التي كانت تخضع لمشيئتك في الدنيا؛ لا حُكْمَ لك عليها في الآخرة ، بل ستكون شاهدة عليك .
فإن كان الله قد أعطاك القدرة على تحريك الأعضاء في الدنيا ، فإنْ وجَّهتها إلى مأمور الله؛ فأنت من عباده ، وإنْ لم تُوجهها إلى مطلوب الله ، فأنت من عبيده .
وبعد ذلك يُقدِّم لك سبحانه الحيثية التي تُعزِّز أمره بعبادته وحده ، وأنْ لا إله غيره؛ فإنه لم يطلب أن نعبده إلا بعد أنْ خلق لنا السماوات والأرض؛ وكل الكون المُعَد لاستقبال الإنسان بالحق؛ أي بالشيء الثابت؛ والقانون الذي ليس في اختيار أحد سواه سبحانه .
ويقول سبحانه : { خَلَقَ السماوات والأرض . . . } .
(1/4843)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
أي : تنزَّه سبحانه عَمَّا يشركون معه من آلهة ، فلا أحدَ قد ساعده في خَلْق الكون وإعداده؛ فكيف تجعلون أنتم معه آلهة غيره؟ وسبحان مُنزَّه عن أنْ يكون معه آلهة أخرى ، وسبحانه قد خلق لنَا من قبل أن يخلقنا؛ خلق السماوات والأرض وقدَّر الأرزاق ، ولو نظرتَ إلى خَلْقك أنت لوجدت العَالَم الكبير قد انطوى فيك؛ وهو القائل : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] .
وأنت مخلوق من ماذا؟
ها هو الحق سبحانه يقول : { خَلَقَ الإنسان . . . . } .
(1/4844)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
والنطفة التي نجيء منها ، وهي الحيوان المَنَويّ الذي يتزاوج مع البويضة الموجودة في رَحم المرأة فتنتج العلقة ، وسبحانه القائل : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 36-39 ] .
بل إن القَذْفة الواحدة من الرجل قد يوجد فيها من الأنسال ما يكفي خَلْق الملايين؛ ولا يمكن للعين المُجرَّدة أنْ ترى الحيوان المنويّ الواحد نظراً لِدقَّته المتناهية .
وهذه الدقَّة المُتناهية لا يمكن أنْ تُرى إلا بالمجاهر المُكَّبرة ، ومطمور في هذا الحيوان المنويّ كُل الخصائص التي تتحد مع الخصائص المَطْمورة في بُويْضة المرأة ليتكوَّن الإنسان .
وقد صدق العقاد يرحمه الله حين قال : " إن نصف كستبان الخياطة لو مُلِيء بالحيوانات المنوية لَوُلِد منه أنسال تتساوى مع تعداد البشر كلهم " .
وقد شاء الحق سبحانه ألا ينفُذَ إلى البويضة إلا الحيوانُ المنويّ القوي؛ لِيُؤكِّد لنا أن لا بقاءّ إلا للأصلح ، فإنْ كان الحيوان المنويّ يحمل الصفات الوراثية لميلاد أنثى جاء المولد أنثى؛ وإنْ كان يحمل الصفات الوراثية لميلاد الذَّكَر جاء المولود ذكراً .
وأنت ترى مِثْل ذلك في النبات؛ فأوَّل حبَّة قمح كانت مثل آدم كأول إنسان بالطريقة التي نعرفها؛ وفي تلك الحبَّة الأولى أوجد الحق سبحانه مضمون كل حبوب القمح من بعد ذلك ، وإلى أنْ تقومَ الساعة ، وتلك عظمةُ الحق سبحانه في الخَلْق .
وقد أوضح لنا الحق سبحانه في اكثر من موضع بالقرآن الكريم مراحل خَلْق الإنسان؛ فهو : { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] .
وهو من نطفة ، ومن علقة ، ثم مضغة مُخلَّقة وغير مُخلَّقة .
والحيوان المنويّ المُسمَّى " نُطْفة " هو الذي يحمل خصائص الأنوثة أو الذكورة كما أثبت العلم الحديث ، وليس للمرأة شَأْنٌ بهذا التحديد ، وكأن في ذلك إشارةً إلى مهمة المرأة كسكَنٍ؛ لأن البُويْضة تتلقَّى الحيوان المنويّ وتحتضنه؛ ليكتمل النمو إلي أنْ يصير كائناً بشرياً : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
وهو الحق سبحانه القائل : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } [ القيامة : 36-38 ] .
والعلقة جاء اسمها من مهمتها ، حيث تتعلق بجدار الرَّحمِ كما أثبت العِلْم المعاصر ، يقول سبحانه : { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } [ المؤمنون : 14 ] .
والمُضغْة هي الشيء المَمْضُوغ؛ ثم يَصِف سبحانه المضغة بأنها : { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } [ الحج : 5 ] .
ولقائل أن يتساءل : نحن نفهم أن المُضْغة المُخلَّقة فيها ما يمكن أن يصير عيناً أو ذراعاً؛ ولكن ماذا عن غير المُخلّقة؟
ونقول : إنها رصيد احتياطيّ لصيانة الجسم ، فإذا كنتَ أيها المخلوق حين تقوم ببناء بَيْت فأنت تشتري بعضاً من الأشياء الزائدة من الأدوات الصحية على سبيل المثال تحسُّباً لما قد يطرأ من أحداث تحتاج فيها إلى قطع غيار؛ فما بالنا بالحق الذي خلق الإنسان؟
لقد جعل الله تلك المُضْغة غير المُخلَّقة رصيداً لصيانة ، أو تجديداً لما قد يطرأ على الإنسان من ظروف؛ وتكون زائدة في الجسم وكأنها مخزنٌ لقطع الغيار .
(1/4845)
والمثل هو الجروح التي تصيب الإنسان ، ثم يتركها ليعالجها الجسمُ بنفسه ، نجدها تلتئم دون أنْ تتركَ نَدْبة أو علامة ، ذلك أنه قد تَمَّ علاجها من الصيدلية الداخلية التي أودعها الحق سبحانه في الجسم نفسه .
والمفاجأة هي أن هذا الإنسانَ المخلوق لله :
{ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ النحل : 4 ] .
ويتمرَّد على خالقه ، بل وينكر بعضٌ من الخَلْق أن هناك إلهاً؛ متجاهلين أنهم بقوة الله فيهم يتجادلون . والخصيم هو الذي يُجادل ويُنكِر الحقائق؛ فإذا حُدِّث بشيء غيبي ، يحاول أنْ يدحضَ معقوليته .
ويقول سبحانه في سورة يس : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ يس : 77 ] .
وقد يكون من المقبول أن تكون خَصْماً لمساويك؛ ولكن من غير المقبول أن تكون خصيماً لِمَنْ خلقك فسوَّاكَ فَعَدلك ، وفي أيِّ صورة ما شاء رَكَّبك .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ . . . . } .
(1/4846)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
والدِّفْءُ هو الحرارة للمبرود ، تماماً مثلما نعطي المحرور برودة ، وهذا ما يفعله تكييف الهواء في المنازل الحديثة . نجد الحق سبحانه هنا قد تكلَّم عن الدفء ولم يتكلم عن البرد ، ذلك أن المقابل معلوم ، وهو في آية أخرى يقول : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر . . . } [ النحل : 81 ] .
وهذا ما يحدث عندما نسير في الشمس الحارة؛ فنضع مِظلة فوق رؤوسنا لتقينا حرارة الشمس الزاعقة الشديدة . ونحن في الشتاء نلبس قلنسوة أي : نلفّ شيئاً حول رؤوسنا ، وهكذا نعلم أن اللباس يفعل الشيء ومقابله ، بشرط أن يختار الإنسانُ اللباسَ المناسب للجوِّ المناسب .
وفي الأنعام منافع كثيرة؛ فنحن نشرب لبنها ، ونصنع منه الجُبْن والسمن؛ ونجزّ الصوف لنغزل وننسج منه ملابس صوفية ، وتحمل الأثقال ، ونستفيد من ذريتها؛ وكذلك نأكل لحومها .
ونحن نعلم أن الأنعام قد جاء تفصيلها في موقع آخر حين قال الحق سبحانه : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ . . . } [ الأنعام : 143 ] .
وهي الضَّأن والمَعْز والإبل والبقر .
ونعلم أن الدِّفْءَ يأتي من الصُّوف والوَبَر والشَّعْر ، ومَنْ يلاحظ شعر المَعْز يجد كل شَعْرة بمفردها؛ لكن الوبر الذي نجزه من الجمل يكون مُلبداً؛ وهذا دليل على دِقّة فَتْلته ، أما الصوف فكل شعرة منه أنبوبة أسطوانية قَلْبُها فارغ .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ . . . } .
(1/4847)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
وهنا نجد أن الحق سبحانه قد أعطانا الترف أيضاً بجانب الضروريات ، فالدِّفْء والمنافع والأكل ضروريات للحياة ، أما الجَمال فهو من تَرَف الحياة ، والجمال هو ما تراه العين ، فيتحقق السرور في النفس . والدِّفْء والمنافع والأكل هي أمور خاصة لِمَنْ يملك الأنعام؛ أما الجمال فمشاع عَامٌّ للناس ، فحين ترى حصاناً جميلاً؛ أو البقرة المَزْهُوة بالصحة؛ فأنت ترى نعمة الله التي خلقها لِتسُرّ الناظر إليها .
ونلحظ هذا الجمال في لحظات سروح البهائم ولحظات رواحها . ونقول في الريف " سرحت البهائم " أي : خرجتْ من الحظائر لترعى وتأكل . ونلحظ أن الحق سبحانه قد قدَّم الرَّواح أي العودة إلى الحظائر عن السُّروح؛ لأن البهائم حين تعود إلى حظائرها بعد أنْ ترعى تكون بطونُها ممتلئةً وضُروعها رابِية حافلة باللبن؛ فيسعد مَنْ يراها حتى قبل أنْ يطعمَ من ألبانها .
ومَنْ يخرج ببهائمه في الصباح من بيته ، ويصحبها من زرائبها إلى الحقل ، يجد جمالاً مع هيبة ومنعة مع أصوات تحقق للرجل المالك الهيبة ، ومَنْ لا يملك يمكن أنْ يشاهد جمال تلك الأنعام .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى . . . } .
(1/4848)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
ونعلم أن الإنسانَ في حياته بين أمرين؛ إما ظَاعن أي : مسافر . وإما مقيم . وفي حالة المقيم ، فالأنعامُ تُحقِّق له الدِّفْء والطعام والمَلْبس . وعادةً ما يكتفي متوسطُ الحال بأنْ يستقرّ في مكان إقامته وكذلك الفقير .
أما المُقْتدر الغنيّ؛ فأنت تجده يوماً في القاهرة ، وآخر في الإسكندرية ، أو طنطا ، وقد يسافر إلى الخارج ، وكلُّ ذلك ميسور في زمن المواصلات الحديثة . وقديماً كانت وسائل المواصلات شاقة ، ولا يقدر على السفر إلا مَنْ كانت لديه إبل صحيحة أو خيول قوية ، أما مَنْ لم يكن يملك إلا حماراً أعجف فهو لا يفكر إلا في المسافات القصيرة .
ولذلك نجد القرآن حين تكلم عن أهل سبأ يقول : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ . . . } [ سبأ : 19 ] .
وهم قد قالوا ذلك اعتزازاً بما يملكونه من خَيْل ووسائل سفر من دوابّ سليمة وقوية ، تُهيِّئ السفر المريح الذي ينمُّ عن العِزّ والقوة والثراء .
وقوله الحق :
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ . . . } [ النحل : 7 ] .
يعني وضع ما يَثْقل على ما يُثَقّل؛ ولذلك فنحن لا نجد إنساناً يحمل دابته؛ بل نجد مَنْ يحمل أثقاله على الدابة ليُخفِّف عن نفسه حَمْل أوزانٍ لا يقدر عليها .
ونعلم أن الوزن يتبع الكثافة؛ كما أن الحجمَ يتبع المساحة؛ فحين تنظر إلى كيلوجرام من القطن ، فأنت تجد حجم كيلوجرام القطن أكبرُ من حجم الحديد؛ لأن كثافة الحديد مطمورة فيه ، أما نفاشات القطن فهي التي تجعله يحتاج حيزاً اكبر من المساحة .
ويتابع الحق سبحانه قوله في الآية الكريمة :
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس . . . } [ النحل : 7 ] .
ومَنْ يفتش في أساليب القرآن من المستشرقين قد يقول : " إن عَجُزَ الآية غَيْر متفق مع صَدْرها " .
ونقول لمثل صاحب هذا القول : أنت لم تفطن إلى المِنّة التي يمتنُّ بها الله على خَلْقه ، فهم لم يكونوا بالغين لهذا البلد دون أثقالَ إلا بمشقَّة؛ فما بالنا بثِقَل المشقة حين تكون معهم أثقال من بضائع ومتاع؟
إنها نعمة كبيرة أنْ يجدوا ما يحملون عليه أثقالهم وأنفسهم ليصلوا إلي حيث يريدون .
وكلمة { بِشِقِّ } [ النحل ] مصدرها شَق وهو الصِّدْع بين شيئين؛ ويعني عَزْل متصلين؛ وسبحانه هو القائل : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] . وهناك " شَق " وهو الجهد ، و " شقَّة " . والإنسان كما نعلم هو بين ثلاث حالات : إمَّا نائم؛ لذلك لا يحتاج إلى طاقة كبيرة تحفظ له حياته؛ وأيضاً وهو مُتيقِّظ فأجهزته لا تحتاج إلى طاقة كبيرة؛ بل تحتاج إلى طاقة مُتوسِّطة لتعملَ؛ أما إنْ كان يحمل أشياءَ ثقيلة فالإنسان يحتاج إلى طاقة أكبر لتعمل أجهزته .
وكذلك نجد الحق سبحانه يقول : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة }
(1/4849)
[ التوبة : 42 ] .
والمعنىّ هنا بالشُّقة هي المسافة التي يشقُّ قطعُها ، ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :
{ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 7 ] .
والصفتان هنا هما الرأفة والرحمة ، وكل منهما مناسب لِمَا جاء بالآية؛ فالربُّ هو المُتولِّي التربية والمَدَد ، وأيُّ رحلة لها مَقْصِد ، وأيُّ رحلة هي للاستثمار ، أو الاعتبار ، أو للاثنين معاً .
فإذا كانت رحلةَ استثمار فدابّتُك يجب أن تكون قويةً لتحمل ما معك من أثقال ، وتحمل عليها ما سوف تعود به من بضائع .
وإنْ كانت الرحلةُ للاعتبار فأنت تزيل بهذا السفر ألم عدم المعرفة والرغبة في الوصول إلى المكان الذي قصدته .
وهكذا تجد الرأفةَ مناسبةً لقضاء النفع وتحقيق الحاجة وإزالة الألم . وكلمة رحيم مناسبة لمنع الألم بتحقيق الوصول إلى الغاية .
وتوقَّفَ بعضٌ من العلماء عند مَقْصِد الرحلة؛ كأن تكون مسافراً للاتجار أو أن تكونَ مسافراً للاعتبار . ولكن هذا سفرٌ بالاختيار؛ وهناك سفر اضطراري؛ كالسفر الضروري إلى الحج مرة في العمرة .
والحق سبحانه يزيل ألم الحَمْل الثقيل ، وبذلك تتحقق رأفته؛ وهو رحيم لأنه حقَّق لكم أُمنية السفر .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { والخيل والبغال . . . } .
(1/4850)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وبعد أن ذكر لنا الحق سبحانه الأنعام التي نأخذ منها المأكولات ، يذكر لنا في هذه الآية الأنعام التي نستخدمها للتنقل أو للزينة؛ ولا نأكل لحومها وهي الخَيْل والبِغَال والحمير؛ ويُذكِّرنا بأنها للركوب والمنفعة مع الزينة؛ ذلك أن الناس تتزيَّن بما تَرْكب؛ تماماً كما يفخر أبناءُ عصرِنا بالتزيُّن بالسيارات الفارهة .
ونَسَقُ الآية يدلُّ على تفاوت الناس في المراتب؛ فكلُّ مرتبة من الناس لها ما يناسبها لِتركبه؛ فالخَيْل للسادة والفِرْسان والأغنياء؛ ومَنْ هم أقلُّ يركبون البغال ، ومَنْ لا يملك ما يكفي لشراء الحصان أو البغل؛ فيمكنه أنْ يشتريَ لنفسه حماراً .
وقد يملك إنسانٌ الثلاثة ركائب ، وقد يملك آخرُ اثنتين منها؛ وقد يملك ثالثٌ رُكوبة واحدة ، وهناك مَنْ لا يملك من المال ما يُمكِنه أنْ يستأجرَ ولو رُكوبة من أيّ نوع .
وشاء الحق سبحانه أن يقسم للناس أرزاق كل واحد منهم قِلَّةً أو كثرةً ، وإلا لو تساوى الناس في الرزق ، فمَنِ الذي يقوم بالأعمال التي نُسمِّيها نحن بالخطأ أعمالاً دُونية ، مَنْ يكنس الشوارع ، ومَنْ يحمل الطُّوب للبناء ، ومَنْ يقف بالشَّحْم وسط ورش إصلاح السيارات؟
وكما نرى فكلُّ تلك الأعمال ضرورية ، ولولا رغبةُ الناس في الرزق لَمَا حَلَتْ مثل تلك الأعمال ، وراقتْ في عُيون مَنْ يُمارِسونها ، ذلك أنها تَقِيهم شَرَّ السُّؤال .
ولولا أن مَنْ يعمل في تلك الأعمال له بطنٌ تريد أنْ تمتليءَ بالطعام ، وأولاد يريدون أنْ يأكلوا؛ لَمَا ذهب إلي مشقَّات تلك الأعمال . ولو نظرتَ إلى أفقر إنسان في الكون لوجدتَ في حياته فترة حقَّق فيها بعضاً من أحلامه .
وقد نجد إنساناً يكِدُّ عَشْرة سنين؛ ويرتاح بقية عمره؛ ونجد مَنْ يكِدّ عشرين عاماً فيُرِيح نفسه وأولاده من بعده ، وهناك مَنْ يتعب ثلاثين عاماً ، فيُريح أولاده وأحفاده من بعده . والمهم هو قيمة ما يُتقِنه ، وأن يرضَى بقدر الله فيه ، فيعطيه الله ما دام قد قَبِل قدره فيه .
وأنت إنْ نظرتَ إلى مَنْ فاء الله عليهم بالغِنَى والتَّرف ستجدهم في بداية حياتهم قد كَدُّوا وتَعِبوا ورَضُوا بقدر الله فيهم ، ولم يحقدوا على أحد ، نجده سبحانه يهديهم طمأنينةَ وراحةَ بالٍ .
وشاء سبحانه أنْ يُنوِّع في مُسْتويات حياة البشر كَيْلا يستنكفَ أحدٌ من خدمة أحد ما دام يحتاج خدماته .
ونجد النصّ التعبيري في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو خَيْل وبِغَال وحمير؛ وقد جعل الحق سبحانه البغال في الوسط؛ لأنها ليست جنساً بل تأتي من جنسين مختلفين .
ويُنبِّهنا الحق سبحانه في آخر الآية إلى أن ذلك ليس نهاية المَطَاف؛ بل هناك ما هو أكثر ، فقال :
{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
وجعل الحق سبحانه البُراق خادماً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل بساط الريح خادماً لسليمان عليه السلام ، وإذا كانت مثل تلك المُعْجزات قد حدثتْ لأنبياء؛ فقد هدى البشر إلى أنْ يبتكروا من وسائل المواصلات الكثير من عربات تجرُّها الجِيَاد إلى سيارات وقطارات وطائرات .
(1/4851)
وما زال العلم يُطوِّر من تلك الوسائل ، ورغم ذلك فهناك مَنْ يقتني الخيْل ويُربّيها ويُروِّضها ويجريّها لجمال منظرها .
وإذا كانت تلك الوسائلُ من المواصلات التي كانت تحمل عنَّا الأثقال؛ وتلك المُخْترعات التي هدانا الله إياها؛ فما بالُنَا بالمواصلات في الآخرة؟ لا بد أن هناك وسائلَ تناسب في رفاهيتها ما في الآخرة من متاعٍ غير موجود في الدنيا؛ ولذلك يقول في الآية التالية : { وعلى الله قَصْدُ . . . } .
(1/4852)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
والسبيل هو الطريق؛ والقَصْد هو الغاية ، وهو مصدر يأخذون منه القول ( طريق قاصد ) أي : طريق لا دورانَ فيه ولا التفاف . والحق سبحانه يريد لنا أنْ نصلَ إلى الغاية بأقلِّ مجهود .
ونحن في لغتنا العاميّة نسأل جندي المرور " هل هذا الطريق ماشي؟ " رغم أن الطريق لا يمشي ، بل أنت الذي تسير فيه ، ولكنك تقصد أن يكون الطريق مُوصِّلاً إلى الغاية . وأنت حين تُعجِزك الأسباب تقول " خلِّيها على الله " أي : أنك ترجع بما تعجزك أسبابه إلى المُسبِّب الأعلى .
وهكذا يريد المؤمن الوصول إلى قَصْده ، وهو عبادة الله وُصولاً إلى الغاية ، وهي الجنة ، جزاءً على الإيمان وحُسْن العمل في الدنيا .
وأنت حين تقارن مَجْرى نهر النيل تجد فيه التفافاتٍ وتعرُّجات؛ لأن الماء هو الذي حفر طريقه؛ بينما تنظر إلى الريَّاح التوفيقي مثلاً فتجده مستقيماً؛ ذلك أن البشر هم الذين حفروه إلى مَقْصد معين . وحين يكون قَصْد السبيل على الله؛ فالله لا هَوى له ولا صاحبَ ، ولا ولدَ له ، ولا يحابي أحداً ، وكلُّ الخَلْق بالنسبة له سواء؛ ولذلك فهو حين يضع طريقاً فهو يضعُه مستقيماً لا عِوجَ فيه؛ وهو الحق سبحانه القائل : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] .
أي : الطريق الذي لا التواءَ فيه لأيِّ غَرَض ، بل الغرض منه هو الغاية بأيسرَ طريق .
وقول الحق سبحانه هنا :
{ وعلى الله قَصْدُ السبيل . . . } [ النحل : 9 ] .
يجعلنا نعود بالذاكرة إلى ما قاله الشيطان في حواره مع الله قال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ] .
وردَّ الحق سبحانه : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ الحجر : 41 ] .
والحق أيضاً هو القائل : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] .
أي : أنه حين خلق الإنسان أوضح له طريق الهداية ، وكذلك يقول سبحانه : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] .
أي : أن الحق سبحانه أوضح للإنسان طُرق الحق من الباطل ، وهكذا يكون قوله هنا :
{ وعلى الله قَصْدُ السبيل } [ النحل : 9 ] .
يدلُّ على أن الطريق المرسوم غايتُه موضوعة من الله سبحانه ، والطريق إلى تلك الغاية موزونٌ من الحق الذي لا هَوى له ، والخَلْق كلهم سواء أمامه .
وهكذا . . فعلى المُفكِّرين ألاَّ يُرهِقوا أنفسهم بمحاولة وَضْع تقنين من عندهم لحركة الحياة ، لأن واجدَ الحياة قد وضع لها قانون صيانتها ، وليس أدلّ على عَجْز المفكرين عن وضع قوانين تنظيم حياة البشر إلا أنهم يُغيِّرون من القوانين كل فَتْرة ، أما قانون الله فخالد باقٍ أبداً ، ولا استدراكَ عليه .
ولذلك فمِنَ المُرِيح للبشر أنْ يسيروا على منهج الله والذي قال فيه الحق سبحانه حكماً عليهم أنْ يُطبِّقوه؛ وما تركه الله لنا نجتهد فيه نحن .
وقوله الحق :
{ وعلى الله قَصْدُ السبيل . . . } [ النحل : 9 ] .
أي : أنه هو الذي جعل سبيلَ الإيمان قاصداً للغاية التي وضعها سبحانه ، ذلك أن من السُّبل ما هو جائر؛ ولذلك قال :
{ وَمِنْهَا جَآئِرٌ .
(1/4853)
. . } [ النحل : 9 ] .
ولكي يمنع الجَوْر جعل سبيلَ الإيمان قاصداً ، فهو القائل : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض . . . } [ المؤمنون : 71 ] .
بينما السبيل العادلة المستقيمة هي السبيل المُتكفّل بها سبحانه ، وهي سبيل الإيمان ، ذلك أن من السُّبل ما هو جائر أي : يُطِيل المسافة عليك ، أو يُعرِّضك للمخاطر ، أو توجد بها مُنْحنيات تُضِل الإنسانَ ، فلا يسيرُ إلى الطريق المستقيم .
ونعلم أن السبيل تُوصِّل بين طرفين ( من وإلى ) وكل نقطة تصل إليها لها أيضاً ( من وإلى ) وقد شاء الحق سبحانه ألاَّ يقهرَ الإنسانَ على سبيل واحد ، بل أراد له أنْ يختار ، ذلك أن التسخير قد أراده الله لغير الإنسان مِمَّا يخدم الإنسان .
أما الإنسان فقد خلق له قدرة الاختيار ، ليعلم مَنْ يأتيه طائعاً ومَنْ يعصي أوامره ، وكل البشر مَجْموعون إلى حساب ، ومَن اختار طريق الطاعة فهو مَنْ يذهب إلى الله مُحباً ، ويُثبِت له المحبوبية التي هي مراد الحق من خَلْق الاختيار ، لكن لو شاء أنْ يُثبِتَ لنفسه طلاقة القَهْر لخَلقَ البشر مقهورين على الطاعة كما سخَّر الكائنات الأخرى .
والحق سبحانه يريد قلوباً لا قوالب؛ ولذلك يقول في آخر الآية :
{ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ النحل : 9 ] .
وكل أجناس الوجود كما نعلم تسجد لله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .
وفي آية أخرى يقول : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] .
إذن : لو شاء الحق سبحانه لهدى الثقلين أي : الإنس والجن ، كما هدى كُلَّ الكائنات الأخرى ، ولكنه يريد قلوباً لا قوالبَ .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { هُوَ الذي أَنْزَلَ . . . } .
(1/4854)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
وقوله :
{ أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً . . . } [ النحل : 10 ] .
يبدو قولاً بسيطاً؛ ولكن إنْ نظرنا إلى المعامل التي تُقطِّر المياه وتُخلِّصها من الشوائب لَعلِمْنَا قَدْر العمل المبذول لنزول الماء الصافي من المطر .
والسماء كما نعلم هي كل ما يعلونا ، ونحن نرى السحاب الذي يجيء نتيجة تبخير الشمس للمياه من المحيطات والبحار ، فيتكوَّن البخار الذي يتصاعد ، ثم يتكثَّف ليصيرَ مطراً من بعد ذلك؛ وينزل المطر على الأرض .
ونعلم أن الكرة الأرضية مُكوَّنة من محيطات وبحار تُغطِّي ثلاثة أرباع مساحتها ، بينما تبلغ مساحة اليابسة رُبْع الكرة الأرضية؛ فكأنه جعل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية لخدمة رُبْع الكرة الأرضية .
ومن العجيب أن المطر يسقط في مواقع قد لا تنتفع به ، مثل هضاب الحبشة التي تسقط عليها الأمطار وتصحب من تلك الهضاب مادة الطمي لِتُكوِّن نهر النيل لنستفيد نحن منه .
ونجد الحق سبحانه يقول : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } [ النور : 43 ] .
وهنا يقول الحق سبحانه : { هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] .
ولولا عملية البَخْر وإعادة تكثيف البخار بعد أن يصير سحاباً؛ لَمَا استطاع الإنسانُ أنْ يشربَ الماء المالح الموجود في البحار ، ومن حكمة الحق سبحانه أن جعل مياه البحار والمحيطات مالحةً؛ فالمِلْح يحفظ المياه من الفساد .
وبعد أن تُبخِّر الشمسُ المياه لتصير سحاباً ، ويسقط المطر يشرب الإنسانُ هذا الماء الذي يُغذِّي الأنهار والآبار ، وكذلك ينبت الماء الزرع الذي نأكل منه .
وكلمة { شَجَرٌ } تدلُّ على النبات الذي يلتفُّ مع بعضه . ومنها كلمة " مشاجرة " والتي تعني التداخل من الذين يتشاجرون معاً .
والشجر أنواع؛ فيه مغروس بمالك وهو مِلْك لِمَنْ يغرسه ويُشرِف على إنباته ، وفي ما يخرج من الأرض دون أنْ يزرعه أحد وهو مِلْكية مشاعة ، وعادة ما نترك فيه الدَّواب لترعى ، فتأكل منه دون أنْ يردَّها أحد .
وهنا يقول الحق سبحانه :
{ فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] .
من سَام الدابة التي تَرْعى في المِلْك العام ، وساعة ترعى الدابة في المِلْك العام فهي تترك آثارها من مَسَارب وعلامات . ويُسَمُّون الأرضَ التي يوجد بها نبات ولا يقربها حيوان بأنها " روضة أنُف " بمعنى أن أحداً لم يَأتِ إِليها أو يَقربها؛ كأنها أنفت أنْ يقطف منها شيء .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ . . . . } .
(1/4855)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
وهكذا يُعلِمنا الله أن النبات لا ينبت وحده ، بل يحتاج إلى مَنْ يُنبِته ، وهنا يَخصُّ الحق سبحانه ألواناً من الزراعة التي لها أَثَر في الحياة ، ويذكر الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من كل الثمرات .
والزيتون كما نعلم يحتوي على مواد دُهْنية؛ والعنب يحتوي على مواد سُكرية ، وكذلك النخيل الذي يعطي البلح وهو يحتوي على مواد سُكرية ، وغذاء الإنسان يأتي من النشويات والبروتينات .
وما ذكره الحق سبحانه أولاً عن الأنعام ، وما ذكره عن النباتات يُوضِّح أنه قد أعطى الإنسان مُكوِّنات الغذاء؛ فهو القائل : { والتين والزيتون * وَطُورِ سِينِينَ * وهذا البلد الأمين * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 1-4 ] .
أي : أنه جعل للإنسان في قُوته البروتينات والدُّهنيات والنشويات والفيتامينات التي تصون حياته .
وحين يرغب الأطباء في تغذية إنسان أثناء المرض؛ فهم يُذِيبون العناصر التي يحتاجها للغذاء في السوائل التي يُقطِّرونها في أوردته بالحَقْن ، ولكنهم يخافون من طول التغذية بهذه الطريقة؛ لأن الأمعاء قد تنكمش .
ومَنْ يقومون بتغذية البهائم يعلمون أن التغذية تتكَّون من نوعين؛ غذاء يملأ البطن؛ وغذاء يمدُّ بالعناصر اللازمة ، فالتبن مثلا يملأ البطن ، ويمدُّها بالألياف التي تساعد على حركة الأمعاء ، ولكن الكُسْب يُغذِّي ويضمن السِّمنة والوَفْرة في اللحم .
وحين يقول الحق سبحانه :
{ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات } [ النحل : 11 ] .
فعليك أنْ تستقبلَ هذا القول في ضَوْء قَوْل الحق سبحانه : { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } [ الواقعة : 64 ] .
ذلك أنك تحرثُ الأرض فقط ، أما الذي يزرع فهو الحق سبحانه؛ وأنت قد حرثتَ بالحديد الذي أودعه الله في الأرض فاستخرجْتَه أنت؛ وبالخشب الذي أنبته الله؛ وصنعتَ أنت منهما المحراث الذي تحرث به في الأرض المخلوقة لله ، والطاقة التي حرثتَ بها ممنوحة لك من الله .
ثم يُذكِّرك الله بأن كُلَّ الثمرات هي من عطائه ، فيعطف العام على الخاص؛ ويقول :
{ وَمِن كُلِّ الثمرات } [ النحل : 11 ] .
أي : أن ما تأخذه هو جزء من كل الثمرات؛ ذلك أن الثمرات كثيرة ، وهي أكثر من أن تُعَد .
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 11 ] .
أي : على الإنسان أنْ يُعمِلَ فكره في مُعْطيات الكون ، ثم يبحث عن موقفه من تلك المُعْطيات ، ويُحدِّد وَضْعه ليجد نفسه غير فاعل؛ وهو قابل لأنْ يفعَل .
وشاء الحق سبحانه أن يُذكِّرنا أن التفكُّر ليس مهمةَ إنسان واحد بل مهمة الجميع ، وكأن الحق سبحانه يريد لنا أنْ تتسانَد أفكارنا؛ فَمْن عنده لَقْطة فكرية تؤدي إلى الله لا بُدَّ أنْ يقولها لغيره .
ونجد في القرآن آيات تنتهي بالتذكُّر والتفكُّر وبالتدبُّر وبالتفقُّه ، وكُلٌّ منها تؤدي إلى العلم اليقيني؛ فحين يقول " يتذكرون " فالمعنى أنه سبق الإلمام بها؛ ولكن النسيان محاها؛ فكأن مِنْ مهمتك أنْ تتذكَّر .
أما كلمة " يتفكرون " فهي أُمّ كل تلك المعاني؛ لأنك حين تشغل فكرك تحتاج إلى أمرين ، أنْ تنظرَ إلى مُعْطيات ظواهرها ومُعْطيات أدبارها .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن } [ النساء : 82 ] .
وهذا يعني ألاَّ تأخذ الواجهة فقط ، بل عليك أنْ تنظرَ إلى المعطيات الخلفية كي تفهم ، وحين تفهم تكون قد عرفتَ ، فالمهمة مُكوَّنة من أربع مراحل؛ تفكُّر ، فتدبُّر ، فتفقُّه؛ فمعرفة وعِلْم .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل . . . } .
(1/4856)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
ونعلم أن الليل والنهار آيتان واضحتان؛ والليل يناسبه القمر ، والنهار تناسبه الشمس ، وهم جميعاً متعلقون بفعل واحد ، وهم نسق واحد ، والتسخير يعني قَهْر مخلوق لمخلوق؛ لِيُؤدِّي كُلٌّ مهمته . وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر؛ كُلٌّ له مهمة ، فالليل مُهِمته الراحة .
قال الحق سبحانه : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 73 ] .
والنهار له مهمة أنْ تكدحَ في الأرض لتبتغي رِزْقاً من الله وفَضْلاً ، والشمس جعلها مصدراً للطاقة والدِّفْء ، وهي تعطيك دون أنْ تسألَ ، ولا تستطيع هي أيضاً أن تمتنعَ عن عطاء قَدَّره الله .
وهي ليست مِلْكاً لأحد غير الله؛ بل هي من نظام الكون الذي لم يجعل الحق سبحانه لأحد قدرةً عليه ، حتى لا يتحكَّم أحدٌ في أحدٍ ، وكذلك القمر جعل له الحق مهمة أخرى .
وإياك أنْ تتوهَم أن هناك مهمة تعارض مهمة أخرى ، بل هي مهام متكاملة . والحق سبحانه هو القائل : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى * وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 1-4 ] .
أي : أن الليل والنهار وإنْ تقابلا فليسَا متعارضين؛ كما أن الذكر والأنثى يتقابلان لا لتتعارض مهمة كل منهما بل لتتكامل .
ويضرب الحق سبحانه المثل لِيُوضّح لنا هذا التكامل فيقول : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] .
وأيُّ إنسان إنْ سهر يومين متتابعين لا يستطيع أنْ يقاومَ النوم؛ وإن أدَّى مهمة في هذين اليومين؛ فقد يحتاج لراحة من بعد ذلك تمتدُّ أسبوعاً؛ ولذلك قال الله : { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10-11 ] .
والإنسان إذا ما صلَّى العشاء وذهب إلى فراشه سيستيقظ حَتْماً قبل الفجر وهو في قِمّة النشاط؛ بعد أنْ قضى ليلاً مريحاً في سُبَاتٍ عميق؛ لا قلقَ فيه .
ولكن الإنسان في بلادنا استورد من الغرب حثالة الحضارة من أجهزة تجعله يقضي الليل ساهراً ، ليتابع التليفزيون أو أفلام الفيديو أو القنوات الفضائية ، فيقوم في الصباح مُنْهكاً ، رغم أن أهل تلك البلاد التي قدَّمتْ تلك المخترعات؛ نجدهم وهم يستخدمون تلك المخترعات يضعونها في موضعها الصحيح ، وفي وقتها المناسب؛ لذلك نجدهم ينامون مُبكِّرين ، ليستيقظوا في الفجر بهمَّة ونشاط .
ويبدأ الحق سبحانه جملة جديدة تقول :
{ والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ . . } [ النحل : 12 ] .
نلحظ أنه لم يَأْتِ بالنجوم معطوفةً على ما قبلها ، بل خَصَّها الحق سبحانه بجملة جديدة على الرغم من أنها أقلُّ الأجرام ، وقد لا نتبيَّنها لكثرتها وتعدُّد مواقعها ولكِنَّا نجد الحق يُقسِم بها فهو القائل : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ] .
فكلُّ نجم من تلك النجوم البعيدة له مُهمة ، وإذا كنتَ أنت في حياتك اليومية حين ينطفيء النور تذهب لترى : ماذا حدث في صندوق الأكباس الذي في منزلك؛ ولكنك لا تعرف كيف تأتيك الكهرباء إلى منزلك ، وكيف تقدَّم العلم ليصنعَ لك المصباح الكهربائي .
(1/4857)
وكيف مدَّتْ الدولة الكهرباء من مواقع توليدها إلى بيتك .
وإذا كنتَ تجهل ما خَلْف الأثر الواحد الذي يصلك في منزلك ، فما بالك بقول الحق سبحانه : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] .
وهو القائل : { وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] .
وقد خصَّها الحق سبحانه هنا بجملة جديدة مستقلة أعاد فيها خبر التسخير ، ذلك أن لكلٍّ منها منازلَ ، وهي كثيرة على العَدِّ والإحصاء ، وبعضها بعيد لا يصلنا ضوؤه إلا بعد ملايين السنين .
وقد خصَّها الحق سبحانه بهذا الخبر من التسخير حتى نتبينَ أن لله سراً في كل ما خلق بين السماء والأرض .
ويريد لنا أن نلتفتَ إلى أن تركيبات الأشياء التي تنفعنا مواجهةً وراءها أشياء أخرى تخدمها .
ونجد الحق سبحانه وهو يُذيِّل الآية الكريمة بقوله :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ النحل : 12 ] .
ونعلم أن الآيات هي الأمورُ العجيبة التي يجب ألاَّ يمرَّ عليها الإنسان مراً مُعرِضاً؛ بل عليه أنْ يتأملَها ، ففي هذا التأمل فائدة له؛ ويمكنه أنْ يستنبطَ منها المجاهيل التي تُنعِّم البشر وتُسعِدهم .
وكلمة { يَعْقِلُونَ } تعني إعمالَ العقل ، ونعلم أن للعقل تركيبةً خاصة؛ وهو يستنبط من المُحسّات الأمورَ المعنوية ، وبهذا يأخذ من الملوم نتيجةً كانت مجهولةً بالنسبة له؛ فيَسعد بها ويُسعد بها مَنْ حوله ، ثم يجعل من هذا المجهول مقدمةً يصل بها إلى نتيجة جديدة .
وهكذا يستنبط الإنسان من أسرار الكون ما شاء له الله أنْ يستنبطَ ويكتشف من أسرار الكون .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي . . . . } .
(1/4858)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
وكلمة { ذَرَأَ } تعني أنه خلق خَلْقاً يتكاثر بذاته؛ إما بالحَمْل للأنثى من الذَّكَر؛ في الإنسان أو الحيوان والنبات؛ وإما بواسطة تفريخ البيض كما في الطيور .
وهكذا نفهم الذَّرْءَ بمعنى أنه ليس مطلقَ خَلْق؛ بل خلق بذاته في التكاثر بذاته ، والحق سبحانه قد خلق آدم أولاً ، ثم أخرج منه النسل ليتكاثر النسلُ بذاته حين يجتمع زوجان ونتجا مثيلاً لهما ، ولذلك قال الحق سبحانه : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يفيض على عباده بأن يُعطِيهم صفة أنهم يخلقون ، ولكنهم لا يخلقون كخَلْقه؛ فهو قد خلق آدم ثم أوجدهم من نسله . والبشر قد يخلقون بعضاً من مُعِدات وأدوات حياتهم ، لكنهم لا يخلقون كخَلْق الله؛ فهم لا يخلقون من معدوم؛ بل من موجود ، والحق سبحانه يخلق من المعدوم مَنْ لا وجود له؛ وهو بذلك أحسَنُ الخالقين .
والمَثل الذي أضربه دائماً هو الحبة التي تُنبِت سبْعَ سنابل وفي كل سُنْبلة مائة حَبّة؛ وقد أوردها الحق سبحانه ليشوِّق للإنسان عملية الإنفاق في سبيل الله ، وهذا هو الخَلْق الماديّ الملموس؛ فمن حَبَّة واحدة أنبت سبحانه كل ذلك .
وهنا يقول الحق سبحانه :
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ . . . } [ النحل : 13 ] .
أي : ما خلق لنا من خَلْق متكاثر بذاته تختلف ألوانه . واختلاف الألوان وتعدُّدها دليل على طلاقة قدرة الله في أن الكائنات لا تخلق على نَمَطٍ واحد .
ويعطينا الحق سبحانه الصورة على هذا الأمر في قوله سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ فاطر : 27-28 ] .
وأنت تمشي بين الجبال ، فتجدها من ألوان مختلفة؛ وعلى الجبل الواحد تجد خطوطاً تفصل بين طبقاتٍ مُتعدّدة ، وهكذا تختلف الألوان بين الجمادات وبعضها ، وبين النباتات وبعضها البعض ، وبين البشر أيضاً .
وإذا ما قال الحق سبحانه : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء . . . } [ فاطر : 28 ] .
فلَنا أن نعرفَ أن العلماء هنا مقصودٌ بهم كُلّ عالم يقف على قضية كونية مَرْكوزة في الكون أو نزلتْ من المُكوِّن مباشرة .
ولم يقصد الحق سبحانه بهذا القول علماء الدين فقط ، فالمقصود هو كل عالم يبحث بحثاً ليستنبط به معلوماً من مجهول ، ويُجلّي أسرار الله في خلقه . وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يفرق فَرْقاً واضحاً في هذا الأمر ، كي لا يتدخل علماء الدين في البحث العلميّ التجريبيّ الذي يفيد الناس ، ووجد صلى الله عليه وسلم الناس تُؤبّر النخيل؛ بمعنى أنهم يأتون بطَلْع الذُّكورة؛ ويُلقِّحون النخيل التي تتصف بالأنوثة ، وقال : لو لم تفعلوا لأثمرتْ .
(1/4859)
ولما لم تثمر النخيل ، قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر؛ وأمر بإصلاحه وقال القولة الفصل " أنتم أعلم بشئون دنياكم " .
أي : أنتم أعلم بالأمور التجريبية المعملية ، ونلحظ أن الذي حجز الحضارة والتطوُّر عن أوربا لقرون طويلة؛ هو محاولة رجال الدين أنْ يحجُروا على البحث العلمي؛ ويتهموا كُلَّ عالم تجريبيّ بالكفر .
ويتميز الإسلام بأنه الدين الذي لم يَحُلْ دون بَحْث أي آية من آيات الله في الكون ، ومن حنان الله أنْ يُوضِّح لخَلْقه أهمية البحث في أسرار الكون ، فهو القائل : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
أي : عليك أيُّها المؤمن ألاَّ تُعرِض عن أيِّ آية من آيات الله التي في الكون؛ بل على المؤمن أنْ يُعمِلَ عقله وفِكْره بالتأمُّل ليستفيد منها في اعتقاده وحياته . يقول الحق : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق . . } [ فصلت : 53 ] .
أما الأمور التي يتعلَّق بها حساب الآخرة؛ فهي من اختصاص العلماء الفقهاء .
ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [ النحل : 13 ] .
وبعد ذلك يعود الحق سبحانه إلى التسخير ، فيقول : { وَهُوَ الذي سَخَّرَ . . . } .
(1/4860)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
والتسخير كما علمنا من قَبْل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أنْ يتخلَّف عنها ، ولا اختيارَ له في أنْ يؤدِّيها أو لا يُؤدِّيها . ونعلم أن الكون كله مُسخَّر للإنسان قبل أنْ يُوجدَ؛ ثم خلق الله الإنسان مُخْتاراً .
وقد يظن البعض أن الكائنات المُسخَّرة ليس لها اختيار ، وهذا خطأ؛ لأن تلك الكائنات لها اختيار حَسمتْه في بداية وجودها ، ولنقرأْ قوله الحق : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا . . . } [ الأحزاب : 72 ] .
وهكذا نفهم أن الحق سبحانه خيَّر خلقه بين التسخير وبين الاختيار ، إلا أن الكائنات التي هي ما دون الإنسان أخذتْ اختيارها مرَّة واحدة؛ لذلك لا يجب أنْ يُقال : إن الحق سبحانه هو الذي قهرها ، بل هي التي اختارتْ من أول الأمر؛ لأنها قدرتْ وقت الأداء ، ولم تقدر فقط وقت التحمل كما فعل الإنسان ، وكأنها قالت لنفسها : فلأخرج من باب الجَمال؛ قبل أن ينفتحَ أمامي باب ظلم النفس .
ونجد الحق سبحانه يصف الإنسان : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
فقد ظلم الإنسانُ نفسَه حين اختار أنْ يحملَ الأمانة؛ لأنه قدر وقت التحمُّل ولم يقدر وقت الأداء . وهو جَهُول لأنه لم يعرف كيف يُفرِّق بين الأداء والتحمُّل ، بينما منعت الكائنات الأخرى نفسها من أن تتحمَّل مسئولية الأمانة ، فلم تظلم نفسها بذلك .
وهكذا نصل إلى تأكيد معنى التسخير وتوضيحه بشكل دقيق ، ونعرف أنه إيجاد الكائن لمهمة لا يملك أن يتخلَّف عنها؛ أما الاختيار فهو إيجاد الكائن لِمُهِمة له أنْ يُؤدِّيها أو يتخلَّف عنها .
وأوضحنا أن المُسخَّرات كان لها أنْ تختارَ من البداية ، فاختارتْ أن تُسخِّر وألاَّ تتحملَ الأمانة ، بينما أخذ الإنسان المهمةَ ، واعتمد على عقله وفِكْره ، وقَبِل أن يُرتِّب أمور حياته على ضوء ذلك .
ومع ذلك أعطاه الله بعضاً من التسخير كي يجعل الكون كله فيه بعض من التسخير وبعض من الاختيار؛ ولذلك نجد بعضاً من الأحداث تجري على الإنسان ولا اختيارَ له فيها؛ كان يمرضَ أو تقع له حادثة أو يُفلس .
ولذلك أقول : إن الكافر مُغفّل لاختياره؛ لأنه ينكر وجود الله ويتمرَّد على الإيمان ، رغم أنه لا يقدر أن يصُدَّ عن نفسه المرض أو الموت .
وفي الآية التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه :
{ وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر } [ النحل : 14 ] .
فهذا يعني أنه هو الذي خلق البحر ، لأنه هو الذي خلق السماوات والأرض؛ وجعل اليابسة ربع مساحة الأرض؛ بينما البحار والمحيطات تحتل ثلاثة أرباع مساحة الأرض .
أي : أنه يُحدِّثنا هنا عن ثلاثة أرباع الأرض ، وأوجد البحار والمحيطات على هيئة نستطيع أن نأخذَ منها بعضاً من الطعام فيقول :
{ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا .
(1/4861)
. . } [ النحل : 14 ] .
ومن بعض عطاءات الحق سبحانه أن يأتي المَدُّ أحياناً ثم يَعْقبه الجَزْر؛ فيبقى بعض من السمك على الشاطيء ، أو قد تحمل موجة عفيّة بعضاً من السمك وتلقيه على الشاطئ .
وهكذا يكون العطاء بلا جَهْد من الإنسان ، بل إن وجودَ بعض من الأسماك على الشاطيء هو الذي نبَّه الإنسان إلى أهمية أنْ يحتالَ ويصنع السِّنارة؛ ويغزل الشبكة؛ ثم ينتقل من تلك الوسائل البدائية إلى التقنيّات الحديثة في صيد الأسماك .
لكن الحلية التي يتم استخراجها من البحر فهي اللؤلؤ ، وهي تقتضي أن يغوصَ الإنسان في القاع ليلتقطها . ويلفتنا الحق سبحانه إلى أسرار كنوزه فيقول : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى } [ طه : 6 ] .
وكل كنوز الأمم توجد تحت الثَّرى . ونحن إنْ قسمنا الكرة الأرضية كما نقسم البطيخة إلى قِطَع كالتي نُسمِّيها " شقة البطيخ " سنجد أن كنوز كل قطعة تتساوى مع كنوز القطعة الأخرى في القيمة النفعية؛ ولكن كُلّ عطاء يوجد بجزء من الأرض له ميعاد ميلاد يحدده الحق سبحانه .
فهناك مكان في الأرض جعل الله العطاء فيه من الزراعة؛ وهناك مكان آخر صحراوي يخاله الناس بلا أيِّ نفع؛ ثم تتفجَّر فيه آبار البترول ، وهكذا .
وتسخير الحق سبحانه للبحر ليس بإيجاده فقط على الهيئة التي هو عليها؛ بل قد تجد له أشياء ومهام أخرى مثل انشقاق البحر بعصا موسى عليه السلام؛ وصار كل فِرْق كالطَّوْد العظيم .
ومن قبل ذلك حين حمل اليَمَّ موسى عليه السلام بعد أن ألقتْه أمه فيه بإلهام من الله : { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل . . . } [ طه : 39 ] .
وهكذا نجد أن أمراً من الله قد صدر للبحر بأن يحملَ موسى إلى الشاطيء فَوْر أنْ تُلقيَه أمه فيه .
وهكذا يتضح لنا معنى التسخير للبحر في مهام أخرى ، غير أنه يوجد به السمك ونستخرج منه الحُليّ . ونعلم أن ماءَ البحر مالح؛ عكس ماء النهر وماء المطر؛ فالمائيّة تنقسم إلى قِسْمين؛ مائية عَذْبة ، ومائية مِلْحية .
وقوله الحق عن ذلك : { وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا . . . } [ فاطر : 12 ] .
ويسمُّونهم الاثنين على التغليب في قوله الحق : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ } [ الرحمن : 19 ] .
والمقصود هنا الماء العَذْب والماء المالح ، وكيف يختلطان ، ولكن الماء العَذْب يتسرَّب إلى بطن الأرض ، وأنت لو حفرتَ في قاع البحر لوجدتَ ماء عَذْباً ، فالحق سبحانه هو الذي شاء ذلك وبيَّنه في قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض } [ الزمر : 21 ] .
وهنا يقول سبحانه :
{ وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً . . . } [ النحل : 14 ] .
واللحم إذا أُطلِق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من الأنعام ، أما إذا قُيّد ب " لحم طري " فالمقصود هو السمك ، وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني؛ لأن السمك الصالح للأكل يكون طَرّياً دائماً .
(1/4862)
ونجد مَنْ يشتري السمك وهو يَثْني السمكة ، فإنْ كانت طريَّة فتلك علامةٌ على أنها صالحةٌ للأكل ، وإنْ كانت لا تنثني فهذا يعني أنها فاسدة ، وأنت إنْ أخرجتَ سمكة من البحر تجد لحمها طَرِّياً؛ فإنْ ألقيتَها في الماء فهي تعود إلى السباحة والحركة تحت الماء؛ أما إن كانت ميتة فهي تنتفخ وتطفو .
لذلك " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل السمك الطَّافي لأنه المَيْتة " ، وتقييد اللحم هنا بأنه طريّ كي يخرجَ عن اللحم العادي وهو لَحْم الأنعام؛ ولذلك نجد العلماء يقولون : مَنْ حلفَ ألاَّ يأكل لَحْماً؛ ثم أكل سمكاً فهو لا يحنث؛ لأن العُرْف جرى على أن اللحم هو لَحْم الأنعام .
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية عن تسخير البحر :
{ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا . . . } [ النحل : 14 ] .
وهكذا نجد أن هذه المسألة تأخذ جهداً؛ لأنها رفاهية؛ أما السمك فقال عنه مباشرة :
{ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً . . . } [ النحل : 14 ] .
والأكْل أمر ضروري لذلك تكفّله الله وأعطى التسهيلات في صَيْده ، أما الزينة فلكَ أنْ تتعبَ لتستخرجه ، فهو تَرَفٌ . وضروريات الحياة مَجْزولة؛ أما تَرَف الحياة فيقتضي منك أنْ تغطسَ في الماء وتتعبَ من أجله .
وفي هذا إشارة إلى أن مَنْ يريد أنْ يرتقيَ في معيشته؛ فَلْيُكثِر من دخله ببذل عرقه؛ لا أنْ يُترِف معيشته من عرق غيره .
ويقول سبحانه :
{ تَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا . . . } [ النحل : 14 ] .
والحِلْية كما نعلم تلبسها المرأة . والمَلْحظ الأدنى هنا أن زينةَ المرأة هي من أجلْ الرجل؛ فكأن الرجلَ هو الذي يستمتع بتلك الزينة ، وكأنه هو الذي يتزّين . أو : أن هذه المُسْتخرجات من البحر ليست مُحرَّمة على الرجال مِثْل الذهب والحرير؛ فالذهب والحرير نَقْد؛ أما اللؤلؤ فليس نَقْداً .
واللبس هو الغالب الشائع ، وقد يصِحّ أنْ تُصنعَ من تلك الحلية عَصاً أو أي شيء مما تستخدمه .
ويتابع سبحانه في نفس الآية :
{ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } [ النحل : 14 ] .
ولم تكُن هناك بواخر كبيرة كالتي في عصرنا هذا بل فُلُك صغيرة . ونعلم أن نوحاً عليه السلام هو أول مَنْ صنع الفُلْك ، وسَخِر منه قومه؛ ولو كان ما يصنعه أمراً عادياً لَمَا سَخِروا منه .
وبطبيعة الحال لم يَكُنْ هناك مسامير لذلك ربطها بالحبال؛ ولذلك قال الحق سبحانه عنه : { وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر : 13 ] .
وكان جَرْي مركب نوح بإرادة الله ، ولم يكُنْ العلْم قد تقدَّم ليصنع البشر المراكب الضخمة التي تنبّأ بها القرآن في قوله الحق : { وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام } [ الرحمن : 24 ] .
ونحن حين نقرؤها الآن نتعجَّب من قدرة القرآن على التنبؤ بما اخترعه البشر؛ فالقرآن عالم بما يَجِدّ؛ لا بقهريات الاقتدار فقط؛ بل باختيارات البشر أيضاً .
وقوله الحق :
{ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ .
(1/4863)
. . } [ النحل : 14 ] .
والمَاخِر هو الذي يشق حلزومه الماء ، والحُلْزوم هو الصدر . ونجد مَنْ يصنعون المراكب يجعلون المقدمة حادةً لتكون رأس الحربة التي تشق المياه بخرير .
وفي هذه الآية امتنَّ الحق سبحانه على عباده بثلاثة أمور : صيد السمك ، واستخراج الحُليّ ، وسَيْر الفلْك في البحر؛ ثم يعطف عليهم ما يمكن أن يستجدّ؛ فيقول :
{ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . . } [ النحل : 14 ] .
وكأن البواخر وهي تشقّ الماء ويرى الإنسان الماءَ اللين ، وهو يحمل الجسم الصَّلْب للباخرة فيجد فيه متعة ، فضلاً عن أن هذه البواخر تحمل الإنسانَ من مكان إلى مكان .
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله :
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 14 ] .
ولا يُقال ذلك إلا في سَرْد نعمة آثارُها واضحة ملحوظة تستحقّ الشكر من العقل العادي والفطرة العادية ، وشاء سبحانه أنْ يتركَ الشُّكر للبشر على تلك النعم ، ولم يُسخرهم شاكرين .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وألقى فِي الأرض . . . } .
(1/4864)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
وهكذا يدلُّنا الحق سبحانه على أن الأرض قد خُلِقت على مراحل ، ويشرح ذلك قوله سبحانه : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 9-10 ] .
وهكذا عَلِمنا أن جِرْم الأرض العام قد خُلِق أولاً؛ وهو مخلوق على هيئة الحركة؛ ولأن الحركة هي التي تأتي بالمَيدان التأرجُّح يميناً وشمالاً وعدم استقرار الجِرْم على وَضْع ، لذلك شاء سبحانه أن يخلق في الأرض الرواسي لتجعلها تبدو ثابتة غير مُقلقة والرَّاسي هو الذي يَثبت .
ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الاستقرار لما خلق الله الجبال ، ولكنه خلقَ الأرض على هيئة الحركة ، ومنع أنْ تميدَ بخَلْق الجبال ليجعلَ الجبال رواسيَ للأرض .
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] . وكلمة { وألقى } تدلُّ على أن الجبال شيء متماسك وُضِع ليستقر .
ثم يعطف سبحانه على الجبال :
{ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً } [ النحل : 15 ] .
ولم يَأْتِ الحق سبحانه فعل يناسب الأنهار ، ومن العجيب أن الأسلوب يجمع جماداً في الجبال ، وسيولة في الأنهار ، وسبلاً أي طرقاً ، وكُلُّ ذلك :
{ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ النحل : 15 ] .
أي : أن الجَعْل كلَّه لعلنا نهتدي .
ونعلم أن العرب كانوا يهتدوا بالجبال ، ويجعلون منها علامات ، والمثَل هو جبل " هرشا " الذي يقول فيه الشاعر :
خُذُوا بَطْن هرشا أو قَفَاهَا فإنَّهُ ... كِلاَ جَانِبي هرشا لَهُنَّ طَريقُ
وأيضاً جبل التوباد كان يُعتبر علامة .
وكذلك قَوْل الحق سبحانه : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن } [ مريم : 52 ] .
وهكذا نجد من ضمن فوائد الجبال أنها علاماتٌ نهتدي بها إلى الطرق وإلى الأماكن ، وتلك من المهام الجانبية للجبال .
أو :
{ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ النحل : 15 ] .
باتعاظكم بالأشياء المخلوقة لكم ، كي تهتدوا لِمَنْ أوجدها لكم .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَعَلامَاتٍ وبالنجم . . . } .
(1/4865)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
أي : أن ما تقدم من خَلْق الله هو علامات تدلُّ على ضرورة أنْ تروا المنافع التي أودعها الله فيما خلق لكم؛ وتهتدوا إلى الإيمان بإله مُوجِد لهذه الأشياء لصالحكم .
وما سبق من علامات مَقرُّه الأرض ، سواء الجبال أو الأنهار أو السُّبل؛ وأضاف الحق سبحانه لها في هذه الآية علامة توجد في السماء ، وهي النجوم .
ونعلم أن كلَّ مَنْ يسير في البحر إنما يهتدي بالنجم . وتكلم عنها الحق سبحانه هنا كتسخير مُخْتص؛ ولم يُدخِلها في التسخيرات المتعددة؛ ولأن نجماً يقود لنجم آخر ، وهناك نجوم لم يصلنا ضوؤها بعد ، وننتفع بآثارها من خلال غيرها .
ونعلم أن قريشاً كانت لها رحلتان في العام : رحلة الشتاء ، ورحلة الصيف . وكانت تسلك سبلاً متعددة ، فتهتدي بالنجوم في طريقها ، ولذلك لا بد أن يكون عندها خبرة بمواقع النجوم .
ويقول الحق سبحانه :
{ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] .
قد فضَّل الحق هذا الأسلوب من بين ثلاثة أساليب يمكن أنْ تُؤدي المعنى؛ هي : " يهتدون بالنجم " و " بالنجم يهتدون " والثالث : هو الذي استخدمه الحق فقال :
{ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] .
وذلك تأكيد على خبرة قريش بمواقع النجوم؛ لأنها تسافر كل عام رحلتين ، ولم يكن هناك آخرون يملكون تلك الخبرة .
والضمير " هم " جاء ليعطي خصوصيتين؛ الأولى : أنهم يهتدون بالنجم لا بغيره؛ والثانية : أن قريشاً تهتدي بالنجم ، بينما غيرُها من القبائل لا تستطيع أن تهتدي به .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ . . . } .
(1/4866)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
ونعلم أن الكلام الذي يلقيه المتكلم للسامع يأخذ صوراً متعددة؛ فمرَّة يأخذ صورة الخبر ، كأن يقول : مَنْ لا يخلق ليس كَمنْ يخلق . وهذا كلام خبريّ ، يصح أنْ تُصدِّقه ، ويصحّ ألاَّ تُصدّقه .
أما إذا أراد المتكلم أن يأتي منك أن التصديق ، ويجعلك تنطق به؛ فهو يأتي لك بصيغة سؤال ، لا تستطيع إلا أنْ تجيبَ عليه بالتأكيد لِمَا يرغبه المتكلِّم .
ونعلم أن قريشاً كانت تعبد الأصنام؛ وجعلوها آلهة؛ وهي لم تكلمهم ، ولم تُنزِل منهجاً ، وقالوا ما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
فلماذا إذن لا يعبدون الله مباشرة دون وساطة؟ ولماذا لا يرفعون عن أنفسهم مشقة العبادة ، ويتجهون إلى الله مباشرة؟
ثم لنسأل : ما هي العبادة؟
نعلم أن العبادة تعني الطاعة في " افعل " و " لا تفعل " التي تصدر من المعبود . وبطبيعة الحال لا توجد أوامر أو تكاليف من الأصنام لِمَنْ يعبدونها ، فهي معبودات بلا منهج ، وبلا جزاء لِمَن خالف ، وبلا ثواب لِمَنْ أطاع ، وبالتالي لا تصلح تلك الأصنام للعبادة .
ولنناقش المسألة من زاوية أخرى ، لقد أوضح الحق سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات والأرض ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، وسخر كل الكائنات لخدمة الإنسان الذي أوكل إليه مهمة خلافته في الأرض .
وكلُّ تلك الأمور لا يدعيها أحد غير الله ، بل إنك إنْ سألتَ الكفار والمشركين عمَّن خلقهم ليقولن الله .
قال الحق سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] .
ذلك أن عملية الإيجاد والخَلْق لا يجرؤ أحدٌ أنْ يدَّعيَها إنْ لم يكُنْ هو الذي أبدعها ، وحين تسألهم : مَنْ خلق السماوات والأرض لقالوا : إنه الله .
وقد أبلغهم محمد صلى الله عليه وسلم أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ، وأن منهجه لإدارة الكون يبدأ من عبادته سبحانه .
وما دام قد ادَّعى الحق سبحانه ذلكن ولم يوجد مَنْ ينازعه؛ فالدعوة تثبُت له إلى أنْ يوجد معارض ، ولم يوجد هذا المُعَارض أبداً .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لم يَقُل الحق سبحانه " أتجعلون مَنْ لا يخلق مِثْل من يخلق " . بل قال :
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] .
ووراء ذلك حكمة؛ فهؤلاء الذين نزل إليهم الحديث تعاملوا مع الأصنام وكأنها الله؛ وتوهَّموا أن الله مخلوق مثل تلك الأصنام؛ ولذلك جاء القول الذي يناسب هذا التصوُّر .
والحق سبحانه يريد أنْ يبطل هذا التصوُّر من الأساس؛ فأوضح أن مَنْ تعبدونهم هم أصنام من الحجارة وهي مادة ولها صورة ، وأنتم صنعتموها على حَسْب تصوُّركم وقدراتكم .
وفي هذه الحالة يكون المعبود أقلَّ درجة من العابد وأدنى منه؛ فضلاً عن أن تلك الأصنام لا تملك لِمَنْ يعبدها ضراً ولا نفعاً .
ثم : لماذا تدعون الله إنْ مسَّكُم ضُرٌّ؟
إن الإنسان يدعو الله في موقف الضر؛ لأنه لحظتها لا يجرؤ على خداع نفسه ، أما الآلهة التي صنعوها وعبدوها فهي لا تسمع الدعاء : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] .
فكيف إذن تساوون بين مَنْ لا يخلق ، ومن يخلق؟ إن عليكم أنْ تتذكَّروا ، وأنْ تتفكَّروا ، وأن تُعْمِلوا عقولكم فيما ينفعكم .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ . . . } .
(1/4867)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
وهذه الآية سبقتْ في سورة إبراهيم؛ فقال الحق سبحانه هناك : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] .
وكان الحديث في مجال مَنْ لم يعطوا الألوهية الخالقة ، والربوبية الموجدة ، والمُمِدَّة حَقَّها ، وجحدوا كل ذلك . ونفس الموقف هنا حديث عن نفس القوم ، فيُوضِّح الحق سبحانه :
أنتم لو استعرضتم نِعمَ الله فلن تحصوها ، ذلك أن المعدود دائماً يكون مكرر الأفراد؛ ولكن النعمة الواحدة في نظرك تشتمل على نِعَم لا تُحصَى ولا تُعَد؛ فما بالك بالنِّعم مجتمعة؟
أو : أن الحق سبحانه لا يمتنُّ إلا بشيء واحد ، هو أنه قد جاء لكم بنعمة ، وتلك النعمة أفرادها كثير جداً .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] .
أي : أنكم رغم كُفْركم سيزيدكم من النعم ، ويعطيكم من مناط الرحمة ، فمنكم الظلم ، ومن الله الغفران ، ومنكم الكفر ومن الله الرحمة .
وكأنَّ تذييل الآية هنا يرتبط بتذييل الآية التي في سورة إبراهيم حيث قال هناك : { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] .
فهو سبحانه غفور لجحدكم ونُكْرانكم لجميل الله ، وهو رحيم ، فيوالي عليكم النِّعَم رغم أنكم ظالمون وكافرون .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ . . } .
(1/4868)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
والسِّر كما نعلم هو ما حبْسته في نفسك ، أو ما أسررْتَ به لغيرك ، وطلبتَ منه ألاَّ يُعلِمه لأحد . والحق سبحانه يعلم السِّر ، بل يعلم ما هو أَخْفى فهو القائل : { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] .
أي : أنه يعلم ما نُسِره في أنفسنا ، ويعلم أيضاً ما يمكن أن يكون سِراً قبل أن نُسِرَّه في أنفسنا ، وهو سبحانه لا يعلم السِّر فقط؛ بل يعلم العَلَن أيضاً .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { والذين يَدْعُونَ مِن . . } .
(1/4869)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
أي : أنهم لا يستطيعون أنْ يخلقوا شيئاً؛ بل هم يُخْلقون ، والأصنام كما قُلْنا هي أدنى مِمَّنْ يخلقونها ، فكيف يستوي أنْ يكونَ المعبود أَدْنى من العابد؟ وذلك تسفيهٌ لعبادتهم .
ولذلك يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام لحظةَ أنْ حطَّم الأصنام ، وسأله أهله : مَنْ فعل ذلك بآلهتنا؟ وأجاب : { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } [ الأنبياء : 63 ] .
فقالوا له : إن الكبير مجرَّد صنم ، وأنت تعلم أنه لا يقدر على شيء .
ونجد القرآن يقول لأمثال هؤلاء : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [ الصافات : 95 ] .
فهذه الآلهة إذن لا تخلق بل تُخلق ، ولكن الله هو خالق كل شيء ، وسبحانه القائل : { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] .
ويذكر الحق سبحانه من بعد ذلك أوصاف تلك الأصنام : { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ . . . } .
(1/4870)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
وهم بالفعل أموات؛ لأنهم بلا حِسٍّ ولا حركة ، وقوله :
{ غَيْرُ أَحْيَآءٍ . . } [ النحل : 21 ] .
تفيد أنه لم تكُنْ لهم حياة من قَبْل ، ولم تثبت لهم الحياة في دورة من دورات الماضي أو الحاضر أو المستقبل .
وهكذا تكتمل أوصاف تلك الأصنام ، فهم لا يخلقون شيئاً ، بل هم مخلوقون بواسطة مَنْ نحتُوهم ، وتلك الأصنام والأوثان لن تكون لها حياة في الآخرة ، بل ستكون وَقُوداً للنار .
والحق سبحانه هو القائل : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ الصافات : 22 ] .
وبطبيعة الحال لن تشعرَ تلك الحجارةُ ببعْث مَنْ عبدوها .
ويُصفِّي الحق سبحانه من بعد ذلك المسألة العقدية ، فيقول : { إلهكم إله وَاحِدٌ . . . } .
(1/4871)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
وقَوْله الحق :
{ إلهكم إله وَاحِدٌ . . . } [ النحل : 22 ] .
تمنع أنْ يكونَ هناك أفراد غيره مثله ، وقد يتصوَّر البعض أنها تُساوي كلمة " أحد " . وأقول : إن كلمة " أحد " هي منع أن يكونَ له أجزاء؛ فهو مُنزَّه عن التَّكْرار أو التجزيء .
وفي هذا القول طَمْأنةٌ للمؤمنين بأنهم قد وصلوا إلى قِمَّة الفهم والاعتقاد بأن الله واحد .
أو : هو يُوضِّح للكافرين أن الله واحدٌ رغم أنوفكم ، وستعودون إليه غَصْباً ، وبهذا القول يكشف الحق سبحانه عن الفطرة الموجودة في النفس البشرية التي شهدتْ في عالم الذَّرِّ أن الله واحد لا شريك له ، وأن القيامة والبعث حَقٌّ .
ولكن الذين لا يؤمنون بالله وبالآخرة هم مَنْ ستروا عن أنفسهم فطرتهم ، فكلمة الكفر كما سبق أنْ قلنا هي ستر يقتضي مستوراً ، والكفر يستر إيمانَ الفطرة الأولى .
والذين يُنكرون الآخرة إنما يَحْرِمون أنفسهم من تصوُّر ما سوف يحدث حَتْماً؛ وهو الحساب الذي سيجازي بالثواب والحسنات على الأفعال الطيبة ، ولعل سيئاتهم تكون قليلة؛ فيجبُرها الحق سبحانه لهم وينالون الجنة .
والمُسْرفون على أنفسهم؛ يأملون أن تكون قضيةُ الدين كاذبة ، لأنهم يريدون أن يبتعدوا عن تصوُّر الحساب ، ويتمنَّوْنَ ألاَّ يوجدَ حساب .
ويَصِفُهم الحق سبحانه :
{ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 22 ] .
أي : أنهم لا يكتفُون بإنكار الآخرة فقط؛ بل يتعاظمون بدون وجه للعظمة .
و " استكبر " أي : نصَّب من نفسه كبيراً دون أنْ يملكَ مُقوِّمات الكِبر ، ذلك أن " الكبير " يجب أن يستندَ لِمُقوِّمات الكِبَر؛ ويضمن لنفسه أنْ تظلَّ تلك المُقوِّمات ذاتيةً فيه .
ولكِنَّا نحن البشر أبناءُ أغيارٍ؛ لذلك لا يصِحُّ لنا أنْ نتكَبَّر؛ فالواحد مِنَّا قد يمرض ، أو تزول عنه أعراض الثروة أو الجاه ، فصفات وكمالات الكبر ليست ذاتية في أيٍّ مِنَّا؛ وقد تُسلب ممَّنْ فاء الله عليه بها؛ ولذلك يصبح من اللائق أن يتواضعَ كُلٌّ مِنَّا ، وأنْ يستحضرَ ربَّه ، وأنْ يتضاءلَ أمام خالقه .
فالحق سبحانه وحده هو صاحب الحق في التكبُّر؛ وهو سبحانه الذي تبلغ صفاته ومُقوِّماته منتهى الكمال ، وهي لا تزول عنه أبداً .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله . . . } .
(1/4872)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وساعة نرى { لاَ جَرَمَ } فمعناها أنَّ ما يأتي بعدها هو حَقٌّ ثابت ، ف " لا " نافية ، و " جرم " مأخوذة من " الجريمة " ، وهي كَسْر شيء مُؤْمَن به لسلامة المجموع . وحين نقول " لا جرم " أي : أن ما بعدها حَقٌّ ثابت .
وما بعد { لاَ جَرَمَ } هنا هو : أن الله يعلم ما يُسِرون وما يُعلِنون .
وكُلُّ آيات القرآن التي ورد فيها قوله الحق { لاَ جَرَمَ } تُؤدِّي هذا المعنى ، مثل قوله الحق : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } [ النحل : 62 ] .
وكذلك قوله الحق : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون } [ النحل : 109 ] .
وقد قال بعض العلماء : إن قوله الحق { لاَ جَرَمَ } يحمل معنى " لا بُدَّ " ، وهذا يعني أن قوله الحق : { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ . . . } [ النحل : 23 ] . .
لا بُدَّ أن يعلم الله ما يُسِرون وما يُعلِنون ، ولا مناصَ من أن الذين كفروا هم الخاسرون . وقد حَلَّلَ العلماء اللفظ لِيصِلوا إلى أدقِّ أسراره .
وعِلْم الله لا ينطبق على الجَهْر فقط ، بل على السِّر أيضاً؛ ذلك أنه سيحاسبهم على كُلِّ الأعمال . ويُنهِي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } [ النحل : 23 ] .
وإذا سألنا : وما علاقةُ عِلْم الله بالعقوبة؟ ونقول : ألم يقولوا في أنفسهم : { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ . . } [ المجادلة : 8 ] .
وإذا ما نزل قول الحق سبحانه لِيُخبرهم بما قالوه في أنفسهم؛ فهذا دليل على أن مَنْ يُبلِغهم صادقٌ في البلاغ عن الله ، ورغم ذلك فقد استكبروا؛ وتأبَّوْا وعاندوا ، وأخذتهم العزة بالإثم ، وأرادوا بالاستكبار الهرب من الالتزام بالمنهج الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ . . . } .
(1/4873)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
وقوله الحق :
{ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ . . . } [ النحل : 24 ] .
يُوضِّح الاستدراك الذي أجراه الله على لسان المُتكلِّم؛ ليعرفوا أن لهم رباً . ولو لم يكونوا مؤمنين بِرَبٍّ ، لأعلنوا ذلك ، ولكنهم من غفلتهم اعترضوا على الإنزال ، ولم يعترضوا على أن لهم رباً .
وهذا دليل على إيمانهم بربٍّ خالق؛ ولكنهم يعترضون على محمد صلى الله عليه وسلم وما أُنزِل إليه من الله .
و :
{ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 24 ] .
والأساطير : هي الأكاذيب ، ولو كانوا صادقين مع أنفسهم لَمَا أقرُّوا بالألوهية ، ورفضوا أيضاً القول المُنْزل إليهم .
ومنهم من قال : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] .
ولكن هناك جانب آخر كان له موقف مختلف سيأتي تبيانه من بعد ذلك ، وهم الجانب المُضَادَّ لهؤلاء؛ حيث يقول الحق سبحانه : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ النحل : 30 ] .
ووراء ذلك قصة تُوضِّح جوانب الخلاف بين فريق مؤمن ، وفريق كافر .
فحين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وعشيرته إلى الإيمان بالله الواحد الذي أنزل عليه منهجاً في كتاب مُعجز ، بدأت أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتشر بين قبائل الجزيرة العربية كلها ، وأرسلت كُلَّ قبيلة وفداً منها لتتعرف وتستطلع مسألة هذا الرسول .
ولكن كُفَّار قريش أرادوا أن يصدُّوا عن سبيل الله؛ فقسَّموا أنفسهم على مداخل مكة الأربعة ، فإذا سألهم سائل من وفود القبائل " ماذا قال ربكم الذي أرسل لكم رسولاً؟ " .
هنا يرد عليهم قسم الكفار الذي يستقبلهم : " إنه رسول كاذب ، يُحرِّف ويُجدِّف " . والهدف طبعاً أنْ يصُدّ الكفار وفود القبائل .
ويخبر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بما حدث ، وإذا قيل للواقفين على أبواب مكة من الوفود التي جاءت تستطلع أخبار للرسول : ماذا أنزل ربُّكم؟ يردُّون " إنه يُردِّد أساطير الأولين " .
وهذا الجواب الواحد من الواقفين على أبواب مكة الأربعة يدلُّ على أنها إجابة مُتفق عليها ، وسبق الإعداد لها ، وقد أرادوا بذلك أنْ يَصرِفوا وفود القبائل عن الاستماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشبَّهوا الذِّكْر المُنزَّل من الله بمثل ما كان يرويه لهم على سبيل المثال النضر ابن الحارث من قصص القدماء التي تتشابه مع قصص عنترة ، وأبي زيد الهلالي التي تروي في قُرَانا . وهذه هي الموقعة الأولى في الأخذ والرد .
ويُعقِّب الحق سبحانه على قولهم هذا : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً . . . } .
(1/4874)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
وانظر إلى قوله سبحانه :
{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً . . . } [ النحل : 25 ] .
لترى كيف يُوضّح الحق سبحانه أن النفس البشرية لها أحوال متعددة؛ وإذا أسرفتْ على نفسها في تلك الجوانب؛ فهي قد تُسرف في الجانب الأخلاقي؛ والجانب الاجتماعي؛ وغير ذلك ، فتأخذ وِزْر كُلّ ما تفعل .
ويُوضِّح هنا الحق سبحانه أيضاً أن تلك النفس التي ترتكب الأوزار حين تُضِل نفساً غيرها فهي لا تتحمل من أوزار النفس التي أضلَّتها إلا ما نتجَ عن الإضلال؛ فيقول :
{ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] .
ذلك أن النفس التي تمَّ إضلالها قد ترتكب من الأوزار في مجالات أخرى ما لا يرتبط بعملية الإضلال .
والحق سبحانه أعدل من أنْ يُحمّل حتى المُضِل أوزاراً لم يكُنْ هو السبب فيها؛ ولذلك قال الحق سبحانه هنا :
{ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . . } [ النحل : 25 ] .
أي : أن المُضِلّ يحمل أوزار نفسه ، وكذلك يحمل بعضاً من أوزار الذين أضلّهم؛ تلك الأوزار الناتجة عن الإضلال .
وفي هذا مُطْلق العدالة من الحق سبحانه وتعالى ، فالذين تَمَّ إضلالهم يرتكبون نوعين من الأوزار والسيئات؛ أوزار وسيئات نتيجة الإضلال؛ وتلك يحملها معهم مَنْ أضلوهم .
أما الأوزار والسيئات التي ارتكبوها بأنفسهم دون أنْ يدفعهم لذلك مَنْ أضلُّوهم؛ فهم يتحمَّلون تَبِعاتها وحدهم ، وبذلك يحمل كُلُّ إنسان أحمال الذنوب التي ارتكبها .
وقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال : " والذي نفس محمد بيده ، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، بعير له رُغَاء ، أو بقرة لها خُوَار ، أو شاة تَيْعَر " .
وقِسْ على ذلك من سرق في الطوب والأسمنت والحديد وخدع الناس .
وحين يقول الحق سبحانه :
{ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . . } [ النحل : 25 ] .
إنما يلفتنا إلى ضرورة ألاَّ تُلهينا الدنيا عن أهمِّ قضية تشغل بال الخليقة ، وهي البحث عن الخالق الذي أكرم الخَلْق ، وأعدَّ الكون لاستقبالهم .
وكان يجب على هؤلاء الذين سمعوا من كفار قريش أن يبحثوا عن الرسول ، وأن يسمعوا منه؛ فهم أُميون لم يسبق أنْ جاءهم رسول؛ وقد قال فيهم الحق سبحانه : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] .
فإذا ما جاءهم الرسول كان عليهم أنْ يبحثوا ، وأنْ يسمعوا منه لا نقلاً عن الكفار؛ ولذلك سيعاقبهم الله؛ لأنهم أهملوا قضية الدين ، ولكن العقوبةَ الشديدة ستكون لِمَنْ كان عندهم عِلْم بالكتاب .
والحق سبحانه هو القائل : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً . . } [ البقرة : 79 ] .
ويَصِف الحق سبحانه مَنْ يحملون أوزارهم وبعضاً من أوزار مَنْ أضلوهم :
{ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] .
أي : ساء ما يحملون من آثام؛ فهم لَمْ يكتفوا بأوزارهم ، بل صَدُّوا عن سبيل الله ، ومنعُوا الغير أنْ يستمعَ إلى قضية الإيمان .
ومن نتيجة ذلك أنْ يبيح مَنْ لم يسمع لنفسه بعضاً مِمَّا حرم الله؛ فيتحمل مَنْ صدَّهم عن السبيل وِزْر هذا الإضلال .
ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " شَرُّكم مَنْ باع دينه بِدُنْياه ، وشَرٌّ منه مَنْ باع دينه بِدُنْيا غيره " .
فمَنْ باع الدين ليتمتع قليلاً؛ يستحق العقاب؛ أما مَنْ باع دينه ليتمتعَ غيرُه فهو الذي سيجد العقاب الأشدَّ من الله .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { قَدْ مَكَرَ الذين . . . } .
(1/4875)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
ويأتي الحق سبحانه هنا بسيرة الأولين والسُّنن التي أجراها سبحانه عليهم ، ليسلي رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ويُوضِّح له أن ما حدث معه ليس بدْعاً؛ بل سبق أنْ حدث مع مَنْ سبق من الرسل . ويُبلغه أنه لم يبعث أيَّ رسول إلا بعد تَعُمّ البَلْوى ويَطم الفساد ، ويفقد البشر المناعة الإيمانية ، نتيجة افتقاد مَنْ يؤمنون ويعملون الصالحات ، ويتواصون بالحقِّ وبالصبر .
والمَثلُ الواضح على ذلك ما حدث لبني إسرائيل؛ الذين قال فيهم الحق سبحانه : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } [ المائدة : 79 ] .
فانصبَّ عليهم العذاب من الله ، وهذا مصير كُلِّ أمة لا تتناهى عن المنكر الظاهر أمامها .
ويقول سبحانه هنا :
{ قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ . . . } [ النحل : 26 ] .
والمكر تبييت خفيّ يُبيِّته الماكر بما يستر عن المَمْكُور به . ولكن حين يمكر أحد بالرسل؛ فهو يمكر بمَنْ يُؤيِّده الله العالم العليم .
وإذا ما أعلم اللهُ رسولَه بالمكر؛ فهو يُلغِي كل أثر لهذا التبييت؛ فقد علمه مَنْ يقدر على إبطاله . والحق سبحانه هو القائل : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] .
وهو القائل : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171-172 ] .
وطبَّق الحق سبحانه ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ حين مكر به كفار قريش وجمعوا شباب القبائل ليقتلوه؛ فأغشاهم الله ولم يبصروا خروجه للهجرة ولم ينتصر عليه معسكر الكفر بأيِّ وسيلة؛ لا باعتداءات اللسان ، ولا باعتداءات الجوارح .
وهؤلاء الذين يمكرون بالرسل لم يتركهم الحق سبحانه دون عقاب :
{ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد . . . } [ النحل : 26 ] .
أي : أنهم إنْ جعلوا مكرهم كالبناية العالية؛ فالحقُّ سبحانه يتركهم لإحساس الأمن المُزيف ، ويحفر لهم مِنْ تحتهم ، فيخِرّ عليهم السقف الذي من فوقهم . وهكذا يضرب الله المثَل المعنوي بأمرٍ مَحَسٍّ .
وقوله الحق :
{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ . . . } [ النحل : 26 ] .
يُوضِّح أنهم موجودون داخل هذا البيت ، وأن الفوقية هنا للسقف ، وهي فوقية شاءها الله ليأتيهم :
{ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 26 ] .
وهكذا يأتي عذاب الله بَغْتة؛ ذلك أنهم قد بيَّتوا ، وظنوا أن هذا التبييت بخفاء يَخْفَى عن الحَيِّ القيوم .
ولَيْتَ الأمرَ يقتصر على ذلك؛ لا بل يُعذِّبهم الله في الآخرة أيضاً : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة . . . } .
(1/4876)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
وهكذا يكون العذاب في الدنيا وفي الآخرة ، ويَلْقوْن الخِزْي يوم القيامة . والخِزْي هو الهوان والمَذلَّة ، وهو أقوى من الضرب والإيذاء؛ ولا يتجلَّد أمامه أحدٌ؛ فالخِزْي قشعريرة تَغْشَى البدن؛ فلا يُفلت منها مَنْ تصيبه .
وإنْ كان الإنسان قادراً على أنْ يكتمَ الإيلام؛ فالخِزْي معنى نفسي ، والمعاني النفسية تنضح على البشرة؛ ولا يقدر أحد أنْ يكتم أثرها؛ لأنه يقتل خميرة الاستكبار التي عاش بها الذي بيَّت ومكر .
ويُوضِّح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله عن القرية التي كان يأتيها الرزق من عند الله ثم كفرت بأنعم الله؛ فيقول : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] .
أي : كأن الجسد كله قد سار مُمتلِكاً لحاسة التذوق ، وكأن الجوع قد أصبح لباساً؛ يعاني منه صاحبه؛ فيجوع بقفاه ، ويجوع بوجهه ، ويجوع بذراعه وجلده وخطواته ، وبكل ما فيه .
وساعة يحدث هذا الخِزي فكُلُّ خلايا الاستكبار تنتهي ، خصوصاً أمام مَنْ كان يدَّعي عليهم الإنسان أن عظمته وتجبّره وغروره باقٍٍ ، وله ما يسنده .
ويتابع سبحانه متحدياً :
{ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } [ النحل : 27 ] . أي : أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم؛ فجعلتم من أنفسكم شُقَّة ، وجعلتم من المؤمنين شُقَّة أخرى ، وكلمة { تُشَاقُّونَ } مأخوذة من " الشق " ويقال : " شَقَّ الجدار أو شَقَّ الخشب " والمقصود هنا أنْ جعلتم المؤمنين ، ومَنْ مع الرسول في شُقَّة تُعادونها ، وأخذتُم جانب الباطل ، وتركتُم جانب الحق .
وهنا يقول مَنْ آتاهم الله العلم :
{ قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين } [ النحل : 27 ] .
وكأن هذا الأمر سيصير مشهداً بمحضر الحق سبحانه بين مَنْ مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيحضره الذين أتاهم الله العلم .
والعلم كما نعلم يأتي من الله مباشرة؛ ثم يُنقَل إلى الملائكة؛ ثم يُنقَل من الملائكة إلى الرُّسل ، ثم يُنقل من الرُّسُل إلى الأُمم التي كلَّفَ الحق سبحانه رسله أنْ يُبلِّغوهم منهجه .
وكَما شهدتْ الدنيا سقوط المناهج التي اتبعوها من أهوائهم ، وسقوط مَنْ عبدوهم من دون الله سيشهد اليوم الآخر الخِزْي والسوء وهو يحيط بهم ، وقد يكون الخِزْي من هَوْل الموقف العظيم ، ويحمي الله مَنْ آمنوا به بالاطمئنان .
ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال : " ألا هل بلغت ، اللهم فأشهد " .
وكما بلَّغَ رسولُ الله أمته واستجابتْ له؛ فقد طلب منهم أيضاً أن يكونوا امتداداً لرسالته ، وأَنْ يُبلِّغوها للناس ، ذلك أن الحق سبحانه قد منع الرسالات من بعد رسالة محمد عليه الصلاة والسلام . وصار عن مسئولية الأمة المحمدية أنْ تُبلِّغ كل مَنْ لم تبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " نَضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، وأدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها ، فَرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى مِن سامع " .
والحق سبحانه هو القائل : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض . . . } [ النساء : 41-42 ] .
أي : يتمنوْنَ أنْ يصيروا تُرَاباً ، كما قال تعالى في موقع آخر : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة . . . } .
(1/4877)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
يقول تعالى :
{ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ . . . } [ النحل : 28 ] .
أي : تتوفّاهم في حالة كَوْنهم ظالمين لأنفسهم ، وفي آية أخرى قال الحق تبارك وتعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] .
ومعلوم أن الإنسان قد يظلم غيره لحَظِّ نفسه ولصالحها . . فكيف يظلم هو نفسه ، وهذا يسمونه الظلم الأحمق حين تظلم نفسك التي بين جنبيك . . ولكن كيف ذلك؟
نعرف أن العدو إذا كان من الخارج فسهْلٌ التصدي له ، بخلاف إذا جاءك من نفسك التي بين جَنْبَيْك ، فهذا عدو خطير صَعْب التصدِّي له ، والتخلّص منه .
وهنا نطرح سؤالاً : ما الظلم؟ الظلم أنْ تمنعَ صاحب حَقٍّ حَقَّه ، إذن : ماذا كان لنفسك عليك حتى يقال : إنك ظلمتها بمنعها حَقِّها؟
نقول : حين تجوع ، ألاَ تأكل؟ وحين تعطش أَلاَ تشرب؟ وحين تُرْهق من العمل أَلاَ تنام؟
إذن : أنت تعطي نفسك مطلوباتها التي تُريحها وتسارع إليها ، وكذلك إذا نِمْتَ وحاولوا إيقاظك للعمل فلم تستيقظ ، أو حاولوا إيقاظك للصلاة فتكاسلت ، وفي النهاية كانت النتيجة فشلاً في العمل أو خسارة في التجارة . . الخ .
إذن : هذه خسارة مُجمعة ، والخاسر هو النفس ، وبهذا فقد ظلم الإنسانُ نفسه بما فاتها من منافع في الدنيا ، وقِسْ على ذلك أمور الآخرة .
وانظر هنا إلى جُزْئيات الدنيا حينما تكتمل لك ، هل هي نهاية كل شيء ، أم بنهايتها يبتديء شيء؟ بنهايتها يبتديء شيء ، ونسأل : الشيء الذي سوف يبدأ ، هل هو صورة مكررة لما انتهى في الدنيا؟
ليس كذلك ، لأن المنتهي في الدنيا مُنقطع ، وقد أخذت حَظِّي منه على قَدْر قدراتي ، وقدراتي لها إمكانات محدودة . . أما الذي سيبدأ أي في الآخرة ليس بمُنْتهٍ بل خالد لا انقطاع له ، وما فيه من نعيم يأتي على قَدْر إمكانات المنعِم ربك سبحانه وتعالى .
إذن : أنت حينما تُعطِي نفسك متعة في الدنيا الزائلة المنقطعة ، تُفوِّت عليها المتعة الباقية في الآخرة . . وهذا مُنتهى الظلم للنفس .
ونعود إلى قوله تعالى :
{ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة . . . } [ النحل : 28 ] .
أثبتت هذه الآية التوفِّي للملائكة . . والتوفِّي حقيقة لله تعالى ، كما جاء في قوله : { الله يَتَوَفَّى الأنفس . . . } [ الزمر : 42 ] .
لكن لما كان الملائكة مأمورين ، فكأن الله تعالى هو الذي يتوفَّى الأنفُسَ رغم أنه سبحانه وتعالى قال : { الله يَتَوَفَّى الأنفس } [ الزمر : 42 ] .
وقال : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] .
وقال : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا . . . } [ الأنعام : 61 ] .
إذن : جاء الحَدثُ من الله تعالى مرة ، ومن رئيس الملائكة عزرائيل مرة ، ومن مُسَاعديه من الملائكة مرة أخرى ، إذن : الأمر إما للمزاولة مباشرة ، وإما للواسطة ، وإما للأصل الآمر . وقوله تعالى :
{ تَتَوَفَّاهُمُ . . . } [ النحل : 28 ] .
معنى التوفيّ من وفَّاه حقَّه أي : وفَّاه أجله ، ولم ينقص منه شيئاً ، كما تقول للرجل وَفَّيتُك دَيْنك .
(1/4878)
. أي : أخذت ما لك عندي .
{ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ . . . } [ النحل : 28 ] .
نلاحظ أنها جاءت بصيغة الجمع ، و { ظَالِمِي } يعني ظالمين و { أَنْفُسِهِمْ } جمع ، وحين يُقَابَل الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً أي : أن كلاً منهم يظلم نفسه .
ثم يقول الحق سبحانه :
{ فَأَلْقَوُاْ السلم . . . } [ النحل : 28 ] .
أي : خضعوا واستسلموا ولم يَعُدْ ينفعهم تكبّرهم وعجرفتهم في الدنيا . . ذهب عنهم كل هذا بذَهَاب الدنيا التي راحتْ من بين أيديهم . وما داموا ألقوا السَّلم الآن ، إذن : فقد كانوا في حرب قبل ذلك كانوا في حرب مع أنفسهم وهم أصحاب الشِّقاق في قوله تعالى : { تُشَاقُّونَ } [ النحل : 27 ] .
أي : تجعلون هذا في شِقٍّ ، وهذا في شِقٍّ ، وكأن الآية تقول : لقد رفعوا الراية البيضاء وقالوا : لا جَلَد لنا على الحرب .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء . . } [ النحل : 28 ] .
هذا كقوله تعالى في آية أخرى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
والواقع أنهم بعد أنْ ألقَوا السلم ورفعوا الراية البيضاء واستسلموا ، أخذهم موقف العذاب فقالوا محاولين الدفاعَ عن أنفسهم :
{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء . . } [ النحل : 28 ] .
وتعجب من كَذِب هؤلاء على الله في مثل هذا الموقف ، على مَنْ تكذبون الآن؟!
فيرد عليهم الحق سبحانه :
{ بلى . . } [ النحل : 28 ] .
وهي أداةُ نفي للنفي السابق عليها ، ومعلومٌ أن نَفْي النفي إثبات ، ف { بلى } تنفي :
{ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء . . } [ النحل : 28 ] .
إذن : معناها . . لا . . بل عملتم السوء . ثم يقول الحق سبحانه :
{ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 28 ] .
ومن رحمة الله تعالى أنه لم يكتَفِ بالعلم فقط ، بل دوَّن ذلك عليهم وسَجَّله في كتاب سَيُعرض عليهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : { وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
وقال : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13-14 ] .
ويحلو للبعض أنْ ينكر إمكانية تسجيل الأعمال وكتابتها . . ونقول لهؤلاء : تعالوا إلى ما توصل إليه العقل البشريّ الآن من تسجيل الصور والأصوات والبصمات وغيرها . . وهذا كله يُسهِّل علينا هذه المسألة عندما نرقي إمكانات العقل البشري إلى الإمكانات الإلهية التي لا حدود لها .
فلا وجه إذن لأنْ ننكر قدرة الملائكة " رقيب وعتيد " في تسجيل الأعمال في كتاب يحفظ أعماله ويُحصى عليه كل كبيرة وصغيرة . ثم يقول تعالى : { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ . . . } .
(1/4879)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
سبق أنْ قُلْنا في شرح قوله تعالى في وصف جهنم : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] .
أي : أن لكل جماعة من أهل المعصية باباً معلوماً . . فبابٌ لأهل الربا . . وبابٌ لأهل الرِّشوة . . وباب لأهل النفاق وهكذا . . ولك أن تتصور ما يُلاقيه مَنْ يجمع بين هذه المعاصي!! إنه يدخل هذا الباب ثم يخرج منه ليدخل باباً آخر . . حقاً ما أتعس هؤلاء!
وهنا يقول تعالى :
{ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } [ النحل : 29 ] .
فجاءت أيضاً بصورة الجمع . إذن : كل واحد منكم يدخل من بابه الذي خُصِّص له . ثم يقول سبحانه :
{ فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } [ النحل : 29 ] .
والمثوى هو مكان الإقامة ، وقال تعالى في موضع آخر : { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } [ النحل : 23 ] .
فتكبَّر واستكبر وكل ما جاء على وزن ( تفعَّل ) يدل على أن كِبْرهم هذا غير ذاتيّ؛ لأن الذي يتكبر حقّاً يتكّبر بما فيه ذاتيّاً لا يسْلُبه منه أحد ، إنما مَنْ يتكبر بشيء لا يملكه فتكبّره غيرُ حقيقيّ ، وسرعان ما يزول ويتصاغر هؤلاء بما تكبَّروا به في الدنيا ، وبذلك لا يكون لأحد أنْ يتكبّر لأن الكبرياءَ الحقيقي لله عزَّ وجل .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا . . . } .
(1/4880)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
وقد سبق أنْ تحدثنا عن قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 24 ] .
فهذه مشاهدة ولقطات تُبيّن الموقف الذي انتهى بأنْ أقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين .
وهذه الآياتُ نزلتْ في جماعة كانوا داخلين مكة . . وعلى أبوابها التي يأتي منها أهل البوادي ، وقد قسَّم الكافرون أنفسهم على مداخل مكة ليصدوا الداخلين إليها عن سماع خبر أهل الإيمان بالنبي الجديد .
وكان أهل الإيمان من المسلمين يتحيَّنون الفرصة ويخرجون على مشارف مكة بحجة رَعْي الغنم مثلاً ليقابلوا هؤلاء السائلين ليخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم وخبر دعوته .
مما يدلُّ على أن الذي يسأل عن شيء لا يكتفي بأول عابر يسأله ، بل يُجدِّد السؤال ليقف على المتناقضات . . فحين سألوا الكافرين قالوا : { قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 24 ] .
فلم يكتفوا بذلك ، بل سألوا أهل الإيمان فكان جوابهم :
{ قَالُواْ خَيْراً . . . } [ النحل : 30 ] .
هذا لنفهم أن الإنسانَ إذا صادف شيئاً له وجهتان متضادتان فلا يكتفي بوجهة واحدة ، بل يجب أن يستمع للثانية ، ثم بعد ذلك للعقل أن يختار بين البدائل .
إذن : حينما سأل الداخلون مكة أهل الكفر : { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 24 ] .
وحينما سألوا أهلَ الإيمان والتقوى :
{ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } [ النحل : 30 ] .
ونلاحظ هنا في { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا . . } [ النحل : 30 ] .
أن الحق سبحانه لم يوضح لنا مَنْ هم ، ولم يُبيّن هُويَّتهم ، وهذا يدلُّنا على أنهم كانوا غير قادرين على المواجهة ، ويُدارون أنفسهم لأنهم ما زالوا ضِعَافاً لا يقدرون على المواجهة .
وقد تكرر هذا الموقف موقف السؤال إلى أنْ تصل إلى الوجهة الصواب حينما عَتَب الحق تبارك وتعالى على نبي من أنبيائه هو سيدنا داود عليه السلام في قوله تعالى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط * إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 21-23 ] .
فماذا قال داود عليه السلام؟ { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } [ ص : 24 ] .
وواضحٌ في حكم داود عليه السلام تأثُّره بقوله ( له تسع وتسعون ) ولنفرض أنه لم يكُنْ عنده شيء ، ألم يظلم أخاه بأخْذ نعجته؟! إذن : تأثر داود بدعوى الخصم ، وأدخل فيه حيثية أخرى ، وهذا خطأ إجرائي في عَرْض القضية؛ لأن ( تسع وتسعون ) هذه لا دَخْل لها في القضية . . بل هي لاستمالة القاضي وللتأثير على عواطفه ومنافذه ، ولبيان أن الخَصْم غني ومع ذلك فهو طماع ظالم .
وسرعان ما اكتشف داود عليه السلام خطأه في هذه الحكومة ، وأنها كانت فتنة واختباراً من الله :
(1/4881)
{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ . . . } [ ص : 24 ] .
أي : اختبرناه كي نُعلِّمه الدرس تطبيقاً . . أيحكم بالحق ويُراعي جميع نواحي القضية أم لا؟
وانظر هنا إلى فطنة النبوة ، فسرعان ما عرف داود ما وقع فيه واعترف به ، واستغفر ربّه وخَرَّ له راكعاً مُنيباً .
وقال تعالى : { فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] .
إذن : الشاهد هنا أنه كان على داود عليه السلام أن يستمع إلى الجانب الآخر والطرف الثاني في الخصومة قبل الحكم فيها .
وقوله تعالى :
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً . . . } [ النحل : 30 ] .
ما هو الخير؟ الخير كُلُّ ما تستطيبه النفس بكل مَلكَاتها . . لكن الاستطابة قد تكون موقوتة بزمن ، ثم تُورث حَسْرة وندامة . . إذن : هذا ليس خيراً؛ لأنه لا خيرَ في خير بعده النارُ ، وكذلك لا شَرَّ في شر بعده الجنة .
إذن : يجب أن نعرف أن الخير يظل خُيْراً دائماً في الدنيا ، وكذلك في الآخرة ، فلو أخذنا مثلاً متعاطي المخدرات نجده يأخذ متعة وقتية ونشوة زائفة سرعان ما تزول ، ثم سرعان ما ينقلب هذا الخير في نظره إلى شر عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة .
إذن : انظر إلى عمر الخير في نفسك وكيفيته وعاقبته . . وهذا هو الخير في قوله تعالى :
{ قَالُواْ خَيْراً } [ النحل : 30 ] .
إذن : هو خير تستطيبه النفس ، ويظل خيراً في الدنيا ، ويترتب عليه خير في الآخرة ، أو هو موصول بخير الآخرة . . ثم فسَّره الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه :
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ . . . } [ النحل : 30 ] .
ونفهم من هذه الآية أنه على المؤمن ألاَّ يترك الدنيا وأسبابها ، فربما أخذها منك الكافر وتغلَّب عليك بها ، أو يفتنك في دينك بسببها ، فمَنْ يعبد الله أَوْلى بسرِّه في الوجود ، وأسرارُ الله في الوجود هي للمؤمنين ، ولا ينبغي لهم أن يتركوا الأخذ بأسباب الدنيا للكافرين .
اجتهد أنت أيها المؤمن في أسباب الدنيا حتى تأمنَ الفتنة من الكافرين في دُنْياك . . ولا يخفي ما نحن فيه الآن من حاجتنا لغيرنا ، مما أعطاهم الفرصة ليسيطروا على سياساتنا ومقدراتنا .
لذلك يقول سبحانه :
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } [ النحل : 30 ] .
أي : يأخذون حسناتهم ، وتكون لهم اليَدُ العليا بما اجتهدوا ، وبما عَمِلوا في دنياهم ، وبذلك ينفع الإنسانُ نفسه وينفع غيره ، وكلما اتسعت دائرة النفع منك للناس كانت يدك هي العليا ، وكان ثوابك وخَيْرك موصولاً بخير الآخرة .
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً ، أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة " .
ومن هذه الآية أيضاً يتضح لنا جانب آخر ، هو ثمرة من ثمرات الإحسان في الدنيا وهي الأمن .
(1/4882)
. فمَنْ عاش في الدنيا مستقيماً لم يقترف ما يُعَاقب عليه تجدْه آمناً مطمئناً ، حتى إذا داهمه شر أو مكروه تجده آمنا لا يخاف ، لأنه لم يرتكب شيئاً يدعو للخوف .
خُذْ مثلاً اللص تراه دائماً مُتوجِّساً خائفاً ، تدور عَيْنه يميناً وشمالاً ، فإذا رأى شرطياً هلع وترقَّب وراح يقول في نفسه : لعله يقصدني . . أما المستقيم فهو آمن مطمئن .
ومن ثمرات هذا الإحسان وهذه الاستقامة في الدنيا أن يعيش الإنسان على قَدْر إمكاناته ولا يُرهق نفسه بما لا يقدر عليه ، وقديماً قالوا لأحدهم : قد غلا اللحم ، فقال : أَرْخِصوه ، قالوا : وكيف لنا ذلك؟ قال : ازهدوا فيه .
وقد نظم ذلك الشاعرُ فقال :
وَإِذَا غَلاَ شَيءٌ عَلَيَّ تركْتُه ... فيكونُ أرخصَ ما يكونُ إِذَا غَلاَ
ولا تَقُلْ : النفس توَّاقة إليه راغبة فيه ، فهي كما قال الشاعر :
وَالنفْسُ رَاغِبةٌ إِذَا رغَّبْتَها ... وَإِذَا تُرَدّ إلى قَلِيل تَقْنَعُ
وفي حياتنا العملية ، قد يعود الإنسان من عمله ولمَّا ينضج الطعام ، ولم تُعَد المائدة وهو جائع ، فيأكل أيَّ شيء موجود وتنتهي المشكلة ، ويقوم هذا محل هذا ، وتقنعُ النفسُ بما نالتْه .
ولكي يعيش الإنسان على قَدْر إمكاناته لا بُدَّ له أنْ يوازن بين دَخْله ونفقاته ، فمَنْ كان عنده عُسْر في دَخْله ، أو ضاقت عليه منافذ الرزق لا بُدَّ له من عُسْر في مصروفه ، ولا بُدَّ له أنْ يُضيِّق على النفس شهواتها ، وبذلك يعيش مستوراً ميسوراً ، راضي النفس ، قرير العين .
والبعض في مثل هذه المواقف يلجأ إلى الاستقراض للإنفاق على شهوات نفسه ، وربما اقترض ما يتمتع به شهراً ، ويعيش في ذلة دَهْراً؛ لذا من الحكمة إذن قبل أن تسأل الناس القرض سَلْ نفسك أولاً ، واطلب منها أن تصبر عليك ، وأن تُنظرك إلى ساعة اليُسْر ، ولا تُلجئك إلى مذلَّة السؤال . . وقبل أن تلوم مَنْ منعك لُمْ نفسك التي تأبَّتْ عليك أولاً .
وما أبدع شاعِرنا الذي صاغ هذه القيم في قوله :
إذَا رُمْتَ أنْ تستقرضَ المالَ مُنفِقاً ... على شَهَواتِ النفسِ فِي زَمَنِ العُسْر
فَسَلْ نفسَكَ الإنفاقَ من كَنْز صَبْرِها ... عليْكَ وإنظاراً إلى سَاعةِ اليُسْرِ
فَإِنْ فعلْتَ كنتَ الغني ، وإنْ أبَتْ ... فكُل مَنُوع بعدها وَاسِعُ العُذْر
ثم يقول الحق سبحانه :
{ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ النحل : 30 ] .
والخير في الآخرة من الله ، والنعيم فيها على قَدْر المنعِم تبارك وتعالى ، دون تعب ولا كَدٍّ ولا عمل .
ومعلوم أن كلمة : { قَالُواْ خَيْراً . . . } [ النحل : 30 ] .
التي فسَّرها الحق تبارك وتعالى بقوله :
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ . . } [ النحل : 30 ] .
تقابلها كلمة " شر " ، هذا الشر هو ما جاء في قول الكافرين : { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 24 ] .
فهؤلاء قالوا خيراً ، وأولئك قالوا شراً .
ولكن إذا قيل : ذلك خير من ذلك ، فقد توفر الخير في الاثنين ، إلا أن أحدهما زاد في الخيرية عن الآخر ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " .
لذلك لما قال :
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } [ النحل : 30 ] .
قال : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ النحل : 30 ] .
أي : خير من حسنة الدنيا ، فحسنة الدنيا خير ، وأخير منها حسنة الآخرة .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } [ النحل : 30 ] .
أي : دار الآخرة .
ثم أراد الحق تبارك وتعالى أن يعطينا صورة موجزة عن دار المتقين كأنها برقية ، فقال سبحانه : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا . . . } .
(1/4883)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
والجنات : تعني البساتين التي بها الأشجار والأزهار والثمار والخضرة ، مما لا عَيْن رأتْ ، ولا أذُن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . . ليس هذا وفقط . . هذه الجنة العمومية التي يراها كل مَنْ يدخلها . . بل هناك لكل واحد قصر خاص به ، بدليل قوله تعالى : { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم } [ الصف : 12 ] .
إذن : هنا قَدْر مشترك للجميع :
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ النحل : 31 ] .
ومعنى قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ . . . } [ النحل : 31 ] .
أي : جنات إقامة دائمة؛ لأن فيها كل ما يحتاجه الإنسان ، فلا حاجه له إلى غيرها . . هَبْ أنك دخلْتَ أعظم حدائق وبساتين العالم هايد بارك مثلاً فقصارى الأمر أنْ تتنزَّه به بعض الوقت ، ثم يعتريك التعب ويصيبك المَلل والإرهاق فتطلب الراحة من هذه النزهة . . أما الجنة فهي جنة عدن ، تحب أن تقيم فيها إقامة دائمة .
ويصف الحق سبحانه هذه الجنات فيقول :
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ النحل : 31 ] .
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } [ التوبة : 100 ] .
ومعنى " تجري تحتها " أي : أنها تجري تحتها ، وربما تأتي من مكان آخر . . وقد يقول هنا قائل : يمكن أن يُمنع عنك جريان هذه الأنهار؛ لذلك جاءت الآية :
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ النحل : 31 ] .
أي : ذاتية في الجنة لا يمنعها عنك مانع .
ثم يقول تعالى :
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ . . } [ النحل : 31 ] .
والمشيئة هنا ليست بإرادة الدنيا ومشيئتها ، وإنما مشيئة بالمزاج الخصب الذي يتناسب مع الآخرة ونعيمها . . فمثلاً : إذا دخلتَ على إنسان رقيق الحال فَلَك مشيئة على قدر حالته ، وإذا دخلتَ على أحد العظماء أو الأثرياء كانت لَكَ مشيئة أعلى . . وهكذا .
إذن : المشيئات النفسية تختلف باختلاف المشَاء منه ، فإذا كان المشَاء منه هو الله الذي لا يُعجزه شيء تكون مشيئتُك مُطلقة ، فالمشيئة في الآية ليستْ كمشيئة الدنيا؛ لأن مشيئة الدنيا تتحدَّد ببيئة الدنيا . . أما مشيئة الآخرة فهي المشيئة المتفتحة المتصاعدة المرتقية كما تترقى المشيئات عند البشر في البشر حَسْب مراتبهم ومراكزهم .
ويُرْوى أنه لما أُسِرَتْ بنت أحد ملوك فارس عند رجل ، وأرادوا شراءها منه وعرضوا عليه ما يريد ، فقال : أريد فيها ألف دينار ، فأعطوه الألف دينار وأخذوها منه . . فقال له أحدهم : إنها ابنةُ الملك ، ولو كنت طلبتَ منه كذا وكذا لم يبخل عليك فقال : والله لو علمتُ أن وراء الألف عدداً لَطلبْته . . فقد طلب قصارى ما وصل إليه علمه .
لذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرح لنا هذا النص القرآني :
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ . . . } [ النحل : 31 ] .
وكذلك قوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] .
قال : " فيها ما لا عَيْن رأت ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطر على قَلْب بشر " .
إذن : تحديد الإطار للآية بقدر ما هم فيه عند ربهم .
{ كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين } [ النحل : 31 ] .
أي : هكذا الجزاء الذي يستحقونه بما قدموا في الدنيا ، وبما حرَمَوا منه أنفسهم من مُتَع حرام . . وقد جاء الآن وقْتُ الجزاء ، وهو جزاءٌ أطول وأَدْوم؛ لذلك قال الحق تبارك وتعالى في آية أخرى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ] .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ . . . } .
(1/4884)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
أي : المتقون هم الذين تتوفاهم الملائكة طيبين .
ومعنى :
{ تَتَوَفَّاهُمُ } [ النحل : 32 ] .
أي : تأتي لقبْض أرواحهم ، وهنا نَسَب التوفّي إلى جملة الملائكة ، كأنهم جنود ملَك الموت الأصيل عزرائيل ، وقد سبق أنْ قُلْنا : إن الحق تبارك وتعالى مرةً ينسب التوفّي إلى الملائكة ، ومرة ينسبه إلى مَلك الموت : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ . . } [ السجدة : 11 ] .
ومرّة ينسبه إلى نفسه سبحانه : { الله يَتَوَفَّى } [ الزمر : 42 ] .
ذلك لأن الله سبحانه هو الآمر الأعلى ، وعزرائيل مَلكُ الموت الأصيل ، والملائكة هم جنوده الذين يُنفّذون أوامره .
وقوله : { طَيِّبِينَ . . } [ النحل : 32 ] .
تقابل الآية السابقة : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } [ النحل : 28 ] . والطيّب هو الشيء الذي يوجد له خيرٌ دائم لا ينقطع ولا ينقلب خَيْره هذا شراً ، وهو الشيء الذي تستريح له النفس راحة تنسجم منها كل مَلكاتها ، بشرط أن يكون مستمراً إلى خَيْرٍ منه ، ولا يستمر إلى خَيْرٍ منه وأحسن إلا طَيِّب القيم وطَيِّب الدين ، أما غير ذلك فهو طيب موقوتٌ سرعان ما يُهجر .
ولذلك حينما يدَّعي اثنان المحبة في الله نقول : هذه كلمة تُقال ، ومِصْداقها أن ينمو الودُّ بينكما كل يوم عن اليوم الذي قبله؛ لأن الحب للدنيا تشوبه الأطماع والأهواء ، فترى الحب ينقص يوماً بعد يوم ، حَسْب ما يأخذ أحدهما من الآخر ، أما المتحابان في الله فيأخذان من عطاء لا ينفد ، هو عطاء الحق تبارك وتعالى ، فإنْ رأيت اثنين يزداد وُدّهما فاعلم أنه وُدٌّ لله وفي الله ، على خلاف الوُد لأغراض الدنيا فهو وُدٌّ سرعان ما ينقطع .
هل هناك أطيب من أنهم طهَّروا أنفسهم من دَنَس الشرك؟ وهل هناك أطيبُ من أنهم اخلصوا عملهم لله ، وهل هناك أطيب من أنهم لم يُسْرفوا على أنفسهم في شيء؟
وحَسْب هؤلاء من الطيب أنهم ساعة يأتي مَلَكُ الموت يمرُّ عليهم شريط أعمالهم ، ومُلخّص ما قدّموه في الدنيا ، فيرْون خَيْراً ، فتراهم مُستبشرين فرحين ، يبدو ذلك على وجوههم ساعة الاحتضار ، فتراه أبيضَ الوجه مُشْرقاً مبتسماً ، عليه خاتمة الخير والطيب والسعادة؛ ذلك لما عاينه من طيب عمله ، ولما يستبشر به من الجزاء عند الله تبارك وتعالى .
وعلى عكس هذه الحالة تماماً نرى أهل الشقاوة ، وما هُمْ عليه ساعةَ الغرغرة من سواد الوجه ، وسُوء الخاتمة ، والعياذ بالله .
{ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] .
أي : حينما تتوفّاهم الملائكة يقولون لهم سلام؛ لأنكم خرجتم من الدنيا بسلام ، وستُقبِلون على الآخرة بسلام ، إذن : سلام الطيبين سلامٌ موصول من الدنيا إلى الآخرة ، سلامٌ مُترتِّب على سلامة دينكم في الدنيا ، وسلامة إقبالكم على الله ، دون خوف في الآخرة .
وهنا سلام آخر جاء في قول الحق تبارك وتعالى : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ }
(1/4885)
[ الزمر : 73 ] .
ثم يأتي السلام الأعلى عليهم من الله تبارك وتعالى؛ لأن كل هذه السلامات لهؤلاء الطيبين مأخوذة من السلام الأعلى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وهل هناك افضل وأطيب من هذا السلام الذي جاء من الحق تبارك وتعالى مباشرة .
وتعجب هنا من سلام أهل الأعراف على المؤمنين الطيبين وهم في الجنة ، ونحن نعرف أن أهل الأعراف هم قوم تساوتْ حسناتهم وسيئاتهم فحُجِزا على الأعراف ، وهو مكان بين الجنة والنار ، والقسمة الطبيعية تقتضي أن للميزان كفتين ذكرهما الحق تبارك وتعالى في قوله : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 6-9 ] .
هاتان حالتان للميزان ، فأين حالة التساوي بين الكفتين؟ جاءت في قوله تعالى : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } [ الأعراف : 46 ] .
أي : يعرفون أهل الجنة وأهل النار : { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ الأعراف : 46 ] .
ووجه العجب هنا أن أهل الأعراف في مأزق وشدّة وانشغال بما هم فيه من شدة الموقف ، ومع ذلك نراهم يفرحون بأهل الجنة الطيبين ، ويُبادرونهم بالسلام .
إذن : لأهل الجنة سلامٌ من الملائكة عند الوفاة ، وسلام عندما يدخلون الجنة ، وسلام أعلى من الله تبارك وتعالى ، وسلام حتى من أهل الأعراف المنشغلين بحالهم .
{ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] .
أي : لأنكم دفعتم الثمن؛ والثمن هو عملكم الصالح في الدنيا ، واتباعكم لمنهج الحق تبارك وتعالى .
وقد يرى البعض تعارضاً بين هذه الآية وبين الحديث الشريف : " لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
والحقيقة أنه لا يوجد تعارضٌ بينهما ، ولكن كيف نُوفِّق بين الآية والحديث؟
الله تعالى يُوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم الحديث كما يُوحي له الآية ، فكلاهما يصدر عن مِشْكاة واحدة ومصدر واحد . . على حَدِّ قوله تعالى : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ . . . } [ التوبة : 74 ] .
فالحَدثُ هنا واحد ، فلم يُغْنِهم الله بما يناسبه والرسول بما يناسبه ، بل هو غناء واحد وحَدث واحد ، وكذلك ليس ثمة تعارضٌ بين الآية والحديث . . كيف؟
الحق تبارك وتعالى كلَّف الإنسان بعد سِنِّ الرُّشْد والعقل ، وأخذ يُوالي عليه النعم منذ صِغَره ، وحينما كلَّفه كلَّفه بشيء يعود على الإنسان بالنفع والخير ، ولا يعود على الله منه شيء ، ثم بعد ذلك يُجازيه على هذا التكليف بالجنة .
إذن : التكليف كله لمصلحة العبد في الدنيا والآخرة . إذن : تشريع الجزاء من الله في الآخرة هو مَحْضُ الفضل من الله ، ولو أطاع العبدُ رَبّه الطاعة المطلوبة منه في الأفعال الاختيارية التكليفية لما وَفّى نِعَم الله عليه ، وبذلك يكون الجزاء في الجنة فَضْلاً من الله ومنَّة .
(1/4886)
أو : أنهم حينما قالوا :
{ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] .
يريدون أن عملهم سبب عاديّ لدخول الجنة ، ثم يكتسبونها بفضل الله . . فتجمع الآية بين العمل والفضل معاً؛ لذلك فإن الحق تبارك وتعالى يُقوّي هذا بقوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] .
فهم لم يفرحوا بالعمل لأنه لا يَفِي بما هم فيه من نعمة ، بل الفرحة الحقيقية تكون بفضل الله ورحمته ، وفي الدعاء : " اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل " .
وأخيراً . . هل كانوا يعملون هكذا من عند أنفسهم؟ لا . . بل بمنهج وضعه لهم ربّهم تبارك وتعالى . . إذن : بالفضل لا بمجرد العمل . . ومثال ذلك : الوالد عندما يقول لولده : لو اجتهدت هذا العام وتفوقت سأعطيك كذا وكذا . . فإذا تفوَّق الولد كان كل شيء لصالحه : النجاح والهدية .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ . . . } .
(1/4887)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
بعد أن عرضتْ الآيات جزاء المتقين الذين قالوا خيراً ، عادتْ لهؤلاء الذين قالوا { أَسَاطِيرُ الأولين } الذين يُصادمون الدعوة إلى الله ، ويقفون منها موقف العداء والكَيْد والتربُّص والإيذاء .
وهذا استفهام من الحق تبارك وتعالى لهؤلاء : ماذا تنتظرون؟! بعدما فعلتم بأمر الدعوة وما صَدْدتُم الناس عنها ، ماذا تنتظرون؟ أتنتظرون أنْ تَرَوْا بأعينكم ، ليس أمامكم إلا أمران : سيَحُلاَّن بكم لا محالة :
إما أنْ تأتيكم الملائكة فتتوفاكم ، أو يأتي أمرُ ربِّك ، وهو يوم القيامة ولا ينجيكم منها إلا أنْ تؤمنوا ، أم أنكم تنتظرون خيْراً؟! فلن يأتيكم خير أبداً . . كما قال تعالى في آيات أخرى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] .
وقال : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] .
وقال : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] .
إذن : إنما ينتظرون أحداثاً تأتي لهم بشَرٍّ : تأتيهم الملائكة لقبْض أرواحهم في حالة هم بها ظالمون لأنفسهم ، ثم يُلْقون السَّلَم رَغْماً عنهم ، أو : تأتيهم الطامة الكبرى وهي القيامة .
ثم يقول الحق سبحانه :
{ كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ النحل : 33 ] .
أي : ممَّن كذَّب الرسل قبلهم . . يعني هذه مسألة معروفة عنهم من قبل :
{ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } [ النحل : 33 ] .
أي : وما ظلمهم الله حين قدَّر أنْ يُجازيهم بكذا وكذا ، وليس المراد هنا ظلمهم بالعذاب؛ لأن العذاب لم يحُلّ بهم بعد .
{ ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 33 ] .
وهذا ما نُسمِّيه بالظلم الأحمق؛ لأن ظلم الغير قد يعود على الظالم بنوع من النفع ، أما ظُلْم النفس فلا يعود عليها بشيء؛ وذلك لأنهم أسرفوا على أنفسهم في الدنيا فيما يخالف منهج الله ، وبذلك فَوَّتوا على أنفسهم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ، وهذا هو ظلمهم لأنفسهم .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ . . . } .
(1/4888)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
أي : أنهم لما ظلموا أنفسهم أصابهم جزاء ذلك ، وسُمِّي ما يُفعل بهم سيئة؛ لأن الحق تبارك وتعالى يُسمّي جزاء السيئة سيئة في قوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
ويقول تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . . } [ النحل : 126 ] .
وهذه تُسمّى المشاكلة ، أي : أن هذه من جنس هذه .
وقوله تعالى : { مَا عَمِلُواْ } العمل هو مُزَاولة أيِّ جارحة من الإنسان لمهمتها ، فكُلُّ جارحة لها مهمة . الرِّجْل واليد والعَيْن والأُذن . . الخ . فاللسان مهمته أن يقول ، وبقية الجوارح مهمتها أنْ تفعل . إذن : فاللسان وحده أخذ النصف ، وباقي الجوارح أخذتْ النصف الآخر؛ ذلك لأن حصائد الألسنة عليها المعوّل الأساسي .
فكلمة الشهادة : لا إله إلا الله لا بُدَّ من النطق بها لنعرف أنه مؤمن ، ثم يأتي دَوْر الفعل ليُساند هذا القول؛ لذا قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2-3 ] .
وبالقول تبلُغ المناهج للآذان . . فكيف تعمل الجوارح دون منهج؟ ولذلك فقد جعل الحق تبارك وتعالى للأذن وَضْعاً خاصاً بين باقي الحواس ، فهي أول جارحة في الإنسان تؤدي عملها ، وهي الجارحة التي لا تنقضي مهمتها أبداً . . كل الجوارح لا تعمل مثلاً أثناء النوم إلا الأذن ، وبها يتم الاستدعاء والاستيقاظ من النوم .
وإذا استقرأت آيات القرآن الكريم ، ونظرت في آيات الخلق ترى الحق تبارك وتعالى يقول : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
ثم هي آلة الشهادة يوم القيامة : { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم . . } [ فصلت : 20 ] .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] .
ومعنى : ضربنا على آذانهم ، أي : عطلنا الأذن التي لا تعطل حتى يطمئن نومهم ويستطيعوا الاستقرار في كهفهم ، فلو لم يجعل الله تعالى في تكوينهم الخارجي شيئاً معيناً لما استقر لهم نوم طوال 309 أعوام .
ويقول الحق تعالى :
{ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ النحل : 34 ] .
بماذا استهزأ الكافرون؟ استهزأوا بالبعث والحساب وما ينتظرهم من العذاب ، فقالوا كما حكى القرآن : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } [ الصافات : 16-17 ] .
وقالوا : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] .
ثم بلغ بهم الاستهزاء أن تعجَّلوا العذاب فقالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 70 ] .
وقالوا : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [ الإسراء : 92 ] .
وهل يطلب أحد من عدوه أن يُنزِل به العذاب إلا إذا كان مستهزئاً؟
فقال لهم الحق تبارك وتعالى : إنكم لن تقدروا على هذا العذاب الذي تستهزئون به . فقال :
{ وَحَاقَ بِهِم . . . } [ النحل : 34 ] .
أي : أحاط ونزل بهم ، فلا يستطيعون منه فراراً ، ولا يجدون معه منفذاً للفكاك ، كما في قوله تعالى : { والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } [ البروج : 20 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ . . . } .
(1/4889)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
نلاحظ أنه ساعة أنْ يأتيَ الفعل نصاً في مطلوبه لا يُذكر المتعلق به . . فلم يَقُلْ : أشركوا بالله . . لأن ذلك معلوم ، والإشراك معناه الإشراك بالله ، لذلك قال تعالى هنا :
{ وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ . . . } [ النحل : 35 ] .
ثم يورد الحق سبحانه قولهم :
{ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } [ النحل : 35 ] .
إنهم هنا يدافعون عن أنفسهم ، وهذه هي الشفاعة التي يُعلّق عليها الكفار خطاياهم شماعة أن الله كتب علينا وقضى بكذا وكذا .
فيقول المسرف على نفسه : ربُّنا هو الذي أراد لي كذا ، وهو الذي يهدي ، وهو الذي يُضل ، وهو الذي جعلني ارتكب الذنوب ، إلى آخر هذه المقولات الفارغة من الحق والنهاية؛ فلماذا يعذبني إذن؟
وتعالوا نناقش صاحب هذه المقولات ، لأن عنده تناقضاً عقلياً ، والقضية غير واضحة أمامه . . ولكي نزيل عنه هذا الغموض نقول له : ولماذا لم تقُل : إذا كان الله قد أراد لي الطاعة وكتبها عليَّ ، فلماذا يثيبني عليها . . هكذا المقابل . . فلماذا قُلْت بالأولى ولم تقُلْ بالثانية؟!
واضح أن الأولى تجرُّ عليك الشر والعذاب ، فوقفتْ في عقلك . . أما الثانية فتجرُّ عليك الخير ، لذلك تغاضيت عن ذِكْرها .
ونقول له : هل أنت حينما تعمل أعمالك . . هل كلها خير؟ أم هل كلها شَرّ؟ أَمَا منها ما هو خير ، ومنها ما هو شر؟
والإجابة هنا واضحة . إذن : لا أنت مطبوع على الخير دائماً ، ولا أنت مطبوع على الشرِّ دائماً ، لذلك فأنت صالح للخير ، كما أنت صالح للشر .
إذن : هناك فَرْق بين أن يخلقك صالحاً للفعل وضِدّه ، وبين أنْ يخلقك مقصوراً على الفعل لا ضده ، ولما خلقك صالحاً للخير وصالحاً للشر أوضح لك منهجه وبيَّنَ لك الجزاء ، فقال : اعمل الخير . . والجزاء كذا ، واعمل الشر . . والجزاء كذا . . وهذا هو المنهج .
ويحلو للمسرف على نفسه أنْ يقولَ : إن الله كتبه عليَّ . . وهذا عجيب ، وكأنِّي به قد اطَّلع على اللوح المحفوظ ونظر فيه ، فوجد أن الله كتب عليه أن يشرب الخمر مثلاً فراحَ فشربها؛ لأن الله كتبها عليه .
ولو أن الأمر هكذا لكنتَ طائعاً بشُرْبك هذا ، لكن الأمر خلاف ما تتصور ، فأنت لا تعرف أنها كُتِبت عليك إلا بعد أنْ فعلتَ ، والفعل منك مسبوق بالعزم على أنْ تفعلَ ، فهل اطلعتَ على اللوح المحفوظ كي تعرف ما كتبه الله عليك؟
وانتبه هنا واعلم أن الله تعالى كتب أزلاً؛ لأنه علم أنك تفعل أجلاً ، وعِلْم الله مُطْلق لا حدودَ له .
ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى الوالد الذي يلاحظ ولده في دراسته ، فيجده مُهملاً غير مُجدٍّ فيتوقع فشله في الامتحان .
(1/4890)
. هل دخل الوالد مع ولده وجعله يكتب خطأ؟ لا . . بل توقّع له الفشل لعلمه بحال ولده ، وعدم استحقاقه للنجاح .
إذن : كتب الله مُسبْقاً وأزلاً؛ لأنه يعلم ما يفعله العبد أصلاً . . وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى صورة أخرى لهذا المنهج حينما وجَّه المؤمنين إلى الكعبة بعد أنْ كانت وجْهتهم إلى بيت المقدس ، فقال تعالى : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] .
ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] .
جاء الفعل هكذا في المستقبل : سيقول . . إنهم لم يقولوا بَعْد هذا القول ، وهذا قرآن يُتلَى على مسامع الجميع غير خافٍ على أحد من هؤلاء السفهاء ، فلو كان عند هؤلاء عقل لَسكتُوا ولم يُبادروا بهذه المقولة ، ويُفوِّتوا الفرصة بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صِدْق القرآن الكريم .
كان باستطاعتهم أن يسكتوا ويُوجّهوا للقرآن تهمة الكذب ، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث .
وبذلك تمَّتْ إرادة الله وأمره حتى على الكافرين الذين يبحثون عن مناقضة في القرآن الكريم .
وهذه الآية : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } [ النحل : 35 ] .
تشرح وتُفسِّر قول الله تعالى : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] .
فهنا { سَيَقُولُ } وفي الآية الأخرى { قَالَ } ؛ لنعلم أنه لا يستطيع أحد معارضة قَوْل الله تعالى ، أو تغيير حكمه .
ثم يقول تعالى :
{ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا . . . } [ النحل : 35 ] .
لماذا لم يتحدث هؤلاء عن أنفسهم فقط؟ ما الحكمة في دفاعهم عن آبائهم هنا؟ الحكمة أنهم سيحتاجون لهذه القضية فيما بعد وسوف يجعلونها حُجَّة حينما يقولون : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 22 ] . إذن : لا حُجَّة لهؤلاء الذين يُعلِّقون إسرافهم على أنفسهم على شماعة القدر ، وأن الله تعالى كتب عليهم المعصية؛ لأننا نرى حتى من المسلمين مَنْ يتكلم بهذا الكلام ، ويميل إلى هذه الأباطيل ، ومنهم مَنْ تأخذه الجَرْأة على الله عز وجل فيُشبِّه هذه القضية بقول الشاعر :
أَلْقَاهُ في اليَمِّ مَكتُوفاً وَقَالَ لَهُ ... إيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تبتلَّ بالماءِ
وما يفعل هذا إلا ظالم!! تعالى الله وتنزَّه عن قَوْل الجُهَّال والكافرين ، وأيضاً هناك مَنْ يقول : إن الإنسان هو الذي خلق الفعل ، ويعارضهم آخرون يقولون : لا بل رَبَّنا هو الذي يخلق الفِعْل .
نقول لهم جميعاً : افهموا ، ليس هناك في الحقيقة خلافٌ . . ونسأل : ما هو الفعل؟ الفعل توجيه جارحة لحدثٍ ، فأنت حينما تُوجِّه جارحة لحدثٍ ، ما الذي فعلته أنت؟ هل أعطيتَ لليد مثلاً قوة الحركة بذاتها؟ أم أن إرادتك هي التي وجَّهَتْ حركتها؟
والجارحة مخلوقة لله تعالى ، وكذلك الإرادة التي حكمتْ على الجارحة مخلوقة لله أيضاً .
(1/4891)
. إذن : ما فعلته أنت ما هو إلا أن وجَّهْتَ المخلوق لله إلى مَا لا يحب الله في حالة المعصية وإلى ما يحبه الله في حالة الطاعة .
كذلك لا بُدَّ أن نلاحظ أن لله تعالى مرادات كونية ومرادات شرعية . . فالمراد الكونيّ هو ما يكون فِعلاً ، كُلُّ ما تراه في الكون أراد الله أن يكون . والمراد الشرعي : هو طَلَبُ الشيء لمحبوبيته .
ولنأخذ مثلاً لتوضيح ذلك : كُفْر الكافر ، أراد الله كَوْنياً أن يكون ، لأنه خلقه مختاراً وقال : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
وطالما خلقك الله مختاراً تستطيع أن تتوجه إلى الإيمان ، أو تتوجه إلى الكفر ، ثم كفرتَ . إذن : فهل كفرتَ غَصْباً عنه وعلى غير مُراده سبحانه وتعالى؟ حاشا لله ومعنى ذلك أن كُفْر الكافر مُراد كونيّ ، وليس مراداً شرعياً .
وبنفس المقياس يكون إيمان المؤمن مُراداً كونياً ومُراداً شرعياً ، أما كفر المؤمن ، المؤمن حقيقة لم يكفر . إذن : هو مراد شرعي وكذلك مراد كوني ، وهكذا ، فلا بُدَّ أن نُفرِّق بين المراد كونياً والمراد شرعياً .
ولذلك لما حدثت ضجة في الحرم المكي منذ سنوات ، وحدث فيه إطلاق للنار وترويع للآمنين ، قال بعضهم : كيف يحدث هذا وقد قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] .
وها هو الحال قَتْل وإزعاج للآمنين فيه؟!
والحقيقة أن هؤلاء خلطوا بين مراد كوني ومراد شرعي ، فالمقصود بالآية : فَمْن دخله فأمِّنوه . أي : اجعلوه آمناً ، فهذا مطلَب من الله تبارك وتعالى ، وهو مراد شرعي قد يحدث وقد لا يحدث . . أما المراد الكوني فهو الذي يحدث فعلاً . وبذلك يكون ما حدث في الحرم مراداً كونياً ، وليس مراداً شرعياً .
ثم يقول تعالى على لسانهم :
{ وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ . . . } [ النحل : 35 ] .
وقد ورد توضيح هذه الآية في قوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ المائدة : 103 ] .
ثم يقول تعالى مقرراً :
{ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . } [ النحل : 35 ] أي : هذه سُنَّة السابقين المعاندين .
{ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] .
البلاغ هو ما بين عباد الله وبين الله ، وهو بلاغ الرسل ، والمراد به المنهج " افعل أو لا تفعل " . ولا يقول الله لك ذلك إلا وأنت قادر على الفِعْل وقادر على التَّرْك .
لذلك نرى الحق تبارك وتعالى يرفع التكليف عن المكْره فلا يتعلق به حكم؛ لأنه في حالة الإكراه قد يفعل ما لا يريده ولا يُحبه ، وكذلك المجنون والصغير الذي لم يبلغ التعقل ، كُلُّ هؤلاء لا يتعلق بهم حكْم . . لماذا؟ لأن الله تعالى يريد أن يضمن السلامة لآلة الترجيح في الاختيار . . وهي العقل .
(1/4892)
وحينما يكون الإنسان محلَّ تكليف عليه أنْ يجعلَ الفيصل في :
{ فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] .
بلاغ المنهج بافعل ولا تفعل؛ لذلك استنكر القرآن الكريم على هؤلاء الذين جاءوا بقول من عند أنفسهم دون رصيد من المبلّغ صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى في حَقِّ هؤلاء : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ . . . } [ الزخرف : 19-20 ] .
فأنكر عليهم سبحانه ذلك ، وسألهم : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ الزخرف : 21 ] .
وخاطبهم سبحانه في آية أخرى : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } [ القلم : 37 ] .
وكلمة { البلاغ المبين } أي : لا بُدَّ أن يُبَلِّغ المكَلَّف ، فإنْ حصل تقصير في ألاَّ يُبَلَّغ المكلَّف يُنسَب التقصير إلى أهل الدين الحق ، المنتسبين إليه ، والمُنَاط بهم تبليغ هذا المنهج لمنْ لَمْ يصلْه . وقد وردت الأحاديث الكثيرة في الحَثِّ على تبليغ دين الله لمن لم يصِلْه الدين .
كما قال صلى الله عليه وسلم : " بلِّغُوا عَنِّي ولو آية " وقوله صلى الله عليه وسلم : " نَضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعَاهَا ثم أدّاها إلى من لم يسمعها ، فرُبَّ مُبلِّغٍ أَوْعَى من سامع " .
قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا . . } .
(1/4893)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
فالحق سبحانه يقول هنا :
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً . . . } [ النحل : 36 ] .
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { مِن كُلِّ أُمَّةٍ } [ النحل : 84 ] .
فهذه لها معنى ، وهذه لها معنى . . فقوله : { مِن كُلِّ أُمَّةٍ } [ النحل : 84 ] .
أي : من أنفسهم ، منهم خرج ، وبينهم تربَّى ودَرَج ، يعرفون خِصَاله وصِدْقه ومكانته في قومه .
أما قوله تعالى : { فِي كُلِّ أُمَّةٍ } [ النحل : 36 ] .
ف " في " هنا تفيد الظرفية . أي : في الأمة كلها ، وهذه تفيد التغلغل في جميع الأمة . . فلا يصل البلاغ منه إلى جماعة دون أخرى ، بل لا بُدَّ من عموم البلاغ لجميع الأمة .
وكذلك يقول تعالى مرة : { أَرْسَلْنَا . . . } [ الحديد : 26 ] .
ومرة أخرى يقول :
{ بَعَثْنَا } [ النحل : 36 ] .
وهناك فرق بين المعنيين ف { أَرْسَلْنَا } تفيد الإرسال ، وهو : أن يتوسط مُرْسَل إلى مُرْسَل إليه . أما { بَعَثْنَا } فتفيد وجود شيء سابق اندثر ، ونريد بعثه من جديد .
ولتوضيح هذه القضية نرجح إلى قصة آدم عليه السلام حيث عَلّمه الله الأسماء كلها ، ثم أهبطه من الجنة إلى الأرض . وقال : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] .
وقال في آية أخرى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ] .
إذن : هذا منهج من الله تعالى لآدم عليه السلام والمفروض أن يُبلِّغ آدم هذا المنهج لأبنائه ، والمفروض في أبنائه أن يُبلِّغوا هذا المنهج لأبنائهم ، وهكذا ، إلا أن الغفلة قد تستحوذ على المبلِّغ للمنهج ، أو عدم رعاية المبلِّغ للمنهج فتنطمس المناهج ، ومن هنا يبعثها الله من جديد ، فمسألة الرسالات لا تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات ، بل هي موجودة منذ أول الخلق .
فالرسالات إذن بَعْثٌ لمنهج إلهي ، كان يجب أنْ يظلَّ على ذكر من الناس ، يتناقله الأبناء عن الآباء ، إلا أن الغفلة قد تصيب المبلّغ فلا يُبلّغ ، وقد تصيب المبلَّغ فلا يلتزم بالبلاغ؛ لذلك يجدد الله الرسل .
وقد وردت آياتٌ كثيرة في هذا المعنى ، مثل قوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] .
وقوله : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [ الأنعام : 131 ] .
وقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يَضعُون لأنفسهم القوانين التي تُنظِّم حياتهم ، أليس لديهم قانون يُحدِّد الجرائم ويُعاقب عليها؟ فلا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ ، ولا نصَّ إلا بإبلاغ .
ومن هنا تأتي أهمية وَضْع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع ، فلا يصح أنْ نعاقبَ إنساناً على جريمة هو لا يعلم أنها جريمة ، فلا بُدَّ من إبلاغه بها أولاً ، ليعلم أن هذا العمل عقوبته كذا وكذا ، ومن هنا تُقام عليه الحُجة .
وهنا أيضاً نلاحظ أنه قد يتعاصر الرسولان ، ألم يكُنْ إبراهيم ولوط متعاصريْن؟ ألم يكُنْ شعيب وموسى متعاصريْن؟ فما عِلَّة ذلك؟
نقول : لأن العالمَ كان قديماً على هيئة الانعزال ، فكُلّ جماعة منعزلة في مكانها عن الأخرى لعدم وجود وسائل للمواصلات ، فكانت كل جماعة في أرض لا تدري بالأخرى ، ولا تعلم عنها شيئاً .
(1/4894)
ومن هنا كان لكُلِّ جماعة بيئتُها الخاصة بما فيها من عادات وتقاليد ومُنكَرات تناسبها ، فهؤلاء يعبدون الأصنام ، وهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان ، وهؤلاء يأتون الذكْران دون النساء .
إذن : لكل بيئة جريمة تناسبها ، ولا بُدَّ أن نرسل الرسل لمعالجة هذه الجرائم ، كُلّ في بلد على حِدَة .
لكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت على موعد مع التقاءات الأمكنة مع وجود وسائل المواصلات ، لدرجة أن المعصية تحدث مثلاً في أمريكا فنعلم بها في نفس اليوم . . إذن : أصبحتْ الأجواء والبيئات واحدة ، ومن هنا كان منطقياً أن يُرْسلَ صلى الله عليه وسلم للناس كافة ، وللأزمنة كافة .
وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الشمولية بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً . . } [ سبأ : 28 ] .
أي : للجميع لم يترك أحداً ، كما يقول الخياط : كففْتُ القماش أي : جمعتُ بعضه على بعض ، حتى لا يذهبَ منه شيءٌ .
ثم يقول الحق سبحانه :
{ أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت . . . } [ النحل : 36 ] .
هذه هي مهمة الرسل :
{ أَنِ اعبدوا الله . . . } [ النحل : 36 ] .
والعبادة معناها التزامٌ بأمر فيُفعل ، ويُنهي عن أمر فلا يُفعل؛ لذلك إذا جاء مَنْ يدَّعي الألوهية وليس معه منهج نقول له : كيف نعبدك؟ وما المنهج الذي جِئْتَ به؟ بماذا تأمرنا؟ عن أي شيءٍ تنهانا؟
فهنا أَمْر بالعبادة ونَهْي عن الطاغوت ، وهذا يُسمُّونه تَحْلِية وتَخْلِيةً : التحلية في أنْ تعبدَ الله ، والتخلية في أنْ تبتعدَ عن الشيطان .
وعلى هذين العنصرين تُبنَى قضية الإيمان حيث نَفْي في : " أشهد أن لا إله " . . وإثبات في " إلا الله " ، وكأن الناطق بالشهادة ينفي التعدُّد ، ويُثبت الواحدانية لله تعالى ، وبهذا تكون قد خلَّيْتَ نفسك عن الشرك ، وحَلَّيْتَ نفسك بالوحدانية .
ولذلك سيكون الجزاء عليها في الآخرة من جنس هذه التحلية والتخلية؛ ولذلك نجد في قول الحق تبارك وتعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار . . . } [ آل عمران : 185 ] .
أي : خُلِّي عن العذاب . { وَأُدْخِلَ الجنة . . } [ آل عمران : 185 ] .
أي : حُلِّي بالنعيم .
وقوله سبحانه :
{ واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] .
أي : ابتعدوا عن الطاغوت . . فيكون المقابل لها : تقرَّبوا إلى الله و { الطاغوت } فيها مبالغة تدل على مَنْ وصل الذِّرْوة في الطغيان وزادَ فيه . . وفَرْق بين الحدث المجرَّد مثل طغى ، وبين المبالغة فيه مثل ( طاغوت ) ، وهو الذي يَزيده الخضوعُ لباطله طُغْياناً على باطل أعلى .
ومثال ذلك : شاب تمرَّد على مجتمعه ، وأخذ يسرع الشيء التافه القليل ، فوجد الناس يتقرَّبون إليه ويُداهنونه اتقاء شره ، فإذا به يترقَّى في باطله فيشتري لنفسه سلاحاً يعتدي به على الأرواح ، ويسرق الغالي من الأموال ، ويصل إلى الذروة في الظلم والاعتداء ، ولو أخذ الناس على يده منذ أول حادثة لما وصل إلى هذه الحال .
(1/4895)
ومن هنا وجدنا الديات تتحملها العاقلة وتقوم بها عن الفاعل الجاني ، ذلك لما وقع عليها من مسئولية تَرْك هذا الجاني ، وعدم الأخذ على يده وكَفِّه عن الأذى .
ونلاحظ في هذا اللفظ ( الطاغوت ) أنه لما جمعَ كلَّ مبالغة في الفعل نجده يتأبَّى على المطاوعة ، وكأنه طاغوت في لفظه ومعناه ، فنراه يدخل على المفرد والمثنى والجمع ، وعلى المذكر والمؤنث ، فنقول : رجل طاغوت ، وامرأة طاغوت ، ورجلان طاغوت ، وامرأتان طاغوت ، ورجال طاغوت ، ونساء طاغوت ، وكأنه طغى بلفظه على جميع الصَِّيغ .
إذن : الطاغوت هو الذي إذا ما خضع الناس لِظُلمه ازداد ظلماً . ومنه قوله تعالى : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ . . . } [ الزخرف : 54 ] .
فقد وصل به الحال إلى أن ادعى الألوهية ، وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي . . . } [ القصص : 38 ] .
ويُحكَى في قصص المتنبِّئين أن أحد الخلفاء جاءه خبر مُدَّعٍ للنبوة ، فأمرهم ألاَّ يهتموا بشأنه ، وأن يتركوه ، ولا يعطوا لأمره بالاً لعله ينتهي ، ثم بعد فترة ظهر آخر يدَّعي النبوة ، فجاءوا بالأول ليرى رأيه في النبي الجديد : ما رأيك في هذا الذي يدعي النبوة؟! أيُّكم النبي؟ فقال : إنه كذاب فإني لم أرسل أحداً!! ظن أنهم صدقوه في ادعائه النبوة ، فتجاوز هذا إلى ادعاء الألوهية ، وهكذا الطاغوت .
وقد وردت هذه الكلمة { الطاغوت } في القرآن ثماني مرات ، منها ستة تصلح للتذكير والتأنيث ، ومرة وردتْ للمؤنث في قوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا . . } [ الزمر : 17 ] .
ومرة وردتْ للمذكر في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ . . . } [ النساء : 60 ] .
وفي اللغة كلمات يستوي فيها المذكر والمؤنث ، مثل قَوْل الحق تبارك وتعالى : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً . . . } [ الأعراف : 146 ] .
وقوله : { قُلْ هذه سبيلي . . . } [ يوسف : 108 ] .
فكلمة " سبيل " جاءت مرَّة للمذكَّر ، ومرَّة للمؤنث .
ثم يقول تعالى :
{ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة . . . } [ النحل : 36 ] .
وقد أخذت بعضهم هذه الآية على أنها حُجَّة يقول من خلالها : إن الهداية بيد الله ، وليس لنا دَخْل في أننا غير مهتدين . . إلى آخر هذه المقولات .
نقول : تعالوا نقرأ القرآن . . يقول تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] .
ولو كانت الهداية بالمعنى الذي تقصدون لَمَا استحبُّوا العَمى وفضَّلوه ، لكن " هديناهم " هنا بمعنى : دَلَلْناهم وأرشدناهم فقط ، ولهم حَقّ الاختيار ، وهم صالحون لهذه ولهذه ، والدلالة تأتي للمؤمن وللكافر ، دلَّ الله الجميع ، فالذي أقبل على الله بإيمان به زاده هُدًى وآتاه تقواه ، كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
ومن هذا ما يراه البعض تناقضاً بين قوله تعالى :
(1/4896)
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . . . } [ القصص : 56 ] .
وقوله : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] .
حيث نفى الحق سبحانه عن الرسول صلى الله عليه وسلم الهداية في الأولى ، وأثبتها له في الثانية . نلاحظ أن الحدث هنا واحد وهو الهداية ، والمتحدَّث عنه واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يثبت حَدَثٌ واحد لمُحْدِثٍ واحد مرّة ، وينفيه عنه مرّة؟!
لا بُدَّ أن تكون الجهة مُنفكّة . . في : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي . . . } [ القصص : 56 ] .
أي : لا تستطيع أنْ تُدخِل الإيمان في قلب مَنْ تحب ، ولكن تدلُّ وترشد فقط ، أما هداية الإيمان فبيد الله تعالى يهدي إليه مَنْ عنده استعداد للإيمان ، ويَصْرف عنها مَنْ أعرض عنه ورفضهُ .
وكأن الله تعالى في خدمة عبيده ، مَنْ أحب شيئاً أعطاه إياه ويسَّره له ، وبذلك هدى المؤمن للإيمان ، وختم على قَلْب الكافر بالكفر .
إذن : تأتي الهداية بمعنيين : بمعنى الدلالة والإرشاد كما في الآية السابقة ، وبمعنى المعونة وشَرْح الصدر للإيمان كما في قوله تعالى : { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ . . } [ القصص : 56 ] .
وقوله : { زَادَهُمْ هُدًى . . } [ محمد : 17 ] .
فقوله تعالى :
{ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله . . . } [ النحل : 36 ] .
أي : هداية إيمان ومعونةٍ بأن مكَّن المنهج في نفسه ، ويسَّره له ، وشرح به صدره .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة . . } [ النحل : 36 ] .
حقَّتْ : أي أصبحتْ حقاً له ، ووجبتْ له بما قدَّم من أعمال ، لا يستحق معها إلا الضلالة ، فما حقَّتْ عليهم ، وما وجبتْ لهم إلا بما عملوا .
وهذه كقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ الأنعام : 144 ] .
أيُّهما أسبق : عدم الهداية من الله لهم ، أم الظلم منهم؟
واضح أن الظلم حدث منهم أولاً ، فسمَّاهم الله ظالمين ، ثم كانت النتيجة أنْ حُرموا الهداية .
وتذكر هنا مثالاً كثيراً ما كررناه ليرسخَ في الأذهان ولله المثل الأعلى هَبْ أنك سائر في طريق تقصد بلداً ما ، فصادفك مُفْترق لطرق متعددة ، وعلامات لاتجاهات مختلفة ، عندها لجأتَ لرجل المرور : من فضل أريدُ بلدة كذا ، فقال لك : من هنا . فقلت : الحمد لله ، لقد كِدْتُ أضلَّ الطريق ، وجزاكَ الله خيراً .
فلمَّا وجدك استقبلتَ كلامه بالرضا والحب ، وشكرْتَ له صنيعه أراد أنْ يُزيد لك العطاء . فقال لك : لكن في هذا الطريق عقبةٌ صعبة ، وسوف أصحبُك حتى تمرَّ منها بسلام .
هكذا كانت الأولى منه مُجرَّد دلالة ، أما الثانية فهي المعونة ، فلمَّا صدَّقْته في الدلالة أعانَك على المدلول . . هكذا أَمْرُ الرسل في الدلالة على الحق ، وكيفية قبول الناس لها .
ولك أنْ تتصور الحال لو قُلْتَ لرجل المرور هذا : يبدو أنك لا تعرف الطريق . . فسيقول لك : إذن اتجه كما تُحِب وسِرْ كما تريد .
وكلمة " الضلالة " مبالغة من الضلال وكأنها ضلال كبير ، ففيها تضخيمٌ للفعل ، ومنها قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً . . . } [ مريم : 75 ] .
ثم يُقيم لنا الحق تبارك وتعالى الدليلَ على بَعْثة الرسل في الأمم السابقة لنتأكد من إخباره تعالى ، وأن الناسَ انقسموا أقساماً بين مُكذِّب ومُصدِّق ، قال تعالى :
{ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } [ النحل : 36 ] .
(1/4897)
فهناك شواهد وأدلة تدل على أن هنا كان ناس ، وكانت لهم حضارة اندكتْ واندثرتْ ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
فأمر الله تعالى بالسياحة في الأرض للنظر والاعتبار بالأمم السابقة ، مثل : عاد وثمود وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم .
والحق تبارك وتعالى يقول هنا :
{ فَسِيرُواْ فِي الأرض . . . } [ النحل : 36 ] .
وهل نحن نسير في الأرض ، أم على الأرض؟
نحن نسير على الأرض . . وكذلك كان فهْمُنا للآية الكريمة ، لكن المتكلم بالقرآن هو ربُّنا تبارك وتعالى ، وعطاؤه سبحانه سيظل إلى أنْ تقومَ الساعة ، ومع الزمن تتكشف لنا الحقائق ويُثبت العلم صِدْق القرآن وإعجازه .
فمنذ أعوام كنا نظنُّ أن الأرض هي هذه اليابسة التي نعيش عليها ، ثم أثبت لنا العلم أن الهواء المحيط بالأرض ( الغلاف الجوي ) هو إكسير الحياة على الأرض ، وبدون لا تقوم عليها حياة ، فالغلاف الجوي جزء من الأرض .
وبذلك نحن نسير في الأرض ، كما نطق بذلك الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز .
ونقف أمام مَلْحظ آخر في هذه الآية : { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا . . . } [ آل عمران : 137 ] .
وفي آية أخرى يقول : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا . . . } [ الأنعام : 11 ] .
ليس هذا مجرد تفنُّن في العبارة ، بل لكل منهما مدلول خاص ، فالعطف بالفاء يفيد الترتيب مع التعقيب .
أي : يأتي النظر بعد السَّيْر مباشرة . . أما في العطف بثُم فإنها تفيد الترتيب مع التراخي . أي : مرور وقت بين الحدثَيْن ، وذلك كقوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] .
وقول الحق سبحانه :
{ فانظروا . . . } [ النحل : 36 ] .
فكأن الغرض من السَّيْر الاعتبار والاتعاظ ، ولا بُدَّ إذن من وجود بقايا وأطلال تدلُّ على هؤلاء السابقين المكذبين ، أصحاب الحضارات التي أصبحتْ أثراً بعد عَيْنٍ .
وها نحن الآن نفخر بما لدينا من أبنية حجرية مثل الأهرامات مثلاً ، حيث يفِد إليها السُّياح من شتى دول العالم المتقدم؛ لِيَروْا ما عليها هذه الحضارة القديمة من تطوُّر وتقدُّم يُعجزهم ويُحيّرهم ، ولم يستطيعوا فَكّ طلاسِمه حتى الآن .
ومع ذلك لم يترك الفراعنة ما يدل على كيفية بناء الأهرامات ، أو ما يدل على كيفية تحنيط الموتى؛ مما يدل على أن هؤلاء القوم أخذوا أَخذْة قوية اندثرتْ معها هذه المراجع وهذه المعلومات ، كما قال تعالى : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] .
وقد ذكر لنا القرآن من قصص هؤلاء السابقين الكثير كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 6-8 ] .
وقال : { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [ الفجر : 9-13 ] .
هذا ما حدث للمكذِّبين في الماضي ، وإياكم أنْ تظنُّوا أن الذي يأتي بعد ذلك بمنجىً عن هذا المصير . . كلا : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِن تَحْرِصْ على . . . } .
(1/4898)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
يُسلِّي الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويثبت له حِرْصَه على أمته ، وأنه يُحمِّل نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما حَمَّله الله ، كما قال له في آية أخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] .
ويقول تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه الأمل أمام المكذبين المعاندين ، فيقول تعالى :
{ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ . . . } [ النحل : 37 ] .
أي : لا يضل إلا مَنْ لم يقبل الإيمان به فَيَدعُه إلى كفره ، بل ويطمس على قلبه غيْر مأسُوف عليه ، فهذه إرادته ، وقد أجابه الله إلى ما يريد .
{ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ . . . . } [ النحل : 37 ] .
إذن : المسألة ليستْ مجرد عدم الهداية ، بل هناك معركة لا يجدون لهم فيها ناصراً أو معيناً يُخلِّصهم منها ، كما قال تعالى : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100-101 ] .
إذن : لا يهدي الله مَن اختار لنفسه الضلال ، بل سيُعذِّبه عذاباً لا يجد مَنْ ينصُره فيه .
ثم يقول الحق سبحانه عنهم : { وَأَقْسَمُواْ بالله . . . } .
(1/4899)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{ وَأَقْسَمُواْ بالله . . . } [ النحل : 38 ] .
سبحان الله!! كيف تُقسِمون بالله وأنتم لا تؤمنون به؟! وما مدلول كلمة الله عندكم؟ . . هذه علامة غباء عند الكفار ودليل على أن موضوع الإيمان غير واضح في عقولهم؛ لأن كلمة الله نفسها دليلٌ على الإيمان به سبحانه ، ولا توجد الكلمة في اللغة إلا بعد وجود ما تدل عليه أولاً . . فالتلفزيون مثلاً قبل أن يوجد لم يكن له اسم ، ثم بعد أن وُجد أوجدوا له اسماً .
أذن : توجد المعاني أولاً ، ثم توضع للمعاني أسماء ، فإذا رأيت اسماً يكون معناه قبله أم بعده؟ يكون قبله . . فإذا قالوا : الله غير موجود نقول لهم : كذبتم؛ لأن كلمة الله لفظ موجود في اللغة ، ولا بُدَّ أن لها معنىً سبق وجودها .
إذن : فالإيمان سابقٌ للكفر . . وجاء الكفر منطقياً؛ لأن معنى الكفر : السَّتْر . . والسؤال إذن : ماذا ستر؟ ستر الإيمان ، ولا يستر إلا موجوداً ، وبذلك نقول : إن الكفر دليل على الإيمان .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ . . . } [ النحل : 38 ] .
أي : مبالغين في اليمين مُؤكّدينه ، وما أقربَ غباءَهم هنا بما قالوه في آية أخرى : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
فليس هذا بكلام العقلاء . وكان ما أقسموا عليه بالله أنه :
{ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ . . . } [ النحل : 38 ] .
وهذا إنكار للبعث ، كما سبق وأنْ قالوا : { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنون : 82 ] .
فيرد عليهم الحق سبحانه { بلى } .
وهي أداة لنفي السابق عليها ، وأهل اللغة يقولون : نفي النفي إثبات ، إذاً " بلى " تنفي النفي قبلها وهو قولهم :
{ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ . . . } [ النحل : 38 ] .
فيكون المعنى : بل يبعث الله مَنْ يموت .
{ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً . . . } [ النحل : 38 ] .
والوَعْد هو الإخبار بشيء لم يأْتِ زمنه بعد ، فإذا جاء وَعْدٌ بحدَث يأتي بَعْد ننظر فيمَنْ وعد : أقادرٌ على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟
فإن كان غيرَ قادر على إنفاذ ما وعد به لأنه لا يضمن جميع الأسباب التي تعينه على إنفاذ وعده ، قُلْنا له قُلْ : إنْ شاء الله . . حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم تَفِ بوعدك التمسْنا لك عُذْراً ، وحتى لا تُوصف ساعتها بالكذب ، فقد نسبتَ الأمر إلى مشيئة الله .
والحق تبارك وتعالى لا يمنعنا أن نُخطِّط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا . . خَطِّط كما تحب ، واعْدُدْ للمستقبل عِدَته ، لكن أردف هذا بقولك : إنْ شاء الله؛ لأنك لا تملك جميع الأسباب التي تمكِّن من عمل ما تريد مستقبلاً ، وقد قال الحق تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . }
(1/4900)
[ الكهف : 23-24 ] .
ونضرب لذلك مثلاً : هَبْ أنك أردتَ أن تذهب غداً إلى فلان لتكلمه في أمر ما . . هل ضمنت لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجوداً غداً؟ وهل ضمنتَ ألا يتغير الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها ، وعند الذهاب أَلَمَّ بك عائق منعك من الذهاب . إذن : يجب أن نُردف العمل في المستقبل بقولنا : إن شاء الله .
أما إذا كان الوعد من الله تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما يَعِد به؛ لأنه لا قوة تستطيع أن تقفَ أمام مُراده ، ولا شيءَ يُعجزه في الأرض ولا في السماء ، كان الوعد منه سبحانه ( حقاً ) أنْ يُوفّيه .
ثم يقول الحق سبحانه :
{ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 38 ] .
أي : لا يعلمون أن الله قادر على البعث ، كما قال تعالى : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . . } [ السجدة : 10 ] .
وقال : { وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] .
فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لأنهم لا يتصورون كيف يبعث الله الخلْق من لَدُن آدم عليه السلام حتى تقوم الساعة . . ولكن لِمَ تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ . . . } [ لقمان : 28 ] .
فالأمر ليس مزاولة يجمع الله سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة . . لا . . ليس في الأمر مزاولة أو معالجة تستغرق وقتاً . { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى فنحن نرى مثل هذه الأوامر في عالم البشر عندما يأتي المعلّم أو المدرب الذي يُدرِّب الجنود نراه يعلِّم ويُدرِّب أولاً ، ثم إذا ما أراد تطبيق هذه الأوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعاً وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع ، ويقفون على الهيئة المطلوبة ، هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد؟! لا . . بل بكلمة واحدة تَمَّ له ما يريد .
وكأن انضباط المأمور وطاعته للأمر هو الأصل ، كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لأمره سبحانه وتعالى . . هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء . . فليس في الأمر مُعَالجة ، لأن المعالجة أنْ يُباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن ، وليس البعث هكذا . . بل بالأمر الانضباطي : كن .
ولذلك يقول تعالى :
{ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 38 ] .
نقول : الحمد لله أن هناك قليلاً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به .
ثم يقول الحق سبحانه : { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي . . . } .
(1/4901)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
فمعنى قوله تعالى :
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . . } [ النحل : 39 ] . أي : من أمر البعث؛ لأن القضية لا تستقيم بدون البعث والجزاء؛ ولذلك كنت في جدالي للشيوعيين أقول لهم : لقد أدركتم رأسماليين شرسين ومفترين ، شربوا دم الناس وعملوا كذا وكذا . . فماذا فعلتُم بهم؟ يقولون : فعلنا بهم كيت وكيت ، فقلت : ومن قبل وجود الشيوعية سنة 1917 ، ألم يكن هناك ظلمة مثل هؤلاء؟ قالوا : بلى .
قلت : إذن من مصلحتكم أن يوجد بعث وحساب وعقاب لا يفلت منه هؤلاء الذين سبقوكم ، ولم تستطيعوا تعذيبهم .
ثم يأتي فَصْل الخطاب في قوله تعالى :
{ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } [ النحل : 39 ] . أي : كاذبين في قولهم : { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ . . . } [ النحل : 38 ] .
وذلك علم يقين ومعاينة ، ولكن بعد فوات الأوان ، فالوقت وقت حساب وجزاء لا ينفع فيه الاعتراف ولا يُجدي التصديق ، فالآن يعترفون بأنهم كانوا كاذبين في قَسَمهم : لا يبعث الله مَنْ يموت وبالغوا في الأَيمان وأكَّدوها؛ ولذلك يقول تعالى عنهم في آية أخرى : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } [ الواقعة : 46 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ . . . } .
(1/4902)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
إذن : أمر البعث ليس علاجاً لجزئيات كل شخص وضمِّ أجزائه وتسويته من آدم حتى قيام الساعة ، بل المسألة منضبطة تماماً مع الأمر الإلهي ( كُنْ ) .
وبمجرد صدوره ، ودون حاجة لوقت ومُزاولة يكون الجميع ماثلاً طائعاً ، كل واحد منتظرٌ دوره ، منتظر الإشارة؛ ولذلك جاء في الخبر : " أمور يبديها ولا يبتديها " .
فالأمر يتوقف على الإذن : اظهر يظهر .
ومثال ذلك ولله المثل الأعلى من يعد القنبلة الزمنية مثلاً ، ويضبطها على وقت معين . . تظل القنبلة هذه إلى وقت الانفجار الذي وُضِع فيها ، ثم تنفجر دون تدخُّل من صناعها . . مجرد الإذن لها بالانفجار تنفجر .
وحتى كلمة ( كُنْ ) نفسها تحتاج لزمن ، ولكن ليس هناك أقرب منها في الإذن . . وإن كان الأمر في حقِّه تعالى لا يحتاج إلى كُنْ ولا غيره .
ثم يقول الحق سبحانه : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله . . . } .
(1/4903)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحمَّلون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم ، فلا يمكن أن يُضحِّي الإنسان بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقينيّ .
وقد جاءت هذه الآية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحُّوا في إنكاره وبالغوا فيه ، بل وأقسموا على ذلك : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ . . } [ النحل : 38 ] .
وهم يعلمون أن من الخلق مَنْ يُسيء ، ومنهم من يُحسِن ، فهل يعتقدون في عُرْف العقل أن يتركَ الله من أساء ليُعربد في خَلْق الله دون أن يُجازيه؟
ذلك يعني أنهم خائفون من البعث ، فلو أنهم كانوا محسنين لَتَمنَّوا البعث ، أمَا وقد أسرفوا على أنفسهم إسرافاً يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء ، فمن الطبيعي أنْ يُنِكروا البعث ، ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالأماني الكاذبة ، ليطمئنوا على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم وكرامتهم وأمنهم أمرٌ لا يُحاسبون عليه .
وإذا كانوا قد أنكروا البعث ، ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء إيماناً يصل إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا الإيمان . . إذن : لا بُدَّ من وجود معركة شرسة بين أهل الإيمان وأهل الكفر ، معركة بين الحق والباطل .
ومن حكمة الله أن ينشر الإسلام في بدايته بين الضعفاء ، حتى لا يظن ظَانٌّ أن المؤمنين فرضوا إيمانهم بالقوة ، لا . . هؤلاء هم الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، والكفار هم السادة . . إذن : جاء الإسلام ليعاند الكبارَ الصناديدَ العتاة .
وكان من الممكن أن ينصرَ الله هؤلاء الضعفاء ويُعلي كلمة الدين من البداية ، ولكن أراد الحق تبارك وتعالى أن تكون الصيحةُ الإيمانية في مكَّة أولاً؛ لأن مكة مركز السيادة في جزيرة العرب ، وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان ، ولا تقوى أيَّ قبيلة في الجزيرة أن تعارضها ، ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت الله الحرام وخدمتهم للوافدين إليه .
فلو أن الإسلام اختار بقعة غير مكة لَقَالوا : إن الإسلام استضعفَ جماعة من الناس ، وأغرَاهم بالقول حتى آمنوا به . لا ، فالصيحة الإسلاميةُ جاءت في أُذن سادة قريش وسادة الجزيرة الذين أمَّنهم الله في رحلة الشتاء والصيف ، وهم أصحاب القوة وأصحاب المال .
وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم ينصر الله دينه في بلد السادة؟ نقول : لا . . الصيحة في أذن الباطل تكون في بلد السادة في مكة ، لكن نُصْرة الدين لا تأتي على يد هؤلاء السادة ، وإنما تأتي في المدينة .
وهذا من حكمة الله تعالى حتى لا يقول قائل فيما بعد : إن العصبية لمحمد في مكة فرضتْ الإيمان بمحمد .
(1/4904)
. لا بل يريد أن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد ، فجاء له بعصبية بعيدة عن قريش ، وبعد ذلك دانتْ لها قريش نفسها .
وما دامت هناك معركة ، فمَن المطحون فيها؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي لا يستطيع أنْ يحميَ نفسه . . وهؤلاء هم الذين ظُلِموا . . ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه؛ ولذلك كان ولا بُدَّ أن يرفع الله عنهم هذا الظلم .
وقد جاء رَفْع الظلم عن هؤلاء الضعفاء على مراحل . . فكانت المرحلة الأولى أن ينتقلَ المستضعفون من مكة ، لا إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نَشْر دينهم ، بل إلى دار أَمْن فقط يأمنون فيها على دينهم . . مجرد أَمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين .
ولذلك استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد كلها لينظر أيَّ الأماكن تصلح دار أَمْن يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد ، فلم يجد إلا الحبشة؛ ولذلك قال عنها : " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه " .
وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون ، ففي هذه المرحلة من نُصْرة الدين لا نريد أكثر من ذلك ، وهكذا تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة .
ثم يسَّر الله لدينه أتباعاً وأنصاراً التقوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على النُّصْرة والتأييد ، ذلكم هم الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ومَهَّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة ، وهي هجرةٌ هذه المرة إلى دار أَمْن وإيمان ، يأمن فيها المسلمون على دينهم ، ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة .
ونقف هنا عند قوله تعالى :
{ والذين هَاجَرُواْ . . . } [ النحل : 41 ] .
ومادة هذا الفعل : هجر . . وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر :
هجر : أن يكره الإنسانُ الإقامةَ في مكان ، فيتركه إلى مكان آخر يرى انه خَيْرٌ منه ، إنما المكان نفسه لم يكرهه على الهجرة . . أي المعنى : ترك المكان مختاراً .
أما هاجر : وهي تدل على المفاعلة من الجانبين ، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان ، ولكن المفاعلة التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة . . وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة؛ لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلاَّ بعد أن تعرضوا للاضطهاد والظُلْم ، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل ، فلو لم يتعرَّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا .
ولذلك قال الحق تبارك وتعالى :
{ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . . } [ النحل : 41 ] .
وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي :
إِذَا ترحلْتَ عن قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا ... ألاَّ تُفارِقهم فَالرَّاحِلُون هُمُوا
يعني : إذا كنت في جماعة وأردْتَ الرحيل عنهم ، وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما يُيسِّر لك الإقامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا ، وتركوك ترحل مع مقدرتهم ، فالراحلون في الحقيقة هم ، لأنهم لم يساعدوك على الإقامة .
(1/4905)
كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة؛ لأنه أيضاً لا يعقل أن يكره هؤلاء مكة وفيها البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم الإقامة في جواره .
إذن : لم يترك المهاجرون مكة ، بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه ، وطبيعي إذن أن يلجأوا إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للإقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة .
ثم إن الحق تبارك وتعالى قال :
{ والذين هَاجَرُواْ فِي الله . . . } [ النحل : 41 ] .
ونلاحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الآية : " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
فما الفرق هنا بين : هاجر في الله ، وهاجر إلى الله؟
هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه افضل من الذي تركه ، وكأن الذي هاجر منه ليس مناسباً له .
أما هاجر في الله فتدل على أن الإقامة السابقة كانت أيضاً في الله . . إقامتهم نفسها في مكة وتحمُّلهم الأذى والظلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله .
أما لو قالت الآية " هاجروا إلى الله " لدلَّ ذلك على أن إقامتهم الأولى لم تكن لله . . إذن : معنى الآية :
{ هَاجَرُواْ فِي الله . . . } [ النحل : 41 ] .
أي : أن إقامتهم كانت لله ، وهجرتهم كانت لله .
ومثل هذا قوله تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ . . . } [ آل عمران : 133 ] .
أي : إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة ، وفي الآية الأخرى : { يُسَارِعُونَ فِي الخيرات . . } [ المؤمنون : 61 ] .
ذلك لأنهم كانوا في خير سابق ، وسوف يسارعون إلى خير آخر . . أي : أنتم في خير ولكن سارعوا إلى خير منه .
وهناك ملمح آخر في قوله تعالى :
{ والذين هَاجَرُواْ . . } [ النحل : 41 ] .
نلاحظ أن كلمة " الذين " جمع . . لكن هل هي خاصة بمَنْ نزلت فيهم الآية؟ أم هي عامة في كُلِّ مَنْ ظُلِم في أيِّ مكان في الله ثم هاجر منه؟
الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي عامة في كل مَنْ انطبقت عليه هذه الظروف ، فإن كانت هذه الآية نزلت في نفر من الصحابة منهم : صُهيب ، وعمار ، وخباب ، وبلال ، إلا أنها تنتظم غيرهم مِمَّن اضطروا إلى الهجرة فِراراً بدينهم .
" ونعلم قصة صهيب رضي الله عنه وكان رجلاً حداداً لما أراد أنْ يهاجر بدينه ، عرض الأمر على قريش : والله أنا رجل كبير السِّنِّ ، إنْ كنت معكم فلن أنفعكم ، وإنْ كنت مع المسلمين فلن أضايقكم ، وعندي مال . . خذوه واتركوني أهاجر ، فرضَوْا بذلك ، وأخذوا مال صُهَيب وتركوه لهجرته .
ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم : " ربح البيع يا صُهَيْب "
(1/4906)
أي : بيعة رابحة .
ويقول له عمر رضي الله عنه : " نِعْم العبدُ صُهيب ، لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِه " .
وكأن عدم عصيانه ليس خوفاً من العقاب ، بل حُبّاً في الله تعالى ، فهو سبحانه لا يستحق أنْ يُعصى .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً . . } [ النحل : 41 ] .
نُبوِّئ ، مثل قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت . . } [ الحج : 26 ] .
أي : بيَّنا له مكانه ، ونقول : باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه ، فالإنسان يخرج للسعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة ، ثم يأوي ويبوء إلى بيته ، إذن : باء بمعنى رجع ، أو هو مسكن الإنسان ، وما أعدَّه الله له .
فإنْ كان المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونُحِلهم ونُنزِلهم منزلةً أحسن من التي كانوا فيها ، فقد كانوا مُضطهدين في مكة ، فأصبحوا آمنين في المدينة ، وإنْ كانوا تركوا بلدهم فسوف نُمهّد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج الله ، ويجنُون خير الدنيا كلها ، ثم بعد ذلك نُرجعهم إلى بلدهم سادة أعزَّة بعد أن تكون مكة بلداً لله خالصة من عبادة الأوثان والأصنام . . هذه هي الحسنة في الدنيا .
ثم يقول تعالى :
{ وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ . . } [ النحل : 41 ] .
ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجِّلات للعمل ، ولكن حسنات الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال ، إما أنْ تفارقها ، وإما أن تُفارقك ، وقد أنجز الله وَعْده للمؤمنين في الدنيا ، فعادوا منتصرين إلى مكة ، بل دانتْ لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله ، وانساحوا في الشرق في فارس ، وفي الغرب في الرومان ، وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع .
وإنْ كانت هذه هي حسنة الدنيا المعَجَّلة ، فهناك حسنة الآخرة المؤجلة :
{ وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ . . . } [ النحل : 41 ] .
أي : أن ما أعدَّ لهم من نعيم الآخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا .
ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من العطاء يقول له : " بارك الله لك فيه . . هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة اكبر من هذا " . فهذه حسنة الدنيا .
{ وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ . . } [ النحل : 41 ] .
وساعة أنْ تسمع كلمة ( أكبر ) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير ، بل مقابلها ( كبير ) فتكون حسنة الدنيا التي بوَّأهم الله إياها هي ( الكبيرة ) ، لكن ما ينتظرهم في الآخرة ( أكبر ) .
وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التفضيل أقلَّ في المدح من غير أفعل التفضيل . . فمن أسماء الله الحسنى ( الكبير ) في حين أن الأكبر صفةٌ من صفاته تعالى ، وليس اسماً من أسمائه ، وفي شعار ندائنا لله نقول : الله اكبر ولا نقول : الله كبير . . ذلك لأن كبير ما عداه يكون صغيراً . . إنما أكبر ، ما عداه يكون كبيراً ، فنقول في الأذان : الله أكبر لأن أمور الدنيا في حَقِّ المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة .
(1/4907)
فإياك أنْ تظنَّ أن حركةَ الدنيا التي تتركها من أجل الصلاة أنها صغيرة ، بل هي كبيرة بما فيها من وسائل تُعينك على طاعة الله ، فبها تأكل وتشرب وتتقوَّى ، وبها تجمع المال لِتسُدَّ به حاجتك ، وتُؤدِّي الزكاة إلى غير ذلك ، ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة ، وكانت الصلاة والوقوف بين يدي الله أكبر .
ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . } [ الجمعة : 9 ] .
أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها ، ثم قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله . . . } [ الجمعة : 10 ] .
فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة؛ لأنها الوسيلةُ للدار الآخرة ، والمزرعة التي نُعد فيها الزاد للقاء الله تعالى . . إذن : الدنيا أهم من أنْ تُنسَى من حيث هي معونة للآخرة ، ولكنها أتفَهُ من أن تكونَ غاية في حَدِّ ذاتها .
ثم يقول الحق سبحانه : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ . . } [ النحل : 41 ] .
الخطاب هنا عن مَنْ؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلاثة أشياء :
يمكن أنْ يُراد به الكافرون . . ويكون المعنى : لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء المؤمنين لآثروه على الكفر .
ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون . . ويكون المعنى : لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل الخير .
وأخيراً قد يُرَاد به المؤمن الذي لم يهاجر . . ويكون المعنى : لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع إليها .
وهذه الأوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الأداء وبلاغة القرآن الكريم ، وهذا ما يسمونه تربيب الفوائد .
ثم يقول الحق سبحانه : { الذين صَبَرُواْ . . . } .
(1/4908)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
الحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا تشريحاً لحال المهاجرين ، فقد ظُلِموا واضْطهِدوا وأُوذُوا في سبيل الله ، ولم يفتنهم هذا كله عن دينهم ، بل صبروا وتحملُّوا ، بل خرجوا من أموالهم وأولادهم ، وتركوا بلدهم وأرضهم في سبيل دينهم وعقيدتهم ، حدث هذا منهم اتكالاً على أن الله تعالى لن يُضيِّعهم .
ولذلك جاء التعبير القرآني هكذا { صَبَرُواْ } بصيغة الماضي ، فقد حدث منهم الصبر فعلاً ، كأن الإيذاء الذي صبروا عليه فترة مضتْ وانتهت ، والباقي لهم عِزّة ومنَعة وقوة لا يستطيع أحد أنْ يضطهدهم بعد ذلك ، وهذه من البشارات في الأداء القرآني .
أما في التوكل ، فقال تعالى في حقهم :
{ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 42 ] .
بصيغة المضارع؛ لأن التوكُّل على الله حدث منهم في الماضي ، ومستمرون فيه في الحاضر والمستقبل ، وهكذا يكون حال المؤمن .
وبعد ذلك تكلَّم القرآن الكريم عن قضية وقف منها الكافرون أيضاً موقف العناد والمكابرة والتكذيب ، وهي مسألة إرسال الرسل ، فقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ . . . } .
(1/4909)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشراً . وقالوا : إذا أراد الله أن يرسل رسولاً فينبغي أن يكون مَلَكاً فقالوا : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً . . } [ المؤمنون : 24 ] .
وكأنهم استقلُّوا الرسالة عن طريق بشر؛ وهذا أيضاً من غباء الكفر وحماقة الكافرين؛ لأن الرسول حين يُبلّغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان : مسئولية البلاغ بالعلم ، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك . . فيأمر بالصلاة ويُصلِّي ، وبالزكاة ويُزكِّي ، وبالصبر ويصبر ، فليس البلاغ بالقول فقط ، لا بل بالسلوك العمليّ النموذجيّ .
ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان خلقه القرآن " .
وكان قرآناً يمشي على الأرض ، والمعنى : كان تطبيقاً كاملاً للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك وتعالى .
ويقول تعالى في حقِّه صلى الله عليه وسلم : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ . . } [ الأحزاب : 21 ] .
فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكاً؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟ قد يؤدي الملك مهمة البلاغ ، ولكن كيف يُؤدِّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟ كيف ونحن نعلم أن الملائكة خَلْق جُبِلوا على طاعة الله : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
ومن أين تأتيه منافذ الشهرة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل؟
فلو جاء مَلَك برسالة السماء ، وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي ، ماذا نتوقع؟ نتوقع أن يقول قائلهم : لا . . لا أستطيع ذلك ، فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك هذا الفعل ، أما أنا فلا أستطيع .
إذن : طبيعة الأُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشراً ، حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين ، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين .
ومن هنا كان من امتنان الله على العرب ، ومن فضله عليهم أنْ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . . . } [ التوبة : 128 ] .
فهو أولاً من أنفسكم ، وهذه تعطيه المباشرة ، ثم هو بشر ، ومن العرب وليس من أمة أعجمية . . بل من بيئتكم ، ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش؛ ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلاقه وسلوكه ، تعرفون حركاته وسكناته ، وقد كنتم تعترفون له بالصدق والأمانة ، وتأتمنونه على كل غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته ، فكيف تكفرون به الآن وتتهمونه بالكذب؟!
لذلك رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] .
فالذي صَدَّكم عن الإيمان به كَوْنه بشراً!!
ثم نأخذ على هؤلاء مأخذاً آخر؛ لأنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من الملائكة وقالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
فهذا تردُّد عجيب من الكفار ، وعدم ثبات على رأي .
(1/4910)
. مجرد لَجَاجة وإنكار ، وقديماً قالوا : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً .
ويرد عليهم القرآن : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
فلو كان في الأرض ملائكة لنزَّلنا لهم ملكاً حتى تتحقَّق الأُسْوة .
إذن : لا بُدَّ في القدوة من اتحاد الجنس . . ولنضرب لذلك مثلاً : هَبْ أنك رأيتَ أسداً يثور ويجول في الغابة مثلاً يفترس كُلَّ ما أمامه ، ولا يستطيع أحد أنْ يتعرَّض له . . هل تفكر ساعتها أن تصير أسداً؟ لا . . إنما لو رأيتَ فارساً يمسك بسيفه ، ويطيح به رقاب الأعداء . . ألا تحب أن تكون فارساً؟ بلى أحب .
فهذه هي القدوة الحقيقية النافعة ، فإذا ما اختلف الجنس فلا تصلح القدوة .
وهنا يردُّ الحق تبارك وتعالى على افتراءات الكفار بقوله تعالى :
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ . . . } [ النحل : 43 ] .
أي : أنك يا محمد لَسْتَ بَدْعاً في الرسل ، فَمْن سبقوك كانوا رجالاً طيلة القرون الماضية ، وفي موكب الرسالات جميعاً .
وجاءتْ هنا كلمة { رِجَالاً } لتفيد البشرية أولاً كجنس ، ثم لتفيد النوع المذكَّر ثانياً؛ ذلك لأن طبيعة الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه . . يظهر للجميع ويتحدث إلى الجميع . . أما المرأة فمبنية على التستُّر ، ولا تستطيع أن تقوم بدور الأُسْوة للناس ، ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في طبيعتها أموراً كثيرة لا تناسب دور النبوة ، ولا تتمشَّى مع مهمة النبي ، مثل انقطاعها عن الصلاة والتعبد لأنها حائض أو نُفَساء .
كذلك جاءت كلمة { رِجَالاً } مُقيَّدة بقوله :
{ نوحي إِلَيْهِمْ . . . } [ النحل : 43 ] .
فالرسول رجل ، ولكن إياك أنْ تقول : هو رجل مثْلي وبشر مثْلي . . لا هناك مَيْزة أخرى أنه يُوحَى إليه ، وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ثم يقول الحق سبحانه :
{ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
أي : إذا غابتْ عنكم هذه القضية ، قضية إرسال الرسل من البشر ولا أظنها تغيب لأنها عامة في الرسالات كلها . وما كانت لتخفَى عليكم خصوصاً وعندكم أهل العلم بالأديان السابقة ، مثل ورقة بن نوفل وغيره ، وعندكم أهل السِّيَر والتاريخ ، وعندكم اليهود والنصارى . . فاسألوا هؤلاء جميعاً عن بشرية الرسل .
فهذه قضية واضحة لا تُنكر ، ولا يمكن المخالفة فيها . . وماذا سيقول اليهود والنصارى؟ . . موسى وعيسى . . إذنْ بشر .
وقوله تعالى :
{ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
يوحي بأنهم يعلمون ، وليس لديهم شَكٌّ في هذه القضية . . مثل لو قلتَ لمخاطبك : اسأل عن كذا إنْ كنت لا تعرف . . هذا يعني أنه يعرف ، أما إذا كان في القضية شَكٌّ فنقول : اسأل عن كذا دون أداة الشرط . . إذن : هم يعرفون ، ولكنه الجدال والعناد والاستكبار عن قبول الحق .
(1/4911)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
استهل الحق سبحانه الآية بقوله :
{ بالبينات والزبر . . . } [ النحل : 44 ] .
ويقول أهل اللغة : إن الجار والمجرور لا بُدَّ له من متعلق . . فبماذا يتعلق الجار والمجرور هنا؟ قالوا : يجوز أنْ يتعلّق بالفعل ( نُوحِي ) ويكون السياق : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نُوحِي إليهم بالبينات والزبر .
وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر . . فيكون المعنى : فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر ، فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور .
والبينات : هي الأمر البيِّن الواضح الذي لا يشكُّ فيه أحد . . وهو إما أن يكون أمارة ثُبوت صِدْق الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذِّبين أنْ يأتوا بمثلها . . أو : هي الآيات الكونية التي تلفِتُ الخَلْق إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى ، مثل آيات الليل والنهارَ والشمس والقمر والنجوم .
أما الزُّبُر ، فمعناها : الكتب المكتوبة . . ولا يُكتب عادة إلا الشيء النفيس مخافة أنْ يضيعَ ، وليس هنا أنفَسُ مما يأتينا من منهج الله لِيُنظِّم لَنا حركة حياتنا .
ونعرف أن العرب قديماً كانوا يسألون عن كُلِّ شيء مهما كان حقيراً ، فكان عندهم عِلمٌ بالسهم ومَنْ أول صانع لها ، وعن القوس والرَّحْل ، ومثل هذه الأشياء البسيطة . . ألاَ يسألون عن آيات الله في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خَلْقها تدلُّ على الخالق سبحانه وتعالى؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ . . } [ النحل : 44 ] .
كلمة الذكر وردتْ كثيراً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة ، وأَصلْ الذكر أنْ يظلَّ الشيءُ على البال بحيث لا يغيب ، وبذلك يكون ضِدّه النسيان . . إذن : عندنا ذِكْر ونسيان . . فكلمة " ذكر " هنا معناها وجود شيء لا ينبغي لنا نسيانه . . فما هو؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم عليه السلام أخذ العهد على كُلِّ ذرِّة فيه ، فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] .
وأخْذ العهد على آدم هو عَهْد على جميع ذريته ، ذلك لأن في كُلِّ واحد من بني آدم ذَرَّة من أبيه آدم . . وجزءاً حيّاً منه نتيجة التوالُد والتناسُل من لَدُن آدم حتى قيام الساعة ، وما دُمْنا كذلك فقد شهدنا أخذ العهد : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } .
وكأن كلمة ( ذكر ) جاءت لتُذكِّرنا بالعهد المطمور في تكويننا ، والذي ما كان لنا أنْ ننساه ، فلما حدث النسيان اقتضى الأمرُ إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب لتذكِّرنا بعهد الله لنا : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] .
ومن هنا سَمّينا الكتب المنزلة ذكراً ، لكن الذكْر يأتي تدريجياً وعلى مراحل . . كلُّ رسول يأتي ليُذكَّر قومه على حَسْب ما لديهم من غفلة .
(1/4912)
. أما الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء للناس كافّة إلى قيام الساعة ، فقد جاء بالذكر الحقيقي الذي لا ذِكْر بعده ، وهو القرآن الكريم .
وقد تأتي كلمة ( الذكْر ) بمعنى الشَّرَف والرِّفْعة كما في قوله تعالى للعرب : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] وقد أصبح للعرب مكانة بالقرآن ، وعاشت لغتهم بالقرآن ، وتبوءوا مكان الصدارة بين الأمم بالقرآن .
وقد يأتي الذكْر من الله للعبد ، وقد يأتي من العبد لله تعالى كما في قوله سبحانه : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ . . } [ البقرة : 152 ] .
والمعنى : فاذكروني بالطاعة والإيمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والإمداد وبثوابي .
وإذا أُطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الكتاب الجامع لكُلِّ ما نزل على الرسُل السابقين ، ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى أنْ تقومَ الساعة .
كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب ، لكنها إذا جاءت بالتعريف ( الكتاب ) انصرفت إلى القرآن الكريم ، وهذا ما نسميه ( عَلَم بالغلبة ) .
والذكْر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو معجزته الخالدة في الوقت نفسه ، فهو منهج ومعجزة ، وقد جاء الرسُل السابقون بمعجزات لحالها ، وكتب لحالها ، فالكتاب منفصل عن المعجزة .
فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا ، وعيسى كتابه ومنهجه الإنجيل ومعجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله .
أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه ، لا ينفصل أحدهما عن الآخر لتظلّ المعجزة مُسَاندة للمنهج إلى قيام الساعة .
وهذا هو السِّر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته ، فقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
أما الكتب السابقة فقد عُهد إلى التابعين لكل رسول منهم بحِفْظ كتابه ، كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله . . . } [ المائدة : 44 ] .
ومعنى اسْتُحفِظوا : أي طلبَ الله منهم أنْ يحفظوا التوراة ، وهذا أمْرُ تكليف قد يُطاع وقد يُعصى ، والذي حدث أن اليهود عَصَوْا وبدّلوا وحَرَّفوا في التوراة . . أما القرآن فقد تعهَّد الله تعالى بحفْظه ولم يترك هذا لأحد؛ لأنه الكتاب الخاتَم الذي سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة .
ومن الذِّكْر أيضاً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن ، وهو الحديث الشريف ، فللرسول مُهِمة أخرى ، وهي منهجه الكلاميّ وحديثه الشريف الذي جاء من مِشْكاة القرآن مبيِّناً له ومُوضِّحاً له . . . كما قال صلى الله عليه وسلم : " أَلاَ وإنِّي قد أُوتيتُ القرآن ومِثْله معه ، يُوشك رجل شبعان يتكيء على أريكته يُحدِّث بالحديث عنِّي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال حَلَّلْناه ، وما وجدنا فيه من حرام حَرَّمناه ، أَلاَ وإنَّه ليس كذلك " .
ويقول الحق سبحانه :
{ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .
(1/4913)
. } [ النحل : 44 ] .
إذن : جاء القرآن كتابَ معجزة ، وجاء كتابَ منهج ، إلا أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط ، ولم يذكر التعريفات المنهجية والشروح اللازمة لتوضيح هذا المنهج ، وإلاَّ لَطالتْ المسألة ، وتضخَّم القرآن وربما بَعُد عن مُرَاده .
فجاء القرآن بالأصول الثابتة ، وترك للرسول صلى الله عليه وسلم مهمة أنْ يُبيِّنه للناس ، ويشرحه ويُوضِّح ما فيه .
وقد يظن البعض أن كُلَّ ما جاءتْ به السُّنة لا يلزمنا القيام به؛ لأنه سنة يُثَاب مَنْ فعلها ولا يُعاقب مَنْ تركها . . نقول : لا . . لا بُدَّ أن نُفرِّق هنا بين سُنّية الدليل وسُنّية الحكم ، حتى لا يلتبس الأمر على الناس .
فسُنّية الدليل تعني وجود فَرْض ، إلا أن دليله ثابت من السنة . . وذلك كبيان عدد ركعات الفرائض : الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فهذه ثابتة بالسنة وهي فَرْض .
أما سُنيّة الحكم : فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يُثَاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها . . فحين يُبيِّن لنا الرسول بسلوكه وأُسْوته حُكْماً ننظر : هل هي سُنّية الدليل فيكون فَرْضاً ، أم سُنّية الحكم فيكون سُنة؟ ويظهر لنا هذا أيضاً من مواظبة الرسول على هذا الأمر ، فإنْ واظب عليه والتزمه فهو فَرْض ، وإنْ لم يواظب عليه فهو سُنة .
إذن : مهمة الرسول ليست مجرد مُنَاولة القرآن وإبلاغه للناس ، بل وبيان ما جاء فيه من المنهج الإلهي ، فلا يستقيم هنا البلاغ دون بيان . . ولا بُدَّ أن نفرّق بين العطائين : العطاء القرآني ، والعطاء النبوي .
ويجب أن نعلم هنا أن من المَيْزات التي مُيِّز بها النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر إخوانه من الرُّسُل ، أنه الرسول الوحيد الذي أمنه الله على التشريع ، فقد كان الرسل السابقون يُبلِّغون أوامر السماء فَقط وانتهتْ المسألة ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقِّه : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا . . } [ الحشر : 7 ] .
إذن : أخذ مَيْزة التشريع ، فأصبحت سُنّته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم .
ثم يقول تعالى :
{ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] .
يتفكرون . . في أي شيء؟ يتفكرون في حال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، حيث لم يُؤْثَر عنه أنه كان خطيباً أو أديباً شاعراً ، ولم يُؤْثَر عنه أنه كان كاتباً مُتعلِّماً . . لم يُعرف عنه هذا أبداً طيلة أربعين عاماً من عمره الشريف ، لذلك أمرهم بالتفكُّر والتدبُّر في هذا الأمر .
فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجَّرت هكذا مرَّة واحدة في الأربعين من عمره ، فالعمر الطبيعي للعبقريات يأتي في أواخر العِقْد الثاني وأوائل العِقْد الثالث من العمر .
ولا يُعقل أنْ تُؤجّل العبقرية عند رسول الله إلى هذا السن وهو يرى القوم يُصْرعون حوله . . فيموت أبوه وهو في بطن أمه ، ثم تموت أمه وما يزال طفلاً صغيراً ، ثم يموت جَدُّه ، فمَنْ يضمن له الحياة إلى سِنِّ الأربعين ، حيث تتفجَّر عنده هذه العبقرية؟!
إذن : تفكَّروا ، فليستْ هذه عبقرية من محمد ، بل هي أمْر من السماء؛ ولذلك أمره ربُّه تبارك وتعالى أن يقول لهم :
(1/4914)
{ قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] .
فكان عليكم أنْ تفكِّروا في هذه المسألة . . ولو فكرتُمْ فيها كان يجب عليكم أنْ تتهافتوا على الإسلام ، فأنتم أعلم الناس بمحمد ، وما جرَّبتم عليه لا كذباً ولا خيانةً ، ولا اشتغالاً بالشعر أو الخطابة ، فما كان لِيْصدق عندكم ويكذب على الله .
ولا بُدَّ أن نُفرّق بين العقل والفكر . فالعقل هو الأداة التي تستقبل المحسَّات وتُميِّزها ، وتخرج منها القضايا العامة التي ستكون هي المباديء التي يعيش الإنسان عليها ، والتي ستكون عبارة عن معلومات مُخْتزنة ، أما الفكر فهو أن تفكر في هذه الأشياء لكي تستنبط منها الحكم .
والله سبحانه وتعالى ترك لنا حُرية التفكير وحرية العقل في أمور دنيانا ، لكنه ضبطنا بأمور قَسْرية يفسَد العالم بدونها ، فالذي يفسد العالم أن نترك ما شرعه الله لنا . . والباقي الذي لا يترتب عليه ضرر يترك لنا فيه مجالاً للتفكير والتجربة؛ لأن الفشل فيه لا يضر .
فما أراده الله حُكْماً قسْرياً فرضه بنصِّ صريح لا خلافَ فيه ، وما أراده على وجوه متعددة يتركه للاجتهاد حيث يحتمل الفعل فيه أوجهاً متعددة ، ولا يؤدي الخطأ فيه إلى فساد .
فالمسألة ميزان فكري يتحكم في المحسَّات ويُنظم القضايا ، لنرى أولاً ما يريده الله بتاً وما يريده اجتهاداً ، وما دام اجتهاداً فما وصل إليه المجتهد يصح أنْ يعبد الله به ، ولكن آفة الناس في الأمور الاجتهادية أن منهم مَنْ يتهم مخالفه ، وقد تصل الحال بهؤلاء إلى رَمْي مخالفيهم بالكفر والعياذ بالله .
ونقول لمثل هذا : اتق الله ، فهذا اجتهادٌ مَنْ أصاب فيه فَلَهُ أجران ، ومَنْ أخطأ فله أجر . . ولذلك نجد من العلماء مَنْ يعرف طبيعة الأمور الاجتهادية فنراه يقول : رَأْيي صواب يحتمل الخطأ ، ورَأْي غيري خطأ يحتمل الصواب . وهكذا يتعايش الجميع وتُحتَرم الآراء .
ومن رحمة الله بعباده أن يأمرهم بالتفكُّر والتدبُّر والنظر؛ ذلك لأنهم خَلْقه سبحانه ، وهم أكرم عليه من أنْ يتركهم للضلال والكفر ، بعد أن أكرمهم بالخَلْق والعقل ، فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراماً آخر بالطاعة والإيمان .
وكأنه سبحانه يقول لهم : رُدُّوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل ولَجَج الخصومة ، وإنْ كنتم لا تؤمنون بالبعث في الآخرة ، وبما أُعدَّ للظالمين فيها من عقاب ، فانظروا إلى ما حدث لهم وما عُجِّل لهم من عذاب في الدنيا .
انظروا للذين سبقوكم من الأمم المكذَّبة وما آل إليه مصيرهم ، أم أنتم آمنون من العذاب ، بعيدون عنه؟!
ثم يقول تبارك وتعالى : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ . . . } .
(1/4915)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
قوله تعالى :
{ أَفَأَمِنَ . . . } [ النحل : 45 ] .
عبارة عن همزة الاستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها . . أما الفاء بعدها فهي حَرْف عَطْف يعطف جملة على جملة . . إذن : هنا جملة قبل الفاء تقديرها : أجهلوا ما وقع لمخالفي الأنبياء السابقين من العذاب ، فأمِنُوا مكر الله؟
أي : أن أَمْنهم لمكر الله ناشيءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذِّبين من الأمم السابقة .
ثم يقول تعالى :
{ مَكَرُواْ السيئات . . . . } [ النحل : 45 ] .
المكر : هو التبييت الخفيّ للنيْل ممَّنْ لا يستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به ، فأنت لا تُبيِّت لأحد إلا إذا كانت قدرتُك عاجزة عن مُصَارحته مباشرة ، فكوْنُك تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك؛ ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن؛ لأن الماكر ما مكر إلا لعجزه عن المواجهة ، وعلى قَدْر ما يكون المكْر عظيماً يكون الضعف كذلك .
وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقِّ النساء : { كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ . . } [ يوسف : 28 ] .
وقال في حَقِّ الشيطان : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] .
فالمكر دليل على الضعف ، وما دام كَيْدهُن عظيماً إذن : ضَعْفُهن أيضاً عظيم ، وكذلك في كيد الشيطان .
وقديماً قالوا : إياك أنْ يملكَك الضعيف؛ ذلك لأنه إذا تمكَّن منك وواتَتْه الفرصة فلن يدعَكَ تُفلت منه؛ لأنه يعلم ضعفه ، ولا يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى؛ لذلك لا يضيعها على عكس القويّ ، فهو لا يحرص على الانتقام إذا أُتيحَتْ له الفرصة وربما فَوَّتها لقُوته وقُدرته على خَصْمه ، وتمكّنه منه في أيِّ وقت يريد ، وفي نفس المعنى جاء قول الشاعر :
وَضَعِيفة فإذَا أَصَابتْ فُرْصةً ... قتلَتْ كذلِكَ قُدرةُ الضُّعَفاءِ
إذن : قدرة الضعفاء قد تقتل ، أما قدرة القويّ فليستْ كذلك .
ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر ، من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من بني الإنسان ، فإذا ما تعرضْتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة ، وأحكم منك مكْراً ، فربما لا يُجدِي مكرُك به ، بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه ، فكيف الحال إذا كَان الماكر بك هو ربِّ العالمين تبارك وتعالى؟
وصدق الله العظيم حيث قال : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] .
وقال : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] .
فمكْر العباد مكشوف عند الله ، أما مكْرُه سبحانه فلا يقدر عليه أحد ، ولا يحتاط منه أحد؛ لذلك كان الحق سبحانه خَيْر الماكرين .
والمكْر السَّيء هو المكْر البطَّال الذي لا يكون إلا في الشر ، كما حدث من مَكْر المكذِّبين للرسل على مَرِّ العصور ، وهو أن تكيد للغير كيْداً يُبطل حَقّاً .
وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة ، دليل على أنهم لا يستطيعون مواجهته مباشرة ، وقد تعرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم لمراحل متعددة من الكَيْد والمكْر والخديعة ، وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من الانتصار عليه صلى الله عليه وسلم ، فقد بيَّتوا له ودَبَّروا لقتله ، وحَاكُوا في سبيل ذلك الخطط ، وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة بالفشل .
(1/4916)
وفي مكيدة أخرى حاولوا أن يَسْحروه صلى الله عليه وسلم ، ولكن كشف الله أمرهم وخيَّب سعيهم . . إذن : فأيّ وسيلة من وسائل دَحْض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها ، ونصره الله عليكم . كما قال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي . . . } [ المجادلة : 21 ] .
وقوله تعالى :
{ أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض . . . } [ النحل : 45 ] .
الخسْف : هو تغييب الأرض ما على ظهرها . . فانخسفَ الشيء أيْ : غاب في باطن الأرض ، ومنه خُسوف القمر أي : غياب ضَوْئه . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى عن قارون : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] .
وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صُور متعددة كما ذكرها القرآن الكريم : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا . . } [ العنكبوت : 40 ] .
هذه ألوان من العذاب الذي حاقَ بالمكذبين ، وكان يجب على هؤلاء أن يأخذوا من سابقيهم عبرة وعظة ، وأنْ يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
{ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 45 ] .
والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكْر الله وللعذاب الواقع بهم ، أتاهم الله من وجهة لا يشعرون بها ، ولم تخطُر لهم على بال ، وطالما لم تخطُرْ لهم على بال ، إذن : فلم يحتاطوا لها ، فيكون أَخْذهم يسيراً ، كما قال تعالى : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ . . . } [ الحشر : 2 ] .
ويتابع الحق سبحانه ، فيقول : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي . . . } .
(1/4917)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
التقلب : الانتقال من حال إلى حال ، أو من مكان إلى مكان ، والانتقال من مكان الإقامة إلى مكان آخر دليلُ القوة والمقدرة ، حيث ينتقل الإنسان من مكانه حاملاً متاعه وعَتَاده وجميع ما يملك؛ لينشيء له حركةَ حياة جديدة في مكانه الجديد .
إذن : التقلُّب في الحياة مظهر من مظاهر القوة ، بحيث يستطيع أن يقيم حياة جديدة ، ويحفظ ماله في رحلة تقلُّبه . . ولا شكَّ أن هذا مظهر من مظاهر العزة والجاه والثراء لا يقوم به إلا القوي .
ولذلك نرى في قول الحق تبارك وتعالى عن أهل سبأ : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 18-19 ] .
فهؤلاء قوم جمع الله لهم ألواناً شتى من النعيم ، وأمَّن بلادهم وأسفارهم ، وجعل لهم محطات للراحة أثناء سفرهم ، ولكنهم للعجب طلبوا من الله أن يُباعد بين أسفارهم ، كأنهم أرادوا أنْ يتميزوا عن الضعفاء غير القادرين على مشقة السفر والترحال ، فقالوا : { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] .
حتى لا يقدر الضعفاء منهم على خَوْض هذه المسافات .
إذن : الذي يتقلَّب في الأرض دليل على أن له من الحال حال إقامة وحال ظَعْن وقدرة على أن ينقل ما لديه ليقيم به في مكان آخر؛ ولذلك قالوا : المال في الغربة وطن . . ومَنْ كان قادراً يفعل ما يريد .
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] .
فلا يخيفنك انتقالهم بين رحلتي الشتاء والصَّيْف ، فالله تعالى قادر أن يأخذَهم في تقلُّبهم .
وقد يُراد تقلّبهم في الأفكار والمكْر السيء بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته كما في قوله تعالى : { لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } [ التوبة : 48 ] .
فقد قعدوا يُخطّطون ويمكُرون ويُدبِّرون للقضاء على الدعوة في مَهْدها .
ويقول تعالى :
{ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [ النحل : 46 ] .
المعجز : هو الذي لا يمَكِّنك من أنْ تغلبه ، وهؤلاء لن يُعجِزوا الله تعالى ، ولن يستطيعوا الإفلاتَ من عذابه؛ لأنهم مهما بَيَّتوا فتبييتهم وكَيْدهم عند الله . . أما كيْد الله إذا أراد أنْ يكيد لهم فلن يشعروا به : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } [ الأنفال : 30 ] .
وقال : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 15-17 ] .
فمَنْ لا يستطيع أن يغلبك يخضع لك ، وما دام يخضع لك يسيطر عليه المنهج الذي جِئْتَ به .
وقد يكون العجز أمام القوىّ دليلَ قوة ، كما عجز العرب أمام تحدِّي القرآن لهم ، فكان عجزهم أمام كتاب الله دليلَ قوتهم في المجال الذي تحدَّاهم القرآن فيه؛ لأن الله تعالى حين يتحدَّى وحين يُنازل لا ينازل الضعيف ، لا بل ينازل القوي في مجال هذا التحدِّي .
(1/4918)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
التخوُّف : هو الفزع من شيء لم يحدث بعد ، فيذهب فيه الخيال مذاهبَ شتَّى ، ويتوقع الإنسان ألواناً متعددة من الشر ، في حين أن الواقع يحدث على وجه واحد .
هَبْ أنك في انتظار حبيب تأخَّر عن موعد وصوله ، فيذهب بك الخيال والاحتمال إلى أمور كثيرة . . يا تُرى حدث كذا أو حدث كذا ، وكل خيال من هذه الخيالات له أثر ولذعة في النفس ، وبذلك تكثر المخاوف ، أما إن انتظرتَ لتعرفَ الواقع فإنْ كان هناك فزع كان مرة واحدة .
ولذلك يقولون في الأمثال : ( نزول البلا ولا انتظاره ) ذلك لأنه إنْ نزل سينزل بلون واحد ، أما انتظاره فيُشيع في النفس ألواناً متعددة من الفزع والخوف . . إذن : التخُّوف أشدُّ وأعظم من وقوع الحَدث نفسه .
وكان هذا الفزع يعتري الكفار إذا ما عَلِموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من السَّرايا ، فيتوقع كل جماعة منهم أنها تقصدهم ، وبذلك يُشيع الله الفزع في نفوسهم جميعاً ، في حين أنها خرجتْ لناحية معينة .
وبعض المفسرين قال : التخوُّف يعني التنقُّص بأنْ ينقص الله من رُقْعة الكفر بدخول القبائل في الإسلام قبيلةً بعد أخرى ، فكلُّ واحدة منها تنقص من رقعة الكفر . . كما جاء في قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات . . . } [ البقرة : 155 ] .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى في تذييل هذه الآية :
{ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 47 ] .
وهل هذا التذييل مناسب للآية وما قبلها من التهديد والوعيد؟ فالعقل يقول : إن التذييل المناسب لها : إن ربكم لشديد العقاب مثلاً .
لكن يجب هنا أنْ نعلمَ أن هذا هو عطاء الربوبية الذي يشمل العباد جميعاً مؤمنهم وكافرهم ، فالله تعالى استدعى الجميع للدنيا ، وتكفَّل للجميع بما يحفظ حياتهم من شمس وهواء وأرض وسماء ، لم تُخلَق هذه الأشياء لواحد دون الآخر ، وقد قال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
وكأن في الآية لَوْناً من ألوان رحمته سبحانه بخَلْقه وحِرْصه سبحانه على نجاتهم؛ لأنه يُنبِّههم إلى ما يمكن أن يحدث لَهم إذا أصرُّوا على كفرهم ، ويُبصِّرهم بعاقبة كفرهم ، والتبصرة عِظَة ، والعِظَة رأفة بهم ورحمة حتى لا ينالهم هذا التهديد وهذا الوعيد .
ومثال هذا التذييل كثير في سورة الرحمن ، يقول الحق تبارك وتعالى : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 17-18 ] .
فهذه نعمة ناسبت قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 18 ] .
وكذلك في قوله تعالى : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19-20 ] .
فهذه نعمة من نعم الله ناسبت تذييل الآية : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 21 ] .
(1/4919)
أما في قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 26-28 ] .
فما النعمة في { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ؟ هل الموت نعمة؟!
نعم ، يكون الموت نعمة من نِعَم الله على عباده؛ لأنه يقول للمحسن : سيأتي الموت لتلقَى جزاء إحسانك وثواب عملك ، ويقول أيضاً للكافر : انتبه واحذر . . الموت قادم ، كأنه سبحانه يُوقِظ الكفار ويَعِظهم لينتهوا عما هم فيه . . أليست هذه نعمة من نعم الله ورحمة منه سبحانه بعباده؟
وكذلك انظر إلى قول الحق تبارك وتعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35-36 ] .
فأيّ نعمة في : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } [ الرحمن : 35 ] .
أيُّ نعمة في هذا العذاب؟
نعم المتدبِّر لهذه الآية يجد فيها نعمة عظيمة؛ لأن فيها تهديداً ووعيداً بالعذاب إذا استمروا على ما هم فيه من الكفر . . ففي طيَّاتها تحذير وحِرْص على نجاتهم كما تتوعد ولدك : إذا أهملتَ دروسك ستفشل وأفعل بك كذا وكذا . وأنت ما قلت ذلك إلا لحِرصك على نجاحه وفلاحه .
إذن : فتذييل الآية بقوله :
{ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 47 ] .
تذييل مناسب لما قبلها من التهديد والوعيد ، وفيها بيان لرحمة الله التي يدعو إليها كلاً من المؤمن والكافر .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ . . } .
(1/4920)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
قوله تعالى :
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ . . . } [ النحل : 48 ] .
المعنى : أَعَمُوا ولم يَرَوْا ولم يتدبروا فيها خلق الله؟
{ مِن شَيْءٍ } [ النحل : 48 ] .
كلمة شيء يسمونها جنس الأجناس ، و { مِن } تفيد ابتداء ما يُقال له شيء ، أي : أتفه شيء موجود ، وهذا يسمونه أدنى الأجناس . . وتفيد أيضاً العموم فيكون :
{ مِن شَيْءٍ . . . } [ النحل : 48 ] .
أي : كل شيء .
فانظر إلى أيّ شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافهاً ستجد له ظِلاً :
{ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ . . . } [ النحل : 48 ] .
يتفيأ : من فاءَ أي : رجع ، والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس ، أو عودة الشمس إلى الظل .
فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين : ظل ثابت مستمر ، وظل مُتغيّر ، فالظل الثابت دائماً في الأماكن التي لا تصل إليها أشعة الشمس ، كقاع البحار وباطن الأرض ، فهذا ظِلٌّ ثابت لا تأتيه أشعة الشمس في أي وقت من الأوقات .
والظلّ المتحرك الذي يُسمّى الفَيْء لأنه يعود من الظل إلى الشمس ، أو من الشمس إلى الظل ، إذن : لا يُسمَّى الظل فَيْئاً إلا إذا كان يرجع إلى ما كان عليه .
ولكن . . كيف يتكّون الظل؟ يتكّون الظل إذا مَا استعرض الشمسَ جسم كثيف يحجب شعاع الشمس ، فيكون ظِلاً له في الناحية المقابلة للشمس ، هذا الظل له طُولان وله استواء واحد .
طول عند الشروق إلى أنْ يبلغَ المغرب ، ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس ، فإذا ما استوتْ الشمس في السماء يصبح ظِلّ الشيء في نفسه ، وهذه حالة الاستواء ، ثم تميل الشمس إلى الغروب ، وينعكس طول الظلّ الأول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق .
ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الآية الكونية في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [ الفرقان : 45-46 ] .
ذلك لأنك لو نظرتَ إلى الظلِّ وكيف يمتدُّ ، وكيف ينقبض وينحسر لوجدتَ شيئاً عجيباً حقاً . . ذلك لأنك تلاحظ الظل في الحالتين يسير سَيْراً انسيابياً .
ما معنى : ( انسيابي ) ؟ هو نوع من أنواع الحركة ، فالحركة إما حركة انسيابية ، أو حركة عن توالي سكونات بين الحركات .
وهذه الأخيرة نلاحظها في حركة عقارب الساعة ، وهي أوضح في عقرب الثواني منها في عقرب الدقائق ، ولا تكاد تشعر بها في عقرب الساعات . . فلو لاحظت عقرب الثواني لوجدتَه يسير عن طريق قفزات منتظمة ، تكون حركة فسكوناً فحركة ، وهكذا . .
ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه ، ثم ينطلق بها ، وبذلك تمرُّ عليه لحظة لم يكن مُتحركاً فيها ، وهذا ما نسميه بالحركة القفزية . . هذه الحركة لا تستطيع رَصْدها في عقرب الساعات؛ لأن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن رَصْدها وملاحظتها ، هذه هي الحركة القفزية .
(1/4921)
أما الحركة الانسيابية ، فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة . . أي : حركة مستمرة ومُوزّعة بانتظام على الزمن .
ونضرب لذلك مثلاً بنمو الطفل . . الطفل الوليد ينمو باستمرار ، لكن أمه لملازمتها له لا تلاحظ هذا النمو؛ لأن نظرها عليه دائماً . . فكيف تكون حركة النمو في الطفل؟ هل حركة قفزية يتجمع فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلاً ، ثم ينمو طَفْرة واحدة؟
لو كان نموه هكذا لَلاَحظنا نمو الطفل ، لكنه ليس كذلك ، بل ينمو بحركة انسيابية تُوزّع المِلِّي الواحد من النمو على طول الزمن . فلا نكاد نشعر بنموه .
وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية ، بحيث تُوزع جزئيات الحركة على جُزئيات الزمن ، فالشمس ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلاً ، لا . . بل مركونة إلى أمر الله ، موصولة بكُنْ الدائمة .
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلِفتَ خَلْقه إلى ظاهرة كونية في الوجود مُحسّة ، يدركها كلٌّ مِنّا في ذاته ، وفيما يرى من المرائي ، ومن هذه المظاهر ظاهرة الظَلّ التي يعجز الإنسان عن إدراك حركته .
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى : { وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
فالحق سبحانه يريد أن يُعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . . } [ الإسراء : 44 ] .
فكل ما يُطلَق عليه شيء فهو يُسبِّح مهما كان صغيراً .
وقوله تعالى :
{ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل . . . } [ النحل : 48 ] .
لنا هنا وقفة مع الأداء القرآني ، حيث أتى باليمين مُفْرداً ، في حين أتى بالشمائل على صورة الجمع؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لما قال :
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ . . . } [ النحل : 48 ] .
أتى بأقلّ ما يُتصوَّر من مخلوقاته سبحانه { مِن شَيْءٍ . . . } وهو مفرد ، ثم قال سبحانه :
{ ظِلاَلُهُ . . } [ النحل : 48 ] .
بصيغة الجمع . أي : مجمع هذه الأشياء ، فالإنسان لا يتفيأ ظِلّ شيء واحد ، لا . . بل ظِلّ أشياء متعددة .
و { مِن } هنا أفادت العموم :
{ مِن شَيْءٍ . . } [ النحل : 48 ] .
أي : كل شيء . فليناسب المفرد جاء باليمين ، وليناسب الجمع جاء بالشمائل .
ثم يقول تعالى :
{ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] .
فما العلاقة بين حركة الظلّ وبين السجود؟
معنى : سُجّداً أي : خضوعاً لله ، وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليلٌ على أنه موصول بالمحرك الأعلى له ، والقائل الأعلى ل " كُنْ " ، والظل آية من آياته سبحانه مُسخّرة له ساجدة خاضعة لقوله : كُنْ فيكون .
وقلنا : إن هناك فرقاً بين الشيء تُعِده إعداداً كَوْنياً ، والشيء تُعِده إعداداً قدرياً . . فصانع القنبلة الزمنية يُعِدُّها لأنْ تنفجرَ في الزمن الذي يريده ، وليس الأمر كذلك في إعداد الكون .
الكون أعدّه الله إعداداً قدرياً قائماً على قوله كُنْ ، وفي انتظار لهذا الأمر الإلهي باستمرار ( كن فيكون ) .
(1/4922)
وهكذا . . فليست المسألة مضبوطة ميكانيكاً ، لا . . بل مضبوطة قَدرياً .
لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول : باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها ، ويُرتّب على هذا الحكم أشياء أخرى . . نقول : لا . . ليس الأمر كذلك . . فالشمس خاضعة للإعداد القدريّ منضبطةٌ به ومنتظرة ل " كُنْ " التي يُصغِي لها الكون كله؛ ولذلك يقول تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] .
هكذا بيَّنت الآية الكريمة أن كل ما يُقال له " شيء " يسجد لله عز وجل ، وكلمة " شيء " جاءت مُفْردة دالّة على العموم . . وقد عرفنا السجود فيما كلَّفنا الله به من ركن في الصلاة ، وهو مُنْتَهى الخضوع ، خضوع الذات من العابد للمعبود ، فنحن نخضع واقفين ، ونخضع راكعين ، ونخضع قاعدين ، ولكن أتمَّ الخضوع يكون بأنْ نسجدَ لله . . ولماذا كان أتمَّ الخضوع أن نسجدَ لله؟
نقول : لأن الإنسان له ذات عامة ، وفي هذا الذات سيد للذات ، بحيث إذا أُطلِق انصرف إلى الذات ، والمراد به الوجه؛ لذلك حينما يعبّر الحق تبارك وتعالى عن فَنَاء الوجود يقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . } [ القصص : 88 ] .
وكذلك في قوله : { إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى } [ الليل : 20-21 ] .
فيُطلَق الوجه ويُراد به الذات ، فإذا ما سجد الوجه لله تعالى دلَّ ذلك على خضوع الذات كلها؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه ، فإذا ما ألصقه بالأرض فقد جاء بمنتهى الخضوع بكل ذاته للمعبود عز وجل .
كما دَلَّتْ الآية على أن الظل أيضاً يسجد لربه وخالقه سبحانه ، والظلال قد تكون لجمادات كالشجر مثلاً ، أو بناية أو جبل ، وهذه الأشياء الثابتة يكون ظِلّها أيضاً ثابتاً لا يتحرك ، أما ظِلّ الإنسان أو الحيوان فهو ظل متحرك ، وقد ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً في الخضوع التام بالظلال؛ لأن ظل كل شيء لا يفارق الأرض أبداً ، وهذا مثال للخضوع الكامل .
ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلال في قوله : { وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
يعني الذوات تسجد ، وكذلك الظلال تسجد؛ ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر . . يقول : أيها الكافر ظِلُّك ساجد وأنت جاحد . . جاء هذا الترقِّي في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ . . . } .
(1/4923)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
فأجناس الكون التي يعرفها الإنسان أربعة : إما جماد ، فإذا وجدتَ خاصية النمو كان النبات ، وإذا وجدتَ خاصية الحركة والحسِّ كان الحيوان ، فإذا وجدتَ خاصية الفِكْر كان الإنسان ، وإذا وجدتَ خاصية العلم الذاتي النوراني كان المَلَك . . هذه هي الأجناس التي نعرفها .
الحق تبارك وتعالى ينقلُنا هنا نَقْلة من الظلال الساجدة ، للجمادات الثابتة ، إلى الشيء الذي يتحرك ، وهو وإنْ كان مُتحركاً إلا أن ظلّه أيضاً على الأرض ، فإذا كان الحق سبحانه قد قال :
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . } [ النحل : 49 ] .
فقد فصَّل هذا الإجمال بقوله :
{ مِن دَآبَّةٍ والملائكة . . . } [ النحل : 49 ] .
أي : من أقلّ الأشياء المتحركة وهي الدابة ، إلى أعلى الأشياء وهي الملائكة . .
وقد يقول قائل : وهل ما في السماوات وما في الأرض يسجد لله؟
نقول له : نعم . . لأنك فسرتَ السجود فيك أنت بوضْع جبهتك على الأرض ، ليدلّ على أن الذات بعلُوّها ودنُوّها ساجدة لله خاضعة تمام الخضوع ، حيث جعلتَ الجبهة مع القدم .
والحق تبارك وتعالى يريد منّا أن نعرف استطراق العبودية في الوجود كله؛ لأن الكافر وإنْ كانَ مُتمرِّداً على الله فيما جعل الله له فيه اختيارا ، في أنْ يؤمن أو يكفر ، في أن يطيع أو يعصي ، ولكن الله أعطاه الاختيار .
نقول له : إنك قد ألفْتَ التمرّد على الله ، فطلب منك أن تؤمن لكنك كفرتَ ، وطلبَ منك يا مؤمن أن تطيعَ فعصيتَ ، إذن : فلكَ إلْفٌ بالتمرّد على الحق . . ولكن لا تعتقد أنك خرجتَ من السجود والخضوع لله؛ لأن الله يُجري عليك أشياء تكرهها ، ولكنها تقع عليك رغم أنفك وأنت خاضع .
وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] .
أي : صاغرون مُستذلِّون مُنقَادُونَ مع أنهم أَلِفُوا التمرُّد على الحق سبحانه .
وإلا فهذا الذي أَلِف الخروج عن مُرادات الله فيما له فيه اختيار ، هل يستطيع أنْ يتأبَّى على الله إذا أراد أنْ يُمرضه ، أو يُفقره ، أو يميته؟
لا ، لا يستطيع ، بل هو داخر صاغر في كل ما يُجريه عليه من مقادير ، وإنْ كان يأباها ، وإنْ كان قد أَلِف الخروج عن مُرادات الله .
إذن : ليس في كون الله شيء يستطيع الخروج عن مرادات الله؛ لأنه ما خرج عن مرادات الله الشرعية في التكليف إلا بما أعطاه الله من اختيار ، وإلا لو لم يُعْطه الاختيار لما استطاع التمرّد ، كما في المرادات الكونية التي لا اختيارَ فيها .
لذلك نقول للكافر الذي تمرّد على الحق سبحانه : تمرّد إذا أصابك مرض ، وقُلْ : لن أمرض ، تمرَّد على الفقر وقُلْ : لن أفتقر . . وما دُمْتَ لا تقدر وسوف تخضع راغماً فلتخضعْ راضياً وتكسب الأمر ، وتنتهي مشكلة حياتك ، وتستقبل حياة أخرى أنظف من هذه الحياة .
(1/4924)
وقوله تعالى :
{ مِن دَآبَّةٍ . . . } [ النحل : 49 ] .
هو كل ما يدبّ على الأرض ، والدَّبُّ على الأرض معنا الحركة والمشي . . وقوله :
{ والملائكة . . . } [ النحل : 49 ] .
أي : أن الملائكة لا يُقال لها دابة؛ لأن الله جعل سَعْيها في الأمور بأجنحة فقال تعالى : { أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ . . } [ فاطر : 1 ] .
وقال في آية أخرى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ . . . } [ الأنعام : 38 ] .
فخلق الله الطائر يطير بجناحيه مقابلاً للدابة التي تدب على الأرض ، فاستحوذ على الأمرين : الدابة والملائكة .
و { مَا } في الآية تُطلق على غير العالمين وغير العاقلين؛ ذلك لأن أغلبَ الأشياء الموجودة في الكون ليس لها عِلْم أو معرفة؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا . . } [ الأحزاب : 72 ] .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 49 ] .
أي : أن الملائكة الذين هم أعلى شيء في خَلْق الله لا يستكبرون؛ لأن علوّهم في الخَلْق من نورانية وكذا وكذا لا يعطيهم إدلالاً على خالقهم سبحانه؛ لأن الذي أعطاهم هذا التكريم هو الله سبحانه وتعالى .
وما دام الله هو الذي أعطاهم هذا التكريم فلا يجوز الإدلال به؛ لأن الذي يُدِلُّ إنما يُدِلُّ بالذاتيات غير الموهوبة ، أما الشيء الموهوب من الغير فلاَ يجوز أن تُدِلَّ به على مَنْ وهبه لك .
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون . . } [ النساء : 172 ] .
فلن يمتنعوا عن عبادة الله والسجود له رغم أن الله كرَّمهم ورفعهم .
ثم يقول تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ . . } .
(1/4925)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
ما هو الخوف؟ الخوف هو الفزع والوجَلَ ، والخوف والفزع والوجل لا يكون إلا من ترقب شيء من أعلى منك لا تقدر أنت على رَفْعه ، ولو أمكنك رَفْعه لما كان هناك داعٍٍ للخوف منه؛ لذلك فالأمور التي تدخل في مقدوراتك لا تخاف منها ، تقول : إنْ حصل كذا افعل كذا . . الخ :
وإذا كان الملائكة الكرام : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
فما داعي الخوف إذن؟ نقول : إن الخوف قد يكون من تقصير حدث منك تخاف عاقبته ، وقد يكون الخوف عن مهابة للمخُوف وإجلاله وتعظيمه دون ذنب ودون تقصير ، ولذلك نجد الشاعر العربي يقول في تبرير هذا الخوف :
أَهَابُكَ إِجْلاَلاً ومَا بِكَ قُدْرة ... عليَّ ولكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُها
إذن : مرّة يأتي الخوف لتوقُّع أذى لتقصير منك ، ومرَّة يأتي لمجرد المهابة والإجلال والتعظيم .
وقوله تعالى :
{ مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 50 ] .
ما المراد بالفوْقية هنا؟ نحن نعرف أن الجهات ستّ : فوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وأمام ، وخلف . . بقيتْ جهة الفَوقْية لتكون هي المسيطرة؛ ولذلك حتى في بناء الحصون يُشيّدونها على الأماكن العالية لتتحكم بعلُوّها في متابعة جميع الجهات .
إذن : فالفوقية هي محلّ العُلو ، وهذه الفوقية قد تكون فوقية مكان ، أو فوقية مكانة .
فالذي يقول : إنها فوقية مكان ، يرى أن الله في السماء ، بدليل أن الجارية التي سُئِلت : أين الله؟ أشارتْ إلى السماء ، وقالت : في السماء .
فأشارت إلى جهة العُلُو؛ لأنه لا يصح أن نقول : إن الله تحت ، فالله سبحانه مُنزَّه عن المكان ، وما نُزِّه عن المكان نُزِّه عن الزمان ، فالله عز وجل مُنزَّه عن أنْ تُحيّزه ، لا بمكان ولا بزمان؛ لأن المكان والزمان به خُلِقاً . . فمَن الذي خلق الزمان والمكان؟
إذن : ما داما به خُلِقاً فهو سبحانه مُنزَّه عن الزمان والمكان .
وهم قالوا بأن الفوقية هنا فوقية حقيقية . . فوقية مكان ، أي : أنه تعالى أعلى مِنّا . . ونقول لمن يقول بهذه الفوقية : الله أَعْلى مِنّا . . من أيّ ناحية؟ من هذه أم من هذه؟
إذن : الفوقية هنا فوقية مكانة ، بدليل أننا نرى الحرس الذين يحرسون القصور ويحرسون الحصون يكون الحارس أعلى من المحروس . . فوقه ، فهو فوقه مكاناً ، إنما هل هو فوقه مكانة؟ بالطبع لا .
وقوله تعالى :
{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] .
وهذه هي الطاعة ، وهي أن تفعلَ ما أُمِرتْ به ، وأنْ تجتنبَ ما نُهيتَ عنه ، ولكن الآية هنا ذكرت جانباً واحداً من الطاعة ، وهو :
{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] .
ولم تقُلْ الآية مثلاً : ويجتنبون ما ينهوْنَ عنه ، لماذا؟ . . نقول : لأن في الآية ما يسمونه بالتلازم المنطقي ، والمراد بالتلازم المنطقي أن كلَّ نهي عن شيء فيه أمر بما يقابله ، فكل نهي يؤول إلى أمر بمقابله .
(1/4926)
فقوله سبحانه :
{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] .
تستلزم منطقياً " ويجتنبون ما يُنهَوْن عنه " وكأن الآية جمعت الجانبين .
والحق سبحانه وتعالى خلق الملائكة لا عمل لهم إلا أنهم هُيِّموا في ذات الله ، ومنهم ملائكة مُوكّلون بالخلق ، وهم : { فالمدبرات أَمْراً } [ النازعات : 5 ] .
ويقول تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله . . } [ الرعد : 11 ] .
ومنهم : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10-11 ] .
إذن : فهناك ملائكة لها علاقة بِنَا ، وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لآدم حينما خلقه الله ، وصوَّره بيده ، ونفخ فيه من رُوحه . . وكأن الله سبحانه يقول لهم : هذا هو الإنسان الذي ستكونون في خدمته ، فالسجود له بأمر الله إعلانٌ بأنهم يحفظونه من أمر الله ، ويكتبون له كذا ، ويعملون له كذا ، ويُدبِّرون له الأمور . . الخ .
أما الملائكة الذين لا علاقة لهم بالإنسان ، ولا يدرون به ، ولا يعرفون عنه شيئاً ، هؤلاء المعْنِيون في قوله سبحانه لإبليس : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] .
أي : أستكبرتَ أنْ تسجدَ؟ أم كنتَ من الصِّنْف الملَكي العالي؟ . . هذا الصنف من الملائكة ليس لهم علاقة بالإنسان ، وكُلُّ مهمتهم التسبيح والذكْر ، وهم المعنيون بقوله تعالى : { يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] .
كلُّ شيء إذن في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه ، إلا ما استثنى الله فيه الإنسان بالاختيار ، فالله سبحانه لم يقهر أحداً ، لا الإنسان ولا الكون الذي يعيش فيه ، فقد عرض الله سبحانه الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْنَ منها . . وكأنها قالت : لا نريد أن نكون مختارين ، بل نريد أن نكون مُسخَّرين ، ولا دَخْلَ لنا في موضوع الأمانة والتكليف!!
لماذا إذن يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمُّل هذه المسئولية؟
نقول : لأن هناك فَرْقاً بين تقبُّل الشيء وقت تحمُّله ، والقدرة على الشيء وقت أدائه . . هناك فَرْق . . عندنا تحمُّل وعندنا أداء . . وقد سبق أنْ ضربنا مثلاً لتحمُّل الأمانة وقُلْنا : هَبْ أن إنساناً أراد أن يُودع عندك مبلغاً من المال مخافة تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه ، وأنت في هذا الوقت قادر على التحمل وتنوي أداء أمانته إليه عند طلبها وذمَّتك قوية ، ونيتك صادقة .
وهذا وقت تحمُّل الأمانة ، فإذا ما جاء وقت الأداء ، فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق هذا المال ، أو يعرض لك عارضٌ يمنعك من الأداء أو تتغيّر ذمتك .
إذن : وقت الأداء شيء آخر .
لذلك ، فالذي يريد أنْ يُبريء ذمته لا يضمن وقت الأداء ويمتنع عن تحمُّل الأمانة ويقول لنفسه : لا ، إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فلا أضمن نفسي وقت الأداء .
هذا مثال لما حدثَ من السماء والأرض والجبال حينما رفضت تحمُّل الأمانة ، ذلك لأنها تُقدّر مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها ، لذلك رفضت تحمُّلها من بداية الأمر .
(1/4927)
وكذلك يجب أن يكون الإنسان عاقلاً عند تحمُّل الأمانات؛ ولذلك يقول تعالى : { وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
ما الذي جهله الإنسان؟ جهل تقدير حالة وقت أداء الأمانة ، فظلم نفسه ، ولو أنه خرج من باب الجمال كما يقولون لَقالَ : يا ربِّ اجعلني مثل السماء والأرض والجبال ، وما تُجريه عليَّ ، فأنا طَوْع أمرك .
ولذلك ، فمن عباد الله مَنْ قَبِل الاختيار وتحمَّل التكليف ، ولكنه خرج عن اختياره ومراده لمراد ربِّه وخالقه ، فقال : يا رب أنت خلقْتَ فينا اختياراً ، ونحن به قادرون أن نفعل أو لا نفعل ، ولكنَّا تنازلنا عن اختيارنا لاختيارك ، وعن مرادنا لمرادك ، ونحن طَوْع أمرك . . هؤلاء هم عباد الله الذين استحقوا هذه النسبة إليه سبحانه وتعالى .
إذن : هناك فَرْق بين مَنْ يفعل اختياراً مع قدرته على ألاَّ يفعل ، وبين مَنْ يفعل بالقهر والتسخير . . فالأول مع أنه قادر ألاَّ يفعل ، فقد غلَّب مُراد ربِّه في التكليف على مراد نفسه في الاختيار .
ثم ينتقل الحق تبارك وتعالى إلى قمة القضايا العقدية بالنسبة للإنسان ، فيقول تعالى : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ . . . } .
(1/4928)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
وقد جاء النهي في الآية نتيجة خروج الإنسان عن مُراد ربِّه سبحانه ، فالعجيب أن البشر والجن أيضاً يعني الثقلين هم المختارون في الكون كله ، اختيار في أشياء وقَهْر في أشياء أخرى . . ومع ذلك لم يشذّ من خَلْق الله غيرهما .
فالسموات والأرض والجبال كان لها اختيار ، وقد اختارت التسخير ، وانتهت المسألة في بداية الأمر ، ومع ذلك فهي مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها لخدمة الإنسان ، فالشمس لم تعترض يوماً ولم ترفض . . فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر . . وكذلك الهواء والأرض والدابة الحلوب ، وكل ما في كون الله مُسخَّر للجميع . . إذن : كل هذه الأشياء لها مهمة ، وتؤدي مُهمتها على أكمل وجه .
ولذلك يقول تعالى في حقِّ هذه الأشياء : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب . . . } [ الحج : 18 ]
هكذا بالإجماع ، لا يتخلّف منها شئ عن مُراد ربه .
فما الحال في الإنسان؟ يقول تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } [ الحج : 18 ] .
ولم يَقُلْ : والناس . ثم قال : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } [ الحج : 18 ] .
هذا هو الحال في الإنسان المكرّم الذي اختاره الله وترك له الاختيار . . إنما كل الأجناس مُؤدّيه واجبها؛ لأنها أخذتْ حظّها من الاختيار الأول ، فاختارت أن تكون مُسخَّرة ، وأن تكون مقهورة .
فالإنسان . . واحد يقول : لا إلهَ في الوجود . . العالم خُلِق هكذا بطبيعته ، وآخر يقول : بل هناك آلهة متعددة؛ لأن العالم به مصالح كثيرة وأشياء لا ينهض بها إله واحد . . يعني : إله للسماء ، وإله للأرض ، وإله للشمس . . الخ .
إذن : هذا رأي في العالم أشياء كثيرة بحيث لا ينهض بها في نظره إله واحد ، ونقول له : أنت أخذتَ قدرة الإله من قدرة الفردية فيك . . لا . . خُذها من قدرة من : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
لأن القدرة الإلهية لا تعالج الأشياء كما تفعل أنت ، وتحتاج إلى مجهود وعمل . . بل في حقّه تعالى يتم هذا كله بكلمة كُنْ . . كُنْ كذا وانتهت المسألة .
ونعجب من تناقض هؤلاء ، واحد يقول : الكون خُلِق هكذا لحاله دون إله . والآخر يقول : بل له آلهة متعددة . . نقول لهم : أنتم متناقضون ، فتعالَوْا إلى دين الله ، وإلى الوسطية التي تقول بإله واحد ، لا تنفي الألوهية ولا تثبت التعددية .
فإنْ كنتَ تظنُّ أن دولابَ الكون يقتضي أجهزة كثيرة لإدارته ، فاعلم أن الله تعالى لا يباشر تدبير أمر الكون بعلاج . . يفعل هذه ويفعل هذه ، كما يُزاول البشر أعمالهم ، بل يفعلها ب " كُنْ "؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وحيَّكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من مُلْكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأنِّي جواد ماجد ، افعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون " .
(1/4929)
فيا مَنْ تُشفْق على الإله الواحد أن يتعبَ من إدارته للكون بشتى نواحيه ، ارتفع بمستوى الألوهية عن أمثال البشر؛ لأن الله تعالى لا يباشر سلطانه علاجاً في الكون ، وإنما يباشره بكلمة " كُنْ " .
إذن : إله واحد يكفي ، وما دُمْنا سلَّمنا بإله واحد ، فإياك أن تقول بتعدُّد الآلهة . . وإذا كان الحق تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين ، فنَفْي ما هو أكثر من ذلك أَوْلَى . . واثنان أقل صُور التعدد .
ومعنى { إلهين } أي : معبودين ، فيكون لهما أوامر ونواه ، والأوامر والنواهي تحتاج إلى طاعة ، والكون يحتاج إلى تدبير ، فأيُّ الإلهين يقوم بتدبير أمور الكون؟ أم أنه يحتاج إلى مُسَاعد؟ إنْ كان يحتاج إلى مساعد فهذا نقْص فيه ، ولا يصلح أن يكون إلهاً .
وكذلك إنْ تخصَّص كُلٌّ منهما في عمل ما ، هذا لكذا وهذا لكذا ، فقد أصبح أحدهما عاجزاً فيما يقوم به الآخر . . وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة؟ ومعلوم أن نواحي الحياة مشتركة ومتشابكة .
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . . } [ المؤمنون : 91 ] .
وقال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] .
فكيف الحال إذا أراد الأول شيئاً ، وأراد الآخر ألاَّ يكون هذا الشيء؟ فإنْ كان الشيء كان عجزاً في الثاني ، وإن لم يكُن كان عجزاً في الأول . . إذن : فقوة أحدهما عَجْز في الآخر .
ونلحظ في قوله تعالى :
{ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] .
عظة بليغة ، كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا : أريحوا أنفسكم بالتوحيد ، وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] .
يعني رجل خُلِّص لسيد واحد ، ورجل أسياده كثيرون ، وهم شركاء مختلفون ، فإنْ أرضى هذا أغضب ذاك ، وإن احتاجه أحدهما تنازعه الآخر . فهو دائماً مُتْعبٌ مُثقَلٌ ، أما المملوك لسيد واحد فلا يخفي ما فيه من راحة .
ففي أمره سبحانه بتوحيده راحةٌ لنا ، وكأنه سبحانه يقول : لكم وِجْهة واحدة تكفيكم كُلَّ الجهات ، وتضمن لكم أن الرضا واحد ، وأن البُغْض واحد .
إذن : فطلبُه سبحانه راحةٌ لنا؛ لذلك قبل أن يطلبها مِنّا شهد بها لذاته تعالى ، فقال : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ }
(1/4930)
[ آل عمران : 18 ] .
فلو قال معترض : كيف يشهد لذاته؟ نقول : نعم ، يشهد لذاته سبحانه؛ لأنه لا أحدَ غيره . . لا أحد معه ، فشهادة الذات للذات هنا شيء طبيعي . . وكأنه سبحانه يقول : لا أحدَ غيري ، وإنْ كان هناك إله غيري فَلْيُرني نفسه ، وليُفصِح عن وجوده .
أنا الله خلقت الكون وأخذته وفعلتُ كذا وكذا ، فإما أنْ أكون صادقاً فيما قلت وتنتهي المسألة ، وإما أنْ أكون غير صادق ، وهناك إله آخر هو الذي خلق . . فأين هو؟ لماذا لا يعارضني؟
وهذا لم يحدث ولم ينازع الله في خَلْقه أحد ، وحين تأتي الدعوى بلا معاند ولا معارض تَسْلَم لصاحبها .
فإنْ قال قائل : لعل الآلهة الأخرى لم تَدْرِ بأن أحداً قد أخذ منهم الألوهية ، فإنْ كان الأمر كذلك فهم لا يصلُحون للألوهية لعدم درايتهم ، وإنْ دَرَوْا ولم يعارضوا فهُمْ جُبناء لا يستحقون هذه المكانة .
وبشهادته سبحانه لذاته بأنه لا إله إلا هو أقبل على خَلْق الخَلْق؛ لأنه مادام يعرف أنه لا إله غيره ، فإذا قال : " كن " فهو واثق أنه سيكون .
ولذلك ساعة يحكم الله حُكْماً غيبياً يقول : أنا حكمت هذا الحكم مع أنكم مختارون في أنْ تفعلوا أو لا تفعلوا ، ولكني حكمتُ بأنكم لا تفعلون ، وما دُمْتُ حكمت بأنكم لا تفعلون ولكم قدرة أن تفعلوا ، ولكن ما فعلتم ، فهذا دليل على أنه لا إله غيري يُعينكم على أنْ تفعلوا .
ثم شهدتْ الملائكة على شهادة الذات ، وشهد أولو العلم شهادةَ الاستدلال ، كما قال تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم . . } [ آل عمران : 18 ] .
لنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى :
{ إلهين اثنين . . . } [ النحل : 51 ] .
فعندنا العدد ، وعندنا المعدود ، فإذا قُلْنا مثلاً : قابلت ثلاثة رجال ، فكلمة " ثلاثة " دلتْ على العدد ، وكلمة " رجال " دلَّتْ على جنس المعدود ، وهكذا في جميع الأعداد ما عدا المفرد والمثنى ، فلفظ كل منهما يدل على العدد والمعدود معاً .
كما لو قلت : إله . فقد دلَّتْ على الوحدة ، ودلتْ على الجنس ، وكذلك " إلهين " دلَّتْ على المثنى وعلى جنس المعدود .
ولذلك كان يكفي في الآية الكريمة أن يقول تعالى : لا تتخذوا إلهين؛ لأنها دلَّتْ على العدد وعلى المعدود معاً ، ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيداً للأمر العقديّ لأهميته .
ومن أساليب العرب إذا أحبُّوا تأكيد الكلام أن يأتوا بعده بالمراد . فيقولون : فلان قسيم وسيم ، وفلان حَسن بَسَن ، وفلان شيطان ليطان ، يريدون تأكيد الصفة . . وكذلك في قوله : { إلهين } فقط تثبت الألوهية ، ولتأكيد هذه القضية العقدية لأنها أهمّ القضايا بالنسبة للإنسان ، وهي قضية القمة ، فقال تعالى :
{ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] .
وكذلك أيضاً في قوله :
{ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } [ النحل : 51 ] .
فجاء بقوله تعالى { وَاحِدٌ } لتأكيد وحدانية الله تعالى .
(1/4931)
وفي الآية مَلْحظ آخر يجب تأمّله ، وهو أن الكلام هنا في حالة الغيبة :
{ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } [ النحل : 51 ] .
فكان القياس في اللغة هنا أن يقول : " فإياه فارهبون " .
ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال :
{ فَإيَّايَ فارهبون } [ النحل : 51 ] .
وهذا وراءه حكمة ، ومَلْحظ بلاغي ، فبعد أنْ أكَّد الألوهية بقوله تعالى :
{ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } [ النحل : 51 ] .
صَحَّ أنْ يُجابِهَهم بذاته؛ لأن المسألة ما دامتْ مسألة رَهْبة ، فالرهبة من المتكلم خير من الرهبة من الغائب . . وكأن السياق يقول : ها هو سبحانه أمامك ، وهذا أَدْعى للرهْبة .
وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 2-4 ] .
ولم يَقُلْ : إياه نعبد ، متابعة للغيبة ، بل تحوَّل إلى ضمير الخطاب فقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .
ذلك لأن العبد بعد أن استحضر صفة الجلال والعظمة أصبح أَهْلاً للمواجهة والخطاب المباشر مع الله عز وجل .
فقوله :
{ فَإيَّايَ فارهبون } [ النحل : 51 ] .
بعد ما استحضر العبد عظمة ربه ، وأقرّ له بالوحدانية وعَلِم أنه إله واحد ، وليس إلهين . واحد يقول : نُعذّبه . والآخر يقول : لا .
ليس الأمر كذلك ، بل إله واحد بيده أنْ يُعذّب ، وبيده أنْ يعفو ، فناسب السياق هنا أنْ يُواجههم فيقول :
{ فَإيَّايَ فارهبون } [ النحل : 51 ] .
ثم يقول تعالى : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض . . . } .
(1/4932)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
عندنا هنا اللام . . وقد تكون ( اللام ) للمِلْك كما في الآية . وكما في : المال لزيد ، وقد تكون للتخصيص إذا دخلتْ اللام على ما لا يملك ، كما نقول : اللجام للفرس ، والمفتاح للباب ، فالفرس لا يملك اللجام ، والباب لا يملك المفتاح . فهذه للتخصيص .
والحق سبحانه يقول هنا :
{ وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض . . . } [ النحل : 52 ] .
وفي موضع آخر يقول : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ يونس : 68 ] .
وكذلك في : { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض } [ الحشر : 24 ] .
ومرة يقول : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] .
حينما تكون اللام للملكية قد يكون المملوك مختلفاً ففي قوله :
{ مَا فِي السماوات والأرض . . . } [ النحل : 52 ] .
يعني : القدر المشترك الموجود فيهما . أي : الأشياء الموجودة في السماء وفي الأرض .
أما في قوله : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ يونس : 68 ] .
أي : الأشياء الموجودة في السماء وليست في الأرض ، والأشياء الموجودة في الأرض وليست في السماء ، أي : المخصَّص للسماء والمخصَّص للأرض ، وهذا ما يُسمُّونه استيعاب الملكية .
وما دام سبحانه له ما في السموات وما في الأرض ، فليس لأحد غيره مِلْكية مستقلة ، وما دام ليس لأحد غيره ملكية مستقلة . إذن : فليس له ذاتية وجود؛ لأن وجوده الأول موهوبٌ له ، وما به قيام وجوده موهوب له . . ولذلك يقولون : مَنْ أراد أن يعاند في الألوهية يجب أن تكون له ذاتية وجود . . وليست هذه إلا لله تعالى .
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الصغير الذي يعاند أباه ، وهو ما يزال عَالةً عليه . فيقول له : انتظر إلى أن تكبر وتستقلّ بأمرك . . فإذا ما شَبَّ الولد وبلغ وبدأ في الكَسْب أمكن له الاعتماد على نفسه ، والاستغناء عن أبيه .
لذلك نقول لمن يعاند في الألوهية : أنت لا تقدر؛ لأن وجودك هِبَة ، وقيام وجودك هِبَة ، كل شيء يمكن أنْ يُنزع منك .
ولذلك ، فالحق سبحانه وتعالى يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ] .
فهذا الذي رأى نفسه استغنى عن غيره من وجهة نظره إنما هل استغنى حقاً؟ . . لا . لم يستغن ، بدليل أنه لا يستطيع أنْ يحتفظَ بما يملك .
قوله تعالى :
{ وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض . . . } [ النحل : 52 ] .
الذي له ما في السموات والأرض ، وبه قيام وجوده بقيوميته ، فهو سبحانه يُطمئِنك ويقول لك : أنا قيُّوم يعني : قائم على أمرك . . ليس قائماً فقط . . بل قيُّوم بالمبالغة في الفِعْل ، وما دام هو سبحانه القائم على أمرك إيجاداً من عَدَم ، وإمداداً من عُدم . إذن : يجب أن تكون طاعتُك له سبحانه لا لغيره .
وفي الأمثال يقولون " اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي " فإذا كنتَ أنت عالة في الوجود .
(1/4933)
. وجودك من الله ، وإمدادك من الله ، وإبقاء مُقوِّمات حياتك من الله؛ لذلك قال تعالى :
{ وَلَهُ الدين وَاصِباً } [ النحل : 52 ] .
أي : هذه نتيجة؛ لأن لله ما في السموات والأرض ، فَلَه الدين واصباً ، أي : له الطاعة والخضوع دائماً مستمراً ، ومُلْك الله دائم ، وهو سبحانه لا يُسلم مُلْكَه لأحد ، ولا تزال يد الله في مُلْكه . . وما دام الأمر هكذا فالحق سبحانه يسألهم :
{ أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } [ النحل : 52 ] .
والهمزة هنا استفهام للإنكار والتوبيخ ، فلا يجوز أنْ تتقيَ غير الله ، لأنه حُمْق لا يليق بك ، وقد علمتَ أن لله ما في السموات وما في الأرض ، وله الطاعة الدائمة والانقياد الدائم ، وبه سبحانه قامت السموات والأرض ومنه سبحانه الإيجاد من عَدَم والإمداد من عُدم .
إذن : فمن الحُمْق أنْ تتقي غيره ، وهو أَوْلى بالتقوى ، فإنِ اتقيتُم غيره فذلك حُمْق في التصرّف يؤدّي إلى العطَب والهلاك ، إنِ اغتررتم بأن الله تعالى أعطاكم نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحصَى .
ومن نعم الله أن يضمن لعباده سلامة الملكَات وما حولها ، فلو سَلِم العقل مثلاً سَلِمت وصَحَّتْ الأمور التي تتعلق به ، فيصحّ النظام ، وتصحّ التصَرُّفات ، ويصحّ الاقتصاد . . وهذه نعمة .
فالنعمة تكون للقلب وتكون للقالب ، فللقالب المتعة المادية ، وللقلب المتعة المعنوية . . وأهم المتَع المعنوية التي تريح القالب أن يكون للإنسان دينٌ يُوجّهه . . أن يكون له ربٌّ قادر ، لا يُعجِزه شيء ، فإنْ ضاقتْ به الدنيا ، وضاقتْ به الأسباب فإن له رباً يَلجأ إليه فيُسعفه ويكيفه ، وهذه هي الراحة الحقيقة .
وقد ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى سلامة القالب بما أودع في الكون من مُقوِّمات الحياة في قوله : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا . . } [ فصلت : 10 ] .
أي : اطمئنوا إلى هذا الأمر ، فالله سبحانه لا يريد منكم إلا أنْ تُعمِلوا عقولكم المخلوقة لله لِتُفكِّروا في المادة المخلوقة لله ، وتنفعلوا لها بالطاقة المخلوقة لله في جوارحكم ، وسوف تجدون كلَّ شيء مُيسَّراً لكم . . فالله تعالى ما أراد منكم أنْ تُوجِدوا رزقاً ، وإنما أراد أن تُعمِلوا العقل ، وتتفاعلوا مع مُعْطيات الكون .
ولكن كيف يتفاعل الإنسان في الحياة؟
هناك أشياء في الوجود خلقها الله سبحانه برحمته وفضله ، فهي تفعل لك وإنْ لم تطلب منها أن تفعل ، فأنت لا تطلب من الشمس أنْ تطلُع عليك ، ولا من الهواء أنْ يَهُبَّ عليك . . الخ .
وهناك أشياء أخرى تفعل لك إنْ طلبتَ منها ، وتفاعلتَ معها ، كالأرض إنْ فعلتَ بيدك فحرثْتَ وزرعْتَ ورويْتَ تعطيك ما تريد .
وفي هذا المجال من التفاعل يتفاضل الناس ، لا يتفاضلون فيما يُفعل لهم دون انفعال منهم . . لا بل ارتقاء الناس وتفاضُلهم يكون بالأشياء التي تنفعل لهم إنْ فعلوا . . أما الأخرى فتَفعل لكل الناس ، فالشمس والهواء والمياه للجميع ، للمؤمن وللكافر في أيّ مكان .
(1/4934)
إذن : يترقَّى الإنسان بالأشياء التي خلقها الله له ، فإذا انفعل معها انفعلتْ له ، وإذا تكاسل وتخاذل لم تُعْطِه شيئاً ، ولا يستفيد منها بشيء . . ولذلك قد يقول قائل : الكافر عنده كذا وكذا ، ويملك كذا وكذا ، وهو كافر . . ويتعجّب من القدر الذي أَعطَى هذا ، وحرَم المؤمن الموحد منه .
نقول له : نعم أخذ ما أخذ؛ لأنه يشترك معك فيما يُفعل لك وإنْ لم تطلب ، ويزيد عليك أنه يعمل ويكدّ وينفعل مع الكون وما أعطاه الله من مُقوِّمات وطاقة ، فتنفعل معه وتعطيه ، في حين أنك قاعد لا هِمَّة لك .
وكذلك قد يتسامى الارتقاء في الإنسان ، فيجعل الشيء الذي يُفعل له دون أن يطلب منه أي : الشيء المسخَّر له يجعله ينفعل له ، كما نرى فيما توصَّل إليه العلم من استخدام الطاقة الشمسية مثلاً في تسخين المياه . . هذه الطاقة مُسخَّرة لنا دون جَهْد مِنّا ، ولكن ترقِّي الإنسان وطموحه أوصله إلى هذا الارتقاء . . وكُلُّ هذه نِعَم من الله؛ ولذلك قال تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ . . . } .
(1/4935)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
أمدَّنا الله سبحانه بهذه النعم رحمة منه وفضلاً . . نِعَم تترى لا تُعَد ولا تُحْصَى ، ولكن لرتابة النعمة وحلولها في وقتَها يتعوّدها الإنسان ، ثم يذهل عن المنعم سبحانه .
ونستطيع أن نضرب لذلك مثلاً بالولد الذي تعطيه مصروفه مثلاً كل أول شهر ، تجده لا يحرص على أنْ يلقاك بعد ذلك إلا كل أول شهر ، إنما إذا عوَّدته أن يأخذ مصروفه كل يوم تراه في الصباح يحوم حولك ، ويُظهِر لك نفسه ليُذكِّرك بالمعلوم .
إذن : رتابة النعمة قد تُذهِلك عن المُنعِم ، فلا تتذكره إلا حين الحاجة إليه؛ لذا يُنبِّهنا الحق تبارك وتعالى : إذا أعطيتُ لكم نعمة فإياكم أنْ تغتروا بها . . إياكم أن تُذهِلكم النعمة عن المنعم؛ لأنكم سوف تحكمون على أنفسكم أنه لا مُنعِم غيري ، بدليل أنني إذا سلبْتُ النعمة منكم فلن تجدوا غيري تلجأون إليه فستقولون : يا ربّ يا ربّ .
فأنت ستكون شاهداً على نفسك ، لن تكذب عليها ، فَلِمَنْ تتوجّه إذا أصابك فقر؟ ولمن تتوجَّه إذا أصابك مرض؟ لن تتوجّه إلا إلى الله تقول : يا رب .
{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .
فترة الضُّر التي تمرُّ بالإنسان هي التي تلفته إلى الله ، والحاجة هي التي تُلجئه إلى المصدر الحقيقي للإمداد ، فإذا كانت النعمة قد تُذهِله وتُنسِيه ، فالضر يُذكِّره بربّه الذي يملك وحده كَشْف الضر عنه .
ولذلك ، فالناس أصحاب اليقين في الله تعالى ساعةَ أنْ يصيبهم ضُرٌّ ، يقول : ذكَّرتني بك يا ربّ ، يأخذها على أنها نعمة . . كأنها نجدة نجدتْه مما هو فيه من غفلة . . يا ربّ أنت ذكّرتني بك . . أنا كنتُ ناسياً ذاهلاً . . كنت في غفلة .
وساعةَ أنْ يعودَ ويشعر بالتقصير يرفع الله عنه البلاء؛ وذلك يُرفع القضاء عن العبد إنْ رضي به وعلم أن فيه خيراً له .
ولذلك ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يُنبّهنا لهذه الأحداث التي تصيبنا ، فإياكم أن تستقبلوها بالجزع والفزع . . ولكن استقبلوها بالإيمان والرضا ، واعلموا أن ربكم يغار عليكم ، وهو بهذه الأحداث يلفتكم إليه قهراً عنكم؛ لكي تعودوا إليه وتلجأوا إليه . . لكي تقولوا يا رب .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي : " مِنْ عبادي مِنْ أحبهم فأنا أبتليهم ليقولوا يا رب . . . " .
ويقول تعالى في الآية الأخرى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ . . . } [ الأنعام : 43 ] .
أي : أنه سبحانه يريد منا إذا نزل بنا بلاء وبأس أنْ نتضرّع إليه سبحانه؛ لأن الضراعة إلى الله لَفْتة وتذكير به . . والنبي صلى الله عليه وسلم يُرشِدنا إلى هذه الحقيقة ، فالمصاب الحقيقي ليس مَنْ نزل به ضُرٌّ أو أصابه بلاء . . لا . . بل المصاب الحقيقي مَنْ حُرِم الثواب .
إذن : نقول لمن عنده نعمة : احذر أن تُنسيِك النعمة وتُذهلك عن المنعم ، أما صاحب البلاء والضر ، فسوف يردُّك هذا البلاء ، ويُذكّرك هذا الضرّ بالله تعالى ، ولن تجدَ غيره تلجأ إليه .
فقوله تعالى :
{ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .
أي : تضْرَعون بصراخ وصوت عالٍ كخُوار البقر ، لا يُسرّهِ أحد ولا يستحي منه أنْ يُفتضح أمره أمام مَنْ تكبّر عليهم . . ويا ليتكم حين ينتابكم مثل ذلك تعتبرون به وتتعِظُون ، وتقولون في لحظة من اللحظات : سوف تلجئنا الأحداث إلى ربنا . . بل بالعكس حينما نكشف عنكم الضر سوف تعودون إلى ما كنتم عليه .
ثم يقول الحق سبحانه :
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر . . . . } .
(1/4936)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
فمن الناس مَنْ إذا أصابه الله بضُرٍّ أو نزل به بأْسٌ تضرّع وصرخ ولجأ إلى الله ودعاه ، وربما سالتْ دموعه ، وأخذ يُصلّي ويقول : يا فلان ادْعُ لي الله وكذا وكذا . . فإذا ما كشف الله عنه ضُرَّه عاود الكَرّة من جديد؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } [ يونس : 12 ] .
ومن لُطْف الأداء القرآني هنا أن يقول :
{ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ النحل : 54 ] .
أي : جماعة منكم وليس كلكم ، أما الباقي فيمكن أنْ يثبتُوا على الحق ، ويعتبروا بما نزل بهم فلا يعودون . . فالناس إذن مختلفون في هذه القضية : فواحد يتضرّع ويلتفت إلى الله من ضُرٍّ واحد أصابه ، وآخر يلتفت إلى الله من ضُرّيْن ، وهكذا .
وقد وجدنا في الأحداث التي مرَّتْ ببلادنا على أكابر القوم أحداثاً عظاماً تلفتهم إلى الله ، فرأينا مَنْ لا يعرف طريق المسجد يُصلّي ، ومَنْ لا يفكر في حج بيت الله ، ويسرع إليه ويطوف به ويبكى هناك عند الملتزم ، وما ألجأهم إلى الله ولفتهم إليه سبحانه إلا ما مرَّت بهم من أحداث .
أليست هذه الأحداث ، وهذه الأزمات والمصائب خيراً في حقهم؟ . . بلى إنها خير .
وأيضاً قد يُصاب الإنسان بمرض يُلِمّ به ، وربما يطول عليه ، فيذهب إلى الأطباء ، ويدعو الله ويلجأ إليه ، ويطلب من الناس الدعاء له بالشفاء ، ويعمل كذا وكذا . . فإذا ما كشف الله عنه المرض وأَذِن له بالشفاء قال : أنا اخترتُ الطبيب الحاذق ، الطبيب النافع ، وعملتُ وعملتُ . . سبحان الله!
لماذا لا تترك الأمر لله ، وتُعفِي نفسك من هذه العملية؟
وفي قوله تعالى :
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ النحل : 54 ] .
صمام أَمْن اجتماعي في الكون ، يقول للناس : إياكم أن تأخذوا على غيركم حين تُقدمون إليهم جميلاً فيُنكرونه . . إياكم أنْ تكُّفوا عن عمل الجميل على غيركم؛ لأن هذا الإنكار للجميل قد فعلوه مع أعلى منكم ، فعلوه مع الله سبحانه ، فلا يُزهدك إنكارهم للجميل في فِعْله ، بل تمسَّك به لتكون من أهله .
والحق تبارك وتعالى يضرب لنا مثلاً لإنكار الجميل في قصة سيدنا موسى عليه السلام : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } [ الأحزاب : 69 ] .
فقد اتهمه قومه وقعدوا يقولون فيه كذباً وبُهْتاناً ، فقال موسى : يا ربّ أسألك ألاَّ يُقَال فيَّ ما ليس فيَّ . . فقال تعالى لموسى : أنا لم افعل ذلك لنفسي ، فكيف أفعلها لك؟
ولماذا لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه؟ . . لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ليعطينا نحن أُسْوة في تحمُّل هذا الإنكار ، فقد خلق الله الخَلْق ورزقهم ووَسِعهم ، ومع ذلك كفروا به ، ومع ذلك ما يزال الحق سبحانه خالقاً رازقاً واسعاً لهم .
إذن : في الآية تقنين وأمان للمجتمع أن يتفشى فيه مرض الزُّهْد في عمل الخير .
وقَوْل الحق سبحانه :
{ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ النحل : 54 ] .
تشمل الآية مَنْ أنكر الجميل من المؤمنين ، ومن الكافرين .
ولكن لماذا يشركون؟
يقول الحق تبارك وتعالى : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ . . . } .
(1/4937)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
أي : مُسْتعظمين كقارون الذي قال : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } [ القصص : 78 ] .
أخذتُ هذا بَجْهدي وعملي . . ومثله مَنْ تقول له : الحمد لله الذي وفَّقك في الامتحان ، فيقول : أنا كنت مُجِداً . . ذاكرتُ وسهرتُ . . نعم أنت ذاكرتَ ، وأيضاً غيرك ذاكر وجَدَّ واجتهد ، ولكن أصابه مرض ليلة الامتحان فأقعده ، وربما كنت مثله .
فهذه نغمة مَنْ أَنكر الفضل ، وتكبَّر على صاحب النعمة سبحانه .
وقوله :
{ لِيَكْفُرُواْ . . . } [ النحل : 55 ] .
هل فعلوا ذلك ليكفروا ، فتكون اللام للتعليل؟ لا بل قالوا : اللام هنا لام العاقبة . . ومعناها أنك قد تفعل شيئاً لا لشيء ، ولكن الشيء يحدث هكذا ، وليس في بالك أنت . . إنما حصل هكذا .
ومثال هذه اللام في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً . . } [ القصص : 8 ] .
ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبنَّاه وربَّاه ، هل كان يتبناَّه ليكون له عدواً؟ لا . . إنما هكذا كانت النهاية ، لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مُغفَّلين ، وأن الله حالَ بين قلوبهم وبين ما يريدون . . إذن : المسألة ليستْ مرادة . . فقد أخذْته وربَّيته في الوقت الذي تقتل فيه الأطفال . . ألم يخطر ببالك أن أحداً خاف عليه ، فألقاه في البحر؟!
لذا يقول تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ . . } [ الأنفال : 24 ] .
وكذلك أم موسى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم . . . } [ القصص : 7 ] .
كيف يقبل هذا الكلام؟ وأنَّى للأم أن ترمي ولدها في البحر إنْ خافت عليه؟! كيف يتأتَّى ذلك؟! ولكن حالَ الله بين أم موسى وبين قلبها ، فذهب الخوف عليه ، وذهب الحنان ، وذهبت الرأفة ، ولم تكذّب الأمر الموجّه إليها ، واعتقدت أن نجاة وليدها في هذا فألقتْه .
وقوله : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 55 ] .
أي : اكفروا بما آتيناكم من النعم ، وبما كشفنا عنكم من الضر ، وتمتعوا في الدنيا؛ لأنني لم اجعل الدنيا دار جزاء ، إنما الجزاء في الآخرة .
وكلمة { تَمَتَّعُواْ } هنا تدل على أن الله تعالى قد يُوالي نعمه حتى على مَنْ يكفر بنعمته ، وإلاَّ فلو حَجَب عنهم نِعَمه فلن يكون هناك تمتُّع .
ويقول تعالى :
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 55 ] .
أي : سوف تروْنَ نتيجة أعمالكم ، ففيها تهديد ووعيد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ . . . } .
(1/4938)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
أي : الذين يكفرون بالله ويتخذون الأصنام والشركاء ، يجعلون لها نصيباً .
وقول الحق سبحانه :
{ لاَ يَعْلَمُونَ . . } [ النحل : 56 ] .
ما العلم؟
العلم أن تعرفَ قضية ، هذه القضية صِدْق أي : مطابقة للواقع وتستطيع أن تُدلِّل عليها ، فإذا اختلّ واحد منها لم تكُنْ علماً . . وهؤلاء حينما جعلوا للأصنام نصيباً ، فقد أَتَوْا بأشياء لا وجودَ لها في الواقع ولا في العلم ، وليست حقائق . . وهل للأصنام وجود؟ وهل عليها دليل؟
قال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ . . . } [ النجم : 23 ] .
هذه الأصنام ليست لها وجود في الحقيقة ، وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الأنعام : 136 ] .
حتى لمَّا جعلوا للأصنام نصيباً جعلوه مما رزقهم الله ، أَلاَ جعلتم نصيب الأصنام مما تعطيكم الأصنام؟ ونصيب الله مما رزقكم الله؟ فهذا اعتراف منكم بعجز أصنامكم ، وأنكم أخذتم رزق الله وجعلتموه لأصنامكم .
وهذا دليل على أن الأصنام لا تعطيكم شيئاً ، وشهادة منكم عليهم . . وهل درت الأصنام بهذا؟
إذن :
{ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ . . . } [ النحل : 56 ] .
أي : للأصنام؛ لأنها لا وجودَ لها في الحقيقة ، وهم يأخذون ما رزقناهم ، ويجعلونه لأصنامهم .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
{ تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } [ النحل : 56 ] .
التاء هنا في { تالله } للقسم أي : والله لَتُسْألُنَّ عما افتريتم من أمر الأصنام . والافتراء : هو الكذب المتعمد .
(1/4939)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
ساعة أنْ تسمع كلمة { سُبْحَانَهُ } فاعلم أنها تنزيهٌ لله تعالى عَمّا لا يليق ، فهي هنا تنزيهٌ لله سبحانه وتعالى عما سبق من نسبة البنات له . . تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً . . أي : تنزيهاً لله عن أن يكونَ له بنات .
فهل يمكن أن يكون له أولاد ذكور؟
إنهم جعلوا لله البنات ، وجعلوا لأنفسهم الذكور ، وهذه قسمة قال عنها القرآن الكريم : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ] .
أي : جائرة .
لم تجعلوها عادلة ، يعني لي ولد ولكم ولد ، ولي بنت ولكم بنت ، إنما تجعلون لله مَا تكرهون وهي البنات لله ، وتجعلون لكم ما تحبون . . لذلك كان في جَعْلهم لله البنات عيبان :
الأول : أنهم نَسبُوا لله الولد ولو كان ذكراً فهو افتراء باطل يتنزه الله عنه .
الثاني : أنهم اختاروا أخسَّ الأنواع في نظرهم . . ولا يستطيع أحد أن يقول : إن البنات أخسُّ الأنواع . . لماذا؟
لأن بالبنات يكون بقاء النوع؛ ولذلك قال العباس : لو سمع الله ما قال الناس في الناس لما كان الناس . . أي : لو استجاب الله لرغبة الناس في أنهم لا يريدون البنات فاستجاب ولم يُعْطهم . . ماذا سيحدث؟ سينقطع النسل ، فهذا مطْلَب غبيّ ، فالبنت هي التي تَلِد الولد ، وبها بقاء النوع واستمرار النسل .
وقوله تعالى :
{ سُبْحَانَهُ . . . } [ النحل : 57 ] .
أي : تنزيهاً له أن يكون له ولد ، وتنزيهاً له سبحانه أن يكون له أخسَّ النوعين في نظرهم وعرفهم ، وقد قال عنهم القرآن في الآية التالية : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ . . } [ النحل : 58-59 ] .
ولذلك فالحق تبارك وتعالى حينما يُحدِّثنا عن الإنجاب يقول : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً . . } [ الشورى : 49-50 ] .
أول ما بدأ الحق سبحانه بدأ بالإناث . . ثم أعطانا هذه الصورة من الخَلْق : إناث ، ذكور ، ذكور وإناث ، عقيم . . إذن : هِبَات الله تعالى لها أربعة أنواع ، ومن هنا كان العُقْم أيضاً هبةً من الله لحكمة أرادها سبحانه . . لكن الناس لا تأخذ العُقْم على أنه هِبَة . . لكن تأخذه على أنه نِقْمة وغضب .
لماذا؟ لماذا تأخذه على أنه نِقْمة وبلاء؟ فربما وهبك الولد ، وجاء عاقّاً ، كالولد الذي جاء فتنة لأبويْه ، يدعوهما إلى الكفر .
ولو أن صاحب العقم رضي بما قسمه الله له من هبة العقم واعتبره هبة ورضي به لرأى كل ولد في المجتمع ولده من غير تعب في حَمْله وولادته وتربيته . فيرى جميع الأولاد من حوله أولاده ويعطف الله قلوبهم إليه كأنه والدهم . . وكأن الحق تبارك وتعالى يقول له : ما دُمْتَ رضيتَ بهبة الله لك في العقم لأجعلنَّ كل ولدٍ ولداً لك .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] .
أي : من الذّكْران؛ لأن الولد عِزْوة لأبيه ينفعه في الحرب والقتال وينفعه في المكاثرة . . الخ إنما البنت تكون عالةً عليه؛ ولذلك قال تعالى بعد هذا : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ . . . } .
(1/4940)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
نعرف أن البشارة تكون بخير ، فكان يجب عليهم أن يستقبلوها استقبالَ البشارة ، ولكنهم استقبلوها استقبال الناقمين الكارهين لما بُشّروا به ، فتجد وجه الواحد منهم .
{ مُسْوَدّاً . . . } [ النحل : 58 ] .
ومعنى اسوداد الوجه انقباضه من الغيظ؛ لذلك يقول تعالى :
{ وَهُوَ كَظِيمٌ . . . } [ النحل : 58 ] .
الكظم هو كَتْم الشيء .
ولذلك يقول تعالى في آية أخرى : { والكاظمين الغيظ . . } [ آل عمران : 134 ] .
وهو مأخوذ من كَظْم القِرْبة حين تمتليء بالماء ، ثم يكظمها أي : يربطها ، فتراها ممتلئة كأنها ستنفجر . . هكذا الغضبان تنتفخ عروقه ، ويتوارد الدم في وجهه ، ويحدث له احتقان ، فهو مكظوم ممنوع أنْ ينفجر .
ثم يقول الحق سبحانه واصفاً حاله : { يتوارى مِنَ . . } .
(1/4941)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
قوله تعالى :
{ يتوارى مِنَ القوم . . } [ النحل : 59 ] .
أي : يتخفَّى منهم مخافَة أنْ يُقال : أنجب بنتاً .
{ مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ . . } [ النحل : 59 ] .
نلاحظ إعادة البشارة في هذه الآية أيضاً ، وكأنه سبحانه وتعالى يُحنِّن قلبه عليها ، ويدعوه إلى الِّرْفق بها .
فهو متردد لا يدري ماذا يفعل؛ لذلك يقول تعالى :
{ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب . . } [ النحل : 59 ] .
أي : ماذا يفعل فيما وُلِد له . أيحتفظ به على هُونٍ أي : هوان ومذلة أم يدسُّه في التراب أي : يدفنها فيه حية؟
{ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ النحل : 59 ] .
أي : ساء ما يحكمون في الحالتين . حالة الإمساك على هُون ومذلَّة ، أو حالة دَسّها في التراب ، فكلاهما إساءة . وكان بعض هؤلاء إذا وُلدتْ له بنت كرهها ، فإن أمسكها أمسكها على حال كونها ذليلةً عنده ، مُحتقرة مُهَانة ، وهي مسكينة لا ذنبَ لها .
ولذلك ، فإن المرأة العربية التي عاصرتْ هذه الأحداث فطِنَتْ إلى ما لم نعرفه نحن إلا قريباً ، حيث اكتشف العالم الحديث أن أمر إنجاب الولد أو البنت راجع إلى الرجل وليس إلى المرأة . . وكان أبو حمزة كثيراً ما يترك زوجته ويغضب منها ، لأنها لا تلد إلا البنات . . فماذا قالت هذه المرأة العربية التي هجرها زوجها؟ قالت :
مَا لأبي حمزةَ لاَ يأتِينَا ... غَضْبانَ ألاَّ نَلِدَ البَنِينا
تَاللهِ مَا ذَلكَ فِي أَيْدينا ... فَنَحنُ كَالأَرْضِ لغارسينا
نُعطِي لَهُم مِثْل الذِي أُعْطِينَا ... والحق سبحانه وتعالى حينما يريد توازناً في الكون يصنع هذا التوازن من خلال مقتضيات النفس البشرية ، ومن مقتضياتها أن يكون للإنسان جاه ، وأن يكون له عِزّ ، لكن الإنسان يخطيء في تكوين هذا الجاه والعِزّ ، فيظن أنه قادر على صنع ما يريد بأسبابه وحدها .
إنما لو علم أن تكوين الجاه والعِزّ بشيء فوق أسبابه هو ، بشيء مخلوق لله تعالى ، بقدر مخلوق لله تعالى ، لو علم هذه الحقيقة لجاء المسألة من بابها .
ذلك لأن العزة ليست بما تُنجِب . . العزة هنا لله وللرسول وللمؤمنين ، اعتزّ هنا بُعصْبة الإيمان ، اعتز بأنك في بيئة مؤمنة متكافلة ، إذا أصابك فيها ضَيْم فزِع إليك الجميع .
ولا تعتزّ بالأنسال والأنجال ، فقد يأتي الولد عاقّاً لا يُسعِف أبويْه في شدة ، ولا يعينهما في حاجة؛ ذلك لأنك لجأتَ إلى عَصَبية الدم وعَصَبيَّة الدم قد تتخلّف ، أما عَصبِيّة العقيدة وعَصَبية الإيمان والدين فلا .
ولنأخذ على ذلك مثالاً . . ما حدث بين الأنصار والمهاجرين من تكافل وتعاون فاق كُل ما يتصوره البشر ، ولم يكُنْ بينهم سوى رابطة العقيدة وعصبية الإيمان . . ماذا حدث بين هؤلاء الأفذاذ؟
وجدنا أن العصبية الإيمانية جعلت الرجل يُضحِّي بأنفَس شيء يضِنُّ به على الغير . . نتصور في هذا الموقف أن يعود الأنصار بفضل ما عندهم من نعم على إخوانهم المهاجرين ، فَمنْ كانت عنده ركوبة أو منزلة مثلاً يقول لأخيه المهاجر : تفضل اركب هذه الركوبة ، أو اجلس في هذا المنزل .
(1/4942)
. هذا كله أمر طبيعي .
أما نعيم المرأة ، فقد طُبِع في النفس البشرية أن الإنسان لا يحب أن تتعدَّى نعمته فيها إلى غيره . . لكن انظر إلى الإيمان ، ماذا صنع بالنفوس؟ . . فقد كان الأنصاري يقول للمهاجر : انظر لزوجاتي ، أيّهن أعجبتْك أُطلِّقها لتتزوجها أنت ، وما حمله على ذلك ليس عصبية الدم أو عَصبيّة الجنس ، بل عَصبيّة اليقين والإيمان .
ولذلك تنتفي جميع العصبيات في قصة نوح عليه السلام وولده الكافر ، حينما ناداه نوح عليه السلام : { يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين * قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ . . } [ هود : 42-43 ] .
ويتمسّك نوح بولده ، ويحرص كل الحرص على نجاته فيقول : { رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق . . } [ هود : 45 ] .
فيأتي فَصْل الخطاب في هذه القضية : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] .
إذن : هذا الولد ليس من أهلك؛ لأن البُنُوة هنا بُنُوة العمل ، لا بُنُوة الدم والنَّسَب .
صحيح أن الإنسان يحب العزة ويطلبها لنفسه ، ولكن يجب أن تنظر كيف تكون العزة الحقيقية؟ وما أسبابها؟
خُذْ العزة بالله وبالرسول وبالبيئة الإيمانية ، يصبح كل الأولاد أولادك؛ لأنهم معك في يقينك بالله وإيمانك به سبحانه . . أما أن تعتز بطريقتك أنت ، فتطلب العزة في الولد الذكَر ، فمَنْ يُدرِيك أن تجد فيه العزة والعِزوة والمكاثرة؟!
ثم يقول الحق سبحانه : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ . . . } .
(1/4943)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قوله تعالى :
{ مَثَلُ السوء . . . } [ النحل : 60 ] .
صفة السوء أي : الصفات السيئة الخسيسة من الكفر والجحود والنكْران ، ومن عَمي البصيرة ، وغيرها من صفات السوء .
لماذا كان للذين لا يؤمنون بالآخرة مثَلُ السوء؟ لأن المعادلة التي أَجْرَوْها معادلة خاطئة؛ لأن الذي لا يؤمن بالآخرة قصّر عمره . . فعُمْر الدنيا بالنسبة له قصير ، وقد قلنا : إياك أن تقيسَ الدنيا بعمرها . . ولكن قِسْ الدنيا بعمرك أنت ، فعمر الدنيا مدة بقائِكَ أنت فيها . . إنما هي باقية من بعدك لغيرك ، وليس لك أنت فيها نصيب بعد انقضاء عمرك .
إذن : عمر الدنيا عمرك أنت فيها . . عمرك : شهر ، سنة ، عشر سنوات ، مائة . . هذا هو عمر الدنيا الحقيقي بالنسبة لك أنت .
ومع ذلك ، فعمر الدنيا مهما طال مُنْتَهٍ إلى زوال ، فَمنْ لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالآخرة قد اختار الخاسرة؛ لأنه لا يضمن أن يعيش في الدنيا حتى متوسط الأعمار . . وهَبْ أنك عِشْتَ في الدنيا إلى متوسط الأعمار ، بل إلى أرذل العمر . . وهَبْ أنك استمتعتَ في دنياك بكل أنواع المعاصي ، ماذا ستكون النهاية؟ أنْ تفوتَ هذا كله إلى الموت .
قارن إذن حال هذا بمَنْ آمن بالله وآمن بالآخرة . . نقول لمَنْ لا يؤمن بالآخرة : دنياك مظنونة ، يمكن أن تعيش فيها ، أو يعاجلك الموت . . حتى مَنْ عاش إلى متوسط الأعمار ، فالنهاية إلى زوال .
وما نِلْتَ من مُتَع في دنياك أخذتها على قَدْر إمكاناتك أنت .
إذن : أنت أخذت صفقة محدودة غير مُتيقّنة ، وتركتَ صفقة غير محدودة ومُتيقّنة . . أليستْ هذه الصفقة خاسرة؟
أما مَنْ آمن بالآخرة فقد ربحتَ صفقته ، حيث اختار حياة ممتدة يجد المتعة فيها على قَدْر إمكانات المنعِم سبحانه وتعالى .
إذن :
{ مَثَلُ السوء . . . } [ النحل : 60 ] .
أي : الصفة شديدة السوء ، ذلك لأنهم خاسرون لا محالة .
وقوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ المثل الأعلى . . . } [ النحل : 60 ] .
لله الصفة العليا ، وكأن الآية تقول لك : اترك صفة السوء ، وخُذ الصفة الأعلى التي تجد المتعة فيها على قَدْر إمكانات الحق سبحانه وتعالى .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ وَهُوَ العزيز الحكيم } [ النحل : 60 ] .
العزيز أي : الذي لا يُغلَب على أمره ، فإذا قيل : قد يوجد مَنْ لا يُغلب على أمره . . نعم؛ لكنه سبحانه عزيز حكيم يستعمل القهر والغلبة بحكمة .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله . . . } .
(1/4944)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
قول الحق تبارك وتعالى :
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس . . } [ النحل : 61 ] .
عندنا هنا : الأخْذ والمؤاخذة . . الأخْذ : هو تحصيل الشيء واحتواؤه ، ويدل هذا على أن الآخذ له قدرةٌ على المستمسك بنفسه أو بغيره ، فمثلاً تستطيع حَمْل حصاة ، لكن لا تستطيع حمل حجر كبير ، وقد يكون شيئاً بسيطاً إلا أنه مربوط بغيره ومستمسك به فيُؤخَذ منه قوة .
فمعنى الأخذ : أن تحتوي الشيء ، واحتواؤك له معناه أنك أقوى من تماسكه في ذاته ، أو استمساك غيره به ، وقد يكون الأَخْذ بلا ذنب .
أما المؤاخذة فتعني : هو أخذَ منك فأنت تأخذُ منه . . ومنه قَوْل أحدنا لأخيه " لا مؤاخذة " في موقف من المواقف . . والمعنى : أنني فعلتُ شيئاً استحق عليه الجزاء والمؤاخذة ، فأقول : لا تؤاخذني . . لم أقصد .
لذلك؛ فالحق تبارك وتعالى يقول هنا :
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس . . . } [ النحل : 61 ] .
ولم يَقُلْ : يأخذ الناس .
وفي آية أخرى قال تعالى : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
لماذا أخذها الله؟ أخذها لأنها أخذتْ منه حقوقه في أن يكون إلهاً واحداً فأنكرتها ، وحقوقه في تشريع الصالح فأنكرنها .
ويُبيِّن الحق سبحانه أن هذه المؤاخذة لو حدثت ستكون بسبب من الناس أنفسهم ، فيقول سبحانه :
{ بِظُلْمِهِمْ . . } [ النحل : 61 ] .
أول الظلم أنهم أنكروا الوحدانية ، يقول تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
فكأنهم أخذوا من الله تعالى حقّه في الوحدانية ، وأخذوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقالوا كذاب ، وأخذوا من الكتاب فقالوا " سحر مبين " .
كل هذا ظلم . .
فالحق تبارك وتعالى لو آخذهم بما أخذوا ، أخذوا شيئاً فأخذ الله شيئاً ، لو عاملهم هذه المعاملة ما ترك على ظهرها من دابة .
لذلك نجد في آيات الدعاء : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] .
أي : أننا أخذنا منك يا ربّ الكثير بما حدث مِنّا من إسراف وتقصير وعمل على غير مقتضى أمرك ، فلا تؤاخذنا بما بدر منا .
فلو آخذ الله الناس بما اقترفوا من ظلم . .
{ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ . . } [ النحل : 61 ] .
قد يقول قائل : الله عز وجل سَيُؤاخذ الناس بظلمهم ، فما ذنب الدابة؟ ماذا فعلت؟ نقول : لأن الدابة خُلِقَتْ من أجلهم ، وسُخِّرتْ لهم ، وهي من نعم الله عليهم ، فليست المسألة إذن نكايةً في الدابة ، بل فيمَنْ ينتفع بها ، وقد يُراد العموم لكل الخلق .
فإذا لم يؤاخذ الله الناس بظلمهم في الدنيا فهل يتركهم هكذا؟ لا بل :
{ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى . . . } [ النحل : 61 ] .
هذا الأجل انقضاء دُنيا ، وقيام آخرة ، حتى لو لم يؤمنوا بالآخرة ، فإن الله تعالى يُمهلهم في الدنيا ، كما قال تعالى في آية أخرى :
(1/4945)
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } [ الطور : 47 ] .
وقد يكون في هذا الأجل المسمى خير للحق ، فكثير من الصحابة كانوا يدخلون المعارك ، ويُحبون أنْ يقتلوا أهل الكفر فلاناً وفلاناً ، ثم لا يتمكنون من ذلك ولا يصيبونهم ، فيحزنون لذلك .
ولكن أَجَل هؤلاء لم يَأْتِ بَعْد ، وفي علم الله تعالى أن هؤلاء الكفار سيؤمنون ، وأن إيمانهم سينفع المسلمين ، وكأن القدر يدّخرهم : إما أنْ يؤمنوا ، وإما أن تؤمنَ ذرياتهم .
وقد آمن عمرو بن العاص ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم . ومن هؤلاء الذين نَجَوْا كان خالد بن الوليد سيف الله المسلول .
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ النحل : 61 ] .
أي : إذا جاءت النهاية فلا تُؤخَّر ، وهذا شيء معقول ، ولكن كيف : ولا يستقدمون؟ إذا جاء الأجل كيف لا يستقدِمون؟ المسألة إذن ممتنعة مستحيلة . . كيف إذا جاء الأجل يكون قد أتى قبل ذلك؟ . . . هذا لا يستقيم ، لكن يستقيم المعنى تماماً على أن :
{ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ النحل : 61 ] .
ليست من جواب إذا ، بل تم الجواب عند ( ساعة ) ، فيكون المعنى : إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ، وإذا لم يجيء لا يستقدمون . والله أعلم .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ . . . } .
(1/4946)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قوله تعالى :
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ . . . } [ النحل : 62 ] .
الأليق أن الذي يُخرج لله يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه الله ، فإذا أردت أن تتصدقَ تصدَّقْ بأحسن ما عندك ، أو على الأقل من أوسط ما عندك . . لكن أنْ تتصدَّق بأخسِّ الأشياء وأرذلها . . أن تتصدق مما تكرهه ، كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغيِّر ، أو ملابس مُهَلْهَلة ، فهذا يجعل لله ما يكره .
والحقيقة أن الناس إذا وثِقوا بجزاء الله على ما يعطيه العبد لأَعطَوْا ربهم أفضل ما يُحبون . . لماذا؟ لأن ذلك دليلٌ على حبّك للآخرة ، وأنك من أهلها ، فأنت تعمرها بما تحب ، أما صاحب الدنيا المحبّ لها فيعطي أقل ما عنده؛ لأن الدنيا في نظره أهمّ من الآخرة .
وبهذا يستطيع الإنسان أنْ يقيسَ نفسه : أهو من أهل الآخرة ، أم من أهل الدنيا بما يعطي لله عز وجل؟
قوله تعالى :
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ . . . } [ النحل : 62 ] .
أي : مما ذكر في الآيات السابقة من قولهم : { لِلَّهِ البنات . . } [ النحل : 57 ] .
وأن الملائكة بنات الله ، وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً ، إلى غير ذلك من أقوالهم ، وجعلوا لله البنات وهم يكرهون البنات؛ لذلك : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] .
والمسألة هنا ليستْ مسألة جَعْل البنات لله ، بل مُطْلق الجَعْل منهم مردود عليهم ، فلو جعلوا لله ما يحبون من الذكْران ما تُقبّل منهم أيضاً؛ لأنهم جعلوا لله ما لم يجعل لنفسه .
فالذين قالوا : عزير ابن الله . والذين قالوا : المسيح ابن الله . لا يُقبَل منهم؛ لأنهم جعلوا لله سبحانه ما لم يجعلْه لنفسه ، فهذا مرفوض ، وذلك مرفوض؛ لأننا لا نجعل لله إلا ما جعله الله لنفسه سبحانه .
فنحن نجعل لله ما نحب مما أباح الله ، كما جاء في قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ . . . } [ آل عمران : 92 ] .
وقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ . . } [ الإنسان : 8 ] .
ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] .
فلو كان له ولد لآمنتُ بذلك ، لكن الحقيقة أنه ليس له ولد . . إذن : ليست المسألة في جَعْل ما يكرهون لله بل في مُطْلَق الجعلْ ، ذلك لأننا عبيد نتقرّب إلى الله بالعبادة ، والعابد يتقرّب إلى المعبود بما يحب المعبود أن يتقرّب به إليه ، فلو جعل الله لنفسه شيئاً فهو على العين والرأس ، كما في أمره أن ننفق مما نُحب ، ومن أجود ما نملك .
ولذلك قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] .
رَاعِ حق الفقير وضرورة أنْ تجعله كنفسك ، لا يكُنْ هيِّناً عليك فتعطيه أردأ ما عندك . . والحق تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرّب إليه بالنّسُك وذَبْح الهَدْي والأضاحي قال :
(1/4947)
{ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير } [ الحج : 28 ] .
لأنك إذا علمتَ أنك ستأكل منها سوف تختار أجود ما عندك .
وقوله تعالى :
{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب . . } [ النحل : 62 ] .
الكذب : قضية ينطق بها اللسان ليس لها واقع في الوجود ، أي مخالفة للواقع المشهود به من القلب . . ولماذا يشهد عليه القلب؟
قالوا : لأنه قد يطابق الكلام الواقع ، ونحكم عليه مع ذلك بالكذب ، كما جاء في قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] .
بالله ، أهذه القضية صِدْق أم لا؟ إنها قضية صادقة . . أنت رسول الله وقد وافق كلامهم ما يعلمه الله . . فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم ( كاذبون ) ؟
وفي أيِّ شيء هم كاذبون؟
قالوا : الحقيقة أنهم صادقون في قولهم : إنك لرسول الله ، ولكنهم كذبوا في شهادتهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله . . . } [ المنافقون : 1 ] .
لأنهم لا يشهدون فعلاً؛ لأن الشهادة تحتاج أنْ يُواطئَ القلبُ اللسانَ ويسانده ، وهذه الشهادة منهم من اللسان فقط لا يساندها القلب .
الإنسان عُرْضة لأن يقول الصدق مرة والكذب مرة ، لكن هؤلاء بمجرد أن يقولوا ( نشهد ) فهم كاذبون ، وهذا معنى :
{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } [ النحل : 62 ] .
لأنهم حينما يقولون مثلاً : العزير ابن الله ، المسيح ابن الله ، الملائكة بنات الله . هذه كلها قضايا باطلة ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان . . فألسنتهم تصف الكذب .
وإنْ أردتَ أن تعرف الكذب الذي لا يطابق الواقع فاستمع إليه فبمجرد أنْ يُقال تعلم أنه كذب . . مثل ما حدث مع مُسيْلمة الذي ادَّعى النبوة ، مجرد أنْ قال : أنا نبي قلنا : مسيلمة الكذاب .
ويقول الحق سبحانه :
{ أَنَّ لَهُمُ الحسنى . . } [ النحل : 62 ] .
أي : أن الكذب في قولهم ( لهم الحسنى ) فهذا اغترار وتمنٍّ على الله دون حق ، ومثل هذه المقولة في سورة الكهف ، في قصةِ أصحاب الجنتين ، يقول تعالى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 35-36 ] .
فهذه مقولات ثلاث كاذبة :
قوله : { مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } [ الكهف : 35 ] .
هذه الأولى ، فكم من أشياء تغيَّرت ، ومن يضمن لك بقاء ما أنت فيه ، والحق تبارك وتعالى يقول في آية أخرى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم } [ القلم : 17-20 ] .
الكذبة الثانية : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } [ الكهف : 36 ] .
فقد أنكر الساعة .
الكذبة الثالثة : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] .
وهذا هو الشاهد في الآية هنا ، ففيها اغترار وتمنٍّ على الله دون حقٍّ ، كمن ادعوْا أن لهم الحسنى ، وهم ليسوا أهلاً لها .
وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة :
(1/4948)
{ لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 49-50 ] .
وهكذا الإنسان في طَبْعه أنه لا يسأم من طلب الخير ، وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنّى أعلى منها ، يقنط إنْ مسَّه شر ، وإنْ رفع الله عنه ورحمه قال : هذا لي . . أنا استحقه ، وأنا جدير به . . ألاَ قلتَ : هذا فضل من الله ونعمة ، ثم بعد ذلك هو يتمنى على الله الأماني ويقول : { إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] .
ويُروى أن سيدنا داود عليه السلام مع ما أعطاه الله من الملْك والعظمة أنه صعد يوماً سطح منزله ، فابتلاه الله بسِرْب من الجراد الذهب ، فحينما رآه داود جعل يجمع منه في ثوبه ، فقال له ربه : ألم أُغْنِك يا داود؟ قال : نعم ولكن لا غِنَى لي عن فضلك .
وقوله تعالى :
{ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار . . . } [ النحل : 62 ] .
لا جرم : أي حقاً أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا لله ما يكرهون ، وتصف ألسنتهم الكذب ، وهذه أفعال يستحقون النار عليها .
وكلمة { لاَ جَرَمَ } منها جارم بمعنى مجرم ، فالمعنى : لا جريمة في عقاب هؤلاء ، لأنه لا يُقال على عقوبة الجريمة أنها جريمة . . إذن : لها معنيان ، لا بُدَّ أن لهم النار ، أو لا جريمة في أن لهم النار جزاء أعمالهم .
{ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } [ النحل : 62 ] .
جاءت في كلمة مُفْرطون عدة قراءات : مفرَطون ، مفرِطون ، مفرِّطون ، مفرَّطون . وجمعيها تلتقي في المعنى .
نحن حينما نصلي على جنازة مثلاً ، إذا كان الميت مكلّفاً نقول في الدعاء له : " اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه . . اللهم إنْ كان مُحسناً فزِدْ في إحسانه ، وإنْ كان مُسِيئاً فتجاوز عن سيئاته " . فإنْ كان صغيراً غير مُكلَّف قُلْنا في الدعاء له " اللهم اجعله فرَطاً وذخراً " . فما معنى فرَطاً هنا؟
معناه : أن يكون الطفل فَرَطاً لأبويه ومُقدّمة لهما إلى الجنة . . يمرُّ بين يديْ والديْه ويسبقهما إلى الجنة ، وكأنه يقدم عليهما لِيُمهد لهما الطريق ليغفر الله لهما . . إذن : معنى مُفْرطون أي مُقدِّمون . ولكن إلى النار .
ومنه قوله تعالى عن فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة . . } [ هود : 98 ] .
أي : يتقدمهم إلى النار . . كما كنتَ مُقدّماً عليهم ، وإماماً لهم في الدنيا ، فسوف تتقدمهم هنا وتسبقهم إلى النار .
(1/4949)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء على ما يشاء ، أما نحن فلا نقسم إلا بالله ، وفي الحديث الشريف : " مَنْ كان حالفاً ، فليحلف بالله أو ليصمت " .
والحق تبارك وتعالى هنا يحلف بذاته سبحانه { تالله } ، مثل : والله وبالله .
وقد جاء القسم لتأكيد المعنى؛ ولذلك يقول أحد الصالحين : من أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟!
وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته ، أو القسم ببعض خَلْقه ، وقد ينفي القسم وهو يُقسِم ، كما في قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] .
وقوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ] .
ومعنى : لا أقسم أن هذا الأمر واضح جَليّ وضوحاً لا يحتاج إلى القسم ، ولو كنت مُقسِماً لأقسمتُ به ، بدليل قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] .
إذن : الحق سبحانه يُقسِم بذاته ليؤكد لنا الأمر تأكيداً ، وتأكيد الأمر عند الحكم في القضاء مَثلاً : إما بالإقرار ، وإما باليمين . . فإذا ما أقسمت له وحلفتَ فقد سددْتَ عليه منافذ التكذيب .
والحق سبحانه يقول :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } [ النحل : 63 ] .
أي : لسْتَ بِدْعاً في أنْ تُكذَّب من قومك ، فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من الله على ألسنة الرسل؛ لأن الرسل لا يرسلهم الله إلا حينما يطمّ الفساد ويعُم .
ومعنى إرسال الرسل إذن أنه لا حَلَّ إلا أنْ تتدخلَ السماء؛ ذلك لأن الإنسان فيه مناعات يقينية في ذاته ، وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ وتُعدِّل من سلوكه ، فهي رادع له من نفسه .
فإذا ما تبلَّدتْ هذه النفس ، وتعوَّدتْ على الخطأ قام المجتمع من حولها بهذه المهمة ، فمَنْ لا تُردِعه نفسه اللوامة يُردعه المجتمع من حوله . . فإذا ما فسدَ المجتمع أيضاً ، فماذا يكون الحل؟ الحل أن تتدخل السماء لإنقاذ هؤلاء .
إذن : تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعُمّ الفسادُ المجتمعَ كله؛ ولذلك فأمة محمد صلى الله عليه وسلم من شرفها عند ربها أنْ قال لهم : أنتم مأمونون على رعاية منهجي في ذواتكم ، لوَّامون لأنفسكم ، آمرون بالمعروف ، ناهون عن المنكر في غيركم؛ لذلك لن أرسل فيكم رسولاً آخر ، فأنتم سوف تقومون بهذه المهمة .
لذلك قال الحق سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر . . . } [ آل عمران : 110 ] .
فقد آمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن تكون حارسة لمنهجه ، إما بالنفس اللوامة ، وإما بالمجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة .
إذن : يأتي الرسول حينما يعُمُّ الفساد . . فما معنى الفساد؟ . . الفساد : أن تُوجد مصالح طائفة على حساب طائفة أخرى ، فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول ليُخلِّص الناس من فسادهم ، كيف يقابلونه؟ أيقابلونه بالترحاب؟ بالطبع لا .
(1/4950)
. لا بُدّ وأن يقابلوه بالكراهية والإنكار ، ويعلنوا عليه الحرب دفاعاً عن مصالحهم .
ويُتبع الحق سبحانه هذا بقوله :
{ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ . . } [ النحل : 63 ] .
هنا يتدخل الشيطان ، ويُزيّن لأهل الفساد أعمالهم ، ويحثّهم على محاربة الرسل؛ فهؤلاء الذين سيقضون على نفوذكم ، سوف يأخذون ما في أيديكم من مُتَع الدنيا ، سوف يهزُّون مراكزكم ، ويحطُّون من مكانتكم بين الناس . . هؤلاء سوف يرفعون عليكم السِّفْلة والعبيد . .
وهكذا يتمسَّك أهل الفساد والظلم بظلمهم ، ويعضون عليه بالنواجذ ، ويقفون من الرسل موقف العداء ، فوطِّنْ نفسك على هذا ، فلن تُقابلَ من السادة إلا بالجحود وبالإنكار وبالمحاربة .
ثم يقول تعالى :
{ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم . . . } [ النحل : 63 ] .
أي : في الآخرة ، فما دام الشيطان تولاَّهم في الدنيا ، وزيَّن لهم ، وأغراهم بعداء الرسل ، فَلْيتولَّهم الآن ، وليدافع عنهم يوم القيامة . . وقد عرض لنا القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ الحشر : 16 ] .
وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له : أنت أغويتَنا وزيَّنْتَ لنا . . ماذا يقول؟ يقول : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ . . } [ إبراهيم : 22 ] .
والسلطان هنا : إمّا بالحجة التي تُقنع ، وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما تريد ، وليس للشيطان شيء من ذلك . . لا يملك حُجة يُقنعك بها لتفعل ، ولا يملك قوة يُجبرك بها أنْ تفعل وأنت كاره .
وهكذا يجادلهم الشيطان ويردُّ عليهم دعواهم ، فليس له عليكم سلطان ، بل مجرد الإشارة أوقعتْكم في المعصية .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله . . } [ الأنفال : 48 ] .
وقوله :
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 63 ] .
يَصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مُهلِك ، وقد وصف الله العذاب بأنه أليم ، عظيم ، مُهين ، شديد . . والعذاب شعور بالألم وإحساسٌ به ، وقد توصَّل العلماء إلى أن الإحساس كله في الجلد؛ لذلك قال الحق سبحانه لِيُديمَ على هؤلاء العذاب : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب . . } [ النساء : 56 ] .
وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب . . } .
(1/4951)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
فالكتاب هو القرآن الكريم .
وقَوْل الحق سبحانه :
{ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ . . } [ النحل : 64 ] .
دليل على أن أتباع الرسل السابقين نشأ بينهم خلاف ، فأيُّ خلاف هذا طالما أنهم تابعون لنبي واحد؟ ما سببه؟
قالوا : سبب هذا الخلاف ما يُسمُّونه بالسلطة الزمنية . . ولتوضيح معنى السلطة الزمنية نضرب مثلاً بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً ، بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً ، فلما مات تنازع الخلافة أبناؤه من بعده . . كُلٌ يريدها له ، وأخذ يجمع حوله مجموعة من أتباع أبيه . . فلو كانت الخلافة هذه واضحة في أذهانهم ما حدث هذا الخلاف .
وكذلك السلطة الزمنية حدثت في أتباع الرسل الذين أخذوا يكتبون الصكوك ، ويذكرون ما يحبون وما يرونه صواباً من وجهة نظرهم ، كل هؤلاء كان لهم نفوذ بما نُسميه السلطة الزمنية .
فكيف إذن يتركون محمداً صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم هذه السلطة ، ويُضيع عليهم ما هم فيه من سيادة ، فقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُبيّن لهم . أي : يردّهم إلى جَادّة الحق ، وإلى الطريق المستقيم .
وقوله تعالى :
{ وَهُدًى وَرَحْمَةً . . } [ النحل : 64 ] .
الهدى : معناه بيان الطريق الواضح للغاية النافعة ، والطريق لا يكون واضحاً إلا إذا خَلا من الصِّعاب والعقبات ، وخلا أيضاً من المخاوف ، فهو طريق واضح مأمون سهل ، وأيضاً يكون قصيراً يُوصّلك إلى غايتك من أقصر الطرق .
وضد الهدى : الضلال . وهو أنْ يُضلّك ، فإنْ أردتَ طريقاً وجَّهك إلى غيره ، ودَلّك على سواه ، أو دَلّك على طريق به مخاوف وعقبات .
أما الرحمة ، فقد وصف الحق تبارك وتعالى القرآن بأنه رحمة فقال : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . . } [ الإسراء : 82 ] . فكيف يكون القرآن شفاءً؟ وكيف يكون رحمة؟
الشفاء : إذا أصابنا داء ربنا سبحانه وتعالى يقول : طيّبوا داءكم وداووا أمراضكم بكذا وكذا ، ورُدُّوا الحكم إلى الله . . هذا شفاء .
أما الرحمة : فهي أن يمنع أن يأتي الداء مرة أخرى ، فتكون وقاية تقتلع الداء من أصله فلا يعود .
ومِثْل هذا يحدث في عالم الطب ، فقد تذهب إلى طبيب لِيُعالجك من داء معين . . بثور في الجلد مثلاً ، فلا يهتم إلا بما يراه ظاهراً ، ويصف لك ما يداوي هذه البثور . . ثم بعد ذلك تُعاودك مرة أخرى .
أما الطبيب الحاذق الماهر فلا ينظر إلى الظاهر فقط ، بل يبحث عن سببه في الباطن ، ويحاول أن يقتلع أسباب المرض من جذورها ، فلا تُعاودك مرة أخرى .
ولذلك ، لو نظرنا إلى قصة أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به نرى فيها مثالاً رائعاً لعلاج الظاهر والباطن معاً ، فقد ابتلاه ربُّه ببلاء ظهر أثره على جسمه واضحاً ، ولما أذن له سبحانه بالشفاء قال له :
(1/4952)
{ اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] .
( مُغْتَسَلٌ ) : أي . يغسل ويُزيل ما عندك من آثار هذا البلاء .
( وَشَرَابٌ ) : أي . شراب يشفيك من أسباب هذا البلاء فلا يعود .
وكذلك الحال في علاج المجتمع ، فقد جاء القرآن الكريم وفي العَالَم فساد كبير ، وداءاتٌ متعددة ، لا بُدَّ لها من منهج لشفاء هذه الداءاتِ ، ثم نعطيها مناعاتٍ تمنع عودة هذه الداءات مرة أخرى .
وقوله تعالى :
{ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 64 ] .
أي : أن هذا القرآن فيه هدى ورحمة لمَنْ آمن بك وبرسالتك؛ لأن الطبيب الذي ضربناه مثلاً هنا لا يعالج كل مريض ، بل يعالج مَنْ وثق به ، وذهب إليه وعرض عليه نفسه ففحصه الطبيب وعرف عِلّته .
وهكذا القرآن الكريم يسمعه المؤمن به ، فيكون له هدىً ورحمة ، ويترك في نفسه إشراقات نورانية تتسامى به وترتفع إلى أعلى الدرجات ، في حين يسمعه آخر فلا يَعي منه شيئاً ، ويقول كما حكى القرآن الكريم : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً . . . } [ محمد : 16 ] .
وقال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ . . } [ فصلت : 44 ] . { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى . . } [ فصلت : 44 ] .
إذن : فالقرآن واحد ، ولكن الاستقبال مختلف .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله أَنْزَلَ مِنَ . . . } .
(1/4953)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينقلنا إلى آية مادية مُحسّة لا ينكرها أحد ، وهي إنزال المطر من السماء ، وإحياء الأرض الميتة بهذا المطر؛ ليكون ذلك دليلاً محسوساً على قدرته تعالى ، وأنه مأمون على خَلْقه .
وكأنه سبحانه يقول لهم : إذا كنتُ أنا أعطيكم كذا وكذا ، وأُوفّر لكم الأمر المادي الذي يفيد عنايتي بكم ، فإذا أنزلتُ لكم منهجاً ينفعكم ويُصلح أحوالكم فصدّقوه .
فهذا دليل ماديّ مُحَسّ يُوصِّلهم إلى تصديق المنهج المعنوي الذي جاء على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . } [ الإسراء : 82 ] .
وقوله : { والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً . . . } [ النحل : 65 ] .
هذه آية كونية مُحسَّة لا ينكرها أحد .
ثم يقول : { فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ . . . } [ النحل : 65 ] .
موت الأرض ، أي حالة كَونْها جدباء مُقفرة لا زرعَ فيها ولا نبات ، وهذا هو الهلاك بعينه بالنسبة لهم ، فإذا ما أجدبتْ الأرض استشرفوا لسحابة ، لغمامة ، وانتظروا منها المطر الذي يُحيي هذه الأرض الميتة . . يُحييها بالنبات والعُشْب بعد أنْ كانت هامدة ميتة .
فلو قبض ماء السماء عن الأرض لَمُتُّمْ جوعاً ، فخذوا من هذه الآية المحسَّة دليلاً على صدق الآية المعنوية التي هي منهج الله إليكم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكما أمِنْتَنِي على الأولى فأْمَنِّي على الثانية .
وقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ النحل : 65 ] .
مع أن هذه الآية تُرَى بالعين ولا تُسْمع ، قال القرآن :
{ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ النحل : 65 ] .
. . لماذا؟
قالوا : لأن الله سبحانه أتى بهذه الآية لِيلْفتَهم إلى المنهج الذي سيأتيهم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا المنهج سَيُسمع من الرسول المبلّغ لمنهج الله .
مثال ذلك أيضاً في قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] .
فالضياء يُرى لا يُسمع . . لكنه قال : { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأنه يتكلم عن الليل ، ووسيلة الإدراك في الليل هي السمع .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي . . . } .
(1/4954)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة ، أدناها الجماد المتمثل في الأرض والجبال والمياه وغيرها ، ثم النبات ، ثم الحيوان ، ثم الإنسان .
وفي الآية السابقة أعطانا الحق تبارك وتعالى نموذجاً للجماد الذي اهتزَّ بالمطر وأعطانا النبات ، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان .
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً . . . } [ النحل : 66 ] .
والمقصود بالأنعام : الإبل والبقر والغنم والماعز ، وقد ذُكِرتْ في سورة الأنعام في قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين . . . } [ الأنعام : 143-144 ] .
هذه هي الأنعام .
وقوله سبحانه : { لَعِبْرَةً } العِبْرة : الشيء الذي تعتبرون به ، وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى ، وتأخذون من هذه الأشياء دليلاً على صِدْق منهجه سبحانه فتصدقونه .
ومن معاني العبرة : العبور والانتقال من شيء لآخر . . أي : أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء آخر . ومنها العَبْرة ( الدمعة ) ، وهي : شيء دفين نبهْتَ عنه وأظهرتَهُ .
والمراد بالعبرة في خلق الأنعام :
{ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] .
مادة : سقى جاءت في القرآن مرة " سقى " . ومرة " أَسْقى " ، وبعضهم قال : إن معناهما واحد ، ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى ، وإن اتفقا في المعنى العام . سقى : كما في قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] .
أي : أعطاهم ما يشربونه . . ومضارعه يَسقي . ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام : { فسقى لَهُمَا . . . } [ القصص : 24 ] .
أما أسقى : كما في قوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] .
فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله ، ولكن ليكون في الأرض لمن أراد أنْ يشربَ . . فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه . . لا . . بل هو مخزون في الأرض لمن أراده . والمضارع من أَسْقى : يُسقي .
إذن : هناك فَرْق بين الكلمتين ، وإنِ اتفقنا في المعنى العام . . وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في ساعته ، مثل قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ . . } [ الإنسان : 21 ] .
وبين أنْ تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد كما في قوله : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } [ الحجر : 22 ] .
لذلك يقولون : إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلاً ، فيعطي المحتاج مثلاً رغيفاً يأكله ، وقد يصنعه مؤُجّلاً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه .
والحق تبارك وتعالى أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف ، في قصة ذي القرنين ، قال تعالى :
(1/4955)
{ حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] .
فما داموا لا يفقهون قَوْلاً . . فكيف تفاهم معهم ذو القرنين ، وكيف قالوا : { ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } [ الكهف : 94 ] .
نقول : الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال أنْ يفهمهم ، وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم ، في حين أنه كان قادراً على ترْكهم والانصراف عنهم ، وحُجّته أنهم لا يفقهون ولا يتكلمون .
فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لن يَبْنِ هو بنفسه ، بل علَّمهم كيف يكون البناء ، حتى يقوموا به بأنفسهم متى أرادوا ولا يحتاجون إليه . . فقال : { آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين قَالَ انفخوا حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] .
إذن : علَّمهم وأحسن إليهم إحساناً دائماً لا ينتهي .
وقوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ . . . } [ النحل : 66 ] .
أي : مما في بطون الأنعام ، فقد ذكَّر الضمير في ( بطونه ) باعتبار إرادة الجنس .
وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن :
{ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً } [ النحل : 66 ] .
والفَرْث في كرش الحيوان من فضلات طعامه .
فالعبرة هنا أن الله تعالى أعطانا من بين الفَرْث ، وهو رَوَثُ الأنعام وبقايا الطعام في كرشها ، وهذا له رائحة كريهة ، وشكل قذر مُنفّر ، ومن بين دم ، والدم له لونه الأحمر ، وهو أيضاً غير مستساغ؛ ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبناً خالصاً من الشوائب نقياً سليماً من لون الدم ورائحة الفَرْث .
ومَنْ يقدر على ذلك إلا الخالق سبحانه؟
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله واصفاً هذا اللبن :
{ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] .
أي : يسيغه شاربه ويستلذّ به ، ولا يُغَصُّ به شاربه ، بل هو مُسْتساغ سَهْل الانزلاق أثناء الشُّرْب؛ لأن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به ، ولكنه قد لا يكون مريئاً .
ولذلك ، فالحق سبحانه يقول : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] .
هنيئاً أي : تستلِذّون به ، ومريئاً : أي نافعاً للجسم ، يمري عليك؛ لأنك قد تجد لَذة في شيء أثناء أَكْله أو شُرْبه ، ثم يسبِّب لك متاعب فيما بَعْد ، فهو هَنِيءٌ ولكنه غير مَرِيء .
فاللبن من نِعَم الله الدالة على قدرته سبحانه ، وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة وعِظَة ، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيِّ الذي نشاهده إلى المعنى القيميّ في المنهج ، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح قلوبنا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِن ثَمَرَاتِ . . . } .
(1/4956)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ثمرات النخيل هي : البلح . والأعناب هو : العنب الذي نُسمّيه الكَرْم . والتعبير القرآني هنا وإن امتنَّ على عباده بالرزق الحسن ، فإنه لا يمتنّ عليهم بأن يتخذوا من الأعناب سكراً : أي مُسْكِراً ، ولكن يعطينا الحق سبحانه هنا عبرةً فقد نزلتْ هذه الآيات قبل تحريم الخمر .
وكأن الآية تحمل مُقدّمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الآن ويمتدحونه؛ ولذلك يقول العلماء : إن الذي يقرأ هذه الآية بفِطنة المستقْبِل عن الله يعلم أن لله حُكْماً في السَّكر سيأتي .
كيف توصَّلوا إلى أن لله تعالى حُكْماً سيأتي في السَّكر؟
قالوا : لأنه قال في وصف الرزق بأنه حسن ، في حين لم يَصِفْ السَّكر بأنه حسن ، فمعنى ذلك أنه ليس حسناً؛ ذلك لأننا نأكل ثمرات النخيل ( البلح ) كما هو ، وكذلك نأكل العنب مباشرة دون تدخُّل مِنّا فيما خلق الله لنا .
أما أنْ نُغيّر من طبيعته حتى يصير خمراً مُسْكراً ، فهذا إفساد في الطبيعة التي اختارها الله لنا لتكون رزقاً حَسناً .
وكأنه سبحانه يُنبّه عباده ، أنَا لا أمتنُّ عليكم بما حرَّمْتُ ، فأنا لم أُحرِّمه بَعْد ، فاجعلوا هذا السَّكر كما ترونه متعةً لكم ، ولكن خذوا منه عبرة أَنِّي لم أَصِفْه بالحُسْن؛ لأنه إنْ لم يكُنْ حَسَناً فهو قبيح ، فإذا ما جاء التحريم فقد نبهتكم من بداية الأمر .
ثم يقول تعالى :
{ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ النحل : 67 ] .
لأن العقل يقتضي أنْ نُوازِنَ بين الشيئين ، وأن نسأل : لماذا لم يوصف السَّكر بأنه حَسَن؟ . . أليس معناه أن الله تعالى لا يحب هذا الأمر ولا يرضاه لكم؟
إذن : كأن في الآية نيّة التحريم ، فإذا ما أنزل الله تحريم الخمر كان هذا تمهيداً له .
والآية هي : الأمر العجيب الذي يُنبئكم الله الذي خلق لكم هذه الأشياء لسلامة مبانيكم وقوالبكم المادية ، قادر ومأمون على أن يُشرّع لكم ما يضمن سلامة معانيكم وقلوبكم القيمية الروحية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وأوحى رَبُّكَ . . } .
(1/4957)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
النحل خَلْق من خَلْق الله ، وكل خَلْق لله أودع الله فيه وفي غرائزه ما يُقيم مصالحه ، يشرح ذلك قوله تعالى : { الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 2-3 ] .
أي : خلق هذه كذا ، وهذه كذا حَسْب ما يتناسب مع طبيعته؛ ولذلك تجد ما دون الإنسان يسير على منهج لا يختلف . . فالإنسان مثلاً قد يأكل فوق طاقته ، وقد يصل إلى حَدِّ التُّخْمة ، ثم بعد ذلك يشتكي مرضاً ويطلب له الدواء .
أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته ، وأخذ ما يكفيه فلا يزيد عليه أبداً ، وإنْ أجبرته على الأكل؛ ذلك لأنه محكوم بالغريزة الميكانيكية ، وليس له عقل يختار به .
وضربنا مثلاً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائماً ويأخذونه مثلاً للغباء ، إذا سُقْتَه ليتخطى قناة ماء مثلاً وجدته ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة بدقة . . فإذا ما وجدها في مقدوره قفزها دون تردد ، وإذا وجدها فوق طاقته ، وأكبر من قدرته تراجع ولم يُقدِم عليها ، وإنْ ضربتَه وصِحْتَ به . . فلا تستطيع أبداً إجباره على شيء فوق قدرته .
ذلك لأنه محكوم بالغريزة الآلية التي جعلها الله سبحانه فيه ، على خلاف الإنسان الذي يفكر في مثل هذه الأمور ليختار منها ما يناسبه ، فهذه تكون كذا ، وهذه تكون كذا ، فنستطيع أن نُشبِّه هذه الغريزة في الحيوان بالعقل الإلكتروني الذي لا يعطيك إلا ما غذَّيته به من معلومات . . أما العقل البشري الرباني فهو قادر على التفكير والاختيار والمفاضلة بين البدائل .
يقول الحق سبحانه :
{ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . . } [ النحل : 68 ] .
الحق تبارك وتعالى قد يمتنّ على بعض عبادة ويُعلّمهم لغة الطير والحيوان ، فيستطيعون التفاهم معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلام . . والله سبحانه الذي خلقها وأبدعها يُوحِي إليها ما يشاء . . فما هو الوحي؟
الوحي : إعلام من مُعْلِم أعلى لمُعْلَم أدنى بطريق خفيّ لا نعلمه نحن ، فلو أعلمه بطريق صريح فلا يكون وَحْياً .
فالوَحْي إذن يقتضي : مُوحِياً وهو الأعلى ، ومُوحَىً إليه وهو الأَدْنَى ، ومُوحًى به وهو المعنى المراد من الوَحْي .
والحق تبارك وتعالى له طلاقة القدرة في أنْ يُوحي ما يشاء لما يشاء من خَلْقه . . وقد أوحى الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 1-5 ] .
أعلمها بطريق خفيّ خاص بقدرة الخالق في مخلوقه .
وهنا أوحى الله إلى النحل .
وأوحى الله إلى الملائكة : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ . . . } [ الأنفال : 12 ] .
وأوحى إلى الرسل : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ . . . }
(1/4958)
[ النساء : 163 ] .
وأوحى إلى المقربين من عباده : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي . . } [ المائدة : 111 ] .
وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تمرُّ بقلوبهم
وأوحى سبحانه إلى أم موسى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . } [ القصص : 7 ] .
هذا هو وَحْي الله إلى ما يشاء من خَلْقه : إلى الملائكة ، إلى الأرض ، إلى الرسل ، إلى عباده المقرّبين ، إلى أم موسى ، إلى النحل . . الخ .
وقد يكون الوحي من غيره سبحانه ، ويُسمَّى وَحْياً أيضاً ، كما في قوله تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ . . } [ الأنعام : 121 ] .
وقوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً . . } [ الأنعام : 112 ] .
لكن إذا أُطلِقَتْ كلمة ( الوَحْي ) مُطْلقاً بدون تقييد انصرفتْ إلى الوحي من الله إلى الرسل؛ لذلك يقول علماء الفقه : الوحي هو إِعلامُ الله نبيه بمنهجه ، ويتركون الأنواع الأخرى : وَحْي الغرائز ، وَحْي التَكوين ، وَحْي الفطرة . . الخ .
وقوله : { أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] .
كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم ، ومن هؤلاء باحث تتبّع المراحل التاريخية للنحل ، فتوصّل إلى أن النحل أول ما وُجِد عاش في الجبال ، ثم اتخذ الشجر ، وجعل فيها أعشاشه ، ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر ، وهي ما نعرفه الآن باسم الخلية الصناعية أو المنحل ، ووَجْه العجب هنا أن هذا الباحث لا يعرف القرآن الكريم ، ومع ذلك فقد تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق .
وكذلك توصَّل إلى أن أقدمَ أنواع العسل ما وُجِد في كهوف الجبال ، وقد تَوصَّلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق حَرْق العسل وتحويله إلى كربون ، ثم عن طريق قياس إشعاع الكربون يتم التوصّل إلى عمره . . وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل ، ثم عسل الشجر ، ثم عسل الخلايا والمناحل .
إذن : أوحى الله تعالى إلى النحل بطريق خفيّ لا نعلمه نحن ، وعملية الوحي تختلف باختلاف الموحِي والموحَي إليه ، ويمكن أنْ نُمثّل هذه العملية بالخادم الفَطِن الذي ينظر إليه سيده مُجرد نظرة فيفهم منها كل شيء : أهو يريد الشراب؟ أم يريد الطعام؟ أم يريد كذا؟
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ كُلِي مِن . . . } .
(1/4959)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
عِلّة كَوْن العسل فيه شفاء للناس أنْ يأكلَ النحل من كُلِّ الثمرات ذلك لأن تنوُّع الثمرات يجعل العسل غنيّاً بالعناصر النافعة ، فإذا ما تناوله الإنسان ينصرف كل عنصر منه إلى شيء في الجسم ، فيكون فيه الشفاء بإذن الله .
ولكن الآن ماذا حدث؟ نرى بعض الناس يقول : أكلتُ كثيراً من العسل ، ولم أشعر له بفائدة . . نقول : لأننا تدخّلنا في هذه العملية ، وأفسدنا الطبيعة التي خلقها الله لنا . . فالأصل أن نتركَ النحل يأكل من كُلّ الثمرات . . ولكن الحاصل أننا نضع له السكر مثلاً بدلاً من الزَّهْر والنوار الطبيعي ، ولذلك تغيّر طعم العسل ، ولم تَعُدْ له مَيْزته التي ذكرها القرآن الكريم .
لذلك؛ فالمتتبع لأسعار عسل النحل يجد تفاوتاً واضحاً في سعره بين نوع وآخر ، ذلك حَسْب جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم .
والحق سبحانه يقول :
{ فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً . . } [ النحل : 69 ] .
أي : تنقّلي حُرّة بين الأزهار هنا وهناك؛ ولذلك لا نستطيع أنْ نَبني للنحل بيوتاً يقيم فيها ، لا بُدَّ له من التنقُّل من بستان لآخر ، فإذا ما جَفَّتْ الزراعات يتغذَّى النحل من عسله ، ولكن الناس الآن يأخذون العسل كله لا يتركون له شيئاً ، ويضعون مكانه السكر ليتغذَّى منه طوال هذه الفترة .
وقوله تعالى : { ذُلُلاً . . } [ النحل : 69 ] .
أي : مُذلَّلة مُمهّدة طيِّعة ، فتخرج النحل تسعى في هذه السُّبل ، فلا يردها شيء ، ولا يمنعها مانع ، تطير هنا وهناك من زهرة لأخرى ، وهل رأيت شجرة مثلاً رَدَّتْ نحلة؟! . . لا . . قد ذَلَّلَ الله لها حياتها ويسَّرها .
ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أنْ ذلَّلَ لنا سُبُل الحياة . . وذلَّل لنَا ما ننتفع به ، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها . . فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي الصغير ، ويتحكَّم فيه يُنيخه ، ويُحمّله الأثقال ، ويسير به كما أراد ، في حين أنه إذا ثار الجمل أو غضب لا يستطيع أحدٌ التحكم فيه . . وما تحكَّم فيه الصبي الصغير بقوته ولكن بتذليل الله له .
أما الثعبان مثلاً فهو على صِغَر حجمه يمثِّل خطراً يفزع منه الجميع ويهابون الاقتراب منه ، ذلك لأن الله سبحانه لم يُذلِّلْه لنا ، فأفزعنا على صِغَر حجمه . . كذلك لو تأمنا البرغوث مثلاً . . كم هو صغير حقير ، ومع ذلك يقضّ مضاجعنا ، ويحرمنا لذة النوم في هدوء . . فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُذلِّل له البرغوث؟!
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا : إذا ذللتُ لكم شيئاً ، ولو كان اكبر المخلوقات كالجمل والفيل تستطيعون الانتفاع به ، وإن لم أذلِّله لكم فلا قدرة لكم على تذليله مهما كان حقيراً صغيراً . . إذن : الأمور ليست بقدرتك ، ولكن خُذْها كما خلقها الله لك .
(1/4960)
{ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا . . } [ النحل : 69 ] .
ذلك أن النحلة تمتصّ الرحيق من هنا ومن هنا ، ثم تتم في بطنها عملية طَهْي ربانية تجعل من هذا الرحيق شَهْداً مُصفَّى؛ لأنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق ، ثم تتقيؤه كما هو . . فلم يَقُلْ القرآن : من أفواهها ، بل قال : من بطونها . . هذا المعمل الإلهي الذي يعطينا عسلاً فيه شفاء للناس .
{ شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ . . } [ النحل : 69 ] .
ما دام النحل يأكل من كُلّ الثمرات ، والثمرات لها عطاءاتٌ مختلفة باختلاف مادتها ، واختلاف ألوانها ، واختلاف طُعومها وروائحها . . إذن : لا بُدَّ أن يكون شراباً مختلفاً ألوانه .
{ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ . . . } [ النحل : 69 ] .
لذلك وجدنا كثيراً من الأطباء ، جزاهم الله خيراً يهتمون بعسل النحل ، ويُجْرون عليه كثيراً من التجارب لمعرفة قيمته الطبية ، لكن يعوق هذه الجهود أنهم لا يجدون العسل الطبيعي كما خلقه الله .
ومع ذلك ومع تدخّل الإنسان في غذاء النحل بقيت فيه فائدة ، وبقيت فيه صفة الشفاء ، وأهمها امتصاص المائية من الجسم ، وأيّ ميكروب تريد أنْ تقضيَ عليه قم بامتصاص المائية منه يموت فوراً .
فإذا ما توفَّر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه الله تجلَّتْ حكمة خالقه فيه بالشفاء ، ولكنه إذا تدخّل الإنسان في هذه العملية أفسدها . . فالكون كله الذي لا دَخْلَ للإنسان فيه يسير سَيْراً مستقيماً لا يتخلَّف ، كالشمس والقمر والكواكب . . الخ إلا الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج الله .
فالشيء الذي لك دَخْلٌ فيه ، إما أنْ تتدخّل فيه بمنهج خالقه أو تتركه؛ لأنك إذا تدخلْتَ فيه بمنهج خالقه يعطيك السلامة والخير ، وإنْ تدخلْتَ فيه بمنهجك أنت أفسدتَه .
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] .
إنهم لا يعرفون . . لا يُفرِّقون بين الفساد والصلاح .
وفي القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الأرض ويحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعاً ، يقول تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-104 ] .
فالذي اخترع السيارة وهذه الآلات التي تنفث سمومها وتُلوّث البيئة التي خلقها الله . . صحيح وفَّر لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقُّل ، ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من عَطَب بسبب هذه الآلات . . انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة الإنسان .
كان يجب على مخترع هذه الآلات أنْ يوازنَ بين ما تؤديه من منفعة وما تُسبِّبه من ضرر ، وأضاف إلى الأضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مُروّعة تزهق بسببها الأرواح . . وبالله هل رأيت أن تصادمَ جملان في يوم من الأيام . . فلا بُدَّ إذن أن نقيسَ المنافع والأضرار قبل أنْ نُقدِم على الشيء حتى لا نُفِسد الطبيعة التي خلقها الله لنا .
(1/4961)
وقوله تعالى :
{ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ . . . . } [ النحل : 69 ] .
الناس : جَمْعٌ مختلفُ الداءات باختلاف الأفراد وتعاطيهم لأسباب الداءات ، فكيف يكون هذا الشراب شفاءٌ لجميع الداءات على اختلاف أنواعها؟ . . نقول : لأن هذا الشراب الذي أعدَّه الله لنا بقدرته سبحانه جاء مختلفاً ألوانه . . من رحيق مُتعدِّد الأنواع والأشكال والطُّعوم والعناصر . . ليس مزيجاً واحداً يشربه كل الناس ، بل جاء مختلفاً متنوعاً باختلاف الناس ، وتنوّع الداءات عندهم . . وكأن كل عنصر منه يُداوِي داءً من هذه الدَّاءات .
وقوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 69 ] . التفكّر : أنْ تُفكّر فيما أنت بصدده لتستنبطَ منه شيئاً لستَ بصدده ، وبذلك تُثري المعلومات؛ لأن المعلومات إذا لم تتلاقح ، إذا لم يحدث فيها توالد تقف وتتجمّد ، ويُصاب الإنسان بالجمود الطموحي ، وإذا أصيب الإنسان بهذا الجمود توقّف الارتقاء؛ لأن الارتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكُّر وإعمال العقل .
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا حينما نمرُّ على ظاهرة من ظواهر الكون ، ألا نمر عليها غافلين مُعرضين ، بل نفكر فيها ونأخذها بعين الاعتبار . . يقول تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] .
ففي الآية حَثٌّ على التفكّر في ظواهر الكون ، وفيها تحذير من الإعراض والغفلة عن آيات الله ، فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به .
ولو أخذنا مثلاً الذي اخترع الآلة البخارية . . كيف توصل إلى هذا الاختراع الذي أفاد البشرية؟ نجد أنه توصل إليه حينما رأى القِدْر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد أثناء الغليان . . فسأل نفسه : لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله وأعمل تفكيره حتى توصَّل إلى قوة البخار المتصاعد ، واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات .
وكذلك أرشميدس وغيره كثيرون توصلوا بالاعتبار والتفكُّر في ظواهر الكون ، إلى قوانين في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الآن ، فالذي اخترع العجلة ، كم كانت مشقة الإنسان في حَمْل الأثقال؟ وما أقصى ما يمكن أنْ يحمله؟ فبعد أنْ اخترعوا العجلات واستُخدِمت في الحمل تمكّن الإنسان من حَمْل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله .
الذي اخترع خزانات المياه . . كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من النهر؟ فبعد عمل الخزانات وضَخِّ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فَتْح الصنبور .
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبَّر ، وحينما يُفكِّر في ظواهر الكون ، ويستخدم المادة الخام التي خلقها الله وحثَّنا على التفكُّر فيها والاستنباط منها . . وكأن الحق سبحانه يقول لنا : لقد أعطيتكم ضروريات الحياة ، فإنْ أردتُم ترفَ الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبّر لتصلوا إلى هذه الكماليات .
وهنا الحق سبحانه يلفتنا لَفْتةً أخرى . . وهي أنه سبحانه يجعل من المحسّات ما يُقرّب لنا المعنويّات ليلفتنا إلى منهجه سبحانه؛ ولذلك ينقلنا هذه النَّقْلة من المحسوس إلى المعنوي ، فيقول تعالى : { والله خَلَقَكُمْ . . . } .
(1/4962)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قوله : { والله خَلَقَكُمْ . . } [ النحل : 70 ] .
هذه حقيقة لا يُنكرها أحد ، ولم يَدّعِها أحدٌ لنفسه ، وقد أمدّكم بمقوِّمات حياتكم في الأرض والنبات والحيوان ، والأنعام التي تعطينا اللبن صافياً سائغاً للشاربين ، ثم النحل الذي فيه شفاء للناس .
فالحق سبحانه أعطانا الحياة ، وأعطانا مٌقوِّمات الحياة ، وأعطانا ما يُزيل معاطبَ الحياة . . وما دُمْتم صدَّقتم بهذه المحسَّات فاسمعوا :
{ والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر . . . } [ النحل : 70 ] .
وساعة أن نسمع ( خلقكم ) ، فنحن نعترف أن الله خلقنا ، ولكنْ كيف خلقنا؟ هذه لا نعرفها نحن؛ لأنها ليستْ عملية معملية . . فالذين خلق هو الحق سبحانه وحده ، وهو الذي يُخبرنا كيف خلق . . أما أنْ يتدخَّل الإنسان ويُقحِمَ نفسه في مسألة لا يعرفُها ، فنرى مَنْ يقول إن الإنسان أَصلْه قرد . . إلى آخر هذا الهُراء الذي لا أَصْلَ له في الحقيقة .
ولذلك ، فالحق سبحانه يقول لنا : إذا أردتُمْ أن تعرفوا كيف خُلِقْتُم فاسمعوا مِمَّنْ خلقكم . . إياكم أنْ تسمعوا من غيره؛ ذلك لأنني : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [ الكهف : 51 ] .
هذه عملية لم يُطلع الله عليها أحداً : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] .
أي : ما اتخذتُ مساعداً يعاونني في مسألة الخَلْق .
وما هو المضلّ؟ المضِلّ هو الذي يقول لك الكلام على أنه حقيقة ، وهو يُضلُّك .
إذن : ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مُقدّماً : احذروا ، فسوف يأتي أناس يُضلونكم في موضوع الخَلْق ، وسوف يُغيّرون الحقيقة ، فإياكم أنْ تُصدِّقوهم؛ لأنهم ما كانوا معي وقت أنْ خلقتكم فيدَّعُون العلم بهذه المسألة .
ونفس هذه القضية في مسألة خَلْق السموات والأرض ، فالله سبحانه هو الذي خلقهما ، وهو سبحانه الذي يُخبرنا كيف خلق .
فحين يقول سبحانه :
{ والله خَلَقَكُمْ . . } [ النحل : 70 ] .
فعلينا أن نقول : سَمْعاً وطاعة ، وعلى العين والرأس . . يا ربِّ أنت خلقتنا ، وأنت تعلم كيف خلقتنا ، ولا نسأل في هذا غيرك ، ولا نُصدِّق في هذا غير قَوْلك سبحانك .
ثم يقول تعالى :
{ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ . . } [ النحل : 70 ] .
أي : منه سبحانه كان المبدأ ، وإليه سبحانه يعود المرجع . . وما دام المبدأ من عنده والمرجع إليه ، وحياتك بين هذين القوسين؛ فلا تتمرد على الله فيما بين القوسين؛ لأنه لا يليق بك ذلك ، فأنت منه وإليه . . فلماذا التمرد؟
ربُّنا سبحانه وتعالى هنا يُعطينا دليلاً على طلاقة قدرته سبحانه في أمر الموت ، فالموت ليس له قاعدة ، بل قد يموت الجنين في بطن أمه ، وقد يموت وهو طفل ، وقد يموت شاباً أو شيخاً ، وقد يرد إلى أرذل العمر ، أي : يعيش عمراً طويلاً . . وماذا في أرذل العمر؟!
يُرَدُّ الإنسان بعد القوة والشباب ، بعد المهابة والمكان ، بعد أنْ كان يأمر وينهي ويسير على الأرض مُخْتالاً ، يُرَدُّ إلى الضَّعْف في كل شيء ، حتى في أَمْيز شيء في تكوينه ، في فكره ، فبعد العِلْم والحِفْظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير ، لا يذكر شيئاً ولا يقدر على شيء .
(1/4963)
ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك ، بل موهوبة لك من خالقك سبحانه ، ولتعلم أنه سبحانه حينما يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستْر لنا من الضعف والشيخوخة ، قبل أن نحتاج لمن يساعدنا ويُعينُنا على أبسط أمور الحياة ويأمر فينا مَنْ كُنّا نأمره .
ومن هنا كان التوفّي نعمة من نِعَم الله علينا ، ولكي تتأكد من هذه الحقيقة انظر إلى مَنْ أمدّ الله في أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن " أرذل العمر " وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس إليه .
الوفاة إذن نعمة ، خاصة عند المؤمن الذي قدّم صالحاً يرجو جزاءه من الله ، فتراه مُسْتبشراً بالموت؛ لأنه عمَّر آخرته فهو يُحب القدوم عليها ، على عكس المسرف على نفسه الذي لم يُعِدّ العُدّة لهذا اليوم ، فتراه خائفاً جَزِعاً لعلمه بما هو قادم عليه .
و ( ثُمَّ ) حَرْف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي . . أي : مرور وقت بين الحدثين . . فهو سبحانه خلقكم ، ثم بعد وقت وتراخٍ يحدث الحدَث الثاني ( يتوفّاكم ) . على خلاف حرف ( الفاء ) ، فهو حرف عطف يفيد الترتيب مع التعقيب أي : تتابع الحدثين ، كما في قوله تعالى : { أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ عبس : 21 ] .
فبعد الموت يكون الإقبار دون تأخير .
وقوله تعالى : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر . . . } [ النحل : 70 ] .
وأرذل العمر : أردؤه وأقلّه وأخسُّه؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئاً ، فقال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة . . . } [ النحل : 78 ] .
وهذه هي وسائل العلم في الإنسان ، فإذا رُدَّ إلى أرذل العمر فقدتْ هذه الحواسّ قدرتها ، وضَعُفَ عملها ، وعاد الإنسان كما بدأ لا يعلم شيئاً بعد ما أصابه من الخَرف والهرم ، فقد توقفتْ آلات المعرفة ، وبدأ الإنسان ينسى ، وتضعف ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه .
وقوله : { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً . . } [ النحل : 70 ] .
لذلك يُسمُّون هذه الحواس الوارث .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :
{ إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ النحل : 70 ] .
لأنه سبحانه بيده الخَلْق من بدايته ، وبيده سبحانه الوفاة والمرجع ، وهذا يتطلَّب عِلْماً ، كما قال سبحانه : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ . . } [ الملك : 14 ] .
فلا بُدَّ من عِلم ، لأن الذي يصنع صَنْعة لا بُدَّ أن يعرفَ ما يُصلحها وما يُفسِدها ، وذلك يتطلَّب قدرة للإدراك ، فالعلم وحده لا يكفي .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله فَضَّلَ . . } .
(1/4964)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط ، هو أننا عبيدٌ لله . . نحن سواسية في هذه فقط ، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه ، تختلف ألواننا ، تختلف أجسامنا . . صورنا . . مواهبنا . . أرزاقنا .
والعجيب أن هذا الاختلاف هو عَيْنُ الاتفاق؛ ذلك لأن الاختلاف قد ينشأ عنه الاتفاق ، والاتفاق قد ينشأ عنه الاختلاف .
مثلاً : إذا دخلتَ أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة . . أنت بطبيعتك تحب صدر الدجاجة وصديقك يحب جزاءً آخر منها . . هذا خلاف . . فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا الخلاف هو عين الوفاق حيث تأخذ أنت ما تحب ، وهو كذلك . . هذا خلاف أدى إلى وفاق . . فلو فرضنا أن كلانا يحب الصدر مثلاً . . هذا وفاق قد يؤدي إلى خلاف إذا ما حضر الطعام وجلسنا : أينا يأخذ الصدر؟!
فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء ، وأراد أن يكون هذا الاختلاف تكاملاً فيما بيننا . . فكيف يكون التكامل إذن؟
هل نتصور مثلاً أن يُوجَد إنسان مجمعاً للمواهب ، بحيث إذا أراد بنا بيت مثلاً كان هو المهندس الذي يرسم ، والبنَّاء الذي يبني ، والعامل الذي يحمل ، والنجار والحداد والسباك . . الخ . هل نتصور أن يكون إنسان هكذا؟ . . لا . .
ولكن الخالق سبحانه نثَر هذه المواهب بين الناس نَثْراً لكي يظل كل منهم محتاجاً إلى غيره فيما ليس عنده من مواهب ، وبهذا يتم التكامل في الكون .
إذن : الخلاف بيننا هو عَين الوفاق ، وهو آية من آياته سبحانه وحكمة أرادها الخالق جَلَّ وعَلا ، فقال : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ هود : 118 ] .
فقد خلقنا هكذا .
وإلا فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب ، فهل يعقل أن نكون جميعاً فلاسفة ، أطباء ، علماء ، فمَنْ يبني؟ ومَنْ يزرع؟ ومَنْ يصنع؟ . . الخ .
إذن : من رحمة الله أنْ جعلنا مختلفين متكاملين .
فالحق سبحانه يقول :
{ فِي الرزق . . . } [ النحل : 71 ] .
ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة ، فهو عندهم المال ، فهذا غنيّ وهذا فقير . . والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط ، بل كُلّ شيء تنتفع به فهو رِزْقك . . فهذا رِزْقه عقله ، وهذا رِزْقه قوته العضلية . . هذا يفكر وهذا يعمل .
إذن : يجب ألاَّ ننظر إلى الرزق على أنه لَوْن واحد ، بل ننظر إلى كل ما خلق الله لخَلْقه من مواهب مختلفة : صحة ، قدرة ، ذكاء ، حِلْم ، شجاعة . . كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل بين الناس .
والحق سبحانه وتعالى حينما تعرَّض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مُبْهماً ، ولم تحدد الآية مَنِ الفاضل ومَنِ المفضول ، فكلمة بَعْضٍ مُبْهمة لنفهم منها أن كل بعض منَ الأبعاض فاضل في ناحية ، ومفضول في ناحية أخرى .
(1/4965)
. فالقوي فاضل على الضعيف بقوته ، وهو أيضاً مفضول ، فربما كان الضعيف فاضلاً بما لديه من علم أو حكمة . . وهكذا .
إذن : فكلُّ واحد من خَلْق الله رَزَقه الله موهبة ، هذه الموهبة لا تتكرر في الناس حتى يتكامل الخَلْق ولا يتكررون . . وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الآخر فالمصلحة تقتضي أن يرتبط الطرفان ، لا ارتباط تفضُّل ، وإنما ارتباط حاجة . . كيف؟
القويُّ يعمل للضعيف الذي لا قوةَ له يعمل بها ، فهو إذن فاضل في قوته ، والضعيف فاضل بما يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقُوتَ نفسه وعياله ، فلم يشأ الحق سبحانه أنْ يجعلَ الأمر تفضُّلاً من أحدهما على الآخر ، وإنما جعله تبادلاً مرتبطاً بالحاجة التي يستبقي بها الإنسان حياته .
وهكذا يأتي هذا الأمر ضرورة ، وليس تفضَّلاً من أحد على أحد؛ لأن التفضُّل غير مُلْزَم به فليس كل واحد قادراً على أن يعطي دون مقابل ، أو يعمل دون أجر . . إنما الحاجة هي التي تحكم هذه القضية .
إذن : ما الذي ربط المجتمع؟ هي الحاجة لا التفضُّل ، وما دام العالم سيرتبط بالحاجة ، فكل إنسان يرى نفسه فاضلاً في ناحية لا يغترّ بفاضليته ، بل ينظر إلى فاضلية الآخرين عليه؛ وبذلك تندكُّ سِمَة الكبرياء في الناس ، فكلٌّ منهما يُكمل الآخر .
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالباشا الغني صاحب العظمة والجاه . . والذي قد تُلْجِئه الظروف وتُحوجه لعامل بسيط يُصلح له عُطْلاً في مرافق بيته ، وربما لم يجده أو وجده مشغولاً ، فيظل هذا الباشا العظيم نَكِداً مُؤرّقاً حتى يُسعفه هذا العامل البسيط ، ويقضي له ما يحتاج إليه .
هكذا احتاج صاحب الغنى والجاه إلى إنسان ليس له من مواهب الحياة إلا أنْ يقضي مثل هذه المهام البسيطة في المنزل . . وهو في نفس الوقت فاضل على الباشا في هذا الشيء .
فالجميع إذن في الكون سواسية ، ليس فينا مَنْ بينه وبين الله سبحانه نسب أو قرابة فيجامله . . كلنا عبيد لله ، وقد نثر الله المواهبَ في الناس جميعاً ليتكاملوا فيما بينهم ، وليظل كُلٌّ منهم محتاجاً إلى الآخر ، وبهذا يتم الترابط في المجتمع .
وقد عُرِضَتْ هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً . . } [ الزخرف : 32 ] .
البعض يفهم أن الفقير مُسخّر للغنيّ ، لكن الحقيقة أن كلاً منهما مُسخَّر للآخر . . فالفقير مُسخّر للغني حينما يعمل له العمل ، والغني مُسخّر للفقير حينما يعطي له أجره . .
ولذلك فالشاعر العربي يقول :
النَّاسُ لِلْناسِ مِنْ بَدْوٍ وحاضرة ... بَعْضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ
ونضرب هنا مثلاً بأخسِّ الحرف في عُرْف الناس وإنْ كانت الحِرف كلها شريفة ، وليس فيها خِسَّة طالما يقوت الإنسان منها نفسه وعياله من الحلال .
(1/4966)
. فالخِسَّة في العاطل الأخرق الذي يُتقِن عملاً .
هذا العامل البسيط ماسح الأحذية ينظر إليه الناس على أنهم افضل منه ، وأنه أقل منهم ، ولو نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء والمهندسين والأغنياء يعملون له هذه العلبة ، وهو فاضل عليهم جميعاً حينما يشتري علبة الورنيش هذه . . لكن الناس لا ينظرون إلى تسخير كل هؤلاء لهذا العامل البسيط .
فقوله تعالى : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً . . } [ الزخرف : 32 ] .
مَنْ مِنّا يُسخّر الآخر؟! كُلٌّ منا مُسخَّر للآخر ، أنت مُسخَّر لي فيما تتقنه ، وأنا مُسخَّر لك فيما أتقنه . . هذه حكمة الله في خَلْقه ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع .
وربُّنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا . . يعني هذا لكذا وهذا لكذا . . لا . . الذي يرضى بقدر الله فيما يُناسبه من عمل مهما كان حقيراً في نظر الناس ، ثم يُتقن هذا العمل ويجتهد فيه ويبذل فيه وُسْعه يقول له الحق سبحانه : ما دُمْتَ رضيتَ بقدري في هذا العمل لأرفعنّك به رِفْعة يتعجَّب لها الخَلْق . .
وفعلاً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه : كان شيالاً . . كان أجيراً . . نعم كان . . لكنه رَضِي بما قسم الله وأتقن وأجاد ، فعوَّضه الله ورفعه وأعلى مكانته .
ولذلك يقولون : مَنْ عمل بإخلاص في أيّ عمل عشر سنين يُسيّده الله بقية عمره ، ومَنْ عمل بإخلاص عشرين سنة يُسيّد الله أبناءه ، ومَنْ عمل ثلاثين سنة سيَّد الله أحفاده . . لا شيء يضيع عند الله سبحانه .
فليس فينا أَعْلى وأَدْنى ، وإياك أنْ تظنَّ أنك أعلى من الناس ، نحن سواسية ، ولكن مِنَّا من يُتقِن عمله ، ومِنَّا مَنْ لا يتقن عمله؛ ولذلك قالوا : قيمة كل امرئ ما يُحسِنه .
ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان ، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا ، وسوف تجد أن الحق سبحانه عادلٌ في تقسيم المواهب على الناس .
وقد ذكرنا أنك لو أجريتَ معادلة بين الناس لوجدتَ مجموع كل إنسان يساوي مجموع كُلِّ إنسان ، بمعنى أنك لو أخذتَ مثلاً : الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة . . الخ لوجدت نصيب كُلٍّ منّا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الآخر ، فأنت تزيد عني في القوة ، وأنا أزيد عنك في العلم ، وهكذا . . لأننا جميعاً عبيدٌ لله ، ليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة .
وقوله تعالى :
{ فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ . . . } [ النحل : 71 ] .
فما ملكت أيمانهم : هم العبيد المماليك . . والمعنى : أننا لم نَرَ أحداً منكم فضّله الله بالرزق ، فأخذه ووزّعه على عبيده ومماليكه ، أبداً . . لم يحدث ذلك منكم . . والله سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف ، ولا يطلب منهم أنْ يُوزّعوا رزق الله على عبيدهم ، ولكن في الآية إقامةٌ للحجة عليهم ، واستدلال على سُوء فعلهم مع الله سبحانه وتعالى .
(1/4967)
وكأن القرآن يقول لهم : إذا كان الله قد فُضَّل بعضكم في الرزق ، فهل منكم مَنْ تطوع برزق الله له ، ووزَّعه على عبيده؟ . . أبداً . . لم يحدث منكم هذا . . فكيف تأخذون حق الله في العبودية والألوهية وحقّه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح ، وتجعلونه للأصنام والأوثان؟!
فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون . . فكيف تسمحون لأنفسكم أنْ تأخذوا حقَّ الله ، وتعطوه للأصنام والأوثان؟
ويقول تعالى في آية أخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ . . } [ الروم : 28 ] .
أي : أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم ، فكيف تفعلونه مع الله؟ فهذه لَقْطة : أنكم تُعاملون الله بغير ما تُعاملون به أنفسكم :
{ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ . . . } [ النحل : 71 ] .
أي : أنكم سوَّيتُم بين الله سبحانه وبين أصنامكم ، وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم مع الله .
والحق سبحانه وإنْ رزقنا وفضَّلَنا فقد حفظ لنا المال ، وحفظ لنا الملكية ، ولم يأمرنا أن نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع ، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ . . } [ البقرة : 245 ] .
مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنِّعَم ، يطلب منك أنْ تُقرِضه ، وكأنه سبحانه يحترم عملك ومجهودك ، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لَك . . فيقول : أقرضني . لعلمه سبحانه بمكانة المال في النفوس ، وحِرْص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند المقترض ، فجعل القرض له سبحانه لتثقَ أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله .
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله :
{ أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } [ النحل : 71 ] .
أي : بعد أنْ أنعم الله عليهم بالرزق ، ولم يطلب منهم أنْ ينثروه على الغير ، جحدوا هذه النعمة ، وأنكروا فَضْل الله ، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان ، وأخذوا حَقَّ الله في العبودية والألوهية وأعطوْهُ للأصنام والأوثان ، وهذا عَيْنُ الجحود وإنكار الجميل .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ . . . } .
(1/4968)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
الحق سبحانه في الآية السابقة قنَّن لنا قضية القمة قضية العقيدة في أننا لا نعطي شيئاً جعله الله لنفسه سبحانه من العبودية والألوهية والطاعة وغيرها ، لا نعطيها لغيره سبحانه . . وإذا صَحَّتْ هذه القضية العَقدية صَحَّتْ كل قضايا الكون .
ثم بيَّن سبحانه أنه خلقنا من واحد ، ثم خلق من الواحد زوجة له ، ليتم التناسل والتكاثر . . إذ إن استمرارَ بقائكم خاضعٌ لأمرين :
الأمر الأول : استبقاء الحياة ، وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الأرزاق ، فنأكل ونشرب فنستبقي الحياة ، فبعد أنْ تحدّث عن استبقاء الحياة بالرزق في الآية السابقة ذكر :
الأمر الثاني : وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع ، فقال سبحانه :
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً . . . } [ النحل : 72 ] .
والأزواج : جمع زوج ، والزوج لا يعني الرجل فقط ، بل يعني الرجل والمرأة؛ لأن كلمة ( زوج ) تُطلَق على واحد له نظير من مثله ، فكلُّ واحد منهما زَوْج . . الرجل زوج ، والمرأة زوج ، فتُطلق إذن على مُفْرد ، لكن له نظير من مثل .
و { مِّنْ أَنْفُسِكُمْ } [ النحل : 72 ] .
أي : من نَفْس واحدة ، كما قال في آية أخرى : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا . . . } [ الزمر : 6 ] .
يعني : أخذ قطعة من الزوج ، وخلق منها الزوجة ، كما خلق سبحانه حواء من آدم عليهما السلام .
أو : { وَخَلَقَ مِنْهَا . . } [ النساء : 1 ] .
أي : من جنسها ، كما قال تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . . } [ التوبة : 128 ] .
أي : من جنسكم .
فالمسألة تحتمل المعنيين . . مَن اتسع ظنُّه إلى أن الله خلق حواء من ضِلع آدم أي : منه ، من بعضه فلا مانع ، ومَنْ قال : خلق الله حواء كما خلق آدم خَلْقاً مستقلاً ، ثم زَاوَج بينهما بالزواج فلا مانع . . فالأول على معنى البَعْضية ، والثاني على معنى من جنسكم .
قلنا : إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمةُ آحاداً . . كما لو قال المعلم لتلاميذه : أخرجوا كتبكم ، فهو يخاطب التلاميذ وهم جمع . وكتبهم جمع ، فهل سيُخرِج كل تلميذ كُتب الآخرين؟! . . لا . . بل كل منهم سيُخرج كتابه هو فقط . . إذن : القسمة هنا تقتضي آحاداً . . وكذلك المعنى في قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً . . . } [ الروم : 21 ] .
أي : خلق لكل منكم زَوْجاً .
ولكي نتأكد من هذه الحقيقة ، وأن الخَلْق بدأ بآدم عليه السلام نردُّ الأشياء إلى الماضي ، وسوف نجد أن كُلَّ متكاثر في المستقبل يتناقص في الماضي . . فمثلاً سُكّان العالم اليوم أكثر من العام الماضي . . وهكذا تتناقص الأعداد كلما أوغلنا في الماضي ، إلى أن نصلَ إلى إنسان واحد هو آدم عليه السلام ومعه زوجه حواء ، لأن أقلَّ التكاثر من اثنين .
إذن : قوله سبحانه : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا . . }
(1/4969)
[ النساء : 1 ] .
كلام صحيح يؤيّده الاستقراء والإحصاء .
لذلك يمتنُّ ربّنا سبحانه علينا أنْ خلقَ لنا أزواجاً ، ويمتنُّ علينا أن جعل هذا الزوج من أنفسنا ، وليس من جنس آخر ، لأن إلْفَ الإنسان وأنْسه لا يتم إلا بجنسه ، وهذه من أعظم نعم الله علينا ، ولك أن تتصوَّر الحال إذا جعل الله لنا أزواجاً من غير جنسنا!! كيف يكون؟!
هذا الزوج اشترك معنا في أشياء ، واختلف عنّا في شيء واحد ، اتفقنا في أشياء : فالشكل واحد ، والقالب واحد ، والعقل واحد ، والأجزاء واحدة : عينان وأذنان . . يدان ورجْلان . . الخ ، وهذا الاشتراك يُعين على الارتقاء والمودة والأنْس والألْفة .
واختلفنا في شيء واحد هو النوع : فهذا ذكر ، وهذه أنثى . إذن : جمعنا جنس ، وفرَّقنا النوع لِيتمّ بذلك التكامل الذي أراده سبحانه لعمارة الأرض .
وهناك احتمال أن يتحوَّل الذكر إلى أنثى أو الأنثى إلى ذكر ، لذلك خلق الله الاحتياط لهذه الظاهرة ، كأنْ يكونَ للرجل ثَدْي صغير ، أو غيره من الأعضاء القابلة للتحويل ، إذا ما دَعَتْ الحاجة لتغيير النوع . . فهذا تركيب حكيم وقدرة عالية .
إذن :
{ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ . . . } [ النحل : 72 ] .
ليزداد الإلْف والمحبة والأُنْس والمودّة بينكم؛ ولذلك نجد في قصة سيدنا سليمان عليه السلام والهدهد ، حينما تفقَّد الطير وعرف غياب الهدهد قال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 21 ] .
وهذا سلطان الملْك الذي أعطاه الله لسليمان . . قالوا في : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً . . } [ النمل : 21 ] .
أي : يضعه في غير جنْسه . . إذن : وَضْعه في غير جنسه نوع من العذاب . . وتكون ( من أنفسكم ) نعمة ورحمة من الله .
وفي الآية الأخرى يذكر سبحانه عناصر ثلاثة لاستبقاء العلاقة الزوجية ، فيقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ] .
ولو تأملنا هذه المراحل الثلاثة لوجدنا السكن بين الزوجين ، حيث يرتاح كُلٌّ منهما إلى الآخر ، ويطمئن له ويسعد به ، ويجد لديه حاجته . . فإذا ما اهتزتْ هذه الدرجة ونفرَ أحدهما من الآخر جاء دور المودّة والمحبة التي تُمسِك بزمام الحياة الزوجية وتوفر لكليهما قَدْراً كافياً من القبول .
فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الآخر جاء دور الرحمة ، فيرحم كل منهما صاحبه . . يرحم ضَعْفه . . يرحم مرضه . . وبذلك تستمر الحياة الزوجية ، ولا تكون عُرْضة للعواصف في رحلة الحياة .
فإذا ما استنفدنا هذه المراحل ، فلم يَعُدْ بينهما سَكَن ولا مودّة ، ولا حتى يرحم أحدهما صاحبه فقد استحالتْ بينهما العِشرة ، وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للآخر .
وهنا شرع الحق سبحانه الطلاق ليكون حلاً لمثل هذه الحالات ، ومع ذلك جعله ربنا سبحانه أبغض الحلال ، حتى لا نقدم عليه إلا مُضطرِّين مُجْبرين .
وقوله تعالى :
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً .
(1/4970)
. } [ النحل : 72 ] .
البنون هم الحلقة الأولى لاستبقاء الحياة ، والحفَدة وهم وَلَدُ الولد ، هم الحلقة الثانية لاستبقاء الحياة؛ ذلك لأن الإنسان بطبْعه يحب الحياة ويكره الموت ، وهو يراه كل يوم يحصد النفوس من حَوْله . . فإيمانه بالموت مسألة محققة ، فإذا ما تيقَّن أن الحياة تفوته في نفسه أراد أنْ يستبقيَها في وَلَده . . ومن هنا جاء حُبُّ الكثيرين مِنَّا ، للذكور الذين يُمثِّلون امتداداً للآباء .
فإذا ما رزقه الله الأبناء ، وضمن له الجيل الأول تطلّع إلى أنْ يرى أبناء الأبناء؛ ليستبقي الحياة له ولولده من بعده؛ ولذلك فالشاعر الذي يخاطب ابنه يقول له :
أبُنيّ . . يَا أنَا بَعْدَمَا أَقْضِي ... وهذه هي نظرة الناس إلى الأولاد ، أنهم ذِكْر لهم بعد موتهم . . وكأن اسمه موصولٌ لا ينتهي .
ويقول الله تبارك وتعالى :
{ بَنِينَ وَحَفَدَةً . . . } [ النحل : 72 ] .
تدلُّنا على ضرورة الحرص على اندماج الأجيال . . زوجين ، ثم أبناء وحفدة . . فما فائدة اندماج الأجيال؟ ما فائدة المعاصرة والمخالطة بين الجدِّ وحفيده؟
نلاحظ أن الوليد الصغير يبدأ عنده الإدراك بمجرد أنْ تعملَ وسائل الإدراك عنده ، فيبدأ يلتقط مِمَّنْ حوله ويتعلَّم منهم . . فإذا كان له أخوة اكبر منه تعلّم منهم مثلاً بابا . . ماما . . فإذا لم يكُنْ له أخوة نُعلّمه نحن هذه الكلمات .
ولذلك نرى الطفل الثاني أذكى من الأول ، والثالث أذكى من الثاني . . وهكذا لأنه يأخذ ممَّنْ قبله وممَّنْ حوله ، فيزداد بذلك إدراكه ، وتزداد خبراته ومعلوماته .
ولنتصور أن هذا الابن أصبح أباً ، وجاء الحفيد الذي يعاصر الجيلين؛ جيل الأب وجيل الجدِّ ، يشبّ الصغير في أحضانهما ، فتراه يأخذ من أبيه نشاطه في حركة الحياة وسَعْيه للرزق .
في حين أنه يأخذ من جَدِّه القيم الدينية حيث الجد في البيت باستمرار بعد أن تقدَّم به العمر فأقبل على الطاعة والعبادة . . فيسمع منه الصغير قراءة القرآن . . متى يؤذن للظهر . . يا ولد هات المصحف . . يا ولد هات السجادة لأصلي ، إلى غير هذه من الكلمات التي يأخذ منها الصغير هذه القيم .
إذن : الحفيد يلتقط لوناً من النشاط والحركة في جيل أبيه ، ويلتقط لوناً من القيم في جيل جَدِّه؛ ولذلك فإن ابتعاد الأجيال يُسبِّب نقصاً في تكوين الأطفال ، والحق سبحانه يريد أنْ تلتحمَ الأجيال لتكتمل للطفل عناصر التربية بين القيم المعنوية والحركة والنشاط .
وقوله تعالى :
{ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات . . . } [ النحل : 72 ] .
الطيبات في الرزق الذي جعله الله لاستبقاء الحياة ، وفي الزواج الذي جعله الله لاستبقاء النوع .
ثم يقول تعالى :
{ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ } [ النحل : 72 ] .
الباطل : هو الأصنام التي اتخذوها من دون الله .
وفي الآية استفهام للتعجُّب والإنكار . . كيف تكفرون بنعمة الله وقد خلقكم في البَدْء من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها .
(1/4971)
. وجعل لكم من أنفسكم أزواجاً . . وجعل بينكم سكناً ومودة ورحمة ، ثم جعل لكم البنين والحفدة ، ورزقكم من نِعم الحياة ما يستبقي حياتكم ، ومن نِعَم الأزواج ما يستبقي نوعكم ، وجعلكم في نعمة ورفاهية . . خلقكم من عدم ، وأمدَّكم من عُدم .
أبعد ذلك كله تجحدون نعمته وتكفرونها ، وبدل أنْ تُقبِلوا عليه وتلتفتوا إليه تنصرفون إلى عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع . . وهل عملتْ لكم الأصنامُ شيئاً من ذلك؟! هل أنعمتْ عليكم بنعمة من هذه النعم؟!
هذه الأصنام محتاجة إليكم . . تأخذ منكم ولا تعطيكم . . فهذا مائل يريد مَنْ يقيمه . . وهذا كُسِر يحتاج لمن يُصلحه . . انقل الإله . . ضَع الإله في مكان كذا . . الخ .
ولذلك يقول تعالى في الآية بعدها : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ . . . } .
(1/4972)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
والعبادة أن يطيع العابد معبوده ، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب النهي . . فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط؟ نقول : لا بل كل حركة في الحياة تُعين على عبادة فهي عبادة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل :
إذا أردتَ أن تُؤدّي فرض الله في الصلاة مثلاً ، فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة ، ولن تجد هذه القوة إلا بالطعام والشراب ، ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوّره من الطعام . . رغيف العيش . . فانظر كم يّدٌ شاركتْ فيه منذ كان حبةَ قمح تلقى في الأرض إلى أنْ أصبح رغيفاً شهياً .
إن هؤلاء جمعياً الذين أداروا دولاب هذه العملية يُؤدّون حركة إيجابية في الحياة هي في حَدِّ ذاتها عبادة لأنها أعانتْك على عبادة .
أيضاً إذا أردت أنْ تُصلّي ، فواجب عليك أنْ تستر عورتك . . انظر إلى هذا القماش الذي لا تتم الصلاة إلا به . . كُلّ مَنْ أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك . . جميعهم يؤدون عبادة بحركتهم في صناعة هذا القماش .
إذن : كل شيء يُعينك على عبادة الله فهو عبادة ، وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا فهي عبادة .
والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلاة الجمعة ، قال سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . . } [ الجمعة : 9 ] .
لم يأخذهم من فراغ ، بل من عمل ، ولكن لماذا قال سبحانه : ( وَذَرُوا البَيْعَ ) . . لماذا البيع بالذات؟
قالوا : لأن البيع هو غاية كل حركات الحياة ، فهو واسطة بين مُنتج ومُسْتهلك . . ولم يَقُل القرآن : اتركوا المصانع أو الحقول ، لأن هناك أشياء لا تأتي ثمرتها في ساعتها . . فمَنْ يزرع ينتظر شهوراً ليحصد ما زرع ، والصانع ينتظر إلى أن يبيعَ صناعته . . لكن البيع صفقة حاضرة ، فهي محلّ الاهتمام . . وكذلك لم يَقُلْ : ذروا الشراء ، قالوا : لأن البائع يحب أن يبيعَ ، ولكن المشتري قد يشتري وهو كاره . . فأتى القرآن بأدقِّ شيء يمكن أن يربطك بالزمن ، وهو البيع .
فإذا ما انقضتْ الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله . . . } [ الجمعة : 10 ] .
فقوله تعالى :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله . . } [ النحل : 73 ] .
أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يُؤثِرونها على الله . . وهي الأصنام . . فالله سبحانه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات ، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً ، وجعل لهم بنين وحفدة . . كان يجب أن يعبدوه لنعمته وفَضْله . . فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه . . فعندنا عبادة للذات لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته ، وعبادة لصفات الذات في معطياتها ، فمَنْ لم يعبده لذاته عبده لنعمته .
(1/4973)
وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي . . فكيف تكون العبادة إذن في حق هذه الأصنام التي اتخذوها؟! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء ولم تنهكُمْ عن شيء؟! .
وهذا أول نَقْد لعبادة غير الله من شمس أو قمر أو صنم أو شجر .
وكذلك . . ماذا تعطي الأصنام أو غيرها من معبوداتكم لمن عبدها ، وماذا أعدَّتْ لهم من ثواب؟! وبماذا تعاقب مَنْ كفر بها؟ . . إذن : فهو إله بلا منهج .
والتديّن غريزة في النفس يلجأ إليها الإنسان في وقت ضعفه وحاجته . . والله سبحانه هو الذي يحب أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات . . وله منهج يقتضي مطلوبات تدكُّ السيادة والطغيان في النفوس ويقتضي تكليفات شاقة على النفس .
إذن : لجأ الكفار إلى عبادة الأصنام والأوثان لأنها آلهة بلا تكليف ، ومعبودات بلا مطلوبات .
ما أسهل أن يتمحّك إنسان في إله ويقول : أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهى عن شيء! ما أسهل أن يُرضي في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الإله .
لكن يجب ألاّ تنسوا أن هذا الإله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أنْ تطلبوا منه شيئاً ، أو تلجأوا إليه في شدة . . فهذا غير معقول فكما أنهم لا يطلبوا منكم شيئاً ، كذلك لا يملكون لكم نَفْعاً ولا ضراً .
لذلك وجدنا الذين يدَّعُون النبوة . . هؤلاء الكذابون يُيسِّرون على الناس سُبُل العبادة ، ويُبيحون لهم ما حرَّمه الدين مثل اختلاط الرجال والنساء وغيره؛ ذلك لاستقطاب اكبر عدد ممكن من الأتباع .
فجاء مسيلمة الكذاب وأراد أن يُسهِّل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلاة ، وجاء الآخر فقال بإسقاط الزكاة . . وقد جذب هذا التسهيل كثيراً من المغفلين الذين يَضِيقون بالتكليف ، ويميلون لدين سَهْل يناسب هِمَمهم الدَّنية .
وهكذا وجدنا لهؤلاء الكذابين أنصاراً يُؤيّدونهم ويُناصرونهم . . ولكن سرعان ما تتكشف الحقائق ، ويقف هؤلاء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم .
وقوله تعالى :
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً . . } [ النحل : 73 ] .
نلاحظ في هذه الآية نَوْعاً من الارتقاء في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى : { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] .
فنفى عنهم القدرة على الخَلْق ، بل إنهم هم المخلوقون . . يذهب الواحد منهم فيُعجبه حجر ، فيأخذه ويُعمل فيه مِعْوله حتى يُصوِّره على صورة ما ، ثم يتخذه إلهاً يعبده من دون الله .
فلما نفى عنهم القدرة على الخَلْق أراد هنا أنْ يترقّى في الاستدلال ، فنفى عنهم مجرد أنْ يملكوا ، فقد يملك الواحد ما لا يخلقه ، فتُقرّر الآية هنا أنهم لا يملكون . . مجرد الملك .
وقوله تعالى :
{ مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً .
(1/4974)
. } [ النحل : 73 ] .
فالرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، ومن المصدرين يأتي رزق الله ، وبذلك يضمن لنا الحق تبارك وتعالى مُقوِّمات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الأرض .
فإنْ أردتُمْ ترفَ الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة لِتصلوا إلى هذا الترف .
فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله الله لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الأرض .
ونُوضِّح ذلك فنقول : هَبْ أن عندك جبلاً من ذهب ، أو جبلاً من فضة ، وقد عضَّك الجوع في يوم من الأيام . . هل تستطيع أنْ تأكلَ من الذهب أو الفضة؟
إنك الآن في حاجة لرغيف عيش ، لا لجبل من ذهب أو فضة . . رغيف العيش الذي يحفظ لك حياتك في هذا الموقف افضل من هذا كله .
وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه الله لعباده ، أما المال فهو رِزْق غير مباشر ، لا تستطيع أن تأكل منه أو تعيش عليه .
وكلمة : ( شَيْئَاً ) أي : أقلّ ما يُقَال له شيء ، فالأصنام والأوثان لا تملك لهم رزقاً مهما قَلَّ؛ لأنه قد يقول قائل : لا يملكون رِزْقاً يكفيهم . . لا . . بل لا يملكون شيئاً .
ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى :
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ النحل : 73 ] .
أي : لا يملكون لهم رِزْقاً في الحاضر ، ولن يملكوا في المستقبل ، وهذا يقطع الأمل عندهم ، فهُمْ لا يملكون اليوم ، ولن يملكوا غداً؛ ذلك لأن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها وَقْتاً . . وأشياء مُعلّقة يمكن أن تُسْتأنفَ فيما بعد ، فهذه الكلمة :
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ النحل : 73 ] .
حُكْم قاطع لا استئناف له فيما بَعْد .
ولذلك؛ نجد هؤلاء الذين يُحِبّون أنْ يجدوا في القرآن مَأْخذاً يجادلون في قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 1-5 ] .
فهؤلاء يروْن في السورة تكراراً يتنافى وبلاغةَ القرآن الكريم . . نقول : ليس في السورة تكرار لو تأملتُم . . ففي السورة قَطْع علاقات على سبيل التأبيد والاستمرار ، فالحق سبحانه يقول : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] .
في الحاضر ، وفي المستقبل ، وإلى يوم القيامة .
فقوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 2-3 ] .
وهذا قَطْع علاقات في الوقت الحاضر . . ولكن مَنْ يُدرِينا لعلَّنا نستأنف علاقات أخرى فيما بعد . . فجاء قوله تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 4-5 ] .
لا للتكرار ، ولكن لقطع الأمل في إعادة العلاقات في المستقبل ، فالقضية إذن منتهية من الآن على سبيل القَطْع .
كذلك المعنى في قوله تعالى :
{ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ . . . } [ النحل : 73 ] .
أي : لا يستطيعون الآن ، ولا في المستقبل .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ . . . } .
(1/4975)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
الأمثال : جمع مِثْل ، وهو النِّد والنظير .
وفي الآية نَهْي عن أن نُشبِّه الله سبحانه بشيء آخر؛ لأن الحق تبارك وتعالى واحدٌ في ذاته ، واحد في صفاته ، واحد في أفعاله . . إياك أن تقول عن ذات : إنها تشبه ذاته سبحانه ، أو صفات تشبه صفاته سبحانه ، فإنْ وجدت صفة لله تعالى يُوجد مثلها في البشر فاعلم أنها على مقياس . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
فالحق سبحانه ينهانا أنْ نضرب له الأمثال ، إنما هو سبحانه يضرب الأمثال؛ لأنه حكيم يضرب المثَل في محلّه لِيُوضّح القضية الغامضة بالقضية المشاهدة؛ ولذلك يقول تعالى : { وَلِلَّهِ المثل الأعلى . . } [ النحل : 60 ] .
أي : الصفة العليا في كل شيء ، فإذا وجدتَ صفات مشتركة بينكم وبين الحق سبحانه فنزِّه الله عن الشبيه والنظير والنِّد والمثيل وقل : ( ليس كمثله شيء ) .
فأنت موجود والله موجود ، ولكن وجودك مسبوقٌ بعدم ويلحقه العدم ، ووجوده سبحانه لا يسبقه عدم ولا يلحقه العدم .
وقد ضرب الله لنا مثلاً لنفسه سبحانه لِيُوضِّح لنا تنويره سبحانه للكون ، وليس مثَلاً لنوره كما نظنّ . . بل هو مثَل لتنويره لا لنوره .
يقول تعالى في سورة النور : { الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [ النور : 35 ] .
نور السموات والأرض؛ لأنه بالنور تكون الهداية حِسّية أو معنوية . . فالنور الحسِّيُّ مثل نور الشمس والقمر وغيرهما من مصادر الضوء . . هذا النور الحسي هو الذي يُبيّن لنا الأشياء لتسير في الكون على بصيرة وهدى . . فلو حاولتَ السَّيْر ليلاً دون ضَوْء يهديك فسوف تصطدم بالأشياء من حولك : إما أقوى منك يُحطّمك ويُؤذيك ، وإما تكون أنت أقوى منه فتُحطِّمه أنت . . فالذي يهدي خُطَاك هو النور الحسيُّ .
وقد يكون النور معنوياً ، وهو نور القيَم والأخلاق ، وهذا النور يجعلك أيضاً تسير في الحياة على بصيرة وهُدًى ، ويحميك من التخبّط في مجاهل الأفكار والنظريات ، هذا هو النور القِيَمي الذي أنزله الله لنا في كتابه الكريم ، وقال عنه : { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15-16 ] .
فهو نور لكن معنوي . . بالقيم والأخلاق والفضائل . . ولا تقُلْ في هذا المثل : إنه مَثَلٌ لنور الله . . بل مَثَلٌ لسلطان تنويره للكون ، ولو تأمَّلنا بقية الآية لأدركنا ذلك .
(1/4976)
{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ . . . } [ النور : 35 ] .
البعض يقولون : المشكاة هي المصباح . . لا . . المشكاة هي الكُوّة أو الطاقة المسدودة في الجدار يعرفها أهل الريف في بِنَاياتهم القديمة ، وهي تجويف غير نافذ في الجدار يُوضَع فيه المصباح . { المصباح فِي زُجَاجَةٍ } [ النور : 35 ] .
أي : ليس مصباحاً عادياً بل في زجاجة ، وهي تحمي ضَوْء المصباح أنْ يبعثره الهواء من كل ناحية ، وفي نفس الوقت تسمح له بالقدر الكافي من الهواء لاستمرار الاشتعال ، وبذلك يكون الضوء ثابتاً صافياً لا يصدر عنه دُخان يُعكِّر صَفْو الزجاجة .
وأهل الريف يعرفون شعلة الجاز التي ليس لها زجاجة ، وما يصدر عنها من دُخان أسود ضارّ . . إذن : المصباح هنا في غاية الصفاء والقوة؛ لأن الزجاجة أيضاً ليستْ زجاجة عادية ، بل زجاجة كأنها كوكب دُريٌّ ، وكَوْنها كالكوكب الدريّ يعني أنها تُضِيء بنفسها . { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ . . . } [ النور : 35 ] .
هذا المصباح يُوقد بزيت ليس عادياً ، بل هو زيت من زيتونه . . شجرة زيتون معتدلة المناخ . { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ . . . } [ النور : 35 ] .
هذا الزيت وصل من الصفاء والنقاء أنه يُضيء ، ولو لم تمسسه نار؛ ولذلك أعطانا منتهى القوة : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . . } [ النور : 35 ] .
ولذلك قال تعالى في وصف هذا المصباح : { نُّورٌ على نُورٍ . . } [ النور : 35 ] .
وبعد أنْ وقفتَ على أوصاف هذا المصباح ، وأنه يُوضَع في كُوَّة صغيرة ، بالله عليك هل يمكن وجود نقطة مظلمة في هذه الكُوّة؟
إذن : فهذا مَثَلٌ ليس لنوره سبحانه . . فنُوره لا يُدرَكُ ، وإنما هو مثَلٌ لتنويره للكون ، الذي هو كالكُوّة والطاقة في هذا المثل . . فمعنى قوله تعالى : { الله نُورُ السماوات والأرض . . } [ النور : 35 ] .
أي : مُنِّورهما ، فكما أنه لا يُعقل وجود نقطة مظلمة في هذه الكُوّة ، فكذلك نوره سبحانه وتنويره للكون . . وهذا هو النور الحسيّ الذي أمدَّ الله به الكون .
ثم تحدَّث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي يُنزِل على عباد الله الصالحين تجليّاتٍ نورانية ، وفيُوضاتٍ ربانية نتلقّاها في بيوت الله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال * رِجَالٌ . . . } [ النور : 36-37 ] .
وهكذا نجمع بين النور الحسيّ والنور المعنوي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك ، فأبو تمام حينما أراد أن يمدح الخليفة شبَّهه بمشاهير العرب في الشجاعة والكرم والحِلْم والذكاء ، فقال :
إقْدام عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِم ... فِي حِلْم أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاسِ
فاعترض على هذا التشبيه أحد حُسَّاد أبي تمام ، وقال له : كيف تُشبّه الخليفة بأجلاف العرب؟ ففي جيشه ألف واحد كعمرو ، ومن خَزَنته ألف واحد كحاتم . . ولكن يخرج أبو تمام من هذا المأزق ، ويُفلِت من هذا الفخ الذي نصبه له حاسده ، قال على البديهة :
لاَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَرُوداً في النَّدى والبَاسِ
فَاللهُ قَدْ ضربَ الأقَلَّ لِنُورِه ... مثَلاً مِنَ المشْكَاةِ وَالنِّبْراسِ
والحق سبحانه وتعالى وإنْ نهانا نحن أن نضربَ له مثلاً لِقلَّة عِلْمنا ، فهو سبحانه القادر على ضَرْب الأمثال حتى بأقلّ المخلوقات ، وأتفهها في نظرنا .
(1/4977)
. فيقول تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } [ البقرة : 26 ] .
فلا تستقلّ أمر هذه البعوضة ، ولا تستحقر أنْ يجعلها الله مثَلاً؛ لأنه سبحانه لا يستحي أن يضرب بها المثل؛ لأن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك ، وفي أضخم الحيوانات مثل الفيل والجمل؛ ولأن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى منك ، وقد تُعجِزك أنت على قوتك وحيلتك وجبروتك .
يقول تعالى : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] .
بالله عليك ، هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أنْ تستردَ من الذبابة ما أخذتْه من طعامك؟ هل تقدر على هذه العملية؟
إذن : حينما يضرب الله لك مَثَلاً يجب أن تحترم ضَرْب الله للمثل ، وأنْ تبحثَ فيما وراء المثل من الحكمة . . وأنه سبحانه جاء بهذا المثَل لهذا المخلوق الحقير في نظرك لِيُوضِّح لك قضية غامضة يُنبِّهك إليها .
ولأهمية ضَرْب المثَل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ليُقرِّبوا المعنى من الأفهام ، فقد يقف الشاعر أمام قضية معقدة لا يدركها إلا العقلاء ، ويريد الشاعر الوصول بها إلى أفهام العامة . . مثل قضية الحاسد الذي يُظهر بحسده مزايا محسوده ومكارمه ، فقد يتهم البريء بتهمة ظلماً ، فتكون سبباً في رِفْعته بين قومه .
أخذ الشاعر العربي هذا المعنى ، وصاغه شعراً ، وضرب له مثلاً توضيحياً ، فقال :
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلةٍ طُويَتْ ... أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَوْلاَ اشْتِعالُ النَّارِ فِيمَا جَاورَتْ ... مَا كانَ يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ
فانظر كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي ، فقد يكون لديك فضيلة مكتومة مغمورة لا يعرفها أحد ، حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويُشوِّه صورتك ، فإذا بالحقيقة تتكشف للجميع ويُظهر ما عندك من مواهب ، وما لديك من فضائل . . وما أشبه ذلك بالعود طيب الرائحة الذي لا نشمُّ رائحته إلا إذا حرقناه .
وقد كان سبب هذا المثَل الشِّعريّ أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لآخر على أحد بُيوت البلدة وبها عجوز مُقْعدة في حاجة إلى مساعدة ، فكان يساعدها بما يستطيع ، وكان بجوارها منزل إحدى الجميلات التي قد تكون مطمعاً . . فاستغل أحد الحُسَّاد هذه الجيرة ، واتهم الرجل الصالح بأنه يذهب إلى هذه الحسناء . . وفعلاً تتبعه الناس ، فإذا به يذهب لبيت العجوز المقعدة . . ومن هنا عرف الناس عنه فضيلةً لم يكن يعرفها أحد .
وقد رأينا على مَرَّ التاريخ مَنِ اتهِمُوا ظلماً ، وقيل في حقهم ما يندي له الجبين . . ثم أنصفهم القضاء العادل ، وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم ، ولولا ما تعرضوا له من اتهام ما عرفنا مزاياهم ومكارمهم .
وقوله تعالى :
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 74 ] .
وهذه عِلّة النهي عن ضَرْب الأمثال لأننا لا نعلم ، أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب لنا الأمثال؛ لأنه سبحانه يعلم ، ويأتي بالمثَل في محلّه .
وبعد أنْ هيّأنا ربنا سبحانه لتلقِّي الأمثال ، وأعدَّ أذهاننا لاستقبال الأمثال منه سبحانه . . أتى بهذا المثل .
فيقول الحق سبحانه : { ضَرَبَ الله مَثَلاً . . . } .
(1/4978)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلاً له طرفان :
الطرف الأول : عبد : أي مَوْلى ، وصفه بأنه مملوك التصرّف ، وأنه لا يقدر على شيء من العمل؛ ذلك لأن العبد قد يكون عَبْداً ولكنه يعمل ، كمَنْ تسمح له بالعمل في التجارة مثلاً وهو عبد ، وهناك العبد المكاتب الذي يتفق مع سيده على مال يُؤدّيه إليه لينال حريته ، فيتركه سيده يعمل بحريته حتى يجمعَ المال المتفق عليه . . فهذا عَبْد ، ومملوك ، ولا يقدر على شيء من السَّعْي والعمل .
والطرف الثاني : سيد حُرٌّ ، رزقه الله وأعطاه رِزْقاً حَسناً أي : حلالاً طيّباً . . ثم وفّقه الله للإنفاق منه بشتى أنواع الإنفاق : سِراً وجَهْراً . . وهذه منزلة عالية : رِزْق من الله وصفه بأنه حلال طَيب لا شُبْهة فيه ، بعد ذلك وفّقه الله للإنفاق منه . . كُلٌّ حَسْب ما يناسبه ، فمن الإنفاق ما يناسبه السِّرّ ، ومنه ما يُناسبه الجَهْر : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] .
هذان هما طَرَفا المثَل المضروب لَنَا . . ويترك لنا السياق القرآني الحكْم بينهما . . وكأن الحق سبحانه يقول : أنا أرتضي حكمكم أنتم : هل يستوون؟
والحق سبحانه لا يترك لنا الجواب ، إلا إذا كان الجواب سيأتي على وَفْق ما يريد . . ولا جوابَ يُعقل لهذا السؤال إلا أن نقولَ : لا يستوون . . وكأن الحق سبحانه جعلنا ننطق نحن بهذا الحكم .
وقد ضرب الله هذا المثل لعبدة الأصنام ، الذين أكلوا رزق الله وعبدوا غيره ، فمثَّل الحق سبحانه الأصنامَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء .
وضرب المثل الآخر للسيد الذي رزقه الله رزقاً حسناً ، فهو ينفق منه سِرّاً وجَهْراً ، ألم تَرَ إلى قوله تعالى في آية أخرى : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً . . . } [ لقمان : 20 ] .
ليُبين لهم خطأهم في الانصراف عن عبادة الله مع ما أعطاهم من رزق إلى عبادة الأصنام التي لا تعطيهم شيئاً .
ومن هنا تتضح الحكمة في أن الله تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثَل ، وأتى به على صورة سؤال ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم؛ ليقطع عليهم سبيل الإنكار والجدال . ولنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى :
{ هَلْ يَسْتَوُونَ . . . } [ النحل : 75 ] .
فالحديث عن مُثّنى ، وكان القياس أن يقول : هل يستويان ، فلماذا عدل عن المثنى إلى الجمع؟
نقول : لأن المثل وإنْ ضُرِب بمفرد مقابل مفرد إلا أنه ينطبق على عديدين . . مفرد شائع في عديد مملوكين ، وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن ، ذلك لِيُعمّم ضَرْب المثل .
إذن : ليس في اختلاف الضمير هنا ما يتعارض وبلاغة القرآن الكريم ، بل هي دِقّة أداء؛ لأن المتكلّم هو الحق سبحانه وتعالى .
وكذلك في قوله تعالى :
(1/4979)
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا . . } [ الحجرات : 9 ] .
بعضهم يرى في الآية مَأخذاً ، حيث تتحدث عن المثنى ، ثم بضمير الجمع في ( اقْتَتَلُوا ) ، ثم تعود للمثنى في ( بَيْنَهُمَا ) .
نقول لهؤلاء : لو تدبرتُم المعنى لَعرفتم أن ما تتخذونه مأخذاً ، وتعتبرونه اختلافاً في الأسلوب هو منتهى الدقة في التعبير القرآني . . ذلك أن الحديث عن طائفتين : مُثنّى . . نعم . . فلو تقاتلا ، هل ستمسك كل طائفة سَيْفاً لتقاتل الأخرى؟
لا . . بل سيُمسِك كُلُّ جندي منها سَيْفاً . . فالقتال هناك بالمجموع . . مجموع كل طائفة لمجموع الطائفة الأخرى ، فناسب أن يقول : اقتتلوا؛ لأن القتال حركة ذاتية من كُلّ فرد في الطائفتين .
فإذا ما جاء وقت الصُلّح ، هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه؟ لا . . بل الصُّلْح شأْنُ السادة والزعماء والقادة لكل طائفة ، ففي الصُّلْح نعود للمثنى ، حيث ينوب هؤلاء عن طائفة ، وهؤلاء عن طائفة ، ويتم الصُّلْح بينهما .
إذن : اختلاف الضمير هنا آية من آيات الإعجاز البياني؛ لأن المتكلم هو الحق سبحانه وتعالى .
وقوله : { الحمد لِلَّهِ . . . } [ النحل : 75 ] .
كأن الحق سبحانه يقول : الحمد لله أنْ وافقَ حُكْمكم ما أريد ، فقد نطقتُم أنتم وحكمتُمْ .
{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 75 ] .
قوله : أكثرهم لا يعلمون يدل على أن الأقلية تعلم ، وهذا ما يُسمُّونه " صيانة الاحتمال "؛ لأنه لما نزلَ القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل الكتاب يُفكّرون في الإيمان واعتناق هذا الدين ، فلو نفى القرآن العلم عن الجميع فسوف يُصدَم هؤلاء ، وربما صرفهم عَمّا يُفكِّرون فيه من أمر الإيمان ، فالقرآن يصون الاحتمال في أن أُنَاساً منهم عندهم عِلْم ، ويرغبون في الإيمان .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً . . . } .
(1/4980)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
وهذا مَثَلٌ آخر لرجلين أحدهما أبكم ، والأبكم هو الذي لا يتكلم . . ولا بُدّ أن يسبق البكم صَمَمٌ؛ لأن الكلام وليد السَّمْع ، فإذا أخذنا طفلاً عربياً وربَّيناه في بيئة إنجليزية نجده يتكلم الإنجليزية ، والعكس صحيح؛ ذلك لأن الكلام ليس جنساً أو دماً أو لحماً ، بل هو وليد البيئة ، وما تسمعه الأذن ينطق به اللسان . . فإذا لم يسمع شيئاً فكيف يتكلم؟
لذلك ، فربنا سبحانه تعالى يقول عن الكفار : { صُمٌّ بُكْمٌ . . } [ البقرة : 18 ] .
هذا الأبكم لا يقدر على شيء من العمل والنفع لك ، يقول تعالى : { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ . . } [ النحل : 76 ] .
أي : عَالَة على سيده ، لا ينفع حتى نفسه ، ومع ذلك قد يكون عنده حكمة يقضي بها شيئاً لسيده ، حتى هذه ليست عنده .
{ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ . . } [ النحل : 76 ] .
إذن : لا خيرَ فيه ، ولا منفعةَ ألبتة ، لا له ولا لغيره ، هذه صفات الرجل الأول .
فماذا عن مقابله؟
{ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل . . . } [ النحل : 76 ] .
وهذه أول صفات الرجل الآخر ، أنه يأمر بالعدل ، وصفة الأمر بالعدل تقتضي أنه سمح منهجاً ، ووعتْهُ أذنه ، وانطلق به لسانه آمراً بالعدل ، وهذه الصفة تقابل : الأبكم الذي لا يقدر على شيء .
{ وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 76 ] .
أي : أنه يذهب إلى الهدف مباشرة ، ومن أقصر الطرق ، وهذه تقابل : أينما يوجهه لا يَأْتِ بخير .
والسؤال هنا أيضاً : هل يستويان؟ والإجابة التي يقول بها العقل : لا .
وهذا مثَلٌ آخر للأصنام . . فهي لا تسمع ، ولا تتكلم ، ولا تُفصح ، وهي لا تقدر على شيء لا لَها ولا لعابديها . . بل هي عَالَة عليهم ، فهم الذين يأتون بها من حجارة الجبال ، وينحتونها وينصبونها ، ويُصلِحون كَسْرها ، وهكذا هم الذين يخدمونها ولا ينتفعون منها بشيء .
فإذا كنتم لا تُسوُّون بين الرجل الأول والرجل الآخر الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، فكيف تسوون بين إله له صفة الكمال المطلق ، وأصنام لا تملك لكم نفعاً ولا ضراً؟!
أو نقول : إن هذا مثَلٌ للمؤمن والكافر ، بدليل أن الحق سبحانه في المثل السابق قال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً . . . } [ النحل : 75 ] .
وفي مقابله قال : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً . . . } [ النحل : 75 ] .
ولم يقُلْ عبد أو رجل .
إنما هنا قال : { رَّجُلَيْنِ . . . } [ النحل : 76 ] .
فيمكن أن نفهم منه أنه مَثَلٌ للرجل الكافر الذي يمثله الأبكم ، وللرجل المؤمن الذي يمثله مَنْ يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم .
والحق سبحانه يقول : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض . . . } .
(1/4981)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
أراد الحق سبحانه أنْ يُعلمنا منه عالم المُلْك ، ومنه عالم الملكوت . . عالم المُلْك هو العالم المحسّ لنا ، وعالم الملكوت المخفي عنَّا فلا نراه .
ولذلك ، فربنا سبحانه وتعالى لما تكرّم على سيدنا إبراهيم عليه السلام قال : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] .
إذن : لله تعالى في كونه ظاهر وغَيْب . . الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس ، وله أشياء غيبيّة لا يراها أحد ، ولا يطّلع عليها . . حتى في ذاتك أنت أشياء غَيْب لا يعلمها أحد من الناس ، وكذلك عند الناس أشياء غَيْب لا تعرفها أنت . . وهذا الغيب نُسميّه : غَيْب الإنسان .
إذن : فأنا غائب عنّي أشياء ، وغيري غائب عنه أشياء . . هذا الغيب الذي لا نعرفه يَعُدّه بعض الناس نَقْصاً فينا ، وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية؛ لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلمَ غيْبَ الناس فاسمح لهم أنْ يعلموا غَيْبك .
ولو خُيّرت في هذه القضية لاخترتَ أنْ يحتفظ كلٌّ منكم بغَيْبه لا يطلع عليه أحد . . لا أعرف غَيْب الناس ، ولا يعرفون غَيْبي؛ ولذلك يقولون : " المغطى مليح " .
فسَتْر الغيب كمال في الكون؛ لأنه يُربِّي ويُثري الفائدة فيه . . كيف؟
هَبْ أنك تعرف رجلاً مستقيماً كثير الحسنات ، ثم اطلعتَ على سيئة واحدة عنده كانت مستورة ، فسو فترى هذه السيئة كفيلة بأن تُزهِّدك في كل حسناته وتُكرِّهك فيه ، وتدعوك إلى النُّفْرة منه ، فلا تستفيد منه بشيء ، في حين لو سُترتْ عنك هذه السيئةُ لاستطعت الانتفاع بحسناته . . وهكذا يُنمي الغيبُ الفائدةَ في الكون .
وفي بعض الآثار الواردة يقول الحق سبحانه : " يا ابْنَ آدمَ سترْتُ عنك وسترْتُ مِنك ، فإنْ شئتَ فضحْنَا لك وفضحناك ، وإنْ شئت أسبلنَا عليك سِبالَ السِّتر إلى يوم القيامة " فاجعل نفسك الآن المخاطب بهذا الحديث ، فماذا تختار؟
أعتقد أن الجميع سيختار الستْر . . فما دُمْتَ تحب الستر وتكره أنْ يطلعَ الناس على غَيْبك فإياك أنْ تتطاول لتعرفَ غَيْب الآخرين .
والغيب : هو ما غاب عن المدركات المحسَّة من السمع والبصر والشَّمِّ والذَّوْق ، وما غاب عن العقول من الإدراكات المعنوية .
وهناك غيْب وضع الله في كونه مقدمات تُوصِّل إليه وأسباباً لئلا يكونَ غَيْباً . . كالكهرباء والجاذبية وغيرها . . كانت غَيْباً قبل أنْ تُكتشفَ . . وهكذا كل الاكتشافات والأسرار التي يكشفها لنا العلم ، كانت غَيْباً عنّا في وقت ، ثم صارت مُشَاهدة في وقت آخر .
ذلك ، لأن الحق سبحانه لا ينثر لنا كُلَّ أسرار كَوْنه مرة واحدة ، بل يُنزِله بقَدرٍ ويكشفه لنا بحساب ، فيقول سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }
(1/4982)
[ الحجر : 21 ] .
فالذي كان غَيْباً في الماضي أصبح ظاهراً مُشَاهداً اليوم؛ لأن الله سبحانه كشف لنا أسبابه فتوصَّلْنا إليه . . فهذا غَيْب جعل الله له مُقدَّمات يصل إليها مَنْ يبحث في الكون ، فإذا ما أذن الله به ، وحان وقت ميلاده وَفَّق الله أحد الباحثين إلى اكتشافه ، إما عن طريق البحث ، أو حتى الخطأ في المحاولة ، أو عن طريق المصادفة .
ولذلك إذا بحثتَ في كل المخترعات والمكتشفات لوجدت 90% منها جاءت مصادفة ، لم يكونوا بصدد البحث عنها أو التوصل إليها ، وهذا ما نسميه " غيب الأكوان " .
ومثال هذا الغيب : إذا كلفتَ ولدك بِحلِّ تمرين هندسيٍّ . . ومعنى حَلِّ التمرين أنْ يصلَ الولدُ إلى نقطة تريد أنت أنْ يصلَ إليها . . ماذا يفعل الولد؟ يأخذ ما تعطيه من مُعْطيات ، ثم يستخدم ما لديْه من نظريات ، وما يملكه من ذكاء ويستخرج منها المطلوب .
فالولد هنا لم يَأْتِ بجديد ، بل استخدم المعطيات ، وهكذا الأشياء الموجودة في الكون هي المعطيات مَنْ بحثَ فيها توصَّل إلى غيبيَّات الكون وأسراره .
وهذا النوع من الغيب يقول عنه الحق سبحانه : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] .
فإذا أذنَ الله لهم تكشفتْ لهم الأسرار : إما بالبحث ، وإما بالخطأ ، أو حتى بالمصادفة . . فطالما حان وقت ميلاد هذا الغيْب واكتشافه؛ فإن صادف بَحْثاً من البشر التقيا ، وإلاَّ أظهره الله لنَا دون بَحْث ودون سَعْي مِنَّا .
وهناك نوع آخر من الغيب ، وهو الغَيْب المطلق ، وهو غَيْب عن كل البشر استأثر الله به ، وليس له مُقدِّمات وأسباب تُوصَّل إليه ، كما في النوع الأول . . هذا الغَيْب ، قال تعالى في شأنه : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ . . . } [ الجن : 26-27 ] .
فإذا ما أعلمنا الرسول غَيْباً من الغيبيات فلا نقول : إنه يعلم الغيب . . لأنه لا يعلم إلا ما أعلمه الله من الغيب . . إذن : هذا غَيْب لا يدركه أحد بذاته أبداً .
ومن هذا الغَيْب المطلق غَيْبٌ استأثر الله به ، ولا يُطلع عليه أحداً حتى الرسل . . " ولما سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " .
وفي الإسراء والمعراج يحدثنا صلى الله عليه وسلم أن الله قد أعطاه ثلاثة أوعية : وعاء أمره بتبليغه وهو وعاء الرسالة ، ووعاء خَيَّره فيه فلا يعطيه إلا لأهل الاستعداد السلوكي الذين يتقبلون أسرار الله ولا تنكرها عقولهم ، ووعاء منعه فهو خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/4983)
ولذلك يقول راوي الحديث : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وعاءين ، أما أحدهما فقد بثثْتُه أي رويْته وقُلْته للناس ، وأما الآخر فلو بُحْت به لَقُطِع حلقومي هذا ، فهذا من الأسرار التي يختار الرسول صلى الله عليه وسلم لها مَنْ يحفظها .
قوله تعالى :
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض . . } [ النحل : 77 ] .
هذا يُسمُّونه أسلوب قَصْر بتقديم الجار والمجرور ، أي قصر غيب السموات والأرض عليه سبحانه ، فلو قلنا مثلاً : غيب السموات والأرض لله ، فيحتمل أن يقول قائل : ولغير الله ، أما :
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض . . } [ النحل : 77 ] .
أي : له وحده لا شريك له .
ومعنى السموات والأرض ، أي : وما بينهما وما وراءهما ، ولكن المشهور من مخلوقات الله : السماء ، والأرض .
ثم يقول تعالى :
{ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ . . . } [ النحل : 77 ] .
جاءت الآية بهذا الغَيْب الوحيد؛ لأنه الغيب الذي استأثر الله به . . ولا يُجلّيها لوقتها إلا هو . . فناسب الحديث عن الغيب أنْ يأتيَ بهذا الغَيْب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله .
وما هو لَمْح البصر؟
عندنا أفعال متعددة تدلّ كلّها على الرؤية العامة ، وإنْ كان لكل منها معنًى خاصٌّ بها نقول : رأى ونظر ورَمق ولحظ ولمح . . فرأى مثلاً أي بجُمع عينه ، ورمق بأعلى ، ولحظَ بجانب ، فكلُّها مرتبطة بحركة الحدقة ، هذه الحركة ما نسميه باللمح .
إذن : لمح البصر هو تحرُّك حَدقة العين إلى ناحية الشيء المرئي . . فإنْ أردتَ أن ترى ما فوقك تحركتْ الحدقة إلى أعلى ، وإنْ أردتَ أن ترى ما هو أسفل تحركتْ الحدقة إلى أسفل وهكذا .
هذه الحركة هي لَمْح البصر ، انتقال الحدقة من وضع إلى وضع .
إذن : شبَّه الحق تبارك وتعالى أمر الساعة عنده سبحانه بلمح البصر ، ولكن اللمح حدث ، والأحداث تحتاج إلى أزمان ، وقد تطول الأزمان في ذاتها ولكنها تقصر عند الرائي .
وقد قرَّب إلينا العلم الحديث هذه القضية بما توصَّل إليه من إعادة المشاهد المصوَّرة على البطيء ليعطيك فرصة متابعتها بدقة ، فنراهم مثلاً يُعيدون لك مَشْهداً كروياً لترى كل تفاصيله ، فتجد المشهد الذي مَرّ كلمح البصر يُعرَض أمامك بطيئاً في زمن أطول ، في حين أن الزمن في السرعة يتجمع تجمّعاً لا تدركه أنت بأيّ معيار ، لا بالدقيقة ولا بالثانية .
إذن : فهي جزئيات حركة في جزئيات زمان ، فلَمْح البصر الذي هو تحرُّك حَدقة العين تحتاج لوقت ولزمن متداخل ، وليس هكذا أمْر الساعة ، بل هذا أقرب ما يعرفه الإنسان ، وأقرب تشبيه لِفَهْم أمْر الساعة بالنسبة له سبحانه .
إذا قيل لك : ما أمر فلان؟ وما شأنه؟ . تأخذ في سَرْد الأحداث . . حدث كيت وكيت . . فإذا قلنا : ما أمْر الساعة؟ ما شأنها ساعةَ تقوم ، حيث يموت الأحياء أولاً ، ثم يحيا الجميع من لَدُنْ آدم عليه السلام ثم حَشْر وحساب وثواب وعقاب .
(1/4984)
أحداث كثيرة وعظيمة لخلْق متعددين من الإنس والجن . . يحدث هذا كله كلمح البصر بالنسبة لنا ، ولكن إياك أنْ تتصوّر أن هذا يحتاج إلى وقت بالنسبة لله سبحانه .
فالأشياء بالنسبة له سبحانه لا تعالج ، وإنما هي كُنْ فيكون ، حتى كُنْ مكوّنة من حرفين : الكاف لفظ وله زمن ، والنون لفظ وله زمن ، إنما أَمْر الساعة أقرب من الكاف والنون ، ولكن ليس هناك أقلّ من هذا في فَهْمنا .
والحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن أهل القبور ، قال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] .
في حين أننا نرى أنهم غابوا كثيراً في قبورهم . . إذن : كيف يُقَاسُ الزمن؟ . . يُقاس بتتبُّعك للأحداث ، فحينما لا يُوجد حَدَث لا يُوجَد زمن . . وهذا ما نراه في حال النائم الذي لا يستطيع تحديد الزمن الذي نامه إلا على غالب ما يكون في البشر .
ولذلك ، في قصة أهل الكهف الذين ناموا ثلاث مائة عام وتسعة أعوام قالوا : { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . . . } [ المؤمنون : 113 ] .
فهذا هو الغالب في عُرْف الناس؛ ذلك لأنهم استيقظوا فلم يجدوا شيئاً حولهم يدل على زمن طويل . . الحال كما هو لم يتغيَّر فيهم شيء . . فلو استيقظوا فوجدوا أنفسهم شيوخاً بعد أن كانوا فتية لَعلِموا بمرور الزمن . . إذن : الزمن بالنسبة لعدم الحدث زمن مَلْغيّ .
أو نقول : إن أَمْر الساعة في أن الحق سبحانه يجعلها جامعة للناس إلا كلمْح البصر ، فكلّ ما يحدث فيها لا تقيسه بزمن ، لأن الذي يُقاسُ بالزمن إنما هي الأحداث الناشئة من فاعل له قدرة وقوة تتوزع على الزمن .
فلو أردْتَ نَقْل هذا الشيء من هنا إلى هنا فسوف يحتاج منك وقتاً ومجهوداً ، أما لو كلفتَ طفلاً بنقل هذا الشيء فسوف يأخذ وقتاً أكثر ويحتاج مجهوداً أكثر . . إذن : فالزمن يتناسب مع قدرة الفاعل تناسباً عكسياً .
ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدَّث الناس بالإسراء والمعراج قالوا : أتدَّعي أنك أتيتها في ليلة ، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً . . هذا لأن انتقالهم يحتاج لعلاج ومُزَاولة ، تأخذ وَقْتاً يتناسب وقدراتهم في الانتقال بالإبل من مكة إلى بيت المقدس . . ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقل : أسريْتُ ، بل قال : أُسْرِي بي ، الذي أَسْرى به هو الله سبحانه ، فالزمن يُقاس بالنسبة للحق سبحانه وتعالى .
وكذلك إذا قِيسَ زَمن أَمْر الساعة بالنسبة لقدرته سبحانه فإنه يكون كلمح البصر ، أو هو أقرب من ذلك . . إنما هو تشبيه لِنُقرِّب لكم الفهم .
وقوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ النحل : 77 ] .
أي : يكون أمر الساعة كذلك؛ لأن الله قادر على كل شيء ، وما دامت الأحداث تختلف باختلاف القدرات ، فقدرة الله هي القدرة العُلْيا التي لا تحتاج لزمن لفعل الأحداث .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ . . . } .
(1/4985)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
( مِنْ بُطُونِ أُمهَاتِكُم ) المراد الأرحام؛ لأنها في البطون ، والمظروف في مظروف يعتبر مظروفاً ، كما لو قلت : في جيبي كذا من النقود أو في حافظتي كذا من النقود . . العبارتان معناهما واحد .
وأمهاتكم : جمع أم ، والقياس يقتضي أن نقول في جمع أُم : أُمَّات ولكنه قال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] .
بزيادة الهاء .
وساعةَ يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية ، فكل أجهزته تابعة لأمه . . فإذا شاء الله أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة . . وعند الولادة نرى أطباء التوليد يقولون : الجنين في الوضع الطبيعي أو في غير الوضع الطبيعي . . فما معنى الوضع الطبيعي للجنين عند الولادة؟
الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولادة إلى أسفل ، هذا هو الوضع الطبيعي؛ لأن الحق سبحانه أراد أن يُخرجه خَلْقاً آخر : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] .
كأنه كان خلقاً لكنه كان تابعاً لأمه فيُخرجه الله خَلْقاً آخر مُسْتقلاً بذاته . . فتكون الرأس إلى أسفل ، وهي أول ما ينزل من المولود ، وبمجرد نزوله تبدأ عملية التنفس .
ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه ، وبالتنفس تكون له ذاتية ، فإذا ما تعسَّر خروج باقي جسمه فتكون له فرصة التنفس وهذا من لُطْف الله سبحانه؛ لأن الجنين في هذه الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه .
أما إذا حدث العكس فكان الرأس إلى أعلى ، ونزل الجنين بقدميْه ، فبمجرد نزول الرِّجْليْن ينفصل عن أمه ، ويحتاج إلى حياة ذاتية ويحتاج إلى تنفس ، فإذا ما تعسَّرت الولادة حدث اختناق ، ربما يؤدي إلى موت الجنين .
العلم أَخْذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها وعليها دليل؛ وقوله تعالى :
{ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً . . . } [ النحل : 78 ] .
ذلك لأن وسائل العلم والإدراك لم تعمل بَعْد ، فإذا أراد الله له أنْ يعلم يخلق له وسائل العلم ، وهي الحواس الخمس : السمع والبصر والشَّم واللمس والتذوّق ، هذه هي الحواس الظاهرة التي بها يكتسب الإنسان العلوم والمعارف ، وبها يُدرِك ما حوله .
وإنْ كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواسّ الأخرى ، ففي علم وظائف الأعضاء يقولون : إنك إذا حملتَ قطعتين من الحديد مثلاً فبأيّ حاسة تُميّز بينهما من حيث الثقل؟
هذه لا تُعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوّق أو الشّم . . إذن : هناك حاسة جديدة تُميّز الثقَل هي حاسة العضَل .
وكذلك تُوجَد حاسة البَيْن ، التي تتمكن بها من معرفة سُمْك القماش مثلا وأنت في محل الأقمشة ، حيث تفركُ القماش بين أصابعك ، وتستطيع أن تُميّز بين الرقيق والسَّميك .
فالطفل المولود إذن لا يعلم شيئاً ، فهذا أمر طبيعي لأن وسائل العلم والإدراك لديه لم تُؤدِّ مهمتها بَعْد .
وقوله تعالى :
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة .
(1/4986)
. . } [ النحل : 78 ] .
وقد بيَّن لنا علماء وظائف الأعضاء أن هذا الترتيب القرآني للأعضاء هو الترتيب الطبيعي ، فالطفل بعد الولادة يسمع أولاً ، ثم بعد حوالي عشرة أيام يُبصر . . وتستطيع تجربة ذلك ، فترى الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولادته ، ولكن إذا وضعت أصبعك أمام عينيه لا يطرف؛ لأنه لم يَرَ بعد .
ومن السمع والبصر وهما السادة على جميع الحواس تتكون المعلومات التي في الأفئدة ، هذا الترتيب القرآني الوجودي ، وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلمَ الحديث .
ونلاحظ في الآية إفراد السمع ، وجمع الأبصار والأفئدة :
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة . . . } [ النحل : 78 ] .
فلماذا لم يأْتِ السمع جَمْعاً؟
المتحدث هنا هو الحق سبحانه؛ لذلك تأتي الألفاظ دقيقة معجزة . . ولننظر لماذا السمع هنا مفرد؟
فَرٌْق بين السمع وغيره من الحواس ، فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع ، فليس في الأذن ما يمنع السمع ، وليس عليها قفل نقفله إذا أردنا ألاَّ نسمع ، فكأن السمع واحد عند الجميع ، أما المرئي فمختلف؛ لأننا لا ننظر جميعاً إلى شيء واحد . . بل المرائي عندنا مختلفة فهذا ينظر للسقف ، وهذا ينظر للأعمدة . . إلى آخره .
إذن : المرائي لدينا مختلفة . . كما أن للعين قفلاً طبيعياً يمكن إسْداله على العين فلا ترى ، فكأن الأبصار لدينا مختلفة متعددة .
وكذلك الحال في الأفئدة ، جاءت جَمْعاً؛ لأنها متعددة مختلفة ، فواحد يَعِي ويُدرك ، وآخر لا يعي ولا يدرك ، وقد يعي واحد أكثر من الآخر .
إذن : إفراد السمع هنا آيةٌ من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز؛ لأن المتكلمَ هو ربّ العزة سبحانه .
ونلاحظ أيضاً تقديم السمع على باقي الحواس؛ لأنه أول الإدراكات ويصاحب الإنسان منذ أنْ يُولدَ إلى أنْ يفارق الحياة ، ولا يغيب عنه حتى لو كان نائماً؛ لأن بالسمع يتم الاستدعاء من النوم .
وقد قُلْنا في قصة أهل الكهف أنهم ما كان لهم أن يناموا في سُبات عميق ثلاثمائة وتسع سنين إلا إذا حجب الله عنهم هذه الحاسة ، فلا تزعجهم الأصوات . فقال تعالى : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] .
أي : قُلْنا للأذن تعطّلي هذه المدة حتى لا تزعجهم أصوات الصحراء ، وتقلق مضاجعهم ، والله تعالى يريد لهم السُّبات والنوم العميق .
وفي قوله تعالى :
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع . . } [ النحل : 78 ] .
هل توجد هذه الإدراكات بعد الإخراج ( الميلاد ) أم هي موجودة قبله؟ . . يجب أنْ نُفرّق بين السمع وآلته ، فقبل الإخراج تتكون للجنين آلات البصر والسمع والتذوّق وغيرها . . لكنها آلات لا تعمل ، فالجنين في بطن أمه تابع لها ، وليست له حياة ذاتية ، فإذا ما نزل إلى الدنيا واستقلّ بحياته يجعل الله له هذه الآلات تعمل عملها .
إذن : فمعنى :
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع . . . } [ النحل : 78 ] .
(1/4987)
أي : جعل لكم الاستماع ، لا آلة السمع .
وقوله :
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
تُوحي الآية بأن السمع والأبصار والأفئدة ستعطي لنا كثيراً من المعلومات الجديدة والإدراكات التي تنفعنا في حياتنا وفي مُقوّمات وجودنا ، وننفع بها غيرنا ، وهذه النعم تستحقّ منا الشكر .
فكلما سمعتَ صَوْتاً أو حكمة تحمد الله أن جعل لك أُذناً تسمع ، وكلما أبصرتَ منظراً بديعاً تحمد الله أنْ جعلَ لك عيناً ترى ، وكلما شممتَ رائحة زكية تحمد الله أنْ جعل لك أنفاً تشمُّ . . وهكذا تستوجب النعم شُكْر المنعم سبحانه .
ولكي تقف على نِعَم الله عليك انظر إلى مَنْ حُرِموا منها ، وتأمّل حالك وحالهم ، وما أنتَ فيه من نعم الحياة ولذّاتها ، وما هُمْ فيه من حِرْمَان .
ثم ينقلنا الحق سبحانه نقلة أخرى في قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير . . . } .
(1/4988)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
فالحق سبحانه ينقلنا هنا إلى صورة أخرى من صُوَر الكون . . بعد أن حدّثنا عن الإنسان وما حوله . . فالإنسان قبل أنْ يخلقه الله في هذا الوجود أعدَّ له مُقوِّمات حياته ، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء والمياه والهواء ، كل هذه أشياء وُجِدتْ قبل الإنسان ، لِتُهيئ له الوجود في هذا الكون .
والله سبحانه يريد منّا بعد أنْ كفلَ لنا استبقاء الحياة بالرزق ، واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر ، يريد منّا إثراء عقائدنا بالنظر في ملكوت الله وما فيه من العجائب؛ لنستدل على أنه سبحانه هندسَ كَوْنه هندسة بديعة متداخلة ، وأحكمه إحكاماً لا تصادم فيه . { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] .
فالنظر إلى كَوْن الله الفسيح ، كم فيه من كواكب ونجوم وأجرام . كم هو مليء بالحركة والسكون والاستدارة . ومع ذلك لم يحدث فيه تصادم ، ولم تحدث منه مضرة أبداً في يوم من الأيام . . الكون كله يسير بنظام دقيق وتناسق عجيب؛ ولكي تتجلى لك هذه الحقيقة انظر إلى صَنْعة الإنسان ، كم فيها من تصادم وحوادث يروح ضحيتها الآلاف .
هذا مَثلٌ مُشَاهَد للجميع ، الطير في السماء . . ما الذي يُمسكها أنْ تقعَ على الأرض؟ وكأن الحق سبحانه يجب أنْ يُلفتنا إلى قضية اكبر : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ . . } [ فاطر : 41 ] .
فعلينا أن نُصدِّق هذه القضية . . فنحن لا ندرك بأعيننا جرْم الأرض ، ولا جرْم الشمس والنجوم والكواكب . . نحن لا نقرر على معرفة كل مَا في الكون . . إذن : يجب علينا أن نُصدّق قوْل ربنا ولا نجادل فيه .
وإليكم هذا المثل الذي تشاهدونه كل يوم :
{ أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله . . . } [ النحل : 79 ] .
إياك أنْ تقول إنها رَفْرفة الأجنحة ، فنحن نرى الطائر يُثبّت أجنحته في الهواء ، ومع ذلك لا يقع إلى الأرض ، فهناك إذن ما يمسكه من الوقوع؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ . . . } [ الملك : 19 ] .
أي : أنها في حالة بَسْط الأجنحة ، وفي حالة قبْضِها تظل مُعلّقة لا تسقط .
وكذلك نجد من الطيور ما له أجنحة طويلة ، لكنه لا يطير مثل الأوز وغيره من الطيور .
إذن : ليست المسألة مسألة أجنحة ، بل هي آية من آيات الله تمسك هذا الطير في جَوِّ السماء . . فتراه حُراً طليقاً لا يجذبه شيء إلى الأرض ، ولا يجذبه شيء إلى السماء ، بل هو حُرٌّ يرتفع إنْ أراد الارتفاع ، وينزل إنْ أراد النزول .
فهذه آية مُحسَّة لنستدلّ بها على قدرة الله غير المحسَّة إلا بإخبار الله عنها ، فإذا ما قال سبحانه :
(1/4989)
{ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ . . . } [ فاطر : 41 ] .
آمنا وصَدّقنا .
وقوله تعالى :
{ فِي جَوِّ السمآء . . . } [ النحل : 79 ] .
أي : في الهواء المحيط بالأرض ، والمتأمل في الكون يجد أن الهواء هو العامل الأساسي في ثبات الأشياء في الكون ، فالجبال والعمارات وغيرها . . ما الذي يمسكها أنْ تقع؟
إياك أن تظن أنه الأسمنت والحديد وهندسة البناء . . لا . . بل يمسكها الهواء الذي يحيط بها من كل جانب ، بدليل أنك لو فَرَّغتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ فوراً نحو هذا الجانب؛ لأن للهواء ضغطاً ، فإذا ما فرَّغْتَ جانباً منها قَلَّ فيه الضغط فانهارتْ .
فالهواء إذن هو الضابط لهذه المسألة ، وبالهواء يتوازن الطير في السماء ، ويسير كما يهوى ، ويتحرك كما يحب .
ثم يقول تعالى :
{ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 79 ] .
أي : أن الطير الذي يطير في السماء فيه آيات أي عجائب ، عجائب صَنْعة وعجائب خَلْق ، يجب أنْ تتفكَّرُوا فيها وتعتبروا بها .
ولكي نقف على هذه الآية في الطير نرى ما حدث لأول إنسان حاول الطيران . . إنه العربي عباس بن فرناس ، أول مَنْ حاول الطيران في الأندلس ، فعمل لنفسه جناحين ، وألقى بنفسه من مكان مرتفع . . فماذا حدث لأول طائر بشرى؟
طار مسافة قصيرة ، ثم هبط على مُؤخرته فكُسرت؛ لأنه نسي أن المسألة ليست مجرد الطيران ، فهناك الهبوط الذي نسي الاستعداد له ، وفاته أن يعمل له ( زِمكّي ) ، وهو الذيل الذي يحفظ التوازن عند الهبوط .
وكذلك الذين يصنعون الطائرات كم تتكلف؟ وكم فيها من أجهزة ومُعدِات قياس وانضباط؟ وبعد ذلك تحتاج لقائد يقودها أو مُوجّه يُوجّهها ، وحينما أرادوا صناعة الطائرة جعلوها على شكل الطير في السماء له جناحان ومقدمة وذيل ، ومع ذلك ماذا يحدث لو تعطلّ محركها . . أو اختلّ توازنها؟!
إذن : الطير في السماء آية تستحق النظر والتدبُّر؛ لنعلمَ منها قدرة الخالق سبحانه .
ويقول تعالى :
{ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 79 ] .
يؤمنون بوجود واجب الوجود ، يؤمنون بحكمته ودقَّة صنعه ، وأنها لا مثيلَ لها من صنعة البشر مهما بلغتْ من الدقة والإحكام .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن . . } .
(1/4990)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قوله :
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً . . . } [ النحل : 80 ] .
كلمة سكن مأخوذة من السكون ، والسكون ضد الحركة ، فالبيت نُسمّيه سكناً؛ لأن الإنسان يلجأ إليه ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت ، إذن : في الخارج حركة ، وفي البيت سكن .
والسكن قد يكون مادياً كالبيت وهو سكن القالب ، وقد يكون معنوياً ، كما قال تعالى في حَقِّ الأزواج : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا . . } [ الروم : 21 ] .
فالزوجة سكَنٌ معنويٌّ لزوجها ، وهذا يُسمّونه سكن القلب .
فإنْ قال قائل :
{ مِّن بُيُوتِكُمْ . . . } [ النحل : 80 ] .
يعني : نحن الذين صنعناها وأقمناها . فكيف جعلها الله لنا؟ .
نقول : وأنت كيف صنعتها؟ ومِمَ بنيْتها؟ صنعتَها من غابٍ أو خشب ، أو بنيْتها من طين أو طوب . . كل هذه المواد من مادةَ الأرض من عطاء الله لك ، وكذلك العقل الذي يُفكّر ويرسم ، والقوة التي تبني وتُشيّد كلها من الله .
إذن : { جَعَلَ لَكُمْ } إما أنْ يكون جَعْلاً مباشراً ، وإما أنْ يكون غير مباشر . . فالله سبحانه جعل لنا هذه المواد . . هذا جَعْل مباشر ، وأعاننا وقوّانا على البناء . . هذا جَعْلٌ غير مباشر .
لكن في أيّ الأماكن تُبنى البيوت؟
البيوت لا تُبنَى إلا في أماكن الاستقرار ، التي تتوفّر لها مُقوّمات الحياة . . فقبل أن نُنظّم مدينة سكنية نبحث أولاً عن مُقوّمات الاستقرار فيها من مأكل ومشرب ومرافق وخدمات ومياه وصرف . . إلى آخره .
فإن وجدت هذه المقوّمات فلا مانعَ من البناء هنا . . فإذا لم توجد المرافق في الصحراء ومناطق البدو ، هنا لا يناسبها البيوت والبناء الدائم ، بل يناسبها :
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ . . } [ النحل : 80 ] . فنرى أهل البدو يتخذون من الجلود بُيُوتاً مثل الخيمة والفسطاط . . حيث نراهم كثيري التنقُّل يبتغون مواطن الكلأ والعشب ، ويرحلون طَلباً للمرعى والماء ، وهكذا حياتُهم دائمة التنقّل من مكان لآخر . . فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف أو من وَبَر خفيف الحَمْل ، يضعونه أيْنما حَطُّوا رحالهم ، ويرفعونه أينما ساروا . . والظّعْن هو التنقُّل من مكان لآخر .
إذن : كلمة ( سكن ) تفيد الاستقرار ، وتُوفِّر كل مُقوِّمات الحياة؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول لآدم : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة . . } [ البقرة : 35 ] .
أي : المكان الذي فيه راحتكم ، وفي نعيمكم ، فحدّد له مكان إقامة وسكَن . .
ومكان الإقامة هذا قد يكون عَامّاً ، وقد يكون خاصاً ، مثل لو قُلْت : أسكن الإسكندرية . . هذا سكَنٌ عام ، فلو أردتَ السكن الحقيقي الخاص بك لَقُلْتَ : أسكن في شارع كذا ، وفي عمارة رقم كذا ، وفي شقة رقم كذا ، وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة هذه .
إذن : هذا سكَنٌ خاص بك . . سكنُك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة والخصوصية ، فالسكن يحتاج إلى استقرار ذاتيٍّ لا يشاركك فيه أحد؛ ولذلك نرى بعض سكان العمارات يشكُون من الإزعاج والضوضاء ، ويتمنوْنَ أن يعيشوا في بيوت مستقلة تُحقّق لهم الراحة الكافية التي لا يضايقهم فيها أحد .
(1/4991)
إذن : حينما ننظر إلى السكون . . إلى السكن ، نحتاج المكان الضيق الذي يُحقّق لن الخصوصية التامة التي تصل إلى حجرة ، مجرد حجرة ، ولكنها تعني السكن الحقيقي الخاص بي ، وقد تصل الخصوصية أنْ نجعلَ لكل ولد من الأولاد سريراً خاصاً به في نفس الحجرة .
فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا الإنسان على العكس يطلب السعة؛ لأن الحركة تقتضي السعة في المكان ، فمَنْ كان عنده مزرعة يطلب عزبة ، ومن كان عنده عزبة يتمنى ثانية وثالثة وهكذا لأن حركة الحياة تحتاج مجالاً واسعاً فسيحاً .
هذا عن النوع الأول ، وهو السكن المادي سكن القالب ، وهو من أعظم نِعَم الله على عباده . . أن يكون لهم سكَن يأوون إليه ، ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة .
ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يُعذِّب بني إسرائيل ، أشاع سكنهم في الأرض كلها ، وحرمهم من نعمة السكن الحقيقي الخاص ، فقال تعالى : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض . . . } [ الإسراء : 104 ] .
فالأرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس . . فليس لهم بلد تجمعهم ، بل بدَّدهم الله في الأرض ولم يجعل لهم وطناً ، كما قال في آية أخرى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً . . . } [ الأعراف : 168 ] .
حتى في البلاد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في أماكن خاصة بهم لا يذوبون في غيرهم ، وهكذا سكنوا الأرض ولم تحدد لهم بلد .
أما النوع الثاني من السكن ، وهو السكن المعنوي أو سكن القلب ، فهو سكن الزوج إلى زوجته الصالحة التي تُخفّف عنه عناء الحياة وهمومها ، تبتسم في وجهه إنْ كان مسروراً وتُهدِّيء من غضبه إنْ كان مُغْضَباً ، تحتويه بما لديها من حُب وحنان وإخلاص . . هذا هو السكن المعنوي ، سكن القلب .
وقوله :
{ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
الأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والشعر للماعز . . فما الفرْق بين هذه الثلاث في الاستعمال؟
يستعمل الناس كلاً من الصوف والوبر؛ لأن الشُّعيرات فيها دقيقة جداً يمكن نَدْفها وغَزْلها والانتفاع بها في الفُرش والأبسطة والألحفة والملابس وغيرها مما يحتاجه الناس .
أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة لا يمكن نَدْفها أو غَزْلها ، فلا يمكن الانتفاع به في هذه المنسوجات ، وقوله تعالى :
{ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
الأثاث : هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالأبسطة والمفارش والملابس والستائر .
والمتاع : هو ما يُستمتع ويُنتفع به . . والفرْق بينهما أن الأثاث قد يكون ثابتاً لا يتغير كثيراً ، أما المتاع فقد يتغير حسب الحاجة .
فأنت مثلاً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث ، مُلوّن مثلاً ، لكن قلّما تُغير الثلاجة أو الغسالة مثلاً .
(1/4992)
وقوله : { إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
لأن الإنسان قد يغتر حين يستوفي متطلبات حياته ، وقد تلهيه هذه النعم عن مطلوب المنعم سبحانه ، فينشغل بالنعمة التي هو فيها عن المنعم الذي أنعم عليه بها . . فتأتي هذه الآية مُحذّرة .
إياك أنْ تغترّ بالمتاع والأثاث؛ لأنها متاع إلى حين . . متاعٌ موقوت لا يدوم ، ومهما استوفيت حظّك منها في الدنيا فإنها صائرة إلى أمرين :
إما أن تفوتها بالموت ، وإما أنْ تفوتَك بالفقر والحاجة . . إذن : هي ذاهبة ذاهبة . . فتذكّروا دائماً قوله تعالى :
{ إلى حِينٍ . . . } [ النحل : 80 ] . فمتاع النعمة موقوت ، لكن متاع المنعِم سبحانه خالد .
ثم يقول الحق سبحانه : { والله جَعَلَ لَكُمْ . . . } .
(1/4993)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن أصحاب البيوت الذين يناسبهم الاستقرار ، ويجدون مُقوّمات الحياة ، وتكلم عن أهل الترحال والتنقُّل وما يناسبهم من بيوت خفيفة يحملونها عند ترحالهم . ثم تحدث هنا عن هؤلاء الذين لا يملكون شيئاً ، ولا حتى جلود الأنعام . . ماذا يفعل هؤلاء؟
الحق سبحانه جعل لهم الظل يستظِلّون به من وهج الشمس ، وجعل لهم من الكهوف والسراديب في الجبال ما يأوون إليه ويسكنون فيه . وهكذا استوعبتْ الآيات جميع الحالات التي يمكن أن يكون عليها بشر ، فقد نثر الحق سبحانه نعمه على الناس ، بحيث يأخذ كل واحد منهم ما يناسبه من نعم الله .
أما مَنْ لا يملك بيتاً يأويه ، وليس عنده من الأنعام ما يتخذ من جلودها بيتاً ، فقد جعل الله له الأشجار يستظل بها من حَرِّ الشمس ، وجعل له كهوف الجبال تُكِنّه وتأويه .
ونلاحظ هنا أن الآية ذكرتْ الظل الذي يقينا حَرَّ الشمس ، ولم تذكر مثلاً البرد؛ ذلك لأن القرآن الكريم نزل بجزيرة العرب وهي بلاد حارة ، وحاجتها إلى الظل أكثر من حاجتها إلى الدِّفء .
وقوله :
{ ظِلاَلاً . . } [ النحل : 81 ] .
الظلال جمع ظِل ، وهو الواقي من الشمس ومن إشعاعاتها ، وقد يُوصَف الظل بأنه ظِل ظليل . . أي : الظل نفسه مُظلل ، وهذا ما نراه في صناعة الخيام مَثلاً ، حيث يجعلونه لها سقفاً من طبقة واحدة تتلقّى حرارة الشمس ، وإنْ حجبت أشعة الشمس فلا تحجب الحرارة ، وهنا يلجأون إلى جَعْل السقف من طبقتين بينهما مسافة لتقليل حرارة الشمس .
وهنا نقول : إن الظلّ نفسه مُظلّل ، وكذلك الحال في ظِل الأشجار حيث يظلّل الورق بعضه بعضاً ، فتشعر تحت ظِلّ الأشجار بجوٍّ لطيف بارد حيث يغطيك ظِلٌّ ظليل يحجب عنك ضوء الشمس ، ويسمح بمرور الهواء فلا تشعر بالضيق .
لذلك فالشاعر يقول في وصف روضة :
وَقَانَا لَفْحَةَ الرمْضَاءِ وَادٍٍ ... سَقَاهُ مضاعف الغيْثِ العَمِيمِ
يَصُدُّ الشمسَ أَنَّى وَاجهتْنا ... فَيحجُبُها وَيأذنُ للنسِيمِ
وقوله : { أَكْنَاناً . . . } [ النحل : 81 ] .
جمع كِنْ ، وهو الكهف أو المغارة في الجبل تكون سكناً وساتراً لمن يلجأ إليها ويحتمي بها ، والكِنّ من الستر؛ لأنها تستر الناس ونحن نقول مثلاً للولد : انكنْ يعني : اسكُنْ وانستر .
ويقول تعالى :
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ . . . } [ النحل : 81 ] .
السرابيل : هي ما يُلبس من الثياب أو الدروع :
{ تَقِيكُمُ الحر . . . } [ النحل : 81 ] .
أي : تحميكم من الحر . . فقال هنا الحر أيضاً؛ لذلك وجدنا بعض العلماء يحاول أن يجد مخرجاً لهذه الآية فقال : المعنى تقيكم الحر وتقيكم البرد ، ففي الآية اكتفاءٌ بالحر عن البرد؛ لأن الشيء إذا جاء يأتي مقابله . . فليس بالضرورة ذِكر الحالتين ، فإحداهما تعني الأخرى .
هذا دفاع مشكور منهم ، ومعنى مقبول حول هذه الآية .
(1/4994)
. لكن لو فَطنَّا إلى باقي الآيات التي تحدثتْ في هذا الموضوع لوجدناها : واحدة تتكلم عن الحر ، وهي هذه الآية ، وأخرى تتكلَّم عن البرد في قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ . . . } [ النحل : 5 ] .
أي : من جلود الأنعام وأصوافها نتخذ ما يقينا البرد ، وما نستدفئ به . . وهكذا تتكامل الآيات وينسجم المعنى .
والمتأمل في تدفئة الإنسان يجد أن ما يرتديه من ملبوسات لا يعطي للإنسان حرارة تُدفِئه ، بل تحفظ للإنسان حرارة جسمه فقط ، فحرارة الإنسان ذاتية من داخله ، وبهذه الحرارة يحفظ الخالق سبحانه الإنسان .
والأطباء يقولون : إن الجسم السليم حرارته 37 درجة لا تختلف إنْ عاش عند خط الاستواء أو عاش في بلاد الاسكيمو في القطب الشمالي ، فهذه هي الحرارة العامة للجسم .
في حين أن أجهزة الجسم المختلفة ربما اختلفتْ درجة حرارتها ، كُلٌّ حَسب ما يناسبه : فالكبد مثلاً درجة حرارته 40 درجة ، وتختلّ وظيفته إذا نقصت عن هذه الدرجة ، في حين أن درجة حرارة جَفْن العين مثلاً 9 درجة ، ولو ارتفعت درجة حرارتها تذوب حبّة العين ، ويفقد الإنسان البصر . . فسبحان الله الذي حفظ حرارة هذه الأعضاء في الجسم لا يطغى أحدها على الآخر .
لذلك حينما سافرنا إلى أمريكا ، وفي إحدى مناطق البرودة الشديدة كانت أول نصائحهم لنا ألاَّ نمسك آذاننا بأيدينا . . لماذا؟ قالوا : لأن درجة حرارة اليد أقلّ من درجة حرارة الأذن ، ووَضْع اليد الباردة على الأذن قد تُسبِّب كثيراً من الأضرار .
إذن : كل ما نستخدمه من ملابس وأعطية تقينا برد الشتاء لا تعطينا حرارة ، بل تحفظ علينا حرارتنا الطبيعية فلا تتسرب ، وبذلك تتم التدفئة . . وتستطيع أنْ تضعَ يدك على فراشك قبل أن تنام فسوف تجده بارداً ، أما في الصباح فتجده دافئاً . . فالفراش اكتسب الحرارة من حرارة جسمك ، وليس العكس .
وقوله :
{ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ . . . } [ النحل : 81 ] .
البأس هنا : أي الحرب ، والسرابيل التي تقي من البأس هي الدروع التي يلبسها الجنود في الحرب لتقيهم الضربات .
ولكن هذه الآية في سياق الحديث عن بعض نِعَم الله علينا في الاستقرار والسكن وما جعله لنا من بيوت وظلال . . حياة دَعَة وسلام ونعمة ، فما الداعي لذكر الحرب هنا؟
ذلك لأن الحياة لها منطق سلامة للجميع ، فإن اختلّ منطق السلامة فعلى الناس أنْ يقفوا في وجه مَنْ يُخِلّ بسلامة المجتمع . . وأن يكون على استعداد لذلك في كل وقت ، لا بُدّ في وقت السِّلْم أنْ نَعُدَّ العُدّة للحرب؛ لذلك تحدث عن الحرب وعُدتها ، وهو يتحدث عن السكون والاستقرار والنعمة .
والحق سبحانه وتعالى حين يُنزِل الآيات البينات التي تحمل لنا منهج السماء يقول : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط . . . } [ الحديد : 25 ] .
هذا هو المنهج الذي يعتمد على الحجة والإقناع . . فإن لم يصلح هذا المنهج لبعض الناس وتمردوا عليه أتى إذن دور القوة والقهر ، يقول تعالى :
(1/4995)
{ وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . . } [ الحديد : 25 ] .
وقوله :
{ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ . . . } [ النحل : 81 ] .
كأن من تمام نعمة الله أنْ نحفظها ممنْ يُفسدها علينا ، ونقف له بالمرصاد ونضرب على يده؛ لأنه لو تركنا هؤلاء المفسدين في مجتمعنا فسوف يُفسِدون علينا هذه النِّعم ، وسنظل مُهددّين ، لا نشعر بلذة الحياة ومُتعِها .
إذن : لا تتم النعمة إلا بحفظ السلامة العامة للمجتمع .
وقوله : { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ . . } [ النحل : 81 ] .
تُسلِمون : أي تُلْقون زمام الاستسلام إلى الله الذي أسلمتَ له ، وأنت لاَ تُلقي زمامك إلا لمنْ تثق فيه . . والإنسان قد يُلقي زمامه في أمر لا يجيده إلى إنسان مثله يُجيد هذا الأمر ، فإذا كنتَ في حاجات نفسك تُلقي زمامك لمن هو مثلك ، ويساويك في قِلّة المعلومات ، ويساويك في قِلّة الحكمة ، ومع ذلك تُسلِم إليه أمرك لمجرد أنه يجيد شيئاً لا تجيده أنت ، أفلا تُلقي زمامك وتُسلِم أمرك إلى ربك وخالقك ، وخالق كُلِّ هذه النعم من أجلك؟
إذن : جاء ذِكْر هذه النعم ، ثم الأمر بإسلام الوجه لله والتسليم له سبحانه حتى نُسلمَ عن يقين واقتناع ، فالحق تبارك وتعالى ليس له مصلحة في طاعتنا ، ولا تضره معصيتنا ، إنْ أطعناه فلن نزيد في مُلْكِه سبحانه ، وإنْ عصيناه فلن ننقصَ من مُلْكه سبحانه .
إذن : تسليمنا الأمر والزمام لله من مصلحتنا نحن . . فالإنسان حينما يُسلِم زمامه إلى غيره قد يكون للغير مصلحة تَلْوي رَأْيه في المسألة ، إنما ربُّنا سبحانه حينما يُوجِّه إلينا حُكْماً فليس له مصلحة فيه فلا يُلْوَى ، لا يكون إلاّ لصالحك .
وبعد أنْ عدّد هذه النعم في الذات والمحيطات وفي السكن وفي الانطباعات . قال : إياك بعد ذلك أن تُسلِمَ زمامك لغيري ، وإنْ أجريتُ عليك ما يُخرجك عن نفع السلامة؛ لأنني لا أجري عليك ما يُخرجك عن نفس السلامة إلا لغرض أسلم منه .
لذلك نقول : لا عبادة كالتسليم؛ لأن التسليم لحُكْمِه تسليمٌ لحكيم ، تسليمٌ لغير منتفع . . وما دُمْتَ قد سلمْتَ زمامك لربك عز وجل يُجلِّي لك الحكمة فيما جرى لك من الأحداث لتعلمَ رضاك عن حُكْمه لحكمته ، فتقول : أنا رضيتُ بحكمك يا رب .
ولذلك نقول في الدعاء : أحمدك على كُلِّ قضائك ، وجميع قَدرِك حَمْد الرِّضا بحكمك لليقين بحكمتك .
أي : لك حكمة يارب فيما أجريتَ عليَّ من أحداث ، ولكني لا أراها .
والذي يعلم مكانة التسليم لله تعالى فيما يُجرى عليه من أحداث وما يقع به من بلاء لا يضجر ولا يسخط؛ لأنه بذلك يُطيل على نفسه أمدَ القضاء؛ لأن الله لا يرفع قضاءه عن عبده حتى يرضى به ، فالله تعالى لا مُجبر له .
فإن أردت رَفْع القضاء فارْضَ به أولاً ، وإذا لم يرفع عنك القضاء فاعلم أن مكان الرضى من نفسك لم يكُنْ مقبولاً ، قد ترضى بلسانك ولكن قلبك لا يزال ساخطاً ضَجِراً .
(1/4996)
فالذي يُسلم زَمامه إلى الله ويردّ كل حدث وقع أو بلاء نزل بهِ يردُّه إلى الله ، وإلى حكمة مُجريه ، الله تعالى يقول له : لقد فهمتَ عني ، ويرفع عنه البلاء .
وفي مقام التسليم لله دائماً نذكر قصة سيدنا إبراهيم حينما أمره ربه بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام . . وهل هناك بلاء أكثر من أن يُبتلَى الرجل بذبح ولده الذي رُزِقه على كِبَر ، ويذبحه هو بيده .
إنه ابتلاء من مراتب مُتعدِّدة ، ومن نَواحٍ مختلفة ، وليْتَ الأمر بوحي ظاهر ، ولكنه بمنام كان يستطيع أن يتأوَّل فيه ، ولكن رؤيا الأنبياء حق .
ونرى إبراهيم عليه السلام يقصُّ على ولده المسألة حِرْصاً عليه أنْ يتحوّل قلبه عن أبيه ساعةَ يأخذه ليذبحه ، وأيضاً لكي يشاركه ولده في الرضا بقدر الله ، ولا يحرم ثواب هذا الابتلاء . . فقال له : { إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ . . . } [ الصافات : 102 ] .
فليس الغرض هنا أنْ يزعجه أو يُخيفه ، ولكن ليقول له : هذه مسألة تعبدية أمرنا بها الخالق سبحانه ليكون على بصيرة هو أيضاً ، ولا يتغير قلبه على أبيه .
ولذلك كان الولد حكيماً في الرد ، فقال : { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ . . } [ الصافات : 102 ] .
ما دام الأمر من الله فافعل ، وهكذا سلّم إسماعيلُ كما سلَّم إبراهيم ، فقال تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] .
أسلما : أي الأب والابن ، ورَضيا بقضاء الله ، جاء الفرج ورُفِع القضاء ، فقد فهم كل منهما الأمر عن الله ، فلم يرفع القضاء وفقط ، بل وفديناه بذبح عظيم ، ليس هذا وفقط ، بل ومنّنا عليه بولد آخر : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] .
إذن : لعلكم تُسْلِمون زمامكم إلى الله ، وتعلمون أنه خلق لكم الكون قبل أن يُوجِدكم فيه ، وأمدّكم بكل متطلبات الحياة ضماناً لبقاء حياتكم ، وضماناً لبقاء نوعكم ، ومتَّعكم هذه المتع .
فالذي أنعم عليكم بهذا كله عن غير حاجة له عندكم جديرٌ أنْ تُسلِموا له زمام أمركم وتُسلموا له .
ثم يقول الحق سبحانه : { فَإِن تَوَلَّوْاْ . . . } .
(1/4997)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
أي : لا تحزن يا محمد إذا أعرض قومك ، فلست مأموراً إلا بالبلاغ ، ويخاطبه الحق سبحانه في آية أخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] .
أي : مهلكها . وقال تعالى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] .
لكن الدين لا يقوم على السيطرة على القالب ، وفَرْق بين السيطرة على القالب والسيطرة على القلب ، فيمكنك بمسدس في يدك أنْ تُرغمني على ما تريد ، لكنك لا تستطيع أبداً أن تُرغم قلبي على شيء لا يؤمن به ، والله يريد مِنّا القلوب لا القوالب ، ولو أراد مِنّا القوالب لجعلها راغمة خاضعة لا يشذّ منها واحد عن مراده سبحانه .
ولذلك حينما أرسل الله سليمان عليه السلام وجعله ملكاً رسولاً لم يقدر أحد أن يقف في وجهه ، أو يعارضه لما له من السلطان والقوة إلى جانب الرسالة . . أمّا الأمر في دعوته صلى الله عليه وسلم فقائم على البلاغ فقط دون إجبار .
وقوله : { البلاغ المبين } [ النحل : 82 ] .
أي : البلاغ التام الكامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة وحركاتها ، فقد جاء المنهج الإلهي شاملاً للحياة بداية بقول : لا إله إلا الله حتى إماطة الأذى عن الطريق ، فلم يترك شيئاً إلا حدّثنا فيه ، فهذا بلاغ مبين محيط لمصالح الناس . . فلا يأتي الآن مَنْ يتمحّك ويقول : ربنا ترك كذا أو كذا . . فمنهج الله كامل ، فلو لم تأخذوه ديناً لوجب عليكم أن تأخذوه نظاماً .
ونرى الآن الأمم التي تُعادي الإسلام تتعرّض لمشاكل في حركة الحياة لا يجدون لها حَلاًّ في قوانينهم ، فيضطرون لحلول أخرى تتوافق تماماً أو قريباً من حَلّ القرآن ومنهج الحق سبحانه وتعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله . . } .
(1/4998)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
وقد حكى القرآن عنهم في آيات أخرى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] .
وقال عنهم : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ . . . } [ النمل : 14 ] .
ذلك لأنهم يعلمون تماماً أن الله خلقهم ، وأنه خلق السموات والأرض . . يعلمون كل نِعَم الله عليهم ، ومع ذلك يُنكرونها ويجحدونها . . لماذا؟
لأن الإيمان بالله والاعتراف بنعمه مسألة شاقة عليهم ، ولو كانت مجرد كلمة تُقال لقالوها . . ما أسهل أنْ يقولوا " لا إله إلا الله " لكنهم يعلمون أن : لا إله إلا الله لها مطلوبات ، فما دام لا إله إلا الله ، فلا يُشرِّع إلا الله ، ولا يأمر إلا الله ، ولا يَنْهى إلا الله ، ولا يُحِلُّ إلا الله ، ولا يُحرِّم إلا الله .
إذن : مطلوبات لا إله إلا الله جعلتهم في قالب من حديد ، منضبطين بمنهج يهدم سيادتهم ، ويمنع الطغيان والجبروت ، منهج يُسوِّي بين السادة والعبيد .
إذن : الدين الحق يُقيِّد حركتهم ، وهم لا يريدون ذلك ، فتراهم يعرفون الله ولا يؤمنون به؛ لأنهم يعلمون مطلوبات لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وإلا لو كانت مجرد كلمة لقالوها .
وقوله :
{ وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } [ النحل : 83 ] .
بعض العلماء يقولون : أكثرهم يعني كلهم . . لا . . بل هذا أسلوب قرآني لصيانة الاحتمال وللاحتياط للقلة التي تفكر في الإسلام ويراودها أمر هذا الدين الجديد من هؤلاء الكفار ، لا بُدَّ أنْ نُراعي أمر هذه القلة ، ونترك لهم الباب مفتوحاً ، فالاحتمال هنا قائم . .
فلو قال القرآن : كلهم كافرون لتعارض ذلك مع هؤلاء الذين يفكرون في أنْ يُسلِموا . . وكذلك مراعاة لهؤلاء الذين لم يبلُغوا حَدَّ التكليف من أبناء الكفار .
إذن : قوله { وَأَكْثَرُهُمُ } تعبير دقيق ، فيه ما نُسميّه صيانة الاحتمال .
ثم يقول تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ . . } .
(1/4999)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
الحق تبارك وتعالى يُنبّهنا هنا إلى أن المسألة ليست ديناً ، وتنتهي القضية آمن مَنْ آمن ، وكفر مَنْ كفر . . إنما ينتظرنا بعث وحساب وثواب وعقاب . . مرجع إلى الله تعالى ووقوف بين يديه ، فإنْ لم تذكر الله بما أنعم عليك سابقاً فاحتط للقائك به لاحقاً .
والشهيد : هو نبيُّ الأمة الذي يشهد عليهم بما بلّغهم من منهج الله .
وقال تعالى في آية أخرى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً . . . } [ البقرة : 143 ] .
فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعطاها الله أمانة الشهادة على الخَلْق لأنها بلغتهم ، فكل مَنْ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب منه أن يُبلّغ ما بلَّغه الرسول ، ليكون شاهداً على مَنْ بلغه أنه بلَّغه :
{ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ . . } [ النحل : 84 ] .
فحينما يشهد عليهم الشهيد لا يُؤْذَن لهم في الاعتذار ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] .
أو حينما يقول أحدهم : { رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ . . } [ المؤمنون : 99-100 ] .
فلا يُجَاب لذلك؛ لأنه لو عاد إلى الدنيا لفعل كما كان يفعل من قبل ، فيقول تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ . . . } [ الأنعام : 28 ] .
وقوله :
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ . . } [ النحل : 84 ] .
يستعتبون : مادة استعتب من العتاب ، والعتاب مأخوذ من العَتْب ، وأصله الغضب والموجدة تجدها على شخص آخر صدر منه نحوك ما لم يكن مُتوقّعاً منه . . فتجد في نفسك موجدة وغضباً على مَنْ أساء إليك .
فإن استقرّ العَتْب الذي هو الغضب والموجدة في النفس ، فأنت إمّا أنْ تعتب على مَنْ أساء إليك وتُوضّح له ما أغضبك ، فربما كان له عُذْر ، أو أساء عن غير قصد منه ، فإن أوضح لك المسألة وأرضاك وأذهب غضبك فقد أعتبك . . فنقول : عتَب فلان على فلان فأعتبه ، أي : أزال عَتْبه .
والإنسان لا يُعاتب إلا عزيزاً عليه يحرص على علاقته به ، ويضعه موضعاً لا تتأتى منه الإساءة ، ومن حقه عليك أن تعاتبه ولا تدعْ هذه الإساءة تهدم ما بينكما .
إذن : معنى :
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ النحل : 84 ] .
أي : لا يطلب أحد منهم أنْ يرجعوا عما أوجب العَتْب وهو كفرهم . . فلم يَعُد هناك وقت لعتاب؛ لأن الآخرة دار حساب ، وليست دار عمل أو توبة . . لم تَعُدْ دارَ تكليف .
ويقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ . . . } .
(1/5000)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{ رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب . . . } [ النحل : 85 ] .
كأن العذاب سيُنصب أمامهم ، فيرونه قبل أن يباشروه ، وهكذا يجمع الله عليهم ألواناً من العذاب؛ لأن إدراكات النفس تتأذى بالمشاهدة قبل أنْ تألم الأحاسيس بالعذاب؛ لذلك قال :
{ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ . . } [ النحل : 85 ] .
وقوله : { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ النحل : 85 ] .
أي : لا يُمْهَلُون ولا يُؤجّلون .
ويقول الحق سبحانه : { وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ . . . } .
(1/5001)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
ذلك حينما يجمع الله المشركين وشركاءهم من شياطين الإنس والجن والأصنام ، وكل مَنْ أشركوه مع الله وَجْهاً لوجه يوم القيامة ، وتكون بينهما هذه الواجهة . . حينما يرى المشركون شركاءهم الذين أضلّوهم وزيّنوا لهم المعصية ، وزيّنوا لهم الشرك والكفر بالله . . يقولون : هؤلاء هم سببُ ضلالنا وكُفْرنا . . كما قال تعالى عنهم في آية أخرى : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] .
ويقول تعالى : { يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] .
وقوله :
{ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول . . . } [ النحل : 86 ] .
أي : ردُّوا عليهم بالمثل ، وناقشوهم بالحجة ، كما قال تعالى في حَقِّ الشيطان . { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ . . } [ إبراهيم : 22 ] .
إذن : ردّوا عليهم القول : ما كان عليكم سلطان . نحن دعوناكم فاستجبتم لنا ، ولم يكن لنا قوة تُرغمكم على الفعل ، ولا حُجّة تُقنعكم بالكفر؛ ولذلك يتهمونهم بالكذب :
{ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [ النحل : 86 ] .
أي : كاذبون في هذه الدعوى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَلْقَوْاْ إلى الله . . . } .
(1/5002)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
السَّلَم : أي الاستسلام . . فقد انتهى وقت الاختيار ومضى زمن المهْلة ، تعمل أو لا تعمل . إنما الآن { لِّمَنِ الملك اليوم } ؟ الأمر والملك لله ، وما داموا لم يُسلِّموا طواعية واختياراً ، فَلْيُسلّموا له قَهْراً ورَغْماً عن أنوفهم .
وهنا تتضح لنا مَيْزة من مَيْزات الإيمان ، فقد جعلني استسلم لله عز وجل مختاراً ، بدل أنْ استسلمَ قَهْراً يوم أنْ تتكشّف الحقيقة على أنه لا إله إلا الله ، وسوف يُواجهني سبحانه وتعالى في يوم لا اختيار لي فيه .
وقوله :
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ النحل : 87 ] .
كلمة : الضلال تردُ بمعانٍ متعددة ، منها : ضلَّ أي غاب عنهم شفعاؤهم ، فأخذوا يبحثون عنهم فلَم يجدوهم ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . } [ السجدة : 10 ] .
أي : يغيبوا في الأرض ، حيث تأكل الأرض ذرّاتهم ، وتُغيِّبهم في بطنها . . وكذلك نقول : الضالة أي الدابة التي ضلَّتْ أي : غابتْ عن صاحبها .
ومن معاني الضلال : النسيان ، ومنه قوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى . . } [ البقرة : 282 ] .
ومن معانيه : التردد ، كما في قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } [ الضحى : 7 ] .
فلم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ثم تركه وانصرف عنه وفارقه ، ثم هداه الله . . بل كان صلى الله عليه وسلم مُتحيّراً مُتردّداً فيما عليه سادة القوم وأهل العقول الراجحة من أفعال تتنافى مع العقل السليم والفطرة النَّيرة ، فكانت حيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يراه من أفعال هؤلاء وهو لا يعرف حقيقتها .
فقوله :
{ وَضَلَّ عَنْهُم . . } [ النحل : 87 ] .
أي : غاب عنهم :
{ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ النحل : 87 ] .
أي : يكذبون من ادعائهم آلهة وشفعاءَ من دون الله .
ثم يقول الحق سبحانه : { الذين كَفَرُواْ . . } .
(1/5003)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
هنا فرْق بين الكفر والصَّدِّ عن سبيل الله ، فالكفر ذنب ذاتيّ يتعلق بالإنسان نفسه ، لا يتعدّاه إلى غيره . . فَاكفُرْ كما شئت والعياذ بالله أنت حر!!
أما الصدُّ عن سبيل الله فذنبٌ مُتعدٍّ ، يتعدَّى الإنسان إلى غيره ، حيث يدعو غيره إلى الكفر ، ويحمله عليه ويُزيّنه له . . فالذنب هنا مضاعف ، ذنب لكفره في ذاته ، وذنب لصدّه غيره عن الإيمان ، لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ . . } [ العنكبوت : 13 ] .
فإنْ قال قائل : كيف وقد قال تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . . } [ الأنعام : 164 ] .
نقول : لا تعارضَ بين الآيتين ، فكل واحد سيحمل وزْره ، فالذي صَدَّ عن سبيل الله يحمل وِزْرَيْن ، أما مَنْ صدَّه عن سبيل الله فيحمل وِزْر كفره هو .
وقوله :
{ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب . . } [ النحل : 88 ] .
العذاب الأول على كفرهم ، وزِدْناهم عذاباً على كفر غيرهم مِمَّنْ صدُّوهم عن سبيل الله .
ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة ، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة " .
فإياك أنْ تقعَ عليك عيْن المجتمع أو أُذنه وأنت في حال مخالفة لمنهج الله؛ لأن هذه المخالفة ستؤثر في الآخرين ، وستكون سبباً في مخالفة أخرى بل مخالفات ، وسوف تحمل أنتَ قِسْطاً من هذا . . فأنت مسكين تحمل سيئاتك وسيئات الآخرين .
وقوله :
{ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .
والإفساد : أنْ تعمدَ إلى شيء صالح أو قريب من الصلاح فتُفسده ، ولو تركتَه وشأنه لربما يهتدي إلى منهج الله . . إذن : أنت أفسدتَ الصالح ومنعت القابل للصلاح أن يُصلح .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي . . . } .
(1/5004)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله :
{ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ . . } [ النحل : 89 ] .
يعني من جنسهم . والمراد : أهل الدعوة إلى الله من الدُّعَاة والوعاظ والأئمة الذين بلّغوا الناس منهج الله ، هؤلاء سوف يشهدون أمام الله سبحانه على مَنْ قصّر في منهج الله .
وقد يكون معنى :
{ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ . . } [ النحل : 89 ] .
أي : جزء من أجزائهم وعضواً من أعضائهم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .
وقوله : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا . . . } [ فصلت : 21 ] .
والشهيد إذا كان من ذات الإنسان وبعض من أبعاضه فلا شكَّ أن حجته قوية وبيّنته واضحة .
وقوله :
{ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء } [ النحل : 89 ] .
أي : شهيداً على أمتك كأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على الشهداء .
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ . . } [ النحل : 89 ] .
الكتاب : القرآن الكريم . . تبياناً : أي بياناً تاماً لكل ما يحتاجه الإنسان ، وكلمة ( شيء ) تُسمّى جنس الأجناس . أي : كل ما يُسمّى " شيء " فبيانُه في كتاب الله تعالى .
فإنْ قال قائل : إنْ كان الأمر كذلك ، فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا لِيُخرجوا لنا حُكْماً مُعيّناً؟
نقول : القرآن جاء معجزة ، وجاء منهجاً في الأصول ، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حق التشريع ، فقال تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا . . } [ الحشر : 7 ] .
إذن : فسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم قَوْلاً أو فِعْلاً أو تقريراً ثابتة بالكتاب ، وهي شارحة له ومُوضّحة ، فصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات ، فأين هذا في كتاب الله؟ نقول في قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ . . . } [ الحشر : 7 ] . " وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية حينما أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضياً لأهل اليمن ، وأراد أن يستوثق من إمكانياته في القضاء . فسأله : " بِمَ تقضي؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإنْ لم تجد؟ قال : فبُسنة رسول الله ، قال : فإنْ لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو أي لا أُقصّر في الاجتهاد .
فقال صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي الله ورسوله " .
إذن : فالاجتهاد مأخوذ من كتاب الله ، وكل ما يستجد أمامنا من قضايا لا نصّ فيها ، لا في الكتاب ولا في السنة ، فقد أبيح لنا الاجتهادُ فيها .
ونذكر هنا أن الإمام محمد عبده رحمه الله حُدِّث عنه وهو في باريس أن أحد المستشرقين قال له : أليس في آيات القرآن : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 38 ] .
قال : بلى ، قال له : فهات لي من القرآن : كم رغيفاً يوجد في أردب القمح؟
فقال الشيخ : نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال . . فقال المستشرق : أريد الجواب من القرآن الذي ما فرط في شيء ، فقال الشيخ : هذا القرآن هو الذي علَّمنا فيما لا نعلم أن نسأل أهل الذكر فقال :
(1/5005)
{ فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] .
إذن : القرآن أعطاني الحجة ، وأعطاني ما أستند إليه حينما لا أجد نصاً في كتاب الله ، فالقرآن ذكر القواعد والأصول ، وأعطاني حَقَّ الاجتهاد فيما يعِنّ لي من الفروع ، وما يستجدّ من قضايا ، وإذا وُجِد في القرآن حكم عام وجب أن يُؤخذ في طيّه ما يُؤخذ منه من أحكام صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله وكله .
فقال : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا . . } [ الحشر : 7 ] .
وكذلك الإجماع من الأمة؛ لأن الله تعالى قال : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى . . } [ النساء : 115 ] .
وكل اجتهاد يُرَدُّ إلى أهل الاجتهاد : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . } [ النساء : 83 ] .
إذن : فكلّ ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع وعن الأئمة المجتهدين موجود في القرآن ، فهو إذن صادق .
ويجب هنا أن نُفرّق بين الأشياء والقضايا فهي كثيرة ، فما الذي يتعرّض له القرآن؟ يتعرض القرآن للأحكام التكليفية المطلوبة من العبد الذي آمن بالله ، وهناك أمور كونية لا يتأثر انتفاع الإنسان بها بأنْ يعلمها ، فهو ينتفع بها سواء علمها أو جهلها ، فكوْنُ الأرض كُروية الشكل ، وكَوْنها تدور حول الشمس ، وغير هذه الأمور من الكونيات إنْ علمها فبها ونعمتْ ، وإنْ جهلها لا يمنعه جهله من الانتفاع بها .
فالأُميّ الذي يعيش في الريف مثلاً ينتفع بالكهرباء ، وهو لا يعلم شيئاً عن طبيعتها وكيفية عملها ، ومع ذلك ينتفع بها ، مجرد أن يضع أصبعه على زِرّ الكهرباء تُضيء له .
فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان الآيات الكونية إبانةً واضحة ربما صَدَّ العرب الذين لا يعرفون شيئاً عن حركة الكون ، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مقاصد القرآن حول الآيات الكونية؛ ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهِلّة ، كما حكى القرآن الكريم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة . . } [ البقرة : 189 ] .
والأهلة : جمع هلال ، وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلامة الظفر ، ثم يزداد تدريجياً إلى أنْ يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته ، ثم يتناقص تدريجياً أيضاً إلى أنْ يعودَ إلى ما كان عليه ، هذه عجيبة يرونها بأعينهم ، ويسألون عنها .
ولكن ، كيف رَدَّ عليهم القرآن؟ لم يُوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلال ، وأن الأرض إذا حالتْ بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلال ومراحله المختلفة .
فهذا التفصيل لا تستوعبه عقولهم ، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه القضايا الكونية؛ لذلك يقول لهم : اصرفوا نظركم عن هذه ، وانظروا إلى حكمة الخالق سبحانه في الأهلة :
(1/5006)
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج . . } [ البقرة : 189 ] .
فردّهم إلى أمر يتعلق بدينهم التقليدي ، فاهتمّ ببيان الحكمة منها ، وفي نفس الوقت ترك هذه المسألة للزمن يشرحها لهم ، حيث سيجدون في القرآن ما يُعينهم على فَهْم هذا الموضوع .
إذن : قوله تعالى : { مِن شَيْءٍ . . } [ الأنعام : 38 ] .
أي : من كل شيء تكليفيّ ، إنْ فعله المؤمن أثيب ، وإنْ لم يفعله يُعاقب ، أما الأمور الكونية فيعطيهم منها على قدر وَعْيهم لها ، ويترك للزمن مهمة الإبانة بما يحدث فيه من فكر جديد .
لذلك نرى القرآن الكريم لم يفرغ عطاءه كله في القرآن الذي نزل فيه ، فلو فعل ذلك لاستقبل القرون الأخرى بغير عطاء ، فالعقول تتفتّح على مَرِّ العصور وتتفتّق عن فكر جديد ، ولا يصح أنْ يظلَّ العطاء الأول هو نفسه لا يتجدد ، لا بُدَّ أن يكون لكل قرن عطاء جديد يناسب ارتقاءات البشر في علومه الكونية . " والرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل ، أي : يُلقّحونه . وهو ما يُعرف بعملية الإخصاب ، حيث يأخذون من الذكر ويضعون في الأنثى ، فماذا قال لهم؟ قال : لو لم تفعلوا لأثمر ، ففي الموسم القادم تركوا هذه العملية فلم يُثمر النخل ، فلما سئل صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم أعلم بشئون دنياكم " .
فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد بَحْث معمليّ ، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم توضيح هذه الأمور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الأهواء ، إنما الأحكام التكليفية التي تختلف فيها الأهواء فحسمها الحق بالحكم .
فمثلاً في العالم موجاتٌ مادية تهتم بالاكتشافات والاختراعات والاستنباطات التي تُسخر أسرار الكون لخدمة الإنسان ، فهل يختلف الناس حول مُعْطيات هذه الموجة المادية؟ هل نقول مثلاً : هذه كهرباء أمريكاني ، وهذه كهرباء روسي؟ هل نقول : هذه كيمياء إنجليزي ، وهذه كيمياء ألماني؟
فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس ، في حين نجدهم يختلفون في أشياء نظرية ويتحاربون من أجلها ، فهذه اشتراكية ، وهذه رأسمالية ، وهذه وجودية ، وتلك علمانية . . الخ ، فجاء الدين ليحسمَ ما تختلف فيه الأهواء .
لذلك نرى كل معسكر يحاول أنْ يسرقَ ما توصَّل إليه المعسكر الآخر من اكتشافات واختراعات ، ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحداث ما توصّل إليه غيرهم ، فهل يسرقون الأمور النظرية أيضاً؟ لا . . بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والاحتياطات لكي لا تنتقل هذه المبادئ إلى بلادهم وإلى أفكار مواطنيهم .
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من نفسه مثالاً ونموذجاً لتوضيح هذه المسألة ، مع أنه قد يقول قائل : لا يصح في حَقّ رسول الله أن يُشير على الناس بشيء ويتضح خطأ مشورته ، إنما الرسول هنا يريد أنْ يُؤصّل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين : إياكم أنْ تُقحِموا أنفسكم في الأمور المادية المعملية التطبيقية ، فهذه أمور يستوي فيها المؤمن والكافر .
(1/5007)
ولذلك عندما اكتشف العلماء كُروية الأرض ، وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية لا دَخْل للدين فيها ، وقد حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك .
وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى ، وصوروا الأرض ، وجاءت صورتها كُروية فعلاً؟ فلا تفتحوا على أنفسكم باسم الدين باباً لا تستطيعون غَلْقه .
وقوله تعالى :
{ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .
الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه ( هُدىً ) ، فإذا كان القرآن قد نزل تبياناً فكان التوافق يقتضي أن يقول : وهادياً ، لكن لم يَصف القرآن بأنه هادٍ ، بل هُدىً ، وكأنه نفس الهدى؛ لأن هادياً ذاتٌ ثبت لها الهداية ، إنما هُدى : يعني هو جوهر الهدى ، كما نقول : فلان عادل . وفي المبالغة نقول : فلان عَدْل . كأن العَدْل مجسّم فيه ، وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل .
وكذلك مثل قولنا عالم وعليم ، وقد قال تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .
فما معنى الهدى؟ هو الدلالة على الطريق الموصّل للغاية من أقرب الطرق .
{ وَرَحْمَةً } مرّة يُوصَف القرآن بأنه رحمة ، ومرة بأنه : { شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ } [ الإسراء : 82 ] .
والشفاء : أن يُوجد داء يعالجه القرآن ، والرحمة : هي الوقاية التي تمنع وجود الداء ، وما دام القرآن كذلك فمَنْ عمل بمنهجه فقد بُشِّر بالثواب العظيم من الله تعالى ، الثواب الخالد في نعيم دائم .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُ . . . } .
(1/5008)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
للحق تبارك وتعالى في هذه الآية ثلاثة أوامر : العدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القُرْبى . وثلاثة نَواهٍ : عن الفحشاء والمنكر والبغي . ولما نزلت هذه الآية قال ابن مسعود : أجمعُ آيات القرآن للخير هذه الآية لأنها جمعتْ كل الفضائل التي يمكن أن تكون في القرآن الكريم .
" ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب له أن يُسلِم ، وكان يعرض عليه الإسلام دائماً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب عَرْض الإسلام على أحد إلا إذا كان يرى فيه مخايل وشِيَماً تحسن في الإسلام .
وكأنه صلى الله عليه وسلم ضَنَّ بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم ، لذلك كان حريصاً على إسلامه وكثيراً ما يعرضه عليه ، إلا أن سيدنا عثمان بن مظعون تريَّث في الأمر ، إلى أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فرآه رفع بصره إلى السماء ثم تنبه ، فقال له ابن مظعون : ما حدث يا رسول الله؟ فقال : إن جبريل عليه السلام قد نزل عليَّ الساعة بقول الله تعالى :
{ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 90 ] .
قال ابن مظعون رضي الله عنه : فاستقر حبُّ الإيمان في قلبي بهذه الآية الجامعة لكل خصال الخير .
ثم ذهب فأخبر أبا طالب ، فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الآية قال : يا معشر قريش آمِنُوا بالذي جاء به محمد ، فإنه قد جاءكم بأحسن الأخلاق " .
" ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب ، وكان معه أبو بكر وعلي ، قال علي : فإذا بمجلس عليه وقار ومَهَابة ، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من شيبان ابن ثعلبة فقال : إلى أي شيء تدعونا يا أخا قريش؟ فقال صلى الله عليه وسلم :
{ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 90 ] .
فقال مقرون : إنك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال ، أفِكتْ قريش إن خاصمتْك وظاهرتْ عليك " .
أخذ عثمان بن مظعون هذه الآية ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل ، فأخذها عكرمة ونقلها إلى الوليد بن المغيرة ، وقال له : إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا ، فأفكر الوليد بن المغيرة أي : فكَّر فيما سمع وقال : والله إن له لحلاوةً ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وأنه يعلو ولا يُعْلَى عليه ، وما هو بقول بشر .
(1/5009)
ومع شهادته هذه إلا أنه لم يؤمن ، فقالوا : حَسْبُه أنه شهد للقرآن وهو كافر .
وهكذا دخلتْ هذه الآيةُ قلوبَ هؤلاء القوم ، واستقرتْ في أفئدتهم؛ لأنها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ ، دعَتْ لكل خير ، ونَهتْ عن كل شر .
قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل . . } [ النحل : 90 ] .
ما العدل؟ العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لأنه لا يكون إلا بين شيئين متناقضين ، لذلك سُمِّي الحاكم العادل مُنْصِفاً؛ لأنه إذا مَثَلَ الخصمان أمامه جعل لكل منهما نصفَ تكوينه ، وكأنه قسَم نفسه نصفين لا يميل لأحدهما ولا قَيْد شعرة ، هذا هو الإنصاف .
ومن أجل الإنصاف جُعِل الميزان ، والميزان تختلف دِقّته حَسْب الموزون ، فحساسية ميزان البُرّ غير حساسية ميزان الجواهر مثلاً ، وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطبية ، حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدواء إلى سُمٍّ ، وقد شاهدنا تطوراً كبيراً في الموازين ، حتى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره .
والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة ألا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن الطريق ، فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها ، في الأمور العقدية التي هي عمل القلب ، وكذلك مطلوب في الأمور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة .
فكيف يكون العدل في الأمور العقدية؟
لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون ، فأنكروا وجوده سبحانه مطلقاً ، وآخرون يقولون بتعدُّد الآلهة ، هكذا تناقضتْ الأقوال وتباعدتْ الآراء ، فجاء العدل في الإسلام ، فالإله واحد لا شريك له ، مُنزّه عَمّا يُشبه الحوادث ، كما وقف موقفَ العدل في صفاته سبحانه وتعالى .
فلله سَمْع ، ولكن ليس كأسماع المحدثات ، لا ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون من المعطّلة ، ولا نُشبّهه سبحانه بغيره فنكون من المشبِّهة ، بل نقول : ليس كمثله شيء ، ونقف موقف العَدْل والوسطية .
كذلك من الأمور العقدية التي تجلَّى فيها عدل الإسلام قضية الجبر والاختيار ، حيث اختار موقفاً وسطاً بين مَنْ يقول إن الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْل لله سبحانه في أعمال العبد؛ ولذلك رتَّبَ عليها ثواباً وعقاباً . ومن يقول : لا؛ بل كل الأعمال من الله والعبد مُجْبَر عليها .
فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول : بل الإنسان يعمل أعماله الاختيارية بالقوة التي خلقها الله فيه للاختيار .
وفي التشريع والأحكام حدث تبايُن كبير بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى عليه السلام في القصاص مثلاً : في شريعة موسى حيث طغتْ المادية على بني إسرائيل حتى قالوا لموسى عليه السلام : { أَرِنَا الله جَهْرَةً . . } [ النساء : 153 ] .
فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به ، فكان المناسب لهم القِصَاص ولا بُدَّ ، ولو تركهم الحق سبحانه لَكَثُر فيهم القتل ، فهم لا ينتهون إلا بهذا الحُكْم الرادع : مَنْ قتَل يُقتلُ ، والقتل أنْفى للقتل .
(1/5010)
وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله ، فكوْنُك ترى الإله تناقض في الألوهية؛ لأنك حين تراه عينُك فقد حددّتَه في حيّز .
إذن : كونه لا يرى عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى . وكيف نطمع في رؤيته جَلَّ وعلاَ ، ونحن لا نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته ، فالروح التي بين جَنْبي كل مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم ، وبها نتحرك ونزاول أعمالنا ، وبها نفكّر ، وبها نعيش ، أين هي؟!
فإذا ما فارقتْ الروح الجسم وأخذ الله سره تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها التراب . هل رأيت هذه الروح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأي حاسّة من حواسِّك؟!
فإذا كانت الروح وهي مخلوقة لله يعجز العقل عن إدراكها ، فكيف بمَنْ خلق هذه الروح؟ فمن عظمته سبحانه أنه لا تُدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار .
كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلاً ، وهو معنًى من المعاني التي يدّعيها كل الناس ، ويطلبون العمل بها ، هذا الحق ما شَكْله؟ ما لونه؟ طويل أم قصير؟! فإذا كُنّا لا نستطيع أن نتصوّر الحق وهو مخلوق لله سبحانه ، فكيف نتصور الله ونطمع في رؤيته؟!
ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا لله تعالى في التلمود جماعة من النقباء ، وجعلوه سبحانه قاعداً على صخرة يُدلي رِجْليْه في قصعة من المرمر ، ثم أتى حوت . . الخ . . سبحان الله؛ ألهذا الحدِّ وصلتْ بهم المادية؟
ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية ، تكون هي أيضاً مُسرفة في الروحانية ليحدث نوع من التوازن في الكون ، فجاءت شريعة عيسى عليه السلام بعد مادية مُفْرطة وإسراف في الموسَوية ، فكيف يكون حُكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيات الناس؟
جاءت شريعة عيسى عليه السلام تُهدّيء الموقف إذا حدث قتل ، فيكفي أن قُتِل واحد ولنستبقي الآخر ولا نثير ضجّة ، ونهيج الأحقاد والترة بين الناس ، فدَعَتْ هذه الشريعة إلى العفو عن القاتل .
ثم جاء الإسلام ووقف موقف العدل والوسطية في هذا الحكم ، فأقرّ القصاص ودعا إلى العفو ، فأعطى وليَّ المقتول حَقّ القصاص ، ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ . . } [ البقرة : 178 ] .
ونلاحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة لِيُرقّق القلوب ويُزيل الضغائن .
وللقصاص في الإسلام حكَم عالية ، فليس الهدف منه أن يُضخّم هذه الجريمة ، بل يهدف إلى حفظ حياة الناس كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب } [ البقرة : 179 ] .
فمن أراد أنْ يحافظَ على حياته فلا يُهدد حياة الآخرين .
وحينما يُعطي ربُّنا تبارك وتعالى حقَّ القصاص لوليّ المقتول ويُمكِّنه منه تبردُ ناره ، وتهدأ ثورته ، فيفكر في العفو وهو قادر على الانتقام ، وهكذا ينزع هذا الحكمُ الغِلَّ من الصدور ويُطفِيء نار الثأر بين الناس .
(1/5011)
ولذلك نرى في بعض البلاد التي تنتشر فيها عملية الثأر يأتي القاتل حاملاً كفنه على يده إلى وليّ المقتول ، ويضع نفسه بين يديه مُعترفاً بجريمته : هاأنا بين يديْك اقتلني وهذا كفنِي .
ما حدث ذلك أبداً إلا وعفا صاحب الحق ووليّ الدم ، وهذا هو العدل الذي جاء به الإسلام ، دين الوسطية والاعتدال .
هذا العفو من وليّ الدم أداةُ بِنَاء ، ووسيلة محبة ، فحين نعطيه حَقّ القصاص ، ثم هو يعفو ، فقد أصبحت حياة القاتل هبةً من وليّ الدم ، فكأنه استأثره واستبقاه بعفوه عنه ، وهذا جميل يحفظه أهل القاتل ، ويقولون : هذا حَقَن دم ابننا .
موقف آخر لعدالة الإسلام ووسطيته نراها في حُكْم الحيض مثلاً ، ففي شريعة موسى عليه السلام يُخرج الزوج زوجته من البيت طوال مدة الحيض لا يجمعهما بيت واحد .
وفي شريعة عيسى عليه السلام لا مانع من وجودها في البيت ، ولا مانع من معاشرتها والاستمتاع بها .
فجاء الإسلام بالعدل في هذه القضية فقال : تبقى المرأة الحائض في بيتها لا تخرج منه ، ولكن لا يقربها الزوج طوال مدة الحيض ، فقال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } [ البقرة : 222 ] .
وكذلك لو أخذنا الناحية الاقتصادية في حياتنا ، والتي هي عصب الحياة ، والتي بها يتم استبقاء الحياة بالطعام والشراب والملْبس وغيره ، وبها يتم استبقاء النوع بالزواج ، وكُل هذا يحتاج إلى حركة إنتاج ، وإلى حركة استهلاك ، وبالإنتاج والاستهلاك تستمر الحياة ، ولو توقف أحدهما لحدث في المجتمع بطالة وفساد .
وبناء عليه وزّع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد ، فما أعرفه أنا أخدم به الكل ، وما يعرفه الكل يَخدمني به ، وهكذا تستمر حركة الحياة .
والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتُراودك فيه آمال ، فإنْ شاركتَ في حركة الحياة واكتسبتَ المال الذي هو عصبُ الحياة فعليك أن تُوازنَ بين متطلباتك العاجلة وآمالك في المستقبل .
فلو أنفقتَ جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة فقد ضيَّعتَ على نفسك تحقيق الآمال في المستقبل ، فلن تجد ما تبني به بيتاً مثلاً أو تشتري به سيارة ، أو ترتقي بمستواك ببعض كماليات الحياة . وهذا ما نسميه الإسراف .
وفي المقابل ، كما لا يليق بك الإسراف حتى لا يبقى عندك شيء ، وكذلك لا يليق بك التقتير والبخل والإمساك فتكنز كل ما تكتسب ، ولا تنفق إلا ما يُمسِك الرمَق؛ لأنك في هذه الحالة لن تساهم في عملية الاستهلاك ، فتكون سبباً في بطالة المجتمع وفساد حاله .
وقد عالج القرآن هذه القضية علاجاً دقيقاً في قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }
(1/5012)
[ الإسراء : 29 ] .
أي : لا تُمسك يدك بُخْلاً وتقتيراً ، فتكون ملُوماً من أهلك وأولادك ، ومن الدنيا من حولك ، فيكرهك الجميع ، وكذلك لا تبسط يدك بالإنفاق بَسْطاً يصل إلى حَدّ الإسراف والتبذير ، فيفوتك تحقيق الآمال وتتحسَّر حينما ترى المقتصد قد حقَّق ما لم تستطع أنت تحقيقه من آمال الحياة ، وترقّى هو في حياته وأنت مُعْدم لا تملك شيئاً ، فكان عليك أن تدّخر جُزْءاً من كَسْبك يمكنك أن ترتقي به حينما تريد .
ولذلك قال تعالى : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 27 ] .
وقال : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
إذن : فالعَدْل أمر دائر في كل حركات التكليف ، سواء كان تكليفاً عَقَدياً ، أو تكليفاً بواسطة الأعمال في حركة الحياة ، فالأمر قائم على الوسطية والاعتدال ، ومن هنا قالوا : خَيْر الأمور الوسط .
وقوله : { والإحسان . . } [ النحل : 90 ] .
ما الإحسان؟
إذا كان العدل أن تأخذ حقَّك ، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ . . } [ البقرة : 194 ] .
وقوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . } [ النحل : 126 ] .
فالإحسان أنْ تتركَ هذا الحق ، وأنْ تتنازلَ عنه ابتغاءَ وجه الله ، عملاً بقوله تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ] .
والناس في الإحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقي .
وأول هذه المراتب كظم الغيظ ، من كَظْم القِرْبة المملوءة ، فالإنسان يكظم غَيْظه في نفسه ، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والردّ بالمثل ، ولكنه يظل يعاني ألم الغيظ بداخله وتتأجج ناره في قلبه .
لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة الأعلى ، وهي مرتبة العفو ، فيأتي الإنسان ويقول : لماذا أدَعْ نفسي فريسة لهذا الغيظ؟ لماذا أشغل به نفسي ، وأُقَاسي ألمه ومرارته؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع جذور الغيظ من قلبه ، فيعفو عمَّنْ أساء إليه ، ويُخرِج المسألة كلها من قلبه .
فإنِ ارتقى الإنسان في العفو ، سعى المرتبة الثالثة ، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك ، وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردِّ بالمثل ، وارتقيتَ إلى درجة العارفين بالله ، فالذي اعتدى اعتدى بقدرته ، وانتقم بما يناسبه ، والذي ترقّى في درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله تعالى ، وأيْن قدرتُك من قدرة ربك سبحانه وتعالى؟
إذن : فالإحسان اجمل بالمؤمن ، وأفضل من الانتقام .
لكن كيف يصل الأمر إلى أنْ تعفوَ عمَّنْ أساء ، بل إلى أنْ تُحسِن إليه؟
نقول : هَبْ أن لك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر وأساء إليه ، فماذا يكون موقفك منهما؟ وإلى أيّهما يميل قلبك؟
لا شكَّ أن القلب هنا يميل إلى المعتدى عليه ، وقد يتعدَّى الأمر إلى أنْ تُرضيه بهدية وتُريه من حنانك وألطافك ما يُذهِب عنه ما يُعاني ، والسبب في ذلك إساءة أخيه له فهي التي عطفَتْ قلبك إليه ، وعادتْ عليه بالهدايا والألطاف .
(1/5013)
إذن : من الطبيعي أنْ يُحسِنَ المعتَدى عليه إلى المعتدِي ، وأنْ يشكرَ له أنْ تسبَّب له في هذه النعم؛ ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله : أفلا أُحسِن لمن جعل الله في جانبي؟
فالإحسان : أنْ تصنع فوق ما فرض الله عليك ، بشرط أن يكونَ من جنس ما فرض الله عليك ، ومن جنس ما تعبَّدنا الله به ، فمثلاً تعبدنا الله بخمس صلوات في اليوم والليلة فلا مانعَ من الزيادة عليها من جنسها ، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج . والإحسان هنا يكون بزيادة ما فرضه الله علينا .
وقد يكون الإحسان في الكيفية دون زيادة في العمل ، فلا أزيد مثلاً عن خمس صلوات ، ولكن أُحسِن ما أنا بصدده من الفرْض ، وأُتقِن ما أنا فيه من العمل ، وأُخلِص في ذلك عملاً بحديث جبريل عليه السلام حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان ، فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك " .
فعليك أن تستحضر في عبادتك ربك عز وجل بجلاله وجماله وكماله ، فإنْ لم تصل إلى هذه المرتبة فلا أقلّ من أن تؤمن أنه يراك ويطلع عليك ، وهذه كافية لأنْ تُعطي العبادة حقّها ولا تسرق منها ، فاللصُّ لا يجرؤ على سرقة البيت وهو يعلم أن صاحبه يراه ، فإذا كنا نفعل ذلك مع بعضنا البعض فيخشى أحدنا نظر الآخرين ، أيليق بنا أنْ نتجرأ على الله ونحن نعلم نظره إلينا؟!
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي : " يا عبادي ، إنْ كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخلَل في إيمانكم ، وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم ، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ " .
وقال بعضهم في معنى العدل والإحسان :
العدل : أن تستوي السريرة مع العلانية .
والإحسان : أن تعلو السريرة وتكون افضل من العلانية .
والمنكر : إنْ علَتْ العلانية على السريرة .
وقوله تعالى : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } [ النحل : 90 ] .
إيتاء : أي إعطاء .
قالوا : لأن العالم حَلَقات مقترنة ، فكل قادر حوله أقرباء ضُعفَاء محتاجون ، فلو أعطاهم من خيْره ، وأفاض عليهم مِمّا أفاض الله عليه لَعَمَّ الخير كل المجتمع ، وما وجدنا مُعْوزاً محتاجاً؛ ذلك لأن هذه الدوائر ستشمل المجتمع كله ، كل قادر يُعطي مَنْ حوله .
وقد تتداخل هذه الدوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل ، فلا نرى في مجتمعنا فقيراً ، وقد حثتْ الآية على القريب ، وحنَّنَتْ عليه القلوب؛ لأن البعيد عنك قريب لغيرك ، وداخل في دائرة عطاء أخرى .
وقد يكون الفقير قريباً لعدة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا ، وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق موارد العيش لكل الناس .
وقالوا : المراد هنا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمتْ عليهم الزكاة التي أُحِلَّت لغيرهم من الفقراء ، وأصبح لهم مَيْزة يمتازون بها عن قرابة الرسول ، ولا يليق بنا أن نجعل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى الزكاة ، وإنْ كان أقرباؤكم أصحابَ رحم ، فلا تنسوا أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلى من أرحامكم ، كما قال تعالى :
(1/5014)
{ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ . . } [ الأحزاب : 6 ] .
هذه هي مجموعة الأوامر الواردة في هذه الآية ، وإنَّ مجتمعاً يُنفِّذ مثل هذه الأوامر ويتحلَّى بها أفراده ، مجتمع ترتقي فيه الاستعدادات الخُلقية ، إلى أن يترك الإنسان العقوبة والانتقام ويتعالى عن الاعتداء إلى العفو ، بل إلى الإحسان ، مجتمع تعمُّ فيه النعمة ، ويستطرق فيه الخير إلى كل إنسان .
إن مجتمعاً فيه هذه الصفات لَمجتمعٌ سعيد آمِنٌ يسوده الحب والإيمان والإحسان ، إنه لجدير بالصدارة بين أمم الأرض كلها .
وقوله :
{ وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي . . } [ النحل : 90 ] .
وهذه مجموعة من النواهي تمثل مع الأوامر السابقة منهجاً قرآنياً قويماً يضمن سلامة المجتمع ، وأُولى هذه النواهي النهي عن الفحشاء أو الفاحشة ، والمتتبع لآيات القرآن الكريم سيجد أن الزنا هو الذنب الوحيد الذي سماه القرآن فاحشة ، فهي إذن الزنا ، أو كل شيء يخدش حُكْماً من أحكام الله تعالى ، ولكن لماذا الزنا بالذات؟
نقول : لأن كل الذنوب الأخرى غير الزنا إنما تتعلق بمحيطات النفس الإنسانية ، أما الزنا فيتعلَّق بالنفس الإنسانية ذاتها ، ويترتب عليه اختلاط الأنساب وبه تدنَسُ الأعراض ، وبه يشكُّ الرجل في أهله وأولاده ، ويحدث بسبب هذا من الفساد ما لا يعلمه إلا الله؛ لذلك نصَّ عليه القرآن صراحة في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .
ومن أقوال العلماء في الفاحشة : أنها الذنب العظيم الذي يخجل صاحبه منه ويستره عن الناس ، فلا يستطيع أنْ يُجاهر به ، كأنه هو نفسه حينما يقع فيه يعلم أنه لا يصحّ ، ولا ينبغي لأحد أن يطلع عليه .
( والمنكر ) هو الذنب يتجرّأ عليه صاحبه ، ويُجاهر به ، ويستنكره الناس .
إذن : لدينا هنا مرتبتان من الذنب :
الأولى : أن صاحبه يتحرَّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه ، وهذا هو الفحشاء .
والثانية : ما تعالم به صاحبه وأنكره المجتمع ، وهذا هو المنكر .
( والبغْي ) هو الظلم في أيِّ لَوْنٍ من ألوانه ، وهو داخل في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة من الشرك بالله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
والظلم هنا أنْ تسلبَ الحق تبارك وتعالى صِفة من صفاته ، وتشرك معه غيره وهو خلقك ورزقك ، ومنه ظلم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يُجرَّب عليه في يوم من الأيام أنْ قال خطبة أو ألقى قصيدة ، كما لم يُجرِّب عليه الكذب أو غيره من الصفات الذميمة ، ومع هذا كله قالوا عنه حينما نزل عليه القرآن كذاب وساحر ومجنون ، وأيُّ ظلم أعظم من هذا؟
ومن الظلم ظُلْم الإنسان لنفسه حينما يُحقِّق لها شهوة عاجلة ومُتعةً زائفة ، تُورثه ندماً وحَسْرة وألماً آجلاً ، وبذلك يكون قد ظلم نفسه ظلماً كبيراً وجَرَّ عليها ما لا تطيق ، ذلك فَضْلاً عن ظلم الإنسان لغيره بشتى أنواع الظلم وأشكاله .
(1/5015)
إذن : الآية انتظمتْ مجموعة من الأوامر والنواهي التي تضمن سلامة المجتمع بما جمعتْ من مكارم الأخلاق ، والأخلاق أعمُّ من أن تكون في الاعتقادات ، وأعمُّ من أن تكون في المعجزة إيماناً بها ، وأعمُّ من أن تكون في التكاليف ، وأعمُّ من أن تكون في أمر لا حَدَّ فيه ولا حُكْمَ ولا إثم .
وقوله :
{ يَعِظُكُمْ . . } [ النحل : 90 ] .
الوعظ : تذكير بالحكم ، فعندنا أولاً إعلام بالحكم لكي نعرفه ، ولكنه عُرْضة لأنْ نغفلَ عنه ، فيكون الوعظ والتذكير به ، ونحتاج إلى تكرار ذلك حتى لا نغفل .
وعادة لا تكون العِظَة إلا فيما له قيمة ، وما دام الشيء له قيمة فلا تصطفي له إلا مَنْ تحب ، كذلك الحق تبارك وتعالى يحب خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك يَعِظهم ويُذكِّرهم باستمرار لكي يكونوا دائماً على الجادة ليتمتعوا بنعم المسبِّب في الآخرة ، كما تمتعوا بنعمة الأسباب في الدنيا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله . . . } .
(1/5016)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
الوفاء : أنْ تفِيَ بما تعاهدتَ عليه ، والعهود لا تكون في المفروض عليك ، إنما تكون في المباحات ، فأنت حُرٌّ أن تلقاني غداً وأنا كذلك ، لكن إذا اتفقنا وتعاهدنا على اللقاء غداً في الساعة كذا ومكان كذا فقد تحوَّل الأمر من المباح إلى المفروض ، وأصبح كُلٌ مِنَّا ملزماً بأن يفي بعهده؛ لأن كل واحد مِنّا عطَّل مصالحه ورتَّب أموره على هذا اللقاء ، فلا يصح أنْ يفيَ أحدنا ويُخلِف الآخر ، لأن ذلك يتسبب في عدم تكافؤ الفُرص ، ومعلوم أن مصالح العبادِ في الدنيا قائمة على الوفاء بالعهد .
وقد ينظر البعض إلى الوفاء بالعهد على أنه مُلْزَمٌ به وحده ، أو أنه عِبْءٌ عليه دون غيره ، لكنه في الحقيقة عليك وعلى غيرك ، فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من الآخرين ، فكلّ تكليف لك لا تنظر إليه هذه النظرة ، بل تنظر إليه على أنه لصالحك .
فمن أخذ التكليف وأحكام الله من جانبه فقط يتعب ، فالحق تبارك وتعالى كما كلفك لصالح الناس فقد كلَّف الناس جميعاً لصالحك ، فحين نهاك عن السرقة مثلاً إياك أنْ تظنَّ أنه قيّد حريتك أمام الآخرين؛ لأنه سبحانه نهى جميع الناس أن يسرقوا منك ، فمَنِ الفائز إذن؟ أنا قيَّدت حريتك بالحكم ، وأنت فرْد واحد ، ولكني قيّدتُ جميع الخلق من أجلك .
كذلك حين أمرك الشرع بغضِّ بصرك على محارم الناس ، أمر الناس جميعاً بغضِّ أبصارهم عن محارمك . إذن : لا تأخذ التكليف على أنه عليك ، بل هو لك ، وفي صالحك أنت .
كثيرون من الأغنياء يتبرّمون من الإنفاق ، ويضيقون بالبذْل ، ومنهم مَنْ يَعُد ذلك مَغْرماً لأنه لا يدري الحكمة من تكليف الأغنياء بمساعدة الفقراء ، لا يدري أننا نُؤمِّن له حياته .
وها نحن نرى الدنيا دُوَلاً وأغياراً ، فكم من غنيٍّ صار فقيراً ، وكم من قوي صار ضعيفاً .
إذن : فحينما يأخذ منك وأنت غنيّ نُطمئنك : لا تخَفْ إذا ضاقتْ بك الحال ، وإذا تبدّل غِنَاك فقراً ، فكما أخذنا منك في حال الغنى سنُعطيك في حال الفقر ، وهكذا يجب أن تكون نظرتنا إلى الأمور التكليفية .
وقوله تعالى :
{ بِعَهْدِ الله . . . } [ النحل : 91 ] .
عهد الله : هو الشيء الذي تعاهد الله عليه ، وأول عَهْد لك مع الله تعالى هو الإيمان به ، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلّفك به ، وإياك أن تُخِلّ بأمر من أموره؛ لأن الاختلال في أي أمر تكليفي من الله يُعَدُّ نَقْصاً في إيمانك؛ لأنك حينما آمنت بالله شهدتَ بما شهد الله به لنفسه سبحانه في قوله تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ . . } [ آل عمران : 18 ] .
فأوّل مَنْ شهد الله سبحانه لنفسه ، وهذه شهادة الذات للذات ( والملاَئِكة ) أي : شهادة المشاهدة ( وَأُولُوا العِلْم ) أي : بالدليل والحجة .
(1/5017)
إذن : فأوّل عَهْد بينك وبين الله تعالى أنك آمنتَ به إلهاً حكيماً قادراً خالقاً مُربِّياً ، فاستمع إلى ما يطلبه منك ، فإنْ لم تستمع وتُنفّذ فاعلم أن العهد الإيماني الأول قد اختلَّ .
ولذلك ، فالحق تبارك وتعالى لم يُكلِّف الكافر ، لأنه ليس بينه وبينه عهد ، إنما يُكلِّف مَنْ آمن ، فتجد كل آية من آيات الأحكام تبدأ بهذا النداء الإيماني : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } [ البقرة : 183 ] .
كما في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام . . . } [ البقرة : 183 ] .
فيا مَنْ آمن بي رَباً ، ورضيتني إلهاً اسمع مِنِّي؛ لأني سأعطيك قانون الصيانة لحياتك ، هذا القانون الذي يُسعدك بالمسبِّب في الآخرة بعد أن أسعدك بالأسباب في الدنيا .
وقوله :
{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا . . } [ النحل : 91 ] .
الأَيْمان : جمع يمين ، وهو الحلف الذي نحلفه ونُؤكِّد عليه فنقول : والله ، وعهد الله . . الخ . إذن : فلا يليق بك أنْ تنقضَ ما أكَّدته من الأَيْمان ، بل يلزمك أنْ تُوفِّي بها؛ لأنك إنْ وفَّيت بها وُفِّي لك بها أيضاً ، فلا تأخذ الأمر من جانبك وحدك ، ولكن انظر إلى المقابل .
وكذلك العهد بين الناس بعضهم البعض مأخوذ من باطن العهد الإيماني بالله تعالى؛ لأننا حينما نتعاهد نُشهد الله على هذا العهد ، فنقول : بيني وبينك عَهْد الله ، فنُدخل بيننا الحق سبحانه وتعالى لِنُوثِّق ما تعاهدنا عليه ، وربنا سبحانه وتعالى يقول : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً . . . } [ النحل : 91 ] .
أي : شاهداً ورقيباً وضامناً .
وقوله :
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [ النحل : 91 ] .
أي : اعلم أن الله مُطَّلع عليك ، يعلم خفايا الضمائر وما تُكِنّه الصدور ، فاحذر حينما تعطي العهد أن تعطيه وأنت تنوي أن تخالفه ، إياك أنْ تُعطي العهد خِدَاعاً ، فربُّك سبحانه وتعالى يعلم ما تفعل .
ثم يُعقِّب الحق سبحانه : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي . . . } .
(1/5018)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد والأَيْمان ، ولا يُوفون بها ، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريْطة بنت عامر ، وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر ، ثم تأمرهُنَّ بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصر ، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة .
أولاً : ما الغزل؟
الغَزْل عملية كان يقوم بها النساء قديماً ، فكُنَّ يُحضِرْن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو الوبر ومثل القطن الآن ، وهذه الأشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لآخر يُسمُّونها التيلة ، فيقولون " هذه تيلة قصيرة " وهذه طويلة " .
والغَزْل هو أن نُكوِّن من هذه الشعيرات خَيْطاً طويلاً ممتداً وانسيابياً دون عُقَد فيه لكي يصلح للنسجْ بعد ذلك ، وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل . تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات الدقيقة ثم بَرْمِها بالمغزل ، ليخرج في النهاية خيطٌ طويل مُنْسابٌ متناسق لا عُقَد فيه .
والآية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل؛ لأنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال ، فكانت المرأة تكنّ في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكوِّن منها أثاث بيتها من فَرْش وملابس وغيره .
وإلى الآن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة ومُعْترك الاختلاط ، نراها تقوم بمثل هذا العمل النسائي .
وقد تطور المغزل الآن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة ، مما يُيسِّر للنساء هذه الأعمال ، ويحفظهُنَّ في بيوتهن ، وينشر في البيت جَواً من التعاون بين الأم وأولادها ، وأمامنا مثلاً مشروع الأسر المنتجة حيث تشارك المرأة بجزء كبير في رُقِّي المجتمع ، فلا مانع إذن من عمل المرأة إذا كان عملاً شريفاً يحفظ عليها كرامتها ويصُون حرمتها .
فالقرآن ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهلية ، هذا العمل الذي يحتاج إلى جَهْد ووقت في الغزل ، ويحتاج إلى أكثر منه في نَقْضه وفكِّه ، فهذه عملية شاقة جداً ، وربما أمرت الجواري بفكِّ الغزل والنسيج أيضاً؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش .
وقوله :
{ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ . . . } [ النحل : 92 ] .
كلمة قوة هنا تدلُّنا على المراحل التي تمرُّ بها عملية الغَزْل ، وكم هي شاقة ، بداية من جَزِّ الصوف من الغنم أو الوبر من الجمال ، ثم خَلْط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات ، بحيث تكون طرف كل تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتم التلاحم بينها بهذا المزج ، ثم تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط ، ولو قارنَّا بين هذه العملية اليدوية ، وبين ما توصلتْ إليه صناعة الغزل الآن لَتبيَّن لنا كم كانت شاقة عليهم .
فكأن القرآن الكريم شبَّه الذي يُعطِي العهد ويُوثِّقه بالأيْمان المؤكدة ، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلتْ هذا الغزل ، وتحملت مشقته ، ثم راحتْ فنقضت ما أنجزته ، وفكَّتْ ما غزلته .
(1/5019)
وكذلك كلمة ( قوة ) تدلُّناَ على أن كل عمل يحتاج إلى قوة ، هذه القوة إما أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسكِّن المتحرِّك؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ . . } [ البقرة : 63 ] .
لأن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه ، ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه .
وهذه يسمونها في عالم الحركة ( قانون العطالة ) المتحرك يظل مُتحرِّكاً إلى أنْ يعرضَ له شيء يُسكنه ، والساكن يظل ساكناً إلى أنْ يعرِضَ له شيء يُحرِّكه .
ومن هنا يتعجَّب الكثيرون من الأقمار الصناعية التي تدور أعواماً عدة في الفضاء : ما الوقود الذي يُحرِّك هذه الأقمار طوال هذه الأعوام؟
والواقع أنه لا يوجد وقود يحركها ، الوقود في مرحلة الانطلاق فقط ، إلى أن يخرج من منطقة الهواء والجذْب ، فإذا ما استقرّ القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرك بنفسها دون وقود ، فهناك الشيء المتحرك يظل متحركاً ، والساكن يظل ساكناً .
والحق تبارك وتعالى بهذا المثَل المشَاهد يُحذرنا من إخلاف العهد ونقْضه؛ لأنه سبحانه يريد أن يصونَ مصالح الخلق؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيْمان التي تبرم بينهم ، فمَنْ خان العهد أو نقضَ الأيْمان لا يُوثق فيه ، ولا يُطْمأنُ إلى حركته في الحياة ، ويُسقطه المجتمع من نظره ، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس .
وقوله : { أَنكَاثاً . . } [ النحل : 92 ] .
جمع نِكْث ، وهو ما نُقِض وحُلَّ فَتْله من الغزل .
وقوله :
{ تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ . . } [ النحل : 92 ] .
الدَّخَل : أنْ تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغِشِّ والخداع ، كأن تدخل في الذهب عيار 24 قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار 18 قيراطاً ، أو كأن تُدخِلَ في اللوز مثلاً نَوى المشمش على أنه منه . فكأن الأَيْمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغش ، فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به .
وقوله :
{ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ . . . } [ النحل : 92 ] .
هذه هي العلة في أنْ نتخذَ الأَيْمان دَخَلاً فيما بيننا ، الأَيْمان الزائفة الخادعة؛ ذلك لأن الذي باع نوى المشمش مثلاً على أنه لوز ، فقد أَرْبى أي : أخذ أزيْد من حقه ونقص حَقَّ الآخرين ، فالعلة إذن في الخداع بالأَيْمان الطمع وطلب الزيادة على حساب الآخرين .
وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى ، كأن تُعاهِد شخصاً على شيء ما ، وأدَّيْتَ له بالعهود والأيْمان والمواثيق ، ثم عنَّ لك مَنْ هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالإغراء ، فنقضت العهد الأول لأن الثاني أرْبى منه وأزيد .
وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حِذْره ، فمَنْ يُدريك لعله يُفعل بك كما فعلت ، ويُكال لك بنفس المكيال الذي كِلْتَ به لغيرك ، فاحذر إذا تجرأتَ على خَلْق الله أن يُجَرِّيء الله عليك مَنْ يسقيك من نفس الكأس .
(1/5020)
وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة ، فإياك أنْ تغُشَّ الناس ، وتذكَّر أن لك عندهم مصالح ، وفي أيديهم لك حرف وصناعات ، فإذا تجرأْتَ عليهم جرَّأهم الله عليك؛ لأنه سبحانه يقول : أنا القيُّوم ، أي : القائم على أمركم ، فناموا أنتم فأنا لا أنام ، فهذه مسألة يجب أن نلحظها جيداً .
مَنْ تَجرّأ على الناس جرَّأهم الله عليه ، ومَنْ أخلص عمله وأتقنه قذف الله في قلوب الخلق أنْ يُتقنوا له حاجته .
وقوله :
{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ . . . } [ النحل : 92 ] .
أي : يختبركم الله تعالى بهذا العهد ، فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أنْ عقدتم العهد ، أَفِي نيتكم الوفاء ، أم في نيتكم الغدر والخداع؟
وهَبْ أنك تنوي الوفاء ثم عرضَ لك ما حال بينك وبينه ، فالله سبحانه يعلم حقائق الأمور ولا يخفَى عليه شيء .
إذن : الابتلاء هنا لا يعني النكبة والبلاء ، بل يعني مجرد الاختبار والنكبة والبلاء على الذي يفشل في الاختبار ، فالعبرة هنا بالنتيجة .
وقوله :
{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ النحل : 92 ] .
فيوم القيامة تجتمع الخصوم ، وتتكشَّف الحقائق ، ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في الدنيا ، وهَبْ أن إنساناً عمَّى على قضاء الأرض في أشياء ، نقول له : إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمىَ على قضاء السماء ، وانتظر يوماً نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ شَآءَ الله . . . } .
(1/5021)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
لو حرف امتناع لامتناع . أي : امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط ، كما في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] .
فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة .
فلو شاء الله لجعلَ العالم كله أمةً واحدة على الحق ، لا على الضلال ، أمة واحدة في الإيمان والهداية ، كما جعل الأجناس الأخرى أمةً واحدة في الانصياع لمرادات الله منها .
ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقاً تسخيرياً ، فلا يوجد جنس من الأجناس تأَبَّى عما قصد منه ، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان .
كل هذه الأكوان تسير سَيْراً سليماً كما أراد الله منها ، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون ، ذلك لما له من حرية الاختيار ، يفعل أو لا يفعل .
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] .
هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء ، إلا في الإنسان فقال تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] .
فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس؟ لأنهم أصحاب الاختيار ، فيستطيع الواحد منهم أن يفعلَ أو لا يفعل ، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله ، أم أرادها الله سبحانه وتعالى؟
قالوا بأن الله زاول قدرته المطلقة في خَلْق الأشياء المُسخرة ، بحيث لا يخرج شيء عما أريد منه ، وكان من الممكن أنْ يأتيَ الإنسان على هذه الصورة من التسخير ، لكنه في هذه الحالة لن يزيد شيئاً ، ولن يضيف جديداً في الكون ، أليستْ الملائكة قائمة على التسخير؟
فالتسخير يُثبِت القدرة لله تعالى ، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيء ، لكن الاختيار يثبت المحبوبية لله تعالى ، وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره .
فمثلاً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد ، والآخر مسعود ، فأخذت سعيداً وقيَّدته إليك في حبل ، في حين تركت مسعوداً حراً طليقاً ، وحين أمرت كلاً منهما لَبَّى وأطاع ، فأيّ طاعة ستكون أحبّ إليك : طاعة القهر والتسخير ، أم الطاعة بالاختيار؟
فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنْ جعلَه مختاراً في أنْ يطيعَ أو أنْ يعصيَ ، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً ، وهو قادر على المعصية ، فقد أثبتَ المحبوبية لربه سبحانه وتعالى .
ولا بُدَّ أنْ تتوافرَ للاختيار شروطٌ . أولها العقل ، فهو آلة الاختيار ، كذلك لا يُكلّف المجنون ، فإذا توفّر العقل فلا بُدَّ له من النُّضْج والبلوغ ، ويتمّ ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مِثْله ، وأصبحتْ له ذاتية مولده .
وهذه سِمَة اكتمال الذات؛ فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين ، وليس أَهْلاً للتكليف ، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات ، فلا بُدَّ له أن يكون مختاراً غَيْرَ مُكْرهٍ ، فإنْ أُكْرِه على الشيء فلن يسأل عنه ، فإنِ اختلَّ شَرْط من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار ، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة في الاختيار .
(1/5022)
والحق تبارك وتعالى وإن كرَّم الإنسان بالاختيار ، فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض الأعضاء اضطرارية مُسخّرة لا دَخْلَ له فيها .
ولو تأملنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهرية ، وتتوقف عليها حياة الإنسان ، فكان من رحمة الله بنا أنْ جعل هذه الأعضاء تعمل وتُؤدِّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ .
فالقلب مثلاً يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به ، وكذلك التنفس والكُلَى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مُسخّرة ، كالجماد والنبات والحيوان .
ومن لُطْفِ الله بخَلْقه أنْ جعلَ هذه الأعضاء مُسخّرة ، لأنه بالله لو أنت مختار في عمل هذه الأعضاء ، كيف تتنفس مثلاً وأنت نائم؟!
إذن : من رحمة الله أنْ جعلكَ مختاراً في الأعمال التي تعرِضُ لك ، وتحتاج فيها إلى النظر في البدائل؛ ولذلك يقولون : الإنسان أبو البدائل . فالحيوان مثلاً وهو أقرب الأجناس إلى الإنسان ليس لديْه هذه البدائل ولا يعرفها ، فإذا آذيتَ حيواناً فإنه يُؤذيك ، وليس لديه بديل آخر .
ولكن إذا آذيْت إنساناً ، فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل ، أو بأكثر مما فعلتَ ، أو أقلّ ، أو يعفو ويصفح ، والعقل هو الذي يُرجِّح أحد هذه البدائل .
إذن : لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها ، كما قال تعالى : { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس } [ الرعد : 31 ] .
ولكنه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك ، بدليل قوله :
{ ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ . . . } [ النحل : 93 ] .
وهذه الآية يقف عندها المتمحِّكون ، والذين قَصُرَتْ أنظارهم في فهْم كتاب الله ، فيقولون : طالما أن الله هو الذي يضِلّ الناس ، فلماذا يُعذِّبهم؟ ونتعجَّب من هذا الفهم لكتاب الله ونقول لهؤلاء : لماذا أخذتُمْ جانب الضلال وتركتُم جانب الهدى؟ لماذا لم تقولوا : طالما أن الله بيده الهداية ، وهو الذي يهدي ، فلماذا يُدخِلنا الجنة؟ إذن : هذه كلمة يقولها المسرفون؛ لأن معنى :
{ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ . . } [ النحل : 93 ] .
أي : يحكم على هذا من خلال عمله بالضلال ، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية ، مثل ما يحدث عندنا في لجان الامتحان ، فلا نقول : اللجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً ، فليست هذه مهمتها ، بل مهمتها أن تنظر أوراق الإجابة ، ومن خلالها تحكم اللجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك .
وكذلك الحق تبارك وتعالى لا يجعل العبد ضالاً ، بل يحكم على عمله أنه ضلال وأنه ضَالّ؛ فالمعنى إذن : يحكم بضلال مَنْ يشاء ، ويحكم بهُدَى مَنْ يشاء ، وليس لأحد أن ينقلَ الأمر إلى عكس هذا الفهم ، بدليل قوله تعالى بعدها :
{ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 93 ] .
فالعبد لا يُسأل إلا عَمَّا عملتْ يداه ، والسؤال هنا معناه حرية الاختيار في العمل ، وكيف تسأل عن شيء لا دَخْل لك فيه؟ فلنفهم إذن عن الحق تبارك وتعالى مُرَادَهُ من الآية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تتخذوا . . . } .
(1/5023)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
وردتْ كلمة الدّخَل في الآية قبل السابقة وقلنا : إن معناها : أن تُدخِلَ في الشيء شيئاً أدْنى منه من جنسه على سبيل الغشِّ والخداع ، وإن كان المعنى واحداً في الآيتين فإن الآية السابقة جاءت لتوضيح سبب الدَّخَل وعَلّته ، وهي أن تكون أُمة أَرْبى من أمة ، ويكسب أحد الأطراف على حساب الآخر . أما في هذه الآية فجاءت لتوضيح النتيجة من وجود الدَّخَل ، وهي :
{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا . . } [ النحل : 94 ] .
ففي الآية نَهْيٌ عن اتخاذ الأَيْمان للغش والخداع والتدليس؛ لأن نتيجة هذا الفعل فساد يأتي على المجتمع من أساسه ، وفَقْد للثقة المتبادلة بين الناس والتي عليها يقوم التعامل ، وتُبنَى حركة الحياة ، فالذي يُعطي عهداً ويُخلْفه ، ويحلف يميناً ويحنث فيه يشتهر عنه أنه مُخلِف للعهد ناقض للميثاق .
وبناءً عليه يسحب الناس منه الثقة فيه ، ولا يجرؤ أحد على الصَّفَق معه ، فيصبح مَهيناً ينفضُ الناس أيديهم منه ، بعد أنْ كان أميناً وأهلاً للثقة ومَحَلاً للتقدير .
هذا معنى قوله تعالى :
{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا . . . } [ النحل : 94 ] .
وبذلك يسقط حقُّه مع المجتمع ، ويحيق به سوء فِعْله ، ويجني بيده ثمار ما أفسده في المجتمع ، وبانتشار هذا الخلُق السيئ تتعطّل حركة الحياة ، وتضيع الثقة والأمانة .
إذن : هذه زَلَّة وكَبْوة بعد ثبات وقوة ، بعد أنْ كان أَهْلاً للثقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يُقبِل عليه الناس ، ويُحبُّون التعامل معه بما لديْه من شرف الكلمة وصِدْق الوعد ، فإذا به يتراجع للوراء ، ويتقهقر للخلف ، ويفقد هذه المكانة .
ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون : فلان اهتزَّ مركزه في السوق أي : زَلَّتْ قدمه بما حدث منه من نقْضٍ للعهود ، وحِنْث في الأيمان وغير ذلك مما لا يليق بأهل الثقة في السوق ، ومثل هذا ينتهي به الأمر إلى أنْ يعلنَ إفلاسه في دنيا التعامل مع الناس .
أما الوفاء بالعهود والمواثيق والأَيْمان فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة لا تتزحزح ولا تهتزّ ، فترى مال الناس جميعاً مالَه ، وتجد أصحاب الأموال مقبلين عليك يضعون أموالهم بين يديك ، بما تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل .
ولذلك ، فالتشريع الإسلامي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي لا يملك إلا سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء ، هذا هو رأس مالهم ، فإنْ دخل شريك بما لديْه من رأس المال ، فهذا شريك بما لديْه من شرف الكلمة وشرف السلوك ، ووجاهة بين الناس ، وماضٍ مُشرِّف من التعامل .
وهذه يسمونها " شركة الوجوه والأعيان " وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه الوجاهة إلا بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم ، وبما له من سوابق فضائل ومكارم .
وكذلك ، قد نرى هذه الثقة لا في شخص من الأشخاص ، بل نراها في ماركة من الماركات أو العلامات التجارية ، فنراها تُبَاع وتُشْتري ، ولها قيمة غالية في السوق بما نالتْه من احترام الناس وتقديرهم ، وهذا أيضاً نتيجة الصدق والالتزام والأمانة وشرف الكلمة .
(1/5024)
وقوله تعالى :
{ وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 94 ] .
السوء : أي العذاب الذي يسُوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس ، وكسَاد في الحال ، بعد أنْ سقط من نظر المجتمع ، وهدم جِسْر الثقة بينه وبين مجتمعه .
وقوله تعالى :
{ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله } [ النحل : 94 ] .
الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والأَيْمان ولا يُوفُونَ بها ، فهل في هذا صَدٌّ عن سبيل الله؟
نقول : أولاً إن معنى سبيل الله : كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة تُدَار بشرف وأمانة وصِدْق ونفاذ عهد .
ومن هنا ، فالذي يُخلف العهد ، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال يضنُّ بماله ، وصاحب المعروف يتراجع ، فلو أقرضتَ إنساناً وغدرَ بكَ فلا أظنُّك مُقرِضاً لآخر .
إذن : لا شَكَّ أن في هذا صداً عن سبيل الله ، وتزهيداً للناس في فعْل الخير .
وقوله تعالى :
{ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 94 ] .
فبالإضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدنيا ، وبعد أنْ زَلَّتْ بهم القدم ، ونزل بهم من عذاب الدنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذاب عظيم أي في الآخرة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ . . . } .
(1/5025)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينهانا ويُحذِّرنا : إياك أنْ تجعلَ عهد الله الذي أكدته للناس ، وجعلت الله عليه كفيلاً ، فبعد أن كنت حُراً في أن تعاهد أو لا تعاهد ، فبمجرد العهد أصبح نفاذه واجباً ومفروضاً عليك .
أو : عهد الله أي شرعه الذي تعاهدتَ على العمل به والحفاظ عليه ، وهو العهد الإيماني الأعلى ، وهو أن تؤمنَ بالله وبصدق الرسول في البلاغ عن الله ، وتلتزم بكل ما جاء به الرسول من أحكام ، إياك أنْ تقابله بشيء آخر تجعله أغْلى منه؛ لأنك إنْ نقضْتَ عهد الله لشيء آخر من متاع الدنيا الزائل فقد جعلتَ هذا الشيء أغلى من عهد الله؛ لأن الثمن مهما كان سيكون قليلاً .
ثم يأتي تعليل ذلك في قوله :
{ إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ . . } [ النحل : 95 ] .
فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدنيا مهما كَثُر ، بل فيما عند الله تعالى ، وقد أوضح ذلك في قوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] .
ولنا وقفة مع قوله تعالى :
{ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ . . . } [ النحل : 95 ] .
فهذا أسلوب توكيد بالقصر بإعادة الضمير ( هو ) ، فلم يَقُلِ الحق سبحانه إنما عند الله خير لكم ، فيحتمل أن ما عند غيره أيضاً خيْرٌ لكم ، أما في تعبير القرآن { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : الخير فيما عند الله على سبيل القَصْر ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
فجاء بالضمير " هو " ليؤكد أن الشافي هو الله لوجود مَظنّة أن يكون الشفاء من الطبيب ، أما في الأشياء التي لا يُظَنّ فيها المشاركة فتأتي دون هذا التوكيد كما في قوله تعالى : { والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] .
فلم يقل : هو يميتني هو يُحيين؛ لأنه لا يميت ولا يُحيي إلا الله ، فلا حاجةَ للتوكيد هنا .
ما الذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد؟
الذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد أنْ يرى مصلحة سطحية فوق ما تعاقد عليه تجعله يخرج عما تعاهد عليه إلى هذه السطحية ، ولكنه لو عقل وتدبَّر الأمر لعلم أنّ ما يسعى إليه ثمن بَخْسٌ ، ومكسب قليل زائل إذا ما قارنه بما ادخِر له في حالة الوفاء؛ لأن ما أخذه حظاً من دنياه لا بُدّ له من زوال .
والعقل يقول : إن الشيء ، إذا كان قليلاً باقياً يفضل الكثير الذي لا يبقى ، فما بالك إذا كان القليل هو الذي يفنى ، والكثير هو الذي يبقى .
ومثال ذلك : لو أعطيتُك فاكهة تكفيك أسبوعاً أو شهراً فأكلتها في يوم واحد ، فقد تمتعْتَ بها مرة واحدة ، وفاتَكَ منها مُتَعٌ وأكلاتٌ متعددة لو أكلتَها في وقتها .
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يُنبِّهك أنَّ ما عند الله هو الخير الحقيقي ، فجعل موازينك الإيمانية دقيقة ، فمن الحُمْق أن تبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني :
{ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 95 ] .
في الآية دِقَّة الحساب ، ودِقَّة المقارنة ، ودِقَّة حَلِّ المعادلات الاقتصادية .
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ . . } .
(1/5026)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى أن حظَّ الإنسان من دُنْياه عَرَضٌ زائل ، فإمَّا أن تفوته بالموت ، أو يفوتك هو بما يجري عليك من أحداث ، أما ما عند الله فهو بَاق لا نفاد له .
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا . . } [ النحل : 96 ] .
كلمة { صبروا } تدلُّ على أن الإنسان سيتعرّض لِهزَّاتٍ نفسية نتيجة ما يقع فيه من التردد بين الوفاء بالعهد أو نَقْضه ، حينما يلوح له بريق المال وتتحرَّك بين جنباته شهوات النفس ، فيقول له الحق تبارك وتعالى : اصبر . . اصبر لا تكُنْ عَجُولاً ، وقارن المسائل مقارنة هادئة ، وتحمَّل كل مشقة نفسية ، وتغلّب على شهوة النفس؛ لتصل إلى النتيجة المحمودة .
فالتلميذ الذي يجتهد ويتعب ويتحمَّل مشقة الدرس والتحصيل يصبر على الشهوات العاجلة لما ينتظره من شهوات باقية آجلة ، فوراء الدرس والتحصيل غايةٌ أكبر وهَدَفٌ أَسْمى .
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا . . } [ النحل : 96 ] .
أي : على مشقَّات الوفاء بالعهود .
{ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 96 ] .
أي : أجراً بالزيادة في الجزاء على أحسن ما يكون؛ فالإنسان حين يعمل مفروضاً أو مندوباً فله الجزاء ، أما المباح فالمفروض ألا جزاء له ، ولكنّ فضل الله يجزي عليه أيضاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً . . . } .
(1/5027)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
الحق تبارك وتعالى يُعطينا قضية عامة ، هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة ، فالعهود كانت عادةً تقع بين الرجال ، وليس للمرأة تدخُّل في إعطاء العهود ، حتى إنها لما دخلتْ في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة جعل واحداً من الصحابة يبايع النساء نيابة عنه .
إذن : المرأة بعيدة عن هذا المعتَرك نظراً لأن هذا من خصائص الرجال عادةً ، أراد سبحانه أن يقول لنا : نحن لا نمنع أن يكونَ للأنثى عملٌ صالح .
ولا تظنّ أن المسألة منسحبة على الرجال دون النساء ، فالعمل الصالح مقبول من الذكر والأنثى على حدٍّ سواء ، شريطة أنْ يتوفَّر له الإيمان ، ولذلك يقول تعالى :
{ وَهُوَ مُؤْمِنٌ . . } [ النحل : 97 ] .
وبذلك يكون العمل له جَدْوى ويكون مقبولاً عند الله؛ ولذلك نرى كثيراً من الناس الذين يُقدِّمون أعمالاً صالحة ، ويخدمون البشرية بالاختراعات والاكتشافات ، ويداوون المرضى ، ويبنون المستشفيات والمدارس ، ولكن لا يتوفر لهم شرط الإيمان بالله .
فنرى الحق تبارك وتعالى لا يبخس هؤلاء حقهم ، ولكن يُعجِّله لهم في الدنيا؛ لأنه لا حَظَّ لهم في أجر الآخرة ، يقول تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] .
وهذا كله خاصٌّ بأمور الدنيا ، فالذي يحسن شيئاً ينال ثمرته ، لكن في جزاء الآخرة نقول لهؤلاء : لا حَظَّ لكم اليوم ، وخذوا أجركم مِمَّنْ عملتُم له فقد عملتُم الخير للإنسانية للشهرة وخلود الذكْر ، وقد أخذتم ذلك في الدنيا فقد خَلَّدوا ذِكْراكم ، ورفعوا شأنكم ، وصنعوا لكم التماثيل ، ولم يبخسوكم حَقَّكم في الشُّهْرة والتكريم .
ويوم القيامة يواجههم الحق سبحانه وتعالى : فعلتم ليقال . . وقد قيل ، فاذهبوا وخذوا ممَّنْ عملتم لهم .
هؤلاء الذين قال الله في حقهم : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] .
يُفاجأ يوم القيامة أن له إلهاً كان ينبغي أنْ يؤمن به ويعمل ابتغاء وجهه ومرضاته .
إذن : فالإيمان شَرْطٌ لقبول العمل الصالح ، فإذا ما توفر الإيمان فقد استوى الذّكَر والأنثى في الثواب والجزاء .
يقول تعالى :
{ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً . . } [ النحل : 97 ] .
هذه هي النتيجة الطبيعة للعمل الصالح الذي يبتغي صاحبه وجه الله والدار الآخرة ، فيجمع الله له حظين من الجزاء ، حظاً في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة ، وحظاً في الآخرة :
{ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] .
ويقول الحق سبحانه : { فَإِذَا قَرَأْتَ . . . } .
(1/5028)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
الاستعاذة : اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافُه ، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم ، ولا تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرتَ في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك .
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان ، وما له من مداخل للنفس البشرية فلا حَوْلَ لك ولا قُوّة في مقاومته إلا أنْ تلجأ إلى الله القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان ، وهو القادر وحده على رَدّه عنك؛ لأن الشيطان في معركة مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة .
وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى ، فقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ] .
فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء ، ما عليك إلا أنْ ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به ، فهو سبحانه القوي القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت دَفْعه عن نفسك ، فلا تقاومه بقوتك أنت؛ لأنه لا طاقة لك به ، ولا تدعه ينفرد بك؛ لأنه إن انفرد بك وأبعدك عن الله فسوف تكون له الغلبة .
ولذلك نقول دائماً : لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله ، أي : لا حول : لا تحوُّل عن المعصية . ولا قوة . أي : على الطاعة إلا بالله .
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلاً قد يتعرَّض لمَنْ يعتدي عليه من أمثاله من الصبية ، أما إذا كان في صُحْبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أنْ يتعرضَ له ، فما بالك بمَنْ يسير في صُحْبة ربه تبارك وتعالى ، ويُلْقي بنفسه في حماية الله سبحانه؟!
وفي مقام الاستعاذة بالله نذكر قاعدة إيمانية علَّمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف : " من استعاذ بالله فأعيذوه " .
فيلزم المؤمن أنْ يعيذ من استعاذ بالله ، وإنْ كان في أحب الأشياء إليه ، " والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا القدوة في ذلك ، حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن نساءه غِرْنَ منها ، وأخذْنَ في الكَيْد لها وزحزحتها من أمامهن حتى لا تغلبهن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن كيف لهُنَّ ذلك؟
حاولْنَ استغلال أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غِرة ، تتمتع بسلامة النية وصفاء السريرة ، ليس لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه لُؤْماً أو مكْراً ، وهي أيضاً ما تزال في نشوة فرحتها بأنْ أصبحت أماً للمؤمنين ، وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستغل نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله ، وقالت لهن إحداهن : إذا دخلتِ على رسول الله فقولي له : أعوذ بالله منك ، فإنه يحب هذه الكلمة .
أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلامة النية ، ومحبة لرسول الله ، وحرص على إرضائه ، وقالت له : أعوذ بالله منك ، وهي لا تدري معنى هذه العبارة فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد عُذْت بمعاذ ، الحقي بأهلك " .
(1/5029)
أي : ما دُمْت استعذت بالله فأنا قبلت هذه الاستعاذة؛ لأنكِ استعذت بمعاذ أي : بمن يجب علينا أن نترككِ من أجله ، ثم طلقها النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لهذه الاستعاذة .
إذن : مَن استعاذ بالله لا بُدَّ للمؤمن أنْ يُعيذه ، ومن استجار بالله لا بُدَّ للمؤمن أن يكون جندياً من جنود الله ، ويجيره حتى يبلغ مأمنه .
وفي الآية الكريمة أسلوب شرط ، اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى :
{ فاستعذ . . . } [ النحل : 98 ] .
فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتبٌ على ما قبلها ، كما لو قُلْتَ : إذا قابلت محمداً فقُلْ له كذا . . فلا يتم القول إلا بعد المقابلة . أما في الآية الكريمة فالمراد : إذا أردت قراءة القرآن فاستعِذْ؛ لأن الاستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة ، كما جاء في قَول الحق تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ . . } [ المائدة : 6 ] .
فالمعنى : إذا أردتُمْ إقامة الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، وكذلك إذا أردتَ قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن القرآن كلام الله .
ولو آمنّا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة أخرى ، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة :
أولها : استحضار قداسة المُنْزِل سبحانه الذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلامه .
ثانيها : استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزّل عليه .
ثالثها : استحضار عظمة القرآن الكريم ، بما فيه من أوجه الإعجاز ، وما يحويه من الآداب والأحكام .
إذن : لديك ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم ، وكل منها عمل صالح لن يدعكَ الشيطانُ تؤديه دون أنْ يتعرَّض لك ، ويُوسوس لك ، ويصرفك عما أنت مُقبِلٌ عليه .
وساعتها لن تستطيع منعه إلا إذا استعنت عليه بالله ، واستعذتَ منه بالله ، وبذلك تكون في معية الله منزل القرآن سبحانه وتعالى ، وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقاً ، ومع استقبال ما في القرآن من إعجاز وآداب وأحكام .
ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن .
ومع ذلك لا مانع من حَمْل المعنى على الاستعاذة أيضاً بعد قراءة القرآن ، فيكون المراد : إذا قرأتَ القرآن فاستعذ بالله . . أي : بعد القراءة؛ لأنك بعد أن قرأتَ كتاب الله خرجتَ منه بزاد إيماني وتجليّات ربانية ، وتعرَّضْتَ لآداب وأحكام طُلبت منك ، فعليك إذن أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسِد عليك هذا الزاد وتلك التجليات أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام .
وقوله تعالى :
{ مِنَ الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
أي : الملعون المطرود من رحمة الله؛ لأن الشيطان ليس مخلوقاً جديداً يحتاج أنْ نُجرِّبه لنعرف طبيعته وكيفية التعامل معه ، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلام .
وقد حذر الله تعالى آدم منه فقال : { يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ . . } [ طه : 117 ] .
وسبق أنْ رُجم ولُعِن وأُبعِد من رحمة الله ، فقد هددنا بقوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ . . } [ الإسراء : 62 ] .
إذن : هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خُلِق الإنسان ، وإلى قيام الساعة .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ . . } .
(1/5030)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
لحكمة أرادها الخالق سبحانه أنْ جعل للشيطان سلطاناً . أي : تسلطاً .
وكلمة ( السلطان ) مأخوذة من السَّليط ، وهو الزيت الذي كانوا يُوقِدون به السُّرج والمصابيح قبل اكتشاف الكهرباء ، فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل السلطانية يخرج منه فتيلة ، وعندما توقد تمتصّ من هذا الزيت وتُضيء؛ ولذلك سُمِّيتْ الحجة سُلْطاناً؛ لأنها تنير لصاحبها وَجْه الحق .
والسلطان ، إما سلطان حجة تقنعك بالفعل ، فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به . وإما سلطان قَهْر وغلبة يجبرك على الفعل ويحملك عليه قَهْراً دون اقتناع به .
إذن : تنفيذ المطلوب له قوتان : قوة الحجة التي تُضيء لك وتُوضّح أمامك معالم الحق ، وقوة القهر التي تُجبرك على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناع وإنْ لم ترهَا .
والحقيقة أن الشيطان لا يملك أيّاً من هاتين القوتين ، لا قوة الحجة والإقناع ، ولا قوة القهر . وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامة : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] .
هذا حوار يدور يوم القيامة بعد أن انتهتْ المسألة وتكشفتْ الحقيقة ، وجاء وقت المصارحة والمواجهة . يقول الشيطان لأوليائه مُتنصلاً من المسئولية : ما كان عندي من سلطان عليكم ، لا سلطان حجة تقنعكم أنْ تفعلوا عن رضاً ، ولا سلطان قَهْر أجبركم به أن تفعلوا وأنتم كارهون ، أنا فقط أشرتُ ووسوستُ فأتيتموني طائعين . { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ . . } [ إبراهيم : 22 ] .
أي : نحن في الخيبة سواء ، فلا أستطيع نجدتكم ، ولا تستطيعون نجدتي؛ لأن الصُّراخَ يكون من شخص وقع في ضائقة أو شدة لا يستطيع الخلاص منها بنفسه ، فيصرخ بصوت عالٍ لعله يجد مَنْ يُغيثه ويُخلِّصه ، فإذا ما استجاب له القوم فقد أصرخوه . أي : أزالوا سبب صُرَاخه .
إذن : فالمعنى : لا أنا أستطيع إزالة سبب صراخكم ، ولا أنتم تستطيعون إزالة سبب صُرَاخي .
وكذلك في حوار آخر دار بين أهل الباطل الذين تكاتفوا عليه في الدنيا ، وها هي المواجهة يوم القيامة : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } [ الصافات : 24-30 ] .
والمراد بقوله : ( عَنِ اليَمِينِ ) أن الإنسان يزاول أعماله بكلتا يديه ، لكن اليد اليمنى هي العُمْدة في العمل ، فأتيته عن اليمين أي : من ناحية اليد الفاعلة .
وقوله : { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } [ الصافات : 30 ] .
أي : في انتظار إشارة منّا ، مجرد إشارة ، فسارعتم ووقعتم فيما وقعتُم فيه .
فعلى مَنْ يكون تسلط الشيطان وتلك الغلبة والقهر؟
يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن تسلّط الشيطان لا يقع على مَنْ آمن به رباً ، ولجأ إليه واعتصم به ، وما دُمْت آمنتَ بالله فأنت في مَعيّته وحِفْظه ، ولا يستطيع الشيطان وهو مخلوق لله تعالى أنْ يتسلط عليك أو يغلبك .
إذن : الحصن الذي يقينا كيْدَ الشيطان هو الإيمان بالله والتوكّل عليه سبحانه .
فعلى مَنْ إذن يتسلّط الشيطان؟
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى الجانب المقابل ، فيقول : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ . . } .
(1/5031)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
معنى يتولونه : أي يتخذونه وَليّاً يطيعون أمره ، ويخضعون لوسوسته ، ويتبعون خطواته :
{ الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] .
أي : مشركون بالله ، أو يكون المعنى : وهُمْ به أي بسببه أشركوا؛ لأنه أصبح له أوامر ونواه وهم يطيعونه ، وهذه هي العبادة بعينها ، فكأنهم عبدوه من دون الله بما قدّموه من طاعته في أمره ونَهْيه .
وقد سَمَّى الله طريقة الشيطان في الإضلال والغواية وَسْوسةً ، والوسوسة في الحقيقة هي صَوْت الحُليّ حينما يتحرك في أيدي النساء ، فيُحدِث صوتاً رقيقاً فيه جاذبية وإغراء تهيج له النفس ، وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الإغراء والتزيين ، فإذا ما هاجتْ عليك نفسُك وحدّثتْك بالمعصية تركك لها ، فعند هذه النقطة تنتهي مُهمته .
ولكن ، هل النفس لا تفعل المعصية إلا بوسوسة الشيطان؟
قالوا : لا ، فالنفس والمراد هنا النفس الأمّارة بالسوء قد تفعل المعصية من نفسها دون وسوسة من الشيطان ، وقد يُوسْوِسُ الشيطان لها ، وينزغها نَزغاً ويُؤلِّبها ، ويُزِّين لها معصية ما كانت على بالها .
فكيف إذن يُفرّق بين هاتين المعصيتين؟
النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها ، وإذا قاومتَ نفسك ، وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشهوة ألحَّتْ عليك بها ، وطلبتها بعينها ، فشهوة النفس إذن ثابتة؛ لأنها تشتهي شيئاً واحداً تُلح عليه .
ولكن حينما يُوسوِسُ الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته صرف نظرك إلى أخرى؛ لأنه يريدك عاصياً بأيِّ شكل من الأشكال ، فتراه يُزيِّن لك معصية أخرى وأخرى ، إلى أنْ ينال منك ما يريد .
ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلاً والعياذ بالله فإنْ رفضتَ رشوة المال زيَّن لك رشوة الهدية ، وإنْ رفضتَ رشوة الهدية زيَّنَ لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة .
وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة ضَعْف فيك ، إذن : فهو ليس كالنفس يقف بك عند شهوة واحدة ، ولكنه يريد أن يُوقِع بك على أيِّ صورة من الصور .
ولكي نقفَ على مداخل الشيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أن الشيطان على علم كبير وصل به إلى صفوف الملائكة ، بل سَمَّوه " طاووس الملائكة " ، ويمكن أن نقف على شيء من علم الشيطان في دِقّة قَسَمه ، حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن يُغوي بني آدم ، فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ] .
هكذا عرف الشيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب ، فلم يَقُلْ : بقوتي ولا بحجتي سأغوي الخَلْق ، بل عرف لله تعالى صفة العزة ، فهو سبحانه عزيز لا يُغلب؛ لذلك ترك لخلْقه حرية الإيمان به ، فقال : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
فالمعنى : فبعزتك عن خَلْقك : يؤمن مَنْ يؤمن ، ويكفر مَنْ يكفر ، سوف أدخل من هذا الباب لإغواء البشر ، ولكني لا أجرؤ على الاقتراب ممَّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم ، لن أتعرَّضَ لعبادك المخلصين ، ولا دَخْلَ لي بهم ، ولا سلطان لي عليهم .
(1/5032)
كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه ، وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا إلى الحذر من هذا اللعين . فالشيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلاً ، فقد كفاه أهلُها مشقة الوَسْوسة ، ووفّروا عليه المجهود ، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه ومُريحوه بما هم عليه من معصية الله ، ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليُفسِد على أهل الطاعة طاعتهم .
وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان ، وكان مشهوراً بالفِطْنة ، وعلى دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه ، وكل هذا جعل له باعاً طويلاً في الإفتاء ، وقد عرض عليه أحدهم هذه المسألة :
قال : يا إمام كان لديّ مال دفنته في مكان كذا ، وجعلتُ عليه علامة ، فجاء السَّيْل وطمس هذه العلامة ، فلم أَهتدِ إليه ، فماذا أفعل؟
فتبسَّم أبو حنيفة وقال : يا بُني ليس في هذا علم ، ففي أيّ باب من أبواب الفقه سيجد أبو حنيفة هذه القضية؟! ولكني سأحتال لك .
وفعلاً تفتقتْ قريحة الإمام عن هذه الحيلة التي تدل على عِلْمه وفقهه ، قال له : إذا جئتَ في الليل فتوضّأ ، وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجِّداً . وفي الصباح أخبرني خبرك .
وفي صلاة الفجر قابله الرجل مُبتسِماً . يقول : لقد وجدتُ المال ، فقال : كيف؟ قال الرجل : حينما وقفتُ بين يديْ ربي في الصلاة تذكرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي ، فضحك الإمام وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعَك تُتِم ليلتك مع ربك .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ . . } .
(1/5033)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قوله : { بَدَّلْنَآ } ومنها : أبدلت واستبدلْتُ ، أي : رفعتُ آية وطرحتُها . وجئت بأخرى بدلاً منها ، وقد تدخل الباء على الشيء المتروك ، كما في قوله تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ . . } [ البقرة : 61 ] .
أي : تتركون ما هو خير ، وتستبدلون به ما هو أدنى .
وما معنى الآية؟ كلمة آية لها مَعَانٍ متعددة منها :
الشيء العجيب الذي يُلفت الأنظار ، ويُبهر العقول ، كما نقول : هذا آية في الجمال ، أو في الشجاعة ، أو في الذكاء ، أي : وصل فيه إلى حَدِّ يدعو إلى التعجُّب والانبهار .
ومنها الآيات الكونية ، حينما تتأمل في كون الله من حولك تجد آياتٍ تدلُّ على إبداع الخالق سبحانه وعجيب صنعته ، وتجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونية .
يقول تعالى عن هذا النوع من الآيات : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر } [ فصلت : 37 ] . { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ] .
ونلاحظ أن هذه الآيات الكونية ثابتة دائمة لا تتبّدل ، كما قال الحق تبارك وتعالى : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً . . } [ الفتح : 23 ] .
ومن معاني الآية : المعجزة ، وهي الأمر العجيب الخارق للعادة ، وتأتي المعجزة على أيدي الأنبياء لتكون حُجّة لهم ، ودليلاً على صدق ما جاءوا به من عند الله .
ونلاحظ في هذا النوع من الآيات أنه يتبدّل ويتغيّر من نبي لآخر؛ لأن المعجزة لا يكون لها أثرها إلا إذا كان في شيء نبغ فيه القوم؛ لأن هذا هو مجال الإعجاز ، فلو أتيناهم بمعجزة في مجال لا عِلْمَ لهم به لقالوا : لو أن لنا عِلْماً بهذا لأتيْنا بمثله؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغُوا فيه ، وعَلموه جيداً حتى اشتهروا به .
فلما نبغَ قوم موسى عليه السلام في السحر كانت معجزته من نوع السحر الذي يتحدى سحرهم ، فلما جاء عيسى عليه السلام ونبغ قومه في الطب والحكمة كانت معجزته من نفس النوع ، فكان عليه السلام يبريء الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله .
فلما بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبغ قومه في البلاغة والفصاحة والبيان ، وكانوا يقيمون لها الأسواق ، ويُعلّقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازاً بها ، فكان لا بُدَّ أنْ يتحدّاهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم ، وهكذا تتبدّل المعجزات لتناسب كُلٌّ منها حال القوم ، وتتحدّاهم بما اشتهروا به ، لتكون أَدْعى للتصديق وأثبت للحجة .
ومن معاني كلمة آية : آيات القرآن الكريم التي نُسميّها حاملة الأحكام ، فإذا كانت الآية هي الأمر العجيب ، فما وجه العجب في آيات القرآن؟
وجه العجب في آيات القرآن أن تجدَ هذه الآيات في أُمّة أُمية ، وأُنزِلتْ على نبي أُميٍّ في قوم من البدو الرُّحل الذين لا يجيدون شيئاً غير صناعة القول والكلام الفصيح ، ثم تجد هذه الآيات تحمل من القوانين والأحكام والآداب ما يُرهب أقوى حضارتين معاصرتين ، هما حضارة فارس في الشرق ، وحضارة الرومان في الغرب ، فنراهم يتطلّعون للإسلام ، ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم ، أليس هذا عجيباً؟
وهذا النوع الأخير من الآيات التي هي آيات الكتاب الكريم ، والتي نُسمّيها حاملة الأحكام ، هل تتبدّل هي الأخرى كسابقتها؟
نقول : آيات الكتاب لا تتبدّل؛ لأن أحكام الله المطلوبة مِمَّن عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأحكام المطلوبة مِمَّنْ تقوم عليه الساعة .
(1/5034)
وقد سُبق الإسلام باليهودية والمسيحية ، فعندنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة . اعترض على ذلك اليهود وقالوا : ما بال محمد لا يثبتُ على حال ، فيأمر بالشيء اليوم ، ويأمر بخلافه غداً ، فإنْ كان البيت الصحيح هو الكعبة فصلاتكم لبيت المقدس باطلة ، وإنْ كان بيت المقدس هو الصحيح ، فصلاتكم للكعبة باطلة .
لذلك قال الحق تبارك وتعالى :
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ . . } [ النحل : 101 ] .
فالمراد بقوله الحق سبحانه :
{ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ . . . } [ النحل : 101 ] .
أي : جِئْنا بآية تدلُّ على حكم يخالف ما جاء في التوراة ، فقد كان استقبال الكعبة في القرآن بدل استقبال بيت المقدس في التوراة .
وقوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ . . } [ النحل : 101 ]
أي : يُنزل كل آية حَسْب ظروفها : أمةً وبيئةً ومكاناً وزماناً .
وقوله : { قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ . . } [ النحل : 101 ] .
أي : اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب المتعمد ، وأن هذا التحويل من عنده ، وليس وَحْياً من الله تعالى؛ لأن أحكام الله لا تتناقض . ونقول : نعم أحكام الله سبحانه وتعالى لا تتناقض في الدين الواحد ، أما إذا اختلفتْ الأديان فلا مانعَ من اختلاف الأحكام .
إذن : فآيات القرآن الكريم لا تتبدّل ، ولكن يحدث فيها نَسْخ ، كما قال الحق تبارك وتعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . . } [ البقرة : 106 ] .
وإليك أمثلة للنسْخ في القرآن الكريم :
حينما قال الحق سبحانه : { فاتقوا الله مَا استطعتم . . } [ التغابن : 16 ] .
جعل الاستطاعة ميزاناً للعمل ، فالمشرّع سبحانه حين يرى أن الاستطاعةَ لا تكفي يُخفّف عنَّا الحكم ، حتى لا يُكلِّفنا فوق طاقتنا ، كما في صيام المريض والمسافر مثلاً ، وقد قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . . } [ البقرة : 286 ] .
وقال : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } [ الطلاق : 7 ] .
فليس لنا بعد ذلك أنْ نلويَ الآيات ونقول : إن الحكم الفلاني لم تَعُدْ النفس تُطيقه ولم يَعُد في وُسْعنا ، فالحق سبحانه هو الذي يعلم الوُسْع ويُكلّف على قَدْره ، فإنْ كان قد كلّف فقد علم الوُسْع ، بدليل أنه سبحانه إذا وجد مشقة خفَّف عنكم من تلقاء نفسه سبحانه ، كما قال تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً . . } [ الأنفال : 66 ] .
ففي بداية الإسلام حيث شجاعة المسلمين وقوتهم ، قال تعالى :
(1/5035)
{ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] .
أي : نسبة واحد إلى عشرة ، فحينما علم الحق سبحانه فيهم ضَعْفاً ، قال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ . . } [ الأنفال : 66 ] .
أي : نسبة واحد إلى اثنين . فالله تعالى هو الذي يعلم حقيقة وُسْعنا ، ويُكلِّفنا بما نقدر عليه ، ويُخفِّف عَنَّا عند الحاجة إلى التخفيف ، فلا يصح أنْ نُقحِم أنفسنا في هذه القضية ، ونُقدّر نحن الوُسْع بأهوائنا .
ومن أمثلة النسخ أن العرب كانوا قديماً لا يعطون الآباء شيئاً من المال على اعتبار أن الوالد مُنْته ذاهب ، ويجعلون الحظ كله للأبناء على اعتبار أنهم المقبلون على الحياة .
وحينما أراد الحق سبحانه أن يجعل نصيباً للوالدين جعلها وصية فقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ . . } [ البقرة : 180 ] .
فلما استقر الإيمان في النفوس جعلها ميراثاً ثابتاً ، وغَيَّر الحكم من الوصية إلى خير منها وهو الميراث ، فقال تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس . . } [ النساء : 11 ] .
إذن : الحق تبارك وتعالى حينما يُغيّر آية ينسخها بأفضل منها .
وهذا واضح في تحريم الخمر مثلاً ، حيث نرى هذا التدريج المحكم الذي يراعي طبيعة النفوس البشرية ، وأن هذا الأمر من العادات التي تمكَّنَتْ من النفوس ، ولا بُدًَّ لها من هذا التدرُّج ، فهذا ليس أمراً عَقَدياً يحتاج إلى حُكْم قاطع لا جدال فيه .
فانظر إلى هذا التدرج في تحريم الخمر : قال تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] .
أهل التذوق والفهم عن الله حينما سمعوا هذه الآية قالوا : لقد بيَّت الله للخمر أمراً في هذه الآية؛ ذلك لأنه وصف الرزق بأنه حَسَن ، وسكت عن السَّكَر فلم يصفه بالحُسْن ، فدلَّ ذلك على أن الخمر سيأتي فيه كلام فيما بعد .
وحينما سُئِل صلى الله عليه وسلم عن الخمر رَدَّ القرآن عليهم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا . . } [ البقرة : 219 ] .
جاء هذا على سبيل النصح والإرشاد ، لا على سبيل الحكم والتشريع ، فعلى كل مؤمن يثق بكلام ربه أن يرى له مَخْرجاً من أَسرْ هذه العادة السيئة .
ثم لُوحِظ أن بعض الناس يُصلي وهو مخمور ، حتى قال بعضهم في صلاته : أعبد ما تعبدون ، فجاء الحكم : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ . . } [ النساء : 43 ] .
ومقتضى هذا الحكم أنْ يصرفهم عن الخمر معظم الوقت ، فلا تتأتى لهم الصلاة دون سُكْر إلا إذا امتنعوا عنها قبل الصلاة بوقت كافٍ ، وهكذا عوَّدهم على تركها معظم الوقت ، كما يحدث الآن مع الطبيب الذي يعالج مريضه من التدخين مثلاً ، فينصحه بتقليل الكمية تدريجياً حتى يتمكَّن من التغلب على هذه العادة .
وبذلك وصل الشارع الحكيم سبحانه بالنفوس إلى مرحلة ألفَتْ فيها تَرْك الخمر ، وبدأت تنصرف عنها ، وأصبحت النفوس مُهيّئة لتقبُّل التحريم المطلق ، فقال تعالى :
(1/5036)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه . . } [ المائدة : 90 ] .
إذن : الحق سبحانه وتعالى نسخ آية وحُكْماً بما هو أحسن منه .
والعجيب أنْ نرى من علمائنا مَنْ يتعصّب للقرآن ، فلا يقبل القول بالنسخ فيه ، كيف والقرآن نفسه يقول : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . . } [ البقرة : 106 ] .
قالوا : لأن هناك شيئاً يُسمَّى البداء . . ففي النسخ كأن الله تعالى أعطى حُكْماً ثم تبيّن له خطؤه ، فعدل عنه إلى حُكْم آخر .
ونقول لهؤلاء : لقد جانبكم الصواب في هذا القول ، فمعنى النسخ إعلان انتهاء الحكم السابق بحكم جديد أفضل منه ، وبهذا المعنى يقع النسخ في القرآن الكريم .
ومنهم مَنْ يقف عند قوه الحق تبارك وتعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . . } [ البقرة : 106 ] .
فيقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } فيها عِلَّة للتبديل ، وضرورة تقتضي النسخ وهي الخيرية ، فما عِلَّة التبديل في قوله : { أَوْ مِثْلِهَا } ؟
أولاً : في قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } قد يقول قائل : ولماذا لم يَأْتِ بالخيرية من البداية؟
نقول : لأن الحق سبحانه حينما قال : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ . . } [ آل عمران : 102 ] .
وهذه منزلة عالية في التقوى ، لا يقوم بها إلا الخواصّ من عباد الله ، شَقَّتْ هذه الآية على الصحابة وقالوا : ومَنْ يستطيع ذلك يا رسول الله؟
فنزلت : { فاتقوا الله مَا استطعتم . . } [ التغابن : 16 ] .
وجعل الله تعالى التقوى على قدر الاستطاعة ، وهكذا نسخت الآية الأولى مطلوباً ، ولكنها بقيت ارتقاء ، فَمنْ أراد أنْ يرتقي بتقواه إلى ( حَقّ تُقَاتِهِ ) فبها ونِعْمت ، وأكثر الله من أمثاله وجزاه خيراً ، ومَنْ لم يستطع أخذ بالثانية .
ولو نظرنا إلى هاتين الآيتين نظرة أخرى لوجدنا الأولى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ . . . } [ آل عمران : 102 ] .
وإنْ كانت تدعو إلى كثير من التقوى إلا أن العاملين بها قِلَّة ، في حين أن الثانية : { فاتقوا الله مَا استطعتم . . } [ التغابن : 16 ] .
وإنْ جعلتَ التقوى على قَدْر الاستطاعة إلا أن العاملين بها كثير ، ومن هنا كانت الثانية خَيْراً من الأولى ، كما نقول : قليل دائم خير من كثير منقطع .
أما في قوله تعالى : { أَوْ مِثْلِهَا } أي : أن الأولى مِثْل الثانية ، فما وَجْه التغيير هنا ، وما سبب التَبديل؟
نقول : سببه هنا اختبار المكلَّف في مدى طاعته وانصياعه ، إنْ نُقِل من أمر إلى مثله ، حيث لا مشقَّة في هذا ، ولا تيسيرَ في ذاك ، هل سيمتثل ويطيع ، أم سيجادل ويناقش؟
مثل هذه القضية واضحة في حادث تحويل القبلة ، حيث لا مشقة على الناس في الاتجاه نحو بيت المقدس ، ولا تيسير عليهم في الاتجاه نحو الكعبة ، الأمر اختبار للطاعة والانصياع لأمر الله ، فكان من الناس مَنْ قال : سمعاً وطاعة ونفّذوا أمر الله فوراً دون جدال ، وكان منهم مَن اعترض وأنكر واتهم رسول الله بالكذب على الله .
(1/5037)
ومن ذلك أيضاً ما نراه في مناسك الحج مما سنَّه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نُقبل الحجر الأسعد وهو حجر ، ونرمي الجمرات وهي أيضاً حجر ، إذن : هذه أمور لا مجال للعقل فيها ، بل هي لاختبار الطاعة والانقياد للمشرع سبحانه وتعالى .
ثم يقول تعالى :
{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 101 ] .
بل : حرف يفيد الإضراب عن الكلام السابق وتقرير كلام جديد ، فالحق سبحانه وتعالى يُلغي كلامهم السابق :
{ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ . . . } [ النحل : 101 ] .
ويقول لهم : لا ليس بمفتر ولا كذاب ، فهذا اتهام باطل ، بل أكثرهم لا يعلمون .
وكلمة { أَكْثَرُهُمْ } هنا ليس بالضرورة أنْ تقابل بالأقل ، فيمكن أن نقول : أكثرهم لا يعلمون . وأيضاً : أكثرهم يعلمون كما جاء في قول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ] .
هكذا بالإجماع ، تسجد لله تعالى جميع المخلوقات إلا الإنسان ، فمنه كثير يسجد ، يقابله أيضاً كثير حَقَّ عليه العذاب ، فلم يقُلْ القرآن : وقليل حَقَّ عليه العذاب .
وعلى فَرْض أن :
{ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 101 ] .
إذن : هناك أقلية تعلم صِدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه ، وتعلم كذبهم وافتراءهم على رسول الله حينما اتهموه بالكذب ، ويعلمون صِدْق كل آية في مكانها ، وحكمة الله المرادة من هذه الآية .
فَمنْ هم هؤلاء الذين يعلمون في صفوف الكفار والمشركين؟
قالوا : لقد كان بين هؤلاء قَوْم أصحاب عقول راجحة ، وفَهْم للأمور ، ويعلمون وجه الحق والصواب في هذه المسألة ، ولكنهم أنكروها ، كما قال الحق تبارك وتعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .
وأيضاً من هؤلاء أصحاب عقول يفكرون في الهدى ، ويُراودهم الإسلام ، وكأن لديهم مشروعَ إسلام يُعِدون أنفسهم له ، وهم على علم أن كلام الكفار واتهامهم لرسول الله باطل وافتراء .
وأيضاً من هؤلاء مؤمنون فعلاً ، ولكن تنقصهم القوة الذاتية التي تدفع عنهم ، والعصبية التي تردّ عنهم كَيْد الكفار ، وليس عندهم أيضاً طاقة أنْ يهاجروا ، فهم ما يزالون بين أهل مكة إلا أنهم مؤمنون ويعلمون صِدْق رسول الله وافتراء الكفار عليه ، لكن لا قدرة لهم على إعلان إيمانهم .
وفي هؤلاء يقول الحق تبارك وتعالى : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ . . . } [ الفتح : 24-25 ] .
أي : تدخلوا على أهل مكة وقد اختلط الحابل بالنابل ، والمؤمن بالكافر ، فتقتلوا إخوانكم المؤمنين دون علم . { لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ] .
أي : لو كانوا مُميّزين ، الكفار في جانب ، والمؤمنون في جانب لَعذَّبْنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً .
إذن : فإن كان أكثرهم لا يعلمون ويتهمونك بالكذب والافتراء فإنَّ غير الأكثرية يعلم أنهم كاذبون في قولهم :
{ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] .
وما داموا اتهموك بالافتراء فقُلْ رداً عليهم : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ . . . } .
(1/5038)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يرد على الكفار افتراءهم على رسول الله ، واتهامهم له بالكذب المتعمد ، وأنه جاء بهذه الآيات من نفسه ، فقال له : يا محمد قُلْ لهؤلاء : بل نزَّله روح القُدس .
والقدس : أي المطهّر ، من إضافة الموصوف للصفة ، كما نقول : حاتم الجود مثلاً . والمراد ب " روح القُدُس " سفير الوحي جبريل عليه السلام ، وقد قال عنه في آية أخرى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
وقال عنه : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 19-21 ] .
وقوله الحق سبحانه :
{ مِن رَّبِّكَ بالحق . . . } [ النحل : 102 ] .
أي : أن جبريل لم يأْتِ بهذا القرآن من عنده هو ، بل من عند الله بالحق ، فمُحمد صلى الله عليه وسلم لم يَأْتِ بالقرآن من عنده ، وكذلك جبريل ، فالقرآن من عند الله ، ليس افتراءً على الله ، لا من محمد ، ولا من جبريل عليهما السلام .
وقوله تعالى :
{ لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 102 ] .
أي : ليُثبِّتَ الذين آمنوا على تصديق ما جاء به الرسول من الآيات ، أن الله تعالى أعلمُ بما يُنزل من الآيات ، وأن كل آية منها مُناسِبة لزمانها ومكانها وبيئتها ، وفي هذا دليلٌ على أن المؤمنين طائعون مُنصَاعون لله تعالى مُصدِّقون للرسول صلى الله عليه وسلم في كُلِّ ما بلغ عن ربه تعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ . . . } .
(1/5039)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
وفي هذه الآية اتهام آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتراء جديد عليه ، لا يأنف القرآن من إذاعته ، فمَنْ سمع الاتهام والافتراء يجب أن يسمع الجواب ، فالقرآن يريد أنْ يفضحَ أمر هؤلاء ، وأنْ يُظهِر إفلاس حُججهم وما هم فيه من تخبُّط .
يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ . . } [ النحل : 103 ] .
وقد سبق أنْ قالوا عن رسول الله " مجنون " وبرَّأه الله بقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] .
والخلقُ العظيم لا يكون في مجنون؛ لأن الخلُق الفاضل لا يُوضع إلا في مكانه ، بدليل قوله تعالى : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [ القلم : 2 ] .
وسبق أنْ قالوا : ساحر وهذا دليل على أنهم مغفلون يتخبَّطون في ضلالهم ، فلو كان محمد ساحراً ، فَلِمَ لم يسحركم كما سحر المؤمنين به وتنتهي المسألة؟
وسبق أنْ قالوا " شاعر " مع أنهم أدْرى الناس بفنون القول شِعْراً ونثراً وخطابة ، ولم يُجرِّبوا على محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك ، لكنه الباطل حينما يَلجّ في عناده ، ويتكبّر عن قبول الحق .
وهنا جاءوا بشيء جديد يُكذِّبون به رسول الله ، فقالوا :
{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ . . . } [ النحل : 103 ] .
أي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد على أحد أصحاب العلم ليعلمه القرآن فقالوا : إنه غلام لبي عامر بن لؤي اسمه ( يعيش ) ، وكان يعرف القراءة والكتاب ، وكان يجلب الكتب من الأسواق ، ويقرأ قصص السابقين مثل عنترة وذات الهمة وغيرها من كتب التاريخ .
وقد تضاربتْ أقوالهم في تحديد هذا الشخص الذي يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلّم على يديه ، فقالوا : اسمه " عداس " وقال آخرون : سلمان الفارسي . وقال آخرون : بَلْعام وكان حداداً رومياً نصرانياً يعلم كثيراً عن أهل الكتاب . . الخ .
والحق تبارك وتعالى يردُّ على هؤلاء ، ويُظهِر إفلاسهم الفكري ، وإصرارهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :
{ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] .
اللسان هنا : اللغة التي يُتحدَّث بها .
ويُلحِدون إليه : يميلون إليه وينسبون إليه أنه يُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أعجمي : أي لغته خفية ، لا يُفصح ولا يُبين الكلام ، كما نرى الأجانب يتحدثون العربية مثلاً .
ونلاحظ هنا أن القرآن الكريم لم يقُلْ ( عجمي ) ، لأن العجم جنس يقابل العرب ، وقد يكون من العجم مَنْ يجيد العربية الفصيحة ، كما رأينا سيبوَيْه صاحب ( الكتاب ) أعظم مراجع النحو حتى الآن وهو عَجمي .
أما الأعجمي فهو الذي لا يُفصح ولا يُبين ، حتى وإنْ كان عربياً . وقد كان في قبيلة لؤي رجل اسمه زياد يُقال له " زياد الأعجمي " لأنه لا يُفصح ولا يُبين ، مع أنه من أصل عربي .
(1/5040)
إذن : كيف يتأتَّى لهؤلاء الأعاجم الذين لا يُفصحون ، ولا يكادون ينطقون اللغة العربية ، كيف لهؤلاء أنْ يُعلِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء بمعجزة في الفصاحة والبلاغة والبيان؟
كيف يتعلم من هؤلاء ، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم التقى بأحد منهم إلا ( عداس ) يُقال : إنه قابله مرة واحدة ، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم تردَّد إلى معلم ، لا من هؤلاء ، ولا من غيرهم؟
كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلُّمه إلى وقت طويل يتتلمذ فيه محمد على يد هؤلاء ، وما جرّبْتم على محمد شيئاً من هذا كله .
وهل يُعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صَدْرُ واحدٍ من هؤلاء؟! لو حدث لكان له من المكانة والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من منزلة ، ولأشاروا إليه بالبنان ولذَاع صِيتُه ، واشتُهر أمره ، وشيء من ذلك لم يحدث .
وقوله تعالى :
{ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] .
أي : لغته صلى الله عليه وسلم ، ولغة القرآن الكريم عربية واضحة مُبِينة ، لا لَبْسَ فيها ولا غموض .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ . . } .
(1/5041)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
الحق تبارك وتعالى في قوله :
{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله . . } [ النحل : 104 ] .
ينفي عن هؤلاء صفة الإيمان ، فكيف يقول بعدها :
{ لاَ يَهْدِيهِمُ الله . . . } [ النحل : 104 ] .
أليسوا غير مؤمنين ، وغير مُهْتدين؟
قُلْنا : إن الهداية نوعان :
هداية دلالة وإرشاد ، وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر ، فقد دَلَّ الله الجميع ، وأوضح الطريق للجميع ، ومنها قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى . . . } [ فصلت : 17 ] أي : أرشدناهم ودَلَلْناهم .
وهداية المعونة والتوفيق ، وهذه لا تكون إلا للمؤمن ، ومنها قوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
إذن : معنى :
{ لاَ يَهْدِيهِمُ الله . . } [ النحل : 104 ] .
أي : هداية معونة وتوفيق .
ويصح أن نقول أيضاً : إن الجهة هنا مُنفكّة إلى شيء آخر ، فيكون المعنى : لا يهديهم إلى طريق الجنة ، بل إلى طريق النار ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ . . } [ النساء : 168-169 ] .
بدليل قوله تعالى بعدها :
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 104 ] .
ولأنه سبحانه في المقابل عندما تحدِّث عن المؤمنين قال : { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 6 ] .
أي : هداهم لها وعرَّفهم طريقها .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي . . } .
(1/5042)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول : وإن افتريتم على رسول الله واتهمتموه بالكذب الحقيقي أنْ تُكذِّبوا بآيات الله ، ولا تؤمنوا بها .
ونلاحظ في تذييل هذه الآية أن الحق سبحانه لم يَقُلْ : وأولئك هم الكافرون . بل قال : الكاذبون . ليدل على شناعة الكذب ، وأنه صفة لا تليق بمؤمن .
ولذلك حينما " سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيسرق المؤمن؟ قال : " نعم " لأن الله قال : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] .
فما دام قد شرَّع حُكْماً ، وجعل عليه عقوبة فقد أصبح الأمر وارداً ومحتمل الحدوث . " وسئل : أيزني المؤمن؟ قال : " نعم " ، لأن الله قال : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] . " وسئل : أيكذب المؤمن؟ قال : " لا " .
والحديث يُوضّح لنا فظاعة الكذب وشناعته ، وكيف أنه أعظم من كل هذه المنكرات ، فقد جعل الله لكل منها عقوبة معلومة في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى من العقوبة وأعظم .
إذن : الكذب صفة لا تليق بالمؤمن ، ولا تُتصوّر في حَقِّه؛ ذلك لأنه إذا اشتُهِر عن واحد أنه كذاب لما اعتاده الناس من كذبه ، فنخشى أن يقول مرة : أشهد ألاَّ إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله فيقول قائل : إنه كذاب وهذه كذبة من أكاذيبه .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَن كَفَرَ بالله . . . } .
(1/5043)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين ، ثم تحدّث عن الذين يخلفون العهد ولا يُوفون به ، ثم تحدث عن الذين افترَوْا على رسول الله والذين كذَّبوا بآيات الله ، وهذه كلها قضايا إيمانية كان لا بُدَّ أنْ تُثار .
وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله . فالقول وحده لا يكفي ولا بُدَّ وأنْ تشهدَ بذلك ، ومعنى تشهد أنْ يُواطِيء القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة .
والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات :
الأولى : أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان إيجاباً بالإيمان؛ ولذلك نقول : إن المؤمن منطقيّ في إيمانه؛ لأنه يقول ما يُضمره قلبه .
الثانية : أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان سلباً أي : بالكفر ، وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق .
الثالثة : أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه ، وهذه حالة المنافق ، وهو غير منطقي في إيمانه حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان .
الرابعة : أن يؤمن بقلبه ، وينطق كلمة الكفر بلسانه .
وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الآية . فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصيلاً لمن كفر بعد إيمان ، وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟
قوله :
{ مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ . . } [ النحل : 106 ] .
هذه جملة الشرط تأخَّر جوابها إلى آخر الآية الكريمة ، لنقف أولاً على تفصيل هذا الكفر ، فإما أن يكون عن إكراه لا دَخْلَ للإنسان فيه ، فيُجبر على كلمة الكفر ، في حين قلبه مطمئن بالإيمان .
{ مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان . . } [ النحل : 106 ] .
ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنه لا شيءَ عليه ، ولا بأسَ أن يأخذ المؤمن بالتقية ، وهي رخصة تقي الإنسان موارد الهلاك في مثل هذه الأحوال .
وفي تاريخ الإسلام نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة ، ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنة بالإيمان .
وفي الحديث الشريف : " رفع عن أمتي : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سُمية أول شهيدين في الإسلام ، فكيف استشهدا؟ كانا من المسلمين الأوائل ، وتعرّضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق بكلمة مقابل العفو عنهما ، فماذا حدث من هذين الشهيدين؟ صَدَعا بالحق وأصرَّا على الإيمان حتى نالا الشهادة في سبيل الله ، ولم يأخذا برخصة التقية .
وكان ولدهما عمار أول مَنْ أخذ بها ، حينما تعرّض لتعذيب المشركين . " وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمار بن ياسر كفر ، فأنكر صلى الله عليه وسلم هذا ، وقال : " إن إيمان عمار من مفرق رأسه إلى قدمه ، وإن الإيمان في عمار قد اختلط بلحمه ودمه " .
فلما جاء عمار أقبل على رسول الله وهو يبكي ، ثم قص عليه ما تعرَّض له من أذى المشركين ، وقال : والله يا رسول الله ما خلَّصني من أيديهم إلا أنِّي تناولتك وذكرت آلهتهم بخير ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مسح دموع عمار بيده الشريفة وقال له " إنْ عادوا إليك فَقُلْ لهم ما قلت " .
وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة ، فراجعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : فما بال بلال؟ فقال : " عمار استعمل رخصة ، وبلال صدع بالحق " .
(1/5044)
ولا شكَّ أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله ، وأن الصَّدْعَ بالحق والصبر على البلاء أعْلَى منزلةً ، وأَسْمَى درجة من الأَخْذ بالرخصة؛ لأن الأول آمن بقلبه ولسانه ، والآخر آمن بقلبه فقط ونطق لسانه الكفر .
لذلك ، " ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادة بصدق نُبوّته ، فقال لرجل : ما تقول في محمد؟ قال : رسُول الله ، قال : فما تقول فَّي؟ فقال الرجل في لباقة : وأنت كذلك ، يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف صراحة بنبوة هذا الكذاب .
فقابل آخر وسأله : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، قال : وما تقول فَّي؟ فقال الرجل متهكماً : اجهر لأني أصبحت أصمَّ الآن ، وأنكر على مسيلمة ما يدعيه فكان جزاؤه القتل . فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما قال : " أحدهما استعمل الرخصة ، والآخر صدع بالحق " .
وقد تحدَّث العلماء عن الإكراه في قوله تعالى :
{ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان . . } [ النحل : 106 ] .
وأوضحوا وجوه الإكراه وحكم كل منها ، على النحو التالي :
إذا أكره الإنسان على أمر ذاتيٍّ فيه . كأن قيل له : اشرب الخمر وإلاَّ قتلتُك أو عذبتُك قالوا : يجب عليه في هذه الحالة أنْ يشربها وينجو بنفسه؛ لأنه أمر يتعلق به ، ومن الناس مَنْ يعصون الله بشربها . فإنْ قيل له : اكفر بالله وإلاَّ قتلتُك أو عذبتُك ، قالوا : هو مُخيَّر بين أن يأخذ بالتقيّة هنا ، ويستخدم الرخصة التي شرعها الله له ، أو يصدع بالحق ويصمد .
أما إذا تعلّق الإكراه بحقٍّ من حقوق الغير ، كأنْ قيل لك : اقتل فلاناً وإلا قتلتك ، ففي هذه الحالة لا يجوز لك قَتْله؛ لأنك لو قتلتهُ لقُتِلْت قِصَاصاً ، فما الفائدة إذن؟ .
وبعد أن تحدّث الحق تبارك وتعالى عن حكم مَنْ أكرهَ وقلبه مطمئن بالإيمان ، يتحدث عن النوع الآخر :
{ ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً . . } [ النحل : 106 ] .
أي : نطق كلمة الكفر راضياً بها ، بل سعيدة بها نفسه ، مُنْشرِحاً بها صدره ، وهذا النوع هو المقصود في جواب الشرط .
{ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] .
فإنْ كانت الآيات قد سكتت عَمَّنْ أُكرهَ ، ولم تجعل له عقوبة لأنه مكره ، فقد بيَّنت أن من شرح بالكفر صدراً عليه غضب من الله أي : في الدنيا . ولهم عذاب عظيم أي : في الآخرة .
وكما رأينا في تاريخ الإسلام نماذج للنوع الأول الذي أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان ، كذلك رأينا نماذج لمن شرح بالكفر صَدْراً ، وهم المنافقون ، ومنهم مَنْ أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه ، ومنهم عبد الله ابن سعد بن أبي السرح من عامر بن لؤي .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا . . } .
(1/5045)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{ ذلك } أي : ما استحقوه من العذاب السابق .
{ ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة . . } [ النحل : 107 ] .
استحب : أي آثر وتكلَّف الحب؛ لأن العاقل لو نظر إلى الدنيا بالنسبة لعمره فيها لوجدها قصيرة أحقر من أَنْ تُحبَّ لذاتها ، ولَوجدَ الأغيار بها كثيرة تتقلَّب بأهلها فلا يدوم لها حال ، ينظر فإذا الأحوال تتبدّل من الغنى إلى الفقر ، ومن الصحة إلى السَّقَم ، ومن القوة إلى الضعف ، فكيف إذن تستحب الدنيا على الآخرة؟!
والحق تبارك وتعالى يريد منّا أنْ نعطي كلاً من الدنيا والآخر ما يستحقه من الحب ، فنحب الدنيا دون مبالغة في حبها ، نحبها على أنها مزرعة للآخرة ، وإلاَّ ، فكيف نطلب الجزاء والثواب من الله؟
لذلك نقول : إن الدنيا أهمّ من أنْ تُنسى ، وأتفه من أن تكون غاية ، وقد قال الحق سبحانه : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا . . } [ القصص : 77 ] .
ففهم البعض الآية على أنها دعوة للعمل للدنيا وأخذ الحظوظ منها ، ولكن المتأمل لمعنى الآية يجد أن الحق سبحانه يجعل الدنيا شيئاً هيّناً مُعرَّضاً للنسيان والإهمال ، فيُذكِّرنا بها ، ويحثُّنا على أن نأخذ منها بنصيب ، فأنا لا أقول لك : لا تنسَ الشيء الفلاني إلا إذا كنتُ أعلم أنه عُرْضَة للنسيان ، وهذا جانب من جوانب الوسطية والاعتدال في الإسلام .
ويكفينا وَصْف هذه الحياة بالدنيا ، فليس هناك وَصْفٌ أقلّ من هذا الوصف ، والمقابل لها يقتضي أن نقول : العُلْيا وهي الآخرة ، نعم نحن لا ننكر قَدْر الحياة الدنيا ولا نبخسها حقها ، ففيها الحياة والحسّ والحركة ، وفيها العمل الصالح والذكْرى الطيبة . . الخ .
ولكنها مع ذلك إلى زوال وفناء ، في حين أن الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي لا يعتريها زوال ، ولا يهددها موت ، كما قال الحق سبحانه : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] .
أي : الحياة الحقيقية التي يجب أن نحرص عليها ونحبها .
ومن ذلك قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ . . } [ الأنفال : 24 ] .
ما معنى ( لِمَا يُحْييكُمْ ) والقرآن يخاطبهم وهم أحياء يُرزَقُون؟ قالوا : يُحييكم أي : الحياة الحقيقية الباقية التي لا تزول .
وقوله :
{ على الآخرة . . . } [ النحل : 107 ] .
لقائل أن يقول : إن الآية تتحدث عن غير المؤمنين بالآخرة ، فكيف يُقَال عنهم :
{ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة . . } [ النحل : 107 ] .
نقول : من غير المؤمنين بالآخرة مَنْ قال الله فيهم :
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] .
وأيضاً منهم مَنْ قال : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] .
إذن : من هؤلاء مَنْ يؤمن بالآخرة ، ولكنه يُفضّل عليها الدنيا .
قوله تعالى :
{ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ النحل : 107 ] .
أي : لا يهديهم هداية معونة وتوفيق . وسبق أنْ قُلْنا : إن الهداية نوعان : هداية دلالة ، ويستوي فيها المؤمن والكافر ، وهداية معونة خاصة بالمؤمن .
إذن : إذا نفيتَ الهداية ، فالمراد هداية المعونة ، فعدم هداية الله انصبتْ على الكافر لكونه كافراً ، فكأن كُفْره سبق عدم هدايته ، أو نقول : لكونه كافراً لم يَهْده الله .
ولذلك يحكم الله على هؤلاء بقوله سبحانه : { أولئك الذين طَبَعَ . . } .
(1/5046)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
طبع : أي ختم عليها ، وإذا تأملتَ الختْم وجدتَ المقصود منه أن الشيء الداخل يظلّ داخلاً لا يخرج ، وأن الخارج يظل خارجاً لا يدخل .
وفَرْقٌ بين ختم البشر وختم ربِّنا سبحانه ، فقصارى ما نفعله أن نختم الأشياء المهمة كالرسائل السرية مثلاً ، أو نريد إغلاق مكان ما نختم عليه بالشمع الأحمر لنتأكد من غلقه ، ومع ذلك نجد مَنْ يحتال على هذا الختم ويستطيع فضّه وربما أعاده كما كان .
أما إذا ختم الحق سبحانه وتعالى على شيء فلا يستطيع أحد التحايل عليه سبحانه .
فالمراد إذن بقوله تعالى :
{ طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ . . } [ النحل : 108 ] .
أن ما فيها من الكفر لا يخرج منها ، وما هو خارجها من الإيمان لا يدخل فيها؛ ذلك لأن القلب هو الوعاء الذي تصبّ فيه الحواس التي هي وسائل الإدراكات المعلومية ، وأهمها السمع والبصر .
فالبسمع تسمع الوحي والتبليغ عن الله ، وبالبصر ترى دلائل قدرة الله في كونه وعجيب صُنْعه مما يلفتك إلى قدرة الله ، ويدعوك للإيمان به سبحانه ، فإذا ما انحرفتْ هذه الحواسّ عما أراده الله منها ، وبدل أن تمدّ القلب بدلائل الإيمان تعطَّلتْ وظيفتها .
فالسمع موجود كآلة تسمع ولكنها تسمع الفارغ من الكلام ، فلا يوجد سَمْع اعتباريّ ، وكذلك البصر موجود كآلة تُبصر ما حرم الله فلا يوجد بصر اعتباري ، فما الذي سيصل إلى القلب إذن من خلال هذه الحواس؟
فما دام القلب لا يسمع الهداية ، ولا يرى دلائل قدرة الله في كونه فلن نجد فيه غير الكفر ، فإذا أراد الإيمان قلنا له : لا بُدَّ أن تُخرِج الكفر من قلبك أولاً ، فلا يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب واحد؛ لذلك عندنا قانون موجود حتى في الماديات يسمونه ( عدم التداخل ) يمكن أن تشاهده حينما تملأ زجاجة فارغة بالماء ، فترى أن الماء لا يدخل إلا بقدر ما يخرج من الهواء .
فكذلك الحال في الأوعية المعنوية .
فإن أردت الإيمان أيها الكافر فأخرجْ أولاً ما في قلبك من الكفر؛ واجعله مُجرّداً من كل هوى ، ثم ابحث بعقلك في أدلة الكفر وأَدلة الإيمان ، وما تصل إليه وتقتنع به أدْخله في قلبك ، لكن أنْ تبحث أدلة الإيمان وفي جوفك الكفر فهذا لا يصحّ ، لا بُدَّ من إخلاء القلب أولاً وتجعل الأمريْن على السواء .
لذلك يقول الحق سبحانه : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب : 4 ] .
وفي الأثر : " لا يجتمع حب الدنيا وحب الله في قلب واحد " .
لأن الإنسان قلباً واحداً لا يجتمع فيه نقيضان ، هكذا شاءت قدرة الله أن يكون القلب على هذه الصورة ، فلا تجعلْه مزدحماً بالمظروف فيه .
كما أن طَبْع الله على قلوب الكفار فيه إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده مراده ، حتى وإنْ كان مراده الكفر ، وكأنه سبحانه يقول لهؤلاء : إنْ كنتم تريدون الكفر وتحبونه وتنشرح له صدوركم فسوف اطبع عليها ، فلا يخرج منها الكفر ولا يدخلها الإيمان ، بل وأزيدكم منه إنْ أحببتُمْ ، كما قال تعالى :
(1/5047)
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً . . } [ البقرة : 10 ] .
فهنيئاً لكم بالكفر ، واذهبوا غَيْرَ مأسوف عليكم .
وقوله : { وأولئك هُمُ الغافلون } [ النحل : 108 ] .
الغافل : مَنْ كان لديه أمر يجب أن يتنبه إليه ، لكنه غفل عنه ، وكأنه كان في انتظار إشارة تُنبّه عقله ليصل إلى الحق .
ثم يُنهي الحق سبحانه الكلام عن هؤلاء بقوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ . . . } .
(1/5048)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
فقوله تعالى :
{ لاَ جَرَمَ . . } [ النحل : 109 ] .
أي : حقاً ولا بُدَّ ، أولاً جريمة في أن يكون هؤلاء خاسرين في الآخرة ، بما اقترفوه من مُوجبات الخسارة ، وبما أَتَوْا به من حيثيّات ترتَّبَ عليها الحكم بخسارتهم في الآخرة ، فقد حقَّ لهم وثبت لهم ذلك .
والمتتبع للآيات السابقة يجد فيها هذه الحيثيات ، بدايةً من قَوْلهم عن رسول الله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ . . . } [ النحل : 101 ] .
وقولهم : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ . . . } [ النحل : 103 ] .
وعدم إيمانهم بآيات الله ، وكونهم كاذبين مفترين على الله ، واطمئنانهم بالكفر ، وانشراح صدورهم به ، واستحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة .
هذه كلها حيثيات وأسباب أوجبتْ لهم الخسران في الآخرة يوم تُصفّي الحسابات ، وتنكشف الأرباح والخسائر ، وكيف لا يكون عاقبته خُسْراناً مَن اقتراف كل هذه الجرائم؟!
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ . . . } .
(1/5049)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قوله تعالى : { فُتِنُواْ . . . } [ النحل : 110 ] .
أي : ابتلوا وعُذِّبوا عذاباً أليماً؛ لأنهم أسلموا .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] .
من رحمة الله تعالى أن يفتح باب التوبة لعبادة الذين أسرفوا على أنفسهم ، ومن رحمته أيضاً أن يقبل توبة مَنْ يتوب؛ لأنه لو لم يفتح الله باب التوبة للمذنب ليئسَ من رحمة الله ، ولتحوَّل وإن أذنب ولو ذنباً واحداً إلى مجرم يشقَى به المجتمع ، فلم يَرَ أمامه بارقة أمل تدعوه إلى الصلاح ، ولا دافعاً يدفعه إلى الإقلاع .
أما إذا رأى باب ربه مفتوحاً ليل نهار يقبل توبة التائب ، ويغفر ذنب المسيء ، كما جاء في الحديث الشريف : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها " .
بل ويزيده ربنا سبحانه وتعالى من فضله إنْ أحسن التوبة ، وندم على ما كان منه ، بأن يُبدِّل سيئاته حسناتٍ ، كما قال سبحانه : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ] .
لو رأى المذنب ذلك كان أَدْعى لإصلاحه ، وأجْدَى في انتشاله من الوَهْدة التي تردَّى فيها .
إذن : تشريع التوبة من الحق سبحانه رحمة ، وقبولها من المذنب رحمة أخرى؛ لذلك قال سبحانه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا . . } [ التوبة : 118 ] .
أي : شرع لهم التوبة ودَلَّهم عليها ، ليتوبوا هم .
فإنْ اغترَّ مُغْترٌّ برحمة الله وفضله فقال : سأعمل سيئات كثيرة حتى يُبدِّلها الله لي حسنات . نقول له : ومَنْ يدريك لعله لا ينطبق عليك شروط الذين يُبدّل الله سيئاتهم حسنات ، وهل تضمن أنْ يُمهِلك الأجل إلى أن تتوب ، وأنت تعلم أن الموت يأتي بغتة؟
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ تَأْتِي . . . } .
(1/5050)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قد يكون المعنى في هذه الآية على اتصال بالآية السابقة ، ومتعلق بها ، فيكون المراد : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] .
يحدث هذا :
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا . . . } [ النحل : 111 ] .
أي : يوم القيامة . أو يكون المعنى : اذكر يا محمد :
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .
وهل للإنسان أكثر من نفس ، فتجادل إحداهما عن الأخرى؟
الحقيقة أن للإنسان نفساً واحدة في الدنيا والآخرة ، ولكنها تختلف في الدنيا عنها يوم القيامة؛ لأن الحق سبحانه منحها في الدنيا الاختيار ، وجعلها حرة في أن تفعل أو لا تفعل ، فكان من النفوس : الطائعة ، والعاصية ، والمنصاعة ، والمكابرة .
فإذا ما وقفت النفس في موقف القيامة ، وواجهتْ الحق الذي كانت تخالفه علمت أن الموقف لا تفيد فيه مكابرة ، ولا حيلة لها إلا أن تجادل وتدافع عن نفسها ، فكأن النفس القيامة تجادل عن نفس الدنيا في موقف ينادي فيه الحق تبارك وتعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وقد حكى القرآن الكريم نماذج من جدال النفس يوم القيامة ، فقال تعالى : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
{ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى . . } [ الزمر : 3 ] .
{ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا . . . } [ فصلت : 29 ] .
إذن : هي نفس واحدة ، تجادل عن نفسها في يوم لا تجزي فيه نفس عن نفس ، فكلٌّ مشغول بكَرْبه ، مُحاسَب بذنبه ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34-37 ] .
وقوله تعالى :
{ وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ النحل : 111 ] .
الحق سبحانه يعطينا لقطة سريعة للحساب والجزاء يوم القيامة ، فالميزان ميزان عَدْل وقسطاس مستقيم لا يظلم أحداً . { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] .
وقوله تعالى : { وتوفى . . } [ النحل : 111 ] .
يدلُّ على أن الجزاء من الله يكون وافياً ، لا نقص فيه ولا جَوْر ، فالجميع عبيد الله ، لا يتفاضلون إلا بأعمالهم ، فإنْ رحمهم فبفضله ، وإنْ عذَّبهم فبعدْله ، وقد قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً . . } .
(1/5051)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلَّم عن الإيمان بالله والإيمان بصدق رسوله في البلاغ عنه ، واستقبال منهج الله في الكتاب والسنة ، وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر واللجاج والعناد لله وللرسول وللمنهج . أراد سبحانه أنْ يعطينا واقعاً ملموساً في الحياة لكل ذلك ، فضرب لنا هذا المثل .
ومعنى المثل : أن يتشابه أمران تشابهاً تاماً في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول : هذا مثل هذا تماماً .
والهدف من ضرب الأمثال أنْ يُوضِّح لك مجهولاً بمعلوم ، فإذا كنتَ مثلاً لا تعرف شخصاً نتحدث عنه فيمكن أن نقول لك : هو مثل فلان المعلوم لك في الطول ومثل فلان في اللون . . إلخ من الصور المعلومة لك ، وبعد أن تجمع هذه الصور تُكوِّن صورة كاملة لهذا الشخص الذي لا تعرفه .
لذلك ، فالشيء الذي لا مثيلَ له إياك أن تضرب له مثلاً ، كما قال الحق سبحانه : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } [ النحل : 74 ] .
لأنه سبحانه لا مثيل له ، ولا نظير له ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، وهو سبحانه الذي يضرب المثل لنفسه ، أما نحن فلا نضرب المثل إلا للكائنات المخلوقة له سبحانه .
لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالاً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا ، وتوضح الأمر المعنوي بالأمر الحسيِّ الملموس لنا .
ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً في الإنفاق في سبيل الله ، وأن الله يضاعف النفقة ، ويُخلِف على صاحبها أضعافاً مضاعفة ، فانظر كيف صوَّر لنا القرآن هذه المسألة : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
وهكذا أوضح لنا المثل الأمر الغيبي المجهول بالأمر المحسِّ المُشَاهد الذي يعلمه الجميع ، حتى استقرَّ هذا المجهول في الذهن ، بل أصبح أمراً مُتيقّناً شاخصاً أمامنا .
والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن الأمر الذي وضّحه الحق سبحانه أقوى في العطاء من الأمر الذي أوضح به ، فإنْ كانت هذه الأضعاف المضاعفة هي عطاء الأرض ، وهي مخلوقة لله تعالى ، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى؟
وكلمة ( ضَرَبَ ) مأخوذة من ضَرْب العملة ، حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة ، ولخوف الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلاً بالنحاس ، فكان النقاد أي : الخبراء في تمييز العملة يضربونها أي : يختمون عليها فتصير مُعتمدة موثوقاً بها ، ونافذة وصالحة للتداول .
كذلك إذا ضرب الله مثلاً لشيء مجهول بشيء معلوم استقرَّ في الذهن واعتُمِد .
فقال تعالى في هذا المثل :
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً . . } [ النحل : 112 ] .
الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن الإنسان إذا أنعم الله عليه بشتى أنواع النعم فجحدها ، ولم يشكره عليها ، ولم يُؤدِّ حق الله فيها ، واستعمل نعمة الله في معصيته فقد عرَّضها للزوال ، وعرَّض نفسه لعاقبة وخيمة ونهاية سيئة ، فقيَّد النعمة بشكرها وأداء حق الله فيها ، لذلك قال الشاعر :
(1/5052)
إذَا كُنْتَ في نعمةٍ فَارْعَها ... فَإِنَّ المَعَاصِي تُزيلُ النِّعَم
وحَافِظْ عليها بشُكْرِ الإلهِ ... فَإنَّ الإلَه شَدِيدُ النِّقَم
ولكن ، القرية التي ضربها الله لنا مثلاً هنا ، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق؟ قد يُراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة ، أو غيرها من القرى ، وعلى كلٍّ فتحديدها أمر لا فائدة منه ، ولا يُؤثِّر في الهدف من ضَرْب المثل بها .
والقرية : اسم للبلد التي يكون بها قِرىً لمن يمرُّ بها ، أي : بلد استقرار . وهي اسم للمكان فإذا حُدِّث عنها يراد المكين فيها ، كما في قوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا . . } [ يوسف : 82 ] .
فالمراد : اسأل أهل القرية؛ لأن القرية كمكان لا تُسأل . . هكذا قال علماء التفسير ، على اعتبار أن في الآية مجازاً مرسلاً علاقته المحلية .
ولكن مع تقدُّم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مدداً جديداً ، كما قال سبحانه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ . . } [ فصلت : 53 ] .
والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين ، فمثلاً يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يُسجِّلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة .
ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة ، وعلى هذا يمكن أن نقول : إن القرية يمكن أنْ تُسأل ، ويمكن أن تجيب ، فلديها ذاكرة واعية تسجِّل وتحتفظ بما سجَّلته ، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من بَدْء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو ، مُودعة فيه على شكل موجات لم تُفقد ولم تَضِع .
وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيتَ فيه بحجر ، فينتج عنه عدة دوائر تبتعد عن مركزها إلى أنْ تتلاشى بالتدريج .
إذن : يمكن أن يكون سؤال القرية على الحقيقة ، ولا شك أن سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال أهلها ، لأن أهلها قد يكذبون ، أما هي فلا تعرف الكذب .
وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني .
وقوله تعالى : { كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً . . . } [ النحل : 112 ] .
آمنةً : أي في مَأْمَن من الإغارة عليها من خارجها ، والأمن من أعظم نِعَم الله تعالى على البلاد والعباد .
وقوله : { مُّطْمَئِنَّةً . . } [ النحل : 112 ] .
أي : لديها مُقوِّمات الحياة ، فلا تحتاج إلى غيرها ، فالحياة فيها مُستقرَّة مريحة ، والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغِّصات ، والذي يجد فيه كل مقومات الحياة ، فالأمن والطمأنينة هما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها .
وحينما امتنَّ الله تعالى على قريش قال : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }
(1/5053)
[ قريش : 1-4 ] .
فطالما شبعت البطن ، وأمنتْ النفس استقرت بالإنسان الحياة .
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا ، فيقول : " مَنْ أصبح معافىً في بدنه ، آمناً في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " .
ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها :
{ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ . . . } [ النحل : 112 ] .
معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق ، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق ، وهذا يُرجِّح القول بأنها مكة؛ لأن الله تعالى قال عنها : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القصص : 57 ] .
ومن تيسَّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم ، وبذلك تمَّتْ لهم النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة ، فماذا كان منهم؟ هل استقبلوها بشكر الله؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته؟ لا . . بل :
{ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله . . } [ النحل : 112 ] .
أي : جحدت بهذه النعم ، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته ، فكانت النتيجة :
{ فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] .
وكأن في الآية تحذيراً من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله ، واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه ، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء .
{ فَأَذَاقَهَا الله . . } [ النحل : 112 ] .
من الذوق ، نقول : ذاق وتذوَّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوَّقه . والذَّوْق لا يتجاوز حلمات اللسان . إذن : الذوْق خاصٌّ بطعْم الأشياء ، لكن الله سبحانه لم يقُلْ : أذاقها طعم الجوع ، بل قال :
{ لِبَاسَ الجوع والخوف . . } [ النحل : 112 ] .
فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه الإنسان ، والمتأمل في الآية يطالع دقّة التعبير القرآني ، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف ، كيف ذلك؟
الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن ، فإذا لم يجد طعاماً عوّض من المخزون في الجسم من شحوم ، فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذَّى الجسم على اللحم ، ثم بدأ ينحت العظام ، ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً ، وعلى الجلد هُزَالاً وذبولاً ، ثم ينكمش ويجفّ ، وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد ، وكأنه لباس يرتديه الجائع .
وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع ، ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيُّر بشرته ، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً . . } [ البقرة : 273 ] .
وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب ، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك ، فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص ، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله ، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه .
وهكذا جَسَّد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية ، وجعلها محسوسة تراها العيون ، ولكنه أدخلها تحت حاسَّة التذوق؛ لأنها أقوى الحواسّ .
وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله ، كما يلفّه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط ، وليس الخوف في القلب فقط .
(1/5054)
ومن ذلك ما اشتُهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب ، فنراهم يتحدثون عن القلوب ، كما قال الشاعر :
خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَسِيغُ مَودَّتي ... فَأُحِسُّ مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَا
فإذا ما زاد الحب وتسامى ، وارتقت هذه المشاعر ، تحوَّل الحب من القلب ، وسكَن جميع الجوارح ، وخالط كل الأعضاء ، على حَدِّ قول الشاعر :
لاَ عُضْو لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَابةٌ ... فَكأنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا
وقوله : { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] .
أي : أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنَّى عليهم ، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله ، وكفرهم بأنعمه ، فحبسها الله عنهم ، فهم الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصُّدود والجحود والنكران ، وتعرَّضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيَّتوا لقتله ، حتى دعا عليهم قائلاً : " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " .
فاستجاب الحق سبحانه لنبيه ، وألبسهم لباس الجوع والخوف ، حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف ، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه .
وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجُّوا ، وبلغ بهم الجَهْد والضَّنْك مُنْتهاه ، فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله ، فقالوا : هذا عملك برجال مكة ، فما بال صبيانها ونسائها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب .
أما لباس الخوف فتمثَّل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ . . . } .
(1/5055)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة ، وقد تمثلت هذه النعمة في كَوْنها آمنة مطمئنة ، وهذه نعمة مادية يحفظ الله بها القالب الإنساني ، لكنه ما يزال في حاجة إلى ما يحفظ قِيَمه وأخلاقه .
وهذه هي نعمة النعم ، وقد امتنَّ الله عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولاً منهم ، فما فائدة النعم المادية في بلد مهزوزة القيم ، مُنْحلة الأخلاق ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُقوِّم ما اعوجّ من سلوكهم ، ويُصلح ما فسد من قِيَمهِم ومبادئهم .
وقوله : { مِّنْهُمْ . . . } [ النحل : 113 ] .
أي : من جنسهم ، وليس غريباً عنهم ، وليس من مُطْلق العرب ، بل من قريش أفضل العرب وأوسطها .
يقول تعالى : { فَكَذَّبُوهُ . . } [ النحل : 113 ] .
وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال ، وبما اشتهر به بينهم من الصدق والأمانة ، ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضاً بالنعم القيمية متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : { فَأَخَذَهُمُ العذاب . . } [ النحل : 113 ] .
مَنِ الذي أخذهم؟
لم تقُلْ الآية : أخذهم الله بالعذاب ، بل : أخذهم العذاب ، كأن العذابَ نفسه يشتاق لهم ، وينقضُّ عليهم ، ويسارع لأخذهم ، ففي الآية تشخيص يُوحي بشدة عذابهم .
كما قال تعالى في آية أخرى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
ثم يقول تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله . . . } .
(1/5056)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قُلْنا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما اشتد الحال بأهل مكة حتى أكلوا الجيف ، كان يرسل إليهم ما يأكلونه من الحلال الطيب رحمة منه صلى الله عليه وسلم بهم فيقول :
{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله . . } [ النحل : 114 ] .
أي : أن هذا الرزق ليس من عندي ، بل من عند الله .
{ حَلالاً طَيِّباً . . . } [ النحل : 114 ] .
ذلك لأنهم كانوا قبل ذلك لا يتورَّعون عن أكل ما حرم الله ، ولا عن أكل الخبيث ، فأراد أن يُنبِّههم أن رِزْق الله لهم من الحلال الطيب الهنيئء ، فيبدلهم الحلال بدل الحرام ، والطيب بدل الخبيث .
وقوله تعالى : { واشكروا نِعْمَتَ الله . . . } [ النحل : 114 ] .
وهنا إشارة تحذير لهم أنْ يقعوا فيما وقعوا فيه من قَبْل من جُحود النعمة ونكْرانها والكفر بها ، فقد جَرَّبوا عاقبة ذلك ، فنزع الله منهم الأمْنَ ، وألبسهم لباسَ الخوف ، ونزع منهم الشَّبَع ورَغَد العيش ، وألبسهم لباس الجوع ، فخذوا إذن عبرة مما سلف :
{ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . . . } [ النحل : 114 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ . . . } .
(1/5057)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قال : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً } [ النحل : 114 ] .
أراد أن يُكرِّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة ، فقال في البقرة : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 173 ] .
وقال تعالى في سورة المائدة : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ . . } [ المائدة : 3 ] .
وهذه الأشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم ، والآن ما دُمْنَا ننقذكم ، ونجعل لكم معونة إيمانية من رسول الله ، فكلوا هذه الأشياء حلالاً طيباً .
ولكن ، لماذا كرَّر هذا المعنى هنا؟
التكرار هنا لأمرين :
الأول : أنه سبحانه لا يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم ، بل صورة مُشخَّصة بالحالة؛ لأنهم كانوا جَوْعى يريدون ما يأكلونه ، حتى وإنْ كانت الجيف ، ولكن الإسلام يُحرِّم الميتة ، فأوضح لهم أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلال الطيب .
ثانياً : أن النص يختلف ، ففي البقرة : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله . . } [ البقرة : 173 ] .
وهنا : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ . . } [ النحل : 115 ] .
وليس هنا من قبيل التفنُّن في الأسلوب ، بل المعنى مختلف تماماً؛ ذلك لأن الإهلال هو رَفْع الصوت عند الذبح ، فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح ، ولكن والعياذ بالله يقولون : باسم اللات ، أو باسم العُزّى ، فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين ، ولا يذكرون اسم الله الوهاب .
فمرَّة يُهلُّون به لغير الله ، ومرة يُهِلُّون لغير الله به . كيف ذلك؟
قالوا : لأن الذبْح كان على نوعين : مرة يذبحون للتقرُّب للأصنام ، فيكون الأصل في الذبح أنه أُهِلَّ لغير الله به . أي : للأصنام .
ومرَّة يذبحون ليأكلوا دون تقرُّب لأحد ، فالأصل فيه أنه أُهِلَّ به لغير الله .
إذن : تكرار الآية لحكمة ، وسبحان مَنْ هذا كلامه .
وقوله : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ . . } [ النحل : 115 ] .
الاضطرار : أَلاَّ تجد ما تأكله ، ولا ما يقيم حياتك .
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه الأشياء المحرَّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدُّ الجوع ، فمَعنى ( غَيْر بَاغٍ ) غير مُتجاوزٍ للحدِّ ، فلو اضطررْتَ وعندك مَيْتة وعندك طعام حلال ، فلا يصحّ أن تأكل الميتة في وجود الحلال .
{ وَلاَ عَادٍ } [ النحل : 115 ] .
أي : ولا مُعْتَدٍ على القدر المرخَّص به ، وهو ما يمسك الحياة ويسُدُّ جوعك فقط ، دون شِبَع منها .
ويقول تعالى : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 115 ] .
وفي البقرة : { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ . . . } [ البقرة : 173 ] .
فالمعنى واحد ، ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة ، وهناك ذكر سببهما .
وتجد الإشارة هنا إلى ما يتشدَّق به البعض من الملاحدة الذين يبحثون في القرآن عن مَغْمز ، فيقولون : طالما أن الله حرَّم هذه الأشياء ، فما فائدتها في الكون؟
نقول : أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل ، أليس له مهمة أخرى؟ ومن ورائه مصلحة أخرى غير الأَكْل ، فإنْ حرَّم الإسلام أكْله فقد أباح الانتفاع به من وجه آخر .
(1/5058)
فالخنزير مثلاً حَرَّم الله أكْله ، ولكن خَلقه لمهمة أخرى ، وجعل له دَوْراً في نظافة البيئة ، حيث يلتهم القاذورات ، فهو بذلك يُؤدِّي مهمة في الحياة .
وكذلك الثعابين لا نأكلها ، ولها مهمة في الحياة أيضاً ، وهي أنْ تُجهِّز لنا السُّم في جوفها ، وبهذا السم تعالج بعض الداءات والأمراض ، وغير ذلك من الأمثلة كثير .
وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرَّم علينا هذه الأشياء إلا لحكمة ، وعلى الإنسان أن يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرِّب له المعاني القيمية الدينية ، فلو نظر إلى الآلات التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلافه لوجد لكل منها وقوداً ، ربما لا يناسب غيرها ، حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلاً لا يناسب الطائرات التي تستخدم نفس الوقود ، ولكن بدرجة نقاء أعلى .
إذن : لكل شيء وقود مناسب ، وكذلك أنت أيها الإنسان لك وقودك المناسب لك ، وبه تستطيع أداء حركتك في الحياة ، وأنت صَنْعة ربك سبحانه ، وهو الذي يُحدِّد لك ما تأكله وما لا تأكله ، ويعلم ما يُصلحك وما يضرُّك .
والشيء المحرَّم قد يكون مُحرَّماً في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر ، وقد يكون حلالاً في ذاته ، ولكنه مُحرَّم بالنسبة لشخص معين ، كأن يُمنَع المريض من تناول طعام ما؛ لأنه يضرُّ بصحته أو يُؤخِّر شفاءه ، وهو تحريم طاريء لحين زوال سببه .
وصورة أخرى للتحريم ، وهي أن يكون الشيء حلالاً في ذاته ولا ضررَ في تناوله ، ومع ذلك تحرمه عقوبةً ، كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلاً .
إذن : للتحريم أسباب كثيرة ، سوف نرى أمثلة منها قريباً .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا . . } .
(1/5059)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
معنى { تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } : تُظهِره على أوضح وجوهه ، فليس كلامهم كذباً فقط ، بل يصفه ، فمَنْ لا يعرف الكذب فليعرفه من كلام هؤلاء .
والمراد بالكذب هنا قولهم :
{ هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ . . } [ النحل : 116 ] .
فهذا كذب وافتراء على الله سبحانه؛ لأنه وحده صاحب التحليل والتحريم ، فإياك أنْ تُحلِّل شيئاً من عند نفسك ، أو تُحرِّم شيئاً حَسْب هواك؛ لأن هذا افتراءٌ على الله :
{ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب . . . } [ النحل : 116 ] .
وقوله تعالى :
{ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } [ النحل : 116 ] .
فإن انطلى كذبهم على بعض الناس ، فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة ، فعمَّا قليل سيُفتضح أمرهم ، وينكشف كذبهم ، وتنقطع مصالحهم بين الخلق .
ويصف الحق سبحانه ما يأخذه هؤلاء من دنياهم بأنه : { مَتَاعٌ قَلِيلٌ . . } .
(1/5060)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
أي : ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على الله متاعٌ قليل زائل ، سيحرمكم من المتاع الكثير الباقي الذي قال الله عنه : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] .
ليس هذا فقط بل :
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 117 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وعلى الذين هَادُواْ . . } .
(1/5061)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
بعد أن تكلمت الآيات فيما أحلَّ الله وفيما حرَّم ، وبيَّنتْ أن التحليل أو التحريم لله تعالى ، جاءت لنا بصورة من التحريم ، لا لأن الشيء ذاته مُحرَّم ، بل هو مُحرَّم تحريم عقوبة ، كالذي مثَّلْنَا له سابقاً بحرمان الطفل من الحلوى عقاباً له على سُوء فِعْله .
والذين هادوا هم : اليهود عاقبهم الله بتحريم هذه الأشياء ، مع أنها حلال في ذاتها ، وهذا تحريم خاصٌّ بهم كعقوبة لهم .
وقوله تعالى :
{ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ . . } [ النحل : 118 ] .
المراد ما ذُكِر في سورة الأنعام من قوله تعالى : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] .
كل ذي ظفر : الحيوان ليس منفرجَ الأصابع ، والحوايا : هي المصارين والأمعاء ، ونرى أن كل هذه الأشياء المذكورة في الآية حلال في ذاتها ، ومُحلَّلة لغير اليهود ، ولكن الله حرَّمها عليهم عقوبةً لهم على ظلمهم وبغيهم ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 160-161 ] .
أي : بسبب ظلمهم حَرَّمنا عليهم هذه الطيبات .
ذلك لأن مَنْ أخذ حكماً افتراءً على الله فحرَّم ما أحلَّ الله . أو حلَّل ما حرَّم الله لا بُدَّ أنْ يُعاقبَ بمثله فيُحرِّم عليه ما أحِلّ لغيره ، وقد وقع الظلم من اليهود لأنهم اجترأوا على حدود الله وتعاليمه ، وأول الظلم وقمته الشرك بالله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
والظلم نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره .
ومن ظلمهم : ما قالوه لموسى عليه السلام بعد أن عبر بهم البحر ، ومرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . قال تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
ومن ظلمهم : أنهم عبدوا العجل من دون الله .
ومن ظلمهم لموسى عليه السلام : أنهم لم يؤمنوا به . كما قال تعالى : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [ يونس : 83 ] .
ومن ظلمهم : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل } [ النساء : 161 ] .
إذن : بسبب ظلمهم وأخذهم غير حَقِّهم حرَّم الله عليهم أشياء كانت حلالاً لهم؛ قال تعالى :
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] .
ظلموا أنفسهم بأن أعطوا لأنفسهم متاعاً قليلاً عاجلاً ، وحرموها من المتعة الحقيقية الباقية .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ . . } .
(1/5062)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده فرصة ، ويفتح له باب التوبة والرجاء ، فمن رحمته سبحانه بعباده أنْ شرع لهم التوبة من الذنوب ، ومن رحمته أيضاً أن يقبلها منهم فيتوب عليهم . ولو أغلق باب التوبة لَتحوَّل المذنب ولو لمرة واحدة إلى مجرم يُعربد في المجتمع ، وبفتح باب التوبة يقي الله المجتمع من هذه العربدة .
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة التوبة فيقول : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح " .
وقوله تعالى في بداية الآية : { ثُمَّ } تدلُّ على كثرة ما تقدم من ذنوب ، ومع ذلك غفرها الله لهم لِيُبيِّن لك البَوْن الشاسع بين رحمة الله وإصرار العُصَاة على الكفران بالله ، وعلى المعصية .
وقوله تعالى : { بِجَهَالَةٍ } .
أي : بطيش وحُمْق وسَفَه ، وجميعها داخلة في الجهل بمعنى أنْ تعتقد شيئاً وهو غير واقع ، فالجهل هنا ليس المراد منه عدم العلم ، إنما الجاهل مَنْ كانت لديه قضية مخالفة للواقع وهو متمسك بها ، والمراد أن ينظر إلى خير عاجل في نظره ، ويترك خيراً آجلاً في نظر الشرع .
وقد ورد هذا المعنى في قول الحق سبحانه : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [ النساء : 17 ] .
بجهالة : يعني في لحظة سَفَه وطيْش ، فالعاصي يعلم الحكم تماماً ، ولكنه في غفلة عنه ، وعدم تبصُّر بالعواقب ، ولو فكَّر في عاقبة أمره ما تجرَّأ على المعصية .
لذلك نقول : إن صاحب المعصية لا يُقدِم عليها إلا في غيبة العقل .
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .
ولو استحضر قسوة الجزاء لما أقدم على معصيته ، ولكن سفهه وطيْشه يُغلّف الجزاء ويستره عنه ويُزيّن له ما ينتظره من لذة ومتعة عاجلة .
وهَبْ أن شخصاً ألحتْ عليه غريزة الجنس ، وهي أشرس الغرائز في الإنسان ، ففكّر في الفاحشة والعياذ بالله ، وقبل أنْ يقع في هذه الوهدة السحيقة أخذناه إلى موقد النار ، وذكّرناه بما غفل عنه من جزاء وعقوبة هذه الجريمة .
بالله عليك ، ماذا تراه يفعل؟ هل يُصِرّ على جريمته؟ لا ، لأنه كان ذاهلاً غافلاً ، وبمجرد أن تذكره يرجع .
إذن : طيشه وسفهه صرفه عن التفكر في العاقبة وأذهله عن رَدِّ الفعل ، وجعله ينظر إلى الأمور نظرة سطحية متعجِّلة .
(1/5063)
وقوله : { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا . . } [ النحل : 119 ] .
والتوبة هنا هي التوبة النصوح الصادقة ، التي ينوي صاحبها الإقلاع عنها وعدم العَوْد إليها مرة أخرى ، ويعزم على ذلك حال توبته ، فإذا فعل ذلك قَبِل الله منه وتاب عليه .
ولا يمنع ذلك أن يعود للذنب مرة أخرى إذا ضعُفَتْ نفسه عن المقاومة ، فإنْ عاد عاد إلى التوبة من جديد ، لأن الله سبحانه من أسمائه ( التواب ) أي : كثير التوبة ، فلم يقل : تائب بل تواب ، فلا تنقطع التوبة في حق العبد مهما أذنب ، وعليه أنْ يُحدِث لكل ذنبٍ توبة .
بل وأكثر من ذلك ، إذا تاب العبد وأحسن التوبة ، وأتى بالأعمال الصالحة بدلاً من السيئة ، منَّ الله عليه بأن يُبدِّل سيئاته حسنات ، وهذه معاملة رب كريم غفور رحيم .
وقوله سبحانه :
{ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 119 ] فيه إشارة لحرص النبي صلى الله عليه وسلم علينا ، وأنه يسرُّه أن يغفر الله لنا . { إِنَّ رَبَّكَ } يا محمد غفور رحيم ، فكأنه سبحانه يمتنُّ على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيغفر للمذنبين من أمته .
ثم يقول الحق سبحانه واصفاً نبيه إبراهيم عليه السلام : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ . . } .
(1/5064)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
بعد أن ذكرتْ الآيات طرفاً من سيرة اليهود ، وطرفاً من سيرة أهل مكة تعرَّضتْ لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
والسؤال : لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء؟
ذلك لأنه أبو الأنبياء ، ولو مكانته بين الأنبياء ، والجميع يتمحكون فيه ، حتى المشركون يقولون : نحن على دين إبراهيم ، والنصارى قالوا عنه : إنه نصراني . واليهود قالوا : إنه يهودي .
فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام ، وتُوضِّح مواصفاتها ، وتردُّ وتُبطِل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام ، وهاكم مواصفاته :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً . . } [ النحل : 120 ] .
أُمَّة : الأمة في معناها العام : الجماعة ، وسياق الحديث هو الذي يُحدِّد عددها ، فنقول مثلاً : أمة الشعراء . أي : جماعة الشعراء ، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد ، كما في قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ . . } [ القصص : 23 ] .
فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لأنهم خرجوا لغرض واحد ، وهو سَقْي دوابهم .
وتُطلَق الأمة على جنس في مكان ، كأمة الفرس ، وأمة الروم ، وقد تُطلِق على جماعة تتبع نبياً من الأنبياء ، كما قال سبحانه : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] .
وحين نتوسَّع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم؛ لأنه أُرسِل للناس كافّة ، وجمع الأمم في أمة واحدة ، كما قال تعالى : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ] .
ومعنى أمة واحدة . أي : جامعة لكل الأمم .
فالمعنى إذن أن إبراهيم عليه السلام يقوم مقام أمة كاملة؛ لأن الكمالات المطلقة لله وحده ، والكمالات الموهوبة من الله لخلْقه في الرسل تُسمَّى كمالات بشرية موهوبة من الله .
أما ما دون الرسل فقد وُزِّعت عليهم هذه الكمالات ، فأخذ كل إنسان واحداً منها ، فهذا أخذ الحلم ، وهذا الشجاعة ، وهذا الكرم ، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل .
فإذا نظرتَ إلى إبراهيم عليه السلام وجدتَ فيه من المواهب ما لا يُوجد إلا في أمة كاملة .
كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حَدَّد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول : " الخير فيَّ وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه وفي أمتي " .
أي : أن كل واحد منهم أخذ جزءًا من هذا الكمال ، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مُبعثر في أمته كلها .
لذلك حين تتتبع تاريخ إبراهيم عليه السلام في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خَصْلة من خصال الخير ، وصِفة من صفات الكمال ، فإذا جمعتَ هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسْرها ، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير .
ومن معاني أمة : أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته .
(1/5065)
وقوله : { قَانِتاً لِلَّهِ . . } [ النحل : 120 ] .
أي : خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته .
{ حَنِيفاً . . } [ النحل : 120 ] .
الحنف في الأصل : الميْل ، وقد جاء إبراهيم عليه السلام والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم ، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج ، وحَاد عن هذا الفساد .
والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طَمَّ الفساد ، إذن : ميْله عن الاعوجاج والفساد ، فمعناه أنه كان مستقيماً معتدلاً على الدين الحق ، مائلاً عن الاعوجاج حائداً عن الفساد .
ثم يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] .
وهذه هي الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً ، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله ، فما فائدة نَفْي الشرك عنه مرة أخرى في :
{ وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] .
يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشرك ، فمنه الشرك الأكبر ، وهو أن تجعل لله شركاء ، وهو القمة في الشرك . ومنه الشرك الخفي ، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دَخْل في تكوين الأشياء .
فالآية هنا : { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] .
أي : الشرك الخفي ، فالأوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الأكبر ، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شركَ الأسباب أيضاً ، وهو دقيق خفيّ .
ولذلك عندما أُلقِيَ عليه السلام في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإنْ جاءت على يد جبريل عليه السلام ، فقال له حينما عرض عليه المساعدة : أما إليك فلا . فأين الشرك الخفي إذن والأسباب عنده معدومة من البداية؟
ثم يقول الحق سبحانه : { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ . . } .
(1/5066)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
قوله تعالى : { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } [ النحل : 121 ] .
فيه تلميح لأهل مكة الذين جحدوا نعمة الله وكفروها ، وكانت بلدهم آمنة مطمئنة ، فلا يليق بكم هذا الكفر والجحود ، وأنتم تدَّعُون أنكم على ملِّة إبراهيم عليه السلام فإبراهيم لم يكن كذلك ، بل كان شاكراً لله على نعمه .
وقوله : { اجتباه } [ النحل : 121 ] .
اصطفاه واختاره للنبوة ، واجتباء إبراهيم عليه السلام كان عن اختبار ، كما قال تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ . . } [ البقرة : 124 ] .
أي : اختبره ببعض التكاليف ، فأتمها إبراهيم على أكمل وجه ، فقال له ربه : { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] .
ولكنه لحبه أن تتصل الإمامة في ذريته قال : { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } [ البقرة : 124 ] .
فعدَّل الله له هذه الرغبة ، وصحَّح له ، بأن ذريتك ستكون منها الظالم ، فقال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
لذلك تعلَّم إبراهيم عليه السلام من هذا الموقف ، وأراد أن يحتاط لنفسه بعد ذلك ، فعندما أراد أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر . . } [ البقرة : 126 ] .
فصحَّح الله له أيضاً هذا المطلب ، فالموقف هنا مختلف عن الأول ، الأول كان في إمامة القيم والدين ، وهذه لا يقوم بها ظالم ، أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي ، فالجميع في الرزق سواء ، فقال تعالى : { وَمَن كَفَرَ . . } [ البقرة : 126 ] .
أي : سأرزق الكافر أيضاً .
وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تُربِّي الأنبياء ، وتصنعهم على عَيْنها ، فكل مواقف الأنبياء تتجمع في النهاية ، وتعطينا خلاصة الكمال البشري .
ويدل على دقة إبراهيم عليه السلام في أداء ما طُلِب منه موقفه في بناء البيت ، فبعد أن دَلَّه الله على مكانه أخذ يُزيح عنه آثار السيول ، ويكشف عن قواعده ، وكان يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر ربه أنْ يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع ، ولكنه أحب أن يأتي بالأمر على أتمِّ وجوهه ، وينفذه بدقة واحتياط ، ففكَّر أن يأتي بحجر مرتفع ، ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء ، فجاء بالحجر الذي هو مقام إبراهيم ، كل ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر لا يرفعه إلا رجلان .
وكذلك موقفه الإيماني وتخلِّيه عن الأسباب ، حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع ، وفي مكان خالٍ من مُقوِّمات الحياة وأسباب العيش .
إنه لا يؤمن بالأسباب ، إنما يؤمن بمُسبِّبها ، وطالما أنه سبحانه موجود فسوف يُوفِّر لهم من الأسباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر : أهذا منزل أنزلكه الله أم من عندك؟
فلما علمت أنه من الله قالت : إذن لن يُضيِّعنا . وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته ، وملأ قلبها يقيناً في الله تعالى .
وقوله سبحانه :
{ وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 121 ] .
كيف . . بعد كل هذه الأوصاف الإيمانية تقول الآيات ( وَهَدَاهُ ) أليست هذه كلها هداية؟
نقول : المراد زاده هداية ، كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا . . } .
(1/5067)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
الحق سبحانه يُبيِّن أن جزاء إبراهيم عليه السلام عظيم في الدنيا قبل جزاء الآخرة ، والمراد بحسنة الدنيا محبة جميع أهل الأديان له ، وكثرة الأنبياء في ذريته والسيرة الطيبة والذكر الحسن .
وها نحن نتحدث عن صفاته ومناقبه ونفخر ونعتز به . وهذا العطاء من الله لإبراهيم في الدنيا؛ لأنه بالغ في طاعة ربه وعبادته .
وقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربه هذه المكانة ، فقال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين * واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 83-84 ] .
حُكْماً : أي : حكمة أضع بها الأشياء في مواضعها .
ولسان صدق : هو الذكر الطيب والثناء الحسن بعد أن أموت .
وقوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ النحل : 122 ] .
فإنْ كان هذا جزاءَه في الدنيا ، فلا شكَّ أن جزاء الآخرة أعظم .
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ . . } .
(1/5068)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر بعضاً من صفات الخليل إبراهيم من كونه أمة قانتاً لله حنيفاً ، ولم يك من المشركين ، وأنه شاكر لأنعمه ، واجتباه ربه وهداه . . الخ قال :
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ النحل : 123 ] .
يا محمد :
{ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ النحل : 123 ] .
كأن قمة مناقب إبراهيم وحسناته أننا أوحينا إليك يا خاتم الرسل أن تتبع ملته .
وملة إبراهيم : أي شريعة التوحيد .
ثم يُؤكّد الحق سبحانه براءة إبراهيم من الشرك فيقول :
{ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ النحل : 123 ] .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت . . } .
(1/5069)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
بعد أن تحدَّث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي الأنبياء ، وذكر جانباً من صفاته ومناقبه تكلَّم عن بني إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر الله بعد أن طلبوها بأنفسهم ، وكأن القرآن يقول لهم : لقد زعمتم أن إبراهيم كان يهودياً ، فهاهي صفات إبراهيم ، فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه السلام؟
ويعطينا الحق سبحانه مثالاً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به ، وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه ، فيذكر ما كان منهم في أمر السبت .
و ( السبت ) هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للأحد ، والسبت مأخوذ من سَبَتَ يَسْبِت سَبْتاً . يعني : سكن واستقرَّ ، ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] .
ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوماً يرتاحون فيه من العمل ، ويتفرغون فيه لعبادة الله ، وقد اقترح عليهم نبيهم موسى عليه السلام أن يكون يوم الجمعة ، فهو اليوم الذي أتمَّ الله فيه خَلْق الكون في ستة أيام ، وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم ، ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم السبت وقالوا :
إن الله خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الأحد ، وانتهى منها يوم الجمعة ، وارتاح يوم السبت ، وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة الله يوم السبت ، وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم .
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت ، أو إبراهيم عليه السلام في يوم الجمعة ، واختاروا الأحد على اعتبار إنه أول بَدْء الخلق .
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختار لها الله يوم الجمعة يوم الانتهاء وتمام النعمة .
إذن : اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة ، فهذا مطلبهم ، وقد وافقهم ربُّهم سبحانه وتعالى عليه ، وأمرهم أنْ يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم ، وافقهم ليُبيّن لجاجتهم وعنادهم ، وأنهم لن يُوفُوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم ، ووافقهم ليقطع حجتهم ، فلو اختار لهم يوماً لاعترضوا عليه ، ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم .
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة ، هي أن الآيات التي تأتي مُصدِّقة للرسل في البلاغ عن الله تعالى قد تكون من عند الله وباختياره سبحانه ، وقد تكون باختيار المرسَل إليهم أنفسهم ، وقد كان من بني إسرائيل أنْ كذَّبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] .
أي : لكونهم يقترحون الآية ثم يُكذِّبونها ، فأمْرهم تكذيب في تكذيب .
وقصة السبت ذُكِرَتْ في مواضع كثيرة ، مثل قوله تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ] .
لقد نقض اليهود عهدهم مع الله كعادتهم ، وأخلفوا ما التزموا به ، وذهبوا للصيد في يوم السبت ، فكادهم الله وأغاظهم ، فكانت تأتيهم الحيتان والأسماك تطفو على سطح الماء كالشراع ، ولا ينتفعون منها بشيء إلا الحسرة والأسف ، فيقولون : لعلها تأتي في الغد فيخيب الله رجاءهم :
(1/5070)
{ وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [ الأعراف : 163 ] .
وقد سمَّى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداءً؛ لأنهم اعتدوا على ما شرع الله ، قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] .
وقوله تعالى :
{ إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ . . . } [ النحل : 124 ] .
كلمة ( اخْتَلَفُوا ) تُوحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية ، والحقيقة أن الخلاف لم يكُنْ بين اليهود بعضهم البعض ، بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة ، فخالفوه واختاروا السبت ، فجعل الله الخلاف عليهم .
فالمعنى : إنما جُعِل السبت حُجّة على الذين اختلفوا فيه؛ لأنه اثبت عدوانهم على يوم العبادة ، فبعد أن اقترحوه اختاروه انقلب حُجة عليهم ، ودليلاً لإدانتهم .
ولو تأملنا قوله :
{ على الذين . . } [ النحل : 124 ] .
نجد أن كلمة ( عَلَى ) تدلُّ على الفوقية أي : أن لدينا شيئاً أعلى وشيئاً أدنى؛ فكأن السبت جاء ضد مصلحتهم ، وكأن خلافهم مع نبيهم انقلب عليهم .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ . . } [ الرعد : 6 ] .
يؤولها بعضهم على معنى ( مع ظلمهم ) نقول : المعنى صحيح ، ولكن المعية لا تقتضي العلو ، فلو قلنا : مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية ، أما قول الحق سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ . . } [ الرعد : 6 ] .
أي : أن المغفرة عَلَت على الظلم ، فالظلم يتطلب العقاب ، ولكن رحمة الله ومغفرته عَلَتْ على أنْ تُعامِل الظالم بما يستحق ، فرحمة الله سبقتْ غضبه ، ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ إبراهيم : 39 ] .
فالكبر كان يقتضي عدم الإنجاب ولكن هبة الله علت على سنة الكِبَر .
ثم يقول الحق سبحانه : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ . . } .
(1/5071)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
فبعد أن تحدثتْ الآيات عن النموذج الإيماني الأعلى في الإنسان في شخص أبي الأنبياء إبراهيم ، وجعلتْ من أعظم مناقبه أن الله أمر خاتم رسُله باتباعه ، أخذتْ في بيان الملامح العامة لمنهج الدعوة إلى الله .
قوله : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ . . } [ النحل : 125 ] .
الحق تبارك وتعالى لا يُوجّه هذا الأمر بالدعوة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يعلم أنه سيُنفِّذ ما أُمِر به ، وسيقوم بأمر الدعوة ، ويتحمل مسئوليتها .
{ ادع } : بمعنى دُلَّ الناس وارشدهم .
{ سَبِيلِ رَبِّكَ } [ النحل : 125 ] .
السبيل هو الطريق والمنهج ، والحكمة : وَضْع الشيء في موضعه المناسب ، ولكن لماذا تحتاج الدعوةُ إلى الله حكمةً؟
لأنك لا تدعو إلى منهج الله إلا مَنِ انحرف عن هذا المنهج ، ومَنِ انحرف عن منهج الله تجده أَلِف المعصية وتعوَّد عليها ، فلا بُدَّ لك أنْ ترفقَ به لِتُخرجه عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح ، فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره ، لأنك تجمع عليه شدتين :
شدة الدعوة والعنف فيها ، وشدة تَرْكه لما أحبَّ وما أَلِفَ من أساليب الحياة ، فإذا ما سلكتَ معه مَسْلَك اللِّين والرِّفق ، وأحسنت عَرْض الدعوة عليه طاوعك في أنْ يترك ما كان عليه من مخالفة المنهج الإلهي .
ومعلوم أن النصْح في عمومه ثقيل على النفس ، وخاصة في أمور الدين ، فإياك أن تُشعِر مَنْ تنصحه أنك أعلم منه أو افضل منه ، إياك أن تواجهه بما فيه من النقص ، أو تحرجه أمام الآخرين؛ لأن كل هذه التصرّفات من الداعية لا تأتي إلا بنتيجة عكسية ، فهذه الطريقة تثير حفيظته ، وربما دَعَتْه إلى المكابرة والعناد .
وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى :
{ بالحكمة والموعظة الحسنة . . } [ النحل : 125 ] .
ويُروى في هذا المقام مقام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة قصة دارت بين الحسن والحسين رضي الله عنهما ، هذه القصة تجسيدٌ صادق لما ينبغي أنْ يكون عليه الداعية .
فيُروى أنهما رَأيَا رجلاً لا يُحسِن الوضوء ، وأراد أنْ يُعلِّماه الوضوء الصحيح دون أنْ يجرحَا مشاعره ، فما كان منهما إلا أنهما افتعلا خصومة بينهما ، كل منهما يقول للآخر : أنت لا تُحسِن أنْ تتوضأ ، ثم تحاكما إلى هذا الرجل أنْ يرى كلاً منهما يتوضأ ، ثم يحكم : أيهما أفضل من الآخر ، وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء ، بعدها جاء الحُكْم من الرجل يقول : كل منكما أحسن ، وأنا الذي ما أحسنْتُ .
إنه الوعظ في أعلى صورة ، والقدوة في أحكم ما تكون .
" مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، حينما أتاه شاب في فَوْرة شبابه ، يشتكي عدم صَبْره عن رغبة الجنس ، وهي كما قلنا من أشرس الغرائز في الإنسان .
جاء الشاب وقال : " يا رسول الله إئذن لي في الزنا " .
هكذا تجرأ الشاب ولم يُخْفِ عِلّته ، هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة ، ومعرفة العلة أولَ خَطوات الشفاء . فماذا قال رسول الله؟
انظر إلى منهج الدعوة ، كيف يكون ، وكيف استلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الداء من نفس هذا الشاب؟ فلم يزجره ، ولم ينهره ، ولم يُؤذه ، بل أخذه وربَّت على كتفه في لطف ولين ، ثم قال : " أتحبه لأمك؟ قال : لا يا رسول الله ، جُعِلْتَ فِدَاك . قال : فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، قال : أَتُحبه لأختكَ؟
قال : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاك ، قال : فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم " .
وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة ، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر الشاب ودعا له : " اللهم نَقِّ صدره ، وحَصِّن فَرْجه " فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه أن يزني ، وهو يقول : فوالله ما هَمَّتْ نفسي بشيء من هذا ، إلا ذكرْتُ أمي وأختي وزوجتي " .
(1/5072)
فلنتأمل هذا التلطُّف في بيان الحكم الصحيح ، فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقة ولين وحُسْن تصرف ، إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواءً مُرّاً يغلفونه بغُلالة رقيقة حُلْوة المذاق ليستسيغه المريض ، ويسهل عليه تناوله . وما أشبه علاج الأبدان بعلاج القلوب في هذه المسألة .
ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى الله : النصح ثقيل فلا تُرْسِله جبلاً ، ولا تجعله جدلاً . . والحقائق مُرّة فاستعيروا لها خِفّة البيان .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن شيء لا يرضيه من ذنب أو فاحشة في مجتمع الإيمان بالمدينة كان يصعد منبره الشريف ، ويقول : " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا " .
ويكتفي بالتوجيه العام دون أنْ يجرحَ أحداً من الناس على حَدِّ قولهم في الأمثال : إياك أعني واسمعي يا جاره .
ومن ذلك ما كان يلجأ إليه العقلاء في الريف حينما يتعرض أحدٌ للسرقة ، أو يضيع منه شيء ذو قيمة ، فكانوا يعتلون عن فَقْد الشيء الذي ضاع أو سُرِق ويقول : ليلة كذا بعد غياب القمر سوف نرمي التراب .
ومعنى " نرمي التراب " أن يحضر كل منهم كمية من التراب يلقيها أمام بيت صاحب هذا الشيء المفقود ، وفي الصباح يبحثون في التراب حتى يعثروا على ما فقد منهم ، ويصلوا إلى ضالَّتهم دون أنْ يُفتضحَ الأمر ، ودون أن يُحرَج أحد ، وربما لو واجهوا السارق لأنكر وتعقدت المسألة .
وقوله سبحانه :
{ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ النحل : 125 ] .
والجدل مناقشة الحجج في قضية من القضايا ، وعلى كُلِّ من الطرفين أنْ يعرضَ حُجّته بالتي هي احسن . أي : في رفق ولين ودون تشنُّج أو غَطْرسة .
ويجب عليك في موقف الجدال هذا ألاَّ تُغضِبَ الخصْم ، فقد يتمحَّك في كلمة منك ، ويأخذها ذريعة للانصراف من هذا المجلس .
(1/5073)
وقوله سبحانه :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } [ النحل : 125 ] .
قد يتساءل البعض : ما علاقة هذا التذييل للآية بموضوع الدعوة إلى الله؟
يريد الحق سبحانه أن يُبيّن لنا حساسية هذه المهمة ، وأنها تُبنى على الإخلاص لله في توجيه النصيحة ، ولا ينبغي للداعية أبداً أنْ يغُشَّ في دعوته ، فيقصد من ورائها شيئاً آخر ، وقد تقوم بموعظة وفي نفسه استكبار على الموعوظ ، أو شعور أنك أفضل منه أو أعلم منه .
ومن الناس والعياذ بالله مَنْ يجمع القشور عن موضوع ما ، فيظن أنه أصبح عالماً ، فيضر الناس أكثر مِمّا ينفعهم .
إذن : إنْ قُبِل الغش في شيء فإنه لا يُقبل في مجال الدعوة إلى الله ، فإياك أنْ تغشَّ بالله في الله؛ لأنه سبحانه وتعالى أعلم بمَنْ يضل الناس ، ويصدهم عن سبيل الله ، وهو أعلم بالمهتدين .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ . . . } .
(1/5074)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
نلاحظ أن هذا المعنى ورد في قوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ . . } [ البقرة : 194 ] .
وبمقارنة الآيتين نرى أنهما يقرران المثلية في رد الاعتداء :
{ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ . . . } [ النحل : 126 ] .
و { فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ } [ البقرة : 194 ] .
إذن : الحق سبحانه ، وإنْ شرع لنا الرد على الاعتداء بالمثل ، إلا أن جعله صعباً من حيث التنفيذ ، فمن الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد ، بحيث يكون مثله تماماً دون اعتداء ، ودون زيادة في العقوبة ، وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارةً إلى استحباب الانصراف عنها إلى ما هو خير منها ، كما قال تعالى :
{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] .
فقد جعل الله في الصبر سَعة ، وجعله خيراً من رَدِّ العقوبة ، ومقاساة تقدير المثلية فيها ، فضلاً عما في الصبر من تأليف القلوب ونَزْع الأحقاد ، كما قال الحق سبحانه : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] .
ففي ذلك دَفْع لشراسة النفس ، وسَدٌّ لمنافذ الانتقام ، وقضاء على الضغائن والأحقاد .
وقوله : { لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] .
الخيرية هنا من وجوه :
أولاً : في الصبر وعدم رَدِّ العقوبة بمثلها إنهاءٌ للخصومات ، وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة لا تنتهي من العداوة .
ثانياً : مَنْ ظُلِم من الخلق ، فصبر على ظلمهم ، فقد ضمن أن الله تعالى في جواره؛ لأن الله يغار على عبده المظلوم ، ويجعله في معيته وحفظه؛ لذلك قالوا : لو علم الظالم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضنَّ عليه بالظلم .
والمتتبع لآيات الصبر في القرآن الكريم يجد تشابهاً في تذييل بعض الآيات .
يقول تعالى : { واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } [ لقمان : 17 ] .
وفي آية أخرى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] .
ولا ننسى أن المتكلم هو الله ، إذن : ليس المعنى واحداً ، فلكل حرف هنا معنى ، والمواقف مختلفة ، فانظر إلى دِقّة التعبير القرآني .
ولما كانت المصائب التي تصيب الإنسان على نوعين :
النوع الأول : هناك مصائب تلحق الإنسان بقضاء الله وقدره ، وليس له غريم فيها ، كمن أُصيب في صحته أو تعرَّض لجائحة في ماله ، أو انهار بيته . . الخ .
وفي هذا النوع من المصائب يشعر الإنسان بألم الفَقْد ولذْعة الخسارة ، لكن لا ضغن فيها على أحد .
إذن : الصبر على هذه الأحداث قريب؛ لأنه ابتلاء وقضاء وقدر ، فلا يحتاج الأمر بالصبر هنا إلى توكيد ، ويناسبه قوله تعالى : { واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } [ لقمان : 17 ] .
أما النوع الآخر : فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل ، كالقتل مثلاً ، فإلى جانب الفَقْد يوجد غريم لك ، يثير حفيظتك ، ويهيج غضبك ، ويدعوك إلى الانتقام كلما رأيته ، فالصبر في هذه أصعب وحَمْل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الآية الثانية :
(1/5075)
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] .
فاستعمل هنا لام التوكيد؛ لأن الصبر هنا شاقّ ، والفرصة مُتَاحَة للشيطان لِيُؤلّب القلوب ، ويثير الضغائن والأحقاد .
كما نلاحظ في الآية الأولى قال : ( وَاصْبِرْ ) .
وفي الثانية قال : ( صَبَر وغَفَر ) لأن أمامه غريماً يدعوه لأنْ يغفر له .
ويُحكى في قصص العرب قصة اليهودي المرابي الذي أعطى رجلاً مالاً على أنْ يردَّه في أجل معلوم ، واشترط عليه إنْ لم يَفِ بالسداد في الوقت المحدد يقطع رَطْلاً من لحمه ، ووافق الرجل ، وعند موعد السداد لم يستطع الرجل أداء ما عليه .
فرفع اليهودي الأمر إلى القاضي وقَصَّ عليه ما بينهما من اتفاق ، وكان القاضي صاحب فِطْنة فقال : نعم العقد شريعة المتعاقدين ، وأمر له بسكين . وقال : خُذْ من لحمه رَطْلاً ، ولكن في ضربة واحد ، وإنْ زاد عن الرطل أو نقص أخذناه من لحمك أنت .
ولما رأى اليهودي مشقة ما هو مُقْدِم عليه آثر السلامة وتصالح مع خصمه .
والسؤال الآن : ما علاقة هذه الآية :
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ . . } [ النحل : 126 ] .
بما قبلها : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] .
الدعوة إلى منهج يلفت الإنسان خليفة الله في أرضه أنْ يلتزمَ بمنهج الله الذي استخلفه ، ووضع له هذا المنهج لِيُنظّم حركة حياته ، والداعية يواجه هؤلاء الذين يُفسدون في الأرض ، ويحققون لأنفسهم مصالح على حساب الغير ، والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب غيره لا بُدَّ أن يكون له قوة وقدرة ، بها يطغى ويستعلي ويظلم .
فإذا جاء منهج الله تعالى ليعدل حركة هؤلاء ويُخرجهم مما أَلفُوه ، وينزع منهم سلطان الطغيان والظلم ، ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به ، فلا بُدَّ أنْ يُجادلوه ويصادموه ويقفوا في وجهه ، فقد جمع عليهم شدة النصح والإصلاح ، وشدة تَرْك ما ألفوه .
فعلَى الداعية إذن أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادلهم بالتي هي احسن ، فإذا ما تعدَّى أمرُهم إلى الاعتداء على الداعية ، إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة الطباع ، فسوف نحتاج إلى أسلوب آخر ، حيث لم يَعُدْ يُجدي أسلوب الحكمة .
ولا بُدَّ لنا أن نقفَ الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية ، فضلاً عن الرجولة الإيمانية ، وأن يكون لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى ، دون أن يكون عندنا لَدَد في الخصومة ، أو إسراف في العقوبة .
فجاء قوله تعالى :
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . } [ النحل : 126 ] .
وفي الآية تحذير أن يزيدَ الردّ على مثله ، وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل يستوي أمامه الجميع ، فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل لا يتعداه ، ولعل ذلك يلفتهم إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة الانتقام عنانها ، بل هَدَّأَها ودعاها إلى العفو والصفح ، ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم .
وهذا التوجيه الإلهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم توجّه إليه صلى الله عليه وسلم في تصرُّف خاص ، لا يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه ، ولكن بمؤمن حبيب إلى رسول الله ، وصاحب منزلة عظيمة عنده ، إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه .
(1/5076)
فقد مثَّل به الكفار في أُحُد ، وشقَّتْ هند بطنه ، ولاكت كبده ، فشقَّ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأثَّر في نفسه ، وواجه هذا الموقف بعاطفتين : عاطفته الإيمانية ، وعاطفة الرحم والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره ، ووقف إلى جواره ، فقال في انفعاله بهذه العاطفة : " لئن أظهرني الله عليهم لأُمثِّلنَّ بثلاثين رجلاً منهم " .
ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هَدَّأ من رَوْعه ، وعدَّل له هذه المسألة ولأمته من بعده ، فقال :
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . } [ النحل : 126 ] .
والمتأمل للأسلوب القرآني في هذه الآية يلحظ فيها دعوة إلى التحنُّن على الخصم والرأفة به ، فالمتحدث هو الله سبحانه ، فكل حرف له معنى ، فلا تأخذ الكلام على إجماله ، ولكن تأمل فيه وسوف تجد من وراء الحرف مراداً وأن له مطلوباً . لماذا قال الحق سبحانه : ( وإنْ ) ولم يستخدم ( إذا ) مثلاً؟
إن عاقبتم : كأن المعنى : كان يحب ألاَّ تعاقبوا .
أما ( إذا ) فتفيد التحقيق والتأكيد ، والحق سبحانه يريد أنْ يُحنِّن القلوب ، ويضع ردَّ العقوبة بمثلها في أضيق نطاق ، فهذه رحمة حتى من الأعداء ، هذه الرحمة تُحبِّبهم في الإسلام ، وتدعوهم إليه ، وبها يتحوَّل هؤلاء الأعداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى الله .
كما أن في قوله : ( عَاقَبْتُمْ ) دليل على أن ردَّ العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد ، كما قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ . . } [ الأنفال : 60 ] .
كأنه يقول : كونوا دائماً على استعداد ، وفي حال قوة تُمكنكم من الردِّ إذا اعتُدِي عليكم ، كما أن في وجود القوة والاستعداد ما يردع العدو ويرهبه ، فلا يجرؤ على الاعتداء من البداية ، وبالقوة والاستعداد يُحفظ التوازن في المجتمع ، فالقوي لا يفكّر أحد في الاعتداء عليه .
وهذا ما نراه الآن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلُّح بأسلحة فاتكة .
وكلمة : { مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . } [ النحل : 126 ] .
نلاحظ أن الردَّ على الاعتداء يُسمَّى عقوبة ، لكن الاعتداء الأول لماذا نُسميه أيضاً عقوبة؟
قالوا : لأن هذه طريقة في التعبير تسمَّى " المشاكلة " ، أي : جاءت الأفعال كلها على شاكلة واحدة .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
لأن ردَّ السيئة لا يُسمَّى سيئة .
ولسائل في هذه القضية أن يسأل : طالما أن الإسلام يسعى في هذه المسألة إلى العفو ، فلماذا لم يُقرِّره من البداية؟ وما فائدة الكلام عن العقوبة بالمثل؟
نقول : لأن المجتمع لا يكون سليم التكوين إلا إذا أَمِن كل إنسان فيه على نفسه وعِرْضه وماله .
(1/5077)
. الخ . وهذا الأمن لا يتأتَّى إلا بقوة تحفظه ، كما أن للمجتمع توازناً ، هذا التوازن في المجتمع لا يُحفظ إلا بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات ، وتضمن أن تكون حركة الإنسان في المجتمع دون ظلم له .
كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم ، فهدف الشارع الحكيم أن يَحُدَّ من الجريمة ، ويمنع حدوثها ، فلو علم القاتل أنه سيُقتل ما تجرّأ على جريمته ، ففي تشريع العقوبة رحمة بالمجتمع وحفظ لسلامته وأمْنه .
ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة ، فيقول : كيف تقتلون مَن يرتد عن دينكم؟ وأين حرية العقيدة إذن؟
نقول : في تشريع قتل المرتد عن الإسلام تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين ، بحيث لا يدخله أحد إلا بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة ، فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء الحرية يدخل أو لا يدخل ، لا يغصبه أحد ، ولكن ليعلم أنه إذا دخل ، فحكم الردة معلوم .
إذن : شرعَ الإسلامُ العقوبةَ ليحفظ للمجتمع توازنه ، وليعمل عملية ردع حتى لا تقع الجريمة من البداية ، لكن إذا وقعتْ يلجأ إلى علاج آخر يجتثُّ جذور الغِلِّ والأحقاد والضغائن من المجتمع .
لذلك سبق أن قلنا عن عادة الأخذ بالثأر في صعيد مصر : إنه يظل في سلسلة من القتل والثأر لا تنتهي ، وتفزِّع المجتمع كله ، حتى الآمنين الذين لا جريرة لهم ، وتنمو الأحقاد والكراهية بين العائلات في هذا الجو الشائك ، حتى إذا ما تشجَّع واحد منهم ، فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى وليّ القتيل ، وألقى بنفسه بين يديه قائلاً : ها أنا بين يديك وكفني معي ، فاصنع بي ما شئت ، وعندها تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أنْ يثأروا منه ، فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر التي لا تنتهي .
ثم يقول الحق سبحانه : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ . . } .
(1/5078)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
بعد أن ذكرتْ الآيات فضل الصبر وما فيه من خيرية ، وكأن الآية السابقة تمهد للأمر هنا ( وَاصْبِرْ ) ليأتمر الجميع بأمر الله ، بعد أنْ قدَّم لهم الحيثيات التي تجعل الصبر شجاعة لا ضعفاً ، كمَا يقولون في الحكمة : من الشجاعة أنْ تجبُنَ ساعة .
فإذا ما وسوس لك الشيطان ، وأغراك بالانتقام ، وثارت نفسُك ، فالشجاعة أنْ تصبر ولا تطاوعهما .
قوله تعالى : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله . . } [ النحل : 127 ] .
من حكمة الله ورحمته أنْ جعلك تصبر على الأذى؛ لأن في الصبر خيراً لك ، والله هو الذي يُعينك على الصبر ، ويمنع عنك وسوسة الشيطان وخواطر السوء التي تهيج غضبك ، وتجرّك إلى الانتقام .
والحق سبحانه وتعالى يريد من عبده أن يتجه لإنفاذ أمره ، فإذا علم ذلك من نيته تولّى أمره وأعانه ، كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
إياك أن تعتقد أن الصبر من عندك أنت ، فالله يريد منك أن تتجه إلى الصبر مجرد اتجاه ونية ، وحين تتجه إليه يُجنّد الله لك الخواطر الطيبة التي تُعينك عليه وتُيسِّره لك وتُرضيك به ، فيأتي صبرك جميلاً ، لا سخطَ فيه ولا اعتراضَ عليه .
ثم يقول تعالى :
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ . . } [ النحل : 127 ] .
لقد امتنّ الله على أمة العرب التي استقبلتْ دعوة الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، بأنْ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ومن أوسطهم ، يعرفون حَسبَه ونَسبَه وتاريخه وأخلاقه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم مُحباً لقومه حريصاً على هدايتهم ، كما قال تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
أي : تعز عليه مشقتكم ، ويؤلمه عَنَتكم وتعبكم ، حريص عليكم ، يريد أن يستكمل لكل كل أنواع الخير؛ لأن معنى الحرص : الضَّنّ بالشيء ، فكأنه صلى الله عليه وسلم يضِنّ بقومه .
وقد أوضح هذا المعنى في الحديث الشريف : " إنما مثلي ومثَل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه ، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه " .
لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه لما رأى من كفرهم وعنادهم وتكبُّرهم عن قبول الحق ، وهو يريد لهم الهداية والصلاح؛ لأنك إذا أحببتَ إنساناً أحببتَ له ما تراه من الخير ، كمن ذهب إلى سوق ، فوجدها رائجة رابحة ، فدلّ عليها من يحب من أهله ومعارفه .
كذلك لما ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان أحبَّ أنْ يُشاركه قومه هذه المتعة الإيمانية .
والحق سبحانه وتعالى هنا يُسلِّي رسوله ، ويخفف عنه ما صُدم في قومه ، يقول له : لا تحزن عليهم ولا تُحمّل نفسك فوق طاقتها ، فما عليك إلا البلاغ . ويخاطبه ربه في آية أخرى :
(1/5079)
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
أي : لا تكن مُهْلكاً نفسَك أسَفاً عليهم .
وقوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] .
الضيق : تأتي بالفتح وبالكسر ، ضِيْق ، ضَيْق .
والضيق : أن يتضاءل الشيء الواسع أمامك عما كنت تُقدِّره ، والضيق يقع للإنسان على درجات ، فقد تضيق به بلده فينتقل إلى بلد آخر .
وربما ضاقت عليه الدنيا كلها ، وفي هذه الحالة يمكن أنْ تسعه نفسه ، فإذا ضاقتْ عليه نفْسه فقد بلغ أقصى درجات الضيق ، كما قال تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا في الجهاد مع رسول الله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ . . } [ التوبة : 118 ] .
فالحق سبحانه ينهى رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يكون في ضيق من مكر الكفار؛ لأن الذي يضيق بأمر ما هو الذي لا يجد في مجال فكره وبدائله ما يخرج به من هذا الضيق ، إنما الذي يعرف أن له منفذاً ومَخْرجاً فلا يكون في ضَيْق .
فالمعنى : لا تَكُ في ضيق يا محمد ، فالله معك ، سيجعل لك من الضيق مخرجاً ، ويرد على هؤلاء مكرهم : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] .
ولذلك يقول : لا كرب وأنت رب . فساعة أن تضيق بك الدنيا والأهل والأحباب ، وتضيق بك نفسك فليسعْك ربك ، ولتكُنْ في معيته سبحانه؛ ولذلك قال تعالى بعد ذلك : { إِنَّ الله مَعَ . . } .
(1/5080)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
هذه قضية معيّة الله لمن اتقاه ، فمَنِ اتقى الله فهو في جواره ومعيته ، وإذا كنت في معية ربك فمَنْ يجرؤ أن يكيدك ، أو يمكرُ بك؟
وفي رحلة الهجرة تتجلى معية الله تعالى وتتجسد لنا في الغار ، حينما أحاط به الكفار ، والصِّدِّيق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدميه لَرَآنا ، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واثق بهذه المعية : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .
فما علاقة هذه الإجابة من رسول الله بما قال أبو بكر؟
المعنى : ما دام أن الله ثالثهما إذن فهما في معية الله ، والله لا تدركه الأبصار ، فمَنْ كان في معيته كذلك لا تدركه الأبصار .
وقوله : { اتقوا . . } [ النحل : 128 ] .
التقوى في معناها العام : طاعة الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، ومن استعمالاتها نقول : اتقوا الله ، واتقوا النار ، والمتأمل يجد معناها يلتقي في نقطة واحدة .
فمعنى " اتق الله " : اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وحاجزاً يحميك ، وذلك باتباع أمره واجتناب نهيه؛ لأن للحق سبحانه صفات رحمة ، فهو : الرؤوف الرحيم الغفور ، وله صفات جبروت فهو : المنتقم الجبار العزيز ، فاجعل لنفسك وقاية من صفات الانتقام .
ونقول : اتقوا النار ، أي : اجعلوا بينكم وبين النار وقاية ، والوقاية من النار لا تكون إلا بطاعة الله باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، إذن : المعنى واحد ، ولكن جاء مرّة باللازم ، ومرَّة بلازم اللازم .
وقوله : { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] .
المحسن : هو الذي يُلزم نفسه في عبادة الله بأكثر مما ألزمه الله ، ومن جنس ما ألزمه الله به ، فإنْ كان الشرع فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة ، فالإحسان أن تزيدها ما تيسَّر لك من النوافل ، وإنْ كان الصوم شهرَ رمضان ، فالإحسان أنْ تصومَ من باقي الشهور كذا من الأيام ، وكذلك في الزكاة ، وغيرها مِمَّا فرض الله .
لذلك نجد أن الإحسان أعلى مراتب الدين ، وهذا واضح في حديث جبريل حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان ، فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك " .
والآية الكريمة تُوحِي لنا بأن الذي اتقوا لهم جزاء ومعيّة ، وأن الذين هم محسنون لهم جزاء ومعيّة ، كُلٌّ على حسب درجته؛ لأن الحق سبحانه يعطي من صفات كمال لخَلْقه على مقدار معيتهم معه سبحانه ، فالذي اكتفى بما فرض عليه ، لا يستوي ومَنْ أحسن وزاد ، لا بُدَّ أن يكون للثاني مزيَّة وخصوصية .
وفي سورة الذاريات يقول تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15-16 ] .
لم يقل " مؤمنين "؛ لأن المؤمن يأتي بما فُرِض عليه فحسب ، لكن ما وجه الإحسان عندهم؟
يقول تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 17-19 ] .
وكلها أمور نافلة تزيد عما فرض الله عليهم .
ويجب أن نتنبه هنا إلى أن المراد من قوله تعالى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ] .
ليست الزكاة ، بل هي الصدقة ، لأنه في الزكاة قال سبحانه : { حَقٌّ مَّعْلُومٌ . . } [ المعارج : 24 ] .
(1/5081)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله ( سُبْحَانَ ) ؛ لأنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة ، ومعنى سبحانه : أي تنزيهاً لله تعالى تنزيهاً مطلقاً ، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق ، لا في الذات ، فلا ذاتَ كذاته ، ولا في الصفات فلا صفات كصفاته ، ولا في الأفعال ، فليس في أفعال خَلْقه ما يُشبِه أفعاله تعالى .
فإن قيل لك : الله موجود وأنت موجود ، فنزّه الله أن يكون وجوده كوجودك؛ لأن وجودك من عدم ، وليس ذاتياً فيك ، ووجوده سبحانه ليس من عدم ، وهو ذاتي فيه سبحانه .
فذاته سبحانه لا مثيلَ لها ، ولا شبيه في ذوات خلقه . وكذلك إن قيل : سَمْع والله سمع . فنزِّه الله أنْ يُشابه سمعُه سمعَك ، وإن قيل : لك فِعْل ، ولله فِعْل فنزِّه الله أن يكون فعله كفعلك .
ومن معاني ( سُبْحَان ) أي : أتعجب من قدرة الله .
إذن : كلمة ( سُبْحَان ) جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر ، فإذا ما سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول : كيف يحدث هذا؟ بل نزِّه الله أن يُشابه فِعْلُه فِعْلَ البشر ، فإن قال لك : إنه أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة ، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً ، فإياك أن تنكر .
فربك لم يقُلْ : سَرَى محمد ، بل أُسْرِي به . فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله ، وما دام الفعل لله فلا تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك ، ففِعْل الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر .
ولو تأملنا كلمة ( سُبْحَان ) نجدها في الأشياء التي ضاقتْ فيها العقول ، وتحيَّرتْ في إدراكها وفي الأشياء العجيبة ، مثل قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] .
فالأزواج أي : الزوجين الذكر والأنثى ، ومنهما يتم التكاثر في النبات ، وفي الإنسان وقد فسر لنا العلم الحديث قوله : { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } بما توصَّل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء ، وأن فيهما السالب والموجب الذي يساوي الذكر والأنثى؛ لذلك قال تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] .
ومنها قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] .
فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها ، ويرى كيف يحُلُّ الظلام محلَّ الضياء ، أو الضياء محل الظلام ، لا يملك أمام هذه الآية إلا أن يقول : سبحان الله .
ومنها قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [ الزخرف : 13 ] .
هذه كلها أمور عجيبة ، لا يقدر عليها إلا الله ، وردتْ فيها كلمة ( سبحان ) في خلال السور وفي طيّات الآيات .
و ( سُبْحَان ) اسم يدلُّ على الثبوت والدوام ، فكأن تنزيه الله موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد المنزِّه ، كما نقول في الخلق ، فالله خالق ومُتصف بهذه الصفة قبل أنْ يخلق شيئاً .
(1/5082)
وكما تقول : فلان شاعر ، فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة ، فلو لم يكن شاعراً ما قالها .
إذن : تنزيه الله ثابت له قبل أن يوجد مَنْ يُنزِّهه سبحانه ، فإذا وُجِد المنزّه تحوَّل الأسلوب من الاسم إلى الفعل ، فقال سبحانه : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الحشر : 1 ] .
وهل سبَّح وسكت وانتهى التسبيح؟ لا ، بل : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الجمعة : 1 ] .
على سبيل الدوام والاستمرار ، وما دام الأمر كذلك والتسبيح ثابت له ، وتُسبِّح له الكائنات في الماضي والحاضر ، فلا تتقاعس أنت أيُّها المكلَّف عن تسبيح ربك ، يقول تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] .
وقوله : ( أُسْرِي ) من السُّرى ، وهو السير ليلاً ، وفي الحِكَم : ( عند الصباح يحمَدُ القوم السُّرى ) .
فالحق سبحانه أسرى بعبد ، فالفعل لله تعالى ، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تَقِسْ الفعل بمقياس البشر ، ونزِّه فِعْل الله عن فِعْلك ، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذِّب . فقالوا : كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يَدَّع أنه سَرَى بل قال : أُسْرِي بي .
ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة . أي : أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة ، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية سيختلف الزمن لو سِرْنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة ، فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن ، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى ، إذا كان الفعل من الله فلا زمن .
فإنْ قال قائل : ما دام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن ، لماذا لم يَأْتِ الإسراء لمحةً فحسْب ، ولماذا استغرق ليلة؟
نقول : لأن هناك فرْقاً بين قطْع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مَرَاءٍ عُرِضَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق ، فرأى مواقف ، وتكلَّم مع أشخاص ، ورأى آيات وعجائب ، هذه هي التي استغرقت الزمن .
وقلنا : إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعل . هَبْ أن قائلاً قال لك : أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل " إفرست " ، هل تقول له : كيف صعد ابنك الرضيع قمة " إفرست "؟
هذا سؤال إذن في غير محلِّه ، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى : أنا أسريتُ بعبدي ، فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها ، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد .
لكن كيف فاتتْ هذه القضية على كفار مكة؟
ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رَدّاً جميلاً على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا الحاضر ، فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان .
(1/5083)
ونسمع منهم مَنْ يقول : إن الإسراء كان منَاماً ، أو كان بالروح دون الجسد .
ونقول لهؤلاء : لو قال محمد لقومه : أنا رأيتُ في الرؤيا بيت المقدس ، هل كانوا يُكذِّبونه؟ ولو قال لهم : لقد سبحتْ روحي الليلة حتى أتتْ بيت المقدس ، أكانوا يُكذِّبونه؟ أتُكذَّب الرّؤى أو حركة الأرواح؟!
إذن : في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم برُوحه وجسده ، وكأن الحق سبحانه ادَّخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس ، ليردّ به على مُكذّبي اليوم .
وقوله سبحانه : { بِعَبْدِهِ . . } [ الإسراء : 1 ] .
العبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معاً ، هذا مدلولها ، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط .
لكن ، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بالذات؟
نقول : لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس ، وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزةً للخاصة الذين ميَّزهم الله عن سائر الخَلْق ، فكأن كلمة ( عبده ) هي حيثية الإسراء .
أي : أُسْرِي به؛ لأنه صادق العبودية لله ، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه ، فاستحق أنْ يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره ، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله .
وفَرْق بين العبودية لله والعبودية للبشر ، فالعبودية لله عِزٌّ وشرف يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده ، وقال الشاعر :
وَمِمّا زَادَني شَرَفاً وَعِزّاً ... وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا
دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عِبَادِي ... وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيّاً
أما عبودية البشر للبشر فنقْصٌ ومذلَّة وهوان ، حيث يأخذ السيد خَيْر عبده ، ويحرمه ثمره كَدِّه .
لذلك ، فالمتتبّع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل :
{ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ . . } [ الإسراء : 1 ] .
وقوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ . . } [ الجن : 19 ] .
ويكفيك عِزاً وكرامة أنك إذا أردتَ مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك ، فما عليكَ إلا أنْ تتوضأ وتنوي المقابلة قائلاً : الله أكبر ، فتكون في معية الله عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه ومُوعده ومُدّته ، وتختار أنت موضوع المقابلة ، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردتَ .
وما أحسنَ ما قال الشاعر :
حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بِأَنِّي عَبْدٌ ... يَحْتَفِي بِي بِلاَ مَواعِيدَ رَبُّ
هُو في قُدْسِه الأعَزِّ ولكِنْ ... أنَا أَلْقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبُّ
فما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا؟ وكم أنت مُلاقٍ من المشقة والعنت؟ وكم دونه من الحجّاب والحرّاس؟ ثم بعد ذلكَ ليس لك أن تختار لا الزمان ولا المكان ، ولا الموضوع ولا غيره .
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المتخلِّق بأخلاق الله إذا سلَّم على أحد لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده .
وقوله : { لَيْلاً .
(1/5084)
. } [ الإسراء : 1 ] .
سبق أن قُلْنا : إن السُّرى هو السير ليلاً ، فكانت هذه كافية للدلالة على وقوع الحدث ليلاً ، ولكن الحق سبحانه أراد أنْ يؤكد ذلك ، فقد يقول قائل : لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
نقول : حدث الإسراء ليلاً ، لتظلَّ المعجزة غَيْباً يؤمن به مَنْ يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة ، فتكون المسألة إذن حِسيّة مشاهدة لا مجالَ فيها للإيمان بالغيب .
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال : إن صاحبكم يزعم أنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس ، فمنهم مَنْ قلّب كفَّيْه تعجُّباً ، ومنهم مَنْ أنكر ، ومنهم مَن ارتد .
أما الصِّدِّيق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدِّق ، ومن هذا الموقف سُمِّي الصديق ، وقال قولته المشهورة : " إن كان قال فقد صدق " .
إذن : عمدته أن يقول رسول الله ، وطالما قال فهو صادق ، هذه قضية مُسلَّم بها عند الصِّدِّيق رضي الله عنه .
ثم قال : " إنَّا لَنُصدقه في أبعد من هذا ، نُصدِّقه في خبر السماء ( الوحي ) ، فكيف لا نُصدّقه في هذا "؟
إذن : الحق سبحانه جعل هذا الحادث مَحكّاً للإيمان ، ومُمحِّصاً ليقين الناس ، حين يغربل مَنْ حول رسول الله ، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع .
لذلك قال تعالى في آية أخرى : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ . . } [ الإسراء : 60 ] .
وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكُنْ مناماً ، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً ، فالمنام لا يُكذِّبه أحد ولا يختلف فيه الناس .
لكن لماذا قال عن الإسراء ( رُؤْيَا ) يعني المنامية ، ولم يقُلْ " رؤية " يعني البصرية؟
قالوا : لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية ، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة .
وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلَّم فيها العلماء : أكان بالروح والجسد؟ أكان يقظة أم مناماً؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانيء؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء ، ونُوضِّح ما فيها من تقارب .
فمن حيث : أكان الإسراء بالروح فقط أم بالروح والجسد؟ فقد أوضحنا وَجْه الصواب فيه ، وأنه كان بالروح والجسد جميعاً ، فهذا مجال الإعجاز ، ولو كان بالروح فقط ما كان عجيباً ، وما كذَّبه كفار مكة .
أما مَنْ ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا منام ، فيجب أن نلاحظ أن أول الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة ، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رُؤْيَا إلا وجاءت كفلَق الصبح ، فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ليست كرؤيانا ، بل هي صِدْق لا بُدَّ أن يتحقَّق . ومثال ذلك ما حدث ، مَنْ إرادةِ اللهِ لهُ رؤْيا الفتح .
(1/5085)
قال تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ . . } [ الفتح : 27 ] .
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم صحابته هذا الخبر ، فلما ردَّهم الكفار عند الحديبية ، فقال الصحابة لرسول الله : ألم تُبشِّرنا بدخول المسجد الحرام؟ فقال : ولكن لم أَقُلْ هذا العام .
لذلك يسمون هذه الرُّؤى رؤى الإيناس ، وهي أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مناماً ، حتى إذا ما تحقق لم يُفَاجأ به ، وكان له أُنْس به . وما دام لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلَق الصبح فلا بُدَّ أن هذه الرؤيا ستأتي واقعاً وحقيقة ، وقد يرى هذه الرؤيا مرة أخرى على سبيل التذكرة بذلك الإيناس .
إذن : مَنْ قال : إن الإسراء كان مناماً نقول له : نعم كان رؤيا إيناس تحققتْ في الواقع ، فلدينا رؤى الإيناس أولاً ، ورؤى التذكير بالنعمة ثانياً ، وواقع الحادث في الحقيقة ثالثاً ، وبذلك نخرج من الخلاف حول : أكان الإسراء يقظة أم مناماً؟
وحتى بعد انتهاء حادث الإسراء كانت الرؤيا الصادقة نوعاً من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان كلما اشتدتْ به الأهوال يُريه الله تعالى ما حدث له لِيُبيّن له حفاوة السماء والكون به صلى الله عليه وسلم ؛ ليكون جَلْداً يتحمل ما يلاقي من التعنت والإيذاء .
أما من قال : إن الإسراء كان من بيت أم هانيء ، فهذا أيضاً ليس محلاً للخلاف؛ لأن بيت أم هانيء كان مُلاصِقاً للمطاف من المسجد الحرام ، والمطاف من المسجد .
إذن : لا داعي لإثارة الشكوك والخلافات حول هذه المعجزة؛ لأن الفعل فِعْل الحق سبحانه وتعالى ، والذي يحكيه لنا هو الحق سبحانه وتعالى ، فلا مجالَ للخلاف فيه .
وقوله تعالى :
{ مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . } [ الإسراء : 1 ] .
المسجد الحرام هو بيت الله : الكعبة المشرفة ، وسُمّي حراماً؛ لأنه حُرّم فيه ما لم يحرُمْ في غيره من المساجد . وكل مكان يخصص لعبادة الله نسميه مسجداً ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر . . } [ التوبة : 18 ] .
ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد ، أنه بيت لله باختيار الله تعالى ، وغيره من المساجد بيوت لله باختيار خَلْق الله؛ لذلك كان بيت الله باختيار الله قِبْلة لبيوت الله باختيار خَلْق الله .
وقد يُراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه ، أو المكان الذي يصلح للصلاة ، كما جاء في الحديث الشريف : " . . وجُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً " .
أي : صالحة للصلاة فيها .
ولا بُدَّ أن نُفرِّق بين المسجد الذي حُيِّز وخُصِّص كمسجد مستقل ، وبين أرض تصلح للصلاة فيها ومباشرة حركة الحياة ، فالعامل يمكن أن يصلي في مصنعه ، والفلاح يمكن أن يصلي في مزرعته ، فهذه أرض تصلح للصلاة ولمباشرة حركة الحياة .
أما المسجد فللصلاة ، أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية ، أو بيان حكم ، أو تلاوة قرآن .
(1/5086)
. إلخ ولا يجوز في المسجد مباشرة عمل من أعمال الدنيا .
" لذلك حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالته في المسجد ، قال له : " لا رَدَّها الله عليك " .
وقال لمن جلس يعقد صفقة في المسجد : " لا بارك الله لك في صفقتك " .
ذلك لأن المسجد خُصِّص للعبادة والطاعة ، وفيه يكون لقاء العبد بربه عز وجل ، فإياك أن تشغل نفسك فيه بأمور الدنيا ، ويكفي ما أخذتْه منك ، وما أنفقته في سبيلها من وقت .
والمسجد لا يُسمَّى مسجداً إلا إذا كان بناءً مستقلاً من الأرض إلى السماء ، فأرضه مسجد ، وسماؤه مسجد ، لا يعلوه شيء من منافع الدنيا ، كمَنْ يبني مسجداً تحت عمارة سكنية ، ودَعْكَ من نيته عندما خَصَّص هذا المكان للصلاة : أكانت نيته لله خالصة؟ أم لمأرب دنيوي؟ وقد قال تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] .
فمثل هذا المكان لا يُسمّى مسجداً؛ لأنه لا تنطبق عليه شروط المسجد ، ويعلوه أماكن سكنية يحدث فيها ما يتنافى وقدسية المسجد ، وما لا يليق بحُرْمة الصلاة ، فالصلاة في مثل هذا المكان كالصلاة في أي مكان آخر من البيت .
لذلك يحرم على الطيار غير المسلم أن يُحلِّق فوق مكة؛ لأن جوَّ الحرَم حَرَمٌ .
وقوله تعالى :
{ إلى المسجد الأقصى . . } [ الإسراء : 1 ] .
في بُعْد المسافة نقول : هذا قصيّ . أي : بعيد . وهذا أقصى أي : أبعد ، فالحق تبارك وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجدٌ آخر قصيّ ، وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالمسجد الأقصى : أي : الأبعد ، وهو مسجد بيت المقدس .
وقوله سبحانه : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ . . } [ الإسراء : 1 ] .
البركة : أن يُؤتي الشيءُ من ثمره فوقَ المأمول منه ، وأكثر مما يُظنّ فيه ، كأن تُعِد طعاماً لشخصين ، فيكفي خمسة أشخاص فتقول : طعام مبارَك .
وقول الحق سبحانه :
{ بَارَكْنَا حَوْلَهُ . . . } [ الإسراء : 1 ] .
دليل على المبالغة في البركة ، فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى ، فالبركة فيه من باب أَوْلى ، كأن تقول : مَنْ يعيشون حول فلان في نعمة ، فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم .
لكن بأيّ شيء بارك الله حوله؟
لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية ، وبركة دينية :
بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خِصْبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار ، وهذا من عطاء الربوبية الذي يناله المؤمن والكافر .
وبركة دينية خاصة بالمؤمنين ، هذه البركة الدينية تتمثل في أن الأقصى مَهْد الرسالات ومَهْبط الأنبياء ، تعطَّرَتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى ، وفيه هبط الوحي وتنزلتْ الملائكة .
وقوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ . . . } [ الإسراء : 1 ] .
اللام هنا للتعليل .
(1/5087)
كأن مهمة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس أن نُرِي رسول الله الآيات ، وكلمة : الآيات لا تُطلق على مطلق موجود ، إنما تطلق على الموجود العجيب ، كما نقول : هذا آية في الحُسْن ، آية في الشجاعة ، فالآية هي الشيء العجيب .
ولله عز وجل آيات كثيرة منها الظاهر الذي يراه الناس ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار . . } [ فصلت : 37 ] . { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ] .
والله سبحانه يريد أن يجعل لرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصية ، وأن يُريه من آيات الغيب الذي لم يَرَهُ أحد ، ليرى صلى الله عليه وسلم حفاوة السماء به ، ويرى مكانته عند ربه الذي قال له : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] .
لأنك في سَعة من عطاء الله ، فإن أهانك أهل الأرض فسوف يحتفل بك أهل السماء في الملأ الأعلى ، وإنْ كنت في ضيق من الخَلْق فأنت في سَعة من الخالق .
وقوله : { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] .
أي : الحق سبحانه وتعالى .
السمع : إدراك يدرك الكلام . والبصر : إدراك يدرك الأفعال والمرائي ، فلكل منهما ما يتعلق به .
لكن سميع وبصير لمن؟
جاء هذا في ختام آية الإسراء التي بيَّنَتْ أن الحق سبحانه جعل الإسراء تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما لاقاه من أذى المشركين وعنتهم ، وكأن معركة دارت بين رسول الله والكفار حدثتْ فيها أقوال وأفعال من الجانبين .
ومن هنا يمكن أن يكون المعنى : ( سَمِيعٌ ) لأقوال الرسول ( بَصِيرٌ ) بأفعاله ، حيث آذاه قومه وكذبوه وألجؤوه إلى الطائف ، فكان أهلها أشدَّ قسوة من إخوانهم في مكة ، فعاد مُنكَراً دامياً ، وكان من دعائه : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك ، أو يحل عليَّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .
فالله سميع لقول نبيه صلى الله عليه وسلم . وبصير لفعله .
فقد كان صلى الله عليه وسلم في أشدِّ ظروفه حريصاً على دعوته ، فقد قابل في طريق عودته من الطائف عبداً ، فأعطاه عنقوداً من العنب ، وأخذ يحاوره في النبوات ويقول : أنت من بلد نبي الله يونس بن متى .
أو يكون المعنى : سميع لأقوال المشركين ، حينما آذوا سَمْع رسول الله وكذَّبوه وتجهَّموا له ، وبصير بأفعالهم حينما آذوه ورَمَوْه بالحجارة .
الحق تبارك وتعالى تعرّض لحادث الإسراء في هذه الآية على سبيل الإجمال ، فذكر بدايته من المسجد الحرام ، ونهايته في المسجد الأقصى ، وبين البداية والنهاية ذكر كلمة الآيات هكذا مُجْملة .
(1/5088)
وجاء صلى الله عليه وسلم ففسَّر لنا هذا المجمل ، وذكر الآيات التي رآها ، فلو لم يذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من آيات الله لَقُلْنا : وأين هذه الآيات؟ فالقرآن يعطينا اللقطة الملزمة لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 17-19 ] .
إذن : كان لا بُدَّ لتكتمل صورة الإسراء في نفوس المؤمنين أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال من أحاديث الإسراء .
لكن يأتي المشكِّكُون وضعَاف الإيمان يبحثون في أحاديث الإسراء عن مأخذ ، فيعترضون على المرائي التي رآها رسول الله ، وسأل عنها جبريل عليه السلام .
فكان اعتراضهم أن هذه الأحداث في الآخرة ، فكيف رآها محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ونقول لهؤلاء : لقد قصُرَتْ أفهامكم عن إدراك قدرة الله في خَلْق الكون ، فالكون لم يُخلَق هكذا ، بل خُلِق بتقدير أزلي له ، ولتوضيح هذه المسألة نضرب هذا المثل :
هَبْ أنك أردتَ بناء بيت ، فسوف تذهب إلى المهندس المختص وتطلب منه رَسْماً تفصيلياً له ، ولو كنت ميسور الحال تقول له : اعمل لي ( ماكيت ) للبيت ، فيصنع لك نموذجاً مُصغّراً للبيت الذي تريده .
فالحق سبحانه خلق هذا الكون أزلاً ، فالأشياء مخلوقة عند الله ( كالماكيت ) ، ثم يبرزها سبحانه على وَفْق ما قدّره .
وتأمل قول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
انظر : { أَن يَقُولَ لَهُ } كأن الشيء موجود والله تعالى يظهره فحسب ، لا يخلقه بداية ، بل هو مخلوق جاهز ينتظر الأمر ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة : أمور يُبديها ولا يبتديها .
وإن كان الحق تبارك وتعالى قد ذكر الإسراء صراحة في هذه الآية ، فقد ذكر المعراج بالالتزام في سورة النجم ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى * عِندَهَا جَنَّةُ المأوى * إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى * مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى * لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 13-18 ] .
ففي الإسراء قال تعالى :
{ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ . . } [ الإسراء : 1 ] .
وفي المعراج قال : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] .
ذلك لأن الإسراء آية أرضية استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من الإلهام أنْ يُدلِّل على صِدْقه في الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ لأن قومه على علم بتاريخه ، وأنه لم يسبق له أنْ رأى بيت المقدس أو سافر إليه ، فقالوا له : صِفْه لنا وهذه شهادة منهم أنه لم يَرَهْ ، فتحدَّوْهُ أن يصفه .
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العملية ، هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة بيت المقدس ، خاصة وقد ذهب إليه ليلاً؟
إذن : صورته لم تكن واضحة أمام النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها ، وهنا تدخلتْ قدرة الله فجلاَّه الله له ، فأخذ يصفه لهم كأنه يراه الآن .
(1/5089)
كما أن الطريق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى طريق مسلوك للعرب ، فهو طريق تجارتهم إلى الشام ، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن عيراً لهم في الطريق ، ووصفها لهم وصفاً دقيقاً ، وأنها سوف تصلهم مع شروق الشمس يوم مُعين .
وفعلاً تجمعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير . وعند الشروق قال أحدهم : ها هي الشمس أشرقتْ . فردَّ الآخر : وها هي العير قد ظهرتْ .
إذن : استطاع صلى الله عليه وسلم أن يُدلِّل على صدق الإسراء؛ لأنه آية أرضية يمكن التدليل عليها ، بما يَعْلمه الناس عن بيت المقدس ، وبما يعلمونه من عِيرهم في الطريق .
أما ما حدث في المعراج ، فآيات كبرى سماوية لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم التدليل عليها أمام قومه ، فأراد الحق سبحانه أنْ يجعل ما يمكن الدليل عليه من آيات الأرض وسيلة لتصديق ما لا يوجد دليل عليه من آيات الصعود إلى السماء ، وإلا فهل صعد أحد إلى سدرة المنتهى ، فيصفها له رسول الله؟
إذن : آية الأرض أمكن أنْ يُدلّل عليها ، فإذا ما قام عليها الدليل ، وثبت للرسول خَرْق نواميس الكون في الزمن والمسافة ، فإنْ حدّثكم عن شيء آخر فيه خَرْق للنواميس فصدِّقوه ، فكأن آية الإسراء جاءت لِتُقرِّب للناس آية المعراج .
فالذي خرق له النواميس في آيات الأرض من الممكن أنْ يخرق له النواميس في آيات السماء ، فالله تعالى يُقرِّب الغيبيات ، التي لا تدركها العقول بالمحسّات التي تدركها .
ومن ذلك ما ضربه إليه مثلاً محسوساً لمضاعفة النفقة في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ، فأراد الحق سبحانه أنْ يُبيّن ذلك ويُقرِّبه للعقول ، فقال : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
ومن لُطْف الله سبحانه بعقول خَلْقه أنْ جعل آيات الإسراء بالنصّ الملزم الصريح ، لكن آيات المعراج جاءت بالالتزام في سورة النجم؛ لذلك قال العلماء : إن الذي يُكذِّب بالإسراء يكفر ، أما مَنْ يكذِّب بالمعراج فهو فاسق .
لكن أهل التحقيق يذهبون إلى تكفير مَنْ يُكذِّب المعراج أيضاً؛ لأن المعراج وإنْ جاء بالالتزام فقد بيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف ، والحق سبحانه يقول : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا . . } [ الحشر : 7 ] .
والمتأمل في الإسراء والمعراج يجده إلى جانب أنه تسلية لرسول الله وتخفيف عنه ، إلا أن لهم هدفاً آخر أبعد أثراً ، وهو بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤيّد من الله ، وله معجزات ، وتُخرَق له القوانين والنواميس العامة؛ ليكون ذلك كله تكريماً ودليلاً على صدق رسالته .
فالمعجزة : أمر خارق للعادة الكونية يُجريه الله على يد رسوله؛ ليكون دليلاً على صدقه ، ومن ذلك ما حدث لإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ألقاه قومه في النار ، ومن خواص النار الإحراق ، فهل كان المراد نجاة إبراهيم من النار؟
لو كان القصد نجاته من النار ما كان الله مكَّنهم من الإمساك به ، ولو أمسكوا فيمكن أنْ يُنزِل الله المطر فيطفيء النار .
(1/5090)
إذن : المسألة ليست نجاة إبراهيم ، المسألة إثبات خَرْق النواميس لإبراهيم عليه السلام ، فشاء الله أنْ تظلَّ النار مشتعلة ، وأن يُمسكوا به ويرموه في النار ، وتتوفر كل الأسباب لحرقه عليه السلام .
وهنا تتدخل عناية الله لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين ، فمن خواصّ النار الإحراق ، وهي خَلْق من خَلْقِ الله ، يأتمر بأمره ، فأمر اللهُ النارَ ألاَّ تحرق ، سلبها هذه الخاصية ، فقال تعالى : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] .
وربما يجد المشكِّكون في الإسراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لأفهامهم بما نشاهده الآن من تقدُّم علمي يُقرِّب لنا المسافات ، فقد تمكَّن الإنسان بسلطان العلم أنْ يغزوَ الفضاء ، ويصعد إلى كواكب أخرى في أزمنة قياسية ، فإذا كان في مقدور البشر الهبوط على سطح القمر ، أتستبعدون الإسراء والمعراج ، وهو فِعْل لله سبحانه؟!
وكذلك من الأمور التي وقفتْ أمام المعترضين على الإسراء والمعراج حادثة شَقِّ الصدر التي حكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمتأمل فيه يجده عملاً طبيعياً لإعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لما هو مُقبِل عليه من أجواء ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطبيعة البشرية .
كيف ونحن نفعل مثل هذا الإعداد حينما نسافر من بلد إلى آخر ، فيقولون لك : البس ملابس كذا . وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد ، وتتأقلم معه ، فما بالك ومحمد صلى الله عليه وسلم سيلتقي بالملائكة وبجبريل وهم ذوو طبيعة غير طبيعة البشر ، وسيلتقي بإخوانه من الأنبياء ، وهم في حال الموت ، وسيكون قاب قوسيْن أو أدنى من ربه عز وجل؟
إذن : لا غرابة في أنْ يحدث له تغيير ما في تكوينه صلى الله عليه وسلم ليستطيع مباشرة هذه المواقف .
وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدلُّ على صدق رسول الله فيما أخبر به من لقائه بالأنبياء في هذه الرحلة ، قال تعالى : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ . . } [ الزخرف : 45 ] .
والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمره ربّه أمراً نفّذه ، فكيف السبيل إلى تنفيذ هذا الأمر : واسأل مَن سبقك من الرسل؟
لا سبيل إلى تنفيذه إلا في لقاء مباشر ومواجهة ، فإذا حدَّثنا بذلك رسول الله في رحلة الإسراء والمعراج نقول له : صدقت ، ولا يتسلل الشكّ إلا إلى قلوب ضعاف الإيمان واليقين .
فالفكرة في هذه القضية الإسراء والمعراج دائرة بين يقين المؤمن بصدق رسول الله ، وبين تحكيم العقل ، وهل استطاع عقلك أنْ يفهم كل قضايا الكون من حولك؟
فما أكثر الأمور التي وقف فيها العقل ولم يفهم كُنْهَها ، ومع مرور الزمن وتقدُّم العلوم رآها تتكشّف له تدريجياً ، فما شاء الله أنْ يُظهره لنا من قضايا الكون يسَّر لنا أسبابه باكتشاف أو اختراع ، وربما بالمصادفة .
(1/5091)
وما العقل إلا وسيلة إدراك ، كالعين والأذن ، وله قوانين محددة لا يستطيع أنْ يتعداها ، وإياك أنْ تظنَّ أن عقلك يستطيع إدراك كل شيء ، بل هو محكوم بقانون .
ولتوضيح ذلك ، نأخذ مثلاً العين ، وهي وسيلة إدراك يحكمها قانون الرؤية ، فإذا رأيت شخصاً مثلاً تراه واضح الملامح ، فإذا ما ابتعد عنك تراه يصغُر تدريجياً حتى يختفي عن نظرك ، كذلك السمع تستطيع بأذنك أنْ تسمعَ صوتاً ، فإذا ما ابتعد عنك قَلَّ سمعك له ، حتى يتوقف إدراك الأذن فلا تسمع شيئاً .
كذلك العقل كوسيلة إدراك له قانون ، وليس الإدراك فيه مطلقاً .
ومن هنا لما أراد العلماء التغلُّب على قانون العيْن وقانون الأذن حينما تضعف هذه الحاسة وتعجز عن أداء وظيفتها صنعوا للعين النظارة والميكروسكوب والمجهر ، وهذه وسائل حديثة تُمكِّن العين من رؤية ما لا تستطيع رؤيته . وكذلك صنعوا سماعة الأذن لتساعدها على السمع إذا ضعفت عن أداء وظيفتها .
إذن : فكل وسيلة إدراك لها قانونها ، وكذلك العقل ، وإياك أنْ تظنَّ أن عقلك يستطيع أن يدرس كل شيء ، ولكن إذا حُدِّثْتَ بشيء فعقلك ينظر فيه ، فإذا وثقته صادقاً فقد انتهت المسألة ، وخذ ما حدثت به على أنه صدق .
وهذا ما حدث مع الصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه حينما حدثوه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ، وأنه أُسرِي به من مكة إلى بيت المقدس ، فما كان منه إلا أن قال : " إن كان قال فقد صدق " .
فالحجة عنده إذن قول الرسول ، وما دام الرسول قد قال ذلك فهو صادق ، ولا مجال لعمل العقل في هذه القضية ، ثم قال " كيف لا أُصدقه في هذا الخبر ، وأنا أصدقه في أكثر من هذا ، أصدقه في خبر الوحي يأتيه من السماء " .
فآية الإسراء إذن كانت آية أرضية ، يمكن أنْ يُقام عليها الدليل ، ويمكن أن يفهم الناس عنها أن القانون قد خُرِق لمحمد في الإسراء ، فإذا ما أتى المعراج وخرق له القانون فيما لا يعلم الناس كان أَدْعى لتصديقه .
والمتأمل في هذه السورة يجدها تسمى سورة الإسراء ، وتسمى سورة بني إسرائيل ، وليس فيها عن الإسراء إلا الآية الأولى فقط ، وأغلبها يتحدث عن بني إسرائيل ، فما الحكمة من ذِكْر بني إسرائيل بعد الإسراء؟
سبق أن قلنا : إن الحكمة من الكلام عن الإسراء بعد آخر النحل أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان في ضيق مما يمكرون ، فأراد الحق سبحانه أنْ يُخفِّف عنه ويُسلِّيه ، فكان حادث الإسراء ، ولما أَلِفَ بنو إسرائيل أن الرسول يُبعَثُ إلى قومه فحسب ، كما رأَوا موسى عليه السلام .
(1/5092)
فعندما يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويقول : أنا رسول للناس كافّة سيعترض عليه هؤلاء وسيقولون : إنْ كنتَ رسولاً فعلاً وسلَّمنا بذلك ، فأنت رسول للعرب دون غيرهم ، ولا دَخْل لك ببني إسرائيل ، فَلَنا رسالتنا وبيت المقدس عَلَم لنا .
لذلك أراد الحق سبحانه أن يلفت إسرائيل إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية الأمر ، ثم أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إليه : ليدلل بذلك على أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات الإسلام ، وأصبح منذ هذا الحدث في حَوْزة المسلمين .
ثم يبدأ الحديث عن موسى عليه السلام وعن بني إسرائيل ، فيقول تعالى : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب . . . } .
(1/5093)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قوله : { وَآتَيْنَآ } أي : أوحينا إليه معانيه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ . . } [ الشورى : 51 ] .
فليس في هذا الأمر مباشرة .
و ( الكتاب ) هو التوراة ، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل ، وإنْ أُطلِق دون أن يقترنَ بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم .
والوَحْي قد يكون بمعاني الأشياء ، ثم يُعبّر عنها الرسول بألفاظه ، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم .
ومثال ذلك : الحديث النبوي الشريف ، فالمعنى فيه من الحق سبحانه ، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل .
فإن قال قائل : ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه ، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط؟
نقول : لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل ، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أنْ يأتيَ بمثله ، فلا دَخْلَ لأحد فيه ، ولا بُدَّ أنْ يظلَّ لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أُوحِيَ إليه لَفْظُ ومعنى القرآن الكريم ، وأُوحِي إليه معنى الحديث النبوي الشريف .
والحق سبحانه يقول :
{ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ . . } [ الإسراء : 2 ] .
فهذا الكتاب لم ينزل لموسى وحده ، بل لِيُبلِّغه لبني إسرائيل ، وليرسمَ لهم طريق الهدى الله سبحانه ، وقال تعالى في آية أخرى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ } [ السجدة : 23 ] .
والهُدَى : هو الطريق الموصّل للغاية من أقصر وجه ، وبأقلّ تكلفة ، وهو الطريق المستقيم ، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين .
ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب ، وخلاصة هذا الهُدى لبني إسرائيل في قوله تعالى :
{ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } [ الإسراء : 2 ] .
ففي هذه العبارة خلاصة الهُدى ، وتركيز المنهج وجِمَاعه .
والوكيل : هو الذي يتولَّى أمرك ، وأنت لا تُولِّي أحداً أمرك إلا إذا كنتَ عاجزاً عن القيام به ، وكان مَنْ تُوكِّله أحكمَ منك وأقوى ، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم ، فالغني يصير فقيراً ، والقوي يصير ضعيفاً ، والصحيح يصير سقيماً .
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تِلْو الآخر ، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لِتولِّي أمرك والقيام بشأنك ، فربما وَكَّلْتَ واحداً منهم ففاجأك خبر موته .
إذن : إذا كنتَ لبيباً فوكِّل مَنْ لا تنتابه الأغيار ، ولا يدركه الموت؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يُعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور ، يقول : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] .
وما دام الأمر كذلك ، فإياك أنْ تتخذَ من دون الله وكيلاً ، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم ، بل يناولونك ويُبلِّغونك عن الله سبحانه .
(1/5094)
ولذلك الحق سبحانه يقول : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ . . } [ الإسراء : 86 ] .
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً ، فمن أين تأتي بالمنهج إذن؟
وقد تحدث العلماء طويلاً في ( أن ) في قوله :
{ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } [ الإسراء : 2 ] .
فمنهم مَنْ قال : إنها ناهية . ومنهم من قال : نافية ، وأحسن ما يُقال فيها : إنها مُفسّرة لما قبلها من قوله تعالى :
{ وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى . . } [ الإسراء : 2 ] .
ففسرت الكتاب والهدى ولخَّصتْه ، كما في قوله تعالى : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] .
فقوله : { قَالَ ياآدم } تُفسّر لنا مضمون وسوسة الشيطان .
ومثله قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . } [ القصص : 7 ] .
( فأنْ ) هنا مُفسِّرة لما قبلها . وكأن المعنى : وأوحينا إليه ألاَّ تتخذوا من دوني وكيلاً .
أو نقول : إن فيها معنى المصدرية ، وأنْ المصدرية قد تُجرّ بحرف جر كما نقول : عجبت أنْ تنجحَ ، أي : من أنْ تنجح ، ويكون معنى الآية هنا : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأنْ لا تتخذوا من دوني وكيلاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا . . } .
(1/5095)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
( ذرية ) منصوبة هنا على الاختصاص لِقصْد المدح ، فالمعنى : أخصّكم أنتم يا ذرية نوح ، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات؟
ذلك لأننا نجَّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق ، وحافظنا على حياتهم ، وأنتم ذريتهم ، فلا بُدَّ لكم أنْ تذكروا هذه النعمة لله تعالى ، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم .
فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجَّى آباءهم مع نوح ، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جَرَّبه آباؤهم ، ووجدوا أن مَنْ يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله .
ويقول تعالى :
{ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] .
أي : أن الحق سبحانه أكرم ذريته؛ لأنه كان عبداً شكوراً ، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا ، ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة ، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم ، ويُجنّبهم الزَّلل والانحراف .
ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء ، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله ، فإذا توفّر له قوت عامه قال : أعمل لأولادي ، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره ، وتراه ينشغل بهم ، ويُؤثِرهم على نفسه ، ويترقّى في طلب الخير لهم ، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها .
ومع ذلك ، فالإنسان عُرْضَة للأغيار ، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد ، فيقول تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] .
والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى الله تتعدَّى بركتها إلى أولادك من بعدك ، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم .
والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية ، واستطعما أهلها فأبَوْا أنْ يُضيّفوهما ، وسؤال الطعام يدل على صِدْق الحاجة ، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكَنْزِه ، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلا شكّ أنه صادق في سؤاله ، فهذا دليل على أنها قرية لِئَام لا يقومون بواجب الضيافة ، ولا يُقدِّرون حاجة السائل .
ومن هنا تعجَّبَ موسى عليه السلام من مبادرة الخِضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلاء اللئام : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] .
وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر ، ويُظهِر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام ، فيقول : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ . . }
(1/5096)
[ الكهف : 82 ] .
فالجدار مِلْك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام ، ولأن أباهما كان صالحاً سخّر الله لهما مَنْ يخدمهما ، ويحافظ على مالهما .
إذن : فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً ، فأكرمهم الله من أجله ، وجعلهما في حيازته وحفظه .
وهنا قد يسأل سائل : ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً ، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين ، فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه .
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
فكرامةً للآباء نلحق بهم الأبناء ، حتى وإنْ قَصَّروا في العمل عن آبائهم ، فنزيد في أجر الأبناء ، ولا ننقص من أجر الآباء .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] .
وشكور صيغة مبالغة في الشكر ، فلم يقل شاكر؛ لأن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة ، أما الشكور فهو الدائب على الشكر المداوم عليه ، وقالوا عن نوح عليه السلام : إنه كان لا يتناول شيئاً من مُقوّمات حياته إلا شكر الله عليها . ولا تنعَّم بنعمة من ترف الحياة إلا حمد الله عليها ، فإذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني من غير حول مني ولا قوة ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني من غير حول مني ولا قوة ، وهكذا في جميع أمره .
ويقول بعض العارفين : ما أكثر ما غفل الإنسان عن شكر الله على نعمه .
ونرى كثيراً من الناس قصارى جَهْدهم أن يقولوا : بسم الله في أول الطعام والحمد لله في آخره ، ثم هم غافلون عن نعم كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى ، تستوجب الحمد والشكر .
لذلك حينما يعقل الإنسان ويفقه نِعَم الله عليه ، ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة ، تجده يعمل ما نُسميّه حَمْد القضاء مثل الصلاة القضاء أي : حمد الله على نعم فاتت لم يحمده عليها ، فيقول : الحمد لله على كل نعمة أنعمتَها عليَّ يا ربّ ، ونسيت أنْ أحمدَك عليها ، ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه .
وقد يتعدى حمدَ الله لنفسه ، فيحمد الله عن الناس الذين أنعم الله عليهم ولم يحمدوه ، فيقول : الحمد لله عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه ، ولم يحمدك عليها .
ولذلك يقولون : إن النعمة التي تحمد الله عليها لا تُسأل عنها يوم القيامة؛ لأنك أدَّيْتَ حقها من حَمْد الله والثناء عليه .
والحمد والشكر وإنْ كان شكراً للمنعم سبحانه وثناء عليه ، فهو أيضاً تجارة رابحة للشاكر؛ لأن الحق سبحانه يقول : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ . . } .
(1/5097)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
قوله تعالى :
{ وَقَضَيْنَآ . . } [ الإسراء : 4 ] .
أي : حكمنا حُكْماً لا رجعةَ فيه ، وأعلنَّا به المحكوم عليه ، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى .
والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين ، وهذا الفَصْل لا بُدَّ له من قاضٍ مُؤهَّل ، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به ، ويستطيع الترجيح بين الأدلة .
إذن : لا بُدَّ أن يكون القاضي مُؤهّلاً ، ولو عُرْف المتنازعين ، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميِّين لا يعرفون عن القانون شيئاً ، ولكنهم واثقون من شخص ما ، ويعرفون عنه قَوْل الحق والعدل في حكومته ، فيرتضونه قاضياً ويُحكّمونه فيما بينهم .
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب ، بل لا بُدَّ له من بينة على المدعي أن يُقدّمها أو اليمين على مَنْ أنكر ، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود ، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه ، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه ، ثم هو في أثناء ذلك عُرْضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة .
وقد يستطيع الظالم أنْ يُعمِّي عليه الأمر ، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي ، فيحوّل الحكم لصالحه ، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا .
فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بيّنة ولا شهود ، ولا يقدر أحد أنْ يُعمِّي عليه أو يخدعه ، وهو سبحانه صاحب كل السلطات ، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به ، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه .
وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل القضاة أفضل من رسول الله؟!
ففي الحديث الشريف : " إنما أنا بشر مثلكم ، وإنكم تختصمون إليَّ ، ولعل أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته فأقضي له ، فمَنْ قضيت له من حق أخيه شيئاً ، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار " .
فردَّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له ، ونصحه أنْ يراجعَ نفسه وينظر فيما يستحق ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر ، ولكن إنْ عمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمَنْ يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب : " استفتِ قلبك ، وإنْ أفتوْكَ ، وإنْ أفتوْكَ ، وإنْ أفتوْكَ " .
قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مُميّزاً بقلبه بين الحلال والحرام ، وعليه أن يُراجع نفسه ويتدبر أمره .
وقوله : { فِي الكتاب . . } [ الإسراء : 4 ] .
أي : في التوراة ، كتابهم الذي نزل على نبيهم ، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر ، فالحق سبحانه قضى عليهم . أي : حكم عليهم حُكْماً وأعلمهم به ، حيث أوحاه إلى موسى ، فبلّغهم به في التوراة ، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل ، أَيُنفذونه وينصاعون له ، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم ، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون ، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربهم عز وجل ، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه ، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به ، وأنْ يُطيعوا أمره .
(1/5098)
وقوله تعالى :
{ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ . . } [ الإسراء : 4 ] .
جاءتْ هذه العبارة هكذا مُؤكّدة باللام ، وهذا يعني أن في الآية قَسَماً دَلَّ عليه جوابه ، فكأن الحق سبحانه يقول : ونفسي لتفسدن في الأرض ، لأن القسَم لا يكون إلا بالله .
أو نقول : إن المعنى : ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْماً مُؤكّداً ، لا يستطيع أحد الفِكَاك منه ، ففي هذا معنى القسَم ، وتكون هذه العبارة جواباً ل " قضينا "؛ لأن القسَم يجيء للتأكيد ، والتأكيد حاصل في قوله تعالى :
{ وَقَضَيْنَآ . . . } [ الإسراء : 4 ] .
فما هو الإفساد؟
الإفساد : أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه ، فكُلُّ شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية ، فإذا تركتَه ليؤديَ غايته فقد أبقيته على صلاحه ، وإذا أخللْتَ به يفقد صلاحه ومهمته ، والغاية التي خلقه الله من أجلها .
والحق سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مُقوّمات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء . . الخ وليس مقومات حياتنا فحسب ، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصالح صلاحاً ، فعلى الأقل إنْ لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبْقِ الصالح على صلاحه .
فمثلاً ، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء ، فإما أنْ تحتفِظَ بها على حالها فلا تطمسها ، وإما أنْ تزيدَ في صلاحها بأنْ تبنيَ حولها ما يحميها من زحف الرمال ، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخُّه في مواسير لتسهِّل على الناس استعمال ، وغير ذلك من أَوْجُه الصلاح .
ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ] .
أي : أنشأكم من الأرض ، وجعل لكم فيها مُقوّمات حياتكم ، فإنْ أحببتَ أنْ تُثري حياتك فأعمِلْ عقلك المخلوق لله ليفكر ، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون ، فأنت لا تأتي بشيء من عندك ، فقط تُعمِل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله ، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله ، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يُثرِي حياتك ، ويُوفِّر لك الرفاهية والترقي .
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملُوا عقولهم ، وزادوا الصالح صلاحاً ، وكم فيها من مَيْزات وفَّرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا ، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون ، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان ، فأخذوا هذه الفكرة ، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية .
(1/5099)
وكما يكون الإفساد في الماديات كمَنْ أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوِّثات ، كذلك يكون في المعنويات ، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه ، فكوْنُك لا تنفذ هذا المنهج ، أو تكتمه ، أو تُحرِّف فيه ، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى .
ويقول تعالى لبني إسرائيل :
{ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ . . } [ الإسراء : 4 ] .
وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط؟
والله إنْ كانوا كذلك فقد خلاهم ذم ، والأمر إذن هَيِّن ، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً ، فلماذا قال تعالى : مرتين؟
تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين ، وفي أيّ فترات التاريخ حدثتا ، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام ، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام ، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام .
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل ، فدلّ ذلك على أن الإسلام تعدّى إلى مناطق مُقدّساتهم ، فأصبح بيت المقدس قِبْلة للمسلمين ، ثم أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة ، وجاء للناس كافة .
إذن : كان من الأوْلى أن يُفسِّروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام ، ولا دَخْلَ للإسلام في إفسادهم السابق؛ لأن الحق سبحانه يقول :
{ وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 4 ] .
فإنْ كان الفساد مُطْلقاً . أي : قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم ، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل ، فقالوا لموسى عليه السلام : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
هل هناك فساد أكثر من أنْ قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مُثُلاً تكوينية وأُسْوة سلوكية ، وحرّفوا كتاب الله؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرَّفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة ، فمن التوراة ما نسوه ، كما قال تعالى : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ . . } [ المائدة : 13 ] .
والذي لم ينسَوْهُ لم يتركوه على حاله ، بل كتموا بعضه ، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله ، بل حرَّفوه ، كما قال تعالى : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ . . } [ المائدة : 13 ] .
ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف ، بل تعدَّى إلى أن أَتَوا بكلام من عند أنفسهم ، وقالوا هو من عند الله ، قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً . . } [ البقرة : 79 ] .
فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد؟
ومن العلماء مَنْ يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ . . }
(1/5100)
[ البقرة : 246 ] .
فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضَوْه وحكموا به ، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصَّلوا منه ولم يقاتلوا .
ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قويَتْ دولتهم ، واتسعتْ رقعتها من الشمال إلى الجنوب ، فأغار عليهم بختنصَّر وهزمهم ، وفعل بهم ما فعل .
وهذه التفسيرات على أن الفساديْن سابقان للإسلام ، والأَوْلى أن نقول : إنهما بعد الإسلام ، وسوف نجد في هذا رَبْطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء .
كيف ذلك؟
قالوا : لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم : لقد أظلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه ، ونقتلكم به قتل عاد وإرم .
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومَنْ عنده علم الكتاب ، فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك ، وأنك صادق ، ويعرف علامتك ، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ويقول أحدهم : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشد ، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه ، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لِمَا قرأه في كتبهم ، وما يعلمه من أوصافه ، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
إذن : كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا ، وكانوا مستشرفين لمجيئه ، وعندهم مُقدِّمات لبعثته صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ . . } [ البقرة : 89 ] .
فلما كفروا به ، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة؟
في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها ، ووفّى لهم رسول الله ما وفّوا ، فلما غدروا هم ، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم ، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم ، وقتل منهم مَنْ قَتل ، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] .
وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير ، وبني قَيْنقاع ، وبني قريظة ، الذين خانوا العهد مع رسول الله ، بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، ونصُّ الآية القادمة يُؤيِّد ما نذهب إليه من أن الإفسادتين كانتا بعد الإسلام .
(1/5101)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
معلوم أن ( إذَا ) ظرف لما يستقبل من الزمان ، كما تقول : إذا جاء فلان أكرمته ، فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد ، فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت ، وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر .
وقوله : { وَعْدُ } . والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى ، وإنما بشيء مستقبل . و { أُولاهُمَا } أي : الإفساد الأول .
وقوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ . . . } [ الإسراء : 5 ]
وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام؛ لأن كلمة { عِبَاداً } لا تطلق إلا على المؤمنين ، أما جالوت الذي قتله طالوت ، وبختنصر فهما كافران .
وقد تحدّث العلماء في قوله تعالى : { عِبَاداً لَّنَآ . . } [ الإسراء : 5 ] فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء ، وأن قوله ( عِبَاداً ) تُقَال للمؤمن وللكافر ، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حَسْب زعمهم .
ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 116-118 ]
والشاهر في قوله تعالى : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ . . } [ المائدة : 118 ]
فأطلق كلمة " عبادي " على الكافرين ، وعلى هذا القول لا مانع يكون جالوت وبختنصر ، وهما كافران قد سُلِّطا على بني إسرائيل .
ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة ، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ . . } [ الفرقان : 17 ]
فأطلق كلمة ( عباد ) على الكافرين أيضاً .
إذن : قوله تعالى : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ . . . } [ الإسراء : 5 ]
ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين ، فقد يكونون من الكفار ، وهنا نستطيع أن نقول : إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم ، ويُسلِّط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين ، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلّط عليه مَنْ هو أكثر منه ظلماً ، وأشدّ منه بطشاً ، كما قال سبحانه : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ]
وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تُطلَق على المؤمنين وعلى الكافرين ، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تُطلَق إلا على المؤمنين .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
(1/5102)
[ الفرقان : 63-67 ]
إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفا المؤمنين الصادقين ، فأطلق عليهم " عباد الرحمن " .
دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ . . } [ الحجر : 42 ]
والمراد هنا المؤمنون . . وقد قال إبليس : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ]
إذن : هنا إشكال ، حيث أتى كُلٌ بأدلّته وما يُؤيّد قوله ، وللخروج من هذا الإشكال نقول : كلمة " عباد " و " عبيد " كلاهما جمع ومفردهما واحد ( عبد ) . فما الفرق بينهما؟
لو نظرتَ إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعاً لهم اختيارات في أشياء ، ومقهورين في أشياء أخرى ، فهم جميعاً عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر ، إذن : كل الخَلْق عبيد فيما لا اختيارَ لهم فيه .
ثم بعد ذلك نستطيع أن نُقسّمهم إلى قْسمين : عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد ، وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله . كيف ذلك؟
لقد جعل الله تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار ، فجعلك قادراً على الفِعْل ومقابله ، وخلقك صالحاً للإيمان وصالحاً للكفر ، لكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً .
ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد ، فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم ، ويتنازلون عن مُرادهم إلى مُراد ربهم في المباحات ، فتراهم يُنفِّذون ما أمرهم الله به ، ويجعلون الاختيار كالقهر . ولسان حالهم يقول لربهم : سمعاً وطاعة .
وهؤلاء هم العباد الذين سَلّموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار ، فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عز وجل .
إذن : كلمة عباد تُطلق على مَنْ تنازل عن منطقة الاختيار ، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات .
أما الكفار الذين اختاروا مُرادهم وتركوا مُراد الله ، واستعملوا اختيارهم ، ونسوا اختيار ربهم ، حيث خَيَّرَهم : تُؤمن أو تكفر قال : أكفر ، تشرب الخمر أو لا تشرب قال : أشرب ، تسرق أو لا تسرق ، قال : أسرق . وهؤلاء هم العبيد ، ولا يقال لهم " عباد " أبداً؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة .
ولكي نستكمل حَلَّ ما أشكل في هذه المسألة لا بُدَّ لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف؛ لأنها محل الاختيار ، وفيها نستطيع أن نُمَيِّز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه ، وبين العبيد الذين تمرَّدوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختياريات ، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها .
فإذا جاءت الآخرة فلا محلَّ للاختيار والتكليف ، فالجميع مقهور لله تعالى ، ولا مجالَ فيها للتقسيم السابق ، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته .
(1/5103)
إذن : نستطيع أن نقول : إن الكل عباد في الآخرة ، وليس الكل عباداً في الدنيا . وعلى هذا نستطيع فهم معنى ( عباد ) في الآيتين : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ . . } [ المائدة : 118 ]
وقوله : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ . . } [ الفرقان : 17 ]
فسمّاهم الحق سبحانه عباداً؛ لأنه لم يَعُدْ لهم اختيار يتمردون فيه ، فاستوَوْا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل .
إذن : فقول الحق سبحانه : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ . . } [ الإسراء : 5 ]
المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظِلِّ الإسلام ، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جَاسُوا خلال ديارهم ، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم مَنْ قتلوه ، وسَبَوْا مَنْ سَبَوْه .
وقوله : { أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ . . } [ الإسراء : 5 ]
أي : قوة ومنَعة ، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة ، بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل ، وليس حال ضعفهم في مكة .
وقوله سبحانه : { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار . . } [ الإسراء : 5 ]
جاسُوا من جاسَ أي : بحث واستقصى المكان ، وطلب مَنْ فيه ، وهذا المعنى هو الذي يُسمّيه رجال الأمن " تمشيط المكان " .
وهو اصطلاح يعني دِقّة البحث عن المجرمين في هذا المكان ، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر ، حيث يتخلل المشط جميع الشعر ، وفي هذا ما يدل على دِقّة البحث ، فقد يتخلل المشط تخلُّلاً سطحياً ، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها .
إذن : جاسُوا أي : تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفي عليهم أحد منهم ، وهذا ما حدث مع يهود المدينة : بني قينقاع ، وبني قريظة ، وبني النضير ، ويهود خيبر .
ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله : { بَعَثْنَا . . } [ الإسراء : 5 ]
والبعث يدل على الخير والرحمة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء ، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام مَنْ خانوا العهد ونقضوا الميثاق .
وكلمة : { عَلَيْكُمْ } تفيد العلو والسيطرة .
وقوله : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 5 ]
أي : وَعْد صدق لابد أن يتحقق؛ لأنه وعد من قادر على الإنفاذ ، ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنفاذ ما وعد به ، وإياك أن تظن أنه كأي وَعْد يمكن أنْ يَفِي به صاحبه أو لا يفي به؛ لأن الإنسان إذا وعد وَعْداً : سألقاك غداً مثلاً .
فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنفاذ ، لكن قد يطرأ عليك من العوارض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به ، إنما إذا كان الوعد ممَّنْ يقدر على الإنفاذ ، ولا تجري عليه مِثْل هذه العوارض ، فوعْدُه مُتَحقِّق النفاذ .
فإذا قال قائل : الوعد لا تُقال إلا في الخير ، فكيف سمَىَّ القرآن هذه الأحداث : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ .
(1/5104)
. } [ الإسراء : 5 ]
قالوا : الوعيد يُطلَق على الشر ، والوعد يُطلَق على الخير وعلى الشر ، ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره ، وهو خير في باطنه ، وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده ، إذا أراد الحق سبحانه أنْ يُؤدِّبَ هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه ، فقد نرى أن هذا شر في ظاهره ، لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم ، إنْ حاولوا هم الاستفادة منه .
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره ، فيقسو عليه حِرْصاً على ما يُصلحه ، وصدق الشاعر حين قال :
فَقَسَا لِيزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِماً ... فَلْيَقْسُ أَحْيَاناً على مَنْ يَرْحَمُ
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ . . . }
(1/5105)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
الخطاب في هذه الآية مُوجَّه لبني إسرائيل ، والآية تمثل نقطة تحوُّل وانقلاب للأوضاع ، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين ، وأن الله سلّطهم لتأديب بني إسرائيل ، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر؛ لأن المسلمين تخلَّوْا عن منهج الله الذي ارتفعوا به ، وتَنصَّلوا من كَوْنهم عباداً لله ، فدارت عليهم الدائرة ، وتسلّط عليهم اليهود ، وتبادلوا الدور معهم؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة ، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات .
ولا بُدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله ، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكُّب للطريق المستقيم ، فانحلَّتْ الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين ، وانقسموا دُوَلاً ، لكل منها جغرافياً ، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام ، فانحلّتْ عنهم صِفَة عباد الله .
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله ، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كِفتهم وتخلَّوْا عن منهج ربهم ، وتحاكموا إلى قوانين وضعية ، فسلَّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم ، فأصبحتْ الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ . . } [ الإسراء : 6 ]
و { ثُمَّ } حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي ، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب ، ومن ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 21-22 ]
فلم يَقُل الحق سبحانه : فرددنا ، بل { ثُمَّ رَدَدْنَا } ذلك لأن بين الكَرَّة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله ، وبين هذه الكَرَّة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً .
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون ، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور ، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين ، وكانت الكَرَّة لهم علينا في عام 1967 ، فناسب العطف ب " ثم " التي تفيد التراخي .
والحق سبحانه يقول : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ . . } [ الإسراء : 6 ]
أي : جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لأنهم تخلوْا عن منهج ربهم ، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عباداً لله .
و ( الكَرَّة ) أي : الغلبة من الكَرِّ والفَرِّ الذي يقوم به الجندي في القتال ، حيث يُقِدم مرة ، ويتراجع أخرى .
وقوله تعالى : { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 6 ]
وفعلاً أمدّهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله ، وأمدّهم بالبنين الذين يُعلِّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات ، وفي كل المجالات .
ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرَّة على المسلمين ، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين ، ولا بُدًّ لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى ، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [ الإسراء : 6 ]
فالنفير مَنْ يستنفره الإنسان لينصره ، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين .
ومازالت الكَرَّة لهم علينا ، وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنَّا ، عباداً لله مُسْتقيمين على منهجه ، مُحكِّمين لكتابه ، وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء الله ، كما ذكرتْ الآية التالية : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا . . . } .
(1/5106)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
ومازال الخطاب مُوجّهاً إلى بني إسرائيل ، هاكم سُنّة من سنن الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر ، وهي أن مَنْ أحسن فله إحسانه ، ومَنْ أساء فعليه إساءته .
فها هم اليهود لهم الغَلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج ، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله؛ لأن هذه سُنّة كونية ، مَنِ استحق الغلبة فهي له؛ لأن الحق سبحانه وتعالى مُنزّه عن الظلم ، حتى مع أعداء دينه ومنهجه .
والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله .
وقوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ . . } [ الإسراء : 7 ]
فيه إشارة إلى أنهم في شَكٍّ أنْ يُحسِنوا ، وكأن أحدهم يقول للآخر : دَعْكَ من قضية الإحسان هذه .
فإذا كانت الكَرَّة الآن لليهود ، فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ لا . . لن تظل لهم الغَلبة ، ولن تدوم لهم الكرّة على المسلمين ، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة . . } [ الإسراء : 7 ]
أي : إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم ، وقد سبق أنْ قال الحق سبحانه عنهم : { لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ . . } [ الإسراء : 4 ]
وبينّا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة .
وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا ، وستكون لنا يقظة وصَحْوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم ، وعندها ستكون لنا الغَلبة والقوة ، وستعود لنا الكَرَّة على اليهود .
وقوله تعالى : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ . . } [ الإسراء : 7 ]
أي : نُلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لأن الوجه هو السِّمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية ، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر ، وهو أشرف ما في المرء ، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة .
وقوله تعالى : { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الإسراء : 7 ] أي : أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وسينقذونه من أيدي اليهود .
{ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الإسراء : 7 ]
المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخولَ المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود ، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين .
فدخوله الأول لم يكُنْ إساءةً لليهود ، وإنما كان إساءة للمسيحيين ، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى ، وهو في حوزة اليهود ، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى ، ونُطهِّره من رِجْسهم .
ونلحظ كذلك في قوله تعالى : { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الإسراء : 7 ] أن القرآن لم يقُلْ ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج .
إذن : فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لِنُبوءَة القرآن ، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا : إنْ أردتُمْ أنْ تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى ، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه .
(1/5107)
وقوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة . . } [ الإسراء : 7 ]
كلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لن تتكرر ، ولكن يكون لليهود غَلَبة بعدها .
وقوله تعالى : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً . . } [ الإسراء : 7 ]
يتبروا : أي : يُهلكوا ويُدمِّروا ، ويُخرِّبوا ما أقامه اليهود وما بنَوْهُ وشيَّدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم .
لكن نلاحظ أن القرآن لم يقُلْ : ما علوتُم ، إنما قال { مَا عَلَوْاْ } ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم ، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم ، فاليهود بذاتهم ضعفاء ، لا تقوم لهم قائمة ، وهذا واضح في قَوْل الحق سبحانه عنهم : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس . . } [ آل عمران : 112 ]
فهم أذلاء أينما وُجدوا ، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظِلِّه ، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويُعاونونهم .
واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهُويّة لا تذوب في غيرهم من الأمم ، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى " حارة اليهود " ، ولم يكن لهم ميْلٌ للبناء والتشييد؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً . . } [ الأعراف : 168 ]
كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية ، أما الآن ، وبعد أنْ أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حَدِّ زعمهم ، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد .
ونحن الآن ننتظر وَعْد الله سبحانه ، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا ، ونعود إلى ساحة ربنا ، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى ، وتكون لنا الكرّة الأخيرة عليهم ، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية ، لا على عروبة وعصبية سياسية ، لتعود لنا صِفَة العباد ، ونكون أَهْلاً لِنُصْرة الله تعالى :
إذن : طالما أن الحق سبحانه قال : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة . . } [ الإسراء : 7 ]
فهو وَعْد آتٍ لا شَكَّ فيه ، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصِّها في آخر السورة في قوله تعالى : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ]
والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقُّق وَعْد الله ، ويجد أن ما يحدث الآن من تجميع لليهود في أرض فلسطين آية مُُرادة لله تعالى .
ومعنى الآية أننا قُلْنا لبني إسرائيل من بعد موسى :
اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد : اسكُنْ فلا بُدَّ أن يُحدد لك مكاناً من الأرض تسكن فيه فيقول لك : اسكن بورسعيد . . اسكن القاهرة . . اسكن الأردن .
أما أن يقول لك : اسكن الأرض!! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أنْ يظلُّوا مبعثرين في جميع الأنحاء ، مُفرِّقين في كل البلاد ، كما قال عنهم :
(1/5108)
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً . . } [ الأعراف : 168 ]
فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم ، كثيراً ما تُثار بسببهم المشاكل ، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم ، وقد قال تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب } [ الأعراف : 167 ]
وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكَدٍ بين سكان الأرض إلى يوم القيامة ، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يُهَاج الإسلام ، فساعة أنْ يُهَاجَ تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبّه في الناس .
إذن : فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة ، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس ، فلو لم تُثَر الحيوية الإيمانية لَبهتَ الإسلام .
وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل ، فلوجودهما حكمة؛ لأن الكفر الذي يشقي الناس به يُلفِت الناس إلى الإيمان ، فلا يروْنَ راحة لهم إلا في الإيمان بالله ، ولو لم يكُنْ الكفر الذي يؤذي الناس ويُقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان .
وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويُزعجهم ، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه .
وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها ، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل ، فأوحَوْا إليهم بفكرة الوطن القومي ، وزيَّنُوا لهم أولى خطوات نهايتهم ، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد .
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمّع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين ، ولكن الحقيقة غير هذا ، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم : { عِبَاداً لَّنَآ . . } [ الإسراء : 5 ]
يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مُفرّقون مُبعْثرون في كل أنحاء العالم ، فلن نحارب في العالم كله ، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي ، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون ، في كل بلد شِرْذمة منهم؟
إذن : ففكرة التجمُّع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيَّدتْها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام ، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام ، وتُسهِّل علينا تتبعهم وتُمكّننا من القضاء عليهم؛ لذلك يقول تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ]
أي : أتينا بكم جميعاً ، نضمُّ بعضكم إلى بعض ، فهذه إذن بُشرى لنا معشر المسلمين بأن الكَرَّة ستعود لنا ، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين ، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله ، ونتجه إليه كما قال سبحانه : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } [ الأنعام : 43 ]
والمراد بقوله هنا : { وَعْدُ الآخرة . . } [ الإسراء : 7 ]
هو الوعد الذي قال الله عنه : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الإسراء : 7 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } .
(1/5109)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
و ( عَسَى ) حَرْف يدلّ على الرجاء ، وكأن في الآية إشارةً إلى أنهم سيظلون في مذلّة ومَسْكنة ، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظِلِّ حبل من الله وعَهْد منه ، وحبل من الناس الذين يُعاهدونهم على النُّصْرة والتأييد والحماية .
وقوله : { رَبُّكُمْ . . } [ الإسراء : 8 ]
انظر فيه إلى العظمة الإلهية ، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله ، وهو آخر رسول يأتي من السماء ، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله : { رَبُّكُمْ . . } [ الإسراء : 8 ]
لأن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقومات الحياة ، لا يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد كافراً ، فالكلُّ أمام عطاء الربوبية سواء : المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي .
الجميع يتمتع بِنعَم الله : الشمس والهواء والطعام والشراب ، فهو سبحانه لا يزال ربهم مع كل ما حدث منهم .
وقوله تعالى : { أَن يَرْحَمَكُمْ . . } [ الإسراء : 8 ]
والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة ، واليهود لن تكون لهم دولة ، ولن يكون لهم كيان ، بل يعيشون في حِضْن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تُعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة ، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله ، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم .
وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أنْ يقترضَ لا يقترض من مسلم ، بل كان يقترض من اليهود ، وفي هذا حكمة يجب أنْ نعيهَا ، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً ، أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقِّه وإذا نسى رسول الله سَيُذكّره .
لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُغالطونه مِرَاراً ، وقد حدث أن وفَّى رسول الله لأحدهم دَيْنه ، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد ، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول : ابْغِني شاهداً .
ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد ، وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة ، واسمه خزيمة ، فهَبَّ خزيمة قائلاً : أنا يا رسول الله كنت شاهداً ، وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه ، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل ، فَدل ذلك على كذبه . ويكاد المريب أن يقول : خذوني .
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال : يا خزيمة ما حملك على هذا القول ، ولم يكن أحد معنا ، وأنا أقضي لليهودي دَيْنه؟ فضحك خزيمة وقال : يا رسول الله أَأُصدِّقُك في خبر السماء ، وأُكذِّبك في عِدّة دراهم؟
فَسُرَّ رسول الله من اجتهاد الرجل ، وقال : " مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه " .
ثم يُهدِّد الحق سبحانه بني إسرائيل ، فيقول : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا . . } [ الإسراء : 8 ]
إنْ عُدتُّم للفساد ، عُدْنا ، وهذا جزاء الدنيا ، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة ، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الآخرة .
(1/5110)
فالعقوبة على الذنب التي تُبرّئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حِضْن الإسلام ، وإلاَّ لاَسْتوى مَنْ أقيم عليه الحدّ مع مَنْ لم يُقمْ عليه الحد .
فلو سرق إنسان وقُطِعَتْ يده ، وسرق آخر ولم تُقطع يده ، فلو استَووْا في عقوبة الآخرة ، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة ، وكيف يستوي الذي قُطِعَتْ يده . وعاش بِذلّتها طوال عمره مع مَنْ أفلت من العقوبة؟
هذا إنْ كان المذنب مؤمناً .
أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجودَ له ، وعقوبة الدنيا هنا لا تُعفي صاحبها من عقوبة الآخرة؛ لذلك يقول تعالى بعدها : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ]
{ جَعَلْنَا } فِعْل يفيد التحويل ، كأن تقول : جعلت العجين خبزاً ، وجعلت القطن ثوباً ، أي : صيَّرْتُه وحوَّلْتُه . فماذا كانت جهنم أولاً فيُحوّلها الحق سبحانه حصيراً؟
قوله تعالى : { جَعَلْنَا } في هذه الآية لا تفيد التحويل ، إنما هي بمعنى خَلَقْنا ، أي : خلقناها هكذا ، كما نقول : سبحان الذي جعل اللبن أبيض ، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوَّله الله تعالى إلى البياض ، بل خلقه هكذا بداية .
ومعنى : { حَصِيراً . . } [ الإسراء : 8 ]
الحصير فراش معروف يُصنع من القَشِّ أو من نبات يُسمى السَّمُر ، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك ، وسُمِّي حصيراً ، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحَصْر ، وهو التضييق في المكان للمكين ، وفي صناعة الحصير يضمُّون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أنْ تتماسكَ ، ولا توجد مسافة بين العود والآخر .
لكن لماذا نفرش الحصير؟ نفرش الحصير؛ لأنه يحبس عَنّا القذَر والأوساخ ، فلا تصيب ثيابنا . إذن : الحصر معناه المنع والحبس والتضييق .
والمتتبع لمادة ( حصر ) في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني ، يقول تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم . . } [ التوبة : 5 ]
أي : ضَيِّقوا عليهم .
وقال تعالى في فريضة الحج : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي . . } [ البقرة : 196 ] أي : حُبِسْتم ومَنعْتم من أداء الفريضة .
إذن : فقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ]
أي : تحبسهم فيها وتحصرهم ، وتمنعهم الخروج منها ، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه؛ لأنها تحيط بهم من كل ناحية ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا . . } [ الكهف : 29 ]
فلا يستطيعون الخروج ، فإنْ حاولوا الخروج رُدُّوا إليها ، كما قال تعالى : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا . . } [ السجدة : 20 ]
وفي قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ]
إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمُون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء ، ويدخلون في حضانة أهل الباطل ، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً .
يقول تعالى : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ }
(1/5111)
[ الصافات : 25-26 ]
وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة ، وجَعْله آيةً يمكن إقامة الدليل عليها ، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه ، فإذا جاءت آية المعراج وخرَق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أَدْعى إلى تصديقه .
ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله عليه وسلم لربه هي التي أعطتْه هذه المنزلة ، وكذلك كان نوح عليه السلام عبداً شكوراً ، فهناك فَرْق بين عبودية الخَلْق للخالق ، وعبودية الخَلْق للخَلْق؛ لأن العبودية للخَلْق مذمومة ، حيث يأخذ السيد خيْر عبده ، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خَيْر سيده .
ثم تحدَّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل ، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض ، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن أحسن ولمن أساء ، وكُلٌّ له عمله دون ظُلْم أو جَوْر .
لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزّل من السماء ليوضح عبودية الإنسان لربه ، وكيف يكون عبداً مُخْلِصاً لله تعالى ، فيقول الحق سبحانه : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين . . } .
(1/5112)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
فمَنْ كان يريد الأُسْوة الطيبة في عبودية الرسول لربه ، هذه العبودية التي جعلتْه يسري به إلى بيت المقدس ، ثم يصعد به إلى السماء ، ومَنْ كان يريد أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم ذريته من أجله ، فعليه أنْ يسيرَ على دَرْبهم ، وأنْ يقتديَ بهم في عبوديتهم لله تعالى ، وليحذر أن يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في الأرض مرتين .
والذي يرسم لنا الطريق ويُوضِّح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . . } [ الإسراء : 9 ]
قول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ هذا القرآن . . } [ الإسراء : 9 ]
هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل ، ليقول : إن هذا القرآن؟
نقول : لم يكن القرآن كله قد نزل ، ولكن كل آية في القرآن تُسمّى قرآناً ، كما قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } [ القيامة : 18 ]
فليس المراد القرآن كله ، بل الآية من القرآن قرآن . ثم لما اكتمل نزول القرآن ، واكتملتْ كل المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة ، قال تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . . } [ المائدة : 3 ]
فإن استشرف مُسْتشرف أنْ يستزيد على كتاب الله ، أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج الله مُنزَّه عن النقص ، وفي غِنىً عن زيادتك ، وما عليك إلا أن تبحث في كتاب الله ، وسوف تجد فيه ما تصبو إليه من الخير .
قوله : { يَِهْدِي . . } [ الإسراء : 9 ]
الهداية هي الطريق الموصِّل للغاية من أقرب وَجْه ، وبأقل تكلفة وهي الطريق المستقيم الذي لا التواءَ فيه ، وقلنا : إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق ، فمن اهتدى زاده هُدى ، كما قال سبحانه : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
ومعنى : { أَقْوَمُ . . } [ الإسراء : 9 ]
أي : أكثر استقامة وسلاماً . هذه الصيغة تُسمّى أفعل التفضيل ، إذن : فعندنا ( أقوم ) وعندنا أقل منه منزلة ( قَيّم ) كأن نقول : عالم وأعلم .
فقوله سبحانه : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . . } [ الإسراء : 9 ]
يدل على وجود ( القيّم ) في نُظم الناس وقوانينهم الوضعية ، فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضُّهم المظالم ويشْقُون بها ، فيُقنّنون تقنيات تمنع هذا الظلم .
ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء ، فما وضعوه وإنْ كان قَيّماً فما وضعه الله أقوم ، وأنت لا تضع القيم إلا بعد أن تُعضَّ بشيء مُعوج غير قيّم ، وإلا فماذا يلفتُك للقيم؟
أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية ، ويمنع المرض من أساسه ، فهناك فَرْق بين الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض ، فأصحاب القوانين الوضعية يُعدّلون نُظمهم لعلاج الأمراض التي يَشْقَون بها .
أما الإسلام فيضع لنا الوقاية ، فإن حَدثْت غفلة من المسلمين ، وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم : عودوا إلى المنهج : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
(1/5113)
. } [ الإسراء : 9 ]
ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم نرى ما حدث معنا في مدينة " سان فرانسيسكو " فقد سألنا أحدُ المستشرقين عن قول الحق تبارك وتعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ التوبة : 32 ]
وفي آية أخرى يقول : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ التوبة : 33 ]
فكيف يقول القرآن : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ . . } [ التوبة : 33 ]
في حين أن الإسلام محصور ، وتظهر عليه الديانات الأخرى؟ فقلتُ له : لو تأملتَ الآية لوجدت فيها الردّ على سؤالك ، فالحق سبحانه يقول : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ التوبة : 32 ]
ويقول : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ التوبة : 33 ]
إذن : فالكافرون والمشركون موجودون ، فالظهور هنا ليس ظهور اتّباع ، ولم يقُل القرآن : إن الناس جميعاً سيؤمنون .
ومعنى الظهور هنا ظهور حُجّة وظهور حاجة ، ظهور نظم وقوانين ، ستضرهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى التخلّي عن قوانينهم والأخذ بقوانين الإسلام؛ لأنهم وجدوا فيها ضَالّتهم .
فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً ما هاجموه وانتقدوه ، ورأوا فيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية ، ولكن بمرور الزمن تكشفت لهم حقائق مؤلمة ، وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في قوانينهم ، وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لأنْ يُقنِّنوا للطلاق .
ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حُباً في الإسلام أو اقتناعاً به ، بل لأن لديهم مشاكل لا حََّل لها إلا بالطلاق ، وهذا هو الظهور المراد في الآيتين الكريمتين ، وهو ظهور بشهادتكم أنتم؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام ، أو قريباً منها .
ومن هذه القضايا أيضاً قضية تحريم الربا في الإسلام ، فعارضوه وأنكروا هذا التحريم ، إلى أن جاء " كِنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم ، يقول لهم : انتبهوا ، لأن المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضتْ الفائدة إلى صفر .
سبحان الله ، ما أعجب لجَجَ هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام ، وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر؟ إنهم يعودون لمنهج الله تعالى رَغْماً عنهم ، ومع ذلك لا يعترفون به .
ولا يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات ، وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى ، واستطاعت على مَرّ الزمن أنْ تُسدد حتى أقساط الفائدة؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون : ألمانيا واليابان أخذت قروضاً بعد الحروب العالمية الثانية ، ومع ذلك تقدمت ونهضت .
نقول لهم : كفاكم خداعاً ، فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضاً ، وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها ، تسمى معونة ( مارشال ) .
وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة ، فلما عَضَّتهم قَنَّنُوا لها .
فظهور دين الله هنا يعني ظهورَ نُظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها ، وليس المقصود به ظهور اتّباع .
(1/5114)
إذن : فمنهج الله أقوم ، وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأَهْدى ، وفي القرآن الكريم ما يُوضّح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا في قصة مولاه " زيد بن حارثة " ، وزيد لم يكن عبداً إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه ، وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة رضي الله عنها التي وهبتْه بدورها لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكان زيد في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا ليأخذوه ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن خَيَّره بين البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله ، فاختار زيد البقاء في خدمة رسول الله وآثره على أهله . فقال صلى الله عليه وسلم : " فما كنت لأختار على مَنِ اختارني شيئاً " .
وفي هذه القصة دليل على أن الرقَّ كان مباحاً في هذا العصر ، وكان الرقّ حضانةَ حنانٍ ورحمة ، يعيش فيها العبد كما يعيش سيده ، يأكل من طعامه ، ويشرب من شرابه ، يكسوه إذا اكتسى ، ولا يُكلّفه ما لا يطيق ، وإنْ كلّفه أعانه ، فكانت يده بيده .
وهكذا كانت العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زيد؛ لذلك آثره على أهله ، وأحب البقاء في خدمته ، فرأى رسول الله أن يُكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله ، فقال : " لا تقولوا زيد بن حارثة ، قولوا زيد بن محمد " .
وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت . فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُحرِّم التبني ، وأنْ يُحرِّم نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } [ الأحزاب : 5 ]
والشاهد هنا : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } [ الأحزاب : 5 ]
فكأن الحكم الذي أنهى التبني ، وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط والأعدل ، إذن : حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن جَوْراً ، بل كان قِسْطاً وعدلاً ، لكنه قسط بشري يَفْضُله ما كان من عند الحق سبحانه وتعالى .
وهكذا عاد زيد إلى نسبة الأصلي ، وأصبح الناس يقولون " زيد ابن حارثة " ، فحزن لذلك زيد ، لأنه حُرِم من شرف الانتساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعوَّضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم يَنَلْه صحابي غيره ، هذا الوسام هو أن ذُكِر اسمه في القرآن الكريم ، وجعل الناس يتلونه ، ويتعبدون به في قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا . . } [ الأحزاب : 37 ]
إذن : عمل الرسول قسط ، وعمل الله أقسط .
قوله تعالى : { يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ . . } [ الإسراء : 9 ]
لأن المتتبع للمنهج القرآني يجده يُقدّم لنا الأقوم والأعدل والأوسط في كل شيء .
(1/5115)
في العقائد ، وفي الأحكام ، وفي القصص .
ففي العقائد مثلاً ، جاء الإسلام ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين مَنْ ينكر وجود إله في الكون ، وبين مَنْ يقول بتعدُّد الآلهة ، فجاء الإسلام وَسَطاً بين الطرفين ، جاء بالأقوم في هذه المسألة ، جاء ليقول بإله واحد لا شريك له .
فإذا ما تحدّث عن صفات هذا الإله سبحانه اختار أيضاً ما هو أقوم وأوسط ، فللحق سبحانه صفات تشبه صفات البشر ، فَلَه يَدٌ وسمع وبصر ، لكن ليست يده كيدنا ، وليس سمعه كسمعنا ، وليس بصره كبصرنا : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير . . } [ الشورى : 11 ]
وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبِّهة الذين شبّهوا صفات الله بصفات البشر ، وخرجنا مما وقع فيه المعطّلة الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأوّلوها على غير حقيقتها .
وكذلك في الخلق الاجتماعي العام ، يلفتنا المنهج القرآني في قوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] يلفتنا إلى ما في الكون من عجائب نغفل عنها ، ونُعرِض عن تدبُّرها والانتفاع بها ، ولو نظرنا إلى هذه الآيات بعين المتأمل لوجدنا فيها منافع شتى منها : أنها تُذّكرنا بعظمة الخالق سبحانه ، ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب الذي يُثري حياتنا ، ويُوفّر لنا ترف الحياة ومتعتها .
فالحق سبحانه أعطانا مُقوّمات الحياة ، وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء ، فمَنْ أراد الكماليات فعليه أنْ يُعمِل عقله فيما أعطاه الله ليصل إلى ما يريد .
والأمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون ، اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات واختراعات خدمت البشرية ، وسَهَّلَتْ عليها كثيراً من المعاناة .
فالذي اخترع العجلة في نقل الأثقال بنى فكرتها على ثِقل وجده يتحرك بسهولة إذا وُضع تحته شيء قابل للدوران ، فتوصل إلى استخدام العجلات التي مكَّنَتْهُ من نقل أضعاف ما كان يحمله .
والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار ، وأنه يمكن أن يكون قوةً مُحرِّكة عندما شاهد القِدْر وهو يغلي ، ولاحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى ، فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير القطارات والعربات .
والعالِم الذي اكتشف دواء " البنسلين " اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها " الريم " تتكون في أماكن استخدام الماء ، وكان يشتكي عينه ، فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما مصادفة ، لاحظ أن عينه قد برئت ، فبحث في هذه المسألة حتى توصّل إلى هذا الدواء .
إلى غير ذلك من الآيات والعجائب في كون الله ، التي يغفل عنها الخَلْق ، ويمرُّون عليها وهم معرضون .
أما هؤلاء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة ، فقد استخدموا عقولهم في المادة التي خلقها الله ، ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم؛ لأن الحق سبحانه حينما استخلف الإنسان في الأرض أعدَّ له كُلَّ متطلبات حياته ، وضمن له في الكون جنوداً إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد منها ، وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الأرض :
(1/5116)
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا } [ هود : 61 ]
والاستعمار أنْ تجعلها عامرة ، وهذا الإعمار يحتاج إلى مجهود ، وإلى مواهب متعددة تتكاتف ، فلا تستقيم الأمور إنْ كان هذا يبني وهذا يهدم ، إذن : لا بد أنْ تُنظم حركة الحياة تنظيماً يجعل المواهب في الكون تتساند ولا تتعاند ، وتتعاضد ولا تتعارض .
ولا يضمن لنا هذا التنظيم إلا منهج من السماء ينزل بالتي هي أقوم ، وأحكم ، وأعدل ، كما قال تعالى في آية أخرى : { الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان } [ الشورى : 17 ]
وإنْ كان الحق سبحانه وتعالى قد دعانا إلى النظر في ظواهر الكون ، والتدبُّر في آيات الله في كونه ، والبحث فيها لنصل إلى أسرار ما غُيّب عنا ، فإنه سبحانه نهانا أن نفعل هذا مع بعضنا البعض ، فقد حرَّم علينا التجسُّس وتتبُّع العورات ، والبحث في أسرار الآخرين وغَيْبهم .
وفي هذا الأدب الإلهي رحمة بالخلق جميعاً؛ لأن الله تعالى يريد أن يُثري حياة الناس في الكون ، وهَبْ أن إنساناً له حسنات كثيرة ، وعنده مواهب متعددة ، ولكن له سيئة واحدة لا يستطيع التخلّي عنها ، فلو تتبعتَ هذه السيئة الواحد فربما أزهدتْك في كل حسناته ، حرمتْك الانتفاع به ، والاستفادة من مواهبه ، أما لو تغاضيت عن هذه السيئة فيه لأمكنك الانتفاع به .
وهَبْ أن صانعاً بارعاً في صنعته وقد احتجْتَه ليؤديَ لك عملاً ، فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية ما ، أو اشتهر عنه سيئة ما لأزهدك هذا في صَنْعته ومهارته ، ولرغبت عنه إلى غيره ، وإنْ كان أقلّ منه مهارة .
وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى ، فالذي نهاك عن تتبُّع غيب الناس ، والبحث عن أسرارهم نهاهم أيضاً عن تتبُّع غَيْبك والبحث عن أسرارك؛ ولذلك ما أنعم الله على عبيده نعمة أعظمَ من حِفْظ الغيب عنده هو؛ لأنه ربّ ، أما البشر فليس فيهم ربوبية ، أمر البشر قائم على العبودية ، فإذا انكشف لأحدهم غَيْبُ أخيه أو عيبٌ من عيوبه أذاعه وفضحه به .
إذن : فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى أن نكون طُلَعة في استنباط أسرار الكون والبحث عن غيبه ، وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طُلَعة في تتبّع أسرار الناس والبحث عن غيبهم؛ لأنك إنْ تتبعتَ غيب الناس والتمسْتَ عيوبهم حرمْتَ نفسك من مصادر يمكن أنْ تنتفع بها .
فالحق سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة ، وهذه الحركة المتبادلة لا تنشأ إلا بوجود نوع من التنافس الشريف البنّاء ، التنافس الذي يُثري الحياة ، ولا يثير شراسة الاحتكاك ، كما قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون . . } [ المطففين : 26 ]
كما يتنافس طالب العلم مع زميله المجدّ ليكون مِثْله أو أفضل منه ، وكأن الحق سبحانه يعطينا حافزاً للعمل والرُّقي ، فالتنافس المقصود ليس تنافس الغِلِّ والحقد والكراهية ، بل تنافس مَنْ يحب للناس ما يحب لنفسه ، تنافس مَنْ لا يشمت لفشل الآخرين .
(1/5117)
وقد يجد الإنسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه ، ونحن نرى الكثير منا يغضب وتُثَار حفيظته إنْ كان له عدو ، ويراه مصدر شرٍّ وأذى ، ويتوقع منه المكروه باستمرار .
وهو مع ذلك لو استغل حكمة الله في إيجاد هذا العدو لا تنفع به انتفاعاً لا يجده في الصديق ، لأن صديقك قد يُنافقك أو يُداهنك أو يخدعك .
أما عدوك فهو لك بالمرصاد ، يتتبع سقطاتك ، ويبحث عن عيوبك ، وينتظر منك كَبْوة ليذيعها ويُسمّع بك ، فيحملك هذا من عدوك على الاستقامة والبعد عما يشين .
ومن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى الخير ، فتجتهد أنت في الخير حتى لا يسبقك إليه .
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى :
عِدَايَ لَهُمْ فَضْلٌ عليَّ ومِنَّةٌ ... فَلاَ أبعَدَ الرحْمَنُ عَنّي الأعَادِياَ
هُمُو بحثُوا عَنْ زَلّتي فَاجْتنبْتُها ... وهُمْ نَافَسُوني فاكْتَسبْتُ المعَالِيا
وهكذا نجد لكل شيء في منهج الله فائدة ، حتى في الأعداء ، ونجد في هذا التنافس المثمر الذي يُثري حركة الحياة دليلاً على أن منهج السماء هو الأقوم والأنسب لتنظيم حركة الحياة .
أيضاً لكي يعيش المجتمع آمناً سالماً لا بُدّ له من قانون يحفظ توازنه ، قانون يحمي الضعيف من بطش القوي ، فجاء منهج الله تعالى لِيُقنّن لكل جريمة عقوبتها ، ويضمن لصاحب الحق حَقّه ، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً للعفو والتسامح بين الناس .
ثم حذَّر القوي أنْ تُطغيه قوته ، وتدعوه إلى ظلم الضعيف ، وذكّره أن قوته ليست ذاتية فيه ، بل هي عَرَضٌ سوف يزول وسوف تتبدل قوته في يوم ما إلى ضَعْف يحتاج معه إلى العون والمساعدة والحماية .
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا : أنا أحمي الضعيف من قوتك الآن ، لأحمي ضعفك من قوة غيرك غداً .
أليس في هذا كله ما هو أقوم؟
ونقف على جانب آخر من جوانب هذه القوامة لمنهج الله في مجال الإنفاق ، وتصرُّف المرء في ماله ، والمتأمل في هذا المنهج الأقوم يجده يختار لنا طريقاً وسطاً قاصداً لا تبذيرَ فيه ولا تقتير .
ولاشك أن الإنسان بطبعه يُحب أن يُثري حياته ، وأن يرتقي بها ، ويتمتع بترفها ، ولا يُتاح له ذلك إنْ كان مُبذّراً لا يُبقي من دخله على شيء ، بل لا بُدّ له من الاعتدال في الإنفاق حتى يجد في جعبته ما يمكنه أن يُثري حياته ويرتقي بها ويُوفّر لأسرته كماليات الحياة ، فضلاً عن ضرورياتها .
جاء هذا المنهج الأقوم في قول الحق تبارك وتعالى : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ]
وفي قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ]
فللإنسان في حياته طموحات تتتابع ولا تنتهي ، خاصة في عصر كثُرت فيه المغريات ، فإنْ وصل إلى هدف تطلع لما هو أكبر منه ، فعليه إذن ألاّ يُبدّد كل طاقته ، وينفق جميع دَخْله .
(1/5118)
وكما نهى الإسلام عن التبذير نهى أيضاً عن البُخْل والإمساك؛ لأن البُخْل مذموم ، والبخيل مكروه من أهله وأولاده ، كما أن البُخْل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع ، فالممسك لا يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء ، فيسهم ببُخْله في تفاقم هذه المشاكل ، ويكون عنصراً خاملاً يَشْقى به مجتمعه .
إذنْ : فالتبذير والإمساك كلاهما طرف مذموم ، والخير في أوسط الأمور ، وهذا هو الأقوم الذي ارتضاته لنا المنهج الإلهي .
وكذلك في مجال المأكل والمشرب ، يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلامته وصحته ، ويحميه من أمراض الطعام والتُّخْمة ، قال تعالى : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأعراف : 31 ]
فقد علَّمنا الإسلام أن الإنسان إذا أكل وشرب على قَدْر طاقة الوقود الذي يحتاجه جسمه لا يشتكي ما يشتكيه أصحاب الإسراف في المأكل والمشرب .
والمتأمل في حال هؤلاء الذين يأكلون كلّ مَا لَذَّل وطاب ، ولا يَحْرمون أنفسهم مما تشتهيه ، حتى وإن كان ضاراً ، نرى هؤلاء عند كِبَرهم وتقدُّم السِّنِّ بهم يُحْرمون بأمر الطبيب من تناول هذه الملذّات ، فترى في بيوت الأعيان الخادم يأكل أطيب الطعام ويتمتع بخير سيده ، في حين يأكل سيده أنواعاً محددة لا يتجاوزها ، ونقول له :
لأنك أكلتها وأسرفتَ فيها في بداية الأمر ، فلا بُدَّ أنْ تُحرَم منها الآن .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " كُلُوا واشربوا وتصدقوا ، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة "
وأيضاً من أسباب السلامة التي رسمها لنا المنهج القرآني ، ألاَّ يأكل الإنسان إلا على جوع ، فالطعام على الطعام يرهق المعدة ، ويجرُّ على صاحبه العطب والأمراض ، ونلاحظ أن الإنسان يجد لذة الطعام وحلاوته إذا أكل بعد جوع ، فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف .
وهكذا نجد المنهج الإلهي يرسم لنا الطريق الأقوم الذي يضمن لنا سلامة الحياة واستقامتها ، فلو تدبرْتَ هذا المنهج لوجدته في أيِّ جانب من جوانب الحياة هو الأقوم والأنسب .
في العقائد ، في العبادات ، في الأخلاق الاجتماعية العامة ، في العادات والمعاملات ، إنه منهج ينتظم الحياة كلها ، كما قال الحق سبحانه : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 38 ]
هذا المنهج الإلهي هو أَقْوم المناهج وأصلحها؛ لأنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم مَنْ خلق ، ويعلم مَا يصلحهم ، كما قلنا سابقاً : إن الصانع من البشر يعلم صَنْعته ، ويضع لها من تعليمات التشغيل والصيانة ما يضمن لها سلامة الأداء وأمن الاستعمال .
فإذا ما استعملْتَ الآلة حَسبْ قانون صانعها أدَّتْ مهمتها بدقة ، وسلَمتْ من الأعطال ، فالذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته ، فيقول له : افعل كذا ولا تفعل كذا :
(1/5119)
{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
فآفة الناس في الدنيا أنهم وهم صَنْعة الحق سبحانه يتركون قانونه ، ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم ، وهي قوانين وضعية قاصرة لا تسمو بحال من الأحوال إلى قانون الحق سبحانه ، بل لا وَجْهَ للمقارنة بينهما . إذن : لا تستقيم الحياة إلا بمنهج الله عز وجل .
ثم يقول تعالى : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإسراء : 9 ]
فالمنفذ لهذا المنهج الإلهي يتمتع باستقامة الحياة وسلامتها ، وينعم بالأمن الإيماني ، وهذه نعمة في الدنيا ، وإن كانت وحدها لكانت كافية ، لكن الحق سبحانه وتعالى يُبشِّرنا بما هو أعظم منها ، وبما ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها ، فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نَعيمَيْ الدنيا والآخرة .
نعيم الدنيا لأنك سِرْتَ فيها على منهج معتدل ونظام دقيق ، يضمن لك فيها الاستقامة والسلام والتعايش الآمن مع الخَلْق .
ومن ذلك قول الحق سبحانه : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ]
وقوله تعالى في آية أخرى : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ]
ويقول تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ]
وفي الجانب المقابل يقول الحق سبحانه : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 124-126 ]
فكما أن الحق تبارك وتعالى جمع لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والآخرة ، ففي المقابل جمع لأعدائه المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، لا ظُلْماً منه ، فهو سبحانه مُنَزَّه عن الظلم والجَوْر ، بل عَدْلاً وقِسطاً بما نَسُوا آيات الله وانصرفوا عنها .
ومعنى : { يَعْمَلُونَ الصالحات } [ الإسراء : 9 ]
وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلاحاً ، أو على الأقل تبقي الصالح على صلاحه ، ولا تتدخل فيه بما يُفسده .
وقوله : { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإسراء : 9 ]
نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الأجر بأنه كبير ، ولم يَأْتِ بصيغة أفعل التفضيل منها ( أكبر ) ، فنقول : لأن كبير هنا أبلغ من أكبر ، فكبير مقابلها صغير ، فَوَصْف الأجر بأنه كبير يدل على أن غيره أصغر منه ، وفي هذا دلالة على عِظَم الأجر من الله تعالى .
أما لو قال : أكبر فغيره كبير ، إذن : فاختيار القرآن أبلغ وأحكم .
كما قلنا سابقاً : إن من أسماء الحق تبارك وتعالى ( الكبير ) ، وليس من أسمائه أكبر ، إنما هي وصف له سبحانه . ذلك لأن ( الكبير ) كل ما عداه صغير ، أما ( أكبر ) فيقابلها كبير .
ومن هنا كان نداء الصلاة ( الله أكبر ) معناه أن الصلاة وفَرْض الله علينا أكبر من أي عمل دنيويّ ، وهذا يعني أن من أعمال الدنيا ما هو كبير ، كبير من حيث هو مُعين على الآخرة .
(1/5120)
فعبادة الله تحتاج إلى طعام وشراب وإلى مَلْبس ، والمتأمل في هذه القضية يجد أن حركة الحياة كلها تخدم عمل الآخرة ، ومن هنا كان عمل الدنيا كبيراً ، لكن فَرْض الله أكبر من كل كبير .
ولأهمية العمل الدنيوي في حياة المسلم يقول تعالى عن صلاة الجمعة : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 9-10 ]
والمتأمل في هذه الآيات يجد الحق تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع ، واختار البيع دون غيره من الأعمال؛ لأنه الصفقة السريعة الربح ، وهي أيضاً الصورة النهائية لمعظم الأعمال ، كما أن البائع يحب دائماً البيع ، ويحرص عليه ، بخلاف المشتري الذي ربما يشتري وهو كاره ، فتجده غير حريص على الشراء؛ لأنه إذا لم يشْتَرِ اليوم سيشتري غداً .
إذن : فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع ، فتَرْك غيره من الأعمال أَوْلَى .
فإن ما قُضِيَت الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض ، فأخرجنا للقائه سبحانه في بيته من عمل ، وأمرنا بعد الصلاة بالعمل .
إذن : فالعمل وحركة الحياة ( كبير ) ، ولكن نداء ربك ( أكبر ) من حركة الحياة؛ لأن نداء ربك هو الذي سيمنحك القوة والطاقة ، ويعطيك الشحنة الإيمانية ، فتُقبِل على عملك بهِمّة وإخلاص .
ثم يقول الحق سبحانه : { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } .
(1/5121)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وهذه الآية امتداد للآية السابقة ، ومعطوفة عليها؛ لأن الله تعالى ذكر فعلاً واحداً : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين . . } [ الإسراء : 9 ]
ثم عطف عليه : { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة . . } [ الإسراء : 10 ]
إذن : فالآية داخلة في البشارة السابقة ، ولكن كيف ذلك ، والبشارة السابقة تُبشّر المؤمنين بأن لهم أجراً كبيراً ، والبشارة إخبار بخيْر يأتي في المستقبل ، فكيف تكون البشارة بالعذاب؟
قالوا : نعم ، هذه بشارة على سبيل التهكُّم والاستهزاء بهم ، كما قال تعالى في آية أخرى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ]
وكما قال الحق سبحانه متهكماً : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ]
وكما تقول للولد الذي أهمل فأخفق في الامتحان : مبروك عليك الفشل ، أو تقول : بشِّر فلاناً بالرسوب .
وقد تكون البشارة للمؤمن بالجنة ، وللكافر بالعذاب ، كلاهما بشارة للمؤمن ، فبشارة المؤمن بالجنة تسرُّه وتُسعده ، وتجعله يستشرف ما ينتظره من نعيم الله في الآخرة .
وبشارة الكافر بالعذاب تسُرُّ المؤمن؛ لأنه لم يقع في مصيدة الكفر ، وتزجر مَنْ لم يقع فيه وتُخيفه ، وهذا رحمة به وإحسان إليه .
وهذا المعنى واضح في قول الحق سبحانه في سورة الرحمن : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 17-25 ]
فهذه كلها نِعَم من نعَم الله تعالى علينا ، فناسب أن تُذيَّل بقوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 18 ]
أما قوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35-36 ]
فأيُّ نعمة في أنْ يُرسل الله عليهما شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران؟
نعم ، المتأمل في هذه الآية يجد فيها نعمة من أعظم نِعَم الله ، ألا وهي زَجْر العاصي عن المعصية ، ومسرّة للطائع .
ثم يقول الحق سبحانه عن طبيعة الإنسان البشرية : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } .
(1/5122)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
( يَدْعُ ) الدعاء : طلَب ما تعجز عنه من قادر عليه .
وأهل النحو يقولون . إن الفعل : ماضٍ ومضارع وأمر . فالأمر : طَلَبٌ من الأعلى إلى الأدنى ، فكلّ طلب من الله لخلْقه فهو أمر ، أو من الأعلى من البشر للأدنى . أما إنْ كان الطلب من مُسَاوٍ لك فهو التماس أو رجاء . فإنْ كان الطلب من الأدنى للأعلى ، كطلب العبد من ربه فهو دعاء .
لذلك نجد التدقيق في الإعراب يحفظ لله تعالى مكانته ويُعظّمه ، فنقول للطالب : أعرب : رب اغفر لي ، فيقول : اغفر ، فِعْل دالّ على الدعاء ، لأنه لا يجوز في حَقِّ الموْلَى تبارك وتعالى أن نقول : فعل أمر ، فالله لا يأمره أحد .
فأوَّل ما يُفهم من الدعاء أنه دَلَّ على صفة العجز والضعف في العبد ، وأنه قد اندكتْ فيه ثورة الغرور ، فعَلِم أنه لا يقدر على هذا إلا الله فتوجه إليه بالدعاء .
( بِالشَّرِّ ) بالمكروه ، والإنسان لا يدعو على نفسه ، أو على ولده ، أو على ماله بالشر إلا في حالة الحنَق والغضب وضيق الأخلاق ، الذي يُخرِج الإنسان عن طبيعته ، ويُفقِده التمييز ، فيتسرّع في الدعاء بالشر ، ويتمنى أن يُنّفذ الله له مَا دعا به .
ومن رحمة الله تعالى بعباده ألاَّ يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إنْ دلَّ فإنما يدل على حُمْق وغباء من العبد .
وكثيراً ما نسمع أماً تدعو على ولدها بما لو استجاب الله له لكانت قاصمة الظهر لها ، أو نسمع أباً يدعو على ولده أو على ماله ، إذن : فمن رحمة الله بنا أنْ يفوت لنا هذا الحمق ، ولا يُنفّذ لنا ما تعجّلناه من دُعاءٍ بالشر . قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ]
أي : لو استجاب الله لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم .
وإن كنت تُُسَرّ وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى فوّتَ لك دعوة بالشر فلم يَسْتجب لها ، وأن لعدم استجابته سبحانه حكمةً بالغةً .
فاعلم أن لله حكمة أيضاً حينما لا يستجيب لك في دعوة الخير ، فلا تقُلْ : دعوتُ فلم يستجِبْ لي ، واعلم أن لله حكمة في أن يمنعك خيراً تُريده ، ولعله لو أعطاك هذا الخير لكان وبالاً عليك .
إذن : عليك أن تقيسَ الأمريْن بمقياس واحد ، وترضى بأمر الله في دعائك بالخير ، كما رضيت بأمره حين صرف عنك دعاء الشر ، ولم يستجب لك فيه . فكما أن له سبحانه حكمة في الأولى ، فلَه حكمة في الثانية .
وقد دعا الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ، فقالوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء . . } [ الأنفال : 32 ]
وقالوا : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً . . } [ الإسراء : 92 ]
ولو استجاب الله لهم هذا الدعاء لَقَضى عليهم ، وقطع دابرهم ، لكن لله تعالى حكمة في تفويت هذا الدعاء لهؤلاء الحَمْقى ، وها هم الكفار باقون حتى اليوم ، وإلى أن تقوم الساعة .
(1/5123)
وكان المنتظر منهم أن يقولوا : اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدنا إليه ، لكن المسألة عندهم ليست مسألة كفر وإيمان ، بل مسألة كراهية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء به ، بدليل أنهم قَبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن طبيعة الإنسان العجلة والتسرُّع ، كما قال تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءاياتي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [ الأنبياء : 37 ]
فكثيراً ما يدعو الإنسان بالخير لنفسه أو بما يراه خيراً ، فلا يجد وراءه إلا الشر والتعب والشقاء ، وفي المقابل قد يُنزل الله بك ما تظنه شراً ، ويسوق الله الخير من خلاله .
إذن : أنت لا تعلم وَجْه الخير على حقيقته ، فدع الأمر لربك عز وجل ، واجعل حظك من دعائك لا أنْ تُجابَ إلى ما دعوت ، ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لِعزّة ربك سبحانه وتعالى .
ومعنى : { دُعَآءَهُ بالخير . . } [ الإسراء : 11 ]
أي : أن الإنسان يدعو بالشر في إلحاح ، وكأنه يدعو بخير .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً . . . } .
(1/5124)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلاً ونهاراً ظرفاً للأحداث ، وجعل لكل منهما مهمة لا تتأتّى مع الآخر ، فهما متقابلان لا متضادان ، فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل؛ لأن لكل منهما مهمة ، والتقابل يجعلهما متكاملين .
ولذلك أراد الله تعالى أن يُنظِّر بالليل والنهار في جنس الإنسان من الذكورة والأنوثة ، فهما أيضاً متكاملان لا متضادان ، حتى لا تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة ، كما نرى البعض من الجنسين يتعصَّب لجنسه تعصبُّاً أعمى خالياً من فَهْم طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى .
فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة ، أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به ، وإياك أن تخلط بين هذه وهذه .
وتأمل قول الحق سبحانه : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى * وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 1-4 ]
فلا تجعل الليل ضِداً للنهار ، ولا النهار ضداً لليل ، وكذلك لا تجعل الذكورة ضِداً للأنوثة ، ولا الأنوثة ضداً للذكورة .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ . . } [ الإسراء : 12 ]
جعلنا : بمعنى خلقنا ، والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة ، ومعرفتنا هذه أوضح من أنْ نعرِّفهما ، فنقول مثلاً : الليل هو مَغِيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية ، والنهار هو شروق الشمس على نصف الكرة الأرضية .
إذن : قد يكون الشي أوضح من تعريفه .
والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار ، وجعل لكل منهما حكمة ومهمة ، وحينما يتحدّث عنهما ، يقول تعالى : { والضحى * والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1-2 ]
ويقول : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1-2 ] فبدأ بالليل .
ومرة يتحدث عن اللازم لهما ، فيقول : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ]
لأن الحكمة من الليل تكمن في ظُلْمته ، والحكمة من النهار تكمُن في نوره ، فالظُّلْمة سكَنٌ واستقرار وراحة . وفي الليل تهدأ الأعصاب من الأشعة والضوء ، ويأخذ البدن راحته؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " .
في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة التي نراها الآن مظهر حضاري ، وهم غافلون عن الحكمة من الليل ، وهي ظلمته .
والنور للحركة والعمل والسَّعْي ، فمَن ارتاح في الليل يُصبح نشيطاً للعمل ، ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة ، وارتاحت أعضاؤه ، ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل .
لذلك قال الحق سبحانه : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار . . } [ القصص : 73 ]
لماذا؟ { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ . . } [ القصص : 73 ]
أي : في الليل . { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . } [ القصص : 73 ] أي : في النهار .
إذن : لليل مهمة ، وللنهار مهمة ، وإياك أنْ تخلط هذه بهذه ، وإذا ما وُجد عمل لا يُؤدِّي إلا بالليل كالحراسة مثلاً ، نجد الحق سبحانه يفتح لنا باباً لنخرج من هذه القاعدة العامة .
فيقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار . . } [ الروم : 23 ]
فجعل النهار أيضاً محلاً للنوم ، فأعطانا فُسْحة ورُخْصة ، ولكن في أضيق نطاق ، فَمَنْ لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل ، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا .
(1/5125)
فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة ، وتمرَّد على هذا النظام الإلهي ، فإن الحق سبحانه يَردعه بما يكبح جماحه ، ويحميه من إسرافه على نفسه ، وهذا من لُطْفه تعالى ورحمته بخَلْقه .
هذا الردْع إما رَدْع ذاتيّ اختياري ، وإما رَدْع قَهْريّ الردع الذاتي يحدث للإنسان حينما يسعى في حركة الحياة ويعمل ، فيحتاج إلى طاقة ، هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه ، فإنْ زادتْ الحركة عن طاقة الإنسان يلهث وتتلاحق أنفاسه ، وتبدو عليه أمارات التعب والإرهاق ، لأن الدم المتوارد إلى رئته لا يكفي هذه الحركة .
وهذا نلاحظه مثلاً في صعود السُّلَّم ، حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الأرض لك ، فتحتاج إلى قوة أكثر ، وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي .
فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعاً ذاتياً في الإنسان ، إذا ما تجاوز حَدّ الطاقة التي جعلها الله فيه .
أما الردْع القهري فهو النوم ، يلقيه الله على الإنسان إذا ما كابر وغالط نفسه ، وظن أنه قادر على مزيد من العمل دون راحة ، فهنا يأتي دور الرادع القَسْري ، فينام رغماً عنه ولا يستطيع المقاومة ، وكأن الطبيعة التي خلقها الله فيه تقول له : ارحم نفسك ، فإنك لم تَعُدْ صالحاً للعمل .
فالحق تبارك وتعالى لا يُسلِم الإنسان لاختياره ، بل يُلقي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه من حماقته وإسرافه على نفسه .
لذلك نرى الواحد مِنّا إذا ما تعرّض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلاً ، لا بُدَّ له بعد أن ينتهي من مهمته هذه أنْ ينَام مثل هذه المدة التي سهرها؛ ليأخذ الجسم حَقَّه من الراحة التي حُرم منها .
وقوله تعالى : { آيَتَيْنِ . . } [ الإسراء : 12 ]
قلنا : إن الآية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل ، ويُظهِر قدرة الخالق وعظمته سبحانه ، والآية تُطلَق على ثلاثة أشياء :
تُطلَق على الآيات الكونية التي خلقها الله في كونه وأبدعها ، وهذه الآيات الكونية يلتقي بها المؤمن والكافر ، ومنها كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر } [ فصلت : 37 ]
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ]
وهذه الآيات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى .
- وتُطلق الآيات على المعجزات التي تصاحب الرسل ، وتكون دليلاً على صدْقهم ، فكل رسول يُبعَث ليحمل رسالة الخالق لهداية الخَلْق ، لا بُدَّ أن يأتي بدليل على صِدْقه وأمارة على أنه رسول .
وهذه هي المعجزة ، وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا؛ لتكون أوضح في إعجازهم وأدْعَى إلى تصديقهم .
قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون . . } [ الإسراء : 59 ]
وتُطلق الآيات على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام .
(1/5126)
إذن : هذه أنواع ثلاثة في كل منها عجائب تدعوك للتأمل ، ففي الأولى : هندسة الكون ونظامه العجيب البديع الدقيق ، وفي الثانية : آيات الإعجاز ، حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم ، ومع ذلك لم يستطيعوا الإتيان بمثله ، وفي الثالثة : آيات القرآن وحاملة الأحكام؛ لأنها أقوم نظام لحركة الحياة .
فقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ . . } [ الإسراء : 12 ]
أي : كونيتين ، ولا مانع أنْ تفسر الآياتُ الكونية آيات القرآن .
وقوله : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل . . } [ الإسراء : 12 ]
أي : بعد أنْ كان الضوء غابت الشمس فَحَلَّ الظلام ، أو مَحوْناهَا : أي جعلناها هكذا ، كما قلنا : سبحان مَنْ بيَّض اللبن .
أي خلقه هكذا ، فيكون المراد : خلق الليل هكذا مظلماً .
{ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً . . } [ الإسراء : 12 ]
أي : خلقنا النهار مضيئاً ، ومعنى مبصرة أو مضيئة أي : نرى بها الأشياء؛ لأن الأشياء لا تُرى في الظلام ، فإذا حَلَّ الضياء والنور رأيناها ، وعلى هذا كان ينبغي أن يقول : وجعلنا آية النهار مُبْصَراً فيها ، وليست هي مبصرة .
وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً . . } [ النمل : 13 ]
فنسب البصر إلى الآيات ، كما نسب البصر هنا إلى النهار .
وهذه مسألة حيَّرتْ الباحثين في فلسفة الكون وظواهره ، فكانوا يظنون أنك ترى الأشياء إذا انتقل الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه . إلى أن جاء العالم الإسلامي " ابن الهيثم " الذي نَوَّر الله بصيرته ، وهداه إلى سِرِّ رؤية الأشياء ، فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ ، فلو أن الشعاع ينتقل من العين إلى المرئي لأمكنك أن ترى الأشياء في الظُّلمة إذا كنتَ في الضوء .
إذن : الشعاع لا يأتي من العين ، بل من الشيء المرئي ، ولذلك نرى الأشياء إنْ كانت في الضوء ، ولا نراها إن كانت في الظلام .
وعليه يكون الشيء المرئيّ هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك ، ويساعدك على رؤيته ، ولذلك نقول : هذا شيء يُلفت النظر أي : يرسل إليك مَا يجعلك تلتفت إليه .
إذن : التعبير القرآني : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً . . } [ الإسراء : 12 ]
على مستوى عال من الدقة والإعجاز ، وصدق الله تعالى حين قال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ]
وقوله تعالى : { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ . . } [ الإسراء : 12 ]
وهذه هي العلة الأولى لآية الليل والنهار .
أي : أن السعي وطلب الرزق لا يكون إلا في النهار؛ لذلك أتى طلب فضل الله ورزقه بعد آية النهار ، ومعلوم أن الإنسان لا تكون له حركة نشاطية وإقبال على السَّعي والعمل إلا إذا كان مرتاحاً ولا تتوفر له الراحة إلا بنوم الليل .
وبهذا نجد في الآية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . }
(1/5127)
[ القصص : 73 ]
فالترتيب في الآية يقتضي أن نقول : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ . . } [ القصص : 73 ]
أي : في الليل ، { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . } [ القصص : 73 ] أي : في النهار ، وعمل النهار لا يتم إلا براحة الليل ، فهما إذن متكاملان .
والحق سبحانه وتعالى جعل النهار مَحلاً للحركة وابتغاء فضل الله؛ لأن الحركة أمرٌ ماديّ وتفاعل ماديّ بين الإنسان ومادة الكون من حوله ، كالفلاح وتفاعله مع أرضه ، والعامل تفاعله مع آلته .
هذا التفاعل المادي لا يتم إلا في ضوء؛ لأن الظلمة تغطي الأشياء وتُعميها ، وهذا يتناسب مع الليل حيث ينام الناس ، أما في السعي والحركة فلا بُدَّ من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له ، ففي الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك ، أو بما هو أضعف منك فتحطمه .
إذن : فأول خطوات ابتغاء فضل الله أن يتبيّن الإنسان المادة التي يتفاعل معها . لذلك ، فالحق سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء . فقال تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ]
لأن النور محلٌّ للحركة ، ولا يمكن للإنسان أن يعمل إلا بعد راحة ، والراحة لا تكون إلا في ظُلْمة الليل .
وقوله تعالى : { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب . . } [ الإسراء : 12 ]
وهذه هي العِلَّة الأخرى لليل والنهار ، حيث بمرورهما يتمّ حساب السنين .
وكلمة { عَدَدَ } تقتضي شيئاً له وحدات ، ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات؛ لأن الشيء إنْ لم تكُنْ له كميات متكررة فهو واحد .
وقوله : { السنين والحساب . . } [ الإسراء : 12 ]
لأنها من لوازم حركتنا في الحياة ، فعن طريق حساب الأيام نستطيع تحديد وقت الزراعات المختلفة ، أو وقت سقوط المطر ، أو هبوب الرياح . وفي العبادات نحدد بها أيام الحج ، وشهر الصوم ، ووقت الصلاة ، ويوم الجمعة ، هذه وغيرها من لوازم حياتنا لا نعرفها إلا بمرور الليل والنهار .
ولو تأملتَ عظمة الخالق سبحانه لوجدتَ القمر في الليل ، والشمس في النهار ، ولكل منهما مهمة في حساب الأيام والشهور والسنين ، فالشمس لا تعرف بها إلا اليوم الذي أنت فيه ، حيث يبدأ اليوم بشروقها وينتهي بغروبها ، أما بالقمر فتستطيع حساب الأيام والشهور؛ لأن الخالق سبحانه جعل فيه علامة ذاتية يتم الحساب على أساسها ، فهو في أول الشهر هلال ، ثم يكبر فيصير إلى تربيع أول ، ثم إلى تربيع ثان ، ثم إلى بدر ، ثم يأخذ في التناقص إلى أن يصل إلى المحاق آخر الشهر .
إذن : نستطيع أن نحدد اليوم بالشمس والشهور بالقمر ، ومن هنا تثبت مواقيت العبادة بالليل دون النهار ، فتثبت رؤية رمضان ليلاً أولاً ، ثم يثبت نهاراً ، فنقول : الليلة أول رمضان ، لذلك قال تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ]
فقوله : { وَقَدَّرَهُ . . } [ يونس : 5 ] أي : القمر؛ لأن به تتبين أوائل الشهور ، وهو أدقّ نظام حسابي يُعتمد عليه حتى الآن عند علماء الفلك وعلماء البحار وغيرهم .
(1/5128)
و { مَنَازِلَ . . } [ يونس : 5 ] هي البروج الاثنى عشر للقمر التي أقسم الله بها في قوله تعالى : { والسمآء ذَاتِ البروج * واليوم الموعود * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 1-3 ]
ولأن حياة الخَلْق لا تقوم إلا بحساب الزمن ، فقد جعل الخالق سبحانه في كَوْنه ضوابط تضبط لنا الزمن ، وهذه الضوابط لا تصلح لضبط الوقت إلا إذا كانت هي في نفسها منضبطة ، فمثلاً أنت لا تستطيع أن تضبط مواعيدك على ساعتك إذا كانت غير منضبطة ( تُقدّم أو تُأخّر ) .
لذلك يقول الخالق المبدع سبحانه عن ضوابط الوقت في كَوْنه : { الشَّمْسُ والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ]
أي : بحساب دقيق لا يختلّ ، وطالما أن الخالق سبحانه خلقها بحساب فاجعلوها ضوابط لحساباتكم .
وقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً . . } [ الإسراء : 12 ]
معنى التفصيل أن تجعل بَيْناً بين شيئين ، وتقول : فصلْتُ شيئاً عن شيء ، فالحق سبحانه فصَّل لنا كل ما يحتاج إلى تفصيل ، حتى لا يلتبس علينا الأمر في كل نواحي الحياة .
ومثال ذلك في الوضوء مثلاً يقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ]
فأطلق غَسْل الوجه؛ لأنه لا يختلف عليه أحد ، وحدَّد الأيدي إلى المرافق ، لأن الأيدي يُختلف في تحديدها ، فاليد قد تكون إلى الرُّسْغ ، أو إلى المرفق ، أو إلى الكتف ، لذلك حددها الله تعالى ، لأنه سبحانه يريدها على شكل مخصوص .
وكذلك في قوله تعالى : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } [ المائدة : 6 ]
فالرأس يناسبها المسْح لا الغَسْل ، والرِّجْلاَن كاليد لا بُدَّ أنْ تُحَدَّد . فإذا لم يوجد الماء أو تعذَّر استعماله شرع لنا سبحانه التيمم ، فقال تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ . . } [ النساء : 43 ]
والتيمم يقوم مقام الوضوء ، من حيث هو استعداد للصلاة ولقاء الحق سبحانه وتعالى ، وقد يظن البعض أن الحكمة من الوضوء الطهارة والنظافة ، وكذلك التيمُّم؛ لذلك يقترح بعضهم أن نُنظّف أنفسنا بالكولونيا مثلاً .
نقول : ليس المقصود بالوضوء أو التيمم الطهارة أو النظافة ، بل المراد الاستعداد للصلاة وإظهار الطاعة والانصياع لشرع الله تعالى ، وإلا كيف تتم الطهارة أو النظافة بالتراب؟
هذا الاستعداد للصلاة هو الذي جعل سيدنا علي زين العابدين رضي الله عنه يَصْفرّ وجهه عند الوضوء ، وعندما سُئِل عن ذلك قال : أتعلمون على مَنْ أنا مُقبل الآن؟
فللقاء الحق سبحانه وتعالى رهبة يجب أن يعمل لها المؤمن حساباً ، وأنْ يستعدّ للصلاة بما شرعه له ربه سبحانه وتعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ . . . } .
(1/5129)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
كلمة ( طائره ) أي : عمله وأصلها أن العرب كانوا في الماضي يزجرون الطير ، أي : إذا أراد أحدهم أنْ يُمضيَ عملاً يأتي بطائر ثم يطلقه ، فإنْ مَرَّ من اليسار إلى اليمين يسمونه " السانح " ويتفاءلون به ، وإنْ مَرّ من اليمين إلى اليسار يسمونه " البارح " ويتشاءمون به ، ثم يتهمون الطائر وينسبون إليه العمل ، ولا ذنب له ولا جريرة .
إذن : كانوا يتفاءلون باليمين ، ويتشاءمون باليسار ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ، ولا يحب التشاؤم؛ لأن الفَأْل الطيب يُنشّط أجهزة الجسم انبساطاً للحركة ، أما التشاؤم فيدعو للتراجع والإحجام ، ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون .
والحق سبحانه هنا يُوضّح : لا تقوِّلوا الطائر ولا تتهموه ، بل طائرك أي : عملك في عنقك يلازمك ولا ينفكّ عنك أبداً ، ولا يُسأل عنه غيره ، كما أنه لا يُسأل عن عمل الآخرين ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . . } [ الإسراء : 15 ]
فلا تُلقي بتبعة أفعالك على الحيوان الذي لا ذنب له .
وقوله تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ]
وهو كتاب أعماله الذي سجَّلتْه عليه الحفظة الكاتبون ، والذي قال الله عنه : { وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ]
هذا الكتاب سيلقاه يوم القيامة منشوراً . أي : مفتوحاً مُعدَّاً للقراءة .
ثم يقول الحق سبحانه : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } .
(1/5130)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
الحق تبارك وتعالى يُصوّر لنا موقفاً من مواقف يوم القيامة ، حيث يقف العبد بين يديْ ربه عزَّ وجل ، فيدعوه إلى أن يقرأ كتابه بنفسه ، ليكون هو حجة على نفسه ، ويُقِر بما اقترف ، والإقرار سيد الأدلة .
فهذا موقف لا مجالَ فيه للعناد أو المكابرة ، ولا مجالَ فيه للجدال أو الإنكار ، فإن حدث منه إنكار جعل الله عليه شاهداً من جوارحه ، فيُنطقها الحق سبحانه بقدرته :
يقول تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ]
ويقول سبحانه : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ]
وقد جعل الخالق سبحانه للإنسان سيطرةً على جوارحه في الدنيا ، وجعلها خاضعة لإرادته لا تعصيه في خير أو شر ، فبيده يضرب ويعتدي ، وبيده يُنفق ويقيل عثرة المحتاج ، وبرجْله يسعى إلى بيت الله أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد .
وجوارحه في كل هذا مُسخَّرة طائعة لا تتأبى عليه ، حتى وإن كانت كارهة للفعل؛ لأنها منقادة لمراداتك ، ففِعْلها لك ليس دليلاً على الرضى عنك؛ لأنه قد يكون رضى انقياد .
وقد ضربنا مثلاً لذلك بقائد السرية ، فأمره نافذ على جنوده ، حتى وإن كان خطئاً ، فإذا ما فقد هذا القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد الأعلى باحوا له بكل شيء .
كذلك في الدنيا جعل الله للإنسان إرادة على جوارحه ، فلا تتخلف عنه أبداً ، لكنها قد تفعل وهي كارهة وهي لاعنةٌ له ، وهي مُبغِضة له ولِفعْله ، فإذا كان
القيامة وانحلَّت من إرادته ، وخرجتْ من سجن سيطرته ، شهدتْ عليه بما كان منه . { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ]
أي : كفانا أن تكون أنت قارئاً وشاهداً على نفسك .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ . . } .
(1/5131)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
قوله تعالى : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ . . } [ الإسراء : 15 ]
لأن الحق سبحانه لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، وهو سبحانه الغنيّ عن عباده ، وبصفات كماله وضع منهج الهداية للإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، وقبل أنْ يخلقه أعدَّ له مُقوّمات الحياة كلها من أرض وسماء ، وشمس وقمر ، وهواء وجبال ومياه .
فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخَلْق ، إذن : فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئاً ، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء .
وهنا قد يسأل سائل : فلماذا التكليفات إذن؟
نقول : إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم ، لكي تستمر حركة حياتهم ، وتتساند ولا تتعاند؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجاً نسير عليه ، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله ، من الخالق الذي يعلم من خلق ، ويعلم ما يصلحهم ويُنظم حياتهم ، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أنْ تتأبّى عليه ، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه .
لذلك نسمع في الأمثال الدارجة عند أهل الريف يقولون : الأصبع الذي يقطعه الشرع لا ينزف ، والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك ، فلا اعتراض عليه ، ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا ولم تقعُدْ .
ومن كماله سبحانه وغِنَاهُ عن الخَلْق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تجنٍّ أو تقصير؛ ذلك لأن كل شيء عنده بمقدار ، ولا يُقضى أمر في الأرض حتى يُقضى في السماء ، فإذا كلَّفْتَ واحداً بقضاء مصلحة لك ، فقصّر في قضائها ، أو رفض ، أو سعى فيها ولم يُوفّق نجدك غاضباً عليه حانقاً .
وهنا يتحمّل الخالق سبحانه عن عباده ، ويُعفيهم من هذا الحرج ، ويعلمهم أن الحاجات بميعاد وبقضاء عنده سبحانه ، فلا تلوموا الناس ، فلكل شيء ميلاد ، ولا داعيَ لأنْ نسبق الأحداث ، ولننتظر الفرج وقضاء الحوائج من الله تعالى أولاً .
ومن هنا يُعلّمنا الإسلام قبل أن نَعِد بعمل شيء لا بُدَّ أنْ نسبقه بقولنا : إنْ شاء الله لنحمي أنفسنا ، ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء ، فأنا إذن في حماية المشيئة الإلهية إنْ وُفِّقْتُ فبها ونِعمت ، وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ ، وأخرج أنا من أوسع الأبواب .
إذن : تشريعات الله تريد أن تحمي الناس من الناس ، تريد أن تجتث أسباب الضِّغن على الآخر ، إذا لم تقض حاجتك على يديه ، وكأن الحق سبحانه يقول لك : تمهل فكل شيء وقته ، ولا تظلم الناس ، فإذا ما قضيتَ حاجتك فاعلم أن الذي كلَّفْته بها ما قضاها لك في الحقيقة ، ولكن صادف سَعْيُه ميلادَ قضاء هذه الحاجة ، فجاءت على يديه ، فالخير في الحقيقة من الله ، والناس أسباب لا غير .
(1/5132)
وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلاج المرضى ، فالطبيب سبب ، والشفاء من الله ، وإذا أراد الله لأحد الأطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان .
ومن هنا نجد بعض الأطباء الواعين لحقيقة الأمر يعترفون بهذه الحقيقة ، فيقول أحدهم : ليس لنا إلا في ( الخضرة ) .
والخضرة معناها : الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها .
وصدق الشاعر حين قال :
والناسُ يلْحون الطَّبيِبَ وإنَّما ... خَطَأُ الطَّبِيبِ إصَابَةُ الأَقْدَارِ
فقول الحق تبارك وتعالى : { مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ . . } [ الإسراء : 15 ] أي : لصالح نفسه .
والاهتداء : يعني الالتزام بمنهج الله ، والتزامك عائد عليك ، وكذلك التزام الناس بمنهج الله عائد عليك أيضاً ، وأنت المنتفع في كل الأحوال بهذا المنهج؛ لذلك حينما ترى شخصاً مستقيماً عليك أن تحمد الله ، وأن تفرحَ باستقامته ، وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه؛ لأن استقامته ستعود بالخير عليك في حركة حياتك .
وفي المقابل يقول الحق سبحانه : { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا . . } [ الإسراء : 15 ]
أي : تعود عليه عاقبةُ انصرافه عن منهج الله؛ لأن شرَّ الإنسان في عدم التزامه بمنهج الله يعود عليك ويعود على الناس من حوله ، فيشقى هو بشرّه ، ويشقى به المجتمع .
ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى مُنحرفاً أو سيء السلوك ينظر إليه نظرة بُغْض وكراهية ، ويدعو الله عليه ، وهو لا يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة ، ويُوسِّع الخُرْق على الراقع كما يقولون .
فهذا المنحرف في حاجة لمَنْ يدعو الله له بالهداية ، حتى تستريح أولاً من شرِّه ، ثم لتتمتع بخير هدايته ثانياً . أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شرِّه ، ويزيد من شقاء المجتمع به .
ومن هذا المنطلق علَّمنا الإسلام أن مَنْ كانت لديه قضية علمية تعود بالخير ، فعليه أنْ يُعديها إلى الناس؛ لأنك حينما تُعدّي الخير إلى الناس ستنتفع بأثره فيهم ، فكما انتفعوا هم بآثار خِلاَلك الحميدة ، فيمكنك أنت أيضاً الانتفاع بآثار خلالهم الحميدة إن نقلتها إليهم .
لذلك حرّم الإسلام كَتْم العلم لما يُسبِّبه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع .
يقول صلى الله عليه وسلم : " من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .
وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج الإلهي أن يُتقِن كل صاحب مهنة مهنته ، وكل صاحب صَنْعة صَنْعته ، فالإنسان في حركة حياته يُتقِن عملاً واحداً ، لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة .
فالخياط مثلاً الذي يخيط لنا الثياب لا يتقن غير هذه المهنة ، وهو يحتاج في حياته إلى مِهَن وصناعات كثيرة ، يحتاج إلى : الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلاح . . الخ .
فلو أتقن عمله وأخلص فيه لَسخّر الله له مَنْ يتقن له حاجته ، ولو رَغْماً عنه ، أو عن غير قصد ، أو حتى بالمصادفة .
إذن : من كمالك أن يكون الناس في كمال ، فإنْ أتقنتَ عملك فأنت المستفيد حتى إنْ كان الناس من حولك أشراراً لا يتقنون شيئاً فسوف يُيسِّر الله لهم سبيل إتقان حاجتك ، من حيث لا يريدون ولا يشعرون .
(1/5133)
وقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . . } [ الإسراء : 15 ]
أي : لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحدٍ ، ولا يُؤاخَذ أحدٌ بجريرة غيره ، وكلمة : { تَزِرُ وَازِرَةٌ . . } [ الإسراء : 15 ]
من الوزر : وهو الحِمْل الثقيل ، ومنها كلمة الوزير : أي الذي يحمل الأعباء الثقيلة عن الرئيس ، أو الملك أو الأمير .
فعدْلُ الله يقتضي أنْ يُحاسب الإنسان بعمله ، وأنْ يُسأل عن نفسه ، فلا يرمي أحد ذنبه على أحد ، كما قال تعالى : { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . } [ لقمان : 33 ]
وحول هذه القضية تحدَّث كثير من المستشرقين الذين يبحثون في القرآن عن مأخذ ، فوقفوا عند هذه الآية : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . . } [ الإسراء : 15 ]
وقالوا : كيف نُوفِّق بينها وبين قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ . . } [ العنكبوت : 13 ]
وقوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ]
ونقول : التوفيق بين الآية الأولى والآيتين الأخيرتين هيِّن لو فهموا الفرق بين الوِزْر في الآية الأولى ، والوِزْر في الآيتين الأخيرتين .
ففي الأولى وزر ذاتيٌّ خاص بالإنسان نفسه ، حيث ضَلَّ هو في نفسه ، فيجب أنْ يتحمّل وزْر ضلاله . أما في الآية الثانية فقد أضلَّ غيره ، فتحمَّل وِزْره الخاص به ، وِتحمَّل وِزْر مَنْ أضلَّهم .
ويُوضِّح لنا هذه القضية الحديث النبوي الشريف : " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " .
وقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
العذاب : عقوبة على مخالفة ، لكن قبل أنْ تُعاقبني عليها لا بُدَّ أن تُعلِّمني أن هذه مخالفة أو جريمة ( وهي العمل الذي يكسر سلامة المجتمع ) ، فلا جريمة إلا بنصٍّ ينصُّ عليها ويُقنّنها ، ويُحدِّد العقاب عليها ، ثم بعد ذلك يجب الإعلام بها في الجرائد الرسمية لكي يطلع عليها الناس ، وبذلك تُقام عليهم الحجة إنْ خالفوا أو تعرَّضوا لهذه العقوبة .
لذلك حتى في القانون الوضعي نقول : لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنصٍّ ، ولا نصَّ إلا بإعلام .
فإذا ما اتضحت هذه الأركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى ، وقامت الحجة على المخالفين ، أما أنْ نعاقب شخصاً على جريمة هو لا يعلم بها ، فله أن يعترضَ عليك من منطلق هذه الآية .
أما أنْ يُجرَّم هذا العمل ، ويُعلَن عنه في الصحف الرسمية ، فلا حجة لمَنْ جهله بعد ذلك؛ لأن الجهل به بعد الإعلام عنه لا يُعفِي من العقوبة .
(1/5134)
فكأن قول الله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] يجمع هذه الأركان السابقة : الجريمة ، والعقوبة ، والنص ، والإعلام ، حيث أرسل الله الرسول يُعلِّم الناس منهج الحق سبحانه ، ويُحدّد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه .
لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ]
ويقول : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ . . } [ المائدة : 19 ]
إذن : قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صلى الله عليه وسلم .
وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا : إن كانت الحجة قد قامت على مَن آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج الله؟ وكأنهم يلتمسون له العذر بكفره .
نقول : لقد عرف الإنسان ربه عز وجل أولاً بعقله ، وبما ركّبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني هو الفطرة ، هذه الفطرة هي المسئولة عن الإيمان بقوة قاهرة وراء الوجود ، وإنْ لم يأتِ رسول ، والأمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية :
هَبْ أنك قد انقطعتْ بك السُّبل في صحراء واسعة شاسعة لا تجد فيها أثراً لحياة ، وغلبك النومُ فنمْتَ ، وعندما استيقظتَ فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب .
بالله أَلاَ تفكِّر في أمرها قبل أن تمتدّ يدُك إليها؟ ألاَ تلفت انتباهك وتثير تساؤلاتك عَمَّنْ أتى بها إليك؟
وهكذا الإنسان بعقله وفطرته لا بُدَّ أنْ يهتديَ إلى أن للكون خالقاً مُبْدِعاً ، ولا يمكن أن يكون هذا النظام العجيب المتقن وليدَ المصادفة ، وهل عرف آدم ربه بغير هذه الأدوات التي خلقها الله فينا؟
لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالماً مستوفياً للمقوِّمات والإمكانيات ، وجدنا أمام أعيننا آياتٍ كثيرة دالّة على الخالق سبحانه ، كل منها خيط لو تتبعته لأوصلك . خذ مثلاً الشمس التي تنير الكون على بُعْدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء ، ما تخلَّفتْ يوماً ، ولا تأخرت لحظة عن موعدها ، أَلاَ تسترعي هذه الآية الكونية انتباهك؟
وقد سبق أنْ ضربنا مثلاً ب " أديسون " الذي اكتشف الكهرباء ، وكم أخذ من الاهتمام والدراسة في حين أن الإضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال ، وهي عُرْضة للأعطال ومصدر للأخطار ، فما بالنا نغفل عن آية الإضاءة الربانية التي لا تحتاج إلى مجهود أو أموال أو صيانة أو خلافه؟
والعربي القُحُّ الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بَعْر البعير وآثار الأقدام استدلَّ بالأثر على صاحبه ، فقال في بساطة العرب : البَعْرة تدلّ على البعير ، والقدم تدلّ على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
إذن : بالفطرة التكوينية التي جعلها الله في الإنسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً ، وإنْ لم يعرف مَنْ هو ، مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون .
(1/5135)
وحينما يأتي رسول من عند الله يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه ، ويدلّه على ربه وخالقه ، وأن هذه القوة الخفية التي حيَّرتْك هي ( الله ) خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومَن فيه .
وهو سبحانه واحد لا شريك له ، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ولم يعارضه أحد ولم يَدَّعِ أحد أنه إله مع الله ، وبذلك سَلِمَتْ له سبحانه هذه الدعوى؛ لأن صاحب الدعوة حين يدَّعيها تسلم له إذا لم يوجد معارض لها .
وهذه الفطرة الإيمانية في الإنسان هي التي عنَاهَا الحق سبحانه في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى . . } [ الأعراف : 172 ]
وهذا هو العَهْد الإلهي الذي أخذه الله على خَلْقه وهم في مرحلة الذَّرِّ ، حيث كانوا جميعاً في آدم عليه السلام فالأنْسَال كلها تعود إليه ، وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم ، هذه الذرة هي التي شهدتْ هذا العهد ، وأقرَّتْ أنه لا إله إلا الله ، ثم ذابتْ هذه الشهادة في فطرة كل إنسان؛ لذلك نسميها الفطرة الإيمانية .
ونقول للكافر الذي أهمل فطرته الإيمانية وغفل عنها ، وهي تدعوه إلى معرفة الله : كيف تشعر بالجوع فتطلب الطعام؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء؟ أرأيت الجوع أو لمسْتَه أو شَمَمْته؟ إنها الفطرة والغريزة التي جعلها الله فيك ، فلماذا استخدمت هذه ، وأغفلت هذه؟
والعجيب أن ينصرف الإنسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته يُسبِّح بحمد ربّه ، فذراتُ الكون وذراتُ التكوين في المؤمن وفي الكافر تُسبِّح بحمد ربها ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } [ الإسراء : 44 ] فكيف بك يا سيد الكون تغفل عن الله والذرات فيك مُسبّحة ، فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات تكوينه انسجام واتفاق ، وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته الإيمانية مع إيمان ذراته ، فترى المؤمن مُنْسجماً مع نفسه مع تكوينه المادي .
ويظهر هذا الانسجام بين إرادة الإنسان وبين ذرّاته وأعضائه في ظاهرة النوم ، فالمؤمن ذرّاته وأعضائه راضية عنه تُحبه وتُحب البقاء معه لا تفارقه؛ لأن إرادته في طاعة الله ، فترى المؤمن لا ينام كثيراً مجرد أن تغفل عينه ساعةً من ليل أو نهار تكفيه ذلك؛ لأن أعضاءه في انسجام مع إرادته ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ . . } [ الذاريات : 17 ]
وكان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ، لأنه في انسجام تام مع إرادته صلى الله عليه وسلم .
(1/5136)
وما أشبه الإنسان في هذه القضية بسيد شرس سيء الخُلق ، لديه عبيد كثيرون ، يعانون من سُوء معاملته ، فيلتمسون الفرصة للابتعاد عنه والخلاص من معاملته السيئة .
على خلاف الكافر ، فذراته مؤمنة وإرادته كافرة ، فلا انسجام ولا توافق بين الإرادة والتكوين المادي له ، لذا ترى طبيعته قلقة ، ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته ، لأنها تبغضه وتلعنه ، وتود مفارقته .
ولولا أن الخالق سبحانه جعلها مُنْقادةً له لما طاوعتْه ، وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أنْ تفكّ من إرادته ، وتخرج من سجنه ، لتنطق بلسان مُبين ، وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود؛ لذلك ترى الكافر ينام كثيراً ، وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره .
ولا بُدّ أن نعلم أن ذرات الكون وذرات الإنسان في تسبيحها للخالق سبحانه ، أنه تسبيح فوق مدارك البشر؛ لذلك قال تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } [ الإسراء : 44 ]
فلا يفقهه ولا يفهمه إلا مَنْ منحه الله القدرة على هذا ، كما منح هذه الميزة لداود عليه السلام فقال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 79 ]
وهنا قد يقول قائل : ما الميزة هنا ، والجبال والطير تُسبّح الله بدون داود؟
والميزة هنا لداود عليه السلام أن الله تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير ، وجعلها تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه ( كورس ) أو نشيد جماعي تتوافق فيه الأصوات ، وتتناغم بتسبيح الله تعالى ، ألم يقل الحق سبحانه في آية أخرى : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير . . } [ سبأ : 10 ]
أي : رَجِّعي معه وردِّدي التسبيح .
ومن ذلك أيضاً ما وهبه الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام من معرفة منطق الطير أي لغته ، فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد ، وهذا فضل من الله يهبه لمَنْ يشاء من عباده ، لذلك لما فهم سليمان عليه السلام لغة النملة ، وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم ضاحكاً : { وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ . . } [ النمل : 19 ]
إذن : لكل مخلوق من مخلوقات الله لغة ومنطق ، لا يعلمها ولا يفهمها إلا مَنْ يُيسِّر الله له هذا العلم وهذا الفهم .
وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كُتَّاب السيرة مثلاً يقولون : سبَّح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم نقول لهم : تعبيركم هذا غير دقيق ، لأن الحصى يُسبِّح في يده صلى الله عليه وسلم كما يُسبِّح في يد أبي جهل ، لكن الميزة أنه صلى الله عليه وسلم سمع تسبيح الحصى في يده ، وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم .
والحق سبحانه يريد أنْ يلفتنا إلى حقيقة من حقائق الكون ، وهي كما أن لك حياة خاصة بك ، فاعلم أن لكل شيء دونك حياة أيضاً ، لكن ليستْ كحياتك أنت ، بدليل قول الحق سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . } [ القصص : 88 ]
فكل ما يُطلق عليه شيء مهما قَلَّ فهو هالك ، والهلاك ضد الحياة؛ لأن الله تعالى قال : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . } [ الأنفال : 42 ] فدلَّ على أن له حياة تُناسبه .
ونعود إلى قوله الحق سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ]
فإن اهتدى الإنسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه ، فمن الذي يُعْلِمه بمرادات الخالق سبحانه منه ، إذن : لا بُدَّ من رسول يُبلِّغ عن الله ، ويُنبِّه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } .
(1/5137)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى؛ لأنه سبحانه حينما يُرسل رسولاً ليُبلِّغ منهجه إلى خَلْقه ، فلا عُذْرَ للخارجين عنه؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم ، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد . وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه؟ إنه رَدٌّ غير لائق للجميل ، وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار ، بل في كل نَفَسٍ من أنفاسك .
ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عُذْر لمَنْ خرج عنه ، ولذلك يقولون : " من يأكل لقمتي يسمع كلمتي " .
كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف ، بل كلفك في وقَت مناسب ، في وقت استوت فيه ملكاتُكَ وقدراتُكَ ، وأصبحتَ بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف ، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره ، فكان الأَوْلَى بك أن تستمع إلى منهج ربك ، وتُنفِّذه أمراً ونهياً؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدَّك من عُدم .
والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه أمر بعضنا أن يُكلِّف بعضاً ، كما قال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا . . } [ طه : 132 ]
وقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية فقال : " مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " .
وهذا التكليف وإنْ كان في ظاهره من الأهل لأولادهم ، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع ، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحسّ أمام الطفل ، فأبوه هو صاحب النعمة المحسّة حيث يوفر لولده الطعام والشراب ، وكل متطلبات حياته ، فإذا ما كلفه أبوه كان أَدْعَى إلى الانصياع والطاعة؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي ، وهو الله تعالى .
لذلك أمر الأب أن يعوّد ولده على تحمُّل التكليف وأن يعاقبه إنْ قصَّر؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يُعاقب على الإهمال فيه . حتى إذا بلغ الولد سِنًّ التكليف الحقيقي من المنعم الأعلى سبحانه كان عند الولد أُنْس بالتكليف وتعودُّ عليه ، وبذَلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها .
أما إن أخذتَ نِعم الله وانصرفتَ عن منهجه فطغيْتَ بالنعمة وبغيتَ فانتظر الانتقام ، انتظر أَخْذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا تُردُّ عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة .
واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة ، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعُونَ في نعَم الله في أمن وسلامة ، فسوف يُغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم ، وأنْ يتخذوهم قدوة ومثلاً ، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه .
أما إنْ رَأوْا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء ، وشاهدوهم أذلاّء منكسِرينَ ، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة ، والعاقل مَنِ اعتبر بغيره ، واستفاد من تجارب الآخرين .
(1/5138)
فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى ، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاقَ بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عِبرةً ومُثْلة ومَنْ لم يعتبر كان عبرة حتى لمَنْ لم يؤمن ، وبذلك تعتدل حركة الحياة ، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار ، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسَّر لك الوقوف على هذه السُّنة الإلهية في بلاد بعينها ، ولاستطعْتَ أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه .
وصدق الله حين قال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ]
وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه ، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخْذَ عزيز مُقْتدر ، وإلاَّ لكانت أُسْوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة .
قال تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ]
الآفة أن الذين يستقبلون نصَّ القرآن يفهمون خطأ أن { فَفَسَقُواْ } مترتبة على الأمر الذي قبلها ، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق ، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة ، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين ، فتعالوا نَرَ أوامر الله في القرآن : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين . . } [ البينة : 5 ]
{ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة . . } [ النمل : 91 ]
{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ]
فأمْر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير ، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء ، كما ذكر القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون المراد من الآية : أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا ، ولكنهم خالفوا وعَصَوْا وفسقوا؛ لذلك حَقَّ عليهم العذاب .
والأمر : طَلَب من الأعلى ، وهو الله تعالى إلى الأدنى ، وهم الخَلْق طلب منهم الطاعة والعبادة ، فاستغلُّوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله .
قوله : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً . . } [ الإسراء : 16 ]
من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم . و { قَرْيَةً } أي أهل القرية .
وقوله : { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول . . } [ الإسراء : 16 ]
أي : وجب لها العذاب ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا . . } [ يونس : 33 ]
وقد أوجب الله لها العذاب لتسلَم حركة الحياة ، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة .
وقوله تعالى : { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً . . } [ الإسراء : 16 ]
أي : خربناها ، وجعلناها أثراً بعد عَيْن ، وليستْ هذه هي الأولى ، بل إذا استقرأتَ التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم ، كما قال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } .
(1/5139)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
فأيْن عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح؟ إذن : فالآية قضية قولية ، لها من الواقع ما يُصدِّقها .
وقوله : { مِن بَعْدِ نُوحٍ . . } [ الإسراء : 17 ]
دَلَّ على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح؛ لأن الناس كانوا قريبي عَهْد بخَلْق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة ، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود ، فنزل بهم العذاب . الذي لم يسبق له مثيل .
قال تعالى : { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر * واليل إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 1-14 ]
ولنا وَقْفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر ، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } [ الفجر : 6 ]
و { أَلَمْ تَرَ } بمعنى : ألم تعلم؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد ، فلماذا عدل السياق القرآني عن : تعلم إلى تَرَ؟
قالوا : لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته ، ومثلها قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ]
حيث وُلِد رسول الله في عام الفيل ، ولم يكن رأى شيئاً .
وفي آيات سورة ( الفجر ) ما يدلُّنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظمَ من حضارة الفراعنة التي لفتتْ أنظار العالم كله؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد : { التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 8 ]
أي : لا مثيلَ لها في كل حضارات العالم ، في حين قال عن حضارة الفراعنة : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 10 ] مجرد هذا الوصف فقط . وقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون . . } [ الإسراء : 17 ]
كَمْ : تدل على كثرة العدد .
والقرون : جمع قرن ، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام ، ويُطلَق على القوم المقترنين معاً في الحياة ، ولو على مبدأ من المبادئ ، وتوارثه الناس فيما بينهم .
وقد يُطلَق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول : قرن نوح ، قرن هود ، قرن فرعون . أي : الفترة التي عاشها .
وقوله : { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً . . } [ الإسراء : 17 ]
أي : أنه سبحانه غنيّ عن إخبار أحد بذنوب عباده ، فهو أعلم بها ، لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ]
فلا يحتاج لمَنْ يخبره؛ لأنه خبير وبصير ، هكذا بصيغة المبالغة .
(1/5140)
وهنا قد يقول قائل : طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية ، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم؟
نقول : لأن السؤال يَرِدُ لإحدى فائدتين :
الأولى : كأنْ يسألَ الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه ، فالهدف أنْ يعلم ما جهل .
والأخرى : كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان ، لا ليعلم منه ، ولكن ليقرره بما علم .
وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها ، وليجعله شاهداً على نفسه ، كما قال : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ]
وقوله تعالى : { وكفى بِرَبِّكَ . . } [ الإسراء : 17 ]
كما تقول : كفى بفلان كذا ، أي : أنك ترتضيه وتثقُ به ، فالمعنى : يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره ، وقد سبق أنْ أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي : السلطة التشريعية ، والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية ، وهو سبحانه غنيّ عن الشهود والبينة والدليل .
إذن : كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً . ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده ، فعقابه عَدْل لا ظلمَ فيه .
ثم يقول الحق سبحانه : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } .
(1/5141)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، خلق له الكون كُلّه بما فيه ، وخلق له جميع مُقوّمات حياته ، ووالى عليه نِعَمه إيجاداً من عدم ، وإمداداً من عُدم ، وجعل من مُقوّمات الحياة ما ينفعل له وإنْ لم يُطلب منه ، كالشمس والقمر والهواء والمطر . . الخ فهذه من مُقوّمات حياتك التي تُعطيك دون أنْ تتفاعلَ معها .
ومن مُقوّمات الحياة مَا لا ينفعل لك ، إلا إذا تفاعلتَ معه ، كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها ، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلتْ لك ، وأعطتْك الإنتاج الوفير .
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مُقوّمات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم ، فتتفاعل معهم مُقوِّمات الحياة ، ويحدث التقدم والارتقاء .
وقد يرتقي الإنسان ارتقاءً آخر ، بأن يستفيد من النوع الأول من مُقوّمات الحياة ، والذي يعطيه دون أنْ يتفاعل معه ، استفادة جديدة ، ومن ذلك ما توصّل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل .
إذن : فهذه نواميس في الكون ، الذي يُحسِن استعمالها تُعطيه النتيجة المرجوة ، وبذلك يُثري الإنسان حياته ويرتقي بها ، وهذا ما أَسْمَيناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي .
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة . . } [ الإسراء : 18 ]
أي : عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها .
{ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ . . } [ الإسراء : 18 ]
أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا .
ولا بُدَّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن والكافر ، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مُقوّمات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها ، ويتقدم على المؤمن ، ويمتلك قُوته ورغيف عيشه ، بل وجميع متطلبات حياتهم ، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر ، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة .
وهذا حال لا يليق بالمؤمن ، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده ، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة ، ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي لا قِوامَ للحياة إلا بها .
في حين أن المؤمن أَوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله .
إذن : فمن الدين ألاَّ تمكِّن أعداء الله من السيطرة على مُقوِّمات حياتك ، وألاَّ تجعلَهم يتفوقون عليك .
وقوله : { مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ . . } [ الإسراء : 18 ]
أي : أن تفاعل الأشياء معك ليس مُطْلقاً ، بل للمشيئة تدخُّلٌ في هذه المسألة ، فقد تفعل ، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى ، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء ، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية .
ومعنى { مَا نَشَآءُ . . } للمعجَّل و { لِمَن نُّرِيدُ } للمعجَّل له .
(1/5142)
وما دام هذا يريد العاجلة ، ويتطلع إلى رُقيِّ الحياة الدنيا وزينتها ، إذن : فالآخرة ليستْ في باله ، وليست في حُسْبانه؛ لذلك لم يعمل لها ، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صِفْراً لا نصيب له فيها؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدّم ، وهذا قدَّم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقيّ والتقدّم والتكريم .
قال تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ]
والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة ، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء ، حتى إذا وصل إليه لم يجدْهُ شيئاً ، كذلك إنْ عمل الكافرُ خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجدْ له شيئاً من عمله؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا .
ثم تأتي المفاجأة : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } [ النور : 39 ]
وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ إبراهيم : 18 ]
فمرة يُشبِّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب ، ومرة يُشبِّهه بالرماد؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً ، وهو مادة الخِصْب والنماء ، وهو مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة .
ووصفه بقوله تعالى : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ]
والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يُجسِّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الآخرة في صورة مُحسَّة ظاهرة ، فمثَلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر ، فماذا تنتظر منه؟ وماذا وراءه من الخير؟
ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ]
أي : أعددناها له ، وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها { مَذْمُوماً } أي : يذمُّه الناس ، والإنسان لا يُذَمّ إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه .
و { مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ] وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة ، وما انتهى إليه من العذاب ، يعطينا صورة مقابلة ، صورة لمن كان أعقل وأكيس ، ففضَّل الآخرة .
يقول الحق سبحانه : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } .
(1/5143)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يُعطيِ الصورة ومقابلها؛ لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله ، والضِّد يظهر حُسْنه الضّد ، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13-14 ]
وهنا يقول تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة . . } [ الإسراء : 19 ] في مقابل : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة . . } [ الإسراء : 18 ]
قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا . . } [ الإسراء : 19 ]
أي : أراد ثوابها وعمل لها .
{ وَهُوَ مُؤْمِنٌ . . } [ الإسراء : 19 ]
لأن الإيمان شَرْط في قبول العمل ، وكُلُّ سعي للإنسان في حركة الحياة لا بُدَّ فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يُقبَل العمل ، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة ، فالعامل يأخذ أجره ممَّنْ عمل له .
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم ، حينما قدّموا هذا الإنجازات لم يكُنْ في بالهم أبداً العمل لله ، بل للبشرية وتقدُّمها؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة ، فأقاموا لهم التماثيل ، وألّفوا فيهم الكتب . . الخ .
إذن : انتهت المسألة : عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم .
وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً ، وهذا عمل عظيم يمكن أن يُدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة " .
ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول : أنشأه فلان ، وافتتحه فلان . . الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة!! وهكذا يُفسد الإنسان على نفسه العمل ، ويُقدم بنفسه ما يُحبطه ، إذن : فقد فعل ليقال وقد قيل . وانتهت القضية .
وقوله تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً . . } [ الإسراء : 19 ]
وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها ، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نِعَمه ، كما قال تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ . . } [ إبراهيم : 7 ]
فما بالك إنْ كان الشاكر هو الله تعالى ، يشكر عبده على طاعته؟
وهذا يدل على أن العمل الإيماني يُصادف شُكْراً حتى من المخالف له ، فاللص مثلاً إنْ كان لديه شيء نفيس يخاف عليه ، فهل يضعه أمانة عند لصٍّ مثله ، أم عند الأمين الذي يحفظه؟
فاللصّ لا يحترم اللص ، ولا يثق فيه ، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له ، وكذلك الكذاب يحترم الصادق ، والخائن يحترم الأمين .
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم؛ لأنهم واثقون من أمانته ، ويلقبونه " بالأمين " ، رغم ما بينهما من خلاف عقديّ جوهري ، فهم فعلاً يكذبونه ، أما عند حفْظ الأمانات فلن يغشُّوا أنفسهم ، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد ضربنا لذلك مثلاً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليُخرجك من ورطة ، أو قضية ، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك ، إلا أنه قد سقط من نظرك ، ولم يعُدْ أهلاً لثقتك فيما بعد .
لذلك قالوا : مَنِ استعان بك في نقيصة فقد سقطْتَ من نظره ، وإنْ أعنْتَه على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته .
ثم يقول الحق سبحانه عن كلا الفريقين : { كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ . . . } .
(1/5144)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{ كُلاًّ } أي : كلاَ الفريقين السابقين : مَن أراد العاجلة ، ومَن أراد الآخرة : { نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ . . } [ الإسراء : 20 ]
أي : أن الله تعالى يمدُّ الجميع بمُقوّمات الحياة ، فمنهم مَنْ يستخدم هذه المقومات في الطاعة ، ومنهم مَنْ يستخدمها في المعصية ، كما لو أعطيتَ لرجلين مالاً ، فالأول تصدّق بماله ، والآخر شرب بماله خمراً .
إذن : فعطاء الربوبية مدَدٌ ينال المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، أما عطاء الألوهية المتمثل في منهج الله : افعل ولا تفعل ، فهو عطاء خاصٌّ للمؤمنين دون غيرهم .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً . . } [ الإسراء : 20 ]
أي : ممنوعاً عن أحد؛ لأن الجميع خَلْقه تعالى ، المؤمن والكافر ، وهو الذي استدعاهم إلى الحياة ، وهو سبحانه المتكفّل لهم بمُقوّمات حياتهم ، كما تستدعي ضيفاً إلى بيتك فعليك أنْ تقومَ له بواجب الضيافة .
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه اختار التعبير بقوله : { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ . . } [ الإسراء : 20 ]
لأن العطاء المراد هنا عطاء ربوبية ، وهو سبحانه ربّ كلّ شيء . أي : مُربّيه ومتكفّل به ، وشرف كبير أن يُنسبَ العطاء إلى الرب تبارك وتعالى .
ثم يقول الحق سبحانه : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ . . . } .
(1/5145)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
الحق تبارك وتعالى أعطانا قضايا إيمانية نظرية ، ويريد مِنّا أنْ ننظر في الطبيعة والكون ، وسوف نجد فيه صِدْق ما قال .
يقول تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ . . } [ الإسراء : 21 ]
والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عامّاً ، فلم يُبيّن مَن المفضَّل ومَنِ المفضّل عليه ، فلم يقُلْ : فضلت الأغنياء على الفقراء ، أو : فضلت الأصحاء على المرضى .
إذن : فما دام في القضية عموم في التفضيل ، فكلُّ بعض مُفضَّل في جهة ، ومُفضّل عليه في جهة أخرى ، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل ، فيفضلون هذا لأنه غني ، وهذا لأنه صاحب منصب . . الخ .
وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كُلِّ زوايا الحياة وجوانبها؛ لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة ، ونُسَخاً مُعَادة ، بل يُريدنا أُنَاساً متكاملين في حركة الحياة ، ولو أن الواحد مِنّا أصبح مَجْمعاً للمواهب ما احتاج فينا أحدٌ لأحد ، ولتقطعت بيننا العَلاقات .
فمن رحمة الله أن جعلك مُفضَّلاً في خَصْلة ، وجعل غيرك مُفضَّلاً في خصال كثيرة ، فأنت محتاج لغيرك فيما فُضِّل فيه ، وهم محتاجون إليك فيما فُضِّلْتَ فيه ، ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع ، وتسلَمْ للناس حركة الحياة .
ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول : إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان ، فإنْ زِدْتَ عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة ، وهكذا تكون المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا ، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ]
لذلك يجب على المسلم أن يلتزمَ أدب الإسلام في حِفْظ مكانة الآخرين ، فمهما كنت مُفضَّلاً فلا تحتقر غيرك ، واعلم أن لهم أيضاً ما يفضلون به ، وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه .
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالعظيم الوجيه الذي قد تضطره الظروف وتُحوِجه لسباك أو عامل بسيط ليؤدي له عملاً لا يستطيع هو القيام به ، فالعامل البسيط في هذا الموقف مُفضِّل على هذا العظيم الوجيه . ولك أنْ تتصورَ الحال مثلاً إذا أضرب الكناسون عدة أيام عن العمل . إذن : مهما كان الإنسان بسيطاً ، ومهما كان مغموراً فإن له مهمة يفضّل بها عن غيره من الناس .
خُذ الخياط مثلاً ، وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس ، ولا يكاد يُجيد عملاً إلا أن يخيطَ للناس ثيابهم ، فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات ، الجميع يقبلون عليه ، ويتمنون أن يتكرم عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولادهم .
وبهذا نستطيع أن نفهم قَوْل الحق تبارك وتعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
(1/5146)
[ الزخرف : 32 ]
فكل منا مُسخَّر لخدمة الآخرين فيما فُضِّل فيه ، وفيما نبغ فيه .
وصدق الشاعر حين قال :
النَّاسُ لِلناسِ مِنْ بَدْوٍ ومِنْ حَضَرٍ ... بَعْضٌ لبعْضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ
إذن : في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا الإنسان المختلفة؛ لأن الجميع أمام الله سواء ، ليس مِنّا مَن هو ابن الله ، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسَبٌ أو قرابة ، ولا تجمعنا به سبحانه إلا صلة العبودية له عز وجل ، فالجميع أمام عطائه سواء ، لا يوجد أحد أَوْلَى من أحد .
فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميُّزه عن غيره كموهبة ، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين ، وأنه محتاج إليها وبذلك يندكّ غروره ، ويعرف مدى حاجته لغيره . وكما أنه نابغ في مجال من المجالات ، فغيره نابغ في مجال آخر؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة ، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار ، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة .
وقوله تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً . . } [ الإسراء : 21 ]
فإنْ كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى ، فإن الأمر يختلف في الآخرة؛ لأنها لا تقوم بالأسباب ، بل بالمسبب سبحانه ، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها .
ولو تأملتَ حالك في الدنيا ، وقارنتَه بالآخرة لوجدتَ الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ، فعمرك في الدنيا موقوت ، وسينتهي إلى الموت؛ لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها ، فإنْ بقيْت من بعدك فهي لغيرك ، وكذلك ما فُضِّلْتَ به من نعيم الدنيا عُرْضَة للزوال ، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان .
فالغنيّ قد يصير فيقراً ، والصحيح سقيماً ، كما أن نعيم الدنيا على قَدْر إمكانياتك وتفاعلك مع الأسباب ، فالدنيا وما فيها من نعيم غير مُتيقّنة وغير موثوق بها .
وهَبْ أنك تنعَّمْتَ في الدنيا بأعلى درجات النعيم ، فإن نعيمك هذا يُنغِّصه أمران : إما أن تفوت هذا النعيم بالموت ، وإما أنْ يفوتَك هو بما تتعرّض له من أغيار الحياة .
أما الآخرة فعمرك فيها مُمتدّ لا ينتهي ، والنعمة فيها دائمة لا تزول ، وهي نعمة لا حدودَ لها؛ لأنها على قَدْر إمكانيات المنعِم عز وجل ، في دار خلود لا يعتريها الفناء ، وهي مُتيقنة موثوق بها .
فأيهما أفضل إذن؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكُّر والتعقُّل : { انظر } أيَّ الصفقتين الرابحة ، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلاً .
إذن : فالآخرة أعظم واكبر ، ولا وجهَ للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة . وأذكر أننا سافرنا مرة إلى ( سان فرانسيسكو ) فأدخلونا أحد الفنادق ، لا للإقامة فيه ، ولكن لمشاهدة ما فيه من روعة وجمال ومظاهر الرقي والرفاهية .
وفعلاً كان هذا الفندق آية من آيات الإبداع والجمال ، فرأيتُ رفاقي وكانوا من علية القوم مبهورين به ، مأخوذين بروعته ، فقلت لهم عبارة واحدة : هذا ما أعد البشر للبشر ، فكيف بما أعدّه ربُّ البشر للبشر؟
فنعيم الدنيا ومظاهر الجمال فيها يجب أنْ تثير فينا الشوق لنعيم دائم في الجنة؛ لا أنْ يثير فينا الحقد والحسد ، يجب أن نأخذ من مظاهر الترف والنعيم عند الآخرين وسيلة للإيمان بالله ، وأن نُصعِّد هذا الإيمان بالفكر المستقيم ، فإنْ كان ما نراه من ترف وتقدم ورُقيّ وعمارة في الدنيا من صُنْع مهندس أو عامل ، فكيف الحال إنْ كان الصانع هو الخالق سبحانه وتعالى؟
ويجب ألاًّ نغفلَ الفرْق بين نعيم الدنيا الذي أعدّه البشر ونعيم الآخرة الذي أعدّه الله تعالى ، فقصارى ما توصل إليه الناس في رفاهية الخدمة أن تضغط على زر فيأتي لك منه الشاي مثلاً ، وتضغط على زر آخر فيأتي لك منه القهوة .
(1/5147)
وهذه آلة تستجيب لك إنْ تفاعلتَ معها ، لكن مهما ارتقى هؤلاء ومهما تقدَّمت صناعتهم فلن يصلوا إلى أنْ يقدموا لك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك؛ لأن هذا من نعيم الجنة الذي أعده الخالق سبحانه لعباده الصالحين .
إذن : فما دام كذلك ، وسلَّمنا بأن الآخرة افضل وأعظم ، فما عليك إلاَّ أنْ تبادر وتأخذ الطريق القويم ، وتسلك طريق ربك من أقصر اتجاه ، وهو الاستقامة على منهج الله الواحد والالتزام به .
فيقول الحق سبحانه : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } .
(1/5148)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
لأنه سبحانه أعطاك في الدنيا ، وأمدّك بالأسباب ، وبمقوّمات حياتك ، أوجدك من عدم ، وأمدك من عُدْمٍ ، حتى وإنْ كنت كافراً ، ثم أعدَّ لك في الآخرة الدرجات العالية والنعيم المقيم الذي لا يَفْنى ولا يزول .
وهذه هي الحيثيات التي ينبغي عليك بعدها أن تعرفه سبحانه ، وتتوجّه إليه ، وتلتحم به وتكون في معيته ، ولا تجعل معه سبحانه إلهاً آخر؛ لأنك إنْ فعلتَ فلن تجد من هذا النعيم شيئاً ، لن تجد إلا المذمّة والخُذْلان في الدنيا والآخرة .
وسوف تُفَاجأ في القيامة بربك الذي دعاك للإيمان به فكفرْتَ . { وَوَجَدَ الله عِندَهُ . . } [ النور : 39 ]
ساعتها ستندم حين لا ينفعك الندم ، بعد أن ضاعت الفرصة من يديك .
ويقول تعالى : { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ]
والقعود ليس أمراً عادياً هنا ، بل هو أنكَى ما يصير إليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يقعد إلا إذا أصبح غيرَ قادر على القيام ، ففيها ما يُشعر بإنهاك القوة ، وكأنه سقط إلى الأرض ، بعد أنْ أصبحتْ رِجلاه غير قادرتين على حَمْله ، ولم تَعْد به قوة للحركة .
ونلاحظ في تعبير القرآن عن هذا الذي خارتْ قواه ، وانتهت تماماً ، أنه يختار له وَضْع القعود خاصة ، ولم يَقُلْ مثلاً : تنام ، لأن العذاب لا يكون مع النوم ، ففي النوم يفقد الإنسان الوعي فلا يشعر بالعذاب ، بل قال ( فتقعد ) هكذا شاخص يقاسي العذاب؛ لأن العذاب ليس للجوارح والمادة ، بل للنفس الواعية التي تُحِسّ وتألم .
ولذلك يلجأ الأطباء إلى تخدير المريض قبل إجراء العمليات الجراحية؛ لأن التخدير يُفقِده الوعي فلا يشعر بالألم .
ومن ذلك قوله تعالى : { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 95 ]
وقال : { والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً . . } [ النور : 60 ]
فالقعود يدل على عدم القدرة ، وفي الوقت نفسه لا يرتاح بالنوم ، فهو في عذاب مستمر .
وفي مجال الذم قال الشاعر :
دَعِ المكَارِمَ لاَ ترحَلِ لِبُغْيِتهَا ... وَاقْعُدْ فإنكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكَاسي
وقوله : { مَذْمُوماً . . } [ الإسراء : 22 ] لأنه أتى بعمل يذمه الناس عليه .
{ مَّخْذُولاً . . } [ الإسراء : 22 ] من الخذلان ، وهو عدم النُّصْرة ، فالأبعد في موقف لا ينصره فيه أحد ، ولا يدافع عنه أحد ، لذلك يقول تعالى لهؤلاء : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 25-26 ]
ثم ينتقل بنا الحق سبحانه إلى قضية يعطينا فيها نوعاً من الاستدلال ، فيقول سبحانه : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً . . . } .
(1/5149)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
بعد أنْ وجَّهنا الله تعالى إلى القضية العقدية الكبرى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ . . } [ الإسراء : 22 ]
أراد سبحانه أنْ يُبيّن لنا أن العقيدة والإيمان لا يكتملان إلا بالعمل ، فلا يكفي أن تعرف الله وتتوجّه إليه ، بل لا بُدَّ أنْ تنظر فيما فرضه عليك ، وفيما كلّفك به؛ لذلك كثيراً ما نجد في آيات الكتاب الكريم الجمع بين الإيمان والعمل الصالح ، كما في قوله تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ]
لأن فائدة الإيمان وثمرته العمل الصالح ، وما دُمْتَ ستسلك هذا الطريق فانتظر مواجهة أهل الباطل والفساد والضلال ، فإنهم لن يدعُوك ولن يُسالموك ، ولا بُدَّ أن تُسلِّح نفسك بالحق والقوة والصبر ، لتستطيع مواجهة هؤلاء .
ودليل آخر على أن الدين ليس الإيمان القوليّ فقط ، أن كفار مكة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فلو كانت المسألة مسألةَ الإيمان بإله واحد وتنتهي القضية لَكانوا قالوا وشهدوا بها ، إنما هم يعرفون تماماً أن للإيمان مطلوباً ، ووراءه مسئولية عملية ، وأن من مقتضى الإيمان بالله أن تعمل بمراده وتأخذ بمنهجه .
ومن هنا رفضوا الإيمان بإله واحد ، ورفضوا الانقياد لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليُبلِغهم مراد الله تعالى ، وينقل إليهم منهجه ، فمنهج الله لا ينزل إلا على رسول يحمله ويُبلّغه للناس ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ]
وهاهي أول الأحكام في منهج الله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 23 ]
وقد آثر الحق سبحانه الخطاب ب { رَبُّكَ } على لفظ ( الله ) ؛ لأن الربَّ هو الذي خلقك وربَّاك ، ووالى عليك بنعمه ، فهذا اللفظ أَدْعَى للسمع والطاعة ، حيث يجب أن يخجل الإنسان من عصيان المنعِم عليه وصاحب الفضل .
{ وقضى رَبُّكَ . . } [ الإسراء : 23 ]
الخطاب هنا مُوجّه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه هو الذي بلغ المرتبة العليا في التربية والأدب ، وهي تربية حَقّة؛ لأن الله تعالى هو الذي ربَّاه ، وأدَّبه احسن تأديب .
وفي الحديث الشريف : " أدّبني ربي فأحسن تأديبي " .
قضى : معناها : حكم؛ لأن القاضي هو الذي يحكم ، ومعناها أيضاً : أمر ، وهي هنا جامعة للمعنييْن ، فقد أمر الله ألاَّ تعبدوا إلا إيّاه أمراً مؤكداً ، كأنه قضاء وحكم لازم .
وقد تأتي قضى بمعنى : خلق . كما في قوله تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ . . } [ فصلت : 12 ]
وتأتي بمعنى : بلغ مراده من الشيء ، كما في قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا . . } [ الأحزاب : 37 ]
وقد تدل على انتهاء المدة كما في :
(1/5150)
{ فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل . . } [ القصص : 29 ]
وتأتي بمعنى : أراد كما في : { فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } [ غافر : 68 ]
إذن : قضى لها معانٍ مُتعدّدة ، لكن تجتمع كلها لتدل على الشيء اللازم المؤكّد الذي لا نقصَ فيه .
وقوله : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 23 ]
العبادة : هي إطاعة آمر في أمره ونهيه ، فتنصاع له تنفيذاً للأمر ، واجتناباً للنهي ، فإنْ ترك لك شيئاً لا أمر فيه ولا نهي فاعلم أنه ترك لك الاختيار ، وأباح لك : تفعل أو لا تفعل .
لذلك ، فالكفار الذين عبدوا الأصنام والذين أتوا بها حجارةً من الصحراء ، وأعملوا فيها المعاول والأدوات لينحتوها ، وتكسرت منهم فعالجوها ، ووقعت فأقاموها ، وهم يرون كم هي مهينة بين أيديهم لدرجة أن أحدهم رأى الثعلب يبول برأس أحد الأصنام فقال مستنكراً حماقة هؤلاء الذين يعبدونها :
أَرَبٌّ يبولُ الثَّعلَبانُ برأْسِهِ ... لَقدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَليْه الثَّعَالِبُ
فإذا ما تورطوا في السؤال عن آلهتهم هذه قالوا : إنها لا تضر ولا تنفع ، وما نعبدها إلا ليقربونا إلى الله زُلْفى ، كيف والعبادة طاعة أمر واجتناب نهي . فبأيّ شيء أمرتكم الأصنام؟ وعن أيّ شيء نهتْكُمْ؟! إذن : كلامُكم كذاب في كذب .
وفي قوله تعالى : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 23 ]
أسلوب يسمونه أسلوب قَصْر ، يفيد قصر العبادة وإثباتها لله وحده ، بحيث لا يشاركه فيها أحد . فلو قالت الآية : وقضى ربك أن تعبدوه . . فلقائل أن يقول : ونعبد غيره لأن باب العطف هنا مفتوح لم يُغْلَق ، كما لو قُلْت : ضربتُ فلاناً وفلاناً وفلاناً . . هكذا باستخدام العطف . إنما لو قلت ، ما ضربن إلا فلاناً فقد أغلقت باب العطف .
إذن : جاء التعبير بأسلوب القصر ليقول : اقصروا العبادة عليه سبحانه ، وانفوها عن غيره .
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى التكليف والأمر الثاني بعد عبادته : { وبالوالدين إِحْسَاناً . . } [ الإسراء : 23 ]
وقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين في آيات كثيرة ، قال تعالى : { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً } [ النساء : 36 ]
وقال : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً . . } [ الأنعام : 151 ]
وقال : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [ العنكبوت : 8 ]
لكن ، لماذا قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين؟ أتريد أن نقرب الأولى بالثانية ، أم نقرب الثانية بالأولى؟
نقول : لا مانع أن يكون الأمران معاً؛ لأن الله تعالى غَيْب ، والإيمان به يحتاج إلى إعمال عقل وتفكير ، لكن الوالدين بالنسبة للإنسان أمر حسيّ ، فهما سِرُّ وجوده المباشر ، وهما رَبَّياه ووفَّرا له كل متطلبات حياته ، وهما مصدر العطف والحنان .
إذن : التربية والرعاية في الوالدين مُحسَّة ، أما التربية والرعاية من الله فمعقولة ، فأمْر الله لك بالإحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له ، فهو سبحانه الذي خلقك ، وهو سبب وجودك الأول ، وهو مُربّيك وصاحب رعايتك ، وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين ، وهل رباك الوالدان بما أوجداه هما ، أما بما أوجده الله سبحانه؟
إذن : لابد أن يلتحم حَقُّ الله بحقِّ الوالدين ، وأن نأخذ أحدهما دليلاً على الآخر .
(1/5151)
ونلاحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفي : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ . . } [ الإسراء : 23 ]
يعني نهانا أن نعبد غيره سبحانه ، أما حين تكلم عن الوالدين فلم يقل مثلاً : لا تسيئوا للوالدين ، فيأتي بأسلوب نفي كسابقه ، لماذا؟
قالوا : لأن فضل الوالدين واضح لا يحتاج إلى إثبات ، ولا يحتاج إلى دليل عقليّ ، وقولك : لا تسيئوا للوالدين يجعلهما مَظنَّة الإساءة ، وهذا غير وارد في حَقَّهما ، وغير مُتصوَّر منهما ، وأنت إذا نفيتَ شيئاً عن مَنْ لا يصح أن ينفي عنه فقد ذَمَمتْه ، كأن تنفي عن أحد الصالحين المشهورين بالتقوى والورع ، تنفي عنه شرب الخمر مثلاً فهل هذا في حقه مدح أم ذم؟
لأنك ما قلتَ : إن فلاناً لا يشرب الخمر إلا إذا كان الناس تظنّ فيه ذلك . ومن هنا قالوا : نَفْي العيب عَمَّنْ لا يستحق العيب عَيْب .
إذن : لم يذكر الإساءة هنا؛ لأنها لا تَرِد على البال ، ولا تُتصوّر من المولود لوالديه .
وبعد ذلك ، ورغم ما للوالدين من فضل وجميل عليك فلا تنسَ أن فضل الله عليك أعظم؛ لأن والديك قد يَلِدانِك ويُسْلِمانك إلى الغير ، أما ربك فلن يُسلمك إلى أحد .
وقوله تعالى : { إِحْسَاناً . . } [ الإسراء : 23 ]
كأنه قال : أحْسِنوا إليهم إحساناً ، فحذف الفعل وأتى بمصدره للتأكيد .
وقوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ]
الحق سبحانه وتعالى حينما يوصينا بالوالدين ، مرة تأتي الوصية على إطلاقها ، كما قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً . . } [ الأحقاف : 14 ]
ومرّة يُعلِّل لهذه الوصية ، فيقول : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ . . } [ لقمان : 14 ]
والذي يتأمل الآيتين السابقتين يجد أن الحق سبحانه ذكر العِلّة في بِرِّ الوالدين ، والحيثيات التي استوجبت هذا البِرّ ، لكنها خاصة بالأم ، ولم تتحدث أبداً عن فضل الأب ، فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ . . } [ لقمان : 14 ]
فأين دَوْر الأب؟ وأين مجهوداته طوال سنين تربية الأبناء؟
المتتبع لآيات بر الوالدين يجد حيثية مُجْملة ذكرت دور الأب والأم معاً في قوله تعالى : { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً . . } [ الإسراء : 24 ]
لكن قبل أن يُربّي الأب ، وقبل أن يبدأ دوره كان للأم الدور الأكبر؛ لذلك حينما تخاصم الأب والأم لدى القاضي على ولد لهما ، قالت الأم : لقد حمله خِفّاً وحملتُه ثقلاً ، ووضعه شهوة ووضعتُه كرهاً .
لذلك ذكر القرآن الحيثيات الخاصة بالأم؛ لأنها تحملتها وحدها لم يشاركها فيها الزوج؛ ولأنها حيثيات سابقة لإدراك الابن فلم يشعر بها ، فكأنه سبحانه وتعالى أراد أنْ يُذكّرنا بفضل الأم الذي لم ندركه ولم نُحِسّ به .
(1/5152)
وذلك على خلاف دور الأب فهو محسوس ومعروف للابن ، فأبوه الذي يوفر له كل ما يحتاج إليه ، وكلما طلب شيئاً قالوا : حينما يأتي أبوك ، فدَوْر الأب إذن معلوم لا يحتاج إلى بيان .
والآية هنا أوصتْ بالوالدين في حال الكِبَر ، فلماذا خَصَّتْ هذه الحال دون غيرها؟
قالوا : لأن الوالدين حال شبابهما وقُوتهما ليسا مظنّة الإهانة والإهمال ، ولا مجال للتأفف والتضجُّر منهما ، فهما في حال القوة والقدرة على مواجهة الحياة ، بل العكس هو الصحيح نرى الأولاد في هذه الحال يتقربون للآباء ، ويتمنون رضاهما ، لينالوا من خيرهما .
لكن حالة الكِبَر ، ومظهر الشيخوخة هو مظهر الإعالة والحاجة والضعف ، فبعد أنْ كان مُعْطياً أصبح آخذاً ، وبعد أنْ كان عائلاً أصبح عالة .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الآمينات والمراغم ، وكان على المنبر ، فسمعه الصحابة يقول : آمين . ثم سكت برهة . وقال : آمين وسكت . ثم قال : آمين . فلما نزل قالوا : يا رسول الله سمعناك تقول : آمين ثلاثاً . فقال : " جاءني جبريل فقال : رغم أنف مَنْ ذُكِرْتَ عنده ولم يُصَلّ عليك ، قل : آمين . فقلت : آمين ، ورغم أنفس مَنْ أدرك رمضان فلم يُغفر له ، قل : آمين . فقلت : آمين ، ورغم أنف مَنْ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل بهما الجنة ، قل : آمين . فقلت : آمين "
فخصَّ الحق سبحانه حال الكِبَر ، لأنه حال الحاجة وحال الضعف؛ لذلك قال أحد الفلاسفة : خَيْر الزواج مبكره ، فلما سُئِل قال : لأنه الطريق الوحيد لإنجاب والد يعولك في طفولة شيخوختك ، وشبَّه الشيخوخة بالطفولة لأن كليهما في حال ضعف وحاجة للرعاية والاهتمام .
وصدق الحق سبحانه حين قال : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً . . } [ الروم : 54 ]
فَمنْ تزوّج مبكراً فسوف يكون له من أولاده مَنْ يُعينه ويساعده حال كِبَره .
والمتأمل في قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر . . } [ الإسراء : 23 ]
لم تَأتِ صِفَة الكِبَر على إطلاقها ، بل قيّدها بقوله : { عِندَكَ } فالمعنى : ليس لهما أحد غَيرك يرعاهما ، لا أخ ولا أخت ولا قريب يقوم بهذه المهمة ، وما دام لم يَعُدْ لهما غيرك فلتكُنْ على مستوى المسئولية ، ولا تتنصَّل منها؛ لأنك أََوْلى الناس بها .
ويمتد البِرُّ بالوالدين إلى ما بعد الحياة بالاستغفار لهما ، وإنجاز ما أحدثاه من عهد ، ولم يتمكّنا من الوفاء به ، وكذلك أن نصِلَ الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما من قرابة الأب والأم ، ونَصِلَ كذلك أصدقاءهما وأحبابهما ونُودَّهم .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يودّ صاحبات السيدة خديجة رضي الله عنها وكان يستقبلهن ويكرمهن .
وانظر إلى سُمُوِّ هذا الخلق الإسلامي ، حينما يُعدِّي هذه المعاملة حتى إلى الكفار ، فقد جاءت السيدة أسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله في أمها التي أتتْها .
(1/5153)
وأظهرت حاجة مع أنها كافرة ، فقال لها : " صِليِ أمك " .
بل وأكثر من ذلك ، إنْ كان الوالدان كافرين ليس ذلك فحسب بل ويدعوان الابن إلى الكفر ، ويجاهدانه عليه ، ومع هذا كله يقول الحق سبحانه : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً . . } [ لقمان : 15 ]
فهذه ارتقاءات ببرّ الوالدين تُوضّح عظمة هذا الدين ورحمة الخالق سبحانه بالوالدين حتى في حال كفرهما ولَدَدهما في الكفر .
ويُرْوَى أن خليل الله إبراهيم عليه السلام جاءه ضيف بلبل ، وأراد أن ينزل في ضيافته ، فسأله إبراهيم عليه السلام عن دينه فقال : مجوسي فأعرض عنه وتركه يذهب . فََسرْعان ما أوحى الحق سبحانه إلى إبراهيم مُعاتباً إياه في أمر هذا الضيف : يا إبراهيم لقد وَسعْتُه في مكي أعواماً عديدة ، أطعمه وأسقيه وأكسوه وهو كافر بي ، وأنت تُعرض عنه وتريد أنْ تُغيّر دينه من أجل ليلة يبيتها عندك ، فأسرع الخليل خلف الضيف حتى لحق به ، وحكى له ما حدث ، فقال الرجل . نِعْم الرب ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه ، وشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَ إبراهيم رسول الله .
وقد رأى المستشرقون لضيق أُفُقهم وقلّة فقْههم لأسلوب القرآن الكريم ، رَأَوْا تناقضاً بين قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً . . } [ لقمان : 15 ]
وبين قوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ]
فكيف يأمر القرآن بمصاحبة الوالدين وتقديم المعروف لهما ، في حين ينهي عن مودّة مَنْ حَادّ الله ورسوله؟
ولو فَهِم هؤلاء مُعْطيات الأسلوب العربي الذي جاء به القرآن لعلموا أن المعروف غير الودّ؛ لأن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب ، ومع من يكره ، مع المؤمن ومع الكافر ، تُطعمه إذا جاع ، وتسقيه إذا عطش ، وتستره إنْ كان عرياناً ، أما المودة فلا تكون إلا لمَنْ تحب؛ لأنها عمل قلبيّ .
وقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . . } [ الإسراء : 23 ]
وهذا توجيه وأدب إلهيّ يُراعي الحالة النفسية للوالدين حال كِبَرهما ، وينصح الأبناء أن يكونوا على قدر من الذكاء والفطْنة والأدب والرِّفْق في التعامل مع الوالدين في مثل هذا السن .
الوالد بعد أَنْ كان يعطيك وينفق عليك أصبح الآن مُحتاجاً إليك ، بعد أنْ كان قوياً قادراً على السعي والعمل أصبح الآن قعيدَ البيت أو طريحَ الفراش ، إذن : هو في وَضْع يحتاج إلى يقظة ولباقة وسياسة عالية ، حتى لا نجرح مشاعره وهي مُرْهفة في هذا الحال . وتأمل قول الله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ . . } [ الإسراء : 23 ]
وهي لفظة بسيطة أقلّ ما يقال ، وهذه لفظة قَسْرية تخرج من صاحبها قهراً دون أن تمر على العقل والتفكير ، وكثيراً ما نقولها عند الضيق والتبرُّم من شيء ، فالحق سبحانه يمنعك من هذا التعبير القَسْري ، وليس الأمر الاختياري .
(1/5154)
و { أُفٍّ } اسم فعل مضارع بمعنى : أتضجر ، وهذه الكلمة تدل على انفعال طبيعي ، ولكن الحق سبحانه يُحذِّرك منه ، ويأمرك بأن تتمالكَ مشاعرك ، وتتحكّم في عواطفك ، ولا تنطق بهذه اللفظة .
ومعلومة أنه سبحانه إذا نهاني عن هذه فقط نهاني عن غيرها من باب أَوْلى ، وما دامتْ هي أقلّ لفظة يمكن أنْ تُقال . إذن : نهاني عن القول وعن الفعل أيضاً .
ثم أكّد هذا التوجيه بقوله : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا . . } [ الإسراء : 23 ]
والنهر هو الزَّجْر بقسوة ، وهو انفعال تَالٍ للتضجُّر وأشدّ منه قسوة ، وكثيراً ما نرى مثل هذه المواقف في الحياة ، فلو تصوَّرنا الابن يعطي والده كوباً من الشاي مثلاً فارتعشت يده فأوقع الكوب فوق سجادة ولده الفاخرة ، وسريعاً ما يتأفّف الابن لما حدث لسجادته ، ثم يقول للوالد من عبارات التأنيب ما يؤلمه ويجرح مشاعره .
إذن : كُنْ على حذر من التأفف ، ومن أن تنهر والديك ، كُنْ على حذر من هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان دون فِكْر ، ودون تعقّل .
ثم بعد أن هذا النهي المؤكد يأتي أمر جديد ليؤكد النهي السابق : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . . } [ الإسراء : 23 ]
وفي هذا المقام تُرْوَى قصة الشاب الذي أوقع أبوه إناء الطعام على ثيابه ، فأخذ الولد يلعق الطعام الذي وقع على ثوبه وهو يقول لوالده : أطعمك الله كما أطعمتني ، فحوّل الإساءة إلى جميل يُحمَد عليه .
والآخر الذي ذهب يتمرّغ تحت أقدام أمه ، فقال له : كفى يا بني ، فقال : إنْ كنتِ تُحبِّينني حقاً فلا تمنعيني من عمل يُدخِلني الجنة .
والقول الكريم هنا نوع من التصرُّف واللباقة في معاملة الوالدين خاصة حال الشيخوخة التي قد تُقعِد صاحبها ، أو المرض الذي يحتاج إلى مساعدة الغير ، والأولاد هم أَوْلَى الناس بإعالة الوالدين في هذه الظروف ، حيث سيبدو من الإنسان مَا لا يصح الإطلاع عليه إلا لأولاده وأقرب الناس إليه .
وَهَبْ أن الوالد المريض أو الذي بلغ من الكِبَر عتياً يريد أنْ يقضي حاجته ، ويحتاج لمن يحمله ويُقعِده ويُريحه ، وينبغي هنا أن يقول الابن لأبيه : هَوِّن عليك يا والدي ، وأعطني فرصة أردّ لك بعض جميلك عليّ ، فلكَمْ فعلتَ معي أكثر من هذا .
وهو مع ذلك يكون مُحبّاً لوالده ، رفيقاً به ، حانياً عليه لا يتبرّم به ، ولا يتضجر منه ، هذا هو القول الكريم الذي ينتقيه الأبناء في المواقف المختلفة .
فمثلاً : قد يزورك أبوك في بيتك وقد يحدث منه أنْ يكسر شيئاً من لوازم البيت ، فتقول له في هذا الموقف : فِدَاك يا والدي ، أو تقول : لا عليك لقد كنت أفكر في شراء واحدة أحدث منها . أو غيره من القول الكريم الذي يحفظ للوالدين كرامتهما ، ولا يجرح شعورهما .
(1/5155)
وكثيراً ما يأتي المرض مع كِبَر السن ، فترى الوالد طريحَ الفراش أو مشلولاً عافنا الله وإياكم لذلك فهو في أمس الحاجة لمن يُخفّف عنه ويُواسيه ، ويفتح له باب الأمل في الشفاء ويُذكّره أن فلاناً كان مثله وشفاه الله ، وفلاناً كان مثله وأخذ الله بيده ، وهو الآن بخير ، وهكذا .
ومع هذا ، كُنْ على ذِكْر لفضل الوالدين عليك ، ولا تَنْسَ ما كان عندهما حال طفولتك من عاطفة الحب لك والحنان عليك ، وأن الله تعالى جعل هذه العاطفة الأبوية تقوى مع ضعفك ، وتزيد مع مرضك وحاجتك ، فترى الابن الفقير محبوباً عن أخيه الغني ، والمريض أو صاحب العاهة محبوباً عن الصحيح ، والغائب محبوباً عن الحاضر ، والصغير محبوباً عن الكبير ، وهكذا على قَدْر حاجة المربَّي يكون حنان المربِّي .
إذن : نستطيع أن نأخذَ من هذا إشارة دقيقة يجب ألاَّ نغفل عنها ، وهي : إنْ كان بر الوالدين واجباً عليك في حال القوة والشباب والقدرة ، فهو أوجب حالَ كبرهما وعجزهما ، أو حال مرضهما .
ثم يرشدنا الحق سبحانه إلى حسن معاملة الوالدين ، فيقول : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة . . . } .
(1/5156)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{ واخفض } : الخفْض ضد الرّفْع .
{ جَنَاحَ الذل } : الطائر معروف أنه يرفع جناحه ويُرفْرِف به ، إنْ أراد أن يطير ، ويخفضه إنْ أراد أن يحنوَ على صغاره ، ويحتضنهم ويغذيهم .
وهذه صورة مُحسَّة لنا ، يدعونا الحق سبحانه وتعالى أن نقتدي بها ، وأن نعامل الوالدين هذه المعاملة ، فنحنو عليهم ، ونخفض لهم الجناح ، كنايةً عن الطاعة والحنان والتواضع لهما ، وإياك أن تكون كالطائر الذي يرفع جناحيه ليطير بهما مُتعالياً على غيره .
وكثيراً ما يُعطينا الشرع الحكيم أمثلة ونماذج للرأفة والرحمة في الطيور ، ويجعلها قدوة لنا بني البشر . والذي يرى الطائر يحتضن صغاره تحت جناحه ، ويزقّهم الغذاء يرى عجباً ، فالصغار لا يقدرون على مضغ الطعام وتكسيره ، وليس لديهم اللعاب الذي يساعدهم على أنْ يزدردوا الطعام فيقوم الوالدان بهذه المهمة ثم يناولانهم غذاءهم جاهزاً يسهل بَلْعه ، وإنْ تيسر لك رؤية هذا المنظر فسوف ترى الطائر وفراخه يتراصون فرحة وسعادة .
إذن : قوله تعالى : { جَنَاحَ الذل . . } [ الإسراء : 24 ]
كناية عن الخضوع والتواضع ، والذُّل قد يأتي بمعنى القهر والغلبة ، وقد يأتي بمعنى العطف والرحمة ، يقول تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين . . } [ المائدة : 54 ]
فلو كان الذلّة هنا بمعنى القهر لقال : أذلة للمؤمنين ، ولكن المعنى : عطوفين على المؤمنين . وفي المقابل { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين . . } [ المائدة : 54 ]
أي : أقوياء عليهم قاهرين لهم .
وفي آية أخرى يقول تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ . . } [ الفتح : 29 ]
لأن الخالق سبحانه لم يخلق الإنسان رحيماً على الإطلاق ولا شديداً على الإطلاق ، بل خلق في المؤمن مرونة تمكِّنه أن يتكيف تبعاً للمواقف التي يمر بها ، فإنْ كان على الكافر كان عزيزاً ، وإنْ كان على المؤمن كان ذليلاً متواضعاً .
ونرى وضوحَ هذه القضية في سيرة الصِّديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما ، وقد عُرِف عن الصِّديق اللين ورِقَّة القلب والرحمة ، وعُرِف عن عمر الشدة في الحق والشجاعة والقوة ، فكان عمر كثيراً ما يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تصادم بأحد المعاندين : " إئذن لي يا رسول الله أضرب عنقه " .
وعندما حدثت حروب الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لكل منهما موقف مغاير لطبيعته ، فكان مِنْ رأي عمر ألاّ يحاربهم في هذه الفترة الحرجة من عمر الدعوة ، في حين رأى الصديق محاربتهم والأخْذ على أيديهم بشدة حتى يعودوا إلى ساحة الإسلام ، ويُذعنوا لأمر الله تعالى فقال : " والله ، لو منعوني عقالاً كانوا يُؤدُّونه لرسول الله لجالدتهم عليه بالسيف ، والله لو لم يَبْق إلا الزرع " .
وقد جاء هذا الموقف من الصِّديق والفاروق لحكمة عالية ، فلو قال عمر مقالة أبي بكر لكان شيئاً طبيعياً يُنْسب إلى شدة عمر وجرأته ، لكنه أتى من صاحب القلب الرحيم الصِّديق رضي الله عنه ليعرف الجميع أن الأمر ليسد للشدة لذاتها ، ولكن للحفاظ على الدين والدفاع عنه .
(1/5157)
وكأن الموقف هو الذي صنع أبا بكر ، وتطلب منه هذه الشدة التي تغلبت على طابع اللين السائد في أخلاقه .
فيقول تعالى : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة . . } [ الإسراء : 24 ]
إذن : الذلَّة هنا ذِلَّة تواضع ورحمة بالوالدين ، ولكن رحمتك أنت لا تكفي ، فعليك أن تطلب لهما الرحمة الكبرى من الله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً . . } [ الإسراء : 24 ]
لأن رحمتك بهما لا تَفيِ بما قدّموه لك ، ولا ترد لهما الجميل ، وليس البادئ كالمكافئ ، فهم أحسنوا إليك بداية وأنت أحسنتَ إليهما ردّاً؛ لذلك ادْعُ الله أنْ يرحمهما ، وأنْ يتكفل سبحانه عنك برد الجميل ، وأن يرحمهما رحمة تكافئ إحسانهما إليك .
وقوله تعالى : { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً . . } [ الإسراء : 24 ]
كما : قد تفيد التشبيه ، فيكون المعنى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما بي حين ربياني صغيراً . أو تفيد التعليل : أي ارحمهما لأنهما ربياني صغيراً ، كما قال تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ . . } [ البقرة : 198 ]
و { رَبَّيَانِي } هذه الكلمة أدخلت كل مُربٍّ للإنسان في هذا الحكم ، وإنْ لم يكُنْ من الوالدين ، لأن الولد قد يُربّيه غير والديه لأيِّ ظرف من الظروف ، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعَدماً ، فإنْ ربّاك غير والديك فلهما ما للوالدين من البرِّ والإحسان وحُسْن المعاملة والدعاء .
وهذه بشرى لمن رَبَّى غير ولده ، ولاسيما إنْ كان المربَّى يتيماً ، أو في حكم اليتيم .
وفي : { رَبَّيَانِي صَغِيراً . . } [ الإسراء : 24 ] اعتراف من الابن بما للوالدين من فضل عليه وجميل يستحق الرد .
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه في تذييل هذا الحكم بقضية تشترك فيها معاملة الابن لأبويه مع معاملته لربه عز وجل ، فيقول تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } .
(1/5158)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وقد سبق أنْ تكلّمنا عن الإيمان والنفاق ، وقلنا : إن المؤمن منطقيّ مع نفسه؛ لأنه آمن بقلبه ولسانه ، وأن الكافر كذلك منطقيّ لأنه كفر بقلبه ولسانه ، أما المنافق فغير منطقيّ مع نفسه؛ لأنه آمن بلسانه وجحد بقلبه .
وهذه الآية تدعونا إلى الحديث عن النفاق؛ لأنه ظاهرة من الظواهر المصاحبة للإيمان بالله ، وكما نعلم فإن النفاق لم يظهر في مكة التي صادمتْ الإسلام وعاندته ، وضيقتْ عليه ، بل ظهر في المدينة التي احتضنتْ الدين ، وانساحت به في شتى بقاع الأرض ، وقد يتساءل البعض : كيف ذلك؟
نقول : النفاق ظاهرة صحية إلى جانب الإيمان؛ لأنه لا يُنافَق إلا القوي ، والإسلام في مكة كان ضعيفاً ، فكان الكفار يُجابهونه ولا ينافقونه ، فلما تحوّل إلى المدينة اشتد عوده ، وقويتْ شوكته وبدأ ضِعَاف النفوس ينافقون المؤمنين .
لذلك يقول أحدهم : كيف وقد ذَمَّ الله أهل المدينة ، وقال عنهم : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق } [ التوبة : 101 ]
نقول : لقد مدح القرآن أهل المدينة بما لا مزيدَ عليه ، فقال تعالى في حقهم : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ]
وكأنه جعل الإيمان مَحَلاً للنازلين فيه . { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ]
فإنْ قال بعد ذلك : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق } [ التوبة : 101 ]
فالنفاق في المدينة ظاهرة صحية للإيمان؛ لأن الإيمان لو لم يكن قوياً في المدينة لما نافقه المنافقون .
ومن هنا جعل الله المنافقين في الدرْكِ الأسفل من النار ، لأنه مُندَسٌّ بين المؤمنين كواحد منهم ، يعايشهم ويعرف أسرارهم ، ولا يستطيعون الاحتياط له ، فهو عدو من الداخل يصعُب تمييزه . على خلاف الكافر ، فعداوته واضحة ظاهرة معلنة ، فيمكن الاحتياط له وأخذ الحذر منه .
ولكن لماذا الحديث عن النفاق ونحن بصدد الحديث عن عبادة الله وحده وبِرِّ الوالدين؟
الحق سبحانه وتعالى أراد أنْ يُعطينا إشارة دقيقة إلى أن النفاق كما يكون في الإيمان بالله ، يكون كذلك في برِّ الوالدين ، فنرى من الأبناء مَنْ يبرّ أبويْه نفاقاً وسُمْعة ورياءً ، لا إخلاصاً لهما ، أو اعترافاً بفضلهما ، أو حِرْصاً عليهما .
ولهؤلاء يقول تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ . . } [ الإسراء : 25 ]
لأن من الأبناء مَنْ يبرّ أبويه ، وهو يدعو الله في نفسه أنْ يُريحه منهما ، فجاء الخطاب بصيغة الجمع : { رَّبُّكُمْ } أي : رب الابن ، وربّ الأبوين؛ لأن مصلحتكم عندي سواء ، وكما ندافع عن الأب ندافع أيضاً عن الابن ، حتى لا يقعَ فيما لا تُحمد عُقباه .
وقوله : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ . . } [ الإسراء : 25 ]
أيْ : إن توفّر فيكم شَرْط الصلاح ، فسوف يُجازيكم عليه الجزاء الأوفى . وإنْ كان غَيْر ذلك وكنتم في أنفسكم غير صالحين غير مخلصين ، فارجعوا من قريب ، ولا تستمروا في عدم الصلاح ، بل عودوا إلى الله وتوبوا إليه .
(1/5159)
{ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } [ الإسراء : 25 ]
والأوابون هم الذين اعترفوا بذنوبهم ورجعوا تائبين إلى ربهم .
وقد سبق أنْ أوضحنا أن مشروعية التوبة من الله للمذنبين رحمةٌ من الخالق بالخلق؛ لأن العبد إذا ارتكب سيئة في غفلة من دينه أو ضميره ، ولم تشرع لها توبة لوجدنا هذه السيئة الواحدة تطارده ، ويشقى بها طِوَال حياته ، بل وتدعوه إلى سيئة أخرى ، وهكذا يشقى به المجتمع .
لذلك شرع الخالقُ سبحانه التوبة ليحفظ سلامة المجتمع وأَمْنه ، وليُثرِي جوانب الخير فيه .
ثم يُوسّع القرآن الكريم دائرة القرابة القريبة وهي " الوالدان " إلى دائرة أوسع منها ، فبعد أنْ حنَّنه على والديه لفتَ نظره إلى ما يتصل بهما من قرابة ، فقال تعالى : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } .
(1/5160)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
الحق سبحانه بعد أنْ حنَّن الإنسان على والديْه صعَّد المسألة فحنَّنه على قرابة أبيه وقرابة أمه ، فقال : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ . . } [ الإسراء : 26 ]
{ حَقَّهُ } لأن الله تعالى جعله حَقّاً للأقارب إنْ كانوا في حاجة ، وإلا فلو كانا غير محتاجين ، فالعطاء بينهما هدية متبادلة ، فكل قريب يُهادي أقرباءه ويهادونه . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُشيعَ في المجتمع روح التكافل الاجتماعي .
لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاةً تقرُب من النِّصاب أمر بقطع يده ، كأنه سرقه؛ لأن الله تعالى أسماه ( حقاً ) فَمْن منع صاحب الحق من حقه ، فكأنه سرقه منه .
وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك ، لأنهم في بلاد ترف وغنى ، فتشدّدوا في هذه المسألة؛ لأنه لا عُذْر لأحد فيها .
لذلك ، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد ، وقال : لقد حُلفت يميناً ، وأرى أن أُكفِّر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام ، فقال أحدهم : لقد ضيّقتَ واسعاً فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعامَ عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فرد عليه المنذر قائلاً : أو مثلُ أمير المؤمنين يُزْجَر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألْف وأكثر ، وإنما يزجره الصوم ، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة ، ويُؤثِّر في رَدْعه وزَجْره .
وكلمة ( حق ) وردت في القرآن على معنيين :
الأول : في قوله تعالى : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } [ المعارج : 24 ]
والحق المعلوم هو الزكاة .
أما الحق الآخر فحقٌّ غير معلوم وغير موصوف ، وهو التطوع والإحسان ، حيث تتطوَّع لله بجنس ما فرضه عليك ، كما قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 16-19 ]
ولم يقل : " معلوم " : لأنه إحسان وزيادة عَمَّا فرضه الله علينا .
ويجب على من يُؤْتِى هذا الحق أن يكون سعيداً به ، وأن يعتبره مَغْنماً لا مَغْرماً؛ لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها ، فالصحيح قد يصير سقيماً ، والغني قد يصير فقيراً وهكذا ، فإعطاؤك اليوم ضمانٌ لك في المستقبل ، وضمان لأولادك من بعدك ، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً ، إنْ دارتْ عليك الدائرة .
إذن : فالحق الذي تدفعه اليوم لأصحابه تأمين لك في المستقبل يجعلك تجابه الحياة بقوة ، وتجابه الحياة بغير خور وبغير ضعف ، وتعلم أن حقك محفوظ في المجتمع ، وكذلك إنْ تركتَ أولادك في عوزٍ وحاجة ، فالمجتمع مُتكفِّل بهم .
وصدق الله تعالى حين قال : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ]
ولذلك ، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة ، بل يخصُّون بها الفقراء الأباعد عنهم ، ويُعْطون الأقارب من مالهم الخاص مساعدة وإحساناً .
(1/5161)
و { المسكين } هو الذي يملك وله مال ، لكن لا يكفيه ، بدليل قوله الحق سبحانه : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر . . } [ الكهف : 79 ]
أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً ، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير ، وهذا فهم خاطئ .
و { وابن السبيل . . } [ الإسراء : 26 ]
السبيل هو الطريق ، والإنسان عادةً يُنْسَب إلى بلده ، فنقول : ابن القاهرة ، ابن بورسعيد ، فإنْ كان منقطعاً في الطريق وطرأتْ عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة ، وإن كان في الحقيقة صاحب يسارٍ وَغِنىً ، كأن يُضيع ماله فله حَقٌّ في مال المسلمين بقدر ما يُوصّله إلى بلده .
وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله ، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلّة أو حرج .
{ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ]
كما قال تعالى في آية أخرى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأنعام : 141 ]
فالتبذير هو الإسراف ، مأخوذ من البذر ، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها ، وينثرها بيده في أرضه ، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية ، بحيث يوزع البذور على المساحة المراد زراعتها ، وتكون المسافة بين البذور متساوية .
وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه ، أما إنْ بذرَ البذور بطريقة عشوائية وبدون نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة ، فهي كثيرة في مكان ، وقليلة في مكان آخر ، وهذا ما نُسمِّيه تبذيراً ، لأنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب؛ فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر فَيُعاق نموّها .
لذلك ، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ ( التبذير ) ؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب ، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام ، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم ، في حين يمسك في الشيء الضروري .
إذن : التبذير : صَرْف المال في غير حِلِّه ، أو في غير حاجة ، أو ضرورة .
والنهي عن التبذير هنا قد يُراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء ، يعني حينما تعطي حَقّ الزكاة ، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك ، وربما سمعتَ ثناء الناس وشكرهم فتزيد في عطائك ، ثم بعد ذلك وبعد أن تخلوَ إلى نفسك ربما ندمتَ على ما فعلتَ ، ولُمْتَ نفسك على هذا الإسراف .
وقد يكون المعنى : أعْطِ ذا القربى والمساكين وابن السبيل ، ولكن لا تُبذِّر في الأمور الأخرى ، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء ، بل إلى الأمور التافهة التي يُنفَق فيها المال في غير ضرورة .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين . . . } .
(1/5162)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
كلمة ( أخ ) تُجمع على إخْوة وإخْوان . .
وإخوة : تدلّ على أُخوّة النسب ، كما في قوله تعالى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ . . } [ يوسف : 58 ]
وتدل أيضاً على أخوة الخير والورع والتقوى ، كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ . . } [ الحجرات : 10 ]
ومنها قوله تعالى عن السيدة مريم : { ياأخت هَارُونَ . . } [ مريم : 28 ]
والمقصود : هارون أخو موسى عليهما السلام وبينهما زمن طويل يقارب أحد عشر جيلاً ، ومع ذلك سماهما القرآن إخوة أي أخوّة الورع والتقوى .
أما : إخوان : فتدل على أن قوماً اجتمعوا على مبدأ واحد ، خيراً كان أو شراً ، فتدلّ على الاجتماع في الخير ، كما في قوله تعالى : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ]
وقد تدل على الاجتماع في الشر ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 27 ]
فكأن المبذرين اجتمعوا مع الشياطين في هوية واحدة ، ووُدٍّ واحد ، وانتظمتهما صفات واحدة من الشر .
إذن : كلمة ( إخْوَة ) تدل على أُخُوّة النسب ، وقد تتسامى لتدل على أُخوّة الإيمان التي تنهار أمام قوتها كل الأواصر . ونذكر هنا ما حدث في غزوة بدر بين أخويْنِ من أسرة واحدة هما " مصعب بن عمير " بعد أن آمن وهاجر إلى المدينة وخرج مع جيش المسلمين إلى بدر وأخوه " أبو عزيز " وكان ما يزال كافراً ، وخرج مع جيش الكفار من مكة ، والتقى الأخوان : المؤمن والكافر . " ومعلوم أن " مصعب بن عمير " كان من أغنى أغنياء مكة ، وكان لا يرتدي إلا أفخر الثياب وألينها ، ويتعطر بأثمن العطور حتى كانوا يسمونه مُدلَّل مكة ، ثم بعد أنْ آمنَ تغيّر حاله وآثر الإيمان بالله على كل هذا الغنى والنعيم ، ثم بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعلّم الناس أمور دينهم ، وفي غزوة أحد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتدي جلد شاة ، فقال : " انظروا ما فعل الإيمان بأخيكم " " .
فماذا حدث بين الأخويْنِ المؤمن والكافر؟ وأيّ الصلات كانت أقوى : صلة الإيمان بالله ، أم صلة النسب؟
لما دارتْ المعركة نظر مصعب ، فإذا بأخيه وقد أَسَرَهُ أحد المسلمين اسمه " أبو اليَسرَ " فالتفتَ إليه . وقال : يا أبا اليَسَر أشدد على أسيرك ، فأُمّه غنية ، وسوف تفديه بمال كثير .
فنظر إليه " أبو عزيز " وقال : يا مصعب ، أهذه وصاتك بأخيك ، فقال له مصعب : هذا أخي دونك .
فأخوة الدين والإيمان أقوى وأمتن من أخوة النسب ، وصدق الله تعالى حين قال : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ . . } [ الحجرات : 10 ] قوله : { إِخْوَانَ الشياطين . . } [ الإسراء : 27 ]
أي : أن الحق تبارك وتعالى جعلهما شريكين في صفة واحدة هي التبذير والإسراف ، فإنْ كان المبذّر قد أسرف في الإنفاق ووَضْع المال في غير حِلِّه وفي غير ضرورة . فإن الشيطانَ أسرف في المعصية ، فلم يكتفِ بأن يكون عاصياً في ذاته ، بل عدّى المعصية إلى غيره وأغوى بها وزيّنها؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بقوله : { وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً } [ الإسراء : 27 ]
ليس كافراً فحسب ، بل ( كفور ) وهي صيغة مبالغة من الكفر؛ لأنه كَفر وعمل على تكفير غيره .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا . . . } .
(1/5163)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
ولنا أنْ نسأل : عَمَّنْ يكون الإعراض؟ فقد سبق الحديث عن الوالدين والأقارب والمسكين وابن السبيل ، والإعراض عن هؤلاء لا يتناسب مع سياق الآية لأنه إعراض عن طاعة الله ، بدليل قوله : { ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا . . } [ الإسراء : 28 ]
فالله تعالى في ذهنك ، وتبتغي من وراء هذا الإعراض رحمة الله ورزقه وسِعَته . إذن : الإعراض هنا ليس معصية أو مخالفة . فماذا إذن الغرض من الإعراض هنا؟
نقول : قد يأتيك قريب أو مسكين أو عابر سبيل ويسألك حاجة وأنت لا تملكها في هذا الوقت فتخجل أنْ تواجهه بالمنع ، وتستحي منه ، فما يكون منك إلا أنْ تتوجه إلى ربّك عز وجل وتطلب منه ما يسدُّ حاجتك وحاجة سائلك ، وأن يجعل لك من هذا الموقف مَخْرجاً .
فالمعنى : إما تُعرضنّ عنهم خجلاً وحياءً أنْ تواجههم ، وليس عندك ما يسدُّ حاجتهم ، وأنت في هذا الحال تلجأ إلى الله أنْ يرحمك رحمةً تسعك وتسعهم .
وقوله تعالى : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ]
كما قال في موضع آخر في مثل هذا الموقف : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى . . } [ البقرة : 263 ]
فحتى في حال المنع يجب على المسلم أن يلتزم الأدب ، ولا يجرح مشاعر السائل ، وأنْ يردّه بلين ورِفْق ، وأنْ يُظهر له الحياء والخجل ، وألاّ يتكبر أو يتعالى عليه ، وأن يتذكر نعمة الله عليه بأنْ جعله مسئولاً لا سائلاً .
إذن : فالعبارات والأعمال الصالحة في مثل هذا الموقف لا يكفي فيها أن تقول : ما عندي ، فقد يتهمك السائل بالتعالي عليه ، أو بعدم الاهتمام به ، والاستغناء عنه ، وهنا يأتي دور الارتقاءات الإيمانية والأريحية للنفس البشرية التي تسمو بصاحبها إلى أعلى المراتب .
وتأمل هذا الارتقاء الإيماني في قوله تعالى عن أصحاب الأعذار في الجهاد : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة : 92 ]
هذه حكاية بعض الصحابة الذين أتوا رسول الله ليخرجوا معه إلى الجهاد ، ويضعوا أنفسهم تحت أمره وتصرّفه ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر لهم ، فليس لديه من الركائب ما يحملهم عليه إلى الجهاد .
فماذا كان من هؤلاء النفر المؤمنين؟ هل انصرفوا ولسان حالهم يقول : لقد فعلنا ما علينا ويفرحون بما انتهوا إليه؟ لا ، بل : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة : 92 ]
وهكذا يرتقي الإيمان بأهله ، ويسمو بأصحابه ، فإذا لم يقدروا على الأعمال النزوعية ، فالأعمال القولية ، فإذا لم يقدروا على هذه أيضاً فلا أقلّ من الانفعال العاطفي المعبِّر عن حقيقة الإيمان الذي يفيض دمع الحزْن لضيق ذات اليد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } .
(1/5164)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
تحدّث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذِّرين ، وحذّرنا من هذه الصفة ، وفي هذه الآية يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للإنسان سلامة حركته في الحياة .
فقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ . . } [ الإسراء : 29 ]
واليد عادة تُستخدم في المنْح والعطاء ، نقول : لفلان يد عندي ، وله عليَّ أيادٍ لا تُعَد ، أي : أن نعمه عليَّ كثيرة؛ لأنها عادة تُؤدّي باليد ، فقال : لا تجعل يدك التي بها العطاء ( مَغْلُولَة ) أي : مربوطة إلى عنقك ، وحين تُقيّد اليد إلى العنق لا تستطيع الإنفاق ، فهي هنا كناية عن البُخْل والإمساك .
وفي المقابل : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط . . } [ الإسراء : 29 ]
فالنهي هنا عن كل البَسْط ، إذن : فيُباح بعض البسْط ، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة . وبَسْط اليد كناية عن البَذْل والعطاء ، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذَر ومعنى بذَّر الذي سبق الحديث عنه .
فبذّر : أخذ حفنة من الحبِّ ، وبَسَط بها يده مرة واحدة ، فأحدثتْ كومةً من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً ، وهذا هو التبذير المنهيّ عنه ، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذْر فيأخذ حفنة الحبِّ ، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلّت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى ، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي [ بَذَرَ ] .
وهذا هو حدّ الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم ، وهو الوسط ، وكلا طرفيه مذموم .
وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ]
أي : اعتدال وتوسُّط .
إذن : لا تبسط يدك كل البَسْط فتنفق كل ما لديْك ، ولكن بعض البَسْط الذي يُبقِى لك سيئاً تدخره ، وتتمكن من خلاله أنْ ترتقيَ بحياتك .
وقد سبق أنْ أوضحنا الحكمة من هذا الاعتدال في الإنفاق ، وقلنا : إن الإنفاق المتوازن يُثري حركة الحياة ، ويُسهم في إنمائها ورُقيّها ، على خلاف القَبْض والإمساك ، فإنه يُعرقِل حركة الحياة ، وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في الأسواق وكساد يفسد الحياة ، ويعرق حركتها .
إذن : لا بُدَّ من الإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة ، ولا بُد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تُبقِي على شيء من دَخْلك ، تستطيع أن ترتقي به ، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس .
فالمبذر والمسْرف تجده في مكانه ، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة ، كيف وهو لا يُبقِي على شيء؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة ، ونُوفِّر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي .
ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ]
وسبق أنْ أوضحنا أن وَضْع القعود يدلّ على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة ، وهو وَضْع يناسب مَنْ أسرف حتى لم يَعُدْ لديه شيء .
(1/5165)
وكلمة { فَتَقْعُدَ } تفيد انتقاص حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها؛ لذلك قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله . . } [ النساء : 95 ]
{ مَلُوماً } أي : أتى بفعل يُلاَم عليه ، ويُؤنَّب من أجله ، وأول مَنْ يلوم المسرفَ أولادهُ وأهلُه ، وكذلك الممسِك البخيل ، فكلاهما مَلُوم لتصرُّفه غير المتزن .
{ مَّحْسُوراً } أي : نادماً على ما صِرْتَ فيه من العدم والفاقة ، أو من قولهم : بعير محسور . أي : لا يستطيع القيام بحمله . وهكذا المسرف لا يستطيع الارتقاء بحياته أو القيام بأعبائها وطموحاتها المستقبل له ولأولاده من بعده .
فإنْ قبضتَ كل القَبْض فأنت مَلُوم ، وإنْ بسطتَ كُلَّ البسْط فتقعد محسوراً عن طموحات الحياة التي لا تَقْوى عليها .
إذن : فكلا الطرفين مذموم ، ويترتب عليه سوء لا تُحمد عُقْباه في حياة الفرد والمجتمع . إذن : فما القصد؟
القصد أن يسير الإنسان قواماً بين الإسراف والتقتير ، كما قال تعالى : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ]
فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وَسَطاً ينظّم الحركة الاقتصادية في حياة المجتمع ، فابْسُط يدك بالإنفاق لكي تساهم في سَيْر عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء ، لكن ليس كل البسط ، بل تُبقِي من دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة ، وكذلك لا تمسك وتُقتّر على نفسك وأولادك فيلومونك ويكرهون البقاء معك ، وتكون عضواً خاملاً في مجتمعك ، لا تتفاعل معه ، ولا تُسهم في إثراء حركته .
والحق سبحانه وتعالى وهو صاحب الخزائن التي لا تنفذ ، وهو القائل : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ . . } [ النحل : 96 ]
ولو أعطى سبحانه جميع خَلْقه كُلّ ما يريدون ما نقص ذلك من مُلْكه سبحانه ، كما قال في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وحيّكم وميتكم ، وشاهدكم وغائبكم ، وإنسكم وجنكم ، اجتمعوا في صعيد واحد ، فسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر ، ذلك أَنِّي جَوَاد واجد ماجد ، عطائي كلام وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون " .
ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } .
(1/5166)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
الله الذي لا تنفد خزائنه يعطي خلْقه بقدَرٍ ، فلا يبسط لهم الرزق كل البَسْط ، ولا يقبضه عنهم كُلَّ القَبْض ، بل يبسط على قوم ، ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة؛ لأنه سبحانه لو بسط الرزق ووسَّعه على جميع الناس لاستغنى الناس عن الناس ، وحدثت بينهم مقاطعة تُفسد عليهم حياتهم .
إنما حركة الحياة تتطلب أنْ يحتاج صاحب المال إلى عمل ، وصاحب العمل إلى مال ، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض ، وبذلك يتكامل الناس ، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة .
وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه لم يجعل إنساناً مَجْمعاً للمواهب ، بل المواهب مُوزَّعة بين الخَلْق جميعهم ، فأنت صاحب موهبة في مجال ، وأنا صاحب موهبة في مجال آخر وهكذا ، ليظل الناس يحتاج بعضهم لبعض .
فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبَّر به على الناس يُحوِجه الله لأقل المهن التي يستنكف أن يصنعها ، ولا بُدّ له منها لكي يزاول حركة الحياة .
والحق سبحانه لا يريد في حركة الحياة أن يتفضّل الناس على الناس ، بل لا بُدَّ أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض .
فإذا كان الحق تبارك وتعالى لا يبسط لعباده كل البَسْط ، ولا يقبض عنهم كل القَبْض ، بل يقبض ويبسط ، فوراء ذلك حكمة لله تعالى بالغة؛ لذلك ارتضى هذا الاعتدال منهجاً لعباده ينظم حياتهم ، وعلى العبد أن يرضى بما قُسِم له في الحالتين ، وأن يسير في حركة حياته سَيْراً يناسب ما قدَّره الله له من الرزق .
يقول تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله . . } [ الطلاق : 7 ]
أي : مَنْ ضُيّق عليه الرزق فلينفق على قَدْره ، ولا يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته ، وهذه نظرية اقتصادية تضمن للإنسان الراحة في الدنيا ، وتوفر له سلامة العيش .
ورحم الله امرءاً عرف قَدْر نفسه؛ لأن الذي يُتْعِب الناس في الحياة ويُشقيهم أن ترى الفقير الذي ضُيِّق عليه في الرزق يريد أنْ يعيشَ عيشة الموسَّع عليه رزقه ، ويتطلّع إلى ما فضّل الله به غيره عليه .
فلو تصورنا مثلاً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب :
الأول : غنيٌّ وفي سَعَةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه .
والآخر : فقير ربما يساعد أباه في نفقات الأسرة .
فإذا دخلا محلاً لشراء شيء ما ، فعلى الفقير ألاَّ ينظر إلى وَضْعه الوظيفي ، بل إلى وضعه ومستواه المادي ، فيشتري بما يتناسب معه ، ولا يطمع أن يكون مثل زميله؛ لأن لكل منهما قدرةً وإمكانية يجب ألاَّ يخرج عنها .
هذه هي النظرية الاقتصادية الدقيقة ، والتصرُّف الإيماني المتزن؛ لذلك فالذي يحترم قضاء الله ويَرْضَى بما قَسَمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه ، يقول له الحق سبحانه : لقد رضيت بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك ، ثم يعطيه ويُوسِّع عليه بعد الضيق .
(1/5167)
وهذا مُشَاهَد لنا في الحياة ، والأمثلة عليه واضحة ، فكم من أُناس كانوا في فقر وضيق عيش ، فلما رَضُوا بما قَسَمه الله ارتقتْ حياتهم وتبدّل حالهم إلى سَعَة وتَرَف .
فالحق سبحانه يبسط الرزق لمَنْ يشاء ويقدر؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسانُ نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض ، ولا ينسى هذه الحقيقة ، فيظن أنه أصيل فيها .
والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض ، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون ، فأنت فقط خليفة لمن استخلفك ، مَمْدود مِمَّنْ أمدّك ، فإياك أنْ تغتر ، وإياك أنْ تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدّره الله لك .
فإن اعتبرتَ نفسك أصيلاً ضَلَّ الكون كله؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دُوَلاً ، فالذي وُسِّع عليه اليوم قد يُضيَّق عليه غداً ، والذي ضُيِّق عليه اليوم قد يُوسَّع عليه غداً .
وهذه سُنة من سُنَنَ الله في خَلْقه لِيَدكّ في الإنسان غرور الاستغناء عن الله .
فلو متَّع الُله الإنسانَ بالغنى دائماً لما استمتع الكون بلذة : يا رب ارزقني ، ولو متَّعة بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة : يا رب اشفني . لذلك يظل الإنسان موصولاً بالمنعِم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه .
وقد قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
فالحاجة هي التي تربط الإنسان بربه ، وتُوصله به سبحانه .
فالبَسْط والتضييق من الله تعالى له حكمة ، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط ، فيعطيهم كُلَّ ما يريدون ، ولا يقبض عنهم كل القبض فيحرمهم ويُريهم ما يكرهون ، بل يعطي بحساب وبقدر؛ لتستقيم حركة الحياة ، كما قال تعالى في آية أخرى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ . . } [ الشورى : 27 ]
وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } [ الإسراء : 30 ]
لأن الحق سبحانه لو لم يوزع الرزق هذا التوزيع الحكيم لاختلَّ ميزان العالم ، فَمنْ بُسِط له يستغني عن غيره فيما بُسِط له فيه ، ومَنْ ضُيِق عليه يتمرد على الكون ويحقد على الناس ، ويحسدهم ويعاديهم .
إنما إذا علم الجميع أن هذا بقدر الله وحكمته فسوف يظل الكون المخلوق موصولاً بالمُكوِّن الخالق سبحانه .
وفي قوله : { إِنَّ رَبَّكَ . . } [ الإسراء : 30 ]
ملمح لطيف : أي ربك يا محمد وأنت أكرم الخلق عليه ، ومع ذلك بَسَط لك حتى صِرْت تعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر ، وقبض عنك حتى تربط الحجر على بطنك من الجوع .
فإن كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم فلا يستنكف أحد منا إنْ ضيّق الله عليه الرزق ، ومَنْ منّا ربط الحجر على بطنه من الجوع؟!
وبعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن فرع من فروع الحياة وهو المال ، ورسم لنا المنهج الذي تستقيم الحياة به ويسير الإنسان به سيراً يُحقّق له العيش الكريم والحياة السعيدة ، ويضمن له الارتقاءات والطموحات التي يتطلع إليها .
أراد سبحانه أن يُحدّثنا عن الحياة في أصلها ، فأمر باستبقاء النسل ، ونهى عن قتله فقال تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . . } .
(1/5168)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
وواضحٌ الصلة بين هذه الآية وسابقتها؛ لأن الكلام هنا ما يزال في الرزق ، والخالق سبحانه يُحذِّرنا : إياكم أنْ تُدخِلوا مسألة الرزق في حسابكم؛ لأنكم لم تخلقوا أنفسكم ، ولم تخلقوا أولادكم ولا ذريتكم .
بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم ، وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود ، وما دام هو سبحانه الذي خلق ، وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفّل برزق الجميع ، فإياك أنْ تتعدَّى اختصاصك ، وتُدخِل أنفك في هذه المسألة ، وخاصة إذا كانت تتعلق بالأولاد .
وقوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ . . } [ الإسراء : 31 ]
القتل : إزهاق الحياة ، وكذلك الموت . ولكن بينهما فَرْق يجب ملاحظته :
فالقتل : إزهاق الحياة بنَقْض البِنْية؛ لأن الإنسان يتكوّن من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى ، وهي أجهزة الجسم ، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة .
فإذا ضرب إنسانٌ إنساناً آخر على رأسه مثلاً ، فقد يتلف مخه فتنتهي حياته ، لكن تنتهي بنقْض البنية التي بها الحياة ، لأن الروح لا تبقى إلا في جسم له مواصفات خاصة ، فإذا ما تغيرت هذه الصفات فارقتْه الروح .
أما الموت : فيبدأ بمفارقة الروح للجسد ، ثم تُنقَض بنيته بعد ذلك . وتتلَفُ أعضاؤه ، فالموت يتم في سلامة الأعضاء .
وما أشبه هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي لا تُضيء ، إلا إذا توافرتْ لها مواصفات خاصة : من مُولّد أو مصدر للكهرباء ، وسلك مُوصلً ولمبة كهرباء ، فإذا كُسرَتْ هذه اللمبة يذهب النور ، لماذا؟
لأنك نقضتَ شيئاً أساسياً في عملية الإنارة هذه . وكذلك إذا صَوَّب واحد رصاصة مثلاً في قلب الآخر فإنه يموت وتفارقه الروح؛ لأنك نقضْتَ عنصراً أساسياً من بنية الإنسان ، ولا تستمر الروح في جسده بدونها .
لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج الروح من الجسد لكن توجد عقوبة على القتل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ملعون من هدم بنيان الله " .
لأن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى ، وهو مِلْك لخالقه لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه ، وإلا فلماذا حرَّم الإسلامُ الانتحار ، وجعله كفراً بالله؟!
إذن : المنهي عنه في الآية القتل؛ لأنه من عمل البشر ، وليس الموت . وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } [ آل عمران : 144 ]
فالقتل غير الموت ، القتل اعتداء على بِنْية إنسان آخر وهَدْم لها . وقوله تعالى : { أَوْلادَكُمْ . . } [ الإسراء : 31 ]
الأولاد تُطلق على الذكَر والأنثى ، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يَئدون البنات خاصة دون الذكور ، وفي القرآن الكريم : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8-9 ]
لأنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور عَوْناً وعُدّةً في مُعْترك الحياة ، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض ، كما يَروْن فيهم العِزْوة والامتداد .
(1/5169)
في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار ، خاصة في ظِلّ الفقر والعَوَزِ والحاجة ، فلربما يستميل البنت ذو غِنىً إلى شيء من المكروه في عِرْضها ، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً .
وقوله : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . } [ الإسراء : 31 ]
أي : خَوْفاً من الفقر ، والإملاق : مأخوذة من مَلَق وتملّق ، وكلها تعود إلى الافتقار؛ لأن الإنسان لا يتملَّق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه ، فيتملَّقه ليأخذ منه حاجته .
وقوله : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم . . } [ الإسراء : 31 ]
وفي هذه الآية مَلْمح لطيف يجب التنّبه إليه وفَهْمه لنتمكن من الردِّ على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض .
الحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . } [ الإسراء : 31 ]
أي : خَوْفاً من الفقر ، فالفقر إذن لم يَأْتِ بعد ، بل هو مُحْتمل الحدوث في مستقبل الأيام ، فالرزق موجود وميسور ، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه ، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ . . } [ الإسراء : 31 ]
أولاً : لأن المولود يُولَد ويُولَد معه رزقه ، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليستْ من اختصاصكم .
ثم : { وَإِيَّاكُم . . } [ الإسراء : 31 ]
أي : أن رِزْق هؤلاء الأبناء مُقدَّم على رزقكم أنتم ، ويمكن أن يُفْهَم المعنى على أنه : لا تقتلوا أولادكم خَوْفاً من الفقر ، فنحن نرزقكم من خلالهم ، ومن أجلهم .
ونهتمّ بتوضيح هذه المسألة؛ لأن أعداء الدين الذين يُنقِّبون في القرآن عن مَأْخذ يروْنَ تعارضاً أو تكراراً بين هذه الآية التي معنا وبين آية أخرى تقول : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ . . } [ الأنعام : 151 ]
ونقول لهؤلاء : لقد استقبلتم الأسلوب القرآني بغير الملَكَة العربية في فَهْمه ، فأسلوب القرآن ليس صناعة جامدة ، بل هو أسلوب بليغ يحتاج في فَهْمه وتدبُّره إلى ذَوْق وحِسٍّ لُغويٍّ .
وإذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً ، فليست الأولى أبلغَ من الثانية ، ولا الثانية أبلغَ من الأولى ، بل كل آية بليغة في موضوعها؛ لأن الآيتين وإنْ تشابهتَا في النظرة العَجْلَى لكنْ بينهما فَرْق في المعنى كبير ، فآية الإسراء تقول : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم . . } [ الإسراء : 31 ]
وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب : نرزقهم وإياكم .
أما في آية الأنعام : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ . . } [ الأنعام : 151 ]
فلا بُدَّ أن نلاحظَ أن للآية صدراً وعَجُزاً ، ولا يصح أن تفهم أحدهما دون الآخر ، بل لا بُدَّ أن تجمع في فَهْم الآية بين صدرها وعجزها ، وسوف يستقيم لك المعنى ويُخرجك من أي إشكال .
وما حدث من هؤلاء أنهم نظروا إلى عَجُزَيْ الآيتين ، وأغفلوا صَدريهما ، ولو كان الصدر واحداً في الآيتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه ، ولكنّ صَدْري الآيتين مختلفان :
الأولى : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . } [ الإسراء : 31 ]
والأخرى :
(1/5170)
{ مِّنْ إمْلاَقٍ . . } [ الأنعام : 151 ]
والفرْق واضح بين التعبيرين : فالأول : الفقر غير موجود؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث ، ولكنه مُتوقَّع في المستقبل ، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو ، بل برزق مَنْ يأتي من أولاده .
أما التعبير الثاني : { مِّنْ إمْلاَقٍ . . } [ الأنعام : 151 ]
فالفقر موجود وحاصل فعلاً ، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل ، فناسب هنا أنْ يُقدِّم الآباء في الرزق عن الأبناء .
وما دام الصَّدْر مختلفاً ، فلا بُدَّ أن يختلف العَجُز ، فأيْنَ التعارضُ إذن؟ وهناك مِلْحَظٌ آخر في الآية الكريمة ، وهو أن النهي مُخَاطَبٌ به الجمع : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ . . } [ الإسراء : 31 ]
فالفاعل جمع ، والمفعول به جمع ، وسبق أن قلنا : إن الجمع إذا قُوبل بالجمع تقتضي القسمة آحاداً ، فالمعنى : لا يقتل كل واحد منكم ولده . كما يقول المعلم للتلاميذ : أخرجوا كُتبكم ، والمقصود أنْ يُخرج كل تلميذ كتابه .
فإنْ قال قائل : إن الآية تنهي أنْ يقتلَ الأب ولده خَوْفاً من الفقر ، لكنها لا تمنع أنْ يقتل الأبُ ولد غيره مجاملةً له ، وهو الآخر يقتل ولد غيره مجاملة له .
نقول : لا . . لأن معنى الآية ألاَّ يقتل كل الآباء كل الأولاد ، فينسحب المعنى على أولادي وأولاد غيري ، وهذا هو المراد بمقابلة الجمع بالجمع . أما لو قُلْنا : إن المعنى : تجاملني وتقتل لي ابني ، وأجاملك وأقل لك ابنك ، فهذا لا يستقيم؛ لأن المقابلة هنا ليس مقابلة جمع بجمع .
وقوله تعالى : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ]
خِطْئاً مثل خطأ ، وهو الإثم والذنب العظيم . وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول : خُذوا حِذْركم ، وخذوا حَذرَكم .
وكلمة : { خِطْئاً . . } [ الإسراء : 31 ]
الخاء والطاء والهمزة تدل على عدم موافقة الصواب ، لكن مرة يكون عدم موافقة الصواب لأنك لم تعرف الصواب ، ومرة أخرى لم توافق الصواب لأنك عرفتَ الصواب ، ولكنك تجاوزْتَه .
فالمعلِّم حينما يُصوِّب للتلاميذ أخطاءهم أثناء العام الدراسي نجده يُوضِّح للتلميذ ما أخطأ فيه ، ثم يُصوّب له هذا الخطأ ، وهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن أعلمَ تلميذه بالقاعدة التي يسير عليها ، ولكن التلميذ قد يغفل عن هذه القاعدة فيقع في الخطأ .
وهنا لا مانع أنْ نُصوِّب له خَطَأه ونُرشده؛ لأنه ما يزال في زمن الدرس والتعلُّم والترويض والتدريب .
لكن الأمر يختلف إنْ كانت هذه الأسئلة في امتحان آخر العام ، فالمعلِّم يُبيِّن الخطأ ، ولكنه لا يُصحِّحه ، بل يُقدِّره بالدرجات التي تُحسَب على التلميذ ، وتنتهي المسألة بالنجاح لِمَنْ أصاب ، وبالفشل لمن أخطأ؛ لأن آخر العام أصبح لديه قواعد مُلْزمة ، عليه أنْ يسيرَ عليها .
وكلمة ( خطْئاً أو خطأ ) مأخوذة من خطا خطوة ، وتعني الانتقال بالحركة ، فإذا كان الصواب هو الشيء الثابت الذي استُقِرَّ عليه وتعارف الناس عليه ، ثم تجاوزتَه وانتقلتَ عنه إلى غيره ، فهذا هو الخطأ أي : الخطوة التي جعلتك تتجاوز الصواب .
ومنه قوله تعالى :
(1/5171)
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان . . } [ البقرة : 168 ]
لأنه ينقلكم عن الشيء الثابت المستقر في شريعة الله .
والشيء الثابت هنا هو أن الخالق سبحانه خلق الإنسان وكرَّمه ليكون خليفة له في الأرض ليعمرها ، ويقيم فيها بمنهج الخالق سبحانه ، فكيف يستخلفك الخالق سبحانه ، وتأتي أنت لتقطع هذا الاستخلاف بما تُحدِثه من قَتْل الأولاد ، وهم بذُور الحياة في المستقبل؟
حتى لو أخذنا بقول مَنْ ذهب إلى أن { أَوْلادَكُمْ } المراد بها البنون دون البنات ، وسَلَّمنا معه جدلاً أنك تُميت البنات ، وتُبقى على الذكور ، فما الحال إذا كَبِر هؤلاء الذكور وطلبوا الزواج؟! وكيف يستمر النسل بذكر دون أنثى؟!
إذن : هذا فََهْمٌ لا يستقيم مع الآية الكريمة ، لأن النهي هنا عن قتل الأولاد ، وهم البنون والبنات معاً .
وقد وصف الحق سبحانه الخطأ هنا بأنه كبير ، فقال : { خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ]
ذلك لأنه خطأ من جوانب مُتعدِّدة :
أولهما : أنك بالقتل هدمتَ بنيان الله ، ولا يهدم بنيان الله إلا الله .
ثانيها : أنك قطعت سلسلة التناسل في الأرض ، وقضيتَ على الخلافة التي استخلفها الله في الأرض .
ثالثها : أنك تعديتَ على غريزة العطف والحنان؛ لأن ولدك بعض مِنْك ، وقتله يُجرِّدك من كل معاني الأُبُوة والرحمة ، بل والإنسانية .
وهكذا وضع الحق سبحانه لنا ما يضمن بقاء النسل واستمرار خلافة الإنسان لله في أرضه ، بأنْ نهى كل والد أن يقتلَ ولده ، ونهى كل الآباء أنْ يقتلوا كل الأولاد .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } .
(1/5172)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
بعد أن تحدّث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلافة الله في الأرض ، أراد سبحانه أن يحمي هذا النسل من الضياع ، ويوفر له الحياة الكريمة . والإنسان منّا حينما يُرزَق بالولد أو البنت يطير به فَرحاً ، ويُؤثِره على نفسه ، ويُخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده ، ويسعى جاهداً ليُوفّر له رفاهية العيش ، ويُؤمِّن له المستقبل المُرْضِي ، وصدق الشاعر حين قال :
إنما أَوْلاَدُنَا أكبادُناَ ... تمشي عَلَى الأَرْضِ
إنْ هَبَّتْ الريحُ على بَعْضهِم ... امتنعَتْ عَيْني عَنِ الغُمْضِ
لكن هذا النظام التكافليّ الذي جعله الحق سبحانه عماداً تقوم عليه الحياة الأسرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا ما دَبَّ الشكُّ إلى قلب الأب في نسبة هذا الولد إليه ، فتتحوّل حياته إلى جحيم لا يُطَاق ، وصراع داخلي مرير لا يستطيع مواجهته أو النطق به؛ لأنه طَعْن في ذاته هو .
لذلك يُحذِّرنا الحق تبارك وتعالى من هذه الجريمة النكْراء؛ ليحفظ على الناس أنسابهم ، ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه ، فيحنو عليهم ويرعاهم ، ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في سبيل راحتهم .
فيقول تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى . . } [ الإسراء : 32 ]
والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يُكلِّمنا عن الأوامر يُذيِّل الأمر بقوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا . . } [ البقرة : 229 ]
والحديث هنا عن أحكام الطلاق ، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً ، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها ، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد ، والممنوع أن نتعداه .
وأما في النواهي ، فيُذيلها بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا . . } [ البقرة : 187 ]
والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف ، وكأن الحق سبحانه يريد ألاّ نصلَ إلى الحدِّ المنهي عنه ، وأنْ يكون بيننا وبينه مسافة ، فقال { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } لنظلّ على بُعْدٍ من النواهي ، وهذا احتياط واجب حتى لا نقتربَ من المحظور فنقع فيه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " .
فالحق سبحانه خالق الإنسان ، وهو أعلم به لا يريد له أنْ يقتربَ من المحظور؛ لأن له بريقاً وجاذبية كثيراً ما يضعف الإنسان أمامها؛ لذلك نهاه عن مجرد الاقتراب ، وفَرْقٌ بين الفعل وقُرْبان الفعل ، فالمحرّم المحظور هنا هو الفِعْل نفسه ، فلماذا إذن حرَّم الله الاقتراب أيضاً ، وحذّر منه؟
نقول : لأن الله تعالى يريد أنْ يرحَم عواطفك في هذه المسألة بالذات ، مسألة الغريزة الجنسية ، وهي أقوى غرائز الإنسان ، فإنْ حُمْتَ حولها توشك أن تقعَ فيها ، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلَمُ لك .
وحينما تكلًّم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسَّموها إلى ثلاث مراحل : الإدراك ، ثم الوجدان ، ثم النزوع .
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيتَ به وردة جميلة ، فلحظة أنْ نظرتَ إليها هذا يُسمَّى " الإدراك "؛ لأنك أدركتَ وجودها بحاسة البصر ، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتُّع بجمالها .
(1/5173)
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حُبُّها فهذا يسمى " الوجدان " أي : الانفعال الداخلي لما رأيتَ ، فإذا مددتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع " أي : عمل فعلي .
ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكَّم الشرع؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع ، ولا يمنعك من الإدراك ، أو من الوجدان ، إلا في هذه المسألة " مسألة الغريزة الجنسية " فلا يمكن فيها فَصْل النزوع عن الوجدان ، ولا الوجدان عن الإدراك ، فهي مراحل ملتحمة ومتشابكة ، بحيث لا تقوى النفس البشرية على الفَصْل بينها .
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة ، فإن هذه الرؤية سرعان ما تُولِّد إعجاباً وميلاً ، ثم عِشْقاً وغريزة عنيفة تدعوه أنْ تمتدَّ يده ، ويتولد النزوع الذي نخافه ، وهنا إما أنْ ينزعَ ويُلبي نداء غريزته ، فيقع المحرم ، وإما أنْ يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان .
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خَلْقه ، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر؛ لذلك لم يُحرِّم الزنا فحسب ، بل حرَّم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر ، فقال تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . . } [ النور : 30 ]
لأنك لو أدركتَ لوجدتَ ، ولو وجدتَ لنزعتَ ، فإنْ أخذتََ حظَّك من النزوع أفسدتَ أعراض الناس ، وإنْ عففتَ عِشْتَ مكبوتاً تعاني عِشْقاً لن تناله ، وليس لك صبر عنه .
إذن : الأسلم لك وللمجتمع ، والأحفظ للأعراض وللحرمات أنْ تغُضَّ بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك .
لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان ، فيغشّ الإنسانُ نفسه بالاختلاط المحرم ، وإذا ما سُئل ادَّعى البراءة وحُسْن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله ، وأن خالقه سبحانه أدرى به وأعلم بحاله ، وما أمره بغضِّ بصره إلا لما يترتب عليه من مفاسد ومضار ، إما تعود على المجتمع ، أو على نفسه .
لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " النظرة سَهْم مسموم من سهام إبليس ، مَنْ تركها من مخافتي أبدلتُه إيماناً يجد حلاوته في قلبه " .
ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى . . } [ الإسراء : 32 ]
ولم يقل : لا تزنوا . لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أنْ تجعلَ نفسك على مقربة منها؛ لأن مَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ودَعْكَ ممَّنْ يُنادون بالاختلاط والإباحية؛ لأن الباطل مهما عَلاَ ومهما كَثُر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام .
وأحذر ما يشيع على الألسنة من قولهم هي بنت عمه ، وهو ابن خالها ، وهما تربَّيا في بيت واحد ، إلى آخر هذه المقولات الباطلة التي لا تُغيّر من وجه الحرام شيئاً ، فطالما أن الفتاة تحل لك فلا يجوز لك الخلوة بها .
(1/5174)
وفي الحديث النبوي : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " .
إذن : ما حرَّم الإسلام النظر لمجرد النظر ، وما حرّم الخُلْوة في ذاتها ولكن حَرَّمهما؛ لأنهما من دوافع الزنا وأسبابه . فيقول تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى . . } [ الإسراء : 32 ] أبلغ في التحريم وأحوط وأسلم من : لا تزنوا .
ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى في تحريم الخمر : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ]
ومع ذلك يخرج علينا مَنْ يقول : ليس في القرآن آية واحدة تحرم شرب الخمر . . سبحان الله ، فأيُّهما أبلغ وأشدّ في التحريم أن نقول لك : لا تشرب الخمر ، أم اجتنب الخمر؟
لا تشرب الخمر : نَهْي عن الشُّرْب فقط . إذن : يُبَاحُ لك شراؤها وبيعُها وصناعتها ونقلها . . الخ . أما الاجتناب فيعني : البعد عنها كُلية ، وعدم الالتقاء بها في أي مكان ، وعلى أية صورة .
فالاجتناب إذن أشدّ من مجرد التحريم .
وكيف نقول بأن الاجتناب أقل من التحريم ، وقد قال تعالى في مسألة هامة من مسائل العقيدة : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ]
فهل تقول في هذه : إن الاجتناب أقلّ من التحريم؟ وهل عبادة الطاغوت ليست محرمة؟!
ثم يقول تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً . . } [ الإسراء : 32 ]
الفاحشة : هي الشيء الذي اشتدّ قبْحه . وقد جعل الحق سبحانه الزنا فاحشة؛ لأنه سبحانه وتعالى حينما خلق الزوجين : الذكر والأنثى ، وقدَّر أن يكون منهما التناسل والتكاثر قدَّر لهما أصولاً يلتقيان عليها ، ومظلّة لا يتم الزواج إلا تحتها ، ولم يترك هذه المسألة مشَاعاً يأتيها مَنْ يأتيها؛ ليحفظ للناس الأنساب ، ويحمي طهارة النساء ، فيطمئن كل إنسان إلى سلامة نسبه ونسب أولاده .
والمراد من الأصول التي يلتقي عليها الزوجان عقد القِران الذي يجعهما بكلمة الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهَبْ أن لك بنتاً بلغت سنَّ الزواج ، وعلمتَ أن شاباً ينظر إليها ، أو يحاول الاقتراب منها ، أو ما شابه ذلك ، ماذا سيكون موقفك؟ لا شكَّ أن نار الغيرة ستشتعل بداخلك ، وربما تعرَّضْتَ لهذا الشاب ، وأقمْتَ الدنيا ولم تُقعِدْها .
لكن إذا ما طرق هذا الشاب بابَك ، وتقدَّم لخطبة ابنتك فسوف تقابله بالترْحَاب وتسعد به ، وتدعو الأهل ، وتقيم الزينات والأفراح .
إذن : فما الذي حدث؟ وما الذي تغيَّر؟ وما الفرق بين الأولى والثانية؟
الفرق بينهما هو الفرق بين الحلال والحرام؛ لذلك قيل : " جدع الحلال أنف الغيرة " .
فالذي يغَارُ على بناته من لمسة الهواء تراه عند الزواج يُجَهِز ابنته ، ويُسلمها بيده إلى زوجها؛ لأنهما التقيا على كلمة الله ، هذه الكلمة المقدسة التي تفعل في النفوس الأعاجيب .
مجرد أن يقول وليُّ الزوجة : زوجتُكَ ، ويقول الزوج : وأنا قبلتُ . تنزل هذه الكلمة على القلوب بَرْداً وسلاماً ، وتُحدِث فيها انبساطاً وانشراحاً؛ لأن لهذه الكلمة المقدسة عملاً في التكوين الذاتي للإنسان ، ولها أثر في انسجام ذراته ، وفي كل قطرة من دمه .
(1/5175)
ومن آثار كلمة الله التي يلتقي عليها الزوجان ، أنها تُحدِث سيالاً بينهما ، هو سِيَال الاستقبال الحسن ، وعدم الضَّجَر ، وعدم الغيرة والشراسة ، فيلتقيان على خير ما يكون اللقاء .
ولذلك حينما يُشرِّع لنا الحق تبارك وتعالى العِدَّة ، نجد عدة المطلقة غير عِدَّة المتوفَّى عنها زوجها ، وفي هذا الاختلاف حكمة؛ لأن الحق سبحانه يعلم طبيعة النفس البشرية وما يُؤثّر فيها .
ولو كانت الحكمة من العدة مجرد استبراء الرحم لكفى شهر واحد وحَيْضة واحدة ، إنما الأمر أبعد من ذلك ، فعند المرأة اعتبارات أخرى ومازالت تحت تأثير الزواج السابق؛ لأن سيال الحال فيه التقاء الإيجاب والسلب من الرجل والمرأة ، وقد تعودتْ المرأة على الإيجاب الحلال والسلب الحلال .
فإذا طُلِّقَت المرأة فلا يحلّ لها الزواج قبل انقضاء العدة التي حددها الشرع بثلاثة أشهر ، وهي المدة التي يهدأ فيها سِيَال الحلال في نفسها ويجمد ، وبذلك تكون صالحة للالتقاء بزوج آخر .
أما في حالة المتوفّى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة ، والحكمة من الفارق بين العِدَّتين أن المطلقة غالباً ما يكون بين الزوجين كُرْه ، هذا الكُرْه بينهما يساعد على موت السِّيال؛ لأنها بطبيعة الحال نافرة عنه غير راغبة فيه . أما المتوفَّى عنها زوجها فقد فارقها دون كُرْه ، فرغبتها فيه أشدّ؛ لذلك تحتاج إلى وقت أطول للتخلُّص من هذا السيال .
والحق سبحانه هنا يُراعِي طبيعة المرأة ومشاعرها ، وعواطف الميل والرغبة في زوجها ، ويعلم سبحانه أن هذا الميلَ وهذه الرغبة تحتاج إلى وقت ليهدأ هذه العواطف لدى المرأة ، وتستعد نفسياً للالتقاء بزوج آخر؛ لأن لقاء الزوج بزوجته مسألة لا يحدث الانسجام فيها بالتكوين العقلي ، بل الانسجام فيها بالتكوين العاطفي الغريزي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على توافق الذرات بين الذكر والأنثى .
هذا التوافق هو الذي يُولّد ذرات موجبة ، وذرات سالبة ، فيحدث التوافق ، ويحدث الحب والعِشْق الذي يجمعهما ويمتزجان من خلاله .
وهذا كما قلنا أثر من آثار كلمة الله التي اجتمعا عليها وتحت ظلها .
وهكذا يلتقي الزوجان في راحة وهدوء نفسي ، ويسكن كل منهما للآخر؛ لأن ذراتهما انسجمت وتآلفت؛ ويفرح الأهل ويسعد الجميع ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في وصيته بالنساء : " إنما استحللتم فروجهن بكلمة الله "
وهذه الكلمة من الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يُصلحه ولك أنْ تتصورَ الحال إنْ تَمَّ هذا اللقاء فيما حَرَّم الله ، وبدون هذه الكلمة وما يحدث فيه من تنافر الذرات وعدم انسجام ونكَدٍ ومرارة لا تنتهي ، ما بقيتْ فيهما أنفاس الحياة .
لذلك سمَّاه القرآن فاحشةً ، والدليل على فُحْشه أن الموصوم به يحب ألاَّ يُعرف ، وأن تظل جرائمه خِلْسة من المجتمع ، وأن الذي يقترف هذه الفاحشة يكره أن تُفعلَ في محارمه ، ويكفيها فُحْشاً أن الله تعالى سماها فاحشة ، وشرع لها حداً يُقام على مرتكبها علانية أمام أعين الجميع .
(1/5176)
وقد عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الداء ، حينما أتاه شاب يشتكي ضعفه أمام غريزته الجنسية ، ويقول له : يا رسول الله ائذن لي في الزنا ، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بقضايا دينيه عامة للجميع ، ولكن حين يعالج داءات المجتمع يعالج كل إنسان بما يناسبه ، وعلى حَسْب ما فيه من داءات الضعف أمام شهوات نفسه .
ويتضح لنا هذا المنهج النبوي في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سُئِلَ كثيراً عن أفضل الأعمال ، فقال لأحدهم : " الصلاة لوقتها " .
وقال لآخر : " أن تلقى أخاك بوجه طلق " .
وقال لآخر : " أن تبر أخاك " .
وهكذا تعددتْ الإجابات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصف مزيجاً عاماً يعطيه للجميع ، بل يعطي لكل سائل الجرعة التي تُصلِح خللاً في إيمانه ، كالطبيب الذي يهتم بعلاج مريضه ، فيُجرى له التحاليل والفحوصات اللازمة؛ ليقف على موضع المرض ويصِف العلاج المناسب .
فكيف استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشاب الذي جاءه يقول : يا رسول الله إني أصلي وأصوم ، وأفعل كل أوامر الدين إلا أنني لا أقدر على مقاومة هذه الغريزة؟
هل نهره واعتبره شاذاً ، وأغلق الباب في وجهه؟ لا والله ، بل اعتبره مريضاً جاء يطلب العلاج بعد أن اعترف بمرضه ، والاعتراف بالمرض أولى خطوات الشفاء والعافية .
وهذا الشاب ما جاء لرسول الله إلا وهو كاره لمرضه ، وأول ظاهرة في العافية أن تعترف بمرضك ، ولا تتكبر عليه ، فإنْ تكبَّرتَ عليه استفحلَ واستعصى على العلاج .
وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شكوى هذا الشاب ظاهرة صحية في إيمانه؛ لأنه ما جاء يشكو إلا وهو كاره لهذه الجريمة ، ويجد لها شيئاً في نفسه ، وانظر كيف عالجه النبي صلى الله عليه وسلم : " أجلسه ، ثم قال له : " يا أخا العرب أتحب هذا لأمك؟ " فانتفض الشاب ، وتغيَّر وجهه وقال : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاك ، فقال : " أتحبه لأختك؟ أتحبه لزوجتك؟ أتحبه لبناتك؟ " والشاب يقول في كل مرة : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاك .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : " وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ولا لأخواتهم ولا لزوجاتهم ولا لبناتهم " ثم وضع يده الشريفة على صدر هذا الشاب ودعا له : " اللهم نَقِّ صدره ، وحَصِّن فَرْجه " " .
وانصرف الشاب وهو يقول : لقد خرجتُ من عند رسول الله وليس أكرَه عندي من الزنا ، ووالله ما همَمْتُ بشيء من ذلك إلا وذكرْتُ أمي وأختي وزوجتي وبناتي .
(1/5177)
وما أشبه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاج هذا الشاب بما يفعله أهل الصيدلة ، فعندهم مصطلح يسمونه " برشمة المر " ، فإن كان الدواء مُرّاً ولا يستسيغه المريض غَلَّفوه بمادة سكرية حتى يمرَّ من منطقة التذوق ، فلا يشعر المريض بمرارته .
وقد جعل الخالق سبحانه منطقة التذوق في اللسان فحسب ، دون غيره من الأعضاء التي يمرُّ بها الطعام ، واللسان آية من آيات الله في خَلْق الإنسان ، ومظهر من مظاهر قدرته سبحانه ، حيث جعل فيه حلمات دقيقة يختصُّ كل منها بتذوُّق نوع من الطعام : فهذه للحلو ، وهذه للمر ، وهذه للحرِّيف ، وهكذا ، مع أنها مُتراصّة ومُلْتصقة بعضها ببعض .
وكما تحدث برشمة الدواء الحسيِّ المر ، كذلك يحدث في العلاجات الأدبية المعنوية ، فيُغلِّف الناصح نصيحته ليقبلها المتلقي ويتأثر بها؛ لذلك قالوا : النصح ثقيل ، فاستعيروا له خِفَّة البيان .
وقالوا : الحقائق مُرّة ، فلا ترسلوها جبلاً ، ولا تجعلوها جدلاً .
وعلى الناصح أن يراعي حال المنصوح ، وأنْ يرفقَ به ، فلا يجمع عليه قسوة الحرمان مما أَلِف مع قسوة النصيحة . وقد وضع لنا الحق سبحانه المنهج الدعوي الذي يجب أن نسير عليه في قوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة . . } [ النحل : 125 ]
ومن أدب النصيحة أيضاً الذي تعلَّمناه من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون سِرَّاً ، فليس من مصلحة أحد أنْ تُذاعَ الأسرار؛ لأن لها أثراً سلبياً في حياة المجتمع كله وفي المنصوح نفسه ، فإنْ سترْتَ عليه في نصيحتك له كان أدعى إلى قبوله لما تقوله ، وقديماً قالوا : مَنْ نصح أخاه سراً فقد ستره وَزَانَه ، ومَنْ نصحه جَهْراً فقد فضحه وشَانَهُ .
ثم يقول تعالى : { وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ]
والسبيل هو الطريق الموصل لغاية ، وغاية الحياة أننا مُسْتخلفون في الأرض ، خلقنا الله لعمارتها والسعي فيها بما يُسعدنا جميعاً ، ويعود علينا بالخير والصلاح ، فإذا ضَلَّ الإنسانُ وانحرف عَمّا رسمه له ربه أفسد هذه الخلافة ، وأشقى الدنيا كلها بدل أنْ يُسعدها .
وأعتقد أن ما نشاهده الآن في بيئات الانحلال والانحراف ، وما امتدَّ منهم إلى بلاد الإسلام من التفزيع والرعب يجعلنا نؤمن بأن الزنا فعلاً ساء سبيلاً ، وساء طريقاً ومسلكاً ، يقضي على سلامة المجتمع وأَمْنه وسعادته .
ويكفي أنك إذا خرجتَ من بيتك في مهمة تستلزم المبيت تأخذ جميع لوازمك وأدواتك الشخصية ، وتخاف من شبح العدوى الذي يطاردك في كل مكان ، في الحجرة التي تدخلها ، وفي السرير الذي تنام عليه ، وفي دورة المياه التي تستعملها ، الجميع في رُعْب وفي هلع ، والإيدز ينتشر انتشار النار في الهشيم ، وأصبح لا يسلَم منه حتى الأسوياء الأطهار .
وما حدث هذا الفزع إلا نتيجة لخروج الإنسان عن منهج الله خروجاً جعل هذه المسألة فوضى لا ضابطَ لها ، فأحدث الله لهم من الأمراض والبلايا بقدْر فجورهم وعصيانهم ، وما داموا لم يأتُوا بالحسنى فليأتوا راغمين مُفزَّعين .
(1/5178)
لذلك العالم كله الآن يباشر مشروعات عِفَّة وطهارة ، لا عن إيمان بشرع الله ، ولكن عن خَوْف وهَلَع من أمراض شتَّى لا ترحم ولا تُفرِّق بين واحد وآخر .
إذن : الزنا فاحشة وساء سبيلاً ، وهاهي الأحداث والوقائع تُثبت صِدْق هذه الآية ، وتثبت أن أيّ خروج من الخَلْق عن منهج الخالق لن يكون وراءه إلا نَكَدُ الدنيا قبل أن ينتظرهم في الآخرة .
والآن وقد ضمنَّا سلامة الأعراض ، وضمنَّا طهارة النسل ، وأصبح لدينا مجتمع طاهر سليم ، يأْمَنُ فيه الإنسان على هذا الجانب ، فلا بُدَّ إذن أن نحافظَ فيه على الأرواح ، فلا يعتدي أحد على أحد ، فيقول تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . . } .
(1/5179)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس . . } [ الإسراء : 33 ]
كان القياس أنْ يُقابل الجمع بالجمع ، فيقول : لا تقتلوا النفوس التي حرَّم الله ، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قَتْل النفس الواحد مسئوليةُ الجميع ، لا أنْ يسأل القاتل عن النفس التي قتلها ، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة .
{ التي حَرَّمَ الله . . } [ الإسراء : 33 ] أي : جعلها محرّمة لا يجوز التعدي عليها؛ لأنها بنيان الله وخلْقته وصناعته ، وبنيان الله لا يهدمه أحد غيره . أو نقول : { النفس التي حَرَّمَ الله . . } [ الإسراء : 33 ] أي : حرَّم الله قتلها .
{ إِلاَّ بالحق } [ الإسراء : 33 ] هذا الاستثناء من الحكم السابق الذي قال : لا تقتلوا النفس التي حرم الله { إِلاَّ بالحق } أي : ولكن اقتلوها بالحق ، والحق هنا المراد به ثلاثة أشياء :
القصَاص من القاتل .
الردَّة عن الإسلام .
زِنَا المحصَن أو المحصَنة .
وهذه أسباب ثلاثة تُوجِب قَتْل الإنسان ، والقتْل هنا يكون بالحق أي : بسبب يستوجب القتل .
وقد أثار أعداء الإسلام ضَجَّة كبيرة حول هذه الحدود وغيرها ، واتهموا الإسلام بالقسوة والوحشية ، وحُجَّتهم أن هذه الحدود تتنافى وإنسانية الإنسان وآدميته ، وتتعارض مع الحرية الدينية التي يقول بها الإسلام في قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . } [ البقرة : 256 ]
ففي القصاص قالوا : لقد خَسِر المجتمع واحداً بالقتل ، فكيف نُزِيد من خسارته بقتْل الآخر؟
نقول : لا بُدَّ أن نستقبلَ أحكام الله بفْهمٍ وَاع ونظرة متأمّلة ، فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل ، إنما الهدف ألاّ يقع القتل ، وألاَّ تحدثَ هذه الجريمة من البداية .
فحين يُخبرك الحق سبحانه أنك إنْ قتلتَ فسوف تُقتَل ، فهو يحمي حياتك وحياة الآخرين . وليس لدى الإنسان أغلى من حياته ، حتى القاتل لم يقتل إلا لأنه يحب الحياة ، وقتل من أجلها مَنْ قتل؛ لأنه ربما خدش عِزَّته أو كرامته ، وربما لأنه عدو له أقوى منه .
ولا شكَّ أن حياته أغلى من هذا كله ، فحين نقول له : إنْ قتلتَ ستُقتل ، فنحن نمنعه أنْ يُقدِم على هذه الجريمة ، ونُلوّح له بأقسى ما يمكن من العقوبة . ولذلك قالوا : القتْلُ أنْفَى للقتل .
وقال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب . . } [ البقرة : 179 ]
وهذا نداء لأصحاب الأفهام والعقول الواعية ، ليس القصاص كما يظنُّ البعض ، بل فيه الحياة وفيه سلامة المجتمع وحَقْن الدماء .
ويجب أن يكون عندنا يقظةُ استقبال لأحكام الله؛ لأن القاتل ما قتل إلا حينما غفل عن الحكم ، ويجب أيضاً أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية ، لأنه كما حَمى غيري من قَتْلِي له حماني أيضاً من قَتْل غيري لي ، وما دامت المسألة : لك مثل ما عليك ، وحظك منها كحظِّ الناس جميعاً ، فلماذا الاعتراض؟
وكذلك في السرقة ، حينما يقول لك : لا تسرق ، فأنت ترى أن هذا الأمر قد قيَّد حريتك أنت ، لكن الحقيقة أنه أيضاً قيَّد حرية الآخرين بالنسبة للسرقة منك .
(1/5180)
والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد؛ لأنها تُقيِّد حريته وهو فرد واحد ، وتُقيِّد من أجله حرية المجتمع كله .
وفي الزكاة ، حينما يُوجِب عليك الشارع الحكيم أنْ تُخرِج قَدْراً معلوماً من مالك للفقراء ، فلا تَقُلْ : هذا مالي جمعتُه بجَهْدي وعَرقي . ونقول لك : نعم هو مالك ، ولكن لا تنسَ أن الأيام دُوَلٌ وأغيار ، والغنيّ اليوم قد يفتقر غداً ، فحين تعضّك الأيام فسوف تجد مَنْ يعطيك ، ويَكيل لك بنفس الكَيْل الذي كِلْتَ به للناس .
إذن : يجب أن نكون على وَعْي في استقبال الأحكام عن الله تعالى ، وأن ننظر إليها نظرة شمولية ، فنرى ما لنا فيها وما علينا ، وما دامت هذه الأحكام تعطينا بقدر ما تأخذ مِنّا فهي أحكام عادلة .
وحُكْم القصاص يجعل الإنسان حريصاً على نفسه ، ويمنعه أنْ يُقدِم على القَتْل ، فإنْ غفل عن هذا الحكم وارتكب هذه الجريمة فلا بُدَّ أن يقتصَّ منه؛ فإن أخذتنا الشهامة وتشدَّقْنا بالإنسانية والكرامة والرحمة الزائفة ، وعارضنا إقامة الحدود فليكُنْ معلوماً لدينا أن مَنْ يعارض في إعدام قاتل فسوف يتسبب في إعدام الملايين ، وسوف يفتح الباب لفوضى الخلافات والمنازعات ، فكلّ من اختلف مع إنسان سارع إلى قَتْله؛ لأنه لا يوجد رادع يُردِعه عن القتل .
إذن : لكي نمنع القتل لا بُدَّ أن نُنفِّذَ حكم الله ونُقيم شَرعه ولو على أقرب الناس؛ لأن هذه الأحكام ما نزلتْ لتكون كلاماً يُتلَى وفقط؛ بل لتكون منهجاً عملياً يُنظِّم حياتنا ، ويحمي سلامة مجتمعنا .
لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الأحكام علانية أمام الجميع ، وعلى مَرْأى ومَسْمع المجتمع كله؛ ليعلموا أن أحكام الله ليست شفوية ، بل ها هي تُطبِّق أمامهم ، وصدق الله تعالى حين قال : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ]
والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضاً على إقامة حَدّ الردَّة ، ورأوا فيه وحشية وكَبْتاً للحرية الدينية التي كفَلها الإسلام في قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . } [ البقرة : 256 ]
والحقيقة أن الإسلام حينما شرع حَدَّ الردة ، وقال بقتل المرتد عن الدين أراد أن يُصعِّب على غير المسلمين الدخول في الإسلام ، وأن يُضيِّق عليهم هذا الباب حتى لا يدخل في الإسلام إلا مَنْ أخلص له ، واطمأنَّ قلبه إليه ، وهو يعلم تماماً أنه إنْ تراجع عن الإسلام بعد أن دخل فيه فجزاؤه القتل .
فهذه تُحسَب للإسلام لا عليه؛ لأنه اشترط عليك أولاً ، وأوضح لك عاقبة ما أنت مُقدِم عليه .
أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل الإسلام دخولاً أولياً ، لا يجبرك أحد عليه ، فلك أنْ تظلَّ على دينك كما تحب ، فإنْ أردتَ الإسلام فتفكّر جيداً وتدبّر الأمر وابحثه بكل طاقات البحث لديك .
(1/5181)
فليس في دين الله مجالٌ للتجربة ، إنْ أعجبكَ تظلّ في ساحته ، وإنْ لم يَرُق لك تخرج منه ، فإنْ علمتَ هذه الشروط فليس لك أنْ تعترضَ على حدِّ الردّة بعد ذلك . ولتعلم أن دين الله أعزّ وأكرم من أنْ يستجدي أحداً للدخول فيه .
ثم يقول تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً . . } [ الإسراء : 33 ]
وهذا حكم نفي ، المفروض ألاَّ يحدث . ومعنى { مَظْلُوماً } أي : قُتِل دون سبب من الأسباب الثلاثة السابقة أي : دون حق ، فعلى فَرْض أن هذا القتل وقع بالفعل ، فما الحكم؟
يقول تعالى : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل . . } [ الإسراء : 33 ]
وليه : أي وليّ المقتول ، وهو مَنْ يتولّى أمره من قرابته : الأب أو الأخ أو الابن أو العم . . الخ فهو الذي يتولّى أمر المطالبة بدمه .
{ سُلْطَاناً . . } [ الإسراء : 33 ]
أي : شرعنا له ، وأعطيناه الحقَّ والقوة في أنْ يقتل القاتل ، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ ، ويُمكّنه منه ، وكذلك المؤمنون أيضاً يقفون إلى جواره ، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم؛ لأن الأمر من الله قد يكون رادعه في ذات النفس ، لكن إنْ ضعُفَتْ النفس فلا بُدَّ لرادع من الخارج ، وهنا يأتي دور السلطان ودور المجتمع الإيماني الذي يُعين على إقامة هذا الحكم .
إذن : جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لوليّ الدم ، فإنْ لم يكن له وليّ فإن السلطان ينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم ، لكن ما يُتعِب الدنيا حينما ينتقل حَقُّ القصاص إلى الحاكم العام طُول الإجراءات التي تُخرج الحكم عن المراد منه ، وتُذْكِي نار الحقد والغِلِّ والتِّرَة في نفسِ وليَّ الدم .
فوليّ الدم وحده الذي يُعاني طول فترة التقاضي مع أناس لا يعنيهم أن تطولَ هذه الفترة أو تقصُر؛ لأن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل ، حيث بمرور الأيام بل والسنين تبْرُد شراسة الجريمة في نفوس الناس ، وتأخذ طريقاً إلى طيّات النسيان .
وبهذا تبهت الجريمة وتُنسَى بشاعتها ، وبدلَ أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه ، تتحول الأنظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستُقتل ، وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه .
لكن يجب أنْ يُقامَ القصاص قبل أنْ تبُردَ شراسة الجريمة في النفوس ، وتبهت وتفقد حرارتها .
والحق سبحانه وتعالى كما شرع القصاص ، وجعله في يد وليّ الدم ، أراد في الوقت نفسه ألاَّ يحرم المجتمع من طموحات العفو الذي يُنهي أصول الخلاف ، فيقول تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ . . } [ البقرة : 178 ]
ففي جَوِّ القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والأخوة والمعروف والإحسان ، فمهما كان الأمر فالمؤمنون إخوة ، وباب العفو والإحسان مفتوح . ولوليّ الدم بعد أن أعطيناه حَقَّ القصاص ندعوه إلى العفو ، وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة ، وله أن يعفوَ عن بعضها أو عنها كلها .
(1/5182)
إذن : فإعطاء الحق مَنع عن المقتول له ذِلّة التسلُّط من القاتل؛ لأن الله تعالى أعطاه حَقَّ القصاص منه ، فإذا ما عفا عنه علم القاتل أن حياته أصبحت هبة من ولي الدم ، وما دام الأمر كذلك فسوف تتلاشى بينهما الضغائن والأحقاد ، ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلام ، ونُنهي تسلسل الثارات الذي لا ينتهي .
وقد اشتهر في صعيد مصر وكان مثالاً للأخْذ بالثأر أن القاتل يأخذ كفنه في يده ، ويذهب به إلى وليّ الدم ويُسلِّم نفسه إليه معترفاً بجريمته ، معطياً لولي الدم حرية التصرف فيه . فما يكون من ولي الدم أمام هذا الاستسلام إلاّ أن يعفوَ ويصفح ، وبذلك تُقتلَع الضغائن من جذورها .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل . . } [ الإسراء : 33 ]
أي : طالما أن الله أعطاك حَقَّ القصاص فليكُنْ القصاص بقَدْره دون زيادة أو تعدٍّ أو مجاوزة للحدِّ ، والإسراف في القتل يكون بأوجه عدة :
فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه ، فلا يرضى وليّ الدم بقتْله ، بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر ذي مكانة وذي شأن ، فيقتل إنساناً بريئاً لا ذنبَ له ، وهذا من الإسراف في القتل ، وهو إسرافٌ في ذات المقتول .
وقد يكون الإسراف في الكَمِّ ، فإنْ قُتِل واحد فلا يكتفي وليّ الدم بأن يقتل القاتل ، بل يحمله الغِلّ وثورة الدم إلى أنْ يقتل به أكثر من واحد .
وقد يكون الإسراف بأنْ يُمثّل بجثة المقتول ، ولا يكفيه قتله ، والمفروض ألاَّ يحملك الغضب على تجاوز الحدِّ المشروع لك . وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلها في قاتل حمزة ، فنهاه الله عن ذلك .
ثم يقول تعالى : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ]
أي : لا يجوز له أنْ يُسرف في القتل؛ لأننا لم نتخلّ عنه ، بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حقّ القصاص ومكنَّاه منه ، إذن : فهو منصور ليس متروكاً ، فيجب أن يقف عند حَدِّ النُّصْرة لا يتجاوزها؛ لأنه إن تجاوزها بقتل غير القاتل ، فسوف يُقتل هو الآخر قصاصاً .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . . } .
(1/5183)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ . . } [ الإسراء : 34 ]
ولم يقل : ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب ، أو التفكير في التعدِّي عليه؛ لأن اليُتْم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أنْ تجترئَ عليه .
و { اليتيم } هو مَنْ مات أبوه وهو لم يبلغَ مبلغ الرجال وهو سِنْ الرُّشْد ، وما دام قد فقد أباه ولم يَعُدْ له حاضن يرعاه ، فسوف يضجر ويتألم ساعة أنْ يرى غيره من الأولاد له أب يحنو عليه ، وسوف يحقد على القدَر الذي حرمه من أبيه .
فيريد الحق سبحانه وتعالى أولاً أنْ يستلِّ من قلب اليتيم وفكره هذه المشاعر؛ لذلك يُوصِي المجتمع به ليشعر أنه وإنْ فقد أباه فالمؤمنون جميعاً له آباء ، وفي حُنوِّهم وعطفهم عِوَض له عن وفاة والده .
وكذلك حينما يرى الإنسانُ أن اليتيم مُكرّم في مجتمع إيماني يكفله ويرعاه ، ويعتبره كل فرد فيه ابناً من أبنائه ، يطمئن قلبه ولا تُفزِعه أحداث الحياة في نفسه ، ولا يقلق إنْ قُدِّر له أن يُيَتَّم أولاده ، فسوف يجدون مثل هذه الرعاية ، ومثل هذا الحنان من المجتمع الإيماني .
إذن : إنْ وجد اليتيم في المجتمع عِوَضاً عن أبيه عَطْفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قُدِّر له ، ولا يتأبَّى على قدر الله ، وكذلك تطمئن النفس البشرية إنْ قُدِّر عليها اليُتْم في أولادها .
ثم يقول تعالى : { إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ الإسراء : 34 ]
أي : لا تنتهز يُتْم اليتيم ، وأنه ما يزال صغيراً ضعيف الجانب فتطمع في ماله ، وتأخذه دون وجه حق .
وقوله : { إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ الإسراء : 34 ] استثناء من الحكم السابق { وَلاَ تَقْرَبُواْ . . } يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم ، ولكن بالتي هي أحسن .
و { أَحْسَنُ } أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين : حسنة وأحسن ، وكأن المعنى : لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب ، بل بالطريقة الأحسن . فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟
الطريقة الحسنة : أنك حين تقرب مال اليتيم لا تُبدده ولا تتعدَّى عليه . لكن الأحسن : أنْ تُنمي له هذا المال وتُثمّره وتحفظه له ، إلى أن يكون أَهْلاً للتصرّف فيه .
لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال : { وارزقوهم فِيهَا } [ النساء : 5 ]
ولم يقل : وارزقوهم منها؛ لأن الرزق منها يُنقِصها ، لكن معنى : { وارزقوهم فِيهَا } [ النساء : 5 ] أي : من ريعها وربحها ، وليس من رأس المال .
وإلاَّ لو تصوّرنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم ، وأخذ ينفق عليه من هذا المال ، ويُخرج منه الزكاة وخلافه ، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرُّشْد فَلا يجد من ماله شيئاً يُعتَدُّ به .
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول : حقِّقوا الحسن أولاً بالمحافظة على مال اليتيم ، ثم قدِّموا الأحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته ، وإلاَّ فسوف يشبّ الصغير ، وليس أمامه من ماله شيء .
(1/5184)
والحق سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يحرم اليتيم من خبرة أصحاب الخبرة والصلاحية الاقتصادية وإدارة الأموال ، فقد يكون من هؤلاء مَنْ ليس لديه مال يعمل فيه ، فليعمل في مال اليتيم ويُديره له ويُنمّيه ، وليأكل منه بالمعروف ، وإنْ كان غنياً فليستعفف عنه؛ لأنه لا يحلّ له ، يقول تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف . . } [ النساء : 6 ]
لأن الإنسان إذا كان عنده خبرة في إدارة الأموال ولديْه الصلاحية فلا نُعطِّل هذه الخبرة ، ولا نحرم منها اليتيم ، وهكذا نوفر نفقة صاحب الخبرة الذي لا يجد مالاً ، ونفقة اليتيم الذي لا يستطيع إدارة أمواله ، وبذلك يتم التكامل في المجتمع الإيماني .
ثم يقول تعالى : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ . . } [ الإسراء : 34 ]
أي : حتى يكبر ويبلغ مبلغ الرجال ، ولكن هل هذه الصفة كافية لكي نُعطِي لليتيم ماله وقد بلغ سِنّ الرُّشْد والتكليف؟
في الحقيقة أن هذه الصفة غير كافية لنُسلّم له ماله يتصرف فيه بمعرفته؛ لأنه قد يكون مع كِبَر سِنّه سفيهاً لا يُحسِن التصرُّف ، فلا يجوز أن نتركَ له المال لِيُبدّده ، بدليل قوله تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ . . } [ النساء : 6 ]
وقال في آية أخرى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ]
ولم يقل : أموالهم ، لأن السفيه ليس له مال ، وليس له ملكية ، والمال مال وليه الذي يحافظ عليه ويُنمّيه له .
إذن : فالرُّشْد وهو سلامة العقل وحُسْن التصرُّف ، شرط أساسي في تسليم المال لليتيم؛ لأنه أصبح بالرُّشْد أهْلاً للتصرُّف في ماله .
وكلمة : { أَشُدَّهُ . . } [ الإسراء : 34 ] أي : يبلغ شِدّة تكوينه ، ويبلغ الأشدّ أي : تستوي ملكاته استواءً لا زيادة عليه ، فأعضاء الإنسان تنمو وتتربى مع نموه على مَرِّ الزمن ، إلى أن يصل سِنّ الرشد ويصبحَ قادراً على إنجاب مثله ، وهذه سِنّ الأشُدّ أي : الاستواء .
لذلك أجَّلَ الله تعالى التكليف للإنسان إلى سِنِّ البلوغ؛ لأنه لو كلَّفه قبل أن يبلغ ثم طرأ عليه البلوغ بعد التكليف لاحتجَّ بما طرأ عليه في نفسه من تغيرات لم تكن موجودة حال التكليف .
ثم يقول تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 34 ] { العهد } ما تعاقد الإنسان عليه مع غيره عقداً اختيارياً يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته ، وأول عقد أُبرٍمَ هو العَقْد الإيماني الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً ، وأنت حُرٌّ في أن تدخل على الإيمان بذاتك مختاراً أو لا تدخل ، لكن حين تدخل إلى الإيمان مُخْتاراً يجب أن تلتزم بعهد الإيمان؛ لأن الله لا يريد منّا قوالب تخضع ، ولكن يريد مِنّا قلوباً تخشع ، ولو أراد الله منّا قوالب تخضع ما استطاع واحد مِنّا أنْ يشذّ عن الإيمان بالله .
لذلك خاطب الحق تبارك وتعالى رسوله بقوله :
(1/5185)
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ]
فالله لا يريد أعناقاً ، وإنما يريد قلوباً ، لكن يخلط كثير من الناس إنْ أمرته بأمر من أمور الدين فيقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . } [ البقرة : 256 ]
نقول له : أنت لم تحسن الاستدلال ، المراد : لا إكراه في أنْ تدخل الدين ، ولكن إذا دخلتَ فعليك الالتزام بمطلوباته .
ومن باطن هذا العهد الإيماني تنشأ كل العقود ، لذلك يجب الوفاء بالعهود؛ لأن الوفاء بها جزء من الإيمان ، فأنت حُرٌّ أن تقابل فلاناً أولا تقابله ، إنما إذا عاهدتَه على المقابلة فقد أصبحتَ مُلْزماً بالوفاء؛ لأن المقابل لك قد رتَّبَ نفسه على أساس هذا اللقاء ، فإنْ أخلفتَ معه العهد فكأنك أطلقتَ لنفسه حرية الحركة ، وقيَّدتَ حركة الآخر .
وهذه صفة لا تليق أبداً بالمؤمنين ، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المنافقين .
وقوله : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 34 ]
قد يكون المعنى : أي مسئولاً عنه ، فيسأل كل إنسان عن عهده أوفَّى به أم أخلفه؟
وقد يراد { مَسْؤُولاً } أي : مسئول ممَّنْ تعاقد عليه أنْ يُنقّذه ، وكأنه عدَّى المسئولية إلى العهد نفسه ، فأنا حُرٌّ وأنت حُرٌّ ، والعهد هو المسئول .
والحق سبحانه وتعالى يستعمل اسم المفعول في مواضع تقول للوهلة الأولى أنه في غير موضعه ، ولكن إذا دققتَ النظر تجده في موضعه بليغاً غايةَ البلاغة ، كما في قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ]
هكذا بصيغة اسم المفعول ، والحجاب في الحقيقة ساتر وليس مستوراً ، ولكن الحق سبحانه يريد أنْ يجعلَ الحجاب صفيقاً ، كأنه نفسه مستور بحجاب الغير ، كما يصنع بعض المترفين ستائر البيوت من طبقتين ، فتصبح الستارة نفسها مستورة ، وكما في قوله تعالى : { ظِلاًّ ظَلِيلاً . . } [ النساء : 57 ] أي : أن الظلَّ نفسه مُظَلّلٌ .
وانظر إلى حال المجتمع إذا لم تُرَاعَ فيه العهود ، ولم تُحترمَ المواثيق ، مجتمع يستهين أهله بالوفاء وشرف الكلمة ، فسوف تجده مجتمعاً مُفكّكاً فُقِدت فيه الثقة بين الناس ، وإذا ما فُقِدت الثقة وضاع الوفاء وشرف الكلمة الذي تُدار به حركة الحياة فاعلم أنه مجتمع فاشل ، وليس أَهْلاً لرقيٍّ أو تقدُّم .
ولأهمية العهد في الإسلام نجده ينعقد بمجرد الكلمة ، وليس من الضروري أن يُسجَّل في سجلات رسمية؛ لأن المؤمن تثق في كلمته حتى إن لم تُوثَّق وتكتب .
ومن هنا وُجِد ما يسمونه بالحق القضائي وبالحق الديني ، فيقولون : هذا قضاءً وهذا ديانة ، والفرق واضح بينهما ، ويمكن أن نضرب له هذا المثل :
هَبْ أنك أخذتَ دَيْناً من صديق لك ، وكتب له مستنداً بهذا الدين ليطمئن قلبه ، ثم قابلته بعد أن تيسَّر لك السداد ووفَّيت له بدَيْنه . لكنه اعتذر لعدم وجود المستند معه الآن ، فقلت له : لا عليك أرسله لي متى شئتَ ، فلو تصوَّرنا أنه أراد الغدر بك وأنكر سداد الدين ، فالقضاء يقول : له الحق في أخذ دَيْنه ، أما ديانة فليس له شيء .
إذن : العهد الذي نعقده مع الناس يدخل تحت المسئولية الدينية وليس القضائية .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم . . . } .
(1/5186)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
تنتقل بنا الآيات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع ، هذه القضية هي التي تضمن للإنسان نتيجة عرقه وثمار جهده وتعبه في الحياة ، ويطمئن أنها عائدة عليه لا على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة التي تريد أن تعيش على أكتاف الآخرين وتتغذى على دمائهم .
وبذلك ييأس الكسول الخامل ، ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط ، وأنه إنْ تمادى في خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل ، وبذلك تزداد طاقة العمل ويَرْقى المجتمع ويسعد أفراده .
صحيح في المجتمع الإيماني إيثار ، لكنه الإيثار الإيجابي النابع من الفرد ذاته ، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغَصب فلا مجال لها في هذا المجتمع؛ لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع فلا يتطفل أحد على أحد .
وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التي تتغذى على دماء الإنسان فإن محاربة الطفيليات الآدمية أَوْلَى بهذه المحاربة . فما دُمْتَ قادراً على العمل فيجب أن تعمل ، أما غير القادرين من أصحاب الأعذار فهم على العين والرأس ، ولهم حَقٌ مكفول في الدولة وفي أعناق المؤمنين جميعاً ، وهذا هو التأمين الذي يكفله الإسلام لكل محتاج .
لذلك نقول للغني الذي يسهم في سَدَّ حاجة الفقير : لا تتأفف ولا تضجر إنْ أخذنا منك اليوم؛ لأن الطاقة التي عملت بها واجتهدتَ وجمعتَ هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك ، بل هي هِبَة من الله يمكن أنْ تُنزعَ منك في أي وقت ، وتتبدَّل قوتك ضعفاً وغِنَاك حاجة ، فإنْ حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونُؤمِّن لك مستقبلك .
لذلك على الإنسان أن يعيش في الحياة إيجابياً ، يعمل ويكدح ويُسهِم في رُقيّ الحياة وإثرائها ، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول؛ لأن المجتمع الإيماني لا يُسوِّي بين العامل والقاعد ، ولا بين النشيط والمتكاسل .
وهَبْ أن شقيقين اقتسما ميراثاً بينهما بالتساوي؛ الأول عاش في ماله باقتصاد وأمانة وسَعَى فيه بجدّ وعمل على تنميته ، أما الآخر فكان مُسْرفاً مُنحرفاً بدَّد كل ما يملك وقعد مُتحسّراً على ما مضى ، فلا يجوز أنْ نُسوِّي بين هذا وذاك ، أو نأخذ من الأول لنُعطيَ للآخر ، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول إذا أخذتْ ما ليس لها حمّلها الله ما ليس عليها .
ولذلك لا يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غِنَاه ثمرة عمله وكَدِّه ونتيجة سعيه ، وطالما أنه يسير في ماله سَيْراً معتدلاً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع ، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات ومواهب ، وبكل ما ليده من طموحات الحياة؛ لأن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته شاء أم أبى . فدَعْه يجتهد ، وإنْ كان اجتهاده في الظاهر لنفسه فإنه في الحقيقة يعود عليك أيضاً ، والخير في المجتمع تعود آثاره على الجميع .
(1/5187)
لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبني مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً ، فكم من العمال والصناع ، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع؟ إن الغني لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قُوتاً في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء .
إذن : علينا أنْ ندعَ الغني يجتهد ويسعى؛ لأن المجتمع سوف يستفيد من سَعْيه واجتهاده ، وما عليك إلا أن تراقبه ، فإنْ كان سعيُه في الحق فبها ونعمتْ ، وإنْ كان في غير الحق فلتضرب على يده .
وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلامة الحركة فيها ، يقول تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ . . } [ الإسراء : 35 ]
والحديث هنا لا يخصُّ الكيْل فقط ، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً ، والتي تُقدّر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتُقاسُ بها الأشياء كُلٌّ على حَسْبه ، فالكتاب مثلاً يُقَاس بالسنتيمتر ، والحجرة تُقَاس بالمتر ، أما الطريق فيُقاس بالكيلومتر وهكذا .
إذن : فالتقدير الطُّولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه . هذا في الطوليات ، أما في المساحات فيأتي الطول والعرض ، وفي الأحجام : الطول والعرض والارتفاع . وفي الكُتَل يأتي الميزان .
إذن : فالحياة محكومة في تقديرات الأشياء بالكيْل الذي يُبيِّن الأحجام ، وبالميزان الذي يُبيّن الكتلة؛ لأن الكيْل لا دخلَ له في الكتلة ، إنما الكتلة تُعرف بالميزان ، بدليل أن كيلو القطن مثلاً أكبر بكثير من كيلو الحديد .
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً؛ لذلك يقول تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ . . } [ الإسراء : 35 ] يعني : أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص .
وقد قال تعالى في آية أخرى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1-3 ]
ومعنى المطففين الذين يزيدون ، وهؤلاء إذا اكتالوا على الناس ، أي : أخذوا منهم . أخذوا حَقَّهم وافياً ، وهذا لا لَوْم عليه ، وإنما اللوم على : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ]
أي : إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم { يُخْسِرُونَ } أي : ينقصون . هذا هو موضع الذمِّ ومجال اللوْم في الآية؛ لأن الإنسان لا يُلام على أنه استوفى حَقَّه ، بل يُلام على أنه لم يُسَوِّ بينه وبين الآخرين ، ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أنْ يُعاملوه به .
ونلاحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون في الكَيْل والميزان فحسب ، لكنه أيضاً في السعر ، فالبائع الذي ينقصك الكيلو عشرين جراماً مثلاً فقد بخسَك في الوزن ، وطفَّف عليك في الثمن أيضاً .
ثم يقول تعالى : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم . . } [ الإسراء : 35 ] أي : اجعلوا الوزن دقيقاً مستقيماً لا جَوْرَ فيه .
والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حَقَّه ، هكذا : { وَأَوْفُوا الكيل . . } [ الإسراء : 35 ]
أما في الوزن فقد ركز على دِقَّته ، وجَعَله بالقسطاس ، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم ، إذن : لماذا هذه الدِّقة في الميزان بالذات؟
لو نظرتَ إلى عملية الكيْل لوجدتها واضحة مكشوفة ، قَلَّما يستطيع الإنسان الغِشَّ فيها ، وكثيراً ما ينكشف أمره ويُعلَم تلاعبه؛ لأن الكيْل أمام الأعين والتلاعب فيه مكشوف .
(1/5188)
أما الوزن فغير ذلك ، الوزن مجال واسع للتلاعب ، ولدى التجار ألف طريقة وطريقة يبخسون بها الوزن دون أن يدري بهم أحد؛ لأن الميزان كما نعلم رافعة من النوع الأول ، عبارة عن محور ارتكاز في الوسط ، وكِفَّة القوة في ناحية ، وكِفَّة المقاومة في الناحية الأخرى ، فأيُّ نَقْص في الذراعين يفسد الميزان ، وأيُّ تلاعب في كِفة القوة أو المقاومة يفسد الميزان .
ولو تحدثنا عن ألاعيب البائعين في أسواقنا لطال بنا المقام؛ لذلك أكد الحق سبحانه وتعالى على الدقة في الميزان خاصة؛ لأنه مجال واسع للغشِّ والخداع وأَكْل أموال الناس .
وسبق أن أوضحنا أن ميزان كُلِّ شيء بحسبه ، ويتناسب مع قيمته ونفاسته ، فالذي يزن الجير مثلاً غير الذي يزن اللوز ، غير الذي يزن الذهب أو الألماس؛ لذلك من معاني ( القسطاس المستقيم ) أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون ، فالذي يبيع الذهب مثلاً يزن أشياء ثمينة مهما كانت قليلة في الميزان؛ فإنها تساوي الكثير من المال .
لذلك فإن أهل الخبرة في هذه المسألة يقولون : احذر أن يُدخِل البائع رأسه قريباً من الميزان؛ لأنه قد ينفخ في كِفَّة الميزان ، ولاشكَّ أنك ستخسر كثيراً من جَرَّاء هذه النفخة!!
لذلك نقول لهؤلاء الذين أخذت أيديهم على الغش والخداع في البيع والشراء : أنت تبيع للناس شيئاً واحداً وتغشهم فيها ، وفي الوقت نفسه تشتري أشياء كثيرة من متطلبات الحياة ، فاعلم جيداً أنك إنْ غششْتَ الناس في سلعة واحدة فسوف تُغشّ في مئات السلع ، وأنت بذلك خاسر لا محالة . مهما دارت بك الأوهام والظنون فحسبت أن المسألة في صالحك .
ولا تنسَ أن فوقك قيُّوماً ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا تخفي عليه من أمرك خافية ، وسوف يُسلِّط عليك مَنْ يسقيك بنفس كأسك إلى أنْ تتبينَ لك حقيقة هذه الصفقة الخاسرة؛ لأنك إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمِّي على قضاء السماء ، وسوف تذهب هذه الأموال التي اختلستها من أقوات الناس من حيث أتت ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " .
وكذلك في المقابل : مَنْ صدق الناس ، ووفّى لهم في بيعه وشرائه وتعاملاته يسَّر الله له مَنْ يُوفِّي له ويصدُق معه .
ثم يقول تعالى : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ]
{ ذلك } أي : الوزن بالقسطاس المستقيم خير وأحسن { تَأْوِيلاً } أي : عاقبة ، ومعنى ذلك أن المقابل له ليس خيراً ولا أحسن عاقبة . فالذي يغش الناس ويخدعهم يظن أنه بغشِّه يزيد في ماله ويجلب الخير لنفسه .
(1/5189)
نقول له : أنت واهم ، فليس في الغش والبخس خير سيُجرِّئ الناس عليك فيغشوك ، هذه واحدة ثم لا يلبث الناس أن يكتشفوا تلاعبك في الكيل والميزان فينصرفون عنك ويقاطعونك .
إذن : عدم الوزن بالقِسْطاس المستقيم لا هو خَيْر ، ولا هو أحسن عاقبة .
أما التاجر الصادق الذي يُوفِي الكَيْل والميزان ، فإن الله تعالى ييسر له من يوفي له الكيل والميزان ، وكذلك يشتهر بين الناس بصدقه وأمانته ، فيقبلون عليه ويحرصون على التعامل معه . وهذا هو المراد بقوله تعالى : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] أي : احسن عاقبة . .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . . } .
(1/5190)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى تُنظِّم حركة الحياة والإنسان الذي استخلفه الله في الأرض ووهَبه الحياة وأمدَّه بالطاقات وبمُقَوِّمَات الحياة وضرورياتها .
وبعد أنْ تكفّل له بالضروريات ، دَلّه على الترقِّي في الحياة بالبحث والفكر ، واستخدام العقل المخلوق لله ، والمادة المخلوقة لله بالطاقات المخلوقة لله ، فيُرقِّي ويُثري حياته ومجتمعه .
وحركة الترقِّي والإثراء هذه لا تتمّ إلا على قضية ثابتة واضحة ، فإذا تحركتَ في الحياة بناءً على هذه القضية فسوف تصل إلى النتيجة المرجوّة .
فمثلاً ، الطالب الذي يرغَب في دخول كلية الحقوق مثلاً ، لديه قضية واضحة مجزوم بها ، فعندما يلتحق بالحقوق يجتهد ، ويصل من خلالها إلى طموحاته؛ لأنه سار على ضَوْء قضية اقتنع بها .
إذن : لا بُدَّ أن تُبْنَى حركة الحياة على قضايا ثابتة ، هذه القضايا الثابتة تجعل المتحرِّك في أيِّ حركة واثقاً من أن حركته ستُؤدِّي إلى النتيجة المطلوبة ، فلو أردتَ مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية أو إلى أسوان ، فلن تتحرّك إلا إذا تأكدتَ أن هذا الطريق هو الموصِّل إلى غايتك ، وكذلك حركة الحياة لا يمكن أنْ تتمَّ إلا بناءً على قضايا حقيقية مضبوطة في الكون ، وهذا ما نسميه ( العلم ) .
وقد سبق أن أوضحنا معنى القضية ، وأنها المقولة التي يُحكَم على قائلها بالصدق أو الكذب ، كأن نقول : الأرض كُروية ، أو الشمس مضيئة ، أو القمر منير ، وهذه القضايا تعطيني قضية علمية مجزوماً بها وواقعة ، ويمكن أنْ نُدلِّل عليها . وهذا هو العلم .
أما الجهل فأنْ تجزم بقضية ليست واقعية فهي قضية كاذبة ، وليس الجهل عدم العلم كما يعتقد البعض؛ لأن عدم العلم أمية ، والأميّ ليس عنده قضية لا صادقة ولا كاذبة .
لذلك تجد الأميّ أطوعَ في التعلم من الجاهل؛ لأن الأمي بمجرد أنْ تُعلِّمه قضية ما يأخذها ويتعلمها ، أما الجاهل فيلزمك أولاً أن تُخرِج من ذهنه القضية المخالفة ، ثم تُعلّمه القضية الصادقة .
وقضايا الحياة يمكن أنْ تُقسِّم إلى قسمين :
قضايا تختلف فيها الأهواء .
وقضايا تتفق فيها الأهواء .
فالقضايا التي تختلف فيها الأهواء : هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرةً عنده فقط ، وإنْ كانت ضارة بغيره ، فما دام الأمر قائماً على الأهواء فلا بُدَّ أنْ تختلفَ ، فكُلٌّ له هواه الخاص ، فلو أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبداً .
وصدق الحق تبارك وتعالى حين قال : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض . . } [ المؤمنون : 71 ]
إذن : فما المخرج من هذا الاختلاف والتبايُن؟ المخرَج أن يخرج كل واحد مِنَّا من هوى نفسه أولاً ، ثم نرد القضية التي اختلفتْ فيها أهواؤنا إلى مَنْ لا هوى له .
وربُّكَ سبحانه وتعالى هو وحده الذي لا هَوى له ، ونحن جميعاً خَلْقه ، وكلنا عنده سواء ، ليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة ، فشرع الله واحد للجميع ، ولا غضاضة فالكل خاضع لهذا الشرع مُتّبِع له؛ لأنه شَرْع الخالق سبحانه لا شَرْع أحد من الناس .
(1/5191)
لذلك اشتهر قولهم : " اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم " .
فأنا لم أخضع لك ، وأنت لم تخضع لي ، بل الجميع خاضع لله تعالى مُنصَاع لأمره . إذن : اتركوا قضايا الأهواء لله تعالى يُشرّعها لكم لكي ترتاحوا من تسلُّط بعضكم على بعض .
أما القضايا التي تتفق فيها الأهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصمَّاء التي لا تُجامِل أحداً على حساب أحد ، ولا مانعَ أن تتبعوا الآخرين فيها؛ لأنكم سوف تلتقون عليها قَهْراً ورَغْماً عنكم ، فالمعمل الذي تدخله لتجري التجارب التي توصلك لقضية ما مادية أو كيماوية معمل محايد لا يجامل أحداً .
وقد سبق أن قلنا : إن الكهرباء أو الكيمياء ليس فيها روسي وأمريكي؛ لأن هذه أشياء مادية لا خلافَ عليها ، أما الذي جعل المعسكر الشرقي يختلف والمعسكر الغربي هي القضايا الأهوائية ، فهذا شيوعي ، وهذا رأسمالي .
لذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع بنفسه هذا المبدأ في الوجود الإيماني حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل ، فأشار عليهم بعدم تأبيره ، فأطاعوه ولم يؤبروا النخل في هذا العام ، وكانت النتيجة أن شاص النخل ولم يثمر ، وأثبتتْ التجربة الطبيعية أن ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس صواباً .
يأتي هذا مِمَّنْ؟ من محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله ، الذي يحرص على أن تأتي كل قضاياه صادقة صائبة ، وما كان منه إلا أن قال : " أنتم أعلم بشئون دنياكم " .
ليضع بذلك أُسْوة لعلماء الدين ألاَّ يضعوا أنوفهم في قضايا الماديات ، وقد قال الحق تبارك وتعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ]
ويقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " .
فإنْ أردتَ أنْ تتحرَّك في الحياة حركة سليمة مجدية ، وحركة متساندة مع إخوانك غير متناقضة؛ فالحق سبحانه يقول : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . } [ الإسراء : 36 ] لكي تسير في حركة الحياة على هُدىً وبصيرة .
{ لاَ تَقْفُ } أي : لا تتبع ولا تتدخل فيما لا عِلْم لك به ، كمَنْ يدَّعي مثلاً العلم بإصلاح التليفزيون وهو لا يعلم ، فربما أفسد أكثر مما يُصلح .
ومن هنا قال أهل الفقه : مَنْ قال لا أدري فقد أفتى؛ لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى مَنْ يعلم ، أما لو أجاب خطأ ، فسوف يترتّب على إجابته مَا لا تُحمد عُقْباه ، والذي يسلك هذا المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة .
والفعل ( يَقفْو ) مأخوذ من القفا وهو المؤخرة ، وقد قال تعالى في آية أخرى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } [ الحديد : 27 ] أي : أتبعناهم .
(1/5192)
ويقفو أثره أي : يسير خَلْفه .
وحينما نصح أحدهم رجلاً يريد أنْ يتزوج قال له : لا تتخذها حنَّانة ، ولا منَّانة ، ولا عُشْبة الدار ، ولا كبة القفا . فالحنانة التي لها ولد من غيرك يذكرها دائماً بأبيه فتحِنّ إليه ، والمنّانة التي لديها مال تَمنُّ به عليك ، وعُشْبة الدار هي المرأة الحسناء في المنبَتِ السوء والمستنقع القذر ، وكبَّة القفا هي التي لا تعيب الإنسان في حضوره ، وتعيبه وتذمه في غيبته .
والعلم هنا يُراد به العلم المطلق؛ لأن الكثير من الناس كان يعتقد أن العلم يعني العلم الديني فقط ، لكن العلم هو كل ما يُثري حركة الحياة ، والعلم علمان :
علم ديني ، وهو الذي يقضي على الأهواء ، ويُوحِّدهَا إلى هوىً واحد هو الهَوى الإيماني .
وهذا العلم يتولاّه الخالق سبحانه ، وليس لنا دَخْل فيه؛ لأن الصانع أَدْرى بصنعته ، وهو الذي يضع لها قانون صيانتها؛ لأنه يعلم مَا يصلحها ومَا يفسدها .
وكما أنك لا تذهب إلى الجزار ليضع لك قانون صيانة الإنسان إلا من خالقه عز وجل : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ]
وهذا النوع من العلم قال الله تعالى عنه : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا . . } [ الحشر : 7 ]
فليس لنا أنْ نتدخَّلَ فيه ، أو نزيد عليه؛ لأنه منهج الله الذي جاء ب " افعل ولا تفعل " ، وهو منهج لا يقبل الزيادة أو التعديل ، فما كان فيه أمر ونهي فعليك الالتزام به ، وإلا لو خرجت عن هذا الإطار الذي رسمه لك ربك وخالقك فسوف تحدث في الكون فساداً بترك الأمر أو بإتيان النهي . أما الأمور التي تركها الخالق سبحانه ولم يرد في شأنها أمر أو نهي فأنت حر فيها ، تفعل أو لا تفعل .
والمتأمل في شرع الخالق سبحانه يجد أمور التكليف بافعل ولا تفعل قليلة إذا ما قيست بالأمور التي ترك لك الحرية فيها ، إذن : فدع لربك وخالقك والأعلم بك مجالاً يحكم من خلاله حياتك وينظمها لك ، ألا يجد بنا ونحن عباده وصنعته أن نُحكّمه في أمور ديننا ، ونُخرِج أنوفنا مما اختص به سبحانه؟
أما النوع الآخر من العلم ، فهو العلم المادي التجريبي الذي لا يخضع للأهواء ، فقد جعله الخالق سبحانه مجالاً للبحث والتسابق ، ومضماراً يجري فيه الجميع؛ لأنهم في النهاية سيلتقون فيه قَهْراً ورَغْماً عنهم . وقد أعطانا الحق سبحانه وتعالى مثالاً لهذا النوع من العلم ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ . . } [ فاطر : 27-28 ]
فذكر الحق سبحانه أجناس الوجود كلها : الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والجماد . ثم ختم ذلك بقوله :
(1/5193)
{ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء . . } [ فاطر : 28 ]
فهذه ظواهر الكون ، ارْبَع فيها كما شئت بحثاً ودراسة ، وإنْ أحسنتَ الإمعان فيها فسوف تُوصِّلك إلى ظواهر أخرى تُثري حياتك وتُرقّيها ، فالذي اكتشف عصر البخار ، والذي اكتشف العجلة والكهرباء والجاذبية وغيرها لم يخلق جديداً في كَوْن الله ، إنما أحسن النظر والتأمّل فتوصّل إلى ما يُريح المجتمع ويُسعده .
لذلك ، فالحق سبحانه وتعالى يُحذّرنا أن نمرَّ على ظواهر الكون في إعراض وغفلة ودون تمعُّن فيها : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ]
والذين عبَّروا عن هذه الإنجازات العلمية بكلمة ( الاكتشافات ) كانوا أمناء في التعبير عن الواقع الفعلي ، فهم لم يخلقوا جديداً في الكون ، فكلُّ هذه الأشياء موجودة ، والفضل لهم في الاهتداء إليها واكتشافها ، ومن هنا فكلمة ( اختراع ) ليست دقيقةً في التعبير عن هذه الاكتشافات .
فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبُّع ما ليس لنا به علم ، فماذا نتبع؟ نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم ، فإنْ كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يُقنّنها لنا ، وإنْ كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويُثرِي حياتنا؛ لذلك تكلّم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم ، فقال : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ]
وما دام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع مَا لا نعلم ، وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم اليقيني فلا بُدّ أنْ يسأل المرءُ عن وسائل العلم هذه ، لأنه لولا وسائل الإدراك هذه ما عَلم الإنسانُ شيئاً ، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
وهل يشكر الإنسان إلا على حصيلة أخذها؟ هذه الحصيلة هي العلم .
وهذه الحواس تُؤدِّي عملها في الإنسان بمجرد أنْ تنشأ فيه ، وبعد أنْ يخرجَ إلى الحياة ، والبعض يظنّ أن الطفل الصغير لا يفهم إلا عندما يكبر ويستطيع الكلام والتفاهم مع الآخرين ، والحقيقة أن الطفل يدرك ويعي من الأيام الأولى لولادته .
ولذلك ، فإن علماء وظائف الأعضاء يقولون : إن الطفل يُولَد ولديْه ملكَاتٌ إدراكية سمّاها العلماء احتياطاً " الحواس الخمس الظاهرة " ، وقد كان احتياطهم في محله لأنهم اكتشفوا بعد ذلك حواس أخرى ، مثل حاسة العضل مثلاً التي نُميِّز بها بين الخفيف والثقيل .
وإنْ كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها : السمع والبصر ، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب ، السمع أولاً ، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر ، فالإنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسّة السمع ، أما البصر فإنه يتخلّف عن السمع لعدة أيام من الولادة ، إذن : فهو أسبق في أداء مهمته ، هذه واحدة .
الأخرى : أن السمع هو الحاسَّة الوحيدة التي تُؤدّي مهمتها حتى حال النوم ، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه ، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم .
(1/5194)
وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف ، فلما أراد سبحانه أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطّل حاسة السمع لديهم ، وإلاّ لَمَا تمكَّنوا من النوم الطويل ، ولأزعجتهم الأصوات من خارج الكهف . فقال تعالى : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ]
ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . } [ السجدة : 12 ]
والحديث هنا ليس عن الدنيا ، بل عن الآخرة ، حيث يفزع الناس من هَوْلها فيقولون : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً . . } [ السجدة : 12 ] لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا .
فالسمع أوّل الحواس ، وهو أهمها في إدراك المعلومات ، حتى الذي يأخذ معلوماته بالقراءة سمع قبل أن يقرأ ، فتعلّم أولاً بالسماع ألف باء ، فالسمع أولاً في التعلُّم ، ثم يأتي دَوْر البصر .
والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر ، مثل قوله سبحانه : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار . . } [ السجدة : 9 ]
إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ]
لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟
وقبل أن نُوضِّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو الله تعالى ، وما دام المتكلم هو الله فلا بُدَّ أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها ، بليغة في سياقها .
فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع ، فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعاً ، فهو واحد في جميع الآذان .
أما البصر فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة ، فأنت ترى شيئاً ، وأنا أرى شيئاً آخر ، فَوحْدة السمع لا تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع .
أما في قوله تعالى : { إِنَّ السمع والبصر . . } [ الإسراء : 36 ] فقد ورد البصر هنا مفرداً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية ، مسئولية كل إنسان عن سَمْعه وبصره ، والمسئولية أمام الحق سبحانه وتعالى فردية لا يُسأل أحد عن أحد ، بل يُسأل عن نفسه فحَسْب ، فناسب ذلك أنْ يقول : السمع والبصر؛ لأنه سيُسأل عن بصر واحد وهو بصره .
فالإنسان إذن مسئول عن سَمْعه وبصره وفؤاده من حيث التلقِّي ، تلقّي القضايا العلمية التي سنسير عليها في حركة حياتنا ، وكذلك من حيث الإعطاء ، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للأذن : لا تسمعي إلا خيراً ، ولا تتلقيْ إلا طيّباً ، ويا مُربِّي النشء لا تُسْمِعه إلا ما يدعو إلى فضيلة ، ولا تعط لأذنه إلا ما يصلح حياته ويُثريها .
ويقول للعين : لا ترَىْ إلا الحلال لا يهيج غرائزك إلى الشهوات ، ويا مُربِّي النشء احجب عنه ما يثير الغرائز ويفسد الحياة؛ وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة حياته .
(1/5195)
وما دُمْتَ مسئولاً عن أعضائك هذه المسئولية ، ومحاسباً عنها ، فإياك أنْ تقولَ : سمعت وأنت لم تسمع ، وإياك أنْ تقولَ : رأيت وأنت لم تَرَ ، إياك أنْ تتعرّض لشهادة تُدلي فيها بغير ما تعلم وتتيقن . أو تتبنّى قضية خاطئة وتبني عليها حركة حياتك؛ لأن المبنّي على مقدمات فاسدة ينتج عنه نتائج فاسدة ، وما بُنِي على مقدمات صحيحة أنتج النتيجة الصحيحة .
وجماع هذا كله في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . } [ الإسراء : 36 ] لماذا؟ لأنك محاسب على علمك هذا وعلى وسائل إدراكه لديك : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } .
(1/5196)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
ما زالت الآيات تسير في خطٍّ واحد ، وترسم لنا طريق التوازن الاجتماعي في مجتمع المسلمين ، فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد ، هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع .
والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجاً قويماً لبناء مجتمع متماسك ومتوازن ، يبدأ بقوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ . . } [ الإسراء : 22 ]
وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلّها ، ثم قسّم المجتمع إلى طبقات ، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدَّت مهمتها في الحياة ، وحان وقت إكرامها وردِّ الجميل لها ، فأوصى بالوالدين وأمر ببّرهما .
ثم توجّه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية ، فأوصى بالأولاد ، ونهى عن قتلهم خَوْفَ الفقر والعَوز ، وخَصَّ بالوصية اليتيم؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان .
ثم تكلم عن المال ، وهو قوام الحياة ، واختار فيه الاعتدال والتوسُّط ، ونهى عن طرفَيْه : الإسراف والإمساك . ثم نهى عن الفاحشة ، وخصَّ الزنا الذي يُلوِّث الأعراض ويُفسد النسل ، ونهى عن القتل وسَفْك الدماء .
ثم تحدث عمَّا يحفظ للإنسان ماله ، ويحمي تعبه ومجهوداته ، فأمر بتوفية الكيل والميزان ، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما ، ثم حَثَّ الإنسان على الأمانة العلمية ، حتى لا يقول بما لا يعلم ، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة .
ألم تَرَ أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع ، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه ، إذن : الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض؛ لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أنْ يضع له توازناً اجتماعياً .
وأوّل شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعاً عند الله سواء ، وكلنا عبيده ، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة أو نَسَب ، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط ، لا فَرْق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح .
وإنْ تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي؛ لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلاً : هذا غني ، وهذا فقير .
ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت ، ويَدَعُون غيرها من النواحي الأخرى ، وهذا لا يصح ، بل انظر إلى الجوانب الأخرى في حياة الإنسان ، وإلى الزوايا المختلفة في النفس الإنسانية ، ولو سلكتَ هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان ، وأن الحصيلة واحدة ، وصدق الله العظيم القائل : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ . . } [ الحجرات : 13 ]
وما دام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أنْ يرفعَ رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسةً أو منزلة فوق منزلة الآخرين ، فقال تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً . . } [ الإسراء : 37 ]
أي : فخراً واختيالاً ، أو بَطَراً أو تعالياً؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به ، ويظن أنه أفضل من غيره ، يجب أن يضمن لنفسه بقاء مَا افتخر به ، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه ، لا يذهب عنه ولا يفارقه ، لكن من حكمة الله سبحانه أنْ جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هِبةً له ، وليست أصيلة فيه .
(1/5197)
كل أمور الإنسان بداية من إيجاده من عدم إلى الإمداد من عُدم هي هبة يمكن أنْ تسترد في يوم من الأيام ، وكيف الحال إذا تكبَّرْتَ بمالك ، ثم رآك الناس فقيراً ، أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس عليلاً؟
إذن : فالتواضع والأدب أليَقُ بك ، والتكبُّر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى ، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى ، وكَوْنُ الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا .
ومَنْ أحب أن يرى مساواة الخَلْق أمام الخالق سبحانه ، فلينظر إلى العبادات ، ففيها استطراق العبودية في الناس ، فحينما يُنادَى للصلاة مثلاً ترى الجميع سواسية : الغني والفقير ، والرئيس والمرؤوس ، الوزير مثلاً والخفير ، الكل راكع أو ساجد ، الكل خاضع لله مُتذلّل لله فقير لله ، الكل عبيد لله بعد أنْ خلعوا أقدارهم ، عندما خلعوا نعالهم ، ففي ساحة الرحمن يتساوى الجميع ، وتتجلى لنا هذه المساواة بصورة أوضح في مناسك الحج .
والأهم من هذا أن الرئيس أو الكبير لا يأنف ، ولا يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلُّل ، لماذا؟ لأن الخضوع هنا والتذلُّل لله ، وهذا عين العِزَّة والشرف والكرامة .
ثم يقول تعالى : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } [ الإسراء : 37 ]
في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع ، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المتكبرين ، ولأصحاب الكبرياء الكاذب : كيف تتكبرون وتسيرون فخراً وخيلاء بشيء موهوب لكم غير ذاتي فيكم؟
فأنتم بهذا التكبُّر والتعالي لن تخرقوا الأرض ، بل ستظل صلبة تتحداكم ، وهي أدنى أجناس الوجود وتُدَاس بالأقدام ، وكذلك الجبال وهي أيضاً جماد ستظل أعلى منكم قامةً ولن تطاولوها . والحق سبحانه وتعالى يُوبِّخ عبده المؤمن المكرم ليبقى له على التكريم في : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً . . } [ الإسراء : 37 ]
وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُوبِّخ أهل التكبُّر الكاذب أتى بأَدْنى أجناس الوجود بالأرض والجبال وهي جماد؛ لكنه قد يسمو على الإنسان ويفضُل عليه .
والناظر لأجناس الكون : الجماد والنبات والحيوان والإنسان ، يجد الإنسان ينتفع بكل هذه الأجناس ، فالجماد ينفع النبات ، والحيوان والنبات ينفع الحيوان والإنسان ، والحيوان ينفع الإنسان ، وهكذا جميع الأجناس ُمُسخّرة في خدمة الإنسان ، فما وظيفتك أنت أيها الإنسان؟ ومَنْ تخدم؟
لا بُدَّ أنْ يكون لك دَوْر في الكون ووظيفة في الحياة ، وإلا كانت الأرض والحجر أفضل منك ، فابحثْ لك عن مهمة في الوجود .
وفي فلسفة الحج أمر عجيب ، فالجماد الذي هو أَدْنى الأجناس نجد له مكانة ومنزلة ، فالكعبة حجر يطوف الناس من حوله ، وفي ركنها الحجر الأسعد الذي سَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبيله وهو حجر ، وعليه يتزاحم الناس ويتشرَّفون بتقبيله والتمسُّح به .
(1/5198)
وهذا مظهر من مظاهر استطراق العبودية في الكون ، فالإنسان المخدوم الأعلى لجميع الأجناس يرى الشرف والكرامة في تقبيل حجر .
وكذلك النبات يحْرُم قطعة ، وإياك أن تمتدَّ يدك إليه ، وكذلك الحيوان يحرُم صيْدَه ، فهذه الأشياء التي تخدمني أتى الوقت الذي أخدمها وأُقدِّسها ، وجعلها الحق سبحانه وتعالى مرة في العمر لنلمح الأصل ، ولكي لا يغترَّ الإنسان بإنسانيته ، وليعلم أن العبودية لله تعالى تَسْري في الكون كله .
فإياك أنها الإنسان أن تخدش هذا الاستطراق العبوديّ في الكون بمرح أو خُيَلاء أو تعالٍ .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } .
(1/5199)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
أي : كُلُِّ ما تقدّم من وصايا وتوجيهات بداية من قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ . . } [ الإسراء : 22 ]
وهذه الأمور التي تقدَّمَتْ ، والتي تحفظ للمجتمع توازنه وسلامته فيها السيئ وفيها الحسن ، والسيئ هو المكروه من الله تعالى ، والله تعالى لا يكره إلا ما خالف منهج العبودية له سبحانه ، أما الإنسان فيكره ما يخالف هواه ، ولا يتفق ومزاجه .
وهذه الأوامر والنواهي التي تقدَّمتْ يقولون : إنها الوصايا العَشْر التي نزلت على موسى عليه السلام والمقصود في قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا . . } [ الأعراف : 145 ]
ولذلك يقول الحق سبحانه : { ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة . . . } .
(1/5200)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{ ذَلِكَ } أي : ما تقدّم من الوصايا .
{ الحكمة } هي : وَضعْ الشيء في مَوْضِعه المؤدّي للغاية منه ، لِتظلَّ الحكمة سائدة في المجتمع تحفظه من الخلل والحمْق والسَّفَه والفساد .
وقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ . . } [ الإسراء : 39 ]
لسائل أنْ يسأل : لماذا كرَّر هذا النهي ، وقد سبق أنْ ذُكِر في استهلال المجموعة السابقة من الوصايا؟
الحق سبحانه وتعالى وضع لنا المنهج السليم الذي يُنظِّم حياة المجتمع ، وقد بدأه بأن الإله واحد لا شريكَ له ، ثم عدّل نظام المجتمع كله بطبقاته وطوائفه وأَرْسى قواعد الطُّهْر والعِفّة ليحفظ سلامة النسل ، ودعا إلى تواضع الكُلِّ للكُلِّ .
فالحصيلة النهائية لهذه الوصايا أنْ يستقيم المجتمع ، ويسعد أفراده بفضل هذا المنهج الإلهي .
إذن : فإياك أنْ تجعلَ معه إلهاً آخر ، وكرَّر الحق سبحانه هذا النهي : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ . . } [ الإسراء : 39 ]
لأنه قد يأتي على الناس وقتٌ يُحْسنون الظن بعقول بعض المفكرين ، فيأخذون بأقوالهم ويسيرون على مناهجهم ، ويُفضّلونها على منهج الحق تبارك وتعالى ، فيفتنون الناس عن قضايا دينهم الحق إلى قضايا أخرى يُوهِمون الناس أنها أفضل مما جاء به الدين .
إذن : لا يكفي أن تؤمن أولاً ، ولكن احذر أنْ يُزحزك أحد عن دينك فلا تجعل مع الله إلهاً آخر يفتنك عن دينك ، فتكون النتيجة : { فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 39 ] { مَلُوماً } : لأنك أتيتَ بما تُلاَم عليه ، { مَّدْحُوراً } : أي : مطرود مُبْعَداً من رحمة الله ، وهذا الجزاء في الآخرة .
أما الذي لا يؤمن بها ، فلا بُدَّ لكي نستطيع العيش معه في الدنيا ، أن يُذيقه الله بعض العذاب ، ويُعجِّله له في الدنيا قبل عذاب الآخرة ، كما قال تعالى : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً . . } [ طه : 123-124 ] أي : في الدنيا .
وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في قصة ذي القرنين : { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 86-87 ]
فقوله : { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ . . } [ الكهف : 87 ] لأنه مُمكَّن في الأرض ، ومَنُوط به حِفْظ ميزان الحياة واستقامتها ، حتى عند الذين لا يُؤمنون بالآخرة ، وإلا فلو أخَّرْنا العذاب عن هؤلاء إلى الآخرة لأفسدوا على الناس حياتهم ، وعاثوا في الأرض يُعربِدون ويُفسِدون .
ولذلك لا يموت ظلوم في الكون حتى ينتقمَ الله منه ، ويذيقه عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، ولا بُدَّ أنْ يراه المظلوم ليعلم أن عاقبة الظلم وخيمة ، في حين أن المظلوم في رعاية الله وتأييده ينصره بما يشاء من نعمه وفضله ، حتى أن الظالم لو علم بما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم .
ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً . . . } .
(1/5201)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
لما جعل بعض المشركين لله ولداً ، فمنهم مَنْ قالوا : المسيح ابن الله ، ومنهم مَنْ قالوا : عزير ابن الله ، ومنهم مَنْ قالوا : الملائكة بنات الله ، فوبَّخهم الله تعالى : كيف تجعلون للخالق سبحانه البنات ولكم البنين ، إنها قسمة جائرة ، كما قال الحق سبحانه في آية أخرى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ]
أي : قسمة جائرة ظالمة .
قوله : { أَفَأَصْفَاكُمْ . . } [ الإسراء : 40 ] أي : اصطفاكم واختار لكم البنين ، وأخذ لنفسه البنات؟
ويقول في آية أخرى : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا . . } [ الزخرف : 15 ]
لذلك قال تعالى بعدها : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [ الإسراء : 40 ] فوصف قولهم بأنه عظيم في القُبْح والافتراء على الله ، كما قال في آية أخرى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88-89 ]
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } .
(1/5202)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{ صَرَّفْنَا } أي : حَوَّلْنا الشيء من حال إلى حال ، ومنها قوله تعالى : { وَتَصْرِيفِ الرياح . . } [ البقرة : 164 ]
يعني تغييرها من حال إلى حال ، فمرة : تراها سَكْسكَاً عليلة هادئة ، ومرّة تجدها رُخَاءً أي : قوية ، ومرة : تجدها إعصاراً مدمراً . والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء ، وقد تكون عقيماً لا خير فيها . هذا هو المراد بالتصريف .
فمعنى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن } [ الإسراء : 41 ]
أي : صرف مسألة ادعاء اتخاذ الله الأبناء في القرآن ، وعالجها في كثير من المسائل؛ لأنه أمر مهم عالجه القرآن علاجاتٍ متعددة في مقامات مختلفة من سُوره ، فتكرر ذِكْر هذه المسألة . والتكرار قد يكون في ذات الشيء ، وقد يكون باللَّف بالشيء ، كما في قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . . } [ الرحمن : 13 ]
وقوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ الإسراء : 41 ]
أي : بدلَ أنْ يذكروا ويعودوا إلى جَادّة الصواب ازدادوا إعراضاً ونفوراً . ولنا أن نسأل : لماذا الإعراض والنفور منهم؟
لأنهم أرادوا الاحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل الإسلام ، ولكي نوضح المقصود بالسلطة الزمنية نقول :
لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعيّ الذي وضعه البشر لم يَأْتِ أول الأمر ، بل جاء نتيجة تسلُّط الكهنة ، وكانوا هم أصحاب القانون يضعونَه باسم الدين ، ويلزمون الناس به ، ولكن لُوحِظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم ، ثم بعد فترة يحكمون في نفس القضية بحكم مخالف للأول ، فانصرف الناس عن أحكام الكهنة ، ووضعوا لأنفسهم هذه القوانين الوضعية ، وبذلك أصبح لهؤلاء ما يُسمَّى بالسلطة الزمنية .
وهذه السُّلْطة الزمنية هي التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته ، وكانوا حينما يروْنَ عُبّاد الأصنام في مكة يقولون لهم : سيأتي زمان يُبعث فيه نبي في هذا البلد ، وسوف نتبعه ، ونقتلكم به قتل عاد وإرم ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا .
وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ]
لقد تنكَّر اليهود لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أنهم على يقين من صِدْقه؛ لأن هذه الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية ، وستقضي على السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل الإسلام .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } .
(1/5203)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
أي : لو كان مع الله آلهة أخرى لَطلبتْ هذه الآلهةُ طريقاً إلى ذي العرش .
وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ]
وهذه قضية : إما أنْ تكونَ صادقة ، وإما أن تكون غير ذلك . فإنْ كانت صادقة فقد انتهتْ المسألة ، وإنْ كانت غير صادقة ، وهناك إله ثانٍ ، فأين هو؟ لماذا لم نسمع به؟ فإنْ كان موجوداً ، ولا يدري أو كان يدري بهذه القضية ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض ، ففي كل الأحوال لا يستحق أن يكون إلهاً .
إذن : ما دام أن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية ، ولم يَقُمْ له معارض فقد سَلِمتْ له هذه الدعوى .
وكلمة { ذِي العرش } لا تُقَال إلا لمَنْ استتبَّ له الأمر بعد عِرَاك وقتال ، فيُصنع له كرسي أو سرير يجلس عليه .
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش ، إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته ، فإن غلبوا فقد انتهت المسألة ، وإن غُلبوا فعلى الأقل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ]
أو : يبتغون إليه سبيلاً ، ليكونوا من خَلْقه ومن عبيده؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون . . } [ النساء : 172 ]
ويقول : { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [ الإسراء : 57 ]
فهؤلاء الذين أشركتموهم مع الله فقُلْتم : المسيح ابن الله ، وعزيز ابن الله ، والملائكة بنات الله ، كُلُّ هؤلاء فقراء إلى الله يبتغون إليه الوسيلة ، حتى أقربهم إلى الله وهم الملائكة يبتغون إلى الله الوسيلة فغيرهم إذن أَوْلَى .
وينزِّه الحق سبحانه نفسه ، فيقول : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } .
(1/5204)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
وقوله { سُبْحَانَهُ } يعني تنزيهاً مطلقاً له تعالى في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، فلله تعالى ذات ليست كذاتك ، وله صفات ليست كصفاتك ، وله أفعال ليست كأفعالك؛ لأن الأشياء تختلف في الوجود بحَسْب المُوجِد لها .
فمثلاً : لو بني كُلٌّ من العمدة ، ومأمور المركز ، والمحافظ بيتاً ، فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد للآخر ، بحسب قدرته ومكانته . وكذلك لا بُدَّ من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه ، وبين رَبٍّ ومربوب ، وبين عابد ومعبود .
إذن : كُلُّ الأشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس .
وقوله : { عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] أي : تعالى الله وتنزَّه عَمَّا يقول هؤلاء علواً كبيراً؛ لأن الناس تتفاوت في العلو .
ونلاحظ أن الحق سبحانه اختار ( كبيراً ) ولم يَقُلْ : أكبر . وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه المناسب؛ لأن كبيراً تعني : أن كل ما سواه صغير ، لكن أكبر تعني أن ما دونه كبير أي : مُشَارِك له في الكِبَر .
لذلك نقول في نداء الصلاة : الله اكبر وهي صفة له سبحانه وليست من أسمائه؛ ذلك لأن من أعمال الحياة اليومية ما يمكن أن يُوصَف بأنه كبير ، كأعمال الخير والسعي على الأرزاق ، فهذه كبيرة ، ولكن : الله اكبر .
ثم يقول تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ . . . } .
(1/5205)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
التسبيح : هو حيثية الإيمان بالله؛ لأنك لا تؤمن بشيء في شيء إلاَّ أنْ تثق أن مَنْ آمنت به فوقك في ذلك الشيء ، فأنت لا تُوكِّل أحداً بعمل إلا إذا أيقنتَ أنه أقدر منك وأحكم وأعلم .
فإذا كنت قد آمنت بإله واحد ، فحيثية ذلك الإيمان أن هذا الإله الواحد فوق كل المألوهين جميعاً ، وليس لأحد شبه به ، وإن اشترك معه في مُطْلَق الصفات ، فالله غنيّ وأنت غِنَي ، لكن غنى الله ذاتيّ وغِنَاك موهوب ، يمكن أنْ يُسلب منك في أي وقت .
وكذلك في صفة الوجود ، فالله تعالى موجود وأنت موجود ، لكن وجوده تعالى لا عن عدم ، بل هو وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت .
إذن : فتسبيح الله هو حيثية الإيمان به كإله ، وإلا لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق أن يكون إلهاً .
والتسبيح : هو التنزيه ، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد منْ خَلْقه مَنْ يُنزِّهه ، والحق سبحانه مُنزَّه بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق؛ لأنه خالق قبل أن يخلق ، كما نقول : فلان شاعر ، أهو شاعر لأنه قال قصيدة؟ أم شاعر بذاته قبل أن يقول شعراً؟
الواقع أن الشعر موهبة ، وملَكة عنده ، ولولاها ما قال شعراً ، إذن : هو شاعر قبل أن يقول .
كذلك فصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يوجد الخَلْق .
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة ( سبح ) يجدها بلفظ ( سُبْحان ) في أول الإسراء : { سُبْحَانَ الذي أسرى . . } [ الإسراء : 1 ]
ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه .
ثم بلفظ : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض . . } [ الحديد : 1 ]
بصيغة الماضي ، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط ، بل من السماوات والأرض ، وهي خَلْق سابق للإنسان .
ثم يأتي بلفظ : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . } [ الجمعة : 1 ]
بصيغة المضارع؛ ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي ، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع . إذن : ما دام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق مَنْ يُنزِّهه ، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض ، فلا تكُنْ أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون ، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ]
وقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ . . } [ الإسراء : 44 ]
أي : ما من شيء ، كل ما يُقال له شيء . والشيء هو جنس الأجناس ، فالمعنى أن كل ما في الوجود يُسبِّح بحمده تعالى .
وقد وقف العلماء أمام هذه الآية ، وقالوا : أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين ، وهندسة البناء ، وحكمة الخلق ، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى مُنزَّه ومُتعَالٍ وقادر ، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط؛ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه .
(1/5206)
وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } [ الإسراء : 44 ]
إذن : يوجد تسبيح دلالة فعلاً ، لكنه ليس هو المقصود ، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كُلّ بِلُغتِه .
فقوله تعالى : { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } [ الإسراء : 44 ]
يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون ، إنه تسبيح حقيقيّ ذاتيّ ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس ، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح ، فقد قال تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ . . } [ النور : 41 ]
إذن : كل شيء في الوجود عَلِم كيف يُصلّي لله ، وكيف يُسبِّح لله ، وفي القرآن آياتٌ تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عَالَم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته ، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لُغته ، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها؟
وها هم الناس أنفسهم ولهم في الأداء القوليّ لغة يتفاهمون بها ، ومع ذلك تختلف بينهم اللغات ، ولا يفهم بعضهم بعضاً ، فإذا ما تكلم الإنجليزي مع أنه يتكلم بألفاظ العربي ومع ذلك لا يفهمه؛ لأنه ما تعلَّم هذه اللغة .
واللغة ظاهرة اجتماعية ، بمعنى أن الإنسان يحتاج للغة؛ لأنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه ليعطيه ما عنده من أفكار ، ويسمع ما عنده من أفكار فلا بُدَّ من اللغة لنقل هذه الأفكار ، ولو أن الإنسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة؛ لأنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة .
واللغة لا ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة؛ لأنك لو أتيتَ بطفل إنجليزي مثلاً ، ووضعتَه في بيئة عربية سيتكلم العربية؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة؛ لذلك إذا لم تسمع الأذن لا تستطيع أن تتكلم ، ومن ذلك قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ . . } [ البقرة : 18 ]
فهم بُكْم لا يتكلمون؛ لأنهم صُمٌّ لم يسمعوا شيئاً ، فإذا لم يسمع الإنسان اللفظ لا يستطيع أن يتحدثَ به؛ لأن ما تسمعه الأذن يحكيه اللسان .
إذن : بالسماع انتقلتْ اللغة ، وكُلٌّ سمع من أبيه ، ومن البيئة التي يعيش فيها ، فإذا ما سلسلْتَ هذه المسألة ستصل إلى آدم عليه السلام وهنا يأتي السؤال : وممَّنْ سمع آدم اللغة التي تكلم بها؟
وقد حلَّ لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ]
وأكثر من ذلك ، فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ولا تفهم عنه ما يقول ، واللغة هي اللغة ، كما حدث مع أبي علقمة النحوي ، وكان يتقعَّر في كلامه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة ، وقد أتعب بذلك مَنْ حوله ، وخاصة غلامه الذي ضاق به ذَرْعاً لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر .
ويُروَي أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلامه : ( أَصَقَعَتِ العَتَارِيفُ ) ؟ فردَّ عليه الغلام قائلاً : ( زقْفَيْلَم ) .
(1/5207)
وكانت المرة الأولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة ، فقال : يا بني وما ( زقْفَيْلَم ) ؟ قال : وما ( صقعت العتاريف ) ؟ قال : أردتُ : أصاحت الديكة؟ فقال الغلام : وأنا أردتُ لم تَصِحْ .
إذن : فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد؟ ألم يكْفِنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات ، وإنْ كنا لا نفهمها؛ لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط ، ولكن اللغة أوسع من ذلك .
فهناك مثلاً لغة الإشارة ، ولغة النظرات ، ولغة التلغراف .
إذن : اللغة ليست اللسان فقط ، بل هي استعداد لاصطلاح يُفْهم ويُتعارف عليه ، فالخادم مثلاً يكفي أن ينظرَ إليه سيّده نظرة يفهم منها ما يريد ، فهذه النظرة لَوْنٌ من ألوان الأداء .
والآن بدأنا نسمع عن قواميس يُسجّل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول .
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عَالَم لغة يتفاهم بها ، كما في قوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ . . } [ الأنبياء : 79 ]
فالجبال تُسبّح مع داود ، وتُسبِح مع غيره ، ولكن المراد هنا أنها تُسبّح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه ، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة . إذن : فلا بُدَّ أن داود عليه السلام قد فَهِم عنها وفهمتْ عنه .
وكذلك النملة التي تكلمتْ أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها ، وتبسَّم ضاحكاً من قولها . وقد علَّمه الله منطقَ الطير . إذن : لكل جنس من الأجناس منطق يُسبّح الله به ، ولكن لا نفقه هذا التسبيح؛ لأنه تسبيح بلغة مُؤدِّية مُعبّرة يتفاهم بها مَنْ عرف التواضع عليها .
وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقاً ينقاد له الجميع ، حتى الكافر ينقاد لتنزيه الله قَهْراً عنه ، مع أن لديه ملكةَ الاختيار بين الكفر أو الإيمان ، لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه مُطْلقاً من الجماد والنبات والحيوان ، ومن المؤمن والكافر . كيف ذلك؟
أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة ( الله ) فهو عَلَم على واجب الوجود ، ثم تحدّى الكافرين أنْ يُسمُّوا أحداً بهذا الاسم ، فقال : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ]
ومع ما عندهم من إِلْفٍ بالمخالفة وعناد بالإلحاد ، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أنْ يُسمِّي ابناً له بهذا الاسم ، ومعلوم أن التسمية أمر اختياريّ يطرأ على الجميع .
إذن : فهذا تنزيه لله تعالى ، حتى من الكافر رَغْماً عنه ، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله ، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبُّه به؛ ذلك لأنهم في كفرهم غير مقتنعين بالكفر ، ويخافون بطش الله وانتقامه إنْ أقدموا على هذا العمل ، لذلك لا يجرؤ أحد منهم أنْ يُجرِّب في نفسه مثل هذه التسمية .
وفي مجال العبادات ، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد ، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى؛ لأن الناس كثيرا ما يتقربون لأمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة الله تعالى ، فمنهم مَنْ ينحني خضوعاً لغيره؛ كأنه راكع أو ساجد ، ومنهم مَنْ يمدح جباراً بأنه لا مثيلَ له ، وتصل به المبالغة إلى جَعْله إلهاً في الأرض ، ومنهم مَنْ يسجدُ للشمس كما فعل أهل سبأ وأخبر الهدهد عنهم بقوله :
(1/5208)
{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } [ النمل : 24 ]
ألسْنَا نرى إنساناً يتقرّب لأحد الحكام ، بأن ينفق فيما يحبه هذا الحاكم ، وكأنه يُخرِج زكاة ماله؟ ألسْنا نرى أحدهم يذهب كل يوم إلى قصر سيده ، ويُوقّع في سجل التشريفات باسمه ليقدم بذلك فروض الولاء والطاعة؟
إذن : فالإيمان بالوحدانية في شيء متميز وارد عند الناس ، والخضوع الزائد بالسجود أو بالركوع أو بالكلام وارد عند الناس .
لذلك تفرّد الحق سبحانه بفريضة الصوم ، وجعلها خالصة له سبحانه ، لا يتقرب بها أحد لأحد ، وهل رأيت إنساناً يتقرّب لآخر بصوم؟ فانظر إلى هذه السُّبْحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه ، فلا يجرؤ أحد أنْ يتسمى باسمه .
وفي العبادة لا يُصَام لأحد غيره تعالى ، فلو تصوَّرنا أن يقول واحد للآخر : أنا سأتقرّب إليك بصوم هذا اليوم أو هذا الشهر ، إذن : أنت تريد منه أن يجلس بجوارك يحرسك ويراعي صومك ، فكأنك تريد له العنت والمشقة من حيث تريد أنت أنْ تتقرّب إليه .
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " .
يعني من الممكن أن يتقرب بأيِّ ركن من أركان الإسلام لغيري ، إلا الصوم ، فلا يجرؤ أحد أنْ يتطوّع به أو يتقرب به لأحد .
إذن : فالسُّبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخَلْق؛ لذلك نقول للكافر : أيها الكافر لقد تأبَّيْتَ على الإيمان بالله ، وللعاصي : لقد تأبيتَ على أوامر الله ، وما دُمْتُم قد تأبيتم على الله ، وألفتم هذا التأبِّي وهذا التمرد ، فلماذا لا تتأبون على المرض إنْ أصابكم ، وعلى الموت إنْ طرق بابكم؟
لماذا لا تتمرد على ملك الموت وتقول له : لن أموت اليوم؟! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى حتى على الكافر ، فلا يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد .
وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادّة ، وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الاختلاس أو التعدِّي على المال العام ، فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبواباً للإنفاق تبتلع ما جمع من الحرام ، وربما أخذت في طريقها الحلال أيضاً ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " .
فالتسبيح إذن لغة الكون كله ، منه ما نفهمه ، ومنه ما لا نفهمه ، إلا مَنْ أطلعه الله عليه ، فإذا مَنَّ الله على أحد وعلّمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد ، فهمها وفقه عنها ، كما أنعم بهذه النعم على داود وسليمان عليهما السلام .
(1/5209)
ويقول سليمان عليه السلام شاكراً هذه النعمة : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ } [ النمل : 19 ]
فقول الحق سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ . . } [ الإسراء : 44 ]
يجب على العلماء أنْ ينقلوها من خاطر الدلالة إلى خاطر المقالة أيضاً ، ولكنها مقالة ، ولكنها مقالة بلغة يفهمها أصحابها إذا شاء الله لهم ذلك .
ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً . . } [ الإسراء : 44 ]
لأن الإنسانَ كثيراً ما يغفل الاستدلال بظواهر الكون وآياته دلالة الحال ، فيقف على قدرة الله وبديع صُنْعه ، وكذلك كثيراً ما يغفل عن تسبيح الله تسبيح المقالة؛ لذلك أخبر سبحانه أنه حليمٌ لا يعاجل الغافلين بالعقوبة ، وغفور لمن تاب وأناب .
وهذا من رحمته سبحانه بعباده ، فلولا أنْ يتداركَ الله العباد بهذه الرحمة لكان الإنسان سيد الكون أقلّ حظاً من الحيوان ، ويكفي أن تتدبر قوله تعالى عن تسبيح المخلوقات له سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . } [ الحج : 18 ]
فها هي جميع الأجناس من جماد ونبات وحيوان تسجد لله لا يتخلف منها شيء ، فهي تسجد وتُسبّح بالإجماع ، ولم ينقسم الأمر إلا في الإنسان السيّد المكرّم ، ولكن لماذا الإنسان بالذات هو الذي يشذُّ عن منظومة التسبيح في الكون؟
نقول : لأنه المخلوق الوحيد الذي مَيَّزَهُ الله بالاختيار ، وجعل له الحرية في أنْ يفعل أو لا يفعل ، أما باقي المخلوقات فهي مُسخّرة مقهورة ، فإن قال قائل : لماذا لم يجعل الحق سبحانه وتعالى الإنسان أيضاً مقهوراً كباقي المخلوقات؟
لقد جعل الله تعالى في الإنسان الاختيار لحكمة عالية ، فالقهر يُثبتُ للحق سبحانه صفة القدرة على مخلوقه ، فإذا قهره على شيء لا يشذ ولا يتخَلف ، ولكنه لا يثبت صفة المحبوبية لله تعالى .
أما الاختيار فيثبت المحبوبية لله؛ لأنه خلقك مختاراً تؤمن أو تكفر ، ومع ذلك اخترْتَ الإيمان حُباً في الله تعالى ، وطاعة وخضوعاً ، فأثبتَّ بذلك صفة المحبوبية .
وإياك أن تظن أن مَنْ يَعْصي الله يعصيه قهراً عن الله ، بل بما ركَّب فيه من الاختيار ، وقد يقول قائل : وما ذنب الإنسان أن يكون مختاراً من بين جميع المخلوقات؟
لو حققتَ هذه القضية منطقياً وفلسفياً لوجدتَ الكون كله كان مختاراً ، وليس الإنسان فقط ، لكن اختارت جميع المخلوقات أنْ تُسلِّم الأمر لله ، وفضَّلتْ أن تكون مقهورة مسخرة من البداية ، أما الإنسان ففضَّل الاختيار ، وقال : سأعمل بحرص ، وسأحمل الأمانة بإخلاص ، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }
(1/5210)
[ الأحزاب : 72 ]
وفي رَفْض هذه المخلوقات لتحمُّل الأمانة والاختيار دليل على العلم الواسع؛ لأنه يوجد فَرْق كبير بين قبول الأمانة وقت التحمُّل ووقت الأداء . فقد تتحمل الأمانة وأنت واثق من أدائها ، لكن يطرأ عليك وقت الأداء مَا يحول بينك وبين أداء الأمانة .
والأمانة كما هو معروف لا تُوثَّق ولا تُكتب ، وكثيراً ما يقع فيها التلاعب؛ لأنها لا تثبتُ إلا بذمّّة الآخذ الذي قد يضعف عن الأداء وتُلجِئه الأحداث إلى هذا التلاعب أو الإنكار ، والأحداث قد تكون أقوى من الرجال .
فالإنسان إذن لا يضمن نفسه وقت الأداء ، وإنْ كان يضمنها وقت التحمُّل ، ولهذا اختارت جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مُسيَّرة ، أما الإنسان فقال : لي عقل وأستطيع التصرُّف والترجيح بين البدائل ، فكان بذلك ظالماً لنفسه؛ لأنه لا يضمنها وقت الأداء ، وجهولاً بما يكون من تغيُّر أحواله .
فالكون إذن ليس مقهوراً رَغْماً عنه ، بل بإرادته واختياره ، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رَغْماً عنه ، بل بإرادته واختياره .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } .
(1/5211)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
الحق سبحانه وتعالى يعدل الأشياء تنفيذاً لأشياء أخرى ، ويصنع أحداثاً أوّلية لتكون بمثابة المقدمة والتمهيد لأحداث أخرى أهم منها . وكفار مكة ما ادَّخروا وُسْعاً ، وما تركوا وسيلة من وسائل الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتنكيل به إلا فعلوها .
ومع ذلك لم يُفَاجأ بها رسول الله ، ولم تُثبِّط من عزيمته ، لماذا؟ لأنه كان مُتوقِّعاً لكل هذا الإيذاء ، ولديه من سوابق الأحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد .
فالمسألة لم تُفاجئ رسول الله؛ لأنه عرفها حتى قبل أن يُبعث ، فحينما جاءه جبريل للمرة الأولى في الغار ، وعاد إلى السيدة خديجة فَزِعاً ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوف ، فطمأنه بأن هذا هو الناموس الإلهي ، وأنه صلى الله عليه وسلم سيكون مبعوث السماء إلى الأرض ، وأنه نبيُّ هذه الأمة ، وقال فيما قال : ليتني أكون حياً حين يُخرِجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أَمُخرجيّ هم؟ " .
قال : نعم ، لم يأتي رجل بمثل ما جئتَ به إلا عودِي ، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .
إذن : فالحق سبحانه وتعالى حَصَّن رسوله صلى الله عليه وسلم ضد ما سيأتي من أحداث؛ لكي يكون على توقُّع لها ، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدتْ الانهيار ، وأعطاه الطُّعْم المناسب للداء قبل حدوثه؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث ، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادْلهَمتْ الخطوب ، وضاق الخناق عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه .
والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وما داموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا ، هي فرصتهم الوحيدة ، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها ، ولا يؤخرون منها شيئاً ، فإنْ أجَّل المؤمن بعض مُتَعِه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلامَ يؤجل الكفار مُتعهم؟
إذن : الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة .
فإذا جاء رسول بمنهج ليعدل حركة الناس لتنسجم مع الكون ، فلا بُدّ أن يثور هؤلاء الكفار الحريصون على شهواتهم ومكانتهم ، لا بُدَّ أنْ يصادموا هذه الدعوة ، ويقاوموها في ذات الرسول وفي منهجه ، في ذاته بالإيذاء ، وفي دعوته ومنهجه بصَرْف الناس عنه ، ألم يقل الكفار لمن يَرَوْن عنده مَيْلاً للإسلام : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ]
وقولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن . . } [ فصلت : 26 ]
شهادة منهم بصدق القرآن الكريم ، وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها ، وإلا لما قالوا هذا القول .
وقولهم : { والغوا فِيهِ . . } [ فصلت : 26 ]
أي : هرَّجوا وشَوِّشوا عليه حتى لا يصل إلى آذان الناس ، إذن : هم واثقون من صدق رسول الله وصدق دعوته ، وقد دَلَّتْ تصرفاتهم على ذلك ، فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الكعبة ، ويجلس بجوارها يُدندِن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع القرآن ، والتلذُّذ بروعته وبلاغته .
(1/5212)
فقوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ]
يُرْوَى أن أبا جهل ، وأبا سفيان ، وأبا لهب ، وأم جميل كانوا يتابعون رسول الله ، ويتنصتون عليه وهو يقرأ القرآن ليروْا ما يقول ، وليجدوا فرصة لإيذائه صلى الله عليه وسلم ، فكان الحق سبحانه يصمُّ آذانهم عن سماع القرآن ، فالرسول يقرأ وهم لا يسمعون شيئاً ، فينصرفون عنه بغيظهم .
وكأن الحق سبحانه يريد من هذه الواقعة أن تكون تمهيداً لحدث أهم ، وهو ما كان من رسول الله ليلة الهجرة ، ليلة أنْ بيَّتوا له القتل بضربة رجل واحد ، فتحرسه عناية الله وتقوم له : اخرج عليهم ولا تخف ، فإن الذي جعلك تقرأ وجعل بينك وبينهم حجاباً فلا يستمعون إليك ، هو الذي سينزل على أعينهم غشاوة فلا يرونك .
ومع إحكام خيوط هذه المؤامرة لم يخرج الرسول من بينهم صامتاً يحبس أنفاسه خَوْفاً ، بل خرج وهو يقول " شاهت الوجوه " وهو لا يخشى انتباههم إليه ، وأكثر من ذلك : يأخذ حفنة من التراب ويذروها على وجوههم ، إنها الثقة واليقين في نصره وتأييده .
وقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ]
الحجاب : هو المانع من الإدراك ، فإنْ كان للعين فهو مانع للرؤية ، وإنْ كان للأذن فهو مانع للسمع .
وكلمة { مَّسْتُوراً } اسم مفعول من الستر ، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى ( ساتراً ) ، وهذا من قبيل المبالغة في الستر والإخفاء ، فالمعنى أن الحجاب الذي يمنعهم من سماعك أو رؤيتك هو نفسه مستور ، فإن كان الحجاب نفسه مستوراً ، فما بالُكَ بما خلفه؟
ولاشكَّ أن الذِّهْن سينشغل هنا بالحجاب المادي ، لكن هذا الحجاب الذي يتحدث عنه الحق سبحانه حجاب معنويّ ولا يراه أحد ، كما في قوله تعالى : { رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [ الرعد : 2 ]
فلو قال : بغير عَمَد وسكت فقد نفى وجود عمد للسماء وانتهت المسألة ، وأدخلناها تحت قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] فالأمر قائم على قدرة الله دون وجود عَمَدٍ تحمل السماء .
لكن قوله سبحانه : { تَرَوْنَهَا } تجعل المعنى صالحاً لأنْ نقول بغير عَمَد ، وأنتم ترونها كذلك ، فننظر هنا وهناك فلا نجد للسماء عمداً تحملها ، أو نقول : إن لها عمداً لكِنَّا لا نراها ، فهي عَمَد معنوية ، فلا ينصرف ذهنك إلى ما نقيمه نحن من عَمد المسلح أو الرخام أو الحديد .
وفي هذا ما يدُكُّ الغرور في الإنسان ، ليعلم أنه لا يدرك إلا ما أذن الله له في إدراكه ، وأن حواسَّ الإدراك لديه قد تتوقف عن هذا الإدراك ، فليس معنى أنها مدركة أن تظل مدركة دائماً ، فليس لها طلاقة لتفعل ما تشاء ، بل الحق سبحانه وتعالى يعطيها هذه القدرة ، أو يسلبها إياها .
(1/5213)
فالقدرة الإلهية هي التي تُسيِّر هذا الكون ، وتأمر كل شيء بأن تُؤدِّي مهمته في الحياة ، وإنْ شاء عطّلها عن أداء هذه المهمة؛ لذلك نرفض قول الفلاسفة أن الحق سبحانه وتعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة ، بأن جعل فيه النواميس والقوانين ، وهي التي تحكم العالم وتُسيِّره .
ففي قصة موسى عليه السلام أنه سار بجيشه ، يطارده فرعون وجنوده حتى وصل إلى شاطئ البحر فأصبح البحر من أمامه ، وفرعون من خلفه حتى قال أصحاب موسى : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . . } [ الشعراء : 61 ]
فأين المفر ، وهاهو البحر من أمامنا ، والعدو من خلفنا؟ وهذا كلام منطقي مع واقع الحديث البشري ، لكن الأمر يختلف عند موسى عليه السلام فقال بملء فيه : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ]
فهل قالها موسى برصيد بشري؟ لا ، بل بما عنده من ثقة في ربه ، وهكذا انتقلت المسألة إلى ساحة الخالق سبحانه ، فقال لنبيه موسى : { فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ]
فخرق الله لموسى قانون سيولة الماء واستطراقه ، ويتجمد الماء ، ويصير كالجبل ويتحول البحر إلى يابسة ، ويعبر موسى وقومه إلى الناحية الأخرى ، وتنشرح صدورهم بفرحة النجاة ، ويأخذ موسى عليه السلام عصاه ليضرب البحر ليعود إلى طبيعته ، وحتى لا يعبره فرعون ويلحق به ، لكن الحق سبحانه يأمره ، أن يتركه على حاله : { واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان : 24 ]
فعندما نزل فرعون وجنوده البحر واكتمل عددهم في قاعه أطلق الخالق سبحانه للماء قانون سيولته ، فأطبق على فرعون وجنوده ، وكانت آيةً من آيات الله ، شاهدة على قدرته سبحانه ، وأنه إنْ شاء أنجى وأهلك بالشيء الواحد ، وشاهدة على قيوميته تعالى على خَلْقه ، فليس الأمر كما يقولون أمر قانون أو ناموس يعمل ، ويدير حركة الكون ، فكل المعجزات التي مرَّتْ في تاريخ البشرية جاءت من باب خرق النواميس .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً . . . } .
(1/5214)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
ومعنى { أَكِنَّةً } جمع كِنَان ، وهو الغطاء ، وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الأكنة وهذه الحجب التي غلَّفَتْ قلوبهم في قوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ . . } [ فصلت : 5 ]
الكون كله خَلْق الله ، والإنسان سيد هذا الكون ، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه ، حتى وإنْ كان كافراً لا يزال يتقلّب في عطاء الربوبية ، فلا يُحرم منها الكافر بكفره ولا عاص بمعصيته ، بل كما قال تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ . . } [ الإسراء : 20 ]
وسبق أنْ فرَّقنا بين عطاء الربوبية المتمثّل في كل نِعَم الحياة وبين عطاء الألوهية ، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً ، وافعل ولا تفعل .
إذن : عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع ، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمُّل في هذه النعم التي تُسَاق إليه دون سَعْي منه أو مجهود ، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء ، هل له قدرة عليها؟ هل تعمل له بأمره ، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله ، وسخّرها بقدرته من أجله ، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى؟
وسبق أنْ ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السُّبُل في صحراء ، حتى أوشك على الهلاك ، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب ، ألاَ تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتدَّ إليها يده؟
وكذلك الكافر الذي يتقلَّب في نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى ، وقد طرأ على الكون فوجده مُعدّاً لاستقباله مُهَيئاً لمعيشته ، فكان عليه أنْ يُجري عملية الاستدلال هذه ، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعِم .
والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عَمَّنْ كفر ، بل إن الكافر حين يتمكَّن الكفر منه ويُغلق عليه قلبه يساعده الله على ما يريد ، ويزيده مما يحب ، كما قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً . . } [ البقرة : 10 ]
إذن : فقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً . . } [ الإسراء : 46 ] لم تَأْتِ من الله ابتداءً ، بل لما أحبُّوا هم الكفر ، وقالوا عن أنفسهم : قلوبنا في أكنة ، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً ، وطالما أنهم يحبونه فَلْنُزدهم منه .
ثم يقول تعالى : { أَن يَفْقَهُوهُ . . } [ الإسراء : 46 ]
أي : كراهية أنْ يفقهوه؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رَغْماً عنهم ، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة ، فالله لا يريد منا قوالبَ تخضع ، بل يريد قلوباً تخشع ، وإلا لو أرادنا قوالبَ لما استطاع أحد منا أنْ يشذَّ عن أمره ، أو يمنع نفسه من الله تعالى ، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته .
(1/5215)
وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ]
فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول ، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك ، إذن : فالله تعالى يريد القلوب ، يريدها طائعة محبة مختارة ، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكِنّة على قلوبهم ، وأحبُّوها وانشرحت صدورهم بالكفر ، فزادهم الله منه .
ثم يقول تعالى : { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً . . } [ الإسراء : 46 ]
{ وَقْراً } أي : صَمم ، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً؛ لأنه ما فائدة السمع؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب ، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية ، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأنه به صَمماً .
وقوله تعالى : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً . . } [ الإسراء : 46 ]
لماذا ولو على أدبارهم نفوراً؟ لأنك أتيتَ لهم بما يُخوِّفهم ويُزعجهم ، وبالله لو أن قضيةَ الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرّات التكوين ، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله؟ فَمِمّا يخافون وهم لا يؤمنون بالله ، ولا يعترفون بوجوده تعالى؟
إذن : ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع ، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة ، فإذا بهم يُولُّون مدبرين في خَوْفٍ ونُفور .
ثم يقول الحق سبحانه : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى . . . } .
(1/5216)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
الحق سبحانه وتعالى لا يَخْفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهذه حقيقة كان على الكفار أنْ ينتبهوا إليها ويُراعوها ، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله ، فقد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } [ المجادلة : 8 ]
فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول : فهم قالوا في أنفسهم ، ولم يقولوا لأحد ، فمَنْ أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع ، ومَنْ أطلعه عليه؟ أَلاَ يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله؟
وما دام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال ، ولا يَخْفَى عليه شيء ، فهو أعلم بأحوالهم هذه : الأول : يستمعون إليك . والثاني : وإذ هم نجوى . والثالث : إذ يقول الظالمون . إذن : هم يستمعون ثم يتناجون ، ثم يقول بعضهم لبعض .
قالوا : إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حُبٍّ للغة وشغف بأساليب البيان؛ لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه ، لتكون أوضح في التحدي ، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل .
وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة ، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج ، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها ، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن ، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مُرْهفة للأسلوب وملَكة عربية أصيلة ، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها ، ولديه منهج سيُقوِّض مملكة السيادة التي يعيشون فيها .
ومن هنا كابروا وعاندوا ، ووقفوا في وجه هذه الدعوة ، وإنْ كانوا مُعْجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من مَلَكات عربية .
فيُرْوَى أن كباراً مثل : النضر بن الحارث ، وأبي سفيان ، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس ممن كانوا يقولون لهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] كانوا يذهبون إلى البيت يتسمَّعون لقراءة القرآن ، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول ، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه ، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً مُتسلّلاً مُتخفّياً ، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية ، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حُبٍّ لسماع القرآن .
فقال تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ . . } [ الإسراء : 47 ]
أي : بالحال الذي يستمعون عليه ، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب . ثم : { وَإِذْ هُمْ نجوى . . } [ الإسراء : 47 ] من التناجي وهو الكلام سِرّاً ، أو : أن نَجْوى جمع نجى ، كقتيل وقَتْلى ، وجريح وجَرْحى .
فالمعنى : نحن أعلم بما يستمعون إليه ، وإذ هم متناجون أو نجوى ، فكأن كل حالهم تناجٍ .
وقوله : { وَإِذْ هُمْ نجوى . . } [ الإسراء : 47 ]
فيه مبالغة ، كما تقول : رجل عادل ، ورجل عَدْل .
(1/5217)
ومِنْ تناجيهم مَا قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن : " والله ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسلفه لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه " .
ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهم : { إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ]
وهذا هو القول المعْلَن عندهم ، أن يتهموا رسول الله بالسحر مرة ، وبالجنون أخرى ، ومرة قالوا : شاعر . وأخرى قالوا : كاهن . وهذا كله إفلاس في الحجة ، ودليل على غبائهم العقديّ .
وكلمة { مَّسْحُوراً } اسم مفعول من السحر ، وهي تخييل الفِعْل . وليس فعلاً ، وتخييل القَوْل وليس قولاً ، فهي صَرْف للنظر عن إدراك الحقائق ، أما الحقائق فهي ثابتة لا تتغير .
لذلك نقول : إن معجزة موسى عليه السلام من جنس السحر وليست سِحْراً؛ لأن ما جرى فيها كان حقيقة لا سِحْراً ، فقد انقلبتْ العصا حَيَّة تبتلع حبال السحرة وعِصيّهم على وَجْه الحقيقة ، لكن لما كانت المعجزة في مجال السحر ظنها الناسُ سِحْراً؛ لأن القرآن قال في سحرة فرعون : { سحروا أَعْيُنَ الناس } [ الأعراف : 116 ] وقال في آية أخرى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ]
إذن : فحقيقة الأشياء ثابتة لا تتغير ، فالساحر يرى العصا عصا ، أما المسحور فيراها حية ، وليست كذلك مسألة موسى عليه السلام وليؤكد لنا الحق سبحانه هذا المعنى ، وأن ما حدث من موسى ليس من سحرهم وتغفيلهم أنه حينما قال له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ]
فأطال موسى عليه السلام الكلام؛ لأنه أحب الأُنْس بالكلام مع ربه تعالى فأجاب : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي . . . } [ طه : 18 ] ثم أحس موسى أنه أطال فقال موجزاً : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ]
فهذا هو مدى عِلْمه عن العصا التي في يده ، لكن الله تعالى سيجعلها غير ذلك ، فقال له : { قَالَ أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 19-20 ]
فهل خُيِّل لموسى أنها حيَّة وهي عصا؟ أم أنها انقلبت حيّة فعلاً؟ إنها حية فعلاً على وجه الحقيقة ، بدليل قوله تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } [ طه : 67 ]
وموسى لم يَخَفْ إلا لأنه وجد العصا حيّة حقيقية ، ثم طمأنه ربه : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طه : 68 ]
لذلك لما رأى السحرة ما تفعله عصا موسى علموا أنها ليست سحراً ، بل هي شيء خارج عن نطاق السحر والسحرة ، وفوق قدرة موسى عليه السلام ، فآمنوا بربِّ موسى القادر وحده على إجراء مثل هذه المعجزة .
وقوله تعالى : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ]
أي : سحره غيره . وهذا قوْل الظالمين الذين يُلفِّقون لرسول الله التهمة بعد الأخرى ، وقد قالوا أيضاً : ساحر . قال تعالى : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 2 ]
فمرّة قُلْتم : ساحر . ومرة قلتم : مسحور . وهذا دليل التخبُّط واللَّجج ، فإن كان ساحراً فعندكم من السحرة كثيرون ، فلماذا لا يُواجِهونه بسحر مثل سِحْره؟ ولماذا لم يسحركم أنتم كما سحر غيركم وتنتهي المسألة؟ وهل يمكن أن يُسْحر الساحر؟
وإنْ كان مسحوراً سحره غيره ، فهل جرَّبْتُم عليه في سحره كلاماً مخالفاً لواقع؟ هل سمعتموه يهذي كما يهذي المسحور؟ إذن : فهذا اتهام بطل وقول كاذب لا أصل له ، بدليل أنكم تأبَّيتم عليه ، ولم يُصِبْكم منه أذى .
(1/5218)
فلما أخفقوا في هذه التهمة ذهبوا إلى ناحية أخرى فقالوا : شاعر ، وبالله أَمِثْلُكم أيها العرب ، يا أربابَ اللغة والفصاحة والبيان يَخْفي عليه أن يُفرِّق بين الشعر والنثر؟ والقرآن وأسلوب متفرد بذاته ، لا هو شعر ، ولا هو نثر ، ولا هو مسجوع ، ولا هو مُرْسل ، إنه نسيج وحده .
لذلك نجد أهل الأدب يُقسِّمون الكلام إلى قسمين : كلام الله وكلام البشر ، فكلام البشر قسمان : شعر ونثر ويخرج كلام الله تعالى من دائرة التقسيم؛ لأنه متفرد بذاته عن كل كلام .
فلو قرأت مثلاً في كتب الأدب تجد الكاتب يقول : هذا العدل محمود عواقبه ، وهذه النَّبْوة غُمّة ثم تنجلي ، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه ، أو تأخر غير ضنين غناؤه ، فأبطأُ الدِّلاَء فَيْضاً أحفلُها ، وأثقل السحائب مَشْياً أحفلها ، ومع اليوم غد ، ولكلِّ أجل كتاب ، له الحمد على احتباله ، ولا عتب عليه في احتفاله .
فإِنْ يَكن الفِعْلُ الذي سَاءَ وَاحِداً ... فأَفْعالُه الَّلائِي سُرِرْنَ أُلُوفُ
فلا شكَّ أنك ستعرف انتقالك من النثر إلى الشعر ، وسوف تُميِّز أذنك بين الأسلوبين ، لكن أسلوب القرآن غير ذلك ، فأنت تقرأ آياته فتجدها تناسب انسياباً لا تلحظ فيه أنكَ انتقلتَ من نثر إلى شعر ، أو من شعر إلى نثر ، واقرأ قول الله تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم } [ الحجر : 49 ]
أَجْرِ عليه ما يُجريه أهل الشعر من الوزن ، فسوف تجد بها وزناً شعرياً : مستفعل فاعلات . . وكذلك : { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } [ الحجر : 50 ] تعطيك الشطر الثاني من البيت ، لكن هل لاحظتَ ذلك في سياق الآيات؟ وهل لاحظتَ أنك انتقلت من شعر إلى نثر ، أو من نثر إلى شعر؟
إذن : فالقرآن نسيج فريد لا يُقال له : شعر ولا نثر ، وهذا الأمر لا يَخْفى على العربي الذي تمرَّس في اللغة شعرها ونثرها ، ويستطيع تمييز الجيِّد من الرديء .
ثم يقول الحق سبحانه : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } .
(1/5219)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
أي : تعجَّبْ مما هم فيه من تخبُّط ولَجج ، فمرَّة يقولون عن القرآن : سحر ومرة يقولون : شعر ، ويصفونك بأنك : شاعر ، وكاهن ، وساحر .
ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلاثة : مُرسِل ، وهو الحق سبحانه وتعالى ، ومُرسَل وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومُرْسَلٌ به وهو القرآن الكريم ، وقد تخبّط الكفار في هذه الثلاثة ودعاهم الظلم إلى أن يقول فيها قولاً كاذباً افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه .
وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
وقولهم عن القضية الإيمانية العامة : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ]
أهذه دعوة يدعو بها عاقل؟! فبدل أنْ يقولوا : فاهدنا إليه تراهم يُفضّلون الموت على سماع القرآن ، وهذا دليل على كِبْرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله .
لذلك ، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم ورِفْعة منزلته حتى عند الكافرين به ، يردُّ على الكافرين افتراءهم ، ويُطمئِن قلب رسوله ، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ . . } [ الأنعام : 33 ]
أي : قولهم لك : ساحر ، وكاهن ، وشاعر ، ومجنون { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ]
فليست المسألة عندك يا محمد ، فهُمْ مع كفرهم لا يكذبونك ولا يجرؤن على ذلك ولا يتهمونك ، إنما المسألة أنهم يجحدون بآياتي ، وكُلٌّ تصرفاتهم في مقام الألوهية ، وفي مقام النبوة ، وفي مقام الكتاب ناشئة عن الظلم .
وقولهم عن رسول الله : مجنون قوْلٌ كاذب بعيد عن الواقع؛ لأن ما هو الجنون؟ الجنون أن تُفسِد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل ، والجنون قد يكون بسبب خَلْقي أي : خلقه الله تعالى هكذا ، أو بسبب طارئ كأنْ يُضربَ الإنسان على رأسه مثلاً ، فيختلّ عنده مجال التفكير .
ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخَّرَ له التكليف إلى سِنَّ البلوغ واكتمال العقل ، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله؛ لأنه لو كلّفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها ، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سِنِّ التكليف لِيُعَوِّده الصلاة من الصغير ليكون على إِلْفٍ بها حين يبلغ سِنّ التكليف ، وليألف صيغة الأمر من الآمر .
والإنسان لا يشك في حُبّ أبيه وحِرْصه على مصلحته ، فهو الذي يُربّيه ويُوفّر له كل ما يحتاج ، فله ثقة بالأب المحس ، فالحق سبحانه يريد أنْ يُربِّبَ فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا ، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق؛ لأنها أصبحتْ عادة .
(1/5220)
والذي أعطى للأب حَقَّ الأمر أعطاه حَقّ العقاب على ترْكه ليكون التكليف من الرب الصغير ، والعقوبة من الرب الصغير لِتُعوِّده بالأُبُوة المحسَّة والرحمة الظاهرة على طاعة الحق سبحانه الذي أنعم عليَّ وعليك .
فالعقل إذن شرْط أساسي في التكليف ، وهو العقل الناضج الحرّ غير المكْره ، فإنْ حدث إكراه فلا تكليف .
فقوله : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال . . } [ الإسراء : 48 ]
أي : قالوا مجنون ، والمجنون ليس عنده اختيار بين البدائل ، وقد رَدَّ الحق سبحانه عليهم بقوله : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1-4 ]
فنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة ، وأثبت له صفة الخُلق العظيم ، والمجنون لا خُلقَ له ، ولا يُحاسَب على تصرفاته ، فهو يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا ، ولا نملك إلا أنْ نبتسم في وجهه ونُشفِق عليه .
ولقائل أنْ يقول : كيف يسلبه الخالق سبحانه وتعالى نعمة العقل ، وهو الإنسان الذي كرّمه الله؟ وكيف يعيش هكذا مجرد نسخة لإنسان؟
ولنعلم الحكمة من هذه القضية علينا أنْ نُقارن بين حال العقلاء وحال المجنون ، لنعرف عدالة السماء وحكمة الخالق سبحانه ، فالعاقل نحاسبه على كل كبيرة وصغيرة ومقتضى ما تطلبه من عظمة في الكون ، ومن جاه وسلطان ألاَ يُعقّب على كلامك أحد ، وأنْ تفعلَ ما تريد .
أَلاَ ترى أن المجنون كذلك يقول ويفعل ما يريد ، ثم يمتاز عنك أن لا يسأل في الدنيا ولا في الآخرة؟ أليست هذه كافية لتُعوِّضه عن فقد العقل؟ فلا تنظر إلى ما سلب منه ، ولكن إلى ما أعطاه من مَيْزات في الدنيا والآخرة .
وقوله تعالى : { فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ]
أي : لم يستطيعوا أنْ يأتُوا بمثَلٍ يكون صَاداً وصارفاً لمن يؤمن بك أنْ يؤمن ، فقالوا : مجنون وكذبوا . وقالوا : ساحر وكذبوا وقالوا : شاعر وكذبوا . وقالوا : كاهن وكذبوا . فَسُدّتْ الطرق في وجوههم ، ولم يجدوا مَنْفَذاً لِصَدِّ الناس عن رسول الله .
فلما عجزوا عن إيجاد وَصْف يصدُّ مَنْ يريد الإيمان برسول الله ، قالوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ]
ومنهم من قال : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
فلم يستطيعوا إيجاد سبيل يُعَوقون به دعوتك ، بدليل أنه رغم ضَعْف الدعوة في بدايتها ، ورغم اضطهادهم لها تراها تزداد يوماً بعد يوم ، وتتسع رُقْعة الإيمان ، أما كَيْدهم وتدبيرهم فيتجمّد أو يقلّ .
كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا . . } [ الرعد : 41 ]
فكل يوم تزداد أرض الإيمان ، وتِقلُّ أرض الكفر .
والحق سبحانه وتعالى في قضية استماع القرآن وقولهم : قلوبنا في أكنة ، وقلوبنا غلف يريد أن يُلفِتَ أنظارنا إلى قضية هامة في الوجود ومنتظمة في كل الكائنات ، وهي أن الأفعال تقتضي فاعلاً للحدث وقابلاً لفعل الحدث ، ومثال ذلك : الفلاح الذي يُقلِّب التربة بفأسه ، فتقبل التربة منه هذا الفعل ، وتنفعل هي معه ، فتعطيه ما ينتظره من محصول .
(1/5221)
. أما لو فعل هذا الفعل في صخرة فلن تقبل منه هذا الفعل . إذن : فثمرة الحدث تتوقف على طرفين : فاعل ، وقابل للفعل .
لذلك أتعجب من هؤلاء الذين يقولون : إن الغرب يفتن المسلمين عن دينهم ، ويأتي إلينا بالمغْريات وأسباب الانحراف ، ويُصدّر إلينا المبادئ الهدامة ويُشككنا في ديننا . . الخ .
ونقول لهؤلاء : مَا يضركم أنتم إنْ فعل هو ولم تقبلوا أنتم منه هذا الفعل؟! دَعُوه يفعل ما يريد ، المهم ألاَّ نقبلَ وألاَّ نتفاعلَ مع مقولاته ومبادئه . فالخيبة ليست في فعل الغرب بنا ، ولكن في تقبُّلنا نحن ولَهْثنا وراء كُلِّ ما يأتينا من ناحيته ، وما ذلك إلا لِقلّة الخميرة الإيمانية في نفوسنا ، فالغرب يريد أنْ يُثبِّت نفوذه ، ويثبت مبادئه ، وما عليك إلاّ أنْ تتأبّى على قبول مثل هذه الضلالات .
وعلى نظرية الفاعل والقابل هذه تُبنَى الحضارات في العالم كله؛ لأن الخالق سبحانه حينما استدعانا إلى الوجود جعل لنا فيه مُقوِّمات الحياة الأساسية من : شمس ، وقمر ، ونجوم ، وأرض ، وسماء ، وماء ، وهواء . ومن هذه المقوّمات ما يعطيك ويخدمك دون أنْ تتفاعَل معه أو تطلبَ منه ، كالشمس والماء والهواء ، ومنها ما لا يعطيك إلاَّإذا تفاعلتَ معه مثل الأرض لا تعطيك إلا إذا تعهدتها بالحرث والسَّقْي والبَذْر .
والمتأمل في الكون يجد أن جميع ارتقاءات البشر من هذا النوع الثاني الذي لا يعطيك إلا إذا تفاعلتَ معه ، وقد ترتقي الطموحات البشرية إلى أن تجعلَ من النوع الأول الذي يعطيك دون أن تتفاعلَ معه ومن غير سلطان لك عليه ، تجعل منه مُنْفَعِلاً بعملك فيه ، كما يحدث الآن في استعمال الطاقة الشمسية في مجالات جديدة لم تكُنْ من قبل . إذن : فهذه ارتقاءاتٌ لا يُحْرَم منها مَنْ أخذ بالأسباب وسَعَى إلى الرُّقيّ والتقدم .
إذن : إنْ جاء يُشكِّك في دينك نَدَعْهُ ، وما يقول فليس بملوم ، إنما الملوم أنت إنْ قبلْتَ منه؛ ولذلك يجب علينا وعلى كُلّ قائم على تربية النشء أنْ نُحصِّن أولادنا ضد هجمات الإلحاد والتنصير والتغريب ، ونُعلِّمهم من أساسيات الدين ما يُمكِّنهم من الدفاع والردِّ بالحجة والإقناع حتى لا يقعوا فريسة سَهْلة في أيدي هؤلاء .
وهذه هي المناعة المطلوبة وما أشبهها بما نستخدمه في الماديات من التطعيم ضد المرض ، حتى إذا طرأ على الجسم لا يؤثر فيه . ألاَ ترى الحق سبحانه في قرآنه الكريم يَعْرِض لِشُبَه الكافرين والملاحدة ويُفصِّلها ويُناقشها ، ثم يبين زَيْفها ، فيقول : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [ الكهف : 5 ]
فلماذا يعرضها القرآن ، هل لنأخذ بها ونتعلمها؟ لا بل لكي لا نُفَاجأ بها ، فإذا أَتَتْ يكون لدينا المناعة الكافية ضِدّها ، ولكي تتربّى فينا الحصانة المانعة من الانزلاق أو الانحراف .
(1/5222)
إذن : فأصول الحياة فاعل وقابل ، وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا : في الشتاء ينفخ الإنسان في يده ليدفئها ، وكذلك ينفخ في كوب الشاي ليبرده ، فالفعل واحد ولكن القابل مختلف . وكذلك حال الناس في سماع القرآن واستقبال كلمات الله ، فقد استقبله أحد الكفار في حال هدوء وانسجام ، فقال :
" والله إنَّ له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغْدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه " لقد استمعه بملكَة العربي الشَّغُوف بكل ما هو جميل من القَوْل ، لا بملَكِة العناد والكِبْر والغطرسة .
وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه له حالان في سماع القرآن : حال كفر وشدة وغلظة عند سماع القرآن ، وحال إيمان ورقَّة قلب حينما بلغه نبأ إسلام أخته ، فأسرع إليها وهي تقرأ القرآن فصفَعها بقسْوة حتى أَدْمَى وجهها ، فأخذتْه عاطفة الرحم ، وتغلبت على عاطفة الكفر عنده ، فلما سمع القرآنَ بهذه العاطفة الحانية تأثَّر به ، فآمن مِنْ فَوْره؛ لأن القرآن صادف منه قَلْباً صافياً ، فلا بد أَنْ يُؤثِّر فيه .
فالمسألة إذن تحتاج أن يكون لدى القابل استعداد لِتقبُّل الشيء والانفعال به .
وقد لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً . . } [ محمد : 16 ]
فيأتي الرد عليهم : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ]
وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى . . } [ فصلت : 44 ]
فالقرآن واحد ، ولكن المستقبل مختلف ، إذن : فإياك أنْ تلوم مَنْ يريد أن يلويَ الناس إلى طريق الضلال ، بل دَعْه في ضلاله ، ورَبِّ في الآخرين مناعة حتى لا يتأثروا ولا يستجيبوا له .
بعد أن تكلمنا عن موقف الكفار من الألوهية ومن النبوة نتكلم من موقفهم من المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا المنهج يتضمن قضايا كثيرة وأموراً متعددة ، لكن أم هذا المنهج وأساسه أن نؤمن بالآخرة ، وما دُمْنَا نؤمن بالآخرة فسوف تنسجم حركتنا في الحياة . فالإيمان بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب هو الحافز لنا على العمل والاستقامة في الدنيا ، وما أشبه ذلك بالتلميذ الذي يجتهد ويجدّ؛ لأنه يؤمن بالامتحان آخر العام ، وما ينتج عنه من توفيق أو إخفاق .
غبيّ مَنْ يظن أن الدنيا هي نهاية المطاف ، وأنها الغاية التي ليس بعدها غاية؛ لأن الجميع عبيدٌ لله تعالى متساوون . . ومع ذلك نرى مَنْ يموت في بطن أمه ، ومَنْ يموت بعد عدة شهور ، وآخر بعد عدة أعوام ، فلو أن الدنيا هي الغاية لاستوى الجميع في المكْث فيها ، فاختلاف الأعمار في الدنيا دليل على أنها ليست غاية .
(1/5223)
وعجيب في أمر الموت أن نرى الناس يحزنون كثيراً على مَنْ مات صغيراً ويقولون : أُخِذ في شبابه ويُكثِرون عليه العويل ، لماذا؟ يقولون : لأنه لم يتمتع بالدنيا ، سبحان الله أي دنيا هذه التي تتحدثون عنها ، وقد اختاره الله قبل أنْ تُلوّثه آثامها وتُلطّخه ذنوبها ، لماذا تحزنون كل هذا الحزن ولو رأيتم ما هو فيه لحسدتموه عليه؟
والناس كثيراً ما يُخطِئون في تقدير الغايات؛ لأن كل حَدَث يُحدِثه الإنسان له غاية من هذا الحدث ، هذه الغاية مرحلية وليست نهائية ، فالغاية النهائية والحقيقية ما ليس بعدها غاية أخرى ، فالتلميذ يذاكر بالمرحلة الابتدائية لينتقل إلى المرحلة الإعدادية ، ويذاكر الإعدادية لينتقلَ إلى الثانوية .
وهكذا تتوالى الغايات في الدنيا إلى أنْ يصل إلى غاية الدنيا الأخيرة ، وهي أن يبني بيتاً ويتزوج ويعيش حياة سعيدة يرتاح فيها بما تحت يديه من خدم ، يقضون له ما يريد ، هذا على فرض أنه سيعيش حتى يكمل هذه المراحل ، ولكن ربما مات قبل أنْ يصلَ إلى هذه الغاية .
إذن : فلا بد للإنسان أنْ يتعبَ أولاً ، ويبذل المجهود ليصبح مخدوماً ، وهذه المخدومية تتناسب مع مجهودك الأول ، فَمن اكتفى بالإعدادية مثلاً ليس كمن تخرّج من الجامعة ، فلكُلٍّ مرتبته ومكانته؛ لأنك تعيش في الدنيا بالأسباب وعلى قَدْر ما تعطي تأخذ .
إذن : فغايتك في الدنيا أن تكون مخدوماً ، مع أن خادمك قد يتمرَّد عليك وقد يتركك ، أما غاية الآخرة فسوف تُوفّر عليك هذا كله ، وليس لأحد علاقة بك إلا ذاتك أنت ، فبمجرد أنْ يخطر الشيء على بالك تجده أمامك؛ ذلك لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب ، وفي الآخرة تعيش بمُسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى .
وكذلك لو أجريتَ مقارنة اقتصادية بين متعة الدنيا ومتعة الآخرة لرجحَتْ كِفّة الآخرة؛ لأن الدنيا بالنسبة لك هي عمرك فيها فقط ، وليس عمر الدنيا كله ، كما يحلو للبعض أنْ يُحدِّد عمر الدنيا بعدة ملايين من السنين ، فما دَخْلك أنت بكل هذه الملايين؟!
فالدنيا إذن هي عمري فيها ، وهذا العمر مظنون غير مُتيقّن ، وعلى فرض أنه مُتيقّن فهو خاضع لمتوسط الأعمار ، وسوف ينتهي حتماً بالموت . أَضِفْ إلى ذلك أن نعيمك في الدنيا على قَدْر سَعْيك وأَخْذِك بأسبابها .
أما الآخرة فهي باقية لا نهاية لها ، فلا يعتريها زوال ولا يُنهيها الموت ، كما أن مُدتها مُتيقّنة وليس مظنونة ، ونعيمك فيها ليس على قَدْر إمكانياتك ، ولكن على قدر إمكانيات خالقك سبحانه وتعالى .
فأيّهما أحسن؟ وأيُّهما أَوْلَى بالسَّعْي والعمل؟ ويكفي أنك في الدنيا مهماً توفَّر لك من النعيم ، وإنْ كنت في قمة النعيم بين أهلها فإنه يُنغّص عليك هذا النعيمَ أمران : فأنت تخاف أنْ تفوتَ هذا النعيم بالموت ، وتخاف أن يفوتك هو بالفقر ، فهي نعمة مُكدّرة ، أما في الآخرة فلا تخاف أن تفوتها ، ولا أن تفوتك ، فأيُّ الصفقتين أربح إذن؟
ثم يقول الحق سبحانه عن إنكارهم للبعث بعد الموت : { وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } .
(1/5224)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
الاستفهام في الآية استفهام للتعجّب والإنكار لموضع البعث يوم القيامة بعد أنْ صاروا رُفَاتاً وعظاماً .
والرفات : هو الفتات ومسحوق الشيء ، وهو التراب أو الحُطَام ، وكذلك كل ما جاء على وزن ( فُعال ) .
لقد استبعد هؤلاء البعث عن الموت؛ لأنهم غفلوا في بداية الوجود وبداية خَلْق الإنسان ، ولو استعملنا علم الإحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية الإيمانية ، فلو أحصينا تعداد العالم الآن لوجدناه يتزايد في الاستقبال ويقلّ في الماضي ، وهكذا إلى أنْ نصل بأصل الإنسان إلى الأصل الأصيل ، وهو آدم وحواء ، فمن أين أتَيَا إلى الوجود؟ فهذه قضية غيبية كان لا بُدَّ أن يُفكّروا فيها .
ولأنها قضية غيبية فقد تولَّى الحق سبحانه وتعالى بيانها؛ لأن الناس سوف يتخبّطون فيها ، فينبهنا الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز ، حتى لا ننساق وراء الذين سيتهورون ويَهْرفون بما لا يعلمون ، ويقولون بأن أصل الإنسان كان قرداً ، وهذه مقولة باطلة يسهُل رَدُّها بأن نقول : ولماذا لم تتحول القرود الباقية إلى إنسان؟ وعلى فرض أن أصل الإنسان قرد ، فمن أين أتى؟ إنها نفس القضية تعود بنا من حيث بدأتْ ، إنها مجرد شوشرة وتشويه لوجه الحقيقة بدون مبرر .
وكذلك من القضايا التي تخبَّط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والأرض والشمس كانت جميعاً جزءاً واحداً ، ثم انفصلت عن بعضها ، وهذه أقوال لا يقوم عليها دليل .
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يعطينا طرفاً من هذه القضية ، حتى لا نُصغِي إلى أقوال المضلِّلين الذين يخوضون في هذه الأمور على غير هدى ، ولتكون لدينا الحصانة من الزَّلَل؛ لأن مثل هذه القضايا لا تخضع للتجارب المعملية ، ولا تُؤخَذ إلا عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق .
يقول تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ . . } [ الكهف : 51 ] أي : لم يكن معي أحد حين خلقتُ السماء والأرض ، وخلقتُ الإنسان ، ما شهدني أحد لِيَصِفَ لكم ما حدث { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] أي : ما اتخذت من هؤلاء المضللين مُساعِداً أو مُعاوِناً ، وكأن الحق سبحانه يقول لنا : احكموا على كل مَنْ يخوض في قضية الخَلْق هذه بأنه مُضلّل فلا تستمعوا إليه .
ولكي تُريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا لا تُحمِّلوا العقل أكثر مما يحتمل ، ولا تعطوه فوق مقومات وظائفه ، وجَدْوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية ، أما إنْ جنح بنا فلا نجني من ورائه إلا الحُمْق والتخاريف التي لا تُجدي .
وكلمة " العقل " نفسها من العقال الذي يمنع شرود البعير ، وكذلك العقل جعله الله ليضبط تفكيرك ، ويمنعك من الجموح أو الانحراف في التفكير .
وأيضاً ، فالعقل وسيلة الإدراك ، مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية ، والأذن التي هي وسيلة السمع .
(1/5225)
. وما دام العقل آلة من آلات الإدراك فله حدود ، كما أن للعين حدوداً في الرؤية ، وللأذن حدوداً في السمع ، فللعقل حدود في التفكير أيضاً حتى لا يشطح بك ، فعليك أنْ تضبط العقل في المجال الذي تُجوِّد فيه فقط ، ولا تُطلق له العنان في كُلِّ القضايا .
ومن هنا تعب الفلاسفة وأتعبوا الدنيا معهم؛ لأنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل ، وأنا أتحدى أي مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلاسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إلا قضية واحدة ، وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة ، فَمنِ الذي أخبرك أن وراء المادة شيئاً يجب أن يُبحث؟
لقد اهتديتُم بفطرتكم الإيمانية إلى وجود خالق لهذا الكون ، فليس الكون وليد صدفة كما يقول البعض ، بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها ، وتَرْمَحُون بعقولكم خلفها ، في حين كان من الواجب عليكم أنْ تقولوا : إن ما وراء المادة هو الذي يُبين لنا نفسه .
لقد ضربنا مثلاً لذلك ولله المثل الأعلى وقلنا : هَبْ أننا في مكان مغلق ، وسمعنا طَرْق الباب فكلنا نتفق في التعقُّل أن طارقاً بالباب ، ولكن منا مَنْ يتصور أنه رجل ، ومنا مَنْ يتصوّر أنه امرأة ، وآخر يقول : بل هو طفل صغير ، وكذلك منا مَنْ يرى أنه نذير ، وآخر يرى أنه بشير . إذن : لقد اتفقنا جميعاً في التعقُّل ، ولكن اختلفنا في التصوُّر .
فلو أن الفلاسفة وقفوا عند مرحلة التعقُّل في أن وراء المادة شيئاً ، وتركوا لمن وراء المادة أنْ يُظهر لهم عن نفسه لأراحوا واستراحوا ، كما أننا لو قُلْنا للطارق : مَنْ؟ لقال : أنا فلان ، وجئت لكذا ، وانتهتْ المسألة .
ولقد رَدَّ عليهم القرآن إنكارهم للبعث وقولهم : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ]
بقوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ } [ يونس : 34 ]
وبقوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ]
وبقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ . . } [ الروم : 27 ] فإعادة الشيء أهون من خَلْقه أَوّلاً .
وقف الفلاسفة طويلاً أمام قضية البعث ، وأخذوا منها سبيلاً لتشكيك الناس في دين الله ، ومن مغالطاتهم في هذه المسألة أنْ قالوا : ما الحل إذا مات إنسان مثلاً ثم تحوَّل جسمه إلى رفات وتراب ، ثم زُرِعَتْ فوقه شجرة وتغذَّت على عناصره ، فإذا أكل إنسان من ثمار هذه الشجرة فسوف تنتقل إليه بالتالي عناصر من عناصر الميت ، وتتكوّن فيه ذرات من ذراته ، فهذه الذرات التي تكوّنت في الثاني نقُصَتْ من الأول ، فكيف يكون البعث إذن على حَدِّ قَوْلهم؟
والحقيقة أنهم في هذه المسألة لم يفطِنُوا إلى أن مُشخّص الإنسان شيء ، وعناصر تكوينه شيء آخر .
(1/5226)
. كيف؟
هَبْ أن إنساناً زاد وزنه ونصحه الطبيب بإنقاص الوزن فسعى إلى ذلك بالطرق المعروفة لإنقاص الوزن ، وهذه العملية سواء زيادة الوزن أو إنقاصه محكومة بأمرين : التغذية والإخراج ، فالإنسان ينمو حينما يكون ما يتناوله من غذاء أكثر مما يُخرِجه من فضلات ، ويضعف إن كان الأمر بعكس ذلك ، فالولد الصغير ينمو لأنه يأكل أكثر مِمّا يُخرِج ، والشيخ الكبير يُخرِج أكثر مِمّا يأكل؛ لذلك يضعف .
فلو مرض إنسان مرضاً أَهْزَلَهُ وأنقص من وزنه ، فذهب إلى الطبيب فعالجه حتى وصل إلى وزنه الطبيعي ، فهل الذرات التي خرجتْ منه حتى صار هزيلاً هي بعينها الذرات التي دخلتْه حين تَمَّ علاجه؟ إن الذرات التي خرجتْ منه لا تزال في ( المجاري ) ، لم يتكون منها شيء أبداً ، إنما كميّة الذرّات ومقاديرها هي التي تقوي وتشخص .
وربنا سبحانه وتعالى رحمة منه ، قال : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] فالحق سبحانه سيجمع الأجزاء التي تُكوِّن فلاناً المشخّص .
ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } .
(1/5227)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
أي : قُلْ ردّاً عليهم : إنْ كُنتم تستبعدون البعث وتَسْتصعبِونه مع أنه بَعْثٌ للعظام والرُّفات ، وقد كانت لها حياة في فترة من الفترات ، ولها إِلْف بالحياة ، فمن السهل أنْ نعيدَ إليها الحياة ، بل وأعظم من ذلك ، ففي قدرة الخالق سبحانه أنْ يُعيدكم حتى وإنْ كنتم من حجارة أو من حديد ، وهي المادة التي ليس بها حياة في نظرهم .
وكأن الحق سبحانه يتحدَّاهم بأبعد الأشياء عن الحياة ، ويتدرج بهم من الحجارة إلى الحديد؛ لأن الحديد أشدّ من الحجارة وهو يقطعها ، فلو كنتم حجارة لأعدْناكم حجارة ، ولو كنتم حديداً لأعدْناكم حديداً .
ثم يترقّي بهم إلى ما هو أبعد من ذلك ، فيقول تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } .
(1/5228)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
قوله تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ . . } [ الإسراء : 51 ] أي : هاتوا الأعظم فالأعظم ، وتوغّلوا في التحدِّي والبُعْد عن الحياة ، فأنا قادر على أنْ أهبَ له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها .
وقوله : { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ . . } [ الإسراء : 51 ]
يكبر : أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر . ومنه قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ] أي : عَظُمت . والمراد : اختاروا شيئاً يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك ، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد ، فَهُما أبعد الأشياء عن الحياة ، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد . ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية الأمر إلى أنْ يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء ، يكون أعظمَ استبعاداً من الحجارة والحديد .
ونلاحظ في قوله تعالى : { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ . . } [ الإسراء : 51 ] جاء هذا الشيء مُبْهَماً؛ لأن الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلفٌ فيه ، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى ، فجاءت الآية مُبْهمة ليشيع المعنى في نفس كُلّ واحد كل على حَسْب ما يرى .
بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً رضي الله عنه ، وكرّم الله وجهه عن أقوى الأجناس في الكون ، وقد علموا عن الإمام عليّ سرعة البديهة والتمرُّس في الفُتْيَا ، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها .
دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة ، منهم من يقول : الحديد أقوى . ومنهم من يقول : بل الحجارة . وآخر يقول : بل الماء ، فأفتاهم الإمام في هذه القضية ، وانظر إلى دِقّة الإفتاء واستيعاب العلم ، فلم يَقُل : أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله ، لا بل حصرها أولاً ، فقال : أشد جنود الله عشرة .
فالمسألة ليست ارتجالية ، بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه ، مُرتَّبة في تفكيره ، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه ، وأخذ يعدّ هذه العشرة ، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعدَّه جيداً .
قال : " أشد جنود الله عشرة ، الجبال الرواسي ، والحديد يقطع الجبال ، والنار تذيب الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء ، والريح يقطع السحاب ، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته ، والسكر يغلب ابن آدم ، والنوم يغلب السكر ، والهم يغلب النوم ، فأشد جنود الله في الكون الهم " .
فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ . . } [ الإسراء : 51 ] فاختاروا أيّاً من هذه الأجناس ، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثتكم كما كنتم أحياء .
(1/5229)
ثم يقول تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الإسراء : 51 ]
أي : أن الذي خلقكم بدايةً قادرٌ على إعادتكم ، بل الإعادة أَهْوَن من الخَلْق بدايةً ، ولكن الجواب لا يكون مُقنِعاً إلا إذا كانت النتيجة التي يأتي بها الجواب مُسلّمة . فهل هم مقتنعون بأن الله تعالى فطرهم أوّل مرة؟
نعم ، هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم كُفْرهم ، بدليل قولهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] فهم مقتنعون بذلك ، ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا : مَنْ يُعيدنا؟ فإنْ قلت لهم : الذي فطركم أول مرة . { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ . . } [ الإسراء : 51 ]
معنى يُنغِض رأسه : يهزُّها من أعلى لأسفل ، ومن أسفل لأعلى استهزاءً وسخريةً مما تقول ، والمتأمل في قوله { فَسَيُنْغِضُونَ } يجده فِعْلاً سيحدث في المستقبل ويقع من مُختارٍ ، والمقام مقام جَدلٍ بين الكفار وبين رسول الله ، وهذه الآية يتلوها رسول الله على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال لهم : { الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } [ الإسراء : 51 ] فسينغضون رؤوسهم .
فكان في وُسْع هؤلاء أنْ يُكذِّبوا هذا القول ، فلا يُنغِضون رؤوسهم لرسول الله ويمكرون به في هذه المسألة ، ولهم بعد ذلك أنْ يعترضوا على هذا القول ويتهموه ، ولكن الحق سبحانه غالبٌ على أمره ، فهاهي الآية تُتْلىَ عليهم وتحْتَ سَمْعهم وأبصارهم ، ومع ذلك لم يقولوا ، مما يدلُّ على غباء الكفار وحُمْق تفكيرهم .
وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة حينما قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا . . } [ البقرة : 144 ]
ثم أخبره بما سيحدث من الكفار ، فقال : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ]
وهذا قَوْلٌ اختياريّ في المستقبل ، وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الآية أَلاّّ يقولوا هذا القول ويجدوا بذلك مِأْخَذاً على القرآن ، ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيقولون لا محالة : { وَيَقُولُونَ متى هُوَ . . } [ الإسراء : 51 ]
والاستفهام هنا كسابقه للإنكار والتعجُّب الدالّ على استبعاد البعث بعد الموت ، ولاحظ هنا أن السؤال عن الزمن ، فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث على ميعاد الحدث ، وهذا تراجعٌ منهم في النقاش ، فقد كانوا يقولون : مَنْ يُعيدنا؟ والآن يقولون : متى؟ فيأتي الجواب : { عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ]
عسى : كلمة تفيد الرجاء ، والرجاء أمر مُتوقّع يختلف باختلاف الراجي والمرجو منه ، فإذا قُلْت مثلاً : عسى فلاناً أنْ يعطيك كذا ، فالرجاء هنا بعيد شيئاً ما؛ لأنه رجاء من غيري لك ، أما لو قلْت : عسى أنْ أُعطيك كذا ، فهي أقرب في الرجاء؛ لأنني أتحدَّث عن نفسي ، وثقة الإنسان في نفسه أكثر من ثقته في الآخرين ، ومع ذلك قد يتغير رأييِّ فلا أعطيك ، أو يأتي وقت الإعطاء فلا أجد ما أعطيه لك .
(1/5230)
لكن إذا قُلْتَ : عسى الله أن يعطيك فلا شكَّ أنها أقربُ في الرجاء؛ لأنك رجوت الله تعالى الذي لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء . وإنْ كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى ، فالرجاء منه سبحانه مُحقَّق وواقع لا شكَّ فيه؛ فالرجاء من الغير للغير رتبة ، ومن الإنسان لغيره رتبة ، ومن الله تعالى للغير رتبة .
وقد شرح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة القرب فقال : " بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين " وأشار بالسَّبابة والوسطى؛ لأنه ليس بعده رسول ، فهو والقيامة متجاوران لا فاصلَ بينهما ، كما أننا نقول : كُلُّ آتٍ قريب ، فالأمر الآتي مستقبلاً قريب؛ لأنه قادم لا محالةَ .
ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } .
(1/5231)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
هذا في يوم القيامة ، حيث لا يستطيع أحدٌ الخروجَ عن مُرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع الخروج عنها في الدنيا؛ لأن الخالق سبحانه حين خلق الخَلْق جعل للإرادة الإنسانية سلطاناً على الجوارح في الأمور الاختيارية ، فهو مُخْتَار يفعل ما يشاء ، ويقول ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، فإرادته أمير على جوارحه ، أما الأمور القهرية فلا دَخْل للإرادة بها .
فإذا جاء اليوم الآخر انحلَّتْ الإرادة عن الجوارح ، ولم يَعُدْ لها سلطان عليها ، بدليل أن الجوارح سوف تشهد على صاحبها يوم القيامة : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . . } [ فصلت : 21 ]
لقد كانت لكم وَلاَية علينا في دُنْيا الأسباب ، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبِّب سبحانه ، فلا ولاية لكم علينا الآن؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
ففي الدنيا ملَّك الناس ، وجعل مصالح أُناسٍ في أيدي آخرين ، أما في الآخرة ، فالأمر كله والملْك كله لله وحده لا شريك له .
فقوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ . . } [ الإسراء : 52 ] أي : يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصُّور { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ . . } [ الإسراء : 52 ] أي : تقومون في طاعة واستكانة ، لا قوْمةَ مُسْتنكف أو مُتقاعس أو مُتغطرس ، فكلّ هذا انتهى وقته في الدنيا ، ونحن الآن في الآخرة .
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال : { فَتَسْتَجِيبُونَ . . } [ الإسراء : 52 ] ولم يقل : فتُجيبون؛ لأن استجاب أبلغُ في الطاعة والانصياع ، كما نقول : فهم واستفهم أي : طلب الفَهْم ، وكذلك { فَتَسْتَجِيبُونَ } أي : تطلبون أنتم الجواب ، وتُلحُّون عليه لا تتقاعسون فيه ، ولا تتأبَّوْن عليه ، فتُسرعون في القيام .
ليس هذا وفقط ، بل : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ . . } [ الإسراء : 52 ] أي : تُسرعون في القيام حامدين الله شاكرين له ، ولكن كيف والحمد لا يكون إلا على شيء محبوب؟
نعم ، إنهم يحمدون الله تعالى؛ لأنهم عاينوا هذا اليوم الذي طالما ذكَّرهم به ، ودعاهم إلى الإيمان به ، والعمل من أجله ، وطالما ألحَّ عليهم ودعاهم ، ومع ذلك كله جحدوا وكذَّبوا ، وها هم اليوم يَروْنَ ما كذَّبوه وتتكشّف لهم الحقيقة التي أنكروها ، فيقومون حامدين لله الذي نبَّههم ولم يُقصِّر في نصيحتهم . كما أنك تنصح ولدك بالمذاكرة والاجتهاد ، ثم يخفق في الامتحان فيأتيك معتذراً : لقد نصحتني ولكني لم أستجبْ .
إذن : فبيانُ الحق سبحانه لأمور الآخرة من النِّعَم التي لا يعترف بها الكفار في الدنيا ، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة ، ويعرفون أنها من أعظم نِعَم الله عليهم ، ولكن بعد فوات الأوان .
لذلك اعترض المستشرقون على قوله تعالى في سورة ( الرحمن ) : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 34 ] بعد قوله تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [ الرحمن : 34 ] فالآية في نظرهم تتحدث عن نِقْمة وعذاب ، فكيف يناسبها :
(1/5232)
{ فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 ]
والمتأمّل في الآية يجدها منسجمة كل الانسجام؛ لأن من النعمة أن نُنبِّهك بالعِظَة للأمر الذي ينتظرك والعذاب الذي أُعِدَّ لك حتى لا تقعَ في أسبابه ، فالذي يعلم حقيقة العذاب على الفِعْل لا يقترفه .
ثم يقول تعالى : { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 52 ]
الظن : خبر راجح؛ لأنهم مذبذبون في قضية البعث لا يقين عندهم بها .
{ إِن لَّبِثْتُمْ } أي : أقمتُم في الدنيا ، أو في قبوركم؛ لأن الدنيا متاع قليل ، وما دامتْ انتهت فلن يبقى منها شيء . وكذلك في القبور؛ لأن الميت في قبره شِبْه النائم لا يدرك كم لَبِثَ في نومه ، ولا يتصوّر إلا النوم العادي الذي تعوّده الناس .
ولذلك كل مَنْ سُئِل في هذه المسألة : كم لبثتم؟ قالوا : يوماً أو بعض يوم ، فهذا هو المعتاد المتعارف عليه بين الناس ، ذلك لأن الشعور بالزمن فرع مراقبة الأحداث ، والنوم والموت لا أحداثَ فيها ، فكيف إذن سنراقب الأحداث والملَكة الواعية مفقودة؟
وقد قال تعالى في آية أخرى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ]
وقال : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين } [ المؤمنون : 112-113 ]
أي : لم يكُنْ لدينا وَعْيٌ لنعُدّ الأيام ، فاسأل العَادّين الذين يستطيعون العدَّ .
وفي قصة العزيز الذي أماته الله مائة عام ، ثم بعثه : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . . } [ البقرة : 259 ] على مُقْتضى العادة التي أَلفَها في نومه ، فيُوضِّح له ربه : { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ } [ البقرة : 259 ]
فالمدّة في نظر العزيز كانت يوماً أو بعض يوم ، والحق سبحانه أخبر أنها مائة عام ، فالبَوْنُ شاسع بينهما ، ومع ذلك فالقوْلاَن صادقان . والحق سبحانه أعطانا الدليل على ذلك ، فقد بعث العُزَيز من موته ، فوجد حماره عظاماً بالية يصدُق عليها القول بمائة عام ، ونظر إلى طعامه وشرابه فوجده كما هو لم يتغير ، وكأنّ العهدَ به يوم أو بعض يوم ، ولو مَرّ على الطعام مائة عام لتغيَّر بل لتحلَّل ولم يَبْقَ له أثر .
وكأن الخالق سبحانه قبض الزمن وبَسَطه في وقت واحد ، وهو سبحانه القابض الباسط ، إذن : قَوْلُ الحق سبحانه مائة عام صِدْق ، وقول العُزَيز { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } صِدْق أيضاً ، ولا يجمع الضِّدَّيْن إلا خالق الأضداد سبحانه وتعالى .
وبعد أن تكلم القرآن عن موقف الكفار من الألوهية ، وموقفهم من النبوة وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن موقفهم من منهج الله وكفرهم بالبعث والقيامة ، أراد سبحانه أنْ يُعطينا الدروس التي تُربِّب منهج الله في الأرض ، فقال تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } .
(1/5233)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين عبيد وعباد ، وأنهما جَمْع عبد ، لكن عبيد تدل على مَنْ خضع لسيّده في الأمور القهرية ، وتمرَّد عليه في الأمور الاختيارية ، أما عباد فتدلّ على مَنْ خضع لسيده في كُلِّ أموره القهرية والاختيارية ، وفضَّل مراد الله على مُرَاده ، وعنهم قال تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 63-64 ]
وهذا الفَرْق قائم بينهما في الدنيا دون الآخرة ، حيث في الآخرة تنحلّ صفة الاختيار التي بنينا عليها التفرقة ، وبذلك يتساوى الجميع في الآخرة ، فكلهم عبيد وعباد؛ لذلك قال تعالى في الآخرة للشيطان : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } [ الفرقان : 17 ]
فسمَّاهم عباداً رغم ضلالهم وكفرهم .
وقوله تعالى : { يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 53 ]
أي : العبارة التي هي أحسن ، وكذلك الفِعْل الذي هو أحسن . والمعنى : قُلْ لعبادي : قولوا التي هي أحسن يقولوا التي هي أحسن؛ لأنهم مُؤتمرون بأمك مُصدِّقون لكَ .
و { التي هِيَ أَحْسَنُ } تعني : الأحسن الأعلى الذي تتشقَّق منه كُل أَحْسَنيات الحياة ، والأحسن هو الإيمان بالله بشهادة أن لا إله إلا الله ، هذه أحسن الأشياء وأولها ، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول : " خَيْرُ ما قُلْتُه أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله " " .
لأن من باطنها ينبتُ كل حسن ، فهي الأحسن والكبيرة؛ لأنك ما دُمْتَ تؤمن بالله فلن تتلقّى إلا عنه ، ولن تخاف إلا منه ، ولن ترجوَ إلا هو ، وهكذا يحسُن أمرك كلُّه في الدنيا والآخرة .
وأنت حين تقول : لا إله إلا الله ، لا تقولها إلا وأنت مؤمن بها؛ لأنك تريد أنْ تُشيِعها فيمن سمعك ، ولا تكتفي بنفسك فقط ، بل تحب أنْ يُشاركك الآخرون هذا الخير؛ لذلك إذا أردنا أن ننطقَ بهذه الكلمة نقول : أشهد أن لا إله إلا الله . فمعنى أشهد يعني عند مَنْ لم يشهد ، فكأن إيمانك بها دَعاك إلى نَقْلها إلى الناس ، وبثِّها فيما بينهم .
ويمكن أن نقول { التي هِيَ أَحْسَنُ } الأحسن هو : كل كلمة خير ، أو الأحسن هو : الجدل بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ]
أو نقول : الأحسن يعني التمييز بين الأقوال المتناقضة وفَرْزها أمام العقل ، ثم نختار الأحسن منها ، فنقول به .
فالأحسن إذن تَشيُع لتشمل كُلَّ حَسَن في أيِّ مجال من مجالات الأقوال أو الأفعال ، ولنأخذ مثلاً مجال الجدل ، وخاصة إذا كان في سبيل إعلاء كلمة الله ، فلا شكّ أن المعارض كَارِهٌ لمبدئك العام ، فإنْ قَسَوْتَ عليه وأغلظْتَ له القول أو اخترتَ العبارة السيئة فسوف ينتقل الخلاف بينكما من خلاف في مبدأ عام على عَدَاء شخصي .
(1/5234)
وإذا تحوَّلَتْ هذه المسألة إلى قضية شخصية فقد أججَّتَ أُوَار غضبه؛ لأنه في حاجة لأنْ تَرْفُقَ به ، فلا تجمع عليه مرارة أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يكره ، بل حاول أنْ تُخرِجه مما أَلِف إلى ما يحب لتطفئ شراسته لعداوتك العامة ، وتُقرِّب من الهُوّة بينك وبينه فيقبل منك ما تقول .
يقول تعالى : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ]
وقد يطلُع علينا مَنْ يقول : لقد دفعتُ بالتي هي أحسن ، ومع ذلك لا يزال عدوي قائماً على عداوتي ، ولم أكسب محبته . نقول له : أنت ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن ، ولكن الواقع غير ذلك ، إنك تحاول أنْ تُجرِّب مع الله ، والتجربة مع الله شَكٌّ ، فادفع بالتي هي أحسن من غير تجربة ، وسوف يتحول العدو أمامك إلى صديق .
وما أروعَ قول الشاعر :
يَا مَنْ تُضَايِقُه الفِعَالُ مِنَ التيِ ومِنَ الذِي ... ادْفَع فَدَيْتُك بالتِي حتَّى تَرَى فَإذَا الذِي
لكن ، لماذا نقول التي هي أحسن؟
لأن الشيطان ينزغ بينكم : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ . . } [ الإسراء : 53 ] والنزْغ هو نَخْس الشيطان ووسوسته ، وقد قال تعالى في آية أخرى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } [ الأعراف : 200 ]
فإن كنْت مُنتبِهاً له ، عارفاً بحيله فذكرتَ الله عند نَخْسه ونَزْعه انصرف عنك ، وذهب إلى غيرك؛ لذلك يقول تعالى عن الشيطان : { مِن شَرِّ الوسواس الخناس } [ الناس : 4 ] أي : الذي يخنس ويختفي إذا ذُكِرَ الله ، لكن إذا رأى منك ضعفاً وغفلة ومرَّتْ عليك حِيَلُة ، واستجبتَ لوساوسه ، فقد أصبحت فريسة سهلة بين أنيابه ومخالبه .
وعادةً تأتي خواطر الشيطان وكأنها مِجَسٌّ للمؤمن واختبار لانتباهه وحَذَّره من هذا العدو ، فينزغه الشيطان مرَّة بعد أخرى لِيُجرّبه ويختبره . فإذا كان النزغ هكذا ، فأنت حين تجادل بالتي هي أحسن لا تعطي للشيطان فُرْصة لأنْ يُؤجِّج العداوة الشخصية بينكما ، فيُزيّن لك شَتْمه أو لَعْنه ، وهكذا يتحول الخلاف في المبدأ العام إلى عداوة ذاتية شخصية .
لذلك إذا رأيتَ شخصين يتنازعان لا صِلَة لك بهما ، ولكن ضايقك هذا النزاع ، فما عليك إلا أنْ تقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً ، وأتحدّى أن يستمر النزاع بعدها ، إنها الماء البارد الذي يُطفئ نار الغضب ، ويطرد الشيطان فتهدأ النفوس ، وما أشبهك في هذا الموقف برجل الإطفاء الذي يسارع إلى إخماد الحريق ، وخصوصاً إذا قلت هذه العبارة بنية صادقة في الإصلاح ، وليس لك مأرَبٌ من هذا التدخّل .
والحق سبحانه يقول : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ . . } [ الإسراء : 53 ]
تلاحظ أن نَزْغ الشيطان لا يقتصر على المتخاصمين والمتجادلين حول مبدأ ديني عقدي ، بل ينزغ بين الإخوة والأهل والأحبة ، ألم يَقُل يوسف : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي } [ يوسف : 100 ]
لقد دخل الشيطان بين أولاد النبوة ، وزرع الخلاف حتى بين الأسباط وفيهم رائحة النبوة ، ولذلك لم يتصاعد فيهم الشر ، وهذا دليل على خَيْريتهم ، وأنت تستطيع أنْ تُميِّّز بين الخيِّر والشرير ، فتجد الخيِّر يهدد بلسانه بأعنف الأشياء ، ثم يتضاءل إلى أهون الأشياء ، على عكس الشرير تراه يُهدد بأهونِ الأشياء ، ثم يتصاعد إلى أعنف ما يكون .
(1/5235)
انظر إلى قوْل إخوة يوسف : { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً } [ يوسف : 9 ] فقال الآخر وكان أميل إلى الرفق به : { وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب } [ يوسف : 10 ] وقد اقترح هذا الاقتراح وفي نيته النجاة لأخيه ، بدليل قوله تعالى : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ]
وهكذا تضاءل الشر في نفوسهم .
ثم يقول تعالى : { إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ الإسراء : 53 ]
أي : أن عداوة الشيطان لكم قديمة منذ أبيكم آدم عليه السلام فهي عداوة مسبقة ، قال عنها الحق سبحانه : { إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى } [ طه : 117 ]
لذلك يجب على الأب كما يُعلِّم ابنه علوم الحياة ووسائلها أنْ يُعلّمه قصة العداوة الأولى بين الشيطان وآدم عليه السلام ويُعلمه أن خواطر الخير من الله وخواطر الشر من الشيطان ، فليكُنْ على حَذَر من خواطره ووساوسه ، وبذلك يُربِّي في ابنه مناعة إيمانية ، فيحذر كيد الشيطان ونَزْغه ، ويعلم أن كل أمر يخالف أوامر الشرع فهو من الشيطان ، وهذه التربية من الآباء تحتاج إلى إلحاح بها على الأبناء حتى ترسخ في أذهانهم .
فقوله تعالى : { إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ الإسراء : 53 ] أي : كان ولا يزال . وإلى يوم القيامة بدليل قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ]
أي : لأتعهّدنّهم بالإضلال والغواية إلى يوم القيامة .
ثم يقول الحق سبحانه : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } .
(1/5236)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
في هذه الآية إشارة إلى طلاقة المشيئة الإلهية ، فالحق سبحانه إنْ شاء يرحمنا بفضله ، وإنْ شاء يُعذِّبنا بعدله؛ لأن الحق سبحانه لو عاملنا بميزان عدله ما نجا منّا أحد ، ولو جلس أحدنا وأحصى ماله وما عليه لوجد نفسه لا محالةَ واقعاً تحت طائلة العقاب؛ لذلك يَحسُن بنا أن ندعوُ الله بهذا الدعاء : " اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل ، وبالإحسان لا بالميزان ، وبالجبر لا بالحساب " .
والحق تبارك وتعالى لا يُيئس العُصَاة من فضله ، ولا يملي لهم بعدله ، بل يجعلهم بين هذه وهذه ليكونوا دائماً بين الخوف والرجاء .
وحينما كان المسلمون الأوَّلون يتعرضون لشتى ألوان الإهانة والتعذيب ولا يجدون مَنْ يمنعهم من هذا التعذيب ، فكانوا يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ما ينزل بهم ، فرسول الله ينظر في أنحاء العالم من حوله بحثاً عن المكان المناسب الذي يلجأ إليه هؤلاء المضطهدون ، ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ويقول : " إن فيها ملكاً لا يُظْلَم عنده أحدٌ " .
لقد كانوا في مرحلة لا يستطيعون فيها الدفاع عن أنفسهم ، فالضعيف منهم عاجز عن المواجهة ، والقوي منهم لا يستطيع حماية الضعيف؛ لأنه كان يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقترح عليه الرد على الكفار ومواجهتهم بكذا وكذا ، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم : " لم أومر ، لم أومر . . " . .
لأن الله تعالى أراد أَلاَّ يبقي للإيمان جندي إلا وقد مَسَّه العذاب ، وذاق ألوان الاضطهاد ليربي فيهم الصبر على الأذى وتحمُّل الشدائد؛ لأنهم سيحملون رسالة الانسياح بمنهج الله في الأرض ، ولا شكَّ أن القيام بمنهج الله يحتاج إلى صلابة وإلى قوة ، فلا بُدَّ من تمحيص المؤمنين ، لذلك حدث للإسلام في عصر النبوة أحداث وشدائد ، ومرَّت به عقبات مثل تعذيب المؤمنين وإيذائهم وحادث الإسراء والمعراج .
وكانت الحكمة من هذه الأحداث تمحيص المؤمنين وغربلة المنتسبين لدين الله ، حتى لا يبقى إلا القوي المأمون على حَمْل منهج الله ، والانسياح به في شتَّى بقاع الأرض ، وحتى لا يبقى في صفوف المؤمنين مَنْ يحمل راية الإيمان لمغنَم دنيوي ، فالغنيمة في الإسلام ليست في الدنيا بل في جنة عَرْضُها السماوات والأرض .
لذلك ، ففي بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سل يا محمد لربك ما شئت ، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت ، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك . " قال : أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم ، قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فماذا قال لهم رسول الله؟ أقال لهم تملكون الدنيا؟ لا ، بل قال : " لكم الجنة " قالوا : فلك ذلك " .
(1/5237)
فهذه هي الجائزة الحقيقية التي ينبغي أن يفوز بها المؤمن؛ لأنه من الجائز أن يموت أحدهم بعد أن أعطى رسول الله هذا العهد ولم يدرك شيئاً من خير الدنيا في ظل الإسلام ، إذن : فالنبي صادق في هذا الوعد . وما دام الجزاء هو الجنة فلا بُدَّ لها من جنود أقوياء يصبرون على الأحداث ، ويُواجهون الفتن والمكائد .
فالمعنى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } [ الإسراء : 54 ] بالخروج من مكة مهاجرين إلى ديار الأمن في الحبشة { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ . . } [ الإسراء : 54 ] أي : عذاباً مقصوداً لكي يُمحِّص إيمانكم ويُميِّز المؤمنين منكم الجديرين بحمل رسالة الله ومنهجه .
ثم يقول تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ الإسراء : 54 ]
الوكيل : هو المفوَّض من صاحب الشأن بفعل شيء ما ، والمراد : ما أرسلناك إلا للبلاغ ، ولستَ مسئولاً بعد ذلك عن إيمانهم ، ولستَ وكيلاً عليهم؛ لأن الهداية والتوفيق للإيمان بيد الحق سبحانه وتعالى .
إذن : قول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ الإسراء : 54 ]
ليست قهراً لرسول الله ، وليست إنقاصاً من قَدْره ، بل هي رحمة به ورأفة ، كأنه يقول له : لا تُحمِّل نفسك يا محمد فوق طاقتها ، كما خاطبه في آية أخرى بقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] فالحق تبارك وتعالى في هذه المسألة لا يعتب على رسوله ، بل يعتب لصالحه ، والمتتبع لمواقف العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم يجده عِتَاباً لصالحه صلى الله عليه وسلم رحمةً به ، وشفقةً عليه ، لا كما يقول البعض : إن الله تعالى يُصحّح للرسول خطئاً وقع فيه .
ومثال لهذا قوله تعالى : { عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } [ عبس : 1-3 ] الله تعالى يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ترك الرجل الذي جاءه سائلاً عن الدين ، وشَقَّ على نفسه بالذهاب إلى جدال هؤلاء الصناديد ، وكأن الحق سبحانه يشفق على رسوله أن يشقَّ على نفسه ، فالعتاب هنا حِرْصاً على رسول الله وعلى راحته .
وكذلك في قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التحريم : 1 ]
والتحريم تضييق على النفس ، فالحق سبحانه يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ضيَّق على نفسه ، وحرَّم عليها ما أحلَّه الله لها . كما تعتب على ولدك الذي سَهِر طويلاً في المذاكرة حتى أرهقَ نفسه ، فالعتاب لصالح الرسول لا ضده .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض . . . } .
(1/5238)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
قوله تعالى : { أَعْلَمُ } أفعل تفضيل تدلُّ على المبالغة في العلم ، وإنْ كان الحق سبحانه أعلم فما دونه يمكن أنْ يتصفَ بالعلم ، فنقول : عالم . ولكن الله أعلم؛ لأن الله تعالى لا يمنع عباده أن تشرئب عقولهم وتطمح إلى معرفة شيء من أسرار الكون .
والمعنى أن الحق سبحانه وتعالى لا يقتصر علمه عليك يا محمد وعلى أمتك ، وقد سُبِقت الآية بقوله تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ . . } [ الإسراء : 54 ] ولكن علمه سبحانه يسَع السماوات والأرض عِلْماً مُطْلقاً لا يغيب عنه مثقال ذرة ، وبمقتضى هذا العلم يُقسِّم الله الأرزاق ويُوزِّع المواهب بين العباد ، كُلّ على حسب حاله ، وعلى قَدْر ما يُصلحه .
فإنْ رأيتَ شخصاً ضيَّق الله عليه فاعلم أنه لا يستحق غير هذا ، ولا يُصلحه إلا ما قَسَمه الله له؛ لأن الجميع عبيد لله مربوبون له ، ليس بين أحد منهم وبين الله عداوة ، وليس بين أحد منهم وبين الله نسب .
فالجميع عنده سواء ، يعطي كُلاً على قَدْر استعداده عطاءَ ربوبية ، لا يحرم منه حتى الكافر الذي ضاق صدره بالإيمان ، وتمكّن النفاق من قلبه حتى عشق الكفر وأحب النفاق ، فالله تعالى لا يحرمه مِمّا أحبّ ويزيده منه .
إذن : لعلمه سبحانه بمَنْ في السماوات والأرض يعطي عباده على قَدْر مَا يستحقّون في الأمور القَهْرية التي لا اختيارَ لهم فيها ، فهُمْ فيها سواء . أما الأمور الاختيارية فقد تركها الخالق سبحانه لاجتهاد العبد وأَخْذ بالأسباب ، فالأسباب موجودة ، والمادة موجودة ، والجوارح موجودة ، والعقل موجود ، والطاقة موجودة . إذن : على كل إنسان أن يستخدم هذه المعطيات ليرتقي بحياته على قَدْر استطاعته .
ثم يقول تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } [ الإسراء : 55 ]
مَن الذي فضَّل؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يُفضّل بعض النبيين على بعض ، وليس لنا نحن أن نُفضّل إلا مَنْ فضَّله الله؛ لأنه سبحانه هو الذي يملك أن يُجازي على حَسْب الفضل ، أما نحن فلا نملك أنْ نجازي على قَدْر الفضل .
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى " .
لأن الذي يُفضِّل هو الله تعالى ، وقد نُصّ على هذا التفضيل في قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } [ البقرة : 253 ]
فالتفضيل على حسب ما يعلمه الله تعالى من أن أُولى العزم من الرسل قد فّضَّلهم عن غيرهم لِمَا تحمّلوه من مشقة في دعوة أقوامهم ، ولما قاموا به من حمل منهج الله والانسياح به ، أو من طول مُدّتهم من قومهم . . الخ فهو وحده يعلم أسباب التفضيل .
ثم يقول تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ]
فلماذا ذكر داود بالذات مقترناً بالكتاب الذي أُنِزل عليه؟ قالوا : لأن داود عليه السلام أُوتِي مع الكتاب المُلْك ، فكان نبياً ملكاً ، فكأن الحق سبحانه يشير إلى أن تفضيل داود لا من حيث أنه مِلك ، بل من حيث هو نبي صاحب كتاب .
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : " لقد خُيِّرْتُ بين أن أكون عبداً نبياً أو نبياً ملكاً ، فاخترت أن أكون عبداً نبياً " .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } .
(1/5239)