الكتاب : تفسير الشعراوي
إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير .
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم : حينما أصلي يأتي له الوسواس ، ويشككني في الصلاة ، نقول له : نعم هذا صحيح ، وحين يأتي لك هذا الوسواس فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول ، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة؛ لأنك لو كنت فاسداً من البداية ، ووقفت للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس . لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول الله : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله . . . } [ الأعراف : 200 ]
لماذا؟ . لأن الله خلقك وخلقه ، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجري الدم في العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء في وقت الصلاة؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها ، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي؛ وكل ذلك لأنه قال : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } ، ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف ، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر ، لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة . فماذا نفعل في هذه الحال؟ . يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله }
فمعنى { فاستعذ } أي فالتجئ منه إلى الله؛ لإن الله الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك ، وفي دمك ، وفي خواطرك ، هو القادرعلى منعه ، وحين تقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " بفزع والتجاء إليه- سبحانه- فإنه- جل شأنه- ينقذك منه . وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه النزغة : مرة واثنتين وثلاثاً ، فيقول الشيطان لنفسه : إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر لا أستطيع غوايته ، ولأبحث عن غيره .
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة ، وقد شهرَ عنه الفتيا ، وذهب إليه سائل يقول : ضاع مني مال في أرض كنت قد دفنته فيها ، ولا أعرف الآن مكانه . دلني عليه أيها الشيخ؟ . وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم ، فقال أبو حنيفة : يا بني ليس في ذلك شيء من العلم ، ولكني احتال لك؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة ، لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جنداً من جنوده يقول لك عن مكان مالك .
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر ، وإذا بالرجل يقبل ضاحكاً مبتسماً قائلا : يا إمام لقد وجدت المال ، فضحك أبو حنيفة ، وقال : والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك تتم ليلتك مع ربك ، وسيأتي ليُخبرك ، فهلاّ أتممتها شكراً لله ، هيا قم إلى الصلاة .
(1/2831)

إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد : وكيف يقسم ، لأنه في آية أخرى يقول : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ]
لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛ فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ } أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا يقهر؛ لأنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم ، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ]
فأقسم ، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإِنسان : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } .
واستدرك على نفسه أيضاً وقال : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 83 ]
لأن الذي يريده الله مهديًّا لا يستطيع الشيطان أن يغويه؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا يقاومه ، إنما يناهض خلق الله ، ولا يدخل مع ربنا في معركة ، إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيه حجة ولا قوة؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل ، وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام . وهل يملك إبليس واحدة من هذه؟ . لا ، ولذلك سيأتي في الآخرة يقول : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي . . . } [ إبراهيم : 22 ]
والسلطان قسمان : سلطان يقهر ، وسلطان يقنع . والشيطان يدخل على الإِنسان من هذه الأبواب .
ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن . . . }
(1/2832)

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الإمام ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي من الوراء ، { وعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أي من جهة اليمين ، { وعَن شَمَآئِلِهِمْ } أي من جهة اليسار . والشيء الذي أمام العالم كله ، ونسير إليه جميعاً هو { الدار الآخرة } وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث . ويحاول أن يجعل الإِنسان غير مقبل على منهج الله ، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء الله ، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } [ الصافات : 16-17 ]
ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضاً لا يجعل للشيطان منفذاً فيها ، فيوضح لنا أنه سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولاً؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا ، والإِعادة بالتأكيد أهون من البداية؛ لأنّه سيعيدهم من موجود ، لكن البداية كانت من عدم ، إنه- سبحانه- عندما يبيّن للناس أن الإِعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلاً إلى إنكاره ، وإلاّ فالله- جل شأنه- تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا- سبحانه- بتمام إحاطة علمه فيقول : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ]
أي أن لكل واحدٍ كتاباً مكتوباً فيه كل عناصره وأجزائه .
والشيطان- أيضاً- يأتي من الخلف ، وخلف كل واحد منا ذريته ، يخاف ضيعتهم ، فيوسوس الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء ، وفساد أناس كثيرين يأتي من هذه الناحية ، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبًّا كبيراً ، وقد كبرت سنّه ، ويقبل على الله بشرّ ، ويظن أنه يترك عياله بخير . لكن إن كنت تخاف عليهم حقًّا فأمِّن عليهم في يد ربهم ، ولا تؤمِّن حياتهم في جهة ثانية . { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ]
ولماذا لم يأت الشيطان للإِنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا ومستجيرا بربه ، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة . فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لأن الله تعالى يقول : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } .
ويقول تعالى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ]
ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة . واليمين رمز العمل الحسن؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين ، وكاتب السيئات على الشمال ، ويأتي عن شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية . ونلحظ أن الحق استخدم لفظ { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } و { عَن شَمَآئِلِهِمْ } ولم يأت ب " على " لأن " على " فيها استعلاء ، والشيطان ليس له استعلاء أبداً؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع ، ولا قوة الحجة فيقنع . ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم ، فيجيد الشيطان غوايتهم . ولذلك يقول الحق تذييلاً للآية : { . . . وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ]
ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ اخرج مِنْهَا . . . }
(1/2833)

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي ، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفاً ، فسبحانه القائل : { . . . إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ]
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره ، والناصح هو من يحتاط ، ويأخذ المناعة ضد النزغ الشيطاني . وهنا يقول الحق : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً . . . } [ الأعراف : 18 ]
وقال له الحق من قبل : { قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } [ الأعراف : 13 ]
إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان ، ثم هنا أيضاً تأكيد بأنه في حالة الخروج سيكون مصاحباً للذم والصغار والطرد واللعن . ويقول الحق سبحانه : { . . . لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ]
وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم ، ولم يعدَّها سبحانه لتسع الكافرين فقط ، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه ، كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعاً يؤمنون به؛ فليس عنده ضيق مكان ، وإن آمن الخلق جميعاً؛ فإنه- جل شأنه- قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعاً ، وإن كفروا جميعاً فقد أعدّ النار لهم جميعاً؛ تأكيداً لقوله الحق : { أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 10-11 ]
وقوله الحق : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ]
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود لآدم .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَيَآءَادَمُ اسكن . . . }
(1/2834)

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس فيقول : { وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة } .
كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود ، واعترض البعض متسائلين : كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟ . وكيف يخرج منها؟ . وهل الذي يدخل الجنة يخرج منها؟ . وهؤلاء العلماء الذي قالوا : إن الجنة هي جنة الآخرة ، لم يفطنوا إلى مدلول كلمة " جنة "؛ فساعة تطلق كلمة جنة ، تأخذ ما يسمى في اللغة " غلبة الاستعمال " ، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفاً ، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه ، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة؛ لأنها هي التي تُعتبر جنة بحق ، لكن حينما يأتي اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله ، فلابد أولاً أن ندرس اللفظ واستعمالاته في اللغة؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين ، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معانٍ متعددة . وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي ، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي .
مثال ذلك كلمة " الحج " فأنت ساعة تسمع كلمة " الحج " تقول : هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة ، على الرغم من أن " الحج " في اللغة هو القصد ، فإذا قصدت أي شيء تقول : حججت إليه . فلما جاء الإِسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي ، وهو قصد البيت الحرام للنسك ، وكذلك كلمة " الصلاة " إنها في اللغة الدعاء ، فقوله تعالى : { وصلِّ عليهم } أي ادع لهم ، ولما جاء الإِسلام أخذ الكلمة من اللغة ، وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه ، وهي الأقوال والأفعال المخصوصة ، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة .
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنىً اصطلاحيًّا أن هذا يكون تركاً لمعناه الأصلي؟ . لا؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك ، ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة " صلاة " أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا ، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء ، وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة " الجنة " ساعة تُطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود . ونقول : المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة ، أما غزارتها وعلوها فتستر الإِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله ، وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإِنسان عن خارجها ويكتفي بأن يكون فيها ، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط ، بل يقول أيضاً :
(1/2835)

{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ البقرة : 266 ]
وكذلك يقول سبحانه : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ]
وقوله الحق : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [ سبأ : 15 ]
وأقول : إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يُعْلمنا من لدنه ويقفنا على المعنى المراد ، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد خلق آدم خليفة في الأرض : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً . . . } [ البقرة : 30 ]
إذن فآدم مخلوق للأرض ، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة ، وكنا سنعيش فيها لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض . لذلك نقول : لا ، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة . والذي كان يجب أن نسأل عنه : ما دام قد جعله الله خلفية في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه؟!
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض ، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في " افعل " و " لا تفعل "؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع ، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحاً؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " لا يفسد به المجتمع . إذن ف " افعل " و " لا تفعل " هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض .
وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟ . لا ، فمادام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم ، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في " افعل " ، و " لا تفعل " ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي . ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها ، ويحاول أن ينقل مجال " افعل " إلى مجال " لا تفعل " ، وكذلك يحاول أن يزين لك " أن تفعل " ما هو في مجال " لا تفعل " فترتبك حركتك .
إن الحق سبحانه يريد منهجاً يحكم حركة الحياة ، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقى المنهج تلقيًّا نظريًّا ، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريباً على المهمة في " افعل " و " لا تفعل " . وحذره من العقبات التي تعترض " افعل "؛ حتى لا تجيء في منطقة " لا تفعل " ، وكذلك من العقبات في منطقة " لا تفعل " حتى لا تجيء في منطقة " افعل " ، واختار له مكاناً فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبداً في أثناء التدريب ، وأوضح له أن هذه هي الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها ، وأمره : كُلْ من كل شيء فيها ، ولكن لا تقرب هذه الشجرة .
(1/2836)

" كل " هذا هو الأمر ، و " لا تقرب " هذا هو النهي . وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه " إبليس "؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ]
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله- سبحانه- وإعداده ، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فلا فضلات تتعبه ، ولا ينفخ ولا يعاني من متاعب في الصحة . . . إلخ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم . وسبحانه قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه ، والجنين ينمو ، والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء ، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر النمو فقط ، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء ، فهو قادر على كامل الإِعداد .
إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن تأتي بعد التكليف . ولا يمكن أن يكون فيها تكليف ، ومن يسكنها لا يخرج منها . وآدم- كما علمنا- مخلوق للأرض ، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمراً متمثلاً في { فَكُلاَ } ، ونهياً متمثلاً في { وَلاَ تَقْرَبَا } ، لم يقل لهما : لا تأكلا ، بل قال : { وَلاَ تَقْرَبَا } لأن القِربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها . وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها ، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها .
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين : الرمز الأول : ل " افعل " ، والرمز الثاني : ل " لا تفعل " ، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به . وهذا من رحمة الله بالعباد ، فيفعل المؤمن ما يؤمر به ، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه ، ولذلك قال : { وَلاَ تَقْرَبَا } فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر . ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية ، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب ، فسبحانه هو القائل :
(1/2837)

{ . . . فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور } [ الحج : 30 ]
ولم يقل : " لا تعبدوا الأوثان " ، بل قال : " فاجتنبوا " ، والشأن في " الخمر " أيضاً جاء بالاجتناب . لكنّ بعضاً من السطحيين يقولون : لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب ، ونقول : الاجتناب أقوى من المنع ومن التحريم ، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر . لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها ، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه ، ولا تعصرها ولا تحملها . { . . . وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } [ الأعراف : 19 ]
والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه ، ويوضح سبحانه : أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة ، فإن قربها أي منكما ، فهو قد خالف ما شرعته لكما ، { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } اي لا تدخلا في اطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحداً ، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة في زمن يسير ، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذاباً أليماً في زمن طويل وبشكل أشد . وهذا ظلم لنفسك ، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان . . . }
(1/2838)

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
كلمة " وسوس " تدل على الهمس في الإغواء ، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا يهمه أن يسمعه الناس . لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفاً من أن يفضحه أحد ، وكأن كل شر لابد أن يأتي همساً ، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث ، ويستحي منه ، ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء ، و " وسوس " مأخوذة من الصوت المغري ، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي ، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه هو كلام مغرٍ ليلفتهما عن أوامر رب حكيم .
وقوله الحق : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا } يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة ، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معاً . { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } . [ الأعراف : 20 ]
وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما ، أو وسوس ليعصيا الله؟ . لقد وسوس ليعصيا الله ، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية ، ويعلم أنهما حين يأكلان من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما ، و " السوءة " هي ما يسوء النظر إليه ، ونطلقها على العورة ، والفطرة تستنكف أن يرى الإِنسان المكتمل الإِنسانية السوءة . وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول : { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } .
والسوءات أربع : اثنتان للرجل واثنتان للمرأة ، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه ، وكذلك لا يرى سوءتي الآخر ، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية ، وهذا كلام معقول جداً . ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- : " ما رأيت ولا أرى مني " ، وفي هذا القول تتجلّى قمة الأدب لأنها لم تجيء حتى باللفظ ، لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر . وذلك حين حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ، تعجبت السيدة عائشة فقال لها : " الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد . " { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } [ الأعراف : 20 ]
وبماذا ووري؟ . لا بد أن هناك لباساً كان على كل منهما ، وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس ، فمن قائل : إن أظافر الإِنسان هي بقية اللباس الذي كان موجوداً عند آدم وحواء ، وهو ما كان يواري السوءات ، ويقال : إنّ أيّ إنسان يكون في غاية الضحك والانبساط ، ويريد أن يكتم نَفْسه ، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره ، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة .
(1/2839)

وجرّبها في نفسك ، تجد نفسك قد منعت من الضحك ، وهذا من عمل الإِله .
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإِلهي الذي كان يلفهما ، والنور الساطع جداً حين يلف لا يبين ، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء ، لكنه إن اشتد عمَّى على الأشياء فأخفاها فلا تراها؛ لأن أي أمر إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضده ، فإما أن يكون الثوب الأظافر ، وإما أن يكون النور الإِلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة ، وقد سميت " سوءة " و " عورة " ، لأنها تسوء ، فلماذا تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين : فتحة في الفم ، وفتحة في العورة؟ .
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها . وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم يكونا- كما قلنا- في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن إعداد الله يعطي كُلاًّ منهما على القدر الكافي للحركة والفعل ، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها . لكن حينما يخرجان عن مرادات الله في الطعام ، ويأكلان غير ما أمر الله به ، ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة ، فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في الأمور المادية؟
نعم؛ لأن كل شيء يُخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة ، وإن رأيت أي عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عطل . وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من وسوسة : { وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } [ الأعراف : 20 ]
لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق : أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها يصير مَلَكاً ، أو خالداً . ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفاً واهياً وغبياً؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكاً أو يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله مَلَكاً أو خالداً؟ وفي هذا درس يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير ، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل .
وإذا كان الشيطان قد قال : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأعراف : 14 ]
فلماذا لم ينقذ نفسه بالأكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟ . إذن كان ما يقوله الشيطان كذباً .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا . . . }
(1/2840)

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
" قاسم " مادة فاعل ، تأتي للمشاركة ، أي أن هناك طرفين اثنين ، كل منهما فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى ، مثل شارك زيد عمراً ، وهي تعني أيضاً أن عمراً شارك زيداً ، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل ، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة . وفي المعنى نجد الاثنين فاعلاً ومفعولا ، إذن " قاسم " تحتاج إلى عمليتين اثنتين . . فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته ، وهما يقسمان؟ . ونقول : لا؛ لأنها تأتي مرة لغير المفاعلة ، أو للمفاعلة اللزومية ، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ . . . } [ الأعراف : 142 ]
وواعدنا ، مثلها مثل فاعل ، من الذي واعد؟ . إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام ، ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به .
إذن " قاسمهما " أي قبلا القسم ودخلا فيه . { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ]
و " قاسم " ، أي أقسم ، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه : أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك ، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى ، فقال آدم : يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقاً من خلقك يقسم بك على الباطل . ولم يأتي على البال أن خلقاً يقسم بالله على الباطل . وكانت هذه أول خديعة في الخلق . ولذلك نجد قتادة- رضي الله عنه- يقول : " المؤمن بالله يُخدع " .
" والنبي عليه الصلاة والسلام عقد على امرأة ودخلت به ، ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حُبًّا ، فقلن لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحب هذه الكلمة ، فإذا دخل عليك فقوليها! ، قولي : " أعوذ بالله منك " ، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله ، قالت له : " أعوذ بالله منك " . فقال لها : استعذت بمعاذ . ولم يقربها الرسول " ، وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله . وها هو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها ، ويقف فيها خاشعاً ، وحين عرف العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع ، وكان رضي الله عنه يعتقهم ، وذهب له من يقول : إن العبيد يخدعونك ، فيقول : من خدعنا بالله ، انخدعنا له .
والنصح هنا : إغراء بمخالفة أمر الله ، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم ، وكان لابد أن يقارن بين الأمرين ، بين غواية الشيطان له بالأكل ، وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه : لا تقربا . لكنه لم يفعل .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا . . . }
(1/2841)

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما وخدعهما من القسم . و " دلاّ " مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا ، أو دلَّى جبل الدلو لينزله في البئر ، ومعناها : أنه يفعل الشيء مرة فمرة ، و " بغرور " أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة ، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش .
وهنا وقفة تدل على الاصطراع بين الحق والباطل في النفس ، { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة } هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة . وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق ، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر . { فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } [ الأعراف : 22 ]
و " الخصف " أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئاً . وقديماً حينما كان يبلى نعل الحذاء ، ويظهر به خرق فالإِسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه .
وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة . وقوله الحق : { وَطَفِقَا } يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات .
وهنا يقول الحق : { . . . وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ]
لقد كان التكليف هنا في أمر واحد ، والإِباحة في أمور متعددة ، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة ، والمباح كان كثيراً؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتولى عن التكليف . ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة ، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق : { . . . وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ]
ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية ، وقال لهما : { . . . أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ]
وسبحانه لا يجرم إلا بنص ، وسبق أن قال سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } وأوضح : أن هناك عنصراً إغوائياً هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود ، وقد طرده الحق لهذا السبب . إذن إنْ آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل ، وهما اللذان ظلما أنفسهما . وكان لابد أن يكون الجواب : نعم يا رب نهيتنا ، وقلت لنا ذلك . وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي بالإِخبار ، وقد يأتي بالاستفهام بالإِيجاب ، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي . { . . . إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ]
ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك ، و " مبين " أي محيط ، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم . أو بيَّن العداوة وشديد الخصومة .
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ . . . }
(1/2842)

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } [ البقرة : 37 ]
فكأن الحق سبحانه وتعالى قدَّر غفلة خلقه عن المنهج؛ فشرّع لهم وسائل التوبة إليه ، ووسائل التوبة ثلاث مراحل : تشريعها رحمة ، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة ، وقبولها منه سبحانه رحمة ، فالتشريع يطلب منك أن تفعل ، وحين تتوب يتوب الله عليك .
تشريع التوبة- إذن رحمة ، لا بالمذنب فقط ، بل وبغيره أيضاً؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة ، كان الذي يعمل معصية ، ولايجد مغفرة ، يستشري في المعاصي ، وإذا استشرى في المعاصي تعب المجتمع كله . { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ]
وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته ، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب؛ فإبليس أراد أن يبرر المخالفة : { . . . قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ]
فماذا قال آدم وحواء؟ : { . . . رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ]
ولذلك كان جزاء إبليس - وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه - أن يطرد من رحمته . وجزاء المعترف بأنه أذنب ، وأنه ظلم نفسه أن تُقبل توبته . إذن لا يصح للناس الذين يقيمون على معصية أن يقول الواحد منهم : " هذه هي ظروفي " ، ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي ، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة ، وعليه أن يقول : " ما أفعله ، حرام ، لكن لا أقدر على نفسي " وبذلك لا يكون قد ردّ الحكم ، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب ، فصار أهلاً للمغفرة وأهلاً للتوبة .
وهنا نسأل : ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟ . نقول : إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر ، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة .
وحين قال آدم وزوجته حواء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } معاً وفي نَفَس واحد ، ونغمة حزينة نادمة ، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها؟ . إن كلا منهما لو اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار .
وهذا دليل على أنها ملقنة ، ولهذا قال ربنا . { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ . . . } [ البقرة : 37 ]
وهما قد قالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } ، وأنفسنا جمع نَفْس ، ولم يقولا " نفسينا " ، بل قالا { أَنفُسَنَا } أي أن قلبيهما أيضاً قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية ، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما .
ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ . . . }
(1/2843)

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
ونلتفت لنجد أن هناك أمراً قد يسبق لإِبليس بالهبوط ، وهنا أمر آخر بالهبوط ، وبالله لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما ، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبداً . لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها ، ليباشر مهمة الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له ، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف ، وأن يحترم نهي الله في كل تكليف ، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له . وقد جرب ذلك بنفسه ، فلينزل مزوداً بالتجربة ، وليس له عذر من بعد ذلك . { قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } .
والأمر هنا للجماعة؛ ولم يقل لهما اهبطا . وفي آية ثانية قال : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً . . . } [ طه : 123 ]
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة . والأمر هنا جاء بقوله : { اهبطوا } لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة؛ آدم وحواء ، وإبليس . . والعداوة مسبقة ولا ندعيها . العداوة بين طرفين : اثنان في طرف هما آدم وحواء ، وواحد في طرف هو إبليس . ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله ، إنّ كل حرف عنده بميزان؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن . . . } [ النساء : 82 ]
أي إياك أن تأخذ واجهة النص ، ولكن ابحث في خلفيات النص ، ولا تأخذ واجهة اللفظ ، بل انظر إلى ما وراء الألفاظ . { قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } [ الأعراف : 24 ]
وكلمة " عدو " تعني وجود صراع ، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع بعض ، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم ، لكنها لمدة محدودة ، ولذلك قال : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } .
أي أن لكم استقراراً في الأرض ومتاعاً إلى حين . وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء ، لا ، فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيراً على الجهاد وهذا متاع .
ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا . . . }
(1/2844)

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
كأنه قال : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة ، ويرسم لنا علاقتنا بالأرض التي قال فيها : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً . . . } [ البقرة : 30 ]
فقد ربطنا بالأرض . إيجاداً من طينها ، ومتعة بما فيها من ميزات ، وخيرات وثمرات ، ثم نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك . فالإِنسان منا من الأرض ، منها يحيا وفيها يموت ، ويذهب إلى أصله ومرجعه ، إلى الأم الأرض ، فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه . وساعة ما يكون الإِنسان في حالته الطيبة ، وله أخ حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف ، ومع المريض ، ومع الصغير .
والأرض هي التي تأخذ كل البشر ، تأخذ الإِنسان وتمص منه الأذى ، وتداري رائحته ، أمّا أحبابه في الدنيا وإخوانه ، فقد سارعوا بمواراته التراب تفادياً لرحلة التحلل . وبمجرد أن يموت الإنسان ، أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون : " أين الجثة " ، ولا يقولون : " أين فلان " . وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش ، ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه .
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول : { يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا . . . }
(1/2845)

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وكلمة { يابني ءَادَمَ } لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين ، إبليس ، أنتم أولاد آدم ، والشيطان موجود ، فانتبهوا . لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة ، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء ، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي أنزل المطر ، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس ، وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء . ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ . . . } [ الزمر : 6 ]
نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضاً لأن السببية في النبات من مرحلة أولى ، والسببية في الحيوان من مرحلة ثانية ، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه الحيوان ، ويقول سبحانه أيضاً : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . . . } [ الحديد : 25 ]
نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضاً؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله ، وهذا دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج . { يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ . . . } [ الأعراف : 26 ]
فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات المادة ، كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري سوءات القيم . فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضاً أن اللباس الذي ينزله الله من القيم إنما يواري ويستر به سواءتكم المعنوية . ولباس الحياة المادية لم يقف عند موارة السوءات فقط ، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضاً . لذلك قال الحق : { . . . قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف : 26 ]
والريش كساء الطير ، وقديماً كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس . وكانوا يضعون الريش على التيجان ، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا : فلان مريش أي لا يملك مقومات الحياة فقط ، بل عنده ترف الحياة أيضاً ، فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل . وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة ، فقال سبحانه : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً . . . } [ النحل : 8 ]
والركوب لتجنب المشقة ، والزينة من أجل الجَمَال .
وكذلك يقول الحق سبحانه : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق . . . } [ الأعراف : 32 ]
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ . . . } [ الأعراف : 31 ]
إذن فهذا أمر بالزينة ، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ .
(1/2846)

. . } [ الأعراف : 26 ]
نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية ، وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا ، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح الآخرة .
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه خير من لباس الزينة والرياش لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل ، أو ذلك اللباس- لباس التقوى- خير من اللباس المادي وهو من آيات الله ، أي من عجائبه ، وهو من الأشياء اللافتة؛ فالإِنسان منكم مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية ، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة إلا بها ، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية ، وزينة الحياة المادية ، وأعطاك ما تحيا به في السلم والحرب ، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا . فخذ الآيات مما تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس .
ويقول الحق بعد ذلك : { يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ . . . }
(1/2847)

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان ، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة ، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان ، من أبينا آدم وإِغواءه له .
والفتنة في الأصل هي الاختبار ، وتُطلق - أحياناً - على الأثر السيء حيث تكون أشد من القتل ، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة؟ لا؛ لأن الفتنة هي الاختبار ، وفي الاختبار إما أن ينجح الإِنسان ، وإمّا أن يرسب ، فإن نجح أعطته الفتنة خيراً وإن رسب تعطه شرًّا .
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم ، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض ، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته ، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج ، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض ، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له ، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف . وكل تكليف محصور في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا "؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة؛ لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية ، وأوضح له : أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة ، ولكن لا تقرب هذه الشجرة . و " كُلْ " أَمْرٌ ، و " ولا تقرب " نَهْيٌّ . وكل تكليف شرعي هو بين " لا تفعل " وبين " افعل " .
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله ، فلما قرب آدم وحواء وأكلا منها؛ خالفا أمر الله في { وَلاَ تَقْرَبَا } ، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة ، فبدت له ولزوجته سواءتهما ، فلما بدت لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع ، فأمره الله : أن اهبط إلى الأرض مزوداً بهذه التجربة .
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة ، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا } ، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه ، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ ، وتدركه الغفلة ، وقد يخالف منهج الله في شيء ، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب ، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيًّا؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة .
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني :
(1/2848)

{ . . . وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ]
إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد التوبة ، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ }
إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر ، يخطئ ويصيب ، ويسهو ويغفل . ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً ، ومادام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } [ طه : 122 ]
إذن لا يصح لنا أن نقول : كيف يعصي آدم وهو نبي؟! نقول : تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها ، والبشرية منقسمة إلى قسمين : بشر مبلغون عن الله ، وأنبياء يبلغون عن الله ، فله في البشرية أنه عصى ، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه . والذين يقولون : إن آدم كان مخلوقاً للجنة ، نقول لهم : لا . افهموا عن الله ، لأنه يقول : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } .
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض . إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض ، والا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته ، إلا أن الله قد قبل منه توبته ، وما دام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة ، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض . وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها ، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا ، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم . { يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ . . . } [ الأعراف : 27 ]
وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان ، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل ، فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته ، بل ينهاه عما في مكنته ، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } . فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛ لأن أمره مع أبيكم واضح ، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما أخرج أبويكم من الجنة ، ويتساءل البعض : لماذا لم يقل الله : لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم ، وقال : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة } ؟ . ونقول هذا هو السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن .
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف . كما فتن أبوينا فأخرجهما من جنة التجربة . ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك ، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار . وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله .
(1/2849)

فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء ، وعدم الفضول في الأساليب . { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة . . . } [ الأعراف : 27 ]
والفتنة- كما علمنا- هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به ، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر ، وحين نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به . كذلك الفتنة بالنسبة للناس ، إنها تأتي اختباراً للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة ، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء . فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك حواء . والشيطان هو المتمرد على منهج الله من الجن ، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر . فقد قال الحق سبحانه : { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ . . . } [ الجن : 11 ]
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحداً ، واقرأ قول الحق سبحانه : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ . . . } [ الكهف : 50 ]
وهنا يقول الحق سبحانه : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . . . } [ الأعراف : 27 ]
و " قبيله " هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قَسَمَه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ]
إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله ، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك ، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا لأمر الله معصية أَدَّته وأوصلته إلى الكفر؛ لأنه ردّ الحكم على الله . إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه ، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته . { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . . . } [ الأعراف : 27 ]
وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان ، فلو كان المراد شياطين الإِنس معهم لما قال : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } .
وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية ، ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن ، وهم من قال فيهم سبحانه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً . . . } [ الأنعام : 112 ]
وكلمة { زُخْرُفَ القول } تعني الاستمالة التي تجعل الإِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها ، ويتأثر بزخارف القول . وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول ، فللباطل دعاته ، ومروجوه ، ومعلنوه ، إنهم يزينون للإِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله ، ونلاحظ أن أعداء الله ، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإِيمان في البشر ، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركاً هبة في نفوس الناس ، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم ، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإِسلام .
(1/2850)

{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } .
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله . والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاثة من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة . واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم؛ فقال قوم : " إنهم جنوده وذريته " . ويقصدون جنوده من البشر ، ولم يلتفتوا إلى قول الحق : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } فلا بد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية؛ لأننا نرى البشر ، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره ، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد ، والجن يرانا ولا نراه ، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقون من طين وهو كثيف ، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة .
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف ، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار ، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه . إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإِنسان ، ولذلك أخذ خفة حركته . ونحن لا نراه .
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى ، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئى وهو من نار ، والملائكة من نور ، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور ، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان ، وجاء لرسول الله وقال لنا صلى الله عليه وسلم : " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " .
وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّته ، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر ، فيتمثل لهم مادة . " وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال : " إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة ، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون " .
وذلك من أدب النبوة . إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته ، فإذا ما أرادك أن تراه . . فهو يظهر على صورة مادية . وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على حرصهم على فهم كتاب الله ، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره ، فقال بعضهم : حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ، لابد أن نقول : إننا لن نراه .
وأقول : إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته ، بل على صورة مادية يتشكل بها ، وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان؛ لأن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان ، وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه ، هل هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟
إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة ، وحركة المجتمع؛ لأنك لا تعطف على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك ، ولا تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه صديقك .
(1/2851)

ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به . وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه ، وهنا سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته . وأيضاً أعدى أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم العلماء ، فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه ، ثم يقول كلاماً مناقضاً لمنهج الله؟ .
إذن فالشيطان لا يتمثل ، هكذا قال بعض العلماء ، ونقول لهم : أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل ، يتمثل تمثلاً استمرارياً ، لا . هو يتمثل تمثل الومضة؛ لأن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان أو لصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها ، وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً ، إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه ، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً؛ لذلك يختار التمثل كومضة ، ثم يختفي ، والإنسان إذا تأمل الجني المشكل . سيجد فيه شيئاً مخالفاً ، كأن يتمثل- مثلا- في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف أن تكون قد عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه . وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه .
ويتابع الحق سبحانه : { . . . إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 27 ]
والشياطين من جَعْل الله ، وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم والا لو أراد الله منعهم من أن يفتنوهم . لفعل . . إذن فكل شيء في الوجود ، أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى أمرين : طاقة تفعل الفعل ، وداع لفعل الفعل . فإذا ما كانت عند الإنسان الطاقة للفعل ، والداعي إلى الفعل ، فإبراز الفعل في الصورة النهائية نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان . فأنت تقول : العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة ، ونقول : إن العامل لم ينسج ، وإنما الآلة ، والآلة لم تنسج ، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك ، والصانع لم يصممها الا بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها .
إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل ، واعتمد على طاقة المهندس الذي صنعها في المصنع ، والمهندس اعتمد على طاقة الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة ، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه الله ، وفي مادة خلقها الله .
إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً؛ لأنه خالق الطاقة ، وخالق من يستعمل الطاقة ، والإنسان يوجه الطاقة فقط ، فإذا قلت : العامل نسج يصح قولك ، وإذا قلت : الآلة نسجت ، صح قولك ، وإذا قلت : إن المصنع هو الذي نسج صح قولك .
(1/2852)

إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله ، وأنت وجهت الطاقة المخلوقة لله بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور . فإذا قال الله { إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين } أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم ، غير أننا لو أردنا الا يفتنوا أحداً لما فتنوه . وهذا ما فهمه إبليس . { . . . لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 82-83 ]
إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن يغويه ، وتعلم الشياطين أن الله خلّى بينهم في الاختيار ، هذه اسمها تخلية؛ ولذلك لا معركة بين العلماء . فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة لله ، ونسب كل فعل إلى الله ، ومنهم من رأى أنَّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر ، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله في أنه الفاعل لكل شيء ، ومنهم من قال : إن الإنسان هو الذي فعل المعصية . . أي أنه وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له ، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ولا خلاف بينهم جميعاً . { . . . إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 27 ]
إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن ، ولكن الذي آمن لا يتخذه الشيطان وليًا .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا . . . }
(1/2853)

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح ، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب ، وهو الزنا ، لأن هذا تزيد في القبح ، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها ، لكن الزنا يخلف آثاراً . . فإمّا أن يوأد المولود ، وإما أن تجهض المرأة ، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيداً ، ويعيش طريداً في المجتمع لا يجد مسئولاً عنه ، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتداداً أكثر من أي معصية أخرى . وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع . ولنا أن نتصور إن إنساناً يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه ، وهذه بلوى كبيرة للغاية . والذين قالوا : إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ]
أو الفاحشة هي ما فيه حد ، أو الفاحشة هي الكبائر ، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان .
فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟ . إنها الفواحش التي تقدمت في قوله : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ . . . } [ المائدة : 103 ]
وكذلك ما جاء في قوله تعالى : { وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ . . . } [ الأنعام : 137 ]
وكذلك في قوله الحق سبحانه : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا . . . } [ الأنعام : 136 ]
أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فيطوف الرجال نهاراً ، والنساء يطفن ليلاً ، لماذا؟ . لأنهم ادَّعَوْا الورع . وقالوا : نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا ، وأن نتجرد من متاع الدنيا ، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله فيها .
وقولهم : { وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا } تقليد ، والتقليد لا يعطي حكماً تكليفياً ، وإن أعطى علماً تدريبيا ، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف . ومما يدل على أن التقليد لا يعطي حقيقة ، أنك تجد المذهبين المتناقضين- الشيوعية والرأسمالية مثلاً- مقلدين؛ لهذا المذهب مقلدون ، ولهذا المذهب مقلدون . فلو أن التقليد معترف به حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة ، والمتضادان لا يصبحان حقيقة؛ لأنهم - كما يقولون - الضدان لا يجتمعان ، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد . ولذلك نلاحظ في أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جداً؛ فالذي يتكلم إله . { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ]
والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي إلى حقيقة ، بل قال : { . . . قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ]
وهذا رد على قولهم : والله أمرنا بها . وأين الرد على قولهم : { وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا } ؟ .
(1/2854)

نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري ، ولذلك ترك الله الرد عليه؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري ، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر بالفحشاء ، فالله لا يأمر بالفحشاء . ثم كيف كان أمر الله لكم؟ . أهو أمر مباشر . . بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة؟ ألم تنتبهوا إلى قول الحق سبحانه : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً . . . } [ الشورى : 51 ]
أم بلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول؟ . وهكذا يكون قولكم مردوداً من جهتين : الجهة الأولى : إنه لا طريق إلى معرفة أمر الله إلا بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل؛ لأنكم لستم أهلاً للخطاب المباشر ، والجهة الثانية : أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل . فأنتم لم يخاطبكم الله بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم : { . . . أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ]
ولا جواب على السؤال إلا بأمرين : إما أن يقولوا : " لا " فقد كذبوا أنفسهم ، وإما أن يقولوا : " نعم "؛ فإذا قالوا : نعم نقول على الله ما لا نعلم؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة ، بل أمر الله بالقسط ، لذلك يقول سبحانه بعد ذلك : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط . . . }
(1/2855)

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
والقسط هو العدل من قسط قِسطاً ، وأمّا قاسط فهي اسم فاعل من قسط قَسْطاً وقَسُوطاً أي جار وعدل عن الحق ، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون ، كلمة العدل هي التسوية ، فإن ملت إلى الحق ، فذلك العدل المحبوب . وإن ملت إلى الباطل ، فذلك أكره مكروه { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط } .
وهذه جملة خبرية . { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 29 ]
وهذا فعل أمر ، وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف الأمر على الخبر ، ولكن لنلتفت أن الحق يعطفها على " قل " ، فكأن المقصود هو أن يقول : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
والوجه هو السمة المعينة للشخص؛ لأن الإنسان إن أخفى وجهه لن تعرفه إلا أن كان له لباس مميز لا يرتديه الا هو . والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي ، ولذلك كان السجود هو وضع الوجه في الأرض ، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود؛ لأن السجود من الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض . وكل شيء خاضع لحكم الله نقول عنه : إنه ساجد . { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب . . . } [ الحج : 18 ]
والشجر يسجد وهو نبات ، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان ، والشمس والقمر والنجوم والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة ، لكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه وقال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . . } [ الحج : 18 ]
لأن الإنسان له خاصية الاختيار ، وبقية الكائنات ليس له اختيار . إذن فالسجود قد يكون لغير ذي وجه ، والمراد منه مجرد الخضوع ، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف أنه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا ، فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيواناً ، ونباتاً ، وجماداً قد وضع وجهه على الأرض فهو خاضع من أول الأمر حين نقول عنه إنه ساجد . { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ . . . } [ الأعراف : 29 ]
والإقامة أن تضع الشيء فيما هيىء له وخُلق وطُلب منه ، وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته وأملته وحنيته ، وعَوِّجته . إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود؛ لأن الذي سخر لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله ، وإن لم تفعل فأنت تختار الاعوجاج لوجهك ، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا ، ولكن وضع جبهتك ووجهك على الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضاً . والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله ، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم ، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم ، أو تفوت أنت النعيم ، وحين تتذكر الله وتكون خاضعاً لله فأنت تنال البركة في حركة الاستخلاف .
(1/2856)

{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ . . . } [ الأعراف : 29 ]
والمسجد مكان السجود ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونُصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون " .
إذن فكل موضع في الأرض مسجد؛ فإن دخلت معبداً لتصلي فهذا مسجد . والأرض كلها مسجد لك . يصح أن تسجد وتصلي فيها . وتزاول فيها عملك أيضا ، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه ، وحين يأتي وقت الصلاة تصلي ، وكذلك الحقل تصلي فيه ، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها ، ولا يزاول فيه شيء آخر . فإن أخذت المسجد على أن الأرض مسجد كلها تكن { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } في جميع أنحاء الأرض . وإن أخذتها على المسجد ، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص ، وله متجه وهو الكعبة . وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان . والمساجد نسميها بيوت الله ولكن باختيار خلق الله ، فبعضنا يبني مسجداً هنا أو هناك . ويتجهون إلى بيت باختيار الله وهو الكعبة . ولذلك كانت كعبة ومتوجهاً لجميع بيوت الله .
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها ، أي على الوجه الذي تستقيم فيه العبادة . وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت الله باختيار الله .
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد ، أو { أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد ، وهنا اختلف العلماء ، هل أداء الصلاة وإقامتها في المسجد ندباً أو حتماً؟ . والأكثرية منهم قالوا ندباً ، والأقلية قالوا حتماً . ونقول : الحتمية لا دليل عليها .
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسِ بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم " .
ونقول : هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل؟ لم يفعل رسول الله ذلك ، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة .
ويقول الحق سبحانه : { وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين . . . } [ الأعراف : 29 ]
والدعاء : طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي . وحين تدعو ربك ادعه مخلصاً له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين ، لأن معنى الإِخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه ، والشوائب في العقائد وفي الأعمال تفسد الإِتقان والإِخلاص ، وإياكم أن تفهموا أن أحداً لا تأتي له هذه المسألة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(1/2857)

" أنّي لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " .
إذن فالإِخلاص عملية قلبية ، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائماً عن اضطرار ، ومعنى اضطرار . أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها . فذهبت للمسبب ، وما دمت مضطراً سيجيب ربنا دعوتك؛ لأنك استنفدت الأسباب ، وبعض الناس يدعون الله عن ترف ، فالإِنسان قد يملك طعام يومه ويقول : ارزقني ، ويكون له سكن طيب ويقول : أريد بيتاً أملكه . إذن فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب ، فيجب أن نأخذ بها ، وغالبية دعائنا عن غير اضطرار . وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله .
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { . . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ الأعراف : 29 ]
والله سبحانه يخاطب الإِنسان ، ويحننه ، مذكراً إياه ب " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " . وسبحانه قادر أن يخلقه مرغماً على أن يفعل ، لكنه - جل وعلا - شاء أن يجعل الإِنسان سيدا وجعله مختاراً ، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد ، وأثبت لنفسه - سبحانه - صفة القدرة ، ولا شيء يخرج عن قدرته؛ فأنت أيها العبد تكون قادراً على أن تعصي ولكنك تطيع ، وهذه هي عظمة الإِيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية لله ، فإذا ما غُر الإِنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله ، وبما فيه من عافية ، وبما فيه من قوة ، وبما فيه من مال ، تجد الحق يلفته : لاحظ أنك لن تنفلت مني : أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا ، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب ، ولن تجد إلا المسبب ، ولذلك اقرأ : { . . . لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
كأن المُلْكَ- قبل ذلك - أي في الدنيا - كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا يملك ، وذلك يملك ، وآخر يوظف ، لكن في الآخرة لا مالك ، ولا مَلِكٌ إلا الله ، فإياكم أن تغتروا بالأسباب ، وأنها دانت لكم ، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها؛ لأن مرجعكم إلى الله .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً . . . }
(1/2858)

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
اذكروا أننا قلنا من قبل : إن الله هدى الكل . . بمعنى أنه قد بلَّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل ، وحين يقول سبحانه : { فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة ، لكن دلالة المعونة . وقد فرقنا بين هداية الدلالة وهداية المعونة .
وقوله الحق { فَرِيقاً هدى } أي هداية المعونة؛ لأن هذا الفريق أقبل على الله بإِيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة ، وبغّضه في المعصية ، وأعانه على مهمته . أما الذي تأبّى على الله ، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله؟ لا . إنه يتركه في غيِّه ويخلي بينه وبين الضلالة ، ولو أراده مهديًّا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك . وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه ، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا . { . . . إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأعراف : 30 ]
إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية ، أمّا من يقول إنها هداية فهذا تبجح وكفر؛ لأنه يرد الحكم على الله . وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا : حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا ، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول : إنه الهداية ، فهذا أمره عسير؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بالله . { . . . وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأعراف : 30 ]
لأنهم يفعلون ما حرم الله ، وليتهم فعلوه على أنه محرّم ، وأنهم لم يقدروا على أنفسهم ، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل . وهذا الأمر يشيع في معاصٍ كثيرة مثل الربا ، فنجد من يقول : إنه حلال ، ونقول : قل هو حرام ولكن لم أقدر على نفسي ، فتدخل في زمرة المعصية ، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله ، ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا ، ويتوب عليك ، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال!! فهذا هو الخطر؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر ، اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء ، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدَّر أن عبيده يخطئون ويصيبون ، ومن رحمته أنه شرع التوبة ، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة ، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه؟ .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ . . . }
(1/2859)

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء ، وقوله سبحانه وتعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ]
هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس ، وكذلك يمكن أن يكون المقصود ب { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة . أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر ، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف ، فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله ، وهم متنوعون في مهمات حياتهم ، وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له ملابس ، ومن يعمل في " الحِدَادَة " له زي خاص مناسب للعمل ، ولكن إذا ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعاً في لقاء الله أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد؟ لا ، فليجعل للمسجد لباساً لا يُضَايق غيره ، فإن كانت ملابس العمل في مصنع أو غير ذلك لا تليق ، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذَي أحد بالوجود بجانبك؛ لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله ، فلابد أن تحتفي بهذا اللقاء . { . . . وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } [ الأعراف : 31 ]
والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة ، وكل واشرب على قدر مقومات الحياة ولا تسرف ، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل ، فلا تتجاوز الأكثر الذي أُحلِّ لك إلى ما حرم الله؛ لأن هذا إسراف على النفس ، بدليل أنه لو لم تجد إلا الميتة ، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف . ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل إلى تحريم؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام ، فإذا لم يوجد ما يغنيك ، فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك ، والمسرفون هم المتجاوزون الحدود . ولا سرف في حل ، إنما السرف يكون في الشيء المحرم ، ولذلك جاء في الأثر :
" لو أنفقت مثل أحد ذهباً في حِلِّ ما اعتبرت مسرفاً ، ولو أنفقت درهماً واحداً في محرم لاعتبرت مسرفاً " . " ولذلك يطلب منك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط ألا يؤدي بك ذلك إلى البطر ، وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون ، وقد أراد أن يترهب ، ويتنسك ، ويسيح في الكون ، وقال لرسول الله : يا رسول الله ، إنني أردت أن اختصي؛ أي يقطع خصيتيه؛ كي لا تبقى له غريزة جنسية ، فقال صلى الله عليه وسلم : يا عثمان خصاء أمتي الصوم "
(1/2860)

لذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من لم يستطع الزواج : " " يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .
" وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة وهم : أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبدالله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا يقربوا النساء ويجبّوا مذاكيرهم " . فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى الله عليه وسلم ربه وأثنى عليه وقال : " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
ويتابع الحق سبحانه بعد ذلك : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله . . . }
(1/2861)

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وما دام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم ، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة للإِناث ، وما يصح منها للذكور أحلتها السنّة لهم ، وكذلك الطيب من الرزق حلال للمؤمنين والمؤمنات . ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا . . . } [ الأعراف : 32 ]
ثم يتابع سبحانه : { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة . . . } [ الأعراف : 32 ]
فكأننا أمام حالتين اثنتين : حالة في الدنيا ، وأخرى في يوم القيامة ، معنى ذلك أن الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها ، فهي من عطاء الربوبية ، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر ، وربما كان الكافر أكثر حظًّا في الدنيا من المؤمن ، ولكن في الآخرة تكون الزينة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون .
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإِيمانية في المؤمن بوجود الأغيار فيه ، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإِنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة والضعف . وهكذا يكون الإٍنسان في الدنيا؛ فهي دار الأغيار ، ويصيب الإِنسان فيها أشياء قد يكرهها؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك . إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإِيمان منك؛ لأنك إن استصحبت شحنة الإِيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته . { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة . . . } [ الأعراف : 32 ]
ويمكن أن نقرأ كلمة " خالصة " منصوبة على أنها حال ، ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر ، والمعنى : أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها ، وغير خالصة أيضاً من شوائب الأغيار ولكنها وفي الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار .
ويذيل الحق الآية بقوله : { . . . كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 32 ]
معنى { نُفَصِّلُ الآيات } أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن ، فلا نترك خللاً ، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة ، بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهماً لا لبس فيه .
ويقول الحق بعد ذلك : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش . . . }
(1/2862)

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
والحق سبحانه - قد بدأ الآية ب " إنما " التي هي للحصر : أي ما حرم ربي إلا هذه الأشياء ، الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإِثم ، والبغي بغير الحق ، والشرك بالله ، والقول على الله ما لا نعلم ، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراماً ، لأنها لا تدخل في هذه ، وقول الله في الآية السابقة : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } هوعلى صيغة استفهام لكي يجيبوا هم . ولن يجدوا سبباً لتحريم زينة الله لأن الحق قد وضح وبينّ ما حرم فقال : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ]
ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في الأرض ليبقى الإِنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة هذه الخلافة وأداء مهمتها ، وأول شيء أن يسلم للمجتمع طهر أنسابه . وسلامة طهر الأنساب أي الإِنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع؛ لأن الإِنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لأنه منسوب إليه ، ويرعاه ويربيه . أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه ، كذلك يهمله المجتمع ، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعنى به .
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعاً سليماً ، بحيث لا يوجد فرد من الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه ، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته ، ولذلك يجب أن تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكاً طرأ على الأب في أن هذا ليس ابنه . ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه ، فلا يبالي إن رآه أم لم يره ، ولا يبالي أهو في البيت أم شرد ، لا يبالي أكل أم جاع ، لا يبالي تعرى أم لا .
إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع؛ لأن المجتمع سيكون بين مربٍّ يقوم على شأن وصغير مرَّبى ، المربي قادر على أن يعمل ، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية . ولذلك حرم الله الفواحش . والفحش- كما قلنا- ما زاد قبحه ، وانتهوا على أنه هو الزنا؛ لأن أثره لا يتوقف فقط عند الذنب والاستمتاع . بل يتعدى إلى الأنسال . وما تعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع ، ويصير مجتمعاً مهملاً لا راعي له .
والإِثم : أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد؟ . لقد انتهى العلماء على أن الإِثم هو الخمر والميسر؛ لأن الله قال بالنص : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا . . . } [ البقرة : 219 ]
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإِنسان وهو العقل وأن الخمر تغيب العقل ، والإِنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحاً ولا تتعدى على الإِنسان فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل ، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة .
(1/2863)

والذين يأتون ويشربون ويقولون : نريد أن ننسى همومنا نقول لهم : ليس مراد الشارع أن ينسى كل واحد ما أهمه؛ لأنه إن نسي كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير الأمور التي تضمن السلامة .
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها . أما أن تستر العقل فأنت قد هربت من المشكلة ، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك وبتفكيرك . فإن كانت المشكلة ، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم . وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك ، أي هبطت عليك قضاء وقدراً؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة .
وقد يكون البلاء ليحيمك الله من عيون الناس فيحسدوك عليها ، لأن كل ذي نعمة محسود ، وحتى لا تتم النعمة عليك؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها ، وأنت ابن الأغيار وفي دنيا الأغيار ، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان .
إذن فالتفكير في ملافاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل ، والتفكير في الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان ، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم . إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر؛ لأن العقل يدير حركة الحياة .
البغي نعرف انه مجاوزة الحد ظلماً أو أكبر ، أو بخلاً . والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد . لا في عرضه ، ولا في نفسه ، ولا في ماله . ويجب أن نصون العرض من الفواحش؛ لأن كل فاحشة قد تأتي بأولاد من حرام . وإن لم تأت فهي تهدر العرض ، والمطلوب صيانته ، كذلك لا يبغى أحد على محارم أحد ، وكذلك لا يبغى أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل .
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدواناً وظلماً ، ومظاهر البغي كثيرة . ومن البغي أن تأخذ سلطة قسراً بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسراً وقهراً بحق ، فإن كنت- على سبيل المثال- تركب سفينة ، ثم قامت الرياح والزوابع ، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرفت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقذها ومن فيها ، إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس ، وهذا بغي بحق ، وهو يختلف عن البغي بغير الحق . وحتى تفرق بين البغي البغي بحق والبغي بغير الحق نقول . إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفيه منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له ، فنكون قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق ، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغي بحق أو أنه سمي بغيا؛ لأنه جاء على ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير ، ونقرأ أيضاً قول الله :
(1/2864)

{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . } [ الشورى : 40 ]
فهل جزاء السيئة يكون سيئة؟ لا . وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه؛ لأنه لما عمل سيئة واختلس مالا- مثلا- وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك فالحق يقول : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ]
ومن بغى بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه ، أن يتوقع أن يناله بغي ممن هو أكثر قدرة منه .
وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له : { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } .
ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكاً له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة على أنه شريك له- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً؛ لأن من خصائص الإِيمان أنه سبحانه ينفي هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية .
وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ]
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء ، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضاً ، يقول الحق : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي . . . } [ النحل : 90 ]
لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال ، وجاء أيضاً بتحريم المنكر والبغي ، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإِثم فقط . وكأن الإثم في آية الأمر بالعدل والإِحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، مطمور في " المنكر " ، والمنكر ليس محرماً بالشرع فقط ، بل هو ما ينكره الطبع السليم؛ وأيضاً فصاحب الطبع غير السليم يحكم أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر ، هنا يقول : أعوذ بالله منها . وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر ، وعلى سبيل المثال نجد رجلاً يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه المسألة . لكنه ساعة يرى إنساناً آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنّه يرى في ذلك أبشع المنكرات؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدًّا يشملك ويشمل غيرك ولا تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك ، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون . . وإياك أن تقول : إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي ، إنه- سبحانه- كما حرم نظرك إلى ذلك ، حرم أنظار الناس جميعاً أن ينظروا إلى محارمك؛ وفي هذا صيانة لك .
وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة ، وحرم الفواحش والمنكر والبغي والإِثم يقول سبحانه : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ . . . }
(1/2865)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي؛ فالذين سفكوا ، وظلموا ، وانتهكوا الأعراض ، وأخذوا الأموال . لم يدم لهم ذلك ، بل أمد الله لهم في طغيانهم ، وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر . ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء . ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع . فإن رأيت فساداً أو طغياناً إياك أن تيأس؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلاً ، بداية ونهاية ، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها . إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الآية : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ]
والأجل لكل أمة معروف عند الله؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه ، والألم وسيلة العافية لأنه يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي ، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي تظلم . وتضطهد . ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم . فإياك أن تيأس ، ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق . وإلى جناب الله فتلوذ به وحده ، ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإِيمان بالله؛ ففروا إلى بيته حجاجاً وإلى مساجده عمارًّا وإلى قراءة قرآنه ذكراً . وننظر إلى هذه الأمور ونقول : إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه ، وهناك أناس لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالماً لما فروا إلى الله بحثاً عن نجاة ، ولما التفتوا لربنا عبادة .
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناساً ، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا يصوم ولا يذكر ربه ، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإِنسان المعضوض إلى الله عائذاً به ملتجئا إليه ، ولذلك نقول للظالم : والله لوعرفت ماذا قدمت أنت لدين الله ، ولم تأخذ عليه ثواباً لندمت ، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به . ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته أنت ، إنّ لكل أمة أجلاً ، فإن كنت ظالماً وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية .
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب ، ثم بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف؛ لأن هذا هو الأجل . إن الحق يعمي بصائرهم في تصرف ، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم . وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره؛ لأن التوقيت في يد قيوم الكون ، وهم أيضاً لا يستقدمون هذا الأجل ، ونلحظ هنا وجود كلمة " ساعة " ، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت ، ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة ، والأقل من الساعة الدقيقة ، والأقل من الدقيقة الثانية ، والأكبر من الساعة هو اليوم . ومن يدري فقد يخترع البشر آلاتٍ لضبط الجزء من الثانية .
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة .
ويقول الحق بعد ذلك : { يابني ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ . . . }
(1/2866)

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
هنا ينادي الحق أبناء آدم ، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإِثم والشرك ، ووضع لهم نظاماً يضمن سلامة المجتمع ، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلاً . فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات . { يابني ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي . . . } [ الأعراف : 35 ]
عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرق المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة وملاذها ، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليماً .
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرص على ملازمته وعلى تلقي البلاغ منه ، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه . لكن من رحمة الله أن يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبيناً آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم ، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه ، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع ، لا أن نعاديه ، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول : أنه رسول ومعه آية صدقه . ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم ، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم . وهذه فائدة قوله الحق : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ]
فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي ، لذلك نجد الذين آمنوا برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن ، لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له؛ لأنهم عايشوه ، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه . ومثال ذلك : عندما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة - رضوان الله عليها - بنبأ رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها ، أسرعت إلى ورقة بن نوفل؛ لأنه عنده علم بكتاب ، وقبل ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم " .
وكل هذه المقدمات تدل على أنك - يا رسول الله - في حفظ الله ورعايته؛ لأنك كنت مستقيم السلوك قبل أن تُنَّبَّأ ، وقبل أن توجد كرسول من الله . وهل معقول أن مَن يترك الكذب على الناس يكذب على الله؟! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول الله : أنا رسول ، قال له : صدقت .
(1/2867)

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة ، وهذه هي فائدة { رسول من أنفسكم } أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة . ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال لنا : هذا هو المنهج ولكم أسوة بي ، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير : وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَكٌ مفطور على الخير؟ . لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري ، وهو صالح أن يصدر منه الخير ، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة ، ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ]
إنه الغباء وقصر النظر والغضب؛ لأن الله بعث محمداً وهو من البشر ، فهل كانوا يريدون مَلَكاً؟ ولو كان ملكاً فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر؟ . ولذلك يرد الحق الرد المنطقي : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ]
وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكليفي ، ولم يُدخلكم في أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه . ولم يأت به من جنس آخر . { يابني ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي . . . } [ الأعراف : 35 ]
وانظر قوله : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } ، لقد جاء بكلمة " يقصّون " لأن القصص مأخوذة من مادة " القاف " و " الصاد المضعَّفة "؛ وهذا مأخوذ من " قصّ الأثر " ، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام . إذن { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم ، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون المؤثِّر في الأثر . { . . . فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأعراف : 35 ]
و " التقوى " هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية . ولذلك يقول الحق : { اتقوا النار } ، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار . وإذا قيل : { واتقوا الله } أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا ، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضاً بترك النواهي . والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل؛ لأنهم إنما جاءوا لإِنقاذ البشر ، فالمجتمع حين يمرض ، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله ليرعاه ، وهو الرسول؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة . { فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
و " أصلح " تدل على أن هناك شيئاً غير صالح فجعله صالحاً ، أو حافظ على صلاح الصالح ورقَّى صلاحه إلى أعلى ، مثل وجود بئر نشرب منه ، فإن كانت البئر تؤدي مهمتها لا نردمها ، ولا نلقي فيها قاذورات ، وبذلك نبقي الصالح على صلاحه ، ويمكن أن نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سوراً ، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت .
(1/2868)

وبذلك نزيد الصالح صلاحاً ، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإِصلاح بينما هم مفسدون ، يقول الله فيهم : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-104 ]
إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل ، وماذا ستعطيه تلك المقدمات ، وماذا سوف تأخذ منه . وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحاً ، وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ . . . } [ الحديد : 23 ]
وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أي هؤلاء الذين أصلحوا واتقوا؟ المقابل هو ما يأتي في قوله الحق : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا . . . }
(1/2869)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها خالدين؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية ، وغاب عنهم الإِيمان بقول الحق : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ]
وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا ، فلماذا نسي أنها موقوتة العمر؟ ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة؟ . عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا ، خليفة في الأرض ، ومادمنا جميعاً أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الأجناس فلابد أن تكون لنا غاية متحدة؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه لا يعتبر غاية ، فالغاية الأخيرة هي لقاء الله؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي الموت ليسلمنا لحياة ثانية ، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة؛ لأن من يقارن هذه الدنيا بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإِنسان في الدنيا قليل ، وزمن الآخرة لا نهاية له . وعمر الإِنسان في الدنيا مظنون غير متيقن ، والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد وإمكاناته ، لكن الآخرة متيقنة ، ونعيم المؤمن فيها على قدر طلاقة قدرة الله . { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 36 ]
وأصحاب النار . يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإِنسان منا صاحبه؛ لأن النار على إلف بالعاصين ، وهي التي تتساءل : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } ؟ .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى . . . }
(1/2870)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
و { فَمَنْ أَظْلَمُ } تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإِقرار . ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولاً ظلم نفسه ، وظلم أمته ، وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية ، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذباً . { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } .
أي قوَّل الله ما لم يقله ، أو كذَّب ما قاله الله ، وكلا الأمرين مساوٍ للآخر . والآية- كما نعلم- هي الأمر العجيب ، والآيات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ . . . } [ فصلت : 3 ]
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييداً لرسله . { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون . . . } [ الإسراء : 59 ]
فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة .
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر . . . } [ فصلت : 37 ]
فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن ، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك : هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي ، ما عرف عنه أنه زاول تعلماً ، وما جربوا عليه أنه قال شعراً ، أو نثراً أو له رياضة في كلام ، وبعد ذلك ما جرب حكم أمم ، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها .
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس ، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها ، وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية ، وكان كل نظام هذه الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس ، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها ، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها ، وهذه مسألة عجيبة ، وكل آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة .
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان ، وكل في فلك يسبحون ، إنه نظام عجيب .
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن ، والمعجزات والآيات الكونية . وكيف يكذبون إذن بالآيات؟ . ألا ينظرون إلى الكون . وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم ، القادر ، الحكيم ، الحسيب . وكذلك كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات ، ويقولون : إنه ساحر ، وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها . إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته ، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية ، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم .
(1/2871)

وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية ، تساءل : كيف تقولون . إنه سحر الناس فآمنوا به ، فلماذا لم يسحركم أنت؟ . وحينما قالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ . . . } [ النحل : 103 ]
قال الحق : { . . . لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ]
وقالوا : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ]
فيعلم الحق رسله أن يقول : { . . . فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ]
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاماً فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله ، والله استدعاهم إلى الوجود ، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة ، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما في خدمة الطائعين المؤمنين . ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها ، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها ، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق ، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا .
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدَّر لهم ، من الرزق والحياة ، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق : { أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب . . . } [ الأعراف : 37 ]
أو ينالهم ، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب ، والعاصي له العقاب ، فيقول الحق هنا : { . . . حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ الأعراف : 37 ]
وساعة تسمع { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } تفهم أن الحياة تنتهي ، وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو " التوفي " ، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى ، ومرة ينسب إلى المَلَك ، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول- سبحانه- : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } ، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده ، بل أخذ التلقي من الله ، فالأمر الأعلى من الله ، وأمر التوسط للملك ، وأمر التنفيذ للرسل .
و " التوفي " على إطلاقه هو استيفاء الأجل ، فإن كان أجل الحياة فهو ترفية بالموت ، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب . إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان له أجلان : أجل ينهي هذه الحياة ، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب . وهذا لا يمنع أن يقال : إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار .
وحين تسألهم الملائكة : { . . . أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ الأعراف : 37 ]
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم أثر .
(1/2872)

{ وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ . . . } [ السجدة : 10 ]
وهم - إذن - يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله ، والمراد أنه لا وجود لهم ، وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم . ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف قد انتهى ، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل ، ولكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة . وذلك لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم ، ولن يتأبوا على الجزاء؛ لذلك يقول الحق : { قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ . . . }
(1/2873)

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر " كن " سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعاً ، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه ، وهم أمم خليط؛ لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء .
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت أسوة في الضلال للأمة التي لحقت ، فإذا ما دخلوا لعنوهم .
وهب أن إنساناً دخل مرة السجن لجرم ارتكبه ، وبعد ذلك دخل عليه من كان يغربه بالجرم . ومن كان يزين له ، ومن اقتدى به . بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن الأول الثاني؟ { . . . كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ]
وبعد أن يلحق بعضهم بعضاً ويجتمعوا ، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار . . . } [ الأعراف : 38 ]
فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد سبقتهم إلى النار ، { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } ، أي أن الأولى هم القادة الذين أضلوا ، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا . { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا } . وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا : { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا } .
كيف يتأتى هذا؟ . وكان المقياس أن يقول : قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا القول ، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد الله ، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع : { هؤلاء أَضَلُّونَا } فهؤلاء ، هذه رشارة إليهم ، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقاً لقوله الحق : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار . . . } [ الأعراف : 38 ]
فقال لهم جميعاً : { . . . لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } .
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت . ونفهم أن الضّعْف معناه " شيء مساوٍ لمثله " ، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضاً؛ لأنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم .
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضاً ، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في الحساب ، ويعطي كل إنسان حقه تماماً .
وماذا تقول أولاهم لأخرهم؟ يقول الحق سبحانه : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ . . . }
(1/2874)

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرءوس { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرماً مثله ، يقول له : اشرب من العذاب نفسه ، وليس ذلك تجنياً من الله ، ولا بسلطة القهر لعباده ، ولكن بعدالة الحكم؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم .
ومعلوم أن التذوق في الطعوم ، فهل هم يأكلون العذاب؟ . لا ، إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم تذوق العذاب ، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق كالتي في اللسان .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ]
وهذه هي الإذاقة ، كأنها صارت لباساً من الجوع يشمل الجسد كله ، والإِذاقة أشد الإِدراكات تاثيراً ، واللباس أشمل للجسد . { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } .
ولم يقل الحق : بما كنتم تكتسبون؛ لأن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال ، بل صار أمراً طبيعياً بالنسبة لهم ، وعلى الرغم من أن الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع ، وفي السيئات يجاهد نفسه؛ لأن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه ، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات ، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر طبيعي ، وهذا هو الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل السيئات .
ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا . . . }
(1/2875)

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
والحق يريد أن يعطي حكماً جديداً ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته ، وهي جريمة غير معطوفة على سابقة لها ، وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة ، وأن من يرتكبها يلقى حكماً وعقاباً . { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا } .
وقد عرفنا من قبل معنى الايات . وأنها ايات القرآن المعجزة أو الايات الكونية ، وأي إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعاً لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته ، وهذا الانسان يستحق العقاب الشديد . فصحيح أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن له من الجاه ولا سلطان ما ينافس به سادة وكبراء قريش ، ولذلك وجدنا من يقول : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
إنهم يعترفون بعلو القرآن ، لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية .
ومن يكذب الايات ويستكبر عن اتباع الرسول لا تفتح له أبواب السماء . { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين } [ الأعراف : 40 ]
وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء ، وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء . . إنهم المؤمنون ، وحين تصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى . أما المكذبون فهم لا يترقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة ، وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلاً وعادة وطبعاً : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } .
و { سَمِّ الخياط } هو ثقب الإبرة ، أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط ، ولا تدخل فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب ، وأن تكون الفتلة من الصلابة بحيث تنفذ ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف؛ لأنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب؛ لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سناً ليدخلها في ثقب الإبرة .
وحين نأتي بالجمل ونقول له : ادخل في سم الخياط ، فهل يستطيع؟ طبعاً لا؛ لذلك نجد الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل .
بعض الناس قالوا : وما علاقة الجمل بسم الخياط؟
نقول : إن الجمل يطلق أيضاً على الحبل الغليظ المفتول من حبال ، مثل حبال المركب إننا نجده سميكاً مجدولاً .
وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحداً منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول :
ولو أن ما بي من جوى ... وصبابةعلى جمل لم يدخل النار كافر
لأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر ، لو أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف وينحف ويهزل ، إلى أن يدخل في سم الخياط ، وهنا يوضح ربنا : إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة . { . . . حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين } [ الأعراف : 40 ]
وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا .
ويقول الحق بعد ذلك : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ . . . }
(1/2876)

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
المهاد هو الفراش ، ومنه مهد الطفل ، والغاشية هي الغطاء ، أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه جهنم . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ . . . } [ الزمر : 16 ]
إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للإِنسان ، والأبعاد ستة وهي : الأمام والخلف ، واليمين والشمال ، والفوق والتحت ، والمهاد يشير إلى التحتية ، والغواشي تشير إلى الفوقية ، وكذلك الظلل من النار ، ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا . . . } [ الكهف : 29 ]
وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين .
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه ، ثم يأتي بالمقابل ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف ، ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف ، فيقول سبحانه : { والذين آمَنُواْ . . . }
(1/2877)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون ، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإِيمان ، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في مقدور النفس وليس فوق طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف ب " افعل ولا تفعل " وذلك في حدود وسع المكلَّف .
وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار : { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزِي المجرمين } [ الأعراف : 40 ]
فهم لن يدخلوا الجنة ، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً ، ولا يتوقف الأمر على ذلك ، ولكنهم يدخلون النار ، إذن فهنا أمران : سلب النافع وهو دخولهم الجنة ، إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم ، وذلك جزاء إجرامهم . وبعد ذلك كان إدخالهم النار ، وهذا جزاء آخر؛ فقال الحق : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين } [ الأعراف : 41 ]
في الأولى قال : - سبحانه - { وكذلك نَجْزِي المجرمين } .
وفي الثانية قال : { وكذلك نَجْزِي الظالمين } .
فكأن الإجرام كان سبباً في ألا يدخلوا الجنة ، والظلم كان سبباً في أن يكون من فوقهم غواش ، لهم من جهنم مهاد ، وهم في النار يحيطهم سرداقها .
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولاً ، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً؛ أن نتلهف على المقابل . فقال سبحانه : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ]
وقول الحق سبحانه وتعالى : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } جاء بين المبتدأ والخبر ، ككلام اعتراضي؛ لأن أسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة ، وجاءت { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لأننا حينما نسمع { والذين آمَنُواْ } فهذا عمل قلبي ، ونسمع بعده { وَعَمِلُواْ الصالحات } وهذا عمل الجوارح ، وبذلك أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة . والاعتقاد هو يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة ، ولذلك أوضح سبحانه : إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم ، لا؛ فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع ، وإياكم أن تفهموا قولي : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هو رغبة في إرهاق نفوسكم ، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع ، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف .
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدرتها ، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد .
(1/2878)

وإذا كان الصانع من البشر لا يكلف الآلة الصماء فوق ما تطيق ، أيكلف الذي خلق البشر فوق ما يطيقون؟ محال أن يكون ذلك .
إذن فيجب أن نوصد الباب أمام الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات التكليف عليهم ، فلا تعلق الحكم على وسعك الخائر الجائر ، ولكن غلق الوسع على تكليف الله ، فإن كان قد كلف فأحكم لأن ذلك في الوسع؛ والدليل على كذب من يريد الافلات من الحكم هو محاولته إخضاع الحكم لوسعه هو؛ أن غيره يفعل ما لا يريد أن يفعله . فحين ينهى الحق عن شرب الخمر تجد غيرك لا يشرب الخمر امتثالاً لأمر الله ، وكذلك تجد من يمتنع عن الزنا أو أكل الربا؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من نوعك قادراً على هذا العمل فمن لا يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب لا لصعوبة التكليف .
فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم ب " افعل " و " لا تفعل " وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا إذا كان قادراً على أن يؤدي مطلوبات الشرع؛ لأن الله لا يكلف إلا على قدر الطاقة ، واستبقاء الطاقة يحتاج إلى قوت ، طعام ، شراب ، لباس ، وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة ، لذلك أوضح سبحانه أنه يوفر للإِنسان كل ماديات الحياة الأساسية ، وإياكم أن تظنوا أن الله حين يكلف الإنسان يكلفه شططاً ، ولكن الإنسان هو الذي يضع في موضع الشطط . فقال : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ . . . } [ الطلاق : 7 ]
{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي ضيق عليه قليلاً .
ويقول سبحانه : { فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا . . . } [ الطلاق : 7 ]
إذن لا تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور ، بل انظر إلى الوارد أليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد ، فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب حياتك على أن يكون مصروفك يساوي دخلك؛ لأن الله لا يكلفك إلا ما آتاك .
ولننظر إلى ما آتانا الله؛ لذلك لا تدخل في حساب الرزق إلا ما شرع الله ، فلا تسرق . ولا تنهب ولا تختلس ولا ترتش ثم تقول : هذا ما آتاني الله ، لا ، عليك ألاَ تأخذ ولا تنتفع إلا بما أحل الله لك ، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعينك الله على كل أمرك وكل حاجاتك ، لأنك تحيا بمنهج الله ، فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد على ما آتاك الله ، فلا تخطر على بالك أو على بال أولادك . وتجد نفسك - على سبيل المثال - وأنت تدخل السوق وآتاك الله قدراً محدوداً من المال ، وترى الكثير من الخيرات ، لكن الحق يجعلك لا تنظر إلا في حدود ما في طاقتك ، وكذلك يُحسّن لك الله ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها ، ولا يحرك شهوات النفس إلا في حدود ذلك .
(1/2879)

ولذلك قال الحق : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ]
وأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها مثلما يحب الصاحب صاحبه؛ فالجنة تتطلبهم ، وهم يتطلبون الجنة ، والحياة فيها بخلود وما فاتك من متع الدنيا لم يكن له خلود ، وأنت في الدنيا تخاف أن تموت وتفوت النعمة ، وإن لم تمت تخاف أن تتركك النعمة؛ لأن الدنيا أغيار ، وفي ذلك لفت لقضايا الله في كونه ، تجد الصحيح قد صار مريضاً ، والغني قد صار فقيراً ، فلا شيء لذاتية الإنسان . وبهذا يعدل الله ميزان الناس فيأتي إلى الحالة الاقتصادية ويوزعها على الخلق ، ونجد الذي لا يتأبى على قدر الله في رزقه وفي عمله يجعل الله له بعد العسر يسراً . وفي الجنة يُخلي الله أهلها من الأغيار .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم . . . }
(1/2880)

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وقوله الحق : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } ينطبق- أيضا- على أهل الاجتهاد الذين اجتهد كل منهم في الدنيا ، واختلفوا ، هؤلاء يبعثون يوم القيامة وليس في صدر أحدهم غل ولا حقد . لذلك تجد سيدنا الإِمام عليًّا -كرم الله وجهه- حين يقرأ هذه الآية يقول : " اللهم اجعلني أنا وعثمان وطلحة والزبير من هؤلاء " . لأن هؤلاء هم الذين وقع بينهم الخلاف في مسألة الخلافة ، وكل منهم صحابي ومبشر بالجنة ، فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار ، فإياكم أن تظنوا أن هذه الأغيار سوف تصحبكم في دار الجزاء في الآخرة؛ لأن الله يقول : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } .
إن الخلاف كان خلافاً اجتهادياً بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد الحسن من الأعمال ، ونشأ عن ذلك في أغيار الدنيا شيء من عمل القلب ، فأوضح سبحانه : إياكم أن تفهموا أن ذلك سوف يستمر معهم في الآخرة؛ لأنهم جميعاً حينما اختلفوا كانوا يعيشون باجتهادات الله ، وفي الآخرة لا اجتهاد لأحد . ويريد الحق أن يجعل هذا الأمر قضية كونية ، ومثال ذلك تجد رجلاً قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس الله في الزواج؛ تزوجها لأنها جميلة مثلاً ، أو لأن والدها له جاه أو غني ، وبعد الزواج لم يعطه والدها الغني شيئاً من ماله فيقول : غشني وزوجني ابنته ، أو كانت جميلة ، ثم لقى فيها خصال قبيحة كثيرة فكرهها ، ونقول لمثل هذا الرجل : مادمت لم تأخذها بمقاييس الله فعليك أن تنال جزاء الاختيار .
ولكن من تزوج امرأة على دين الله ، ووجد منها قبحاً ، فلن يصحبه هذا القبح في الآخرة ، ولذلك نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات ، ولم يأت بها في الأبناء أو في البنات ، بل في الزوج والزوجة لأنهما عماد الأسرة . فبيّن للرجل : إياك أن تتخيل أن المرأة التي أغاظتك أو أتعبتك أو كدرت عليك بخصلة سيئة فيها ، إياك أن تظن أن هذه الخصلة السيئة ستصاحبها في الآخرة ، ولذلك قال سبحانه : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ . . . } [ آل عمران : 15 ]
وأزواج مطهرة من الأشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير الله لها . { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار . . . } [ الأعراف : 43 ]
ونجد الحق يقول مرة : { تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } ومرة يقول : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } ، ونجد " مِن " فارقاً بين القولين . إننا نرى من يستقر في قصر ونجد الماء منساباً حوله وتحته يسر العيون ، وماء الآخرة هو ماء غير آسن ، وليس فيه أكدار الدنيا ، وكما أننا نسر بالماء في الدنيا سنسر به أضعاف ذلك في الآخرة . وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد فيخاف صاحب القصر أن يقطعها آخر عنه ، ويطمئن الحق عباده الصالحين : ستجري من تحت جنانكم الأنهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد ، ولن يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الآخرة بلا شطآن؛ لأن كل شيء ممسوك لا بالأسباب كما في الدنيا ، ولكن ب " كن " التي هي لله .
(1/2881)

ولذلك يقول العباد في جنة الآخرة : { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله . . . } [ الأعراف : 43 ]
إنهم يقولون الحمد لله لأنه جل وعلا قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم دون منغصات ، والحمد لله هي عبادة يقولها المؤمنون في الآخرة؛ لأنهم أدوا حق الله في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم الله فوق ما يتوقعون في الآخرة . ونعيم الآخرة لا قيد عليه ، ولن يستطيع بشر مهما ارتقى بالابتكار أن يصل إلى ما في الجنة؛ لأن الشيء يتحقق لك من فور أن يخطر ببالك . { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ } .
وهذا الحمد لله كان في الدنيا عبادة تكليف ، أمّا في الآخرة فهو " عبادة غبطة وسرور وتلذذ . { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله } .
يقولها المؤمن؛ لأن الله لو لم ينزل منهجاً سماوياً يحدد له حركة حياته استقامة وينذره ويخوفه من المعاصي لما وصل إلى الجنة . والهداية- كما قلنا- هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية ، إذن لابد أن تعرف الغاية أولاً ثم تضع الطريق الموصل لها ، بحيث لا يكون معوجاً ولا يعترضك فيه ما يطيل عليك المسافة ، وقوله الحق : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله } يمنع أن يضع البشر للبشر قوانين تهديهم إلى الغاية؛ لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية؛ لذلك يوضحها لهم خالقهم بمنهجه المنزل على رسوله .
ومادامت الهداية من الله فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة ، لكنه سبحانه ينزل الرسل يتلون علينا آيات الله ويوضحون لنا المنهج؛ لذلك يأتي الحق في الآية نفسها يقوله الحكيم : { . . . لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ]
أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك : إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي إلى المكان الفلاني واذهب إليه عن الطريق الفلاني ، وستجدك سعيداً مرتاح البال ، ثم صدقته ونفذت ما قال ، ووجدت الرجل صادقاً . ألا تشعر بالسعادة؟ . وإذا كان الحق قد أرسل الرسل بالبينات والآيات والمنهج الصحيح ، وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة والنعيم؛ لذلك كان لابد أن يشكروا الله وأن يقولوا : { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } لأن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم . { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الأساس ، وعلى كل واحد أن يحدد مكانه من الجنة؛ بقربه من منهج الله أو بعده عنه؛ لأن دخول الجنة هو جزاء العمل طبقاً لمنهج الحق .
(1/2882)

ووقف العلماء هنا- جزاهم الله خيراً- وقالوا : كيف نوفق بين هذه الآية : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لأعراف : 43 ]
وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" لن يُدخل أحداً عمله الجنة
قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟
قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة " .
وأقول : ليس هناك تناقض بين قول الله سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي بلغ عن الله سبحانه ، بل بينهما تأييد؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن من يعمل العمل الصالح سيدخل الجنة ، وهذا التشريع لم يجبر أحد الله عليه ، بل هو الذي يعطيه لنا فضلا منه؛ فليس لأحد حق على الله؛ لأنه لا يوجد عمل يعود بفائدة على الله ، واتباع المنهج إنما يعود على العبد بالمنفعة والخير ، فإن دخلت الجنة فهذا أيضاً بالفضل من الله . وينبهنا القرآن إلى الجمع بين هذه الآيات وأنه لا تعارض بين نص حديثي ونص قرآني . يقول : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]
فجزاء كل عمل عائد على الإنسان لأنه يأخذ مكافأته على فعله ، فإن كانت المكأفاة أكبر من جزاء الفعل فهي من الفضل؛ لأن الحق هو القائل : { . . . كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ]
وسبحانه أيضاً هو القائل : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ]
إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة نقول : هذه " اللام " للملك . وتفيد أنه لاحق لك على الله إلا بسعيك على وفق منهج الله ، وأن هذه الآية قد حددت العدل ولم تحدد الفضل . { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ . . . } [ يونس : 58 ]
والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلى على الميت المسلم ، وقد أمرنا التشريع بذلك ، وأن ندعو الله أن يتجاوز عن سيئاته . فهل تضيف هذه الصلاة إلى الميت شيئا زائداً عن عمله؟ لو لم تكن صلاة تضيف شيئاً لما أمر التشريع بها . فهي صلاة على ميت مسلم ، وأسلامه من عمله ، ونجد الحق يقول : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ . . . } [ الطور : 21 ]
أي أن الآباء والأبناء يشتركون معاً في الإيمان وفي العمل ، قوله تعالى : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ . . . } [ الطور : 21 ]
هذا الإلحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الآباء ، لكن الحق يرفع من منزلتهم إكراماً للآباء . وهذا الإلحاق جزاء للذرية ، وقد يكون أيضاً جزاء للآباء؛ فيحضر لهم أولادهم معهم مادام الكل قد اشتركوا في الإيمان ، وكان الآباء يتحرون الحلال في إطعام الأبناء ولا يربونهم إلا على منهج الله . وقد يرى الأب أبناء جار له يلبسون الملابس الفاخرة ويأكلون الأكل الطيب ، ويتحمل الأبناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا الأب الملتزم بالعمل الصالح والأجر الحلال ، وينال الأبناء الجنة مع الأب لأنهم تحملوا معه مشاق الالتزام بالحلال .
(1/2883)

وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة . { . . . ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لأعراف : 43 ]
و { أُورِثْتُمُوهَا } من " الإرث " وتدل على أن هناك شيئاً آل إلى الغير . ونعلم أن الله ، علم أزلا كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان وطاعة ومعصية ، وعلى رغم ذلك أعد سبحانه لكل واحد من خلقه مكانه في الجنة على أنه مؤمن ، وأعد لكل واحد من خلقه مكاناً في النار على أساس أنه سيكفر .
إذن فقد أعدَّ سبحانه جناناً بعدد خلقه ، وأعدَّ أماكن في الجحيم بعددهم ، فليست هناك أزمة أماكن عند إله قادر مقتدر . فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة ، و- والعياذ بالله - إن كفر الخلق جميعاً فلن تضيق بهم النار . فإذا كانوا جماعة من خلق سيدخلون الجنة بالعمل ، فأين تذهب أماكن أهل النار؟ إن الحق بفضل منه يمنحها المؤمنين .
إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر .
وبعد الكلام في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة ، بعد ذلك كان من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار؛ فيقول سبحانه : { ونادى أَصْحَابُ الجنة . . . }
(1/2884)

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
وهكذا نرى التبكيت ، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار ، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم ، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة . والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب . إذن لابد أن يتراءوا ، ولذلك يحدث الحوار ، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً ، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة . فهل - يا أهل النار - وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون : " قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً " ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد ( الثانية ) بل قال : " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً "؟
إنه قال سبحانه : " ما وعد " فقط ، ولم يقل ما وعدكم كما قال : ( ما وعدنا ) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد ، وليس الخاص بهم فقط ، بل وأيضاً الخاص بالمقابل ، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله . فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله ، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله .
وهنا يجيب أهل النار : ( قالوا نعم ) .
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن ، كان وعيداً ، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد ، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله ، وصارت الدار الآخرة واقعاً ، وتحقق وجودهم في النار . { . . . فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ]
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر .
ويقول الحق بعد ذلك : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله . . . }
(1/2885)

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله ، وصد غيره ، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره ، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً ، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص ، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن الدين . هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عمّا شرع الله ، ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل هم بالآخرة كافرون ، ولو كان الواحد منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك .
ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف . . . }
(1/2886)

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
الحجاب موجود بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وهم يتراءون من خلاله ، وبيّنه الحق سبحانه فقال : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } [ الحديد : 13 ]
باطن هذا الحجاب الرحمة من ناحية أهل الجنة ، وظاهره المواجه لأهل النار فيه العذاب ، والحق هو القادر على كل شيء؛ لذلك لا ينال أهل الجنة شيء من شقاء أهل النار ، ولا ينال أهل النار شيء من نعيم أهل الجنة ، ويسمع أهل النار رداً على طمعهم في أن ينالهم بعض من نور أهل الجنة ، إنكم تلتمسون الهدى في غير موطن الهدى؛ فزمن التكليف قد انتهى ، ومن كان يرغب في نور الآخرة كان عليه أن يعمل من أجله في الدنيا ، فهذا النور ليس هبة من خلق لخلق ، وإنما هو هبة من خالق لمخلوق آمن به . وأنتم تقولون : انظرونا نقتبس من نوركم ، وليس في مقدور أهل الجنة أن يعطوا شيئاً من نور أهل الجنة فالعطاء حينئذ لله . { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ . . . } [ الأعراف : 46 ]
و { كُلاًّ } المعنيّ بها أصحاب الجنة وأصحاب النار ، فقد تقدم عندنا فريقان؛ أصحاب الجنة ، وأصحاب النار وهناك فريق ثالث هم الذين على الأعراف ، و " الأعراف " جمع " عُرف " مأخوذ من عرف الديك وهو أعلى شيء فيه ، وكذلك عرف الفرس . كأن بين الجنة مكانا مرتفعاً كالعرف يقف عليه أناس يعرفون أصحاب النار بسيماهم فكأن من ضمن السمات والعلامات ما يميز أهل النار عن أهل الجنة .
وكيف توجد هذه السمات؟ يقال إن الإنسان ساعة يؤمن يصير أهلا لاستقبال سمات الإيمان ، وكلما دخل في منهج الله طاعة واستجابة أعطاه الله سمة جمالية تصير أصيلة فيه تلازمه ولا تفارقه وبالعكس من ذلك أصحاب النار فتبتعد عنهم سمات الجلال والجمال وتحل محلها سمات القبح والشناعة والبشاعة .
وإذا ما رأى أهل الأعراف أصحاب الجنة يقولون : سلام عليكم؛ لأن الأدنى منزلة- أصحاب الأعراف- يقول للأعلى- أصحاب الجنة- سلام عليكم .
وجماعة الأعراف هم من تساوت سيئاتهم مع حسناتهم في ميزان العدل الإلهي الذي لا يظلم أحداً مثقال ذرة . { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [ القارعة : 6-9 ]
ويا رب لقد ذكرت الميزان ، وحين قدرت الموزون لهم لم تذكر لنا إلا فريقين اثنين . . فريق ثقلت موازينه ، وفريقاً خفت موازينه ، ومنتهى المنطق في القياس الموازيني أن يوجد فريق ثالث هم الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم ، فلم تثقل موازينهم فيدخلوا الجنة ، ولم تجف موازينهم فيدخلوا النار ، وهؤلاء هم من تعرض أعمالهم على " لجنة الرحمة " فيجلسون على الأعراف . ومن العجيب أنهم حين يشاهدون أهل الجنة يقولون لهم سلام عليكم على الرغم من أنهم لم يدخلوا ، لكنهم يطمعون في أن يدخلوا ، لأن رحمة الله سبقت غضبه . { . . . ونَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [ الأعراف : 46 ]
وبطبيعة الحال ليس في هذا المكان غش ولا خداع .
وماذا حين ينظرون إلى أهل النار؟
(1/2887)

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
انظر إلى التعبير القرآني { صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } أي لم يصرفوا أبصارهم لأن المسألة ليست اختيارية؛ لأنهم يكرهون أن ينظروا لهم لأنهم ملعونون ، وكأن في { صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } لونا من التوبيخ لأهل النارُ .
وقوله الحق : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ } أي جهة أصحاب النار يقولون : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } .
هنا يدعو أهل الأعراف : يا رب جنبنا أن نكون معهم . إنهم حين يرون بشاعة العذاب يسألون الله ويستعيذون به ألا يدخلهم معهم .
ويقول الحق سبحانه : { ونادى أَصْحَابُ الأعراف . . . }
(1/2888)

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
وكأن أصحاب الأعراف قد صرفت أنظارهم لأصحاب النار ويرون فيهم طبقات من المعذبين ، فهذا أبو جهل ، وذاك الوليد ، ومعه أمية بن خلف وغيرهم ممن كانوا يظنون أن قيادتهم لمجتمعهم وسيادتهم على غيرهم تعطيهم كل سلطان وكيان ، وكانوا يسخرون من السابقين إلى الإسلام كعمار وبلال وصهيب وخباب ، وغيرهم ممن عاشوا للحق مع الحق ، فيقول أهل الأعراف لهؤلاء : { مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } .
وكأنهم يقولون لهم : إن اجتماعكم على الضلال في الدنيا لم ينفعكم بشيء . . شياطينكم ، والأصنام والسلطان لم ينفعوكم وكذلك استكباركم على الدعوة إلى الإيمان هل أغنى عنكم شيئاً؟ لا . لم يغن عنكم شيئاً .
ويقول الحق بعد ذلك : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ . . . }
(1/2889)

أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
ويشير أهل الأعراف إلى المؤمنين الصادقين من أمثال بلال وخباب ويقولون لأهل النار من أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة : أهؤلاء الأبرار من أهل الجنة الذين تقولون إنهم لن ينالوا رحمة الله؟ هم إذن- أهل الأعراف- قد عقدوا المقارنة والموازنة بين أهل الجنة وأهل النار ، وكأنهم نسوا حالهم أن يقفوا في انتظار الفرج وفرحوا بأصحاب الجنة ووبخوا أهل النار ، ولم يشغلهم حالهم أن يقفوا موقف الفصل في هذه المسألة ، وهنا يدخل الحق سبحانه أصحاب الأعراف جنته لفرحهم بأصحاب الجنة ، وتوبيخهم أهل النار ويقول لهم : { . . . ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [ الأعراف : 49 ]
وهؤلاء - كما قلنا - هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ هي الطائفة التي جلست على الأعراف ، فلم تثقل حسناتهم لتدخلهم الجنة ، لم تثقل سيئاتهم ليدخلوا النار .
ويقول الحق بعد ذلك : { ونادى أَصْحَابُ النار . . . }
(1/2890)

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة مستغيثين طالبين أن يعطوهم ويفيضوا عليهم من الماء أو من رزق الله لهم في الجنة ، فيقول أهل الجنة : نحن مربوطون الآن ب " كن " ، ولم يعد لنا الاختيار ، وقد حرم الله عليكم أي شيء من الجنة ومنعه عنكم ، فأنتم يا أهل النار ممنوعون أو هذه المتع ممنوعة عنكم . وحين يطلب أهل النار الماء ، فهم يطلبون أوليات الوجود ، في نار أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه .
ولذلك يقول الحق بعد ذلك عن الكافرين الذين حرم عليهم خير الجنة : { الذين اتخذوا دِينَهُمْ . . . }
(1/2891)

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
وهكذا يبين لنا الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية من هم الكافرون الذين حرّم عليهم الجنة؛ إنهم من اتخذوا دينهم لهواً ولعباً ، وأول مرحلة تمر على الإِنسان هي اللعب ثم تأتي له مرحلة اللهو . ونعلم أن كل فعل تُوَجَّه إليه طاقة فاعلة ، وقبل أن تُوجّه إليه الطاقة الفاعلة يمر هذا الفعل على الذهن كي يحدد الغاية من الجهد . وهذا المقصود له حدود؛ إما أن يجلب له نفعاً ، وإما أن يدفع عنه ضُرًّا . وكل مقصد لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضراً ، فهو لعب .
إذن فتعريف اللعب : هو فعل لم يقصد صاحبه به قصداً صحيحاً لدفع ضر أو جلب نفع . كما يلعب الأطفال بلعبهم ، فالطفل ساعة يمسك بالمدفع اللعبة أو السيارة اللعبة ، هل له مقصد صحيح ليوجه طاقته له؟ . لا؛ لأنه لو كان المقصد صحيحاً لما حطم الطفل لُعَبَهُ . والطفل غالباً ما يكسر لعبته بعد قليل ، وهذا دليل على أنه يوجه الطاقة إلى غير قصد صحيح ولا يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها مضرة .
ولكن حين تُوَجَّه الطاقة إلى ما هو أدنى من المهم فهذا هو اللهو ، كأن يكون المطلوب منك شيئا وأنت توجه الطاقة إلى شيء آخر . والذي يعاقب عليه الله هو اللهو . أما اللعب فلا .
ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الأهل أن يدربّوا الأبناء على شيء قد يفيد الأمة كالسباحة والرماية وركوب الخيل ، ولكن خيبة البشر في زماننا أنهم جعلوا اللعب غاية لذاته . ومن العجيب أن اللعب صار له قانون الجد ولا يمكن أن يخرقه أحد دون أن يُعاقَب؛ لأن الحَكم يرقب المباراة ، وإذا ما تناسى الحكم أمراً أو أخطأ هاج الجمهور . وأتساءل : لقد نقلتم قانون الجد إلى اللعب ، فلماذا تركتم الجد بلا قانون؟
وكذلك نجد أن خيبة اللهو ثقيلة؛ لأن الإِنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر غير المهم . فيجلس إلى لعبة النرد وهي طاولة ويترك الشغل الذي ينتج له الرزق ، وليت هذا اللهو مقصورٌ على اللاهي ، ولكنه يجذب أنظار غير اللاهي ويأخذ وقته ، هذا الوقت الذي كان يجب أن يُستغل في طاقة نافعة . وفساد المجتمعات كلها إنما يأتي من أن بعضاً من أفرادها يستغلون طاقاتهم فيما لا يعود على ذواتهم ولا على أمتهم بالخير إذن فاللهو طاقة معطلة . { اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } .
وغرورهم بالحياة الدنيا إنما يأتي من الأسباب التي خلقها الله مستجيبة لهم فظن كل منهم أنه السيد المسيطر . وحين غرتهم الحياة الدنيا نسوا الجد الذي يوصلهم إلى الغاية النافعة الخالدة ، ويكون عقابهم هو قول الله سبحانه : { . . . فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ الأعراف : 51 ]
فهل يعني قوله عز وجل : { نَنسَاهُمْ } أنه يتركهم لما يفعلون؟ .
(1/2892)

لا ، بل تأخذهم جهنم لتشويهم ، ونسيانهم هنا هو أنه - سبحانه - لا يشملهم بمظاهر فضله ولطفه ورحمته ويتركهم للنار تلفح وجوههم وتنضج جلودهم .
وهكذا يتأكد من جديد أن الدنيا هي المكان الذي يعد فيه الإِنسان مكانه في الآخرة ، فإن أراد مكاناً في عليين فعليه أن يؤدي التكليف الذي يعطيه مكانه في عليين . وإذا أراد مكانه أقل من ذلك فعليه أن يؤدي العمل الأقل . كأن الإِنسان بعمله هو الذي يحدد مكانه في الآخرة؛ لأن الحق لا يجازي الخلق استبدادا بهم وافتياتاً أو ظلماً ، ولكنه يجازي الإِنسان حسب العمل؛ لذلك فهناك أصحاب الجنة ، وهناك أصحاب النار ، وهناك أصحاب الأعراف . وهذا العلم الذي يُنزله لنا الحق قرآناً ينذرنا ويبشرنا هو دليل لكل مسلم حتى نتنافس على أن تكون مواقعنا في الآخرة مواقع مشرفة . { الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ الأعراف : 51 ]
وحين يقول الحق سبحانه : { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } فالآيات إما آيات كونية : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر . . . } [ فصلت : 37 ]
وإما آيات قرآنية كقوله سبحانه : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ فصلت : 3 ]
وإما أن تكون آيات معجزات لإِثبات النبوة كقوله سبحانه : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون . . . } [ الإسراء : 59 ]
هم إذن جحدوا الآيات كلها ، وكان أول جحود هو جحود بالآيات الكونية التي شاهدوها قبل أن يأتي التكليف ، فهم عاشوا الليل والنهار . وتنفسوا الهواء ، واستمتعوا بدفء الشمس ، وروى المطر أراضيهم ووجدوا الكون مرتباً منظماً يعطي الإنسان قبل أن يكون للإنسان إدراك أو طاقة ، وكان يجب أن تلفتهم هذه الآيات إلى أن لهم خالقاً هو الحق الأعلى . وحين جاء لهم الموكب الرسالي جحدوا آيات المعجزات التي تدل على صدق الرسل . وحين جاء القرآن معجزاً جحدوا الآيات التفصيلية التي تحمل المنهج . إذن فلا عذر لهم في شيء من ذلك أن الحق يقول : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ . . . }
(1/2893)

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
أي لا عذر لهم في شيء من هذا الجحود؛ لأن الكتاب مفصل ، وقد يقولون : إن الكتاب الطارئ علينا ، وكذلك الرسول الذي جاء به . إذن فما موقفهم من الآيات الكونية الثابتة؟ لقد جحدوها أيضاً . { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ } .
و { فَصَّلْنَاهُ } أي أنه سبحانه لم ينزل كلاما مجملاً أو مبهماً ، لا ، بل فيه تفصيل العليم الحكيم ، أنه فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي عوج ، وسبحانه هو القادر أن ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان .
إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلام لنأتي له بفتوى تبرر له ما يفعله ، فنحن نقول له : ليس لدينا فتوى مفصلة؛ لأن الفتاوي التي عندنا كلها جاهزة ، ولك أن تدخل بمسألتك في أي فتوى . { . . . فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 52 ]
وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا الآيات واهتدوا ، فلماذا اهتدى هؤلاء وضل هؤلاء؟ لقد آمن من صدق بالوجود الأعلى كما قلنا في سورة البقرة : { ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ]
إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق ، ومنهم من أوضح الحق عنهم : أنهم حين يستمعون القرآن تفيض أعينهم من الدمع . وأيضاً هناك من لا يلمس الإيمان قلوبهم حين يستمعون إلى القرآن . { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً . . . } [ محمد : 16 ]
وهؤلاء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن ، لذلك تجد الحق يرد عيلهم بقوله سبحانه : { . . . أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ]
ويقول سبحانه : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى . . . } [ فصلت : 44 ]
سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالات واحد ، لكن القابل للفعل مختلف ، لذلك تكون النتيجة مختلفة . وعلى سبيل المثال : إذا كنت في الشتاء ، وخرجت ووجدت الجو بارداً ، وشعرت أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد ، فتضم فبضتك معاً وتنفخ فيهما ، وقد تفعل ذلك بلا إرادة من كل تدفئ يديك . وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن جداً ، وتحب أن تشرب منه ، فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة . والنفخة من فمك واحدة؛ تأتي بحرارة ليديك ، وتأتي بالبرودة لكوب الشاي ، وهكذا فالفعل واحد لكن القابل مختلف . وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد للإيمان فهو يهتدي به ، ومن لا يملك الاستعداد فقلبه غلف عن الإيمان .
وموقف هؤلاء العاجزين عن استقبال الرحمة غير طبيعي ، وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر ، وبعد الافتئات وبعد الاستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهواً ولعباً ، ما ينتظرون؟
ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبة : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ . . . }
(1/2894)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
وما معنى التأويل؟ . . التأويل هو ما يؤول إليه الشيء ، هو العاقبة التي يعدها الحق ، فالرحمة والجنة لمن آمن ، والنار لمن كفر ، والحق هو من يقول ويملك قوله لأن الكون كله بيده .
وهنا يقول سبحانه وتعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } .
أي هل ينتظرون إلا لمرجع الذي يؤول إليه عملهم؟ إن مرجعهم الأخير هو العذاب بعد الحساب يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا .
وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد ماذا سيكون قولهم؟ . . سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهم : { يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } .
أي أنهم سيعلنون التصديق حين لا ينفع هذا التصديق؛ لأنهم لن يكونوا في دار التكليف ، سيقرون بالإِيمان لحظة لا ينفعهم ذلك . { يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ . . . } [ الأعراف : 53 ]
هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع . ونعلم أن الشفيع لابد أن يكون محبوباً عند من يشفع عنده ، ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له عند صاحب جاه يكون أثيرا وعزيزا لديه ، أو يكون له كلمة وفضل عليه فلا يرد عليه كلمته . فمن يأتي يوم القيامة بالشفاعة لهؤلاء؟ . . لا أحد ، وسنجدهم يتخذون الشفعاء من الذين اتخذوهم أنداداً لله . وسيعلن هؤلاء أيضاً الكراهية لهم ، ولو مكنهم الله من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين؛ ففي الدنيا كان هؤلاء مؤتمرين بأمر البشر وضلالاتهم . أما يوم الحساب فلا أحد خاضع لإِرادة أحد ، حتى الجوارح لا تخضع لإِرادة صاحبها ، بل هي خاضعة للحق الأعلى . وفي الآخرة لا مرادات لأحد .
وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا : هب أن سرية في جيش ما وعليها قائد صغير برتبة ضابط ، ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلامه ، ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير أوامر خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به . ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم القائد الأعلى فسيقولون : لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا ، وكذلك ستأتي الجوارح في الآخرة : تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم .
إذن فالأبعاض سترفع شكواها إلى الله يوم ألا يكون لأحد من ملك سواه ، ويومئذ سيقول المكذبون الصدق الذي لن ينفعهم . { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق . . . } [ الأعراف : 53 ]
وسوف يبحثون عن شفاعة ، لكنهم لن يجدوا ، بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير الله هم المعبودون أنفسهم .
ولذلك نجد قوله الحق سبحانه : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ]
وما ذنب المعبود؟ . . إن الأصنام لا ذنب لها ، بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون أداة تعذيب لمن أعطوه غير حقه .
(1/2895)

ولذلك نجد أن الأحجار التي عُبدت تقول : عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين بالأسحار؛ لأن القائم في الأسحار من الأغيار قد يختار أمراً غير هذا ، ولكنا كنا مقهورين على الطاعة ، وقد اتخذوا صمتنا علينا دليلاً .
إن الأحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أحد أو أن تعبده عنها وتعلن له غباءه .
والشاعر يقول :
قد تجنوا جهلا كما قد تجنوا ... على ابن مريم والحواري
للمغالي جزاؤه والمغالي ... فيه تنجيه رحمة الغفار
وهكذا يأتيهم الحق واضحاً يوم القيامة .
إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا ، وهذا من الخيبة؛ لأن مثل هذا الإِقرار ليس من الإِيمان ، فالإِيمان يكون بالغيب لا في المشهد . وحتى ولو عادوا ، فلن يؤمنوا! .
والحق هو القائل : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ . . . } [ الأنعام : 28 ]
وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الأغيار ، وأتى فيهم القول الفصل من الله . { . . . قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأعراف : 53 ]
لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على الله في الدنيا ، إنهم رفضوا عبادته- سبحانه- وعبدوا غيره أصناماً صارت وقوداً للنار التي سيصلونها .
ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ . . . }
(1/2896)

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
هنا ربوبية ، وهنا ألوهية : { رَبَّكُمُ الله } ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله . . . } [ الزمر : 38 ] وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون : الله ، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية ، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم ، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو : " افعل ولا تفعل "؛ لأن التكليف من الإله الرب ، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم ، فلا شيء في التكليف يعود على الله . وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أوجدكم . وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله - ولله المثل الأعلى - منزه عن التشبيه ، كأن تقول الأم للولد : قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلاً ، فيتأبى الولد . وتنبه الأم ولدها : إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب ، والملابس ويعطيك مصروف اليد . . إلخ .
وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المكلف هو الرازق ولا أحد سواه يرزق ، لذلك كان يجب أن تقبل تكاليفه لأن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا .
ومن قبل فصل الحق سبحانه خلق الإنسان ، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف وجود الإنسان هو السماء والأرض ، وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الأرض ، وإذا كان الله قد علمنا كيف خلقنا ، فهو هنا يعلمنا كيف خلق السموات والأرض ، وخلق الإنسان وخلق السموات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث ، فمن العلماء من قال : إن الأرض انفصلت عن الشمس ، ومنهم من افترض نظرياً أن الإنسان أصله قرد ، ولهؤلاء نقول : هذا حكم منكم لا يقبل؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق ، ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق .
هو سبحانه يقول : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ]
والآية تتعرض للخلق الأول وهو السموات والأرض - كما أوضحت - وهو الظرف الوجودي للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس ، فكأن الله أعد الكون للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كوناً مسخراً له؛ ولا يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ } .
ومعنى " الخلق " أي أوجد شيئاً كان معدوماً وبرأه على غير مثال سبقه . فربنا سبحانه قدر كل شيء بنظام غير مسبوق ، هذا هو معنى الخلق ، وكلمة " الخلق " مادتها الفاعلة هي : خالق ، وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد فيقول :
(1/2897)

{ . . . فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ]
إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله ، ولكنه سبحانه أيضاً أشرك خالقاً غيره معه فقال جل وعلا : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } . كيف؟؛ لأن الخلق إيجاد شيء معدوم ، والذي صنع الميكروفون يقال خلقه ، والذي صنع الكوب يقال خلقه ، والذي صنع المصباح يقال خلقه ، لأنه كان شيئاً معدوماً بذاته ، فأوجده . لكن الفارق أن الخالق من البشر يوجد معدوماً من موجود ولا يأتي بمادة جديدة؛ فمن أخذ المواد الموجودة في الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاج يقال له : خلق المصباح وأوجد معدوماً من موجود .
لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئا معدوماً من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق ، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء ، وأيضاً فإنكم حين تخلقون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها ، فمن صنع الكوب من الرمل المصهور يظل الكوب هكذا ، ولا نستطيع - كما سبق أن قلت قديماً - أن نأتي بكوب ذكر ، وكوب أنثى ، ونضعهما معاً في مكان ونقول لهما : أنجبا لنا أكواباً صغيرة .
لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر . إذن فهو أحسن الخالقين .
والله سبحانه وتعالى يعطينا خبر خلقه السموات والأرض . وأوضح سبحانه أن السموات سبع وقد جاءت مجموعة . أما الأرض فجاء بها مفردة . لكنه جل وعلا قال في آية أخرى : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ . . . } [ الطلاق : 12 ]
فكما خلق سبع سموات خلق سبع أراضين ، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض مفرداً؟ . . لماذا لم يقل : سبع أراضين؟؛ لأن كلمة " أراضين " ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسموات مجموعة لخفتها ويسر نطقها .
والسماء هي كل ما علاك فأظلك ، هذا معنى السماء في اللغة . لكن هل السماء التي يريدها الله هي كل ما علاك؟ . . إن النجم هو ما علاك؛ وقد يقال : إن الشمس علتك ، والقمر علانا جميعاً . ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا السموات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علانا؛ فالشمس تعلو وقتا وتنخفض وقتاً آخر . وكذلك القمر .
إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت ، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه سماء دائما . وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب سبعة وقالوا : إن هذه السماء ، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ . وأوضح الحق لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى . فمرة رأى العلماء ثمانية توابع ، ومرة تسعة ، وأخرى عشرة توابع ، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء ، وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله ، والحق هو القائل :
(1/2898)

{ إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } [ الصافات : 6 ]
هذه - إذن - زينة للسماء الدنيا ، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون عليها ، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه ، وكان الجن قديماً يقعدون منها مقاعد للسمع { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } . وحدث هذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم والحق هو من قال لنا ذلك . ولم يوضح الحق لنا حقيقة هذه السماء ونظامها ، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب ، وسبحانه خالق السماء التي فوقنا ، وهو جل وعلا خالق أراضين . وأين هي هذه الأراضين؟ . . أهي أراضين مبعثرة؟
ولقد أثبت العلم أن كل مجرّة من المجرّات فيها مليون مجموعة شمسية ، وكل مجموعة شمسية فيها أرض ، إذن فهناك أراضٍ عديدة ، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها ، ولذلك قال بعض العلماء : إن في هذا العالم العالي توجد أراضٍ ، وكل أرض أرسل لهم الحق رسولاً .
والحق هو القائل : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ . } [ الشورى : 29 ]
ويعطينا العلم كل يوم مزيداً من الاكتشافات . وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك والأرض كل ما أقلك . ومادامت سبع سموات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء ، وتأتي بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى ، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى . ونحن غير مكلفين بهذا ، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله .
والحق يقول : { خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . . } [ الأعراف : 54 ]
وقوله : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } هو ظرف للخلق . واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة . لكن لابد لنا أن نعرف بعضاً من اصطلاحات الحق القرآنية .
فهو يقول سبحانه وتعالى : { . . . سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ سبأ : 18 ]
أي هناك ليل وهناك يوم ، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لأننا نطلق على المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد . هكذا يكون اليوم في العرف الفلكي : من شروق إلى شروق ، أو من غروب إلى غروب ، وقول الحق : { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } .
يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسماً والنهار قسماً ، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا بعد أن وجدت الشمس؟ . . وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها وخصوصاً أن السماء والأرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟ . . وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم . ألم تقرأ قول الله سبحانه : { . . . وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ]
وليس في الآخرة بكرة ولا عشى ، إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر العشي ، وكذلك { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة أيام ، ولكن آية التفصيل للخلق ، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام .
(1/2899)

اقرأ معي : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ . . . } [ فصلت : 9-12 ]
والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام ، أما آيات الإِجمال فكلها تقول : إنها أيام ، ومن النقطة دخل المستشرقون ، وادعوا زوراً أن القرآن فيه اختلاف ، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية . ونقول : إنه - سبحانه - خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان ، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق السموات في يومين فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السموات والأرض ستة أيام أو نحمل المفصل على المجمل ، فحين يقول الحق : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . . } [ الأعراف : 54 ]
فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد؟ . . إن ربنا يخلق ب " كن " ، ونحن البشر على حسب قدرتنا لنخلق شيئاً ، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمناً ، لكن من يخلق بكلمة " كن " فالأمر بالنسبة له هين جداً - سبحانه وتعالى - لكن لماذا جاء الخلق في ستة أيام؟
نعلم أن هناك فرقاً بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد . وكنا قد ضربنا المثل سابقا - ولله المثل الأعلى - بصانع الزبادي ، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ ، ثم يضع في كل منها جزءا من خميرة الزبادي ، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب . فهل يؤدي هذا الرجل عملاً لمدة أثنتي عشرة ساعة في كل كوب ، وهي المدة اللازمة لتخمر الكوب؟ . . طبعاً لا ، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن تنضج .
ولنظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي . ويأخذ الأمر تسعة شهور وسبحانه جل جلاله لا يعمل في خلق الجنين تسعة شهور ، لكنه يترك الأمر ليأخذ مراحل تفاعلاته .
إذن فخلق الله السموات والأرض في ستة أيام لا يعني أن الستة أيام كلها كانت مشغولة بالخلق ، بل قال سبحانه : " كن " وبعد ذلك ترك مكونات السموات والأرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لأن ميلادها سيكون بعد ستة أيام . وفي القرآن آية من الآيات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة ، فقال سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }
(1/2900)

[ ق : 38 ]
أي خلق سبحانه السموات والأرض دون تعب؛ لأنه لا يعالج مسألة الخلق ، بل إنما يحدث ذلك بأمر " كن " فكانت السموات والأرض . والآية التي بعدها فوراً تقول : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ }
وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً له : إنهم يكذبونك وقد ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر . لكن الحق جعل لكل مسألة كتاباً ، فهو قد خلق السموات والأرض في ستة أيام . ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمراً : يا سيدي إن ربنا خلق السماء والأرض في ستة أيام . فلا تتعجل الأمور .
إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والأرض في لحظة ، لكنه أمر " بكن " وترك المواد تتفاعل لستة أيام . ولماذا لا نقول : جاء بكل ذلك ليعلمنا التأني ، وألا نتعجل الأشياء؟ لأنه وهو القادر على إبراز السموات والأرض في لحظة ، خلقها في ستة أيام ، لذلك قال سبحانه : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ . . . } [ ق : 39 ]
أي لا ترهق نفسك لأنه سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام ، وسيأتي لهؤلاء الجاحدين يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتماً .
وهناك من يتساءل : كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟ . . ونقول : إن الإنجاز الذي أخبر به سبحانه مرة واحدة ، وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة ، وتعددت استدامة انفعالات السامع بقدرة الله ، في كل جزيئة من جزئيات الفعل ، وأخذ الأمر ستة أيام . واستقر الأمر بعد ذلك واستتب ، وسبحانه يقول : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش . . . } [ الأعراف : 54 ]
ولابد أن نعرف العرش ما هو . وسبحانه يقول في ملكة سبأ : { . . . وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ]
فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور .
فكأن قوله : { استوى عَلَى العرش } كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة . لكن العلماء حين جاءوا في { استوى } ، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسياً يجلس عليه الله ، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما . وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء . ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة { استوى } منهم من قال : إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه ، ومنهم من قال : المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره ، ومنهم من قال : " صعد " أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ . . . } [ فصلت : 11 ]
وكلها معانٍ متقاربة . وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا : المقصود ب " استوى " أنه استوى على الوجود ، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك . وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات ، أو متاهات التعطيل نقول : علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ]
فحين يقول سبحانه :
(1/2901)

{ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ . . . } [ الفتح : 10 ]
ونحن نفهم أن لليد مدلولاً ، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه ، فالقول أن لله يداً فهذا دليل على قدرته . واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة . والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر ، في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، فنقول : سبحانه له يد ليست كيد البشر ، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر ، وله عين ليست كعيون البشر . وله وجه ليس كوجه أحد من البشر . ولذلك حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله : " الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة " وأراك رجل سَوْء! أخرجوه . نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل ، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الاستواء؟ . . لا؛ لأنهم فهموا المعنى ، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم . إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله .
وإن قال قائل : أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟ . . إن كان يعلم لأخبرنا بها ، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها . وإن لم يكن قد علم الأمر . . فهل تطلب لنفسك أن نعلم ما لم يعلمه صلى الله عليه وسلم ؟
أو أنّه صلى الله عليه وسلم ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } والذين يمنعون التأويل يقولون : إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال : إن له يداً ، فقل ليست كأيدينا في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ لأنه سبحانه له حياة ، وأنت لك حياة ، أحياته كحياتك؟ . لا ، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟ . . إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه . ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم : أنت ستضطر أخيراً إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ . . . } [ القصص : 88 ]
ومادام { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } فكل ما يطلق عليه شيء يهلك ، ويبقى وجهه سبحانه فقط ، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه ، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك ، وحاشا لله أن يحدث ذلك . وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر . لذلك نقول : لنأخذ النص وندخله في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وآية الاستواء على العرش هذه ، مذكورة في سور كثيرة ، وهي تحديداً في " سبعة مواضع "؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها ، وسورة يونس ، وسورة الرعد ، وسورة طه ، وسورة الفرقان ، وسورة السجدة ، وسورة الحديد .
وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش : { يُغْشِي اليل النهار } .
الله - سبحانه - قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه ، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟ .
(1/2902)

. لا بد أن يقوم بكل مقومات الحياة ، وإذا ما عمل فسيبذل جهداً ، والجهد يقتضي راحة . ومن يشتغل ساعة لا بد أن يرتاح ساعة . وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه .
ونحن نرى في الالة التي تعمل ثلاث ورديات يومياً أي التي تعمل لمدة الأربع والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين ، والآلة التي تعمل وردية واحدة لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر . وكل إنسان يحتاج إلى الراحة . فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدف : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ . . . } [ القصص : 73 ]
أي لتسكنوا في الليل ، وتبتغوا الفضل في النهار ، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل بالنهار ، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل . لذلك أوضح سبحانه لنا : أنا خلقت الليل والنهار ، وجعلت الليل سكناً إلى للراحة والبعد عن الحركة ، والحق يقول هنا : { يُغْشِي اليل النهار . . . } [ الأعراف : 54 ]
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل ، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة . { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ]
والليل يخلف النهار ، والنهار يخلف الليل ، وفي مصر نكون في نهار مثلا ، ويكون هذا الوقت في بلد آخر ليلاً ، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار ، وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقا معاً . ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولاً ثم يعقبه الليل ، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولاً ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار . والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما خلفة للآخرة ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة . كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس ، وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس ، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل ، ويكون الليل خلفه للنهار . { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ]
{ يُغْشِي اليل النهار } ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات السابقة التي منها قوله الحق سبحانه : { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار . . . } [ يس : 40 ]
أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل ، وهذا دليل على أنهما خُلقاً دفعة واحدة .
والحق يقول هنا : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر .
(1/2903)

. . }
فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل ، بل كلها مسخرة ، ولذلك تجد النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق ، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر ، وفي الوقت الفلاني سيقع القمر بين الأرض والشمس ، وسيحدث للشمس خسوف ، وكل أمر من هذا له حساب دقيق . { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر . . . } [ الأعراف : 54 ]
والخلق إيجاد الأشياء من عدم ، فبعد ان خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد ، بل - سبحانه - له الأمر بعد ذلك . وقيوميته؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس تعمل ، لا ، فبأمره يُعطل النواميس أحياناً ، ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة . لذلك يقول : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } .
وإذا نظرت إلى كلمة " الأمر " تجد الحق يقول : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ . . . } [ آل عمران : 154 ]
والمقصود هو الأمر الكوني ، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج ، وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي ، وأنت حر . { . . . أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ]
وحين يقول سبحانه : { تَبَارَكَ الله } وقال من قبل : { أَحْسَنُ الخالقين } ، فكل لفظ له معنى ، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك .
وفي قول آخر يصف الحق نفسه : { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } [ الأنعام : 62 ]
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة ، وهي آلات تتم " برمجتها " وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة ، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة . لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة . لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب واحد ، فأنت لك حساب مع الله ، والآخر له حساب مع الله ، والحساب مع الله متعدد بتعدد أفراد المحاسبين ، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج ، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق ، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه :
- أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟
قال : وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
وانظر إلى القرآن تجد الحق { أَسْرَعُ الحاسبين } و { أَحْسَنُ الخالقين } ، و { أَرْحَمُ الراحمين } و { خَيْرُ الوارثين } . وهذه هي الألفاظ التي وردت ، ولله فيها مع خلقه صفة ، لكن صفة الله دائما في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } .
و { تَبَارَكَ الله } أي أنه - تعالى - تنزّه؛ لأن هناك فرقاً بين القدرة المطلقة - وهي قدرة الله - والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وب " كن " وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر .
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً . . . }
(1/2904)

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
والدعاء إنما يكون من عاجز يدعو أو قادراً على إنجاز وتحقيق ما عجز عنه أو يعينه عليه . وعندما تشعر أنك عاجز فأنت ترتكن إلى من له مطلق القدرة؛ لأن قدرتك محدودة . إذن فإن كنت تطغى أو تتكبر فاعرف مكانتك ومنزلتك جيداً وتراجع عن ذلك لأنك عرض زائل ، والدعاء هو تضرع ، وذلة ، وخشوع ، وإقرار منك بأنك عاجز ، وتطلب من ربك المدد والعون . واستحضار عجزك وقدرة ربك تمثل لك استدامة اليقين الإِيماني . وما جعل ربنا للناس حاجات إلا من أجل ذلك؛ لأن الإِنسان إذا ما رأى الأشياء تنفعل له ، ويبتكر ويخترع فقد يأخذه الغرور ، فيأتي له بحاجة تعز وتعجز فيها الأسباب ، فيقف ليدعو . ومن كان متكبراً وعنده صلف وغطرسة يذهب إلى رجل " غلبان " زاهد تجرد من الجاه والسلطان منقطع لعبادة الله ويقول له : أستحلفك برسول الله أن تدعو لي لأني في أزمة والذي يسأل الغلبان الزاهد هو رجل عزيز في قومه لكنه يظن أن الغلبان الزاهد أقرب إلى الله منه .
إذن الدعاء هو الضراعة وإظهار الذلة والخشوع لله؛ لكي يستديم اليقين الإِيماني . { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً . . . } [ الأعراف : 55 ]
وإياك أن تدعو وفي بالك أن تقضي حاجتك بالدعاء ، عليك بالدعاء فقط لقصد إظهار الضراعة والذلة والخشوع ، ولأنك لو لم تدع فستسير أمورك كما قُدر لها ، والدعاء هو إظهار للخشوع ، وإياك أن تفهم أنك تدعو الله ليحقق لك مطالبك؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون موظفاً عندك ، وهناك نظام وضعه سبحانه لتحقيق مطالب العباد . ومن الناس من يطلب بالدعاء أشياء ضارة . { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ]
والإِنسان قد يتعلق قلبه بأماني قد تضره؛ لذلك نقول : لا تتعجل بالدعاء طلباً لأمنيات قد تكون شراً عليك ، والحق العليم ينظم لنا أمورنا ، وإياك أيضاً أن تيأس حين لا تجاب دعوتك التي في بالك؛ لأن الله يحقق الخير لعباده . ولو حقق لك بعضاً مما تدعو فقد يأتي منها الشر ، ويترك الله لأقضيتك أموراً تبين لك هذا ، وتقول : إن الشيء الفلاني الذي كنت أتمناه تحقق وجاء شراً عليّ . مثال ذلك قد تحجز لطائرة لكنك لا تلحق بها فقد أقلعت قبل أن تصل إليها وحزنت لأن بعضاً من مصالحك قد فاتك ولم يتحقق وتفاجأ بأن هذه الطائرة سقطت في البحر .
إذن ، اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه لا إجابتك إلى ما تدعو إليه ، إنك دعوت لتطلب الخير ، فدع الحق بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير . واسمع قول الله : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإِسراء : 11 ]
إذن فحين يقول الحق : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } فسبحانه يطلب منا أن ندعوه لأننا سنواجه لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء ، فبدلاً من أن تظل مقهوراً بصفة العجز عن الشيء اذكر أن لك رباً قويا مقتدراً ، وساعة تذكر ذلك لن تأخذك الأسباب من حظيرة الإِيمان .
(1/2905)

وقلنا من قبل : من له أب لا يحمل هماً للحياة ، فإذا كان الذي له أب لا يحمل هماً لمطلوبات الحياة فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير؛ لذلك يوضح سبحانه : إذا أعجزتكم الأسباب فاذكروا أن لكم رباً . وقد طلب منكم أن تدعوه ، ولا تظن أن حظك من الدعاء أن تجاب إلى ما طلبت ، بل ليكن حظك من الدعاء إظهار التذلل والخشوع لله؛ فقد يكون ما حدث لك نتيجة أنك قد اغتررت بنفسك . وقد سبق " قارون " إلى الغرور ، فماذا حدث له؟ . . لقد هزمه الحق وأنزل به شر العقاب . وقد يجعل الحق من تأبّى الأسباب وامتناعها عليك مغزى لتلتفت إلى الله ، لكن لفتتك لله لا يصح أن تكون بغرض أن يقضي حاجتك ، بل اجعل أساس لفتتك لله أن تظهر العجز أمامه والخضوع والخشوع؛ ليعيط ما لم يكن في بالك حين تدعو . { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً . . . } [ الأعراف : 55 ]
خفية لها معنى وهو أن يكون الدعاء دعاءً مستوراً مختبئاً ، ولها معنى آخر وهو أن تكون من الخوف أي أدعو ربكم خوفاً من متعلقات صفات الجلال كالجبار والقهار أو خوفا من أن يردها الله عليك فلا يقبلها منك .
ادعوا ربكم تضرعاً بذلة وانكسار وخضوع خفية بينك وبين ربك ، فلا تجهر بالدعاء وتجعله عملك الوحيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا حينما كان في غزوة غزاها فنزل أصحابه وادياً ، فلما نزلوا الوادي صاحوا بالتهليل والتكبير ، فقال : " أيها الناس اربعوا على أنفسكم ، إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم " .
والدعاء إلى الله خُفية يبتعد بك عن الرياء وهو أستر لك في مطلوباتك من ربك لأنه حين يوضح لك : ادعني في سرّك لأنني سميع عليم؛ فاعلم كل ما ظهر منك وما بطن ، ادع بالخضوع والخشوع والتذلل لتنكسر فيك شهوة الكبرياء ، وشهوة الغطرسة ، وشهوة الجبروت .
وإذا ما نظرت إلى هذا تجد أن كثيراً من العلماء يقولون :
- نعرف قوماً يقرأون القرآن في محضرنا وما عرفنا لشفاههم حركة ، وعرفنا قوماً يستنبطون الأحكام من كلام الله وما رأينا منهم انفعالاً يصرفهم عناً . إذن فالمسألة تعبر عن شغل باطني داخلي .
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن الرياء ويريد أن يستر علينا مطلوباتنا؛ لأن الإِنسان قد يطلب من الله سبحانه وتعالى ما يستحي أن يسمعه آخر . { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً . . . } [ الأعراف : 55 ]
ولو نظرت إلى هذه الآية لوجدت أن كثيراً من الناس يخالفونها مخالفات جماعية؛ في الليل مثلاً تجد من يصعدون على المآذن أو يصيحون في مكبرات الصوت التي أغنتهم عن صعود المآذن ، ويكون الواحد من هؤلاء نائما طول النهار لأن رفع الأذان هو عمله ليس غير ، وبعد ذلك يظل يصرخ ويستغيث ويقول : " أن هذه ابتهالات " .
(1/2906)

بينما من الناس من هو نائم ليأخذ قسطه من الراحة ليؤدي عمله نهاراً ، ولا أحد يطلب من هذا النائم إلا أنه وإذا جاء الفجر يستيقظ ويؤدي الصلاة . فلماذا نقلق الناس بهذا؟ إننا لابد أن ننبه هؤلاء الذين يظنون أنهم يذكرون الناس بدين الله ، إنهم بعملهم هذا لا يسلكون الطريق الصحيح؛ لأننا لا يمكن أن نذكر الناس بالله ونصنع مخالفة أو نؤذي أحداً؛ فسبحانه يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } .
والتضرع والخُفية تقتضي ألا أقلق الناس ، أو أن أعلن الأمور التي أريدها لنفسي خاصة بصوت عال مثل من يأتي في ختام الصلاة ويقول دعاءه بصوت عال وهو رافع يديه ، ولمثل هذا أقول : إن الله سبحانه وتعالى جعل لنا القنوت لندعو فيه ، وترك كل مسلم أن يدعو بما ينفعل له . وأنت حين تدعو في ختام الصلاة قد يوجد مُصل مسبوق لحق الصلاة بعد أن سبقه الإمام بركعة أو باثنين أو بثلاث ويريد أن يكمل صلاته ، وأنت حين ترفع صوتك بالدعاء حين تختم صلاتك إنما تفسد عليه إتمام صلاته . وتشغله بمنطوق من عندك وبكلام من عندك عن شيء واجب عليه . ومن بفعل ذلك إنما يفعله عن حسن نية ، لكنه يسيء إلى عبادة آخر .
إذن فلابد أن ننتّبه إلى أن الله سبحانه وتعالى له مطلوبات ، هذه المطلوبات قد تخالفها النفس لغرض ترى أنه حسن ، لكن خذها في إطار : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-401 ]
فلابد أن نتنبه إلى مثل هذه المسائل ، وعلينا أن نوفر الراحة لمن ينام ليقوم ويصلي الصبح ويذهب إلى عمله؛ لذلك لا داعي أن يفتح إنسان " الميكروفون " ويعلو صوته بالدعاء ، ومن يفعل ذلك يظن أنه يحرص على أمر مطلوب فيزعج النائم ، بل ويزعج من يصلي بالليل أو " يشوش " على من يقرأ القرآن أو يستذكر بعضاً من العلم . إن على من يفعل ذلك أن يترك كل إنسان لانفعالاته ، وأن يكون ملك نفسه وملك اختياره .
ويعطينا الحق سبحانه وتعالى صوراً كهذه فيقول : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 3-4 ]
إذن كلمة " خفي " موجودة في القرآن ، ولابد أن نتنبه إلى الدعاء الخفي . { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ الأعراف : 55 ]
إذن إن لم يكن تضرعاً وخفية فهو اعتداء في الدعاء؛ لأنك مكلف والله هو المُكلَف ، وهو يقول لك : ادعوني تضرعاً وخفية .
(1/2907)

فإن فعلت غير هذا تكن معتدياً ، وعلى كل هؤلاء أن يفهموا أنهم معتدون فإما أن يكون الاعتداء في أسلوب الطلب وإما ان يكون الاعتداء في المطلوب .
لأن الحق حدد أسلوب الطلب فأوضح : ادعوني بخفاء ، فإن دعوت في غير الخفاء تكن معتدياً على منهج الله . وكذلك قد يكون الاعتداء في المطلوب فلا يصح مثلاً أن تقول : إنني أدعوك يا رب أن تجعلني نبياً . إن ذلك لا يصح وربنا سبحانه وتعالى علمنا فيما سرده عن نوح . فقال : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين * قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 45-46 ]
وهنا نبه الحق نوحاً إلى الاعتداء في المطلوب فقال الحق : { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ . . . } [ هود : 46 ]
ولذلك نجد نوحاً يستغفر لأنه سأل ودعا الله هذا الدعاء عن غير علم ، فلما عرف ذنبه استغفر الله وقال : { قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ . . . } [ هود : 47 ]
وقال له الحق سبحانه : { اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ . . . } [ هود : 48 ]
إذن فالذي لا يسمع منهج الله أو لا يطبقه في الدعاء يكون معتدياً على الحق سبحانه وتعالى ، وسبحانه لا يحب المعتدين .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا . . . }
(1/2908)

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الأرض هي مكان الخليفة وهو الإِنسان ، وفيها الأسباب الأصيلة لاستبقاء الحياة والسماء والأرض والشمس والهواء كلٌ مسخر لك . ولا تحتاج إلى تكليف فيه ، فلا أنت تقول : " يا شمس أشرقي " أو " يا هواء هب " فكل ذلك مسخر لك . وأنت مطالب ألا تفسد فيما لك فيه اختيار؛ لأنك لا تستطيع أن تفسد قوانين الكون العليا ، لا تستطيع أن تغير مسار الشمس ولا مسار القمر ولا مسار الريح ، وأنت لن تستطيع إصلاح ما لا يمكن أن تقترب من إفساده ، لأن أمره ليس بيدك لأنه لا اختيار لك فيه . وإنما يأتي الإِفساد من ملكات الاختيار الموجودة فيك ، ولم يتركنا الله أحراراً فيها ، بل حددها بمنهج يحمي حركة الحياة ب " افعل " و " لا تفعل " ، فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآناً ، والقرآن فيه منهج يحمي اختيارك إذن فقد أعطاك عناصر الإِصلاح ولذلك يقول لك : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً . . . } [ الأعراف : 56 ]
وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء ، فأولاً جاء بالأمر أن يكون الدعاء تضرعاً وخفية ، وهنا يوضح الحق سبيلاً ثانيا للدعاء : { وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً } .
خوفاً من صفات جبروته وقهره ، وطمعا في صفات غفرانه ورحمته؛ لأن لله صفات جمال وصفات جلال ، وادعوه خوفاً من متعلقات صفات الجلال ، وطمعاً في متعلقات صفات الجمال . أو خوفاً من أن تُرد وطمعاً فيما أنت ترجو . { . . . وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ]
إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الإِنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد الإِنسان؛ لأن الله لا يفتئت ولا يستبد بأحد . فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة الله فعليك بالإِحسان . { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } .
ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول : " لا أمل حتى تملّوا " . [ من حديث قدسي ]
وأنت تدخل بيوت الله تصلى في أي وقت ، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة ، إذن فاستحضارك أمام ربك في يدك أنت ، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات ، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك ، وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة . وسبحانه يقول : " ومن جاءني يمشي أتيته هرولة "
[ من حديث قدسي ] . وهو جل وعلا يوضح لك : استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لأن الجري قد يتعبك لكني لا يعتريني تعب ولا عي ولا عجز . وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك شعوراً بأنه يريد لقاء ربه . إذن فالمسألة كلها في يدك ، ويقول سبحانه : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " .
(1/2909)

[ من حديث قدسي ] .
وهكذا يؤكد لك سبحانه أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك ، وعندما تسلسلها تجدها تفضلاً من الله ، ولكن في يدك أنت . { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } .
ونعلم أن فيه صفات لله وفيه ذات ، فالذات ( الله ) وهو واهب الوجود ، وله كل صفات الكمال وكل صفة لها متعلق؛ الرحمة لها متعلق والبعث له متعلق فمن أسمائه سبحانه " الباعث "؛ وإياك أن تغيب عن الذات ، اجعل نفسك مسبحاً لذاته العلية دائماً . وقد تقول : يا رب أريد أن ترحمني في كذا ، وقد لا ينفذ لك ما طلبت ، لكن ذلك لا يجعلك تبتعد عن التسبيح للذات ، لأن عدم تحقيق ما طلبت هو في مصلحتك وخير لك .
وقد وقف العلماء عند كلمة " قريب " هذه ، وتساءل بعضهم عن سرّ عدم مجيء تاء التأنيث بعد لفظ الجلالة؟ ونعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب ، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث ، وما يقال للمذكر مثلما يقال للمؤنث ، فنقول : " رجل صبور " ، و " امرأة صبور " ، ولا نقول : صبورة ونقول : " رجل معطار " أي يكثر استخدام العطر ، و " امرأة معطار " أي تكثر استخدام العطر . ونقول : قريب مثلما نقول : قتيل بمعنى مقتول . فيقال : " رجل قتيل " و " امرأة قتيل " ، ولا يقال : " قتيلة " إلا إذا لم يذكر معها كلمة امرأة أو ما يدل على التأنيث ، لأن القتيل للذكر وللأنثى .
هذه هي ألفاظ صحيح اللغة . وقد صنعت اللغة ذلك بأسانيد ، فأنت حين نقول : " رجل صبور " أو " امرأة صبور " فالصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة؛ لذلك لا نقول : " امرأة صبور " بل نأتي بالوصف المناسب للجَلَد والشدة . وإياك أن تضعفها بحكاية التأنيث ، وكذلك " رجل معطار " و " امرأة معطار " ، والرجل المعطار هو من تعرفه الناس من نفاذ رائحة عطره ، والمرأة مبنية على الستر . فإن تعطرت فهي قد تشبهت بالرجل ويقال لها : " امرأة معطار " ، وحين ننظر إلى كلمة " قريب " فهي من صيغة " فعيل " التي يستوي فيها المذكر والمؤنث؛ بدليل أن الله قال : { . . . وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ]
والملائكة لفظها لفظ مؤنث ، ولم يقل الحق " ظهيرة " ، لأن " ظهير " يعني مُعين ، والمعونة تتطلب القوة والعزم والمدد؛ لذلك جاء لها باللفظ المناسب الذي يدل على القوة وهو " ظهير " . وكذلك قوله الحق : { . . . إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ]
و " قريب " بوزن " فعيل " بمعنى مفعول ، ولعل بعض الناس يفهم أن " قريب " بمعنى فاعل أي قارب . مثل رحيم وراحم . أي أن رحمة الله هي التي تُقرب من المحسنين ، والأمر ليس كذلك ، فإن الرحمة هي المقروبة ، والإحسان هو الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث ، أن يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ، أو لأنه صفة لموصوف محذوف أي شيء قريب ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، أو أن الرحمة مصدر ، وحق المصدر التذكير .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ . . . }
(1/2910)

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون ، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة للغاية ، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة : " لنهوي الغرفة قليلاً . وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير . إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا يظل الهواء راكداً . ويتلوث الجو بهذا الركود ، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه ، ثم لا يلبث أن يختنق ، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء ، وهي أيضاً رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام ، وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي تتنفسة ، وكذلك تكوين الماء . لأن سبحانه القائل عن الرياح . { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ . . . } [ الأعراف : 57 ]
والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي نحرثها ، هكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء : الشيء الأول تحريك طبقات الهواء وإلا لفسد الجو في الماء ، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك فرقاً بين بشرى ، وبشراً؛ فالبشرى مفرد ، وقد وردت في قوله الحق : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى . . . } [ هود : 69 ]
أي التبشير . لكن بشراً جمع بشير وهي كلمة مخففة ، والأصل فيها بشر .
والحق يقول : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير } .
وجمع البشير " بُشُر " مثل : " نذير " و " نُذُر " بضم الشين فسكنت تخفيفا ، فتنطق بُشْراً وبُشُراً . { بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } .
هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء ، وهو الرحمة في ذاته ، وبواسطته يعطينا ري الأرض ، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضاً . ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير ، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة " ريح " مفردة ، مثل قوله : { . . . بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ]
فإذن عندما ترى كلمة " رياح " فاعلم أنها خير ، أما كلمة " ريح " فاعلم أنها شر لماذا؟ أنت إذا كنت قاعداً في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء ، ويتسلط التيار على إنسان ، فالإِنسان يصاب بالتعب؛ لأن الهواء يأتي من مكان واحد ، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعبَ ، لأن الرياح متعددة . ولكن الرياح تأتي كالصاروخ .
الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال : " أقل فلان الحمل " أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته ، لأنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض ، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده ، أقلت أي حملت ، وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته ، وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لابد أن ينزل إلى الأرض .
(1/2911)

وأقلت سحاباً أي حملت سحاباً . نعرف أن السحاب هو الأبخرة الطالعة والصاعدة من الأرض ثم تتجمع وتصعد إلى طبقات الجو العليا ، وتضربها الرياح إلى أن تصادف منطقة باردة فيحدث تكثيف للسحاب؛ فينزل المطر؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في الصيدلية؛ فيأتي الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير في الأنابيب التي تمر في تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء . { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } .
وقال الحق : " سقناه " بضمير المذكر؛ لأنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه ، أو نظر إلى لفظه ، وجاء بالوصف مجموعاً فقال : " ثقالا " نظراً إلى أن السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة بالتاء ، وما دامت السحب كلها داخلة في السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد . { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ الأعراف : 57 ]
السحاب لا يتجه إلى مكان واحد ، بل يتجه لأماكن متعددة ، إذن فالحق يوجه السحاب الثقال لأكثر من مكان . لكن الحق سبحانه وتعالى يقول : { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } .
والميت هو الذي لا حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة ، كذلك الأرض ، فالماء ينزل من السماء على الأرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن الله يرسل السحاب ويزجيه إلى البلد الميت في أي مكان من الأرض . { . . . فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ]
إذن فالأرض التي لا يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميت . { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات . . . } [ الأعراف : 57 ]
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليويمية التي نراها دائما في صور شتى ، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدباً ، ثم يهبط عليها بعض المطر ، وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل ، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر ، فمن الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم؟ إذن فالنبات كان ينتظر هذه المياه ، وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذوراً ، وهذا دليل على أن كل منطقة في الأرض فيها مقومات الحياة . { . . . فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 57 ]
فالماء الذي ينزل على الأرض الميتة يحيي الأرض؛ لأنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم ، وحين يوضح لنا سبحانه أن سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب ، وهكذا جعل الله القضية الكونية مرئية وواضحة لكل واحد ولا يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها؛ لأنها أمر حسيّ مشاهد ، ومنها نستنبط صدق القضية وصدق الرب .
ويقول الحق بعد ذلك : { والبلد الطيب يَخْرُجُ . . . }
(1/2912)

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
إذن الآية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالآية الكونية الموجودة؛ فالرياح التي تحمل السحاب ، والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع . والأرض كانت ميتة ويحييها الله بالمطر وهكذا الإِخراج بالبعث وهذه قضية دينية ، ويأتي في هذه الآية بقضية دينية أيضا : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } .
والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي لا يحتاج إلا لى المياه فيخرج منه الزرع ، أما الذي خبث ، فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلاّ بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك قليل وعديم النفع . وهنا يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث أولاً . وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة؛ قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى منها ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل فقه في دين الله تعالى ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به " .
إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلاثة أقسام؛ قسم يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده إلى الغير فينفع غيره مثل الأرض الخصبة شربت الماء وقبلته ، وأنبتت الزرع ، وقسم يحملون المنهج ويبلغونه للناس ولا يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق : { . . . لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ]
صحيح سينتفع الناس من المنهج ، ولذلك قال الشاعر :
خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجن الثمار وخل العود للنار
ويقول صلى الله عليه وسلم : " من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة " .
فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا؛ لأن العالم غير معصوم وله فلتات ، وساعة ترى زلته وسقطته لا تُذِعْها لأن الناس سينتفعون بعلمه . فلا تشككهم فيه ، والقسم الثالث هو من لا يشرب الماء ولا يسقيه لغيره أي الذي لا ينتفع هو ، ولا ينفع غيره . { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } [ الأعراف : 58 ]
إذن منهج الله مثله مثل المطر تماماً؛ فالمطر ينزل على الأرض ليرويها وتخرج النبات وهناك أرض أخرى لا تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره ، وهناك من لا ينتفع ولا ينفع ، فكذلك العلم الذي ينزله الله على لسان رسوله . { والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كذلك نُصَرِّفُ الآيات } .
قلنا من قبل : إن الآيات تطلق على معانٍ ثلاثة : الآيات الكونية التي نراها واقعة في الكون مثل قوله الحق : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر . . . } [ فصلت : 37 ]
وآيات هي آيات القرآن ، والآيات التي تكون هي المعجزات للأنبياء . { كذلك نُصَرِّفُ الآيات } [ الأعراف : 58 ]
الآيات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل ، إنه مثل المنهج ، من أخذ به فاز ونجا ، ومن تركه وغوى وكل آيات الله تقتضي أن نشكر الله عليها ويقول الحق بعد ذلك : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ . . . }
(1/2913)

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعن العاصين في الدنيا ، وتكلم عن مواقف الآخرة الجزائية في أصحاب الجنة ، وأصحاب النار والأعراف أراد أن يبين بعد ذلك أن كل دعوة من دعوات الله سبحانه أهل الأرض لابد أن تلقي عنتا وتضييقا ، وتلقى إعراضاً ، وتلقى إيذاء ، إنه - سبحانه - يريد أن يعطي المناعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فيوضح له : لست أنت بادعاً من الرسل؛ لأن كل رسول جاء إلى قومه قوبل بالاضطهاد ، وقوبل بالتكذيب ، وقوبل بالنكرات ، وقوبل بالإيذاء ، وإذا كان كان كل رسول قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زماناً محدوأ ، ومكاناً محصوراً فأنت يا رسول الله أخذت الدنيا كلها زماناً ومكاناً ، فلا بد أن تكون مواجهاً لمصاعب تناسب مهمتك ورسالتك؛ فأنت في قمة الرسل ، وستكون الإيذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في الإيذاء ، فلست بدعاً من الرسل ، فوطّن نفسك على ذلك . وحين توطن نفسك على ذلك ستلقى كل إيذاء وكل اضطهاد بصبر واحتمال في الله ، وقص الحق قصص الرسل على رسول الله ، وعبر الله بالهدف من قص القصص بقول : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ . . . } [ هود : 120 ]
فكأنا القصص تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم ، فكلما أهاجه نكران ، أو كلما أهاجه جحود ، قص عليه الحق - سبحانه - قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم على هذا العنت؛ فلم يقل الحق لأتباع محمد : إنكم مقبلون على أمر والأرض مفروشة لكم بالورود ، لا . إنما هي متاعب لتجابهوا شر الشيطان في الأرض . والقصص له أكثر من هدى يثبت به فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين له أنه ليس بدعاً من الرسل ، ويقوي نفوس أتباعه ، لأنهم حينما يرون أن أهل الحق مع الأنبياء انتصروا ، وهزم الجميع ووليّ الدبر ، وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين ، ويكسر من جهة أخرى نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش . { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } .
قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم لا يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا عن أنفسهم ، وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لأنفسهم من بطش هؤلاء الأكابر ، وكل مؤمن يبحث له عمن يحميه ، وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد بن المغيرة { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } ، والوليد بن المغيرة سيد قومه ، ويأتي يوم بدر فيوجد أنفه وقد ضرب وخطم ويتحقق قول الله : { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } [ القلم : 16 ]
فمن - إذن - يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال؟ لقد حددها الأعلم بما يكون عليه الأمر .
(1/2914)

وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من الله؛ لأنه رسول أميّ؛ الأمة أمية ، ولم يدّع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم ، أو قرأ كتاباً ، فمن أين جاءته هذه الأخبار إذن؟
واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في الآيات التي يأتي فيها : " ما كنت " مثل قوله الحق : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر . . . } [ القصص : 44 ]
ومثل قوله الحق : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } [ العنكبوت : 48 ]
ومثل قوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ . . . } [ آل عمران : 44 ]
فمن أين جاءت هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه لم يجلس إلى معلم ولم يقرأ كتاباً؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى ، وهذا دليل آخر على صدق رسالته .
وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيراً في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه السلام ، ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور ، لكن السورة التي سميت بسورة نوح ليس فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة ، إنها تعالج لقطات أخرى؛ تعالج إلحاحه في دعوة قومه ، وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلاً ونهاراً ، وسرّاً وعلانية ، كلما دعاهم ابتعدوا ، ولم تأت قصة المركب في سورة نوح ، ولا قصة الطوفان ، وهذه لقطات من عيون القصة ، وكذلك لم تأت فيها قصته مع ابنه ، بل جاء بها في سورة هود .
إذن كل لقطة جاءت لوضع مقصود ، ولهذا رأينا قصة نوح في سورة " نوح " وقد خلت من عناصر مهمة في القصة ، وجاءت هذه العناصر في سورة " هود " أو في سورة " الأعراف " التي نتناولها الآن بالخواطر الإِيمانية .
إذن ، كل قصة من القصص القرآني تجدها قد جاءت تخدم فكرة ، ومجموعها يعطي كل القصة؛ لأن الحق حين يورد القصص فهو يأتي بلقطة في سورة لتخدم موقفاً ، ولقطة أخرى تخدم موقفاً آخر وهكذا . وحين شاء أن يرسل لنا قصة محبوكة تماماً ، جاء بقصة " يوسف " في سورة يوسف ولم يكررها في القرآن ، لأنها مستوفية في سورة يوسف ، اللهم إلا في آية واحدة : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً . . . } [ غافر : 34 ]
لقد وردت في سورة يوسف حياة يوسف منذ أن كان طفلا حتى أصبح عزيز مصر ، وهكذا نرى أن الحق حين يشاء أن يأتي بالقصة كتاريخ يأتي بها محبوكة ، وحين يريد أن يلفتنا إلى أمور فيها مواقف وعظات ، يوزع لقطات القصة على مواقع متعددة تتناسب وتتوافق مع تلك المواقع لتأكيد وخدمة هدف . { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ .
(1/2915)

. . } [ الأعراف : 59 ]
وساعة ترى " اللام " و " قد " فاعرف أن هذا قسم ، وكأن الحق يقول : وعزتي وجلالي لقد أرسلت نوحاً . وهو بهذا يؤكد المقسم عليه .
والقوم هم الرجال خاصة من المعشر؛ لأن القوم عادة هم المواجهون للرسالة ، والمرأة محتجبة؛ تسمع من أبيها أو من أخيها أو من زوجها ، ولذلك قالت النساء للنبي : غلبنا عليك الرجال .
أي أننا لا نجد وسيلة لنقعد معك ونسألك ، فاجعل لنا يوماً من أيامك تعظنا فيه ، فجعل لهن يوماً؛ لأن المفروض أن تكون المرأة في ستر ، وبعد ذلك ينقل لها الزوج المنهج . إن سمع من الرسول شيئاً ، وكذلك الأب يقول لابنته ، والأخ يقول لأخته .
فإذا تكلم الرسول يقال : إن الرسول واجه القوم ، من قولهم هو قائم على كذا . وقيم على كذا . ولذلك الشاعر العربي يقول :
وما أدرى ولست أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وجاء هنا بالقوم ، والمراد بهم الرجال ، والقرآن يقول : { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ . . . } [ الحجرات : 11 ]
إذن النساء لا تدخل في القوم؛ فالقوم هم المواجهون للرسول ومنهم تأتي المتاعب والتصلب في الرأي ، ويكون الإِنكار والجحود والحرب منهم .
وسيدنا نوح عليه السلام دعا قومه ونبههم إلى ثلاثة أشياء : عبادة الله ، فقال : { يَاقَوْمِ اعبدوا الله } ، وبين لهم أنه ليس هناك إله سواه فقال : { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } ، وأظهر لهم حرصه وإشفاقه عليهم إذا خالفوا وعصوا فقال : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
وهكذا تكلم عن العقيدة في الإِله الواحد المستحق للعبادة ، وليس آلهة متعددة ، ونعبده أي نطيع أمره ونهيه ، ولأنهم إن لم يفعلوا ذلك فهو يخاف عليهم من عذاب يوم عظيم ، وهو عذاب يوم القيامة . أو أنّ الله كان قد أوحى له بأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وعذاب يوم عظيم أي يوم الإِغراق ، و " الخوف " مسألة تتعب تفكير من يستقبلها ويخاف أن يلقاها . فمن الذي يفزع بهذا؟
إن الذي يفزع هم الطغاة والجبابرة والسادة والأعيان ووجوه القوم ، وكانوا قد جعلوا من أنفسهم سادة ، أما سائر الناس وعامتهم فهم العبيد والمستضعفون . والذي يهاج بهذه الدعوة هم السادة لأنه ليس هناك إلا إله واحد ، والأمر لواحد والنهي لواحد والعبادة والخضوع لواحد ، ومن هنا فسوف تذهب عنهم سلطتهم الزمنية ، لذلك يوضح الحق لنا موقف هؤلاء من الدعوة حين يقول : { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ . . . }
(1/2916)

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
والملأ هم سادة القوم وأعيانهم وأشرافهم ، أو الذين " يملأون " العين هيئة ويملأون القلوب هيبة ، ويملأون صدور المجالس بنية .
إنهم خائفون أن تكون دعوة نوح هي الدعوة إلى الطريق المستقيم وكلامه هو الهداية؛ فيمنّوا أنفسهم بأن هذا ضلال وخروج عن المنهج الحق : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
أي غيبة عن الحق ، أو في تيه عن الحق ، و " مبين " أي محيط بصورة لا يمكن النفاذ منها .
ويرد نوح عليه السلام : { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ . . . }
(1/2917)

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
هم قالوا له : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، المتبادر أن يكون الرد : ليس في أمري ضلال ، لكنه قال هنا : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } ، أقول ذلك لنعرف أن كل حرف في القرآن موزون لموضعه . هم قالوا له : إنا لنراك في " ضلال ، فيرد عليهم ليس بي ضلالة؛ لأن الضلال جنس يشمل الضلالات الكثيرة ، وقوله يؤكد أنه ليس عنده ضلالة واحدة . وعادة نفي الأقل يلزم منه نفي الأكثر ، مثلاً عندما يقول صديق : عندك تمر من المدينة المنورة؟ تقول له : ليس عندي ولا تمرة واحدة . أنت بذلك نفيت الأقل ، وهذا أيضاً نفي للأكثر . { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } .
وحين ينفي نوح عن نفسه وجود أدنى ضلالة فذلك لأنه يعرف أنه لم يأت من عنده بذلك ، ولو كان الأمر كذلك لاتّهم نفسه بأن هواه قد غلبه ، لكنه مرسل من عند إله حق . { . . . وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } [ الأعراف : 61 ]
وقوله : " ولكني " استدراك فلا تقولوا : أنا في ضلال؛ فليس فيّ ضلالة واحدة ، لكن أنا رسول يبلغ عن الله ، الله لا يعطي غير الهدى .
{ رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أي من سيد العالمين ومن متولى تربية العالمين ، ومن يتولى التربية لا يُنزل منهجاً يضل به من يربيهم ، بل ينزل منهجاً ليصلح من يربيهم ، وسبحانه قبل أن يأتي بهم إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون ، وأمدهم بالأرزاق حتى الكافرين منهم ، ومن يعمل كل ذلك لن يرسل لهم من يضلهم .
ويستمر البلاغ من نوح عليه السلام لقومه فيقول : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ . . . }
(1/2918)

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه؛ فيقال : بلغت المكان الفلاني . . أي انتهيت إليه . و " البلاغة " هي النهاية في أداء العبارة الجميلة ، و " أبلغكم " أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتكم . { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } .
وكان يكفي أن يقول : " رسالة ربي " إلا أنّه قال : { رِسَالاَتِ رَبِّي } لأن أي رسول يأتي بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسالات السابقة حتى لا يقول أحد : إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل السابقون ، فما قاله به أي رسول سابق يقوله ، ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولإِدريس . فقال : إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ ، وكذلك شيت وغيره من الرسل .
أي أبلغكم كل ما جعله الله منهجاً لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة ، مثلما قال سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ . . . } [ الشورى : 13 ]
وهو الأمور المستقرة الثابتة ، العقدية ، والأحكام التي لا تتغير . أو { رِسَالاَتِ رَبِّي } ، لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطاً من الرسالة؛ فاليوم جاءت له رسالة يبلغها ، وغداً تأتي له رسالة يبلغها ، ولو قال : " الرسالة " لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها ، لكنْ نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه في وقت إبلاغه بها؛ لذلك فهي " رسالات " . أو لأن موضوع الرسالات أمر متشعب تشعباً يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح؛ فهناك رسالة للأوامر ، ورسالة للنواهي ، ورسالة للوعظ ، ورسالة للزجر ، ورسالة للتبشير ، ورسالة للإِنذار ، ورسالة للقصص ، وهكذا تكون رسالات .
أو أن كل نجم - أي جزء من القرآن وقسط منه - يعتبر رسالة ، فما يرسله الله في يوم هو رسالة للنبي ، وغداً له رسالة أخرى وهكذا .
وقوله : { وَأَنصَحُ لَكُمْ } لأن البلاغ يقتضي أن يقول لهم منهج الله ، ثم يدعو القوم لاتباع هذا المنهج بان يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم ، والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة .
ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية . { وَأَنصَحُ لَكُمْ } .
والنصح أن توضح للإِنسان المصلحة في العمل ، وتجرد نيتك مما يشوهه . وهل أنت تنصح آخر بأن يعود نفعه عليك؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة ، وإن نصحته بأمر يعود عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله ، ولكن حينما تقول : " نصحت لك " أي أن النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك ، بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط ، وبذلك يتضح الفارق بين " نصحته " و " نصحت لك " . { وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 62 ]
وكأن سيدنا نوحاً يخاطب قومه : إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من الله ، ولا كل علم الله ، ولا كل ما علمني الله ، بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن اتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإِيماني ، وهنا سأعطيكم منها جرعات .
(1/2919)

أو قوله : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني أنه سيحدث لكم أمر في الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه . وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إِدريس . { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا . . . } [ العنكبوت : 40 ]
ولم يحدث مثل هذا العقاب من قبل نوح ، وقد بين لهم نوح : أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من يُكّذِّبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر .
أو { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي أن الله أعلمني لا على قدر ما قلت لكم من الخير ، لكنه سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلاداً وميعاداً .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ . . . }
(1/2920)

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{ أَوَ عَجِبْتُمْ } وكان من الممكن أن يقول : " أعجبتم " ، لكن ساعة أن يجيء بهمزة الاستفهام ويأتي بعدها بحرف عطف . فاعرف أن هناك عطفاً على جملة؛ أي أنه يقول : أكذَّبْتُم بي ، وعجبتم من أن الله أرسل على لساني { ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ } . والذكر ضد النسيان ، وأن الشيء يكون على البال ، ومرة يتجاوز البال ويجري على اللسان .
وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر في القرآن ، وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به القرآن : { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ]
وكذلك في قوله الحق : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
إذن يطلق الذِّكر ويراد به القرآن ، ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة الإِعلامية الواسعة . وقد قال الحق لرسوله عن القرآن : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ . . . } [ الزخرف : 44 ]
أي أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك وسيجعل لكم به صيتاً إلى يوم القيامة؛ لأن الناس سترى في القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب ، وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن ، إذن بفضل القرآن " العربي " ، سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا بالقرآن ، وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفا جديدا .
أي أن القرآن شرف لكم . ويقول سبحانه : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ . . . } [ الأنبياء : 10 ] .
أي فيه شرفكم ، وفيه صيتكم ، وفيه تاريخكم ، ويأتي الإِسلام الذي ينسخ القوميات والأجناس ، ويجعل الناس كلها سواسية كأسنان المشط . { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا . . . } [ الحجرات : 13 ]
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى " .
وسيظل القرآن عربياً ، وهو معجزة في لغة العرب ، وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه الدنيا . إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن ، ومن صيت القرآن . والحق يقول : { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ]
أي أن شرفه دائم أبداً . حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي ، نجد من يذهب إلى البحث عن أصول السبق في القرآن ، ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة ، وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه في كتبهم . هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين ينحرفون قليلاً عن المنهج ، وقد يتناساه بعضهم ، لكن في مسألة القرآن نجد الكل يتنبه . وكما قلت من قبل : قد تجد امرأة كاشفة للوجه وتضع مصحفاً كبيراً على صدرها ، وقد تجد من لا يصلي ويركب سيارة يضع فيها المصحف ، وكل هذا ذكر . وتجد القرآن يُقرأ مرتلاً ، ويُقرأ مجوداً ، ومجوداً بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من لا يؤمنون بالقرآن . وكل هذا ذكر وشرف كبير .
عرفنا أن " الذكر " قد ورد أولا بمعنى القرآن ، وورد باسم الصيت والشرف : ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل؛ فالحق سبحانه يقول :
(1/2921)

{ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنبياء : 1-2 ]
أي أن كل ما نزل على الرسل ذكر .
ويقول سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ]
إذن فالمراد بالذكر - أيضاً - كل ما نزل على الرسل من منهج الله .
ومرة يُطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار . والتذكير ، والتذكر فيقول سبحانه : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله . . . } [ المائدة : 90-91 ]
والمراد هنا بالذكر : الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم في منهج الله . ومرة يراد بالذكر : التسبيح ، والتحميد . انظر إلى قوله الحق سبحانه وتعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة . . . } [ النور : 36-37 }
وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير الله على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة؛ فسبحانه يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة . اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى : { . . . وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 90 ]
وفي آية أخرى : { . . . إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45 ]
وما دام قد قال جل وعلا : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي ذكر الله لهم بالنعم والخيرات ، فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال . فهناك إذن ذكر ثان ، ذكر أقل منه ، وهو العبادة لربهم بالطاعة ، هنا يقول الحق : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الاعراف : 63 ]
ما وجه العجب هنا؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء علي غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها ، إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا؟ ولو كان الأمر طبيعياً ورتيباً لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب .
وعجبتم لماذا؟ اقرأ - إذن - قول الحق سبحانه وتعالى : { ق والقرآن المجيد * بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ . . . } [ ق : 1-2 ]
موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم؛ فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول؟ كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاً . { بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ ق : 2 ]
وجاء العجب أيضاً في البعث . فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الأرض وصرنا تراباً بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية؟!
إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعو إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات .
(1/2922)

العجب عندهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحاً عليه السلام يريد منهم أن يبحثوا في الإِيمان بوجود إِله . وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئاً هندسته بديعة ، وحكيمة ، وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الإِنسان ليجد الكون منسقاً موجوداً من قبله ، كان المنطق أن يبحث هذا الإِنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف مَن صنع الكون ، وحين يأتي الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون ، تتعجبون؟!
كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة؛ لأن الكون وأجناسه من النبات والجماد والحيوان في خدمتك أيها الإنسان . لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك الأجناس ، بل أنت طارئ على الكون والأجناس ، ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك؟
إذن فالكلام عن الإِيمان كان يجب أن يكون عمل العقل ، وقلت قديماً : هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان ، وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبداً ، ثم جاع ، ولم يجد طعاماً ، وقهره التعب ، فنام ، ثم أفاق من هذه الإِغفاءة؛ وفوجئ بمائدة أمامه عليها أطايب الطعام والشراب وهو لا يعرف أحداً في المكان ، بالله قبل أن يأكل ألا يتساءل عمن أحضرها؟!! كان الواجب يقتضي ذلك .
إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه ، وأن نؤمن به وهو الإِله الذي لا ينتفع بطاعاتنا أو بعبادتنا ، ولا تعود عليه العبادة بشيء ، بل تعود علينا ، والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات ، ولكن يُقابِل ذلك الثوابُ في الآخرة .
وهناك من قال : ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف؟ مادام لا يستفيد . إنّ العقل كاف ليدلنا - دون منهج - إلى ما هو حسن فنفعله ، وما نراه سيئاً فلا نفعله ، والذي لا نعرفه أهو حسن أم سيىء . ونضطر له نفعله ، وإن لم نكن في حاجة له لا نفعله .
ونقول لها القائل : لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن ، هل حسّن لك وحدك أم لك وللآخرين؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لأنك لست وحدك في الكون . ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة ، الحسن عندك أن تأخذها ، والحسن عند غيرك أن يأخذها . لكن الحُسْن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه القطعة من القماش مَن يعدل بينك وبين غيرك دون هوى . وألاّ يكون واحد أولى عنده من الآخر . إذن لابد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيء؛ لأن الحسن بالمنطق البشري ستصدم فيها أهواؤنا .
ومثال آخر : افرض أننا دخلنا مدينة ما ، ورأينا مسكنا جميلا فاخرا وكل منا يريد أن يسكن فيه وكل واحد يريد أن يأخذه؛ لأن ذلك هو الحسن بالنسبة له ، لكن ليس كذلك بالنسبة لغيره ، إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحاً عند الغير .
(1/2923)

فالحسن عند بعض الرجال إذا رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها ، لكن هل هذا حسن عند أهلها أو أبيها أو زوجها؟ لا .
إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو الأمر الطبيعي الفطري الذي تستلزمه المقدمات . فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم . ولماذا لم يقل الحق : لسان رجل؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ . . . } [ آل عمران : 194 ]
كأنه يقول لهم : إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على الرسل . ومهمة الرسل صعبة؛ فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول ، ولا تظنوا أن ربنا حين اختار رسولاً قد اختاره ليدلله على رقاب الناس ، لا . لقد اختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة ، والرسول صلى الله عليه وسلم - كما تعلمون - لم يشبع من خبز شعير قط ، وأولاده وأهله - على سبيل المثال - لا يأخذون من الزكاة ، والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة ، وكل تبعات الدعوة على الرسول ، وهذه هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول ، لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط لأعطى البلاغ فقط ، إنما " على رجل منكم " تعطي البلاغ ومسئولية البلاغ على هذا الرجل . { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ . . . } [ الأعراف : 63 ]
ما هو العجب؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة .
وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإِنسان . وطالب أن يكون الرسول من الملائكة؛ لأن الملائكة لم تعص ولها هيبة ولا يُعرف عنها الكذب لكن كيف يصبح الرسول ملكاً؟ وهل أنت ترى الملك؟ إن البلاغ عن الله يقتضي المواجهة ، ولابد أن يراه القوم ويكلموه ، والملك أنت لن تراه . إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل جبريل بهيئة رجل . إذن أنتم تستعجبون من شيء كان المنطق يقتضي ألاّ يكون . { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ]
وقولهم هذا في قمة الغباء . فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الإِيمان؛ لأن الرسول منهم . وقد عرفوا ماضيه من قبل ، وكذلك أنسوا به ، ولو كانت له انحرافات قبل أن يكون رسولاً لخزي واستحيا أن يقول لهم : استقيموا . وما دام هو منكم وتعرفون تاريخه وسلوكه حين دعاكم للاستقامة كان من الواجب أن تقولوا لأنفسكم : إنه لم يكذب في أمور الدنيا فكيف في أمور الآخرة ، ولم يسبق له أن كذب على خلق الله فكيف يكذب على الله؟ ولأنه منكم فلابد أن يكون إنساناً ولذلك قال الحق :
(1/2924)

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ]
وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق : { على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
إذن فمهمته أن ينذر ، والأنذار لقصد التقوى ، والتقوى غايتها الرحمة ، وبذلك نجد هنا مراحل : الإنذار وهو إخبار بما يسؤوك ولم يأت زمنه بعد وذلك لتستعد له ، وتكف لأنه سيتبعك ويضايقك . والبشارة ضد الإنذار ، لأنها تخبر بشيء سار زمنه لم يأت ، وفائدة ذلك أن يجند الإنسان كل قوته ليستقبل الخير القادم . وأن يبتعد عن الشيء المخيف .
وهكذا يكون التبشير والإنذار لتتقي الشرور وتأخذ الخير ، وبذلك يحيا الإنسان في التقوى التي تؤدي إلى الرحمة .
إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة؛ لأن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يلح عليها فطرياً ، وأن تنعطف النفس إليها لا أن يتعجب أحد لأنها جاءت ، فقد جاءت الرسالة موافقة للمقدمات ، وقد جاء الرسول ولم يأت ملكاً ليكون قدوة .
وكذلك لم يرسله الله من أهل الجاه من الأعيان ومن صاحب الأتباع؛ حتى لا يقال إن الرسالة قد انتشرت بقهر العزوة ، إن الأتباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط الكبراء والسادة ، فمخافة أن يقال : إن كل تشريع من الله آزره المبطلون بأتباعهم جاءت الدعوة على أيدي الذين ليس لهم أتباع ولا هم من أصحاب الجاه والسلطان . ولقد تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم ، وهذه شهادة منهم بان القرآن في ذاته منهج ومعجزة . ولم يتساءلوا : وهل القرآن يشرف بمحمد أو محمد هو الذي يشرف بالقرآن؟ إن محمداً يشرف بالقرآن؛ لذلك يقول الحق : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي . . . } [ هود : 27 ]
وهذه هي العظمة؛ لأن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يفرض عليهم الواقع أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم ، ويفرضوا الدين بقوة سلطانهم ، لا ، بل يمر على أتباع رسول الله فترة ضعاف مضطهدون ، ويؤذوْن ويهاجرون ، فالمهمة في البلاغ عن الله تأتي لينذر الرسول ، ويتقى الأتباع لتنالهم الرحمة نتيجة التقوى ، والتقوى جاءت نتيجة الإنذار .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ . . . }
(1/2925)

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
وهنا يتكلم الحق عن حكاية الإنجاء ، ونعلم المقدمة الطويلة التي سبقت إعداد سيدنا نوح عليه السلام للرسالة ، فقد أراد الله أن يتعلم النجارة ، وأن يصنع السفينة . { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ . . . } [ هود : 38 ]
ولم يجيءالحق هنا بسيرة الطوفان التي قال فيها في موضع آخر من القرآن : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [ القمر : 11 ]
وجاء الحق هنا بالنتيجة وهي أنهم كذبوه . { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ . . . } [ الأعراف : 64 ]
وكانت هذه أول حدث عقابي في تاريخ الديانات؛ لأن رسالة نوح عليه السلام هي أول رسالة تعرضت إلى مثل هذا التكذيب ومثل هذا العناد وكان الرسل السابقون لنوح عليهم البلاغ فقط ، ولم يكن عليهم أن يدخلوا في حرب أو صراع ، والسماء هي التي تؤدب ، فحينما علم الحق سبحانه وتعالى أنه بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ستبلغ الإِنسانية رشدها صار أتباع محمد مأمونين على أن يؤدبوا الكافرين .
وفي تكذيب نوح عليه السلام يأتينا الحق هنا بالنتيجة .
{ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ } ولم يقل الحق : كيف أنجاه ولم يأت بسيرة الفلك ، بل أخبر بمصير من كذبوه ، ويأتي بالعقاب من جنس الطوفان . { . . . وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } [ الأعراف : 64 ]
هناك " أعمى " لمن ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما ، وهناك أيضا عَمِه وأَعْمَهُ ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر . . أي ذهبت بصيرته ولم يهتد إلى خير .
ثم انتقل الحق إلى رسول آخر . ليعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة فيه أيضاً . فبعد أن جاء بنوح يأتي بهود .
(1/2926)

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
وساعة ما تسمع : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } أي أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً ، و " أخاهم " موقعها الإِعرابي " مفعول به " ويدلنا على ذلك قوله في الآية السابقة : { أَرْسَلْنَا نُوحاً } ، وكذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا . وكلمة " أخاهم " تُشْعرُ بأشياء كثيرة؛ إنه من جنسهم ، ولغته لغتهم ، وأنسهم به ، ويعرفون كل شيء وكل تاريخ عنه ، وكل ذلك إشارات تعطى الأنس بالرسول؛ فلم يأت لهم برسول أجنبي عاش بعيداً عنهم حتى لا يقولوا : لقد جاء ليصنع لنفسه سيادة علينا بل جاء لهم بواحد منهم وأرسل إليهم " أخاهم " وهذا الكلام عن " هود " .
إذن كان هود من قوم عاد ، ولكن هناك رأي يقول : إن هودا لم يكن من قوم عاد ، ولأنَّ الأخوة نوعان : أخوَّة في الأب القريب ، أو أخوّة في الأب البعيد ، أي من جنسكم ، من آدم؛ فهو إما أخ من الأب القريب ، وإمّا أخ من الأب البعيد . وقد قلنا من قبل : إن سيدنا معاوية كان يجلس ثم دخل عليه الحاجب فقال : يا أمير المؤمنين ، رجل بالباب يقول إنه أخوك ، فتساءلت ملامح معاوية وتعجب وكأنه يقول لحاجبه : ألا تعرف إخوة أمير المؤمنين؟ وقال له : أدخله ، فأدخله . قال معاوية للرجل : أي إخوتي أنت؟!
قال له : أخوك من آدم .
فقال معاوية : رحم مقطوعة - أي أن الناس لا تتنبه إلى هذه الأخوة - والله لأكونن أول من وصلها . { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 65 ]
ونلحظ أن الحق قال على لسان سيدنا نوح لقومه : { . . . فَقَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ]
وأرسل الحق هوداً إلى عاد ، لكن قول هود لقوم عاد يأتي : { قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } .
وهنا " قال " فقط من غير الفاء؛ وجاء في قول نوح : " فقال " . وهذه دقة في الأداء لننتبه؛ لأن الذي يتكلم إله ورب ، فتأتي مرة ب " فاء " وتأتي مرة بغير " فاء " رغم أن السياق واحد ، والمعنى واحد والرسول رسول ، والجماعة هم قوم الرسول . ونعلم أن " الفاء " تقتضي التعقيب ، وتفيد الإِلحاح عليهم ، وهذا توضحه سورة نوح؛ لأن الحق يقول فيها : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً }
(1/2927)

[ نوح : 5-10 ]
إذن فالفاء مناسبة هنا ، لكن في مسألة قوم هود نجد أن سيدنا هوداً قال لهم مرة أو اثنتين أو ثلاث مرات ، لكن بلا استمرار وإلحاح ، وهذا يوضح لنا أن إلحاح نوح على قومه يقتضي أن يأتي في سياق الحديث عنه ب : " فقال " وألا تأتي في الحديث عن دعوة سيدنا هود . وقد يتعجب الإِنسان لأن مدة هود مع عاد لا تساوي مدة نوح مع قومه ، وقد جاء الإِيضاح بزمن رسالة سيدنا نوح في قوله الحق : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً . . . } [ العنكبوت : 14 ]
ظل سيدنا نوح قُرابة ألف سنة يدعو قومه ليلاً ونهاراً سرًّا وعلانية ، لكنهم كانوا يفرون من الإِيمان ، لذلك يأتي الحق في أمر دعوة نوح بالفاء التي تدل على المتابعة . أما قوم عاد فلم يأت لهم " بالفاء " . بل جاء ب " قال " : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . . } [ الأعراف : 65 ]
وقال نوح من قبل : { . . . يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ]
وفي مسألة قوم عاد قال : { يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } .
ومع أن الأسلوب واحد والمعاني واحدة ، وكان ذلك يقتضي الإِنذار ، لكن لم يقل الحق ذلك؛ لأن نوحاً عنده علم بالعذاب الذي سوف ينزل؛ لأنها كانت أول تجربة ، لكن سيدنا هود لم يكن عنده علم بالعذاب .
العملية التي حدثت لنوح مع قومه وإهلاكهم بالغرق كانت أولية بالنسبة له؛ فالله سبق أن أعلمه بها ، وحين ذهب هود إلى قوم عاد كانت هناك سابقة أمامه ، وأخذ ربنا المكذبين لنوح بالعذاب ، لذلك ألمح سيدنا هود فقط إلى احتمال العذاب حين قال : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } .
أي أن العذاب قد ينتظركم وينالكم مثل قوم نوح .
ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ الملأ الذين . . . }
(1/2928)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
في هذه الآية جاء قوله : { الذين كَفَرُواْ } ، وفي قصة نوح قال سبحانه : { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } ولم يأت فيها بالذين كفروا ، لأن قوم نوح لم يكن فيهم من آمن وكتم إيمانه وأخفاه ، بخلاف عاد قوم هود فإنه كان فيهم رجل اسمه مرثد بن سعد آمن وكتم وستر إيمانه ، فيكون قوله تعالى في شأنهم : { الذين كَفَرُواْ } قد جاء مناسبا للمقام ، لأن فيهم مؤمنا لم يقل ما قولوا من رميهم لسيدنا هود بالسفاهة حيث قالوا ما حكاه الله عنهم بقوله : { . . . إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } [ الأعراف : 66 ]
أما قوم نوح فقد قالوا : { . . . إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأعراف : 60 ]
فقال لهم نوح عليه السلام : { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ . . . } [ الأعراف : 61 ]
ما الفرق بين الضلال والسفاهة؟
الضلال هو مجابنة حق ، والسفاهة طيش وخفة وسخافة عقل ، وأضافت عاد اتهاماً آخر لسيدنا هود : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } .
والظن رجحان الأمر بدون يقين ، فهناك راجح ، ومرجوح ، أو أن الظن هنا هو التيقن . على حد قوله سبحانه : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ . . . } [ البقرة : 46 ]
أي يتيقنون ، وجاء بالرد من سيدنا هود : { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ . . . }
(1/2929)

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
وفي هذا القول نفي للاتهام بالسفاهة ، وإبلاغ لهم بأنه مبلّغ عن الله بمنهج تؤديه الآية التالية وهي قوله الحق : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ . . . }
(1/2930)

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
وسبق أن قال سبحانه على لسان نوح : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ . . . } [ الأعراف : 62 ]
فلماذا قال في قوم نوح : { أَنصَحُ لَكُمْ } ، وقال هنا في عاد : { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } ؟
لقد قال الحق : { أَنصَحُ لَكُمْ } في قوم نوح لأن الفعل دائماً يدل على التجدد ، بينما يدل الاسم على الثبوت . ونظراً إلى أن نوحاً عليه السلام كان يلحّ على قومه ليلاً ونهاراً ، وإعلاناً وسرًّا ، لذلك جاء الحق بالفعل : { أَنصَحُ لَكُمْ } ليفيد التجدد ، ولكن في حالة قوم هود جاء سبحانه بما يفيد الثبوت وهو قوله : { نَاصِحٌ أَمِينٌ } ؛ لأن هوداً عليه السلام لم يلح ويكرر على قومه في دعوتهم إلى الإِيمان كما كان يفعل نوح عليه السلام .
ويقول الحق على لسان سيدنا هود : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ . . . }
(1/2931)

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
جاء الحق هنا بالذكر للإِنذار فقال : { لِيُنذِرَكُمْ } فقط ، وليس كما قال في قوم نوح : { وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لأن الإِنذار لم يأت لمجرد الإِنذار ، بل لنرتدع ونتقي ، لِكي نُرحم ، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإِنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } .
وهذا كلام جديد؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا ، وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد ذلك ، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه : { . . . واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 69 ]
ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساماً فارعة فيها بسطة وطول ، ويقال : إن الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع ، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعاً ، ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله ، أي نعمه عليهم ، وأول النعم أن أرسل إليهم رسولاً يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير .
فماذا كان ردهم؟
يقول الحق : { قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ . . . }
(1/2932)

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
كان المنطق أن يعبدوا الله وحده لا أن يعبدوا الشركاء الذين لا ينفعوهم ولا يضرونهم ، ولا يسمعونهم . بل إن الواحد منهم كان يرى الهواء يهب على الصنم ، فيميل الصنم ويقع على الأرض وتنكسر رقبته ، فيذهب إلى الحداد ليعيد تركيب رأس جديد للصنم ، فكيف يعبد مثل هذا الصنم؟ لكنهم قالوا لهود : نحن نقلد آباءنا ولا يمكن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا لأننا على آثارهم نسير . وإن كان إلهك ينذرنا بعذاب فأتنا به إن كنت من الصادقين . وهكذا وضح أنه لا أمل في اقتناعهم بالدعوة إلى الإِيمان .
فماذا يقول الحق بعد ذلك؟
يجيء القول الفصل على لسان سيدنا هود : { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ . . . }
(1/2933)

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
لقد كان يكلمهم ويكلمونه ، قالوا له : ائتنا بالعذاب ، فقال لهم : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } ، فكيف يقول وقع؟ لقد قال ذلك لأنه يخبر عن الله . و " وقع " فعل ماض ، لكنا نعلم أن كلام الله مجرد عن الزمان ماضياً كان أو حاضرا ، أو مستقبلا ، لقد قال سيدنا هود : " وقع " والعذاب لم يقع بعد ، لكن لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر على إنقاذه في أي وقت ، ولا إله آخر ولا قوة أخرى قادرة على أن تمنع ذلك . والذي وقع عليهم هو الرجس ، والرجس أي التقذير ، ضد التزكية والتطهير . وغضب الله الواقع لم تحدده هذه الآية . لكن لا بد أن له شكلاً سيقع به .
ويسائلهم هو ساخراً : { أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ } ، وكل اسم يكون له مسمى ، وهذه الأسماء أنتم أطلقتموها على هذه الآلهة ، هل لها مسميات حقيقة لِتُعبد؟ . لا ، بل أنتم خلعتم على ما ليس بإله أنه إله ، وهذه أسماء بلا مسميات ، وأنتم في حقيقة الأمر مقلدون لآبائكم . وما تعبدونه أسماء بلا سلطان من الإِله الحق . { مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ الأعراف : 71 ]
أي ليس لهذه الأسماء من حجة على ما تقولون ، بدليل أنهم كانوا يسمون في الجاهلية إلهاً باسم " العزّى " وعندما يكسرونه لا يجدون عزاً ولا شيئاً؛ لأن هذا الإِله المزعوم لم يدفع عن نفسه ، فكيف يكون إلهاً وقيّوما على غيره؟ وكذلك سموا " اللات " أي الله ومضاف له التاء ، وعندما يكسرونه لا يجدون له قوة أو جبروتاً أو طغياناً .
ويقول هود لقومه ما يؤكد وقوع العذاب : { . . . فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين } [ الأعراف : 71 ]
وقوله : { فانتظروا } ، جعلنا نفهم قوله السابق : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } بأن الرجس والغضب قادمان لا محالة . صحيح أنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي ، ولكن لنقرأ قوله الحق : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } [ النحل : 1 ]
و " أتي " فعل ماضٍ ، وفي الظاهر أنه يناقض قوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } لأن الاستعجال يدل على أنّ الحدث لم يأت زمنه بعد . ولكن لنا أن نعلم أن الذي أخبر هو الله ، ولا توجد قوة ثانية تغير مرادات الله أن تكون أو لا تكون .
يقول الحق بعد ذلك : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ . . . }
(1/2934)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
ونلحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوح : { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } .
أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة ، بل قال سبحانه : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 72 ]
وقوله : { فَأَنجَيْنَاهُ } تدل على أن عذاباً عاماً وقع ، إلا أن ربنا أوحى لسيدنا هود أن يذهب بعيداً عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب . وكان العرب قديماً إذا حزبهم أمر ، أو دعتهم ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت الله؛ ليضرعوا إلى الله أن يخلصهم منه ، حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك . كما حدث من عاد حين أرسل الله إليهم سيدنا هودا نبيًّا فكذبوه وازدادوا عتوًّا وتجبراً فأصابهم جدب وظل ثلاث سنوات فما كان منهم ألا أن فزعوا إلى الكعبة لكي يدعوا ربهم أن يخفف عنهم العذاب ، وذهب واحد منهم اسمه " قيل بن عنز " ، وآخر اسمه " مرثد بن سعد " الذي كان يكتم إسلامه على رأس جماعة منهم إلى مكة ، وكان لهم بها أخوال من المعاليق؛ من أولاد عمليق بن لاوث بن سام بن نوح ، وكانوا هم الذين يحكمون مكة في هذا الوقت ، وعلى رأسهم واحد اسمه " معاوية بن بكر " ، فنزلوا عنده ، وأكرم وفادتهم على طريقة العرب ، واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء ، وجاء لهم بالقيان والأكل والشراب ، فاستمرأوا الأمر ، وظلوا شهراً ، فقال معاوية بن بكر : لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن يذهبوا إلى الكعبة ، ولا فكروا في أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا . وتكون سبّة فيّ . وأخذ يفكر في الأمر . وكان عنده مغنيتان اسمهما " الجرادتان " . فقالت المغنيتان : قل في ذلك شعراً ، ونحن نغنيه لهم ، فقال معاوية :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يمطرنا غماماً
فيسقى أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما
فلما غنتا ، والغناء فيه ترديد وخصوصاً إذا كان غناءً موجهاً " ألا يا قيل ويحك قم فهينم " وهينم : أي ادعوا الله ، ألم تحضر من أجل الدعاء لعل الله يمطرنا الغمام على أرض عاد ، وينتهي الجدب ، وقد بلغ منهم الجهد أنهم لا يبينون الكلام ، فتنبه القيل ، وتنبه مرثد بن سعد ، وكان قد نمى إلى علم " القيل " أن مرثد بن سعد مؤمن بهود عليه السلام ، فرفض أن يصحبه معه ، وبالفعل ذهب قيل وأخذ يدعو الله ، فسمع هاتفاً يقول له : " اختر قومك " وقد رأى سحابة سوداء وسحابة حمراء وسحابة بيضاء ، ونبهه الهاتف أن يختار سحابة تذهب لقومه من بين الثلاثة ، فاختار السحابة السوداء ، لأنها أكثر السحاب ماء ، وهو على قدر اجتهاده اختار السحابة السوداء ، وعادوا لبلادهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم : أنا اخترت السحابة لأنها توحى بماء كثير منهمر ، وقال الحق في هذا الأمر :
(1/2935)

{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا . . . } [ الأحقاف : 24 ]
أي أن هذه هي السحابة التي قال عليها : " قيل " سوف تعطينا المطر .
فيرد الحق عليهم ويقول لهم : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ . . . } [ الأحقاف : 24-25 ]
إذن فقولهم السابق لسيدنا هود الذي أورده الحق هنا في سورة الأعراف : { . . . فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 70 ]
أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة الأعراف : { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } .
ولم يفلت من العذاب إلا من آمن مصداقاً لقوله الحق : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 72 ]
لقد يسّر الحق الانقاذ لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهور السحاب ، فقد سمع هود هاتفاً يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد ، فأخذ الجماعة الذين آمنوا معه وهرب إلى مكة ، وتم إهلاك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم الإِيمان بربهم .
ويقول الحق بعد ذلك : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً . . . }
(1/2936)

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
لقد قال سيدنا صالح لثمود مثلما قال سيدنا هود لعاد ، وحمل لهم الإِنذار ليتقوا فيرحموا ، قال سيدنا صالح : { يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } .
إذن فالإِنذار للتقوى وللوصول إلى الرحمة والفلاح ، ولذلك أقول دائماً : إن القرآن حينما يتعرض لأمر قد لا يأتي به مفصلا ولكن سياقه يوحي بالمراد منه ، ولا يكرر وذلك ليربي فينا ملكة الاستيقاظ إلى استقبال المعاني . والمثال على ذلك في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان ، يقول القرآن على لسان سيدنا سليمان : { وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } [ النمل : 20 ]
ويهدد سيدنا سليمان الهدهد قائلاً : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ . . . } [ النمل : 21 ]
ثم جاء الهدهد ليقول : { . . . وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ]
ثم أرسل سيدنا سليمان الهدهد إلى قوم سبأ قائلاً : { اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ]
وبعد هذه الآية مباشرة قال القرآن : { قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ]
وكأن الهدهد قد ذهب بالكتاب ، ورماه إلى ملكة سبأ ، وقالت هي الرد مباشرة . إذن لم يكرر القرآن ما حدث ، بل جعل بعضاً من الأحداث متروكاً للفهم من السياق .
وكذلك هنا في قوله الحق : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ . . . } [ الأعراف : 73 ]
وكلمة " أخاهم " هنا تؤكد أن سيدنا صالحاً كان مأنوساً به عند ثمود ، ومعروف التاريخ لديهم ، سوابقه في القيم والأخلاق معروفة لهم تماماً وأضيفت ثمود له لأنه أخوهم . وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود . { . . . قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأعراف : 73 ]
والبنية هي الدليل على الصدق في البلاغ عن الله ، وهي الناقة . فما قصة الناقة؟ هل خرج لهم بناقة ونسب ملكيتها لله؟ بطبيعة الحال ، لا ، بل لا بد أن تكون لها قصة بحيث يعلمون أن هذه الناقة ليست لأحد من البشر . وحين قام سيدنا صالح بدعوته ، تحداه السادة من قومه ، وقالوا : نقف نحن وأنت ، نستنجد نحن بآلهتنا ، وأنت تستنجد بإلهك ، وإن غلبت آلهتنا تتبعنا ، وإن غلب إلهك نتبعك ، وجلسوا يدعون آلهتهم ، فلم يحدث شيء من تلك الآلهة ، وهنا قالوا لسيدنا صالح : إن كنت صادقاً في دعوتك ، هذه الصخرة منفردة أمامك في الجبل اسمها " الكاثبة " فليخرج ربك لنا من هذه الصخرة ناقة هي عشراء كالبخت - أحسن أنواع الإِبل - فدعا الله سبحانه وتعالى ، وانشقت الصخرة عن الناقة ، وخروج الناقة من الصخرة لا يدع مجالاً للشك في أنها آية من الله ظهرت أمامهم . إنها البينة الواضحة . لقد انشقت الصخرة عن الناقة ووجدوها ناقة عشراء ، وَبْرَاء - أي كثيرة الوَبَر - يتحرك جنينها بين جنبيها ثم أخذها المخاض فولدت فصيلاً ، وهكذا تتأكد الإِلهية دون أن يجرؤ أحد على التشكيك فيها ، وهي ناقة من الله وهو القائل :
(1/2937)

{ . . . نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا } [ الشمس : 13 ]
وأوضح لهم سيدنا صالح أنها ناقة الله ، وترونها رؤية مشهدية وهذه الناقة لها يوم في الماء لتشرب منه ، ويوم تشربون أنتم فيه . وكان الماء قليلاً عندهم في الآبار . { . . . لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ]
أي لابد من تخصيص يوم لتشرب فيه هذه الناقة ، ولكم أنتم وإبلكم وحيواناتكم يوم آخر ، وكان من عجائب هذه الناقة أن تقف على العين وتشرب فلا تدع فيها ماءً ، وهي كمية من المياه كانت تكفي كل الإِبل . وبعد ذلك تتحول كل المياه التي شربتها في ضرعها لبناً ، فيأخذون هذا اللبن .
صحيح أن الناقة منعتهم المياه لكنهم أخذوا منها اللبن الذي يطعمونه ، ولأنها ناقة الله كان لابد أن تأخذ هيكلاً وحجماً يناسبها وكمية من الطعام والشراب مناسبة لتقيم بها حياتها ، وكمية إدرار اللبن مناسبة لشربها وطعامها وحجمها ، فمادامت منسوبة لله فلابد أن فيها مواصفات إعجازية ، وكان الفصيل الذي ولدته معها ، وكان إذا ما جاء الحر في الصيف تسكن الناقة في المشارف العالية ، وبقية النوق تنزل في الأرض الوطيئة ، وحين يأتي الشتاء تنزل إلى المناطق المنخفضة .
والمعروف أن مدائن صالح كانت منطقة شديدة الحرارة ، ويمكن لمن يزور المدينة أو " تبوك " أن يمر عليها .
كانت الناقة حرة في اختيار المكان الذي تعيش فيه صيفاً أو شتاءً فلا أحد بقادر أن يمسها بسوء . وكانت هناك امرأتان لهما نياق . وناقة الله تغلب نياق المرأتين في المراعي والماء . فأحضرت المرأتان رجلاً يطلق عليه : " أُحَيْمر ثمود : واسمه قُدار بن سالف " ليقتلها ، فقتل الناقة ، فلما قتلت الناقة ، طلع ابنها الفصيل على جبل يسمى " قارة " وخار ثلاثة أصوات ، فنادى سيدنا صالح : يا قوم أدركوا هذا الفصيل ، لعل الله بسبب إدراككم له يرفع عنكم العذاب ، فراحوا يتلمسونه فلم يجدوه وأعلم الله صالحاً النبي أن العذاب قادم ، ففي اليوم الأول تكون وجوههم مصفرة ، وفي اليوم الثاني تكون محمرة ، وفي اليوم الثالث تكون مسودّة ، فقد كانت الناقة هي ناقة الله المنسوبة له سبحانه ، وقد تأكدوا بالأمر المشهدي من ذلك ، وكان من الواجب عليهم ساعة أن وجدوا الآية الكونية المشهودة أن يأخذوا منها العبرة ، وأنها مقدمة للشيء الموعود به . لكنَّ الغباء أنساهم أنها ناقة الله . { . . . هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الأعراف : 73 ]
وبالفعل حدث العذاب بعد أن قتل أحميرثمود الناقة .
ويقول الحق بعد ذلك : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ . . . }
(1/2938)

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
ومن قبل قال الحق لقبيلة عاد : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ . . . } [ الأعراف : 69 ]
وهنا قال الحق : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ } .
لأن عاداً هم الخلفاء الأقرباء منهم ، وقصتهم مازالت معروفة ومعالمها واضحة ، أما قصة نوح فهي بالتأكيد أقدم قليلاً من قصة عاد .
ويذكرهم الحق أيضاً أنه جعل في الأرض منازل يسكنونها ، فاتخذوا من سهولها قصوراً ، والسهل هو المكان المنبسط الذي لا توجد به تلال أو صخور أو جبال ، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً ، وكان عمر الإِنسان منهم يطول لدرجة أن البيت ينهدم مرتين في العمر الواحد للإِنسان . ولذلك قرروا أن يتخذوا من الجبال بيوتاً لتظل آمنة ، وحين يرى الإِنسان مدائن صالح منحوتة في الجبل فهي فرصة لأن يتأمل عظمة الحق في تنبيه الخلق إلى ما يفيدهم وهي بالفعل من نعم الله ، ويقول سبحانه : { . . . فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 74 ]
وآلاء الله - كما عرفنا - هي نعمه التي لا تحصى ، وينبههم إلى عدم نشر الفساد في الأرض .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { قَالَ الملأ الذين استكبروا . . . }
(1/2939)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
ونعرف أن هناك سادة ، وهناك أتباعاً . ومن قبل قال الحق : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا . . . } [ البقرة : 166 ]
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين لا جاه لهم لا جبروت يُحافظ عليه ، ورأوا دعوة الإِيمان ووجدوا فيها النفع لهم فأقبلوا عليها ، أما الملأ وهم السادة الأشراف الأعيان الذين يملأون العين هيبة ، والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من المستضعفين - لأن هناك مستضعفين ظلوا على ولائهم للكفر - قال هؤلاء الملأ من المستكبرين لمن آمن من المستضعفين : { . . . أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 75 ]
وعندما سمع المستكبرون قول المؤمنين من المستضعفين . فماذا قال الملأ المستكبرون؟
يقول الحق : { قَالَ الذين استكبروا . . . }
(1/2940)

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه بالعمل وهو قتل الناقة ، ويقول الحق : { فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ . . . }
(1/2941)

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
والعقر : هو الذبح بالنسبة للنوق .
وهم هنا يقولون أيضاً مثلما قال السابقون لهم : { . . . ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين } [ الأعراف : 77 ]
و " الصادقين " تؤول أيضاً إلى المرسلين . لقد اتهموا صالحاً عليه السلام بالكذب كنبي مرسل لهم برغم حدوث الآية الواضحة وهي خروج الناقة من الجبل ، لذلك يحل عليهم غضب الله في قوله الحق : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ . . . }
(1/2942)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
والرجفة هي الهزة التي تحدث رجة في المهزوز . ويسميها القرآن مرة بالطاغية في قوله الحق : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } [ الحاقة : 5 ]
والتي أصبحوا من بعدها " جاثمين " ، وهو التعبير الدقيق الذي يدل على أن الواحد منهم إن كان واقفاً ظل على وقوفه ، وإن كان قاعداً ظل على قعوده ، وإن كان نائماً ظل على نومه . أو كما نقول : " إنسخطوا على هيئاتهم " .
" فالجاثم " هو من لزم مكانه فلم يبرح أو لصق بالأرض .
وبعد أن أخذهم بالرجفة يقول الحق : { فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ . . . }
(1/2943)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى؟ . نعم يخاطبهم إنصافاً لنفسه وإبراء لذمته ، مثلما يقع واحد في ورطة فيقول له صديقه : لا أملك لك شيئاً الآن : فقد نصحتك من قبل . أو أن شريراً قد قتل ، فتقول له : " ياما نصحتك " . وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر ، " أو كما فعل صلى الله عليه وسلم مع قتلى بدر وناداهم واحداً واحداً بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر ، وقال صلى الله عليه وسلم : يا أهل القليب ، يا فلان ، يا فلان ، يا فلان ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فقال الصحابة :
- أو تكلمهم يا رسول الله وقد جيَّفوا . قال : والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني " .
وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالات الله ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن يلتزموا بمنهج الله ، لكنهم لم يستمعوا للنصح . ولم يحبوا الناصحين؛ لأن الناصح يريد أن يُخرج المنصوح عما ألفه من الشر ، وعندما ينصحه أحد يغضب عليه .
وبعد أن انتهى من قصة ثمود مع نبيهم يقول سبحانه : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة . . . } .
(1/2944)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
وكما قال الحق : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً } وقال : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } ، { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } فهو هنا يأتي باسم " لوط " منصوباً لأنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالات .
وما هو زمان الإِرسال؟ إن قوله الحق : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } يفيد أن زمن القول كان وقت الإِرسال . وهي الإِشارة القرآنية ذات الدلالة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبَّلغ الرسالة لا يتوانى لحظة في أداء المهمة ، فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله : { يَاقَوْمِ } . والأسلوب يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له : " بلغ " فهو يبلغ الرسالة على الفور ، وكأن الرسالة جاءت ساعة التبليغ فلا فاصل بينهما . { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } [ الأعراف : 80 ]
وكلمة " قومه " تعني أنه منهم ، ولماذا لم يقل : " أخاهم لوطاً "؟ وهذه لها معنى يفيد أن السابقين من الرسل كانوا من بيئة الأقوام الذين أرسلوا إليهم؛ فعاد كان " هود " من بيئتهم و " ثمود " كان صالح من بيئتهم وإذا كان الحق لم يقل " أخاهم لوطاً " فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه ، وهذه تنبهنا إلى أن لوطاً لم يكن من هذا المكان ، لأن لوطاً وإبراهيم عليهما السلام كانا من مدينة بعيدة ، وجاء إلى هذا المكان فراراً من الاضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلام ، وهذا يبين لنا أن لوطاً طارئ على هذا المكان ، ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها . ولكنهم " قومه " لأنه عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضاً ، وعرفوا بعضاً من صفاته ، وأنسوا به .
أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن ، فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق ، ولم يقل لهم لوط : إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال . بل أراد أن يستفهم منهم استفهاماً قد يردعهم عن العملية ويقبحها .
وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع ، واستفهام إنكار ، فلم يقل لهم : إن ربنا يقول لكم امتنعوا عن هذا الفعل ، بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة ، واستنكار فطري . { . . . أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } [ الأعراف : 80 ]
وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالاً إنكاريًّا ليحرجهم ، لأن العقل الفطري يأبى هذه العملية : { أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } .
أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة ، لكنهم فعلوها ، وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويَّة . ولكنها عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة .
وكلمة " فاحشة " تعطينا معنى التزيد في القبح؛ فهي ليست قبحاً فقط ، بل تَزَيُّدٌ وإيغال وتعمق في القبح ومبالغة فيه؛ لأن الفاحشة تكون أيضاً إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لأنه لم يعقد عليها ، ولم يتخذها زوجا ، وعندما يتزوجها تصير حِلاًّ له ، لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في الفحش .
(1/2945)

وإذا كان هذا الأمر محرماً في الأنثى التي ليست حلالاً له ويعد فاحشة ، فالرجل غير مخلوق لمثل هذا الفعل ولا يمكن أن يصير حلالاً ، يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب . { . . . أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } [ الأعراف : 80 ]
وقلنا من قبل : إن " من " قد تأتي مرة زائدة ، ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلام الإنسان ، لكن من العيب أن تقول ذلك في كلام ربنا . وقوله : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } .
أي ما سبقكم أحد من العالمين ، و " أحد " هي الفاعل ، وجاءت " من " لتوضح لنا أنه لم يأت بها أحد ابتداءً ، مثلما قلنا قديماً ، حين تأتي لواحد لتقول له : " ما عندي مال " . فأنت قد نفيت أن يكون عندك مال يعتد به . وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال ، وقوله الحق : { . . . مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } . [ الأعراف : 80 ]
يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد ، وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر ، و " من " التي في قوله : { مِّن العالمين } هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد " من بعض " العالمين . فما هذا الأمر؟ لقد سماها فاحشة ، وهي تزيد في القبح ووصفة لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية .
لأننا حين نبحث هذه المسألة بحثاً عقلياً نجد أن الإنسان مخلوق كخليفة في الأرض وعليه استبقاء نوعه؛ لأن كل فرد له عمر محدود ، ويخلف الناس بعضهم بعضاً ، ولابد من بقاء النوع ، وقد ضمن الله للإنسان الأقوات التي تبقيه ، وحلل له الزواج وسيلة لإبقاء النوع ، ومهمة الخلافة تفرض أن يخلف بعضنا بعضاً .
وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب . و " الاقتيات " خلقه الله في الأرض التي قدر فيها أقواتها .
والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والأنثى ومنهما يأتي الإنجاب الخلافي؛ فهو محمول أولاً في ظهر أبيه نطفة ، ثم في أمه جنيناً ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الاثنان حتى يبلغ رشده . وهذه خمس مراحل ، وكل مرحلة منها شاقة ، فحمل الأم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق؛ لأن الإِنسان منا إن حمل شيئاً طوال النهار سيصاب بالتعب ، لكن الأم تحمل الجنين تسعة أشهر ، وأراد الله أن يكون الحمل انسيابياً بمعنى أن الجنين في نشأته الأولى لا يبلغ وزنه إلا أقل القليل ، ثم يكبر بهدوء وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه .
(1/2946)

وهذا الجنين كان صغيراً في بدء تكوينه ، ثم صار وزنه غالباً ثلاثة كيلو جرام في يوم ولادته ، وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلاده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجياً ، وبشكل انسيابي ، فهو لا يزيد في الوزن كل ساعة ، بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار يناسب هذا الجزء من الثانية ، وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن .
نلحظ ذلك أيضاً في أثناء التدريب على رياضة حمل الأثقال أنهم لا يدربون اللاعب الناشئ على حمل مائة كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلو جراماً في البداية ، ثم يزاد الحمل تباعاً بما لا يجعل حامل الأثقال في عنت ، ويسمون ذلك : انسياب التدريب؛ لأن حمل هذه الأثقال يحتاج إلى تعود ، ولهذا لا يتم تدريبه على حمل الأثقال فجأة ، بل بانسياب بحيث لا يدرك الزمن مع الحركة ، كذلك النمو ، فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه ، وسأقدر جدلاً أنك ظللت تنظر إليه دائماً ، فهو لا يكبر في نظرك أبداً؛ لأنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك ، لكنك لو غبت شهراً عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه ، وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك .
ومن لطف الله - إذن - في الحمل أن الجنين ينمو انسيابياً ، ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء الحمل إلى آخر يوم فيه ، وترى الأم الحامل ، وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها ، ثم يأتي الميلاد مصحوباً بمتاعب الولادة وآلامها ، وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه ، ويأخذ سنوات إلى أن يبلغ الرشد . ونعلم أن أطول الأجناس طفولة هو الإنسان ، ولذلك نجد الأب الذي يريد الإنجاب يتحمل مع الأم متاعب التربية ، وقد قرن الله هذا الأمر بشهوة ، وهي أعنف شهوة تأتي من الإِنسان ، وبعد ميلاد الطفل نجد المرأة تقول : لن أحمل مرة أخرى ، ولكنها تحمل بعد ذلك .
إذن كأن الشهوة هي الطُعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الإِنجاب؛ لذلك قرن الحق الإِنجاب بالشهوة لنقبل عليها ، وبعد أن نقبل عليها ، ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي الأولاد . فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الإِنجاب والامتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون ، لأنك ستأخذ اللذة بدون الإِنجاب ، وإذا تعطل الإِنجاب تعطلت خلافة الأرض ، والشيء الآخر أن الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل ، وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلاً . { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } [ الأعراف : 80 ]
والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة ، ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم بالفطرة ، فساعة يقول : { أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } يعرفون ما فعلوا . وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم ، فقد جاء بعدها بالقول الواضح : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً . . . }
(1/2947)

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
والإِسراف هو تجاوز الحد ، والله قد جعل للشهوة لديك مصرفاً طبيعياً منجبا ، وحيث تأخذ أكثر من ذلك تكون قد تجاوزت الحد ، ولقد جعل الله للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للإِنجاب ، وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة ، وتعطيك الإِنجاب ، وتشتركان من بعد ذلك في رعاية الأولاد . وأي خروج عما حدده الله يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع إلى هذه العملية مع الأنثى هو الشهوة والإنجاب معا؛ لبقاء النوع ، ولذلك وصف الحق فعل قوم لوط : { . . . بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } . ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوط : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ . . . }
(1/2948)

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
وبذلك تمادى هؤلاء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ؛ لذلك قالوا : { أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ . . . } .
وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية؟ { . . . أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ]
فهل التطهر عيب! لا ، لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها ، ويرفضون الخروج منها ، لذلك كرهوا التطهر . والمثال على ذلك حين نجد شاباً يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره ، لكنه وجدهم يشربون الخمور ، فنصحهم بالابتعاد عنه ، ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة الخوض في أعراض الناس ، لكن جماعة الأصدقاء كرهت وجوده بينهم لأنه لم يألف الفساد فيقولون : لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف ، وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر أصحاب المزاج المنحرف ، مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة ، وإن خرج إلى النظافة يموت .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته . . . }
(1/2949)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
وهم حين أرادو طرد لوط وأهله ، إنما كانوا يجازفون .
إنهم بذلك قد تعجلوا العقاب ، وجاءهم العقاب وأنجى الحق سبحانه لوطاً وأهله بتدبير حكيم لا يحتاج فيه سبحانه إلى حد ، وإذا تساءل أحد : ومن هم أهل لوط الذين أنجاهم الله معه؟ أهم أهل النسب أم أهل التدين والتبعية؟ . إن كان أهله بالنسب فالحق يستثني منهم " إمرأته " ، وهذا دليل على أن أهل البيت آمنوا بما قاله لوط وكذلك الأتباع أيضاً { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } .
إذن كان مع لوط أيضاً بعض من أهله وبعض من الأتباع ، وكانوا من المتطهرين ، والتطهر هو أن يترفع الإنسان عن الرجس والسوء . ولذلك نجد سيدنا شعيباً حين ينصح وقومه : { فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ . . . } [ الأعراف : 85 ]
ويتعجب القوم سائلين شعيباً : { أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ . . . } [ هود : 87 ]
إنهم يتعجبون من أن الصلاة تنهى عن ذلك ، لقد أعمى ضلالهم بصيرتهم ، فلم يعرفوا أن الصلاة تنهى عن كل شيء . وكذلك فعل بعض من الكافرين حين اتهموا سيدنا رسول الله بأنه مجنون : { وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ]
ومن قولهم يتأكد غباء تفكيرهم ، فماداموا قد قالوا : { نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } فمن الذي نزل هذا الذكر؟ ، والذكر هو القرآن ، والذي نزله هو الله - سبحانه وتعالى - فكيف يعترفون بالقرآن كذكر ، ثم يتهمون الرسول بأنه " مجنون "؟ ، لأنهم ماداموا قد قالوا عن القرآن إنه ذكر ، وإنه قد نزل عليه ، ولم يأت به من عنده ، فكيف يكون مجنوناً؟ إنهم هم الكاذبون ، وقولهم يؤكد أن فكرهم نازل هابط .
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق يقول سبحانه : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } [ الأعراف : 83 ]
إن إمرأة سيدنا لوط لم تدخل في الإنجاء لأنها من الغابرين ، و " غبر " تأتي لمعان متعددة ، فهي تعني إقامة ومكثا بالمكان ، أو تعني أي شيء مضى ، كما يقال : هذا الشيء غبرت أيامه؛ أي مضت أيامه ، ولسائل أن يقول : كيف تأتي الكلمة الواحدة للمعنى ونقيضه؟ فغبر تعني بقي ، وغبر أيضاً تعني مضى وانتهى . نقول : إن المعنى ملتق هنا في هذه الاية ، فمادام الحق ينجيه من العذاب الذي نزل على قوم لوط في القرية فنجد زوجته لم تخرج معه ، بل بقيت في المكان الذي نزل فيه العذاب ، وبقيت في الماضي ، وهكذا يكون المعنى ملتقيا . فإن قلت مع الباقين الذين آتاهم العذاب فهذا صحيح . وإن قلت إنها صارت تاريخاً مضى فهذا صحيح أيضاً : { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } .
ونحن لا ندخل في تفاصل لماذا كانت امراته من الغابرين؛ لأن البعض تكلم في حقها بما لا يقال ، وكأن الله يدلس على نبي من أنبيائه ، لا ، نحن لا نأخذ إلا ما قاله الحق بأنها كانت مخالفة لمنهجه وغير مؤمنة به .
(1/2950)

ونلحظ أيضاً أن الحق تحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط في مسألة الكفر؛ فقال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا . . . } [ التحريم : 10 ]
ودقق النظر في كلمة { تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } وتساءل البعض عن معنى الخيانة وهل المقصود بها الزنا؟ . ونقول : ربنا لا يدلس على نبي له ، لكن أن تؤمن الزوجة أو تكفر ، فهذه مسألة اختيارية . وكأن الله سبحانه يوضح لنا أن الرسول مع أنه رسول من الله إلا أنه لا يستطيع أن يفرض إيماناً على امرأته؛ فالمسألة هي حرية الاعتقاد . وانظر إلى التعبير القرآني : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ } .
إياك أن تظن أن أيًّا منهما متكبرة على زوجها؛ لأن الحق يقول : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا } أي أن إمرة وقوامة الرجل مؤكدة عليها ، يشير إلى ذلك قوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ } لكن الإِيمان هو مسالة اختيار ، وهذا الاختيار متروك لكل إنسان ، وأكد الحق ذلك في مسألة ابن سيدنا نوح : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ]
وحاول البعض أن يلصق تهمة الزنا بامرأة نوح وامرأة لوط ، وهم في ذلك يجانبون الصدق ، إنه محض افتراء ، وقد نبهنا الحق إلى ذلك فقال عن امرأة نوح وامرأة لوط : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا } [ التحريم : 10 ]
ولنفهم أن الاختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين ، وأن الرسولين نوحاً ولوطاً لم يستطيعا إدخال الإيمان في قلبي الزوجتين؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة لا يقدر عليها إلا الإِنسان نفسه ، ولذلك ضرب سبحانه لنا مثلاً آخر : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ]
فهذه زوجة فرعون المتجبر؛ الذي " ادّعى الألوهية " ، لكنه لا يقدر أن يمنع امرأته من أن تؤمن بالله ، وهكذا نجد نبيًّا لا يقدر أن يقنع امرأته بالإِيمان ، ونجد مدّعي الألوهية عاجزاً عن أن يجعل امرأته كافرة مثله ، وهذا يدل على أن العقيدة أمر اختياري محمي بكل أنواع الحماية؛ حتى لا يختار الإِنسان دينه إلا على أساس من اقتناعه لا على أساس قهره .
وضرب الله مثلاً آخر : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ . . . } [ التحريم : 12 ]
ونلاحظ أن الحق لم يأت بأسماء زوجتي نوح ولوط ، وكذلك لم يأت باسم امرأة فرعون ، لكنه أورد لنا اسم مريم واسم والدها . فلماذا كان الإِبهام أولاً؟ لنعلم أنه من الجائز جدًّا أن يحصل مثل هذا الأمر لأي امرأة ، فقد تكون تحت جبار وكافر ، وتكون هي مؤمنة ، وقد تكون تحت عبد مؤمن ولا يلمس الإِيمان قلبها . { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } . [ الأعراف : 83 ]
فكلمة " أنجيناه " تشير إلى أن عذاباً سيقع في المكان الذي فيه قوم لوط ، ولأنه سبحانه شاء أن يعذب جماعة ولا يعذب جماعة أخرى ، فلابد أن يدفع الجماعة التي كتب لها النجاة إلى الخروج . وهذا الخروج أراده لهم من يكرهونهم ، فقد قالوا : { . . . أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ]
لكن ربنا هو الذي أخرجهم ، والإِخراج كان من العذاب الذي نزل بهؤلاء المجرمين؛ إنه كان لإِنجاء لوط وأهله مما نزل بهؤلاء الفجرة .
ويأتي العذاب من الحق : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فانظر . . . }
(1/2951)

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
فهل كان ذلك المطر مثل المطر الذي ينزل عادة؟ لا ، بل هو مطر من نوع آخر . فسبحانه يقول : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } [ الذاريات : 33-34 ]
يقول الحق : إنه سبعذبهم بالمطر ، فلننتبه أنه ليس المطر التقليدي ، بل إنه يعذبهم ويستأصلهم بنوع آخر من المطر .
وقوله : " انظر " أي فاعتبر يا من تسمع هذا النص ، وهذه القصة تبين وتوضح أن الله لا يدع المجرمين يصادمون دعوة الله على لسان رسله دون عقاب .
ويقول سبحانه : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً . . . }
(1/2952)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
و " مدين " هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان ، فهو علم على شخصه ، وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه ، فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة اسمه . إذن ف " مدين " اسم عَلَمٌ على ابن إبراهيم ، وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور سيناء إلى الفرات ، وأطلق على القبيلة : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } .
الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر " أخ " ليبين لك؛ أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى؛ لأنهم إخوة له ومأنوس بهم ، وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء ، وكان مدين قد تزوج من رقبة ابنة سيدنا لوط ، وحين تكاثر الاثنان صاروا قبيلة ، ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي يبلغها كل رسول : { يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } .
والعبادة هي الطاعة للأمر والطاعة للنهي ، وأنت لا تطيع أمر آمر ولا نهي ناه إلا إذا كان أعلى منك ، لأنه إن كان مساويا لك ، فبعد أن يقول لك : " افعل كذا " ستسأله أنت : لماذا؟ ، وبعد أن ينهاك عن شيء ستسأله أيضاً : لماذا؟ . لكن الأب حينما يقول لطفله : أنت لا تفعل الشيء الفلاني ، فالابن لا يناقش؛ لأنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه ، وحين يكبر الطفل فهو يناقش؛ لأن ذاتيته تتكون ، ويريد أن يعرف الأمر الذي سيقدم عليه . { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ . . . } [ الأعراف : 85 ]
ومادام قد قال لهم : { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } فهو رسول قادم ومرسل من الله ، ولا بد أن تكون معجزة يثبتها ، إلا أن شعيباً لم يأت لنا بالمعجزة ، إنما جاء بالبينة . { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان . . . } [ الأعراف : 85 ]
لأن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الإخلال في الكيل والميزان ، وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه فلابد أن الإخلال في الكيل والميزان كان هو الأمر الشائع فيهم . فيأتي ليعالج الأمر الشائع . وهم كانوا يبخسون الكيل والميزان .
ويظن الناس في ظاهر الأمر أنها عملية سهلة ، وأن القبح فيها قليل ، والاختلاس فيها هين يسير ، فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل ، إنما يأخذ لنفسه في آخر الأمر جزءاً كبيراً . وأنت ساعة تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري . وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس كثيرين سيفعلون مثلما فعلت ، فإذا ما وفيت الكيل والميزان ، فأنت تفعل ما هو في مصلحتك ، لأنك تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئاً بنفسك ، ومصالحك كلها مع الآخرين .
إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحاً وتنقص في الميزان ، وستحقق لنفسك ربحاً ليس فيه حق ، وإن كنت تكيل قمحاً لتبيعه وأنقصت الكيل ، فأنت تأخذ ما ليس لك ، والقمح والبلح هما بعض من مقومات حياتك؛ لأنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن ، وعند من يكيل ، فإن أنقصت الميزان أو الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك ، وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاماً .
(1/2953)

{ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ . . . } [ الأعراف : 85 ]
وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة ، فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم ، فلا نسرف لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده ، ولا نغتصب ، ولا نختلس ، ولا نرتشي ، لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة ، إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى .
ويتابع سبحانه : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا . . . } [ الأعراف : 85 ]
وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي الله شعيب : { اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حباً واحترامً للآمر الأعلى ، وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه . وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان ، والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم ، ثم النهي والتحذير من الإِفساد في الأرض { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } ، والإِصلاح الذي يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل .
مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول في الحياة المسخرة لك؛ يصرّفه سبحانه حتى لا يفسد . والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء ، ثم القوت الذي يخرجه لك من الأرض . والمواشي التي تأخذ منها اللبن ، والأوبار ، والأصواف ، والجلود ، كل ذلك سخره الله لك ، وهذا إصلاح في الأرض ، لكن هل هذه كل المقومات الأساسية؟ لا؛ لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسية ثم وجد الغصب ، والسرقة ، والرشوة ، والاختلاس ، فسيفسد كل شيء ، ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إلا الدين؛ لأنه كمنهج يمنع الإِفساد في الأرض . { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا . . . } [ الأعراف : 85 ]
إذن فهذه الأشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي الأمر بها ، ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها ، كل ذلك يجمع المنهج . أوامر ونواهي ، وقد يبدو في ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان ، فنقول : لا تنظر إلى نفسك أيها الإِنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع ، فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمراً واحداً ، وهذا الأمر الذي تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك ، ولكن الأمور الأخرى التي تحتاج إليها هي بيد غيرك ، فإن أنت وفيت الكيل والميزان .
(1/2954)

فذلك خير لك؛ فالذي يقيس لك القماش لا يغشك ، والذي يزن لك ما ليس عندك لا يغشك ، والذي يكيل لك الذي ليس عندك لا يغشك ، إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك ، وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك ، وبذلك تكون أن الكاسب .
وإذا جئت إلى قوله تعالى : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ } ، فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم ، وكل الناس مأمورون ألا يبخسوك شيئاً ، وإذا أفسدت في الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضاً ألا يفسدوا هذه الأرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء . ولذلك يجب على كل مكلف حين يستقبل تكليفاً قد يكون شاقاً على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه : إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك ، ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه : إياك أن تنظر إلى التكليف لك : لاتنظر إلى محارم غيرك ، فقد أمر غيرك ألا ننظر محارمك ، وفي هذا عزة لك . وإذا أمرك التكليف ألا تضع يدك في جيب غيرك وتسرق ، فقد أمر كل الناس ألا يضعوا أيديهم في جيوبك ليسرقوك ، وبهذا نعيش في أمان .
وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول : مالي وتعبي وعرقي؛ لأن المال مال الله ، وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة ، والحركة تكون بطاقة مخلوقة لله ، والعقل الذي خطط مخلوق لله ، والانفعال الذي انفعل لك في الأرض من خلق الله ، ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة . فإياك أن تقول : أنه يأخذ مني ، لماذا؟ لأن عالم الأغيار باد وظاهر أمامك ، وكم رأيت من قوي ضعف ، ومن غني افتقر ، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه ، فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك ، وفي ذلك تأمين حياتك؛ لأنك تعيش في مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيماني لن يتركك ، أنت أو أولادك ، ويقول الحق : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ]
فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام في مجتمعك وكن أبا لهم ، وحين تصير أنت أباً لهم ، وهذا أب لهم ، وذلك أب لهم ، سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحداً ، لكنه يحيا في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء ، فلا يحزن ، وكذلك لن تخاف على أولادك إن صاروا أيتاماً بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك؛ لأنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم . ولكنك تحزن عندما ترى يتيماً مضيعاً في مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك : أنا إن مت سيضيع أبنائي هكذا .
(1/2955)

وهكذا تكون تكاليف الإيمان هي تأميناً للحياة . ومثال ذلك حين نقول للمرأة : تحجبي ، ولا تبدي زينتك لغير محارمك ، قد تظن المرأة في ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها ، لأنها تنسى أن المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة ، لأنها حين تتزوج صغيرة ، ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء ، ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه وتصرفه عن زوجته ، وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها ، وغير الراغب فيها . فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة؛ ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها . فإن منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة .
إذن فإيفاء الكيل ، وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها خير للجميع في الدنيا ، بالإضافة إلى خير الآخرة ، ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { . . . ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . [ الأعراف : 85 ]
و " ذلكم " إشارة إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان ، وألا نبخس الناس أشياءهم ، وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها ، ووضع الحق ذلك في إطار { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } على الرغم من أن الخير سيأتي أيضاً لغير المؤمن ، وهكذا تكون كلمة " خير " تشمل خيراً في الدنيا ، وخيراً في الآخرة للمؤمن فقط . أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا فقط ، ولا خير له في الآخرة ، فإن كنتم مؤمنين فسيضاعف الخير لكم ليصير خيراً دائماً في الدنيا والآخرة .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ . . . }
(1/2956)

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
وقوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } أي لا تقعدوا على كل طريق ، لأن من يقعد على الطريق قد يمنع من يحاول الذهاب ناحية الرسول . والشيطان قد قال : { . . . لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ]
فحين تقعدون على كل صراط يصير كل منكم شيطاناً والعياذ بالله؛ لأن الشيطان قال لربنا : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } ، وهنا ينهى الحق عن القعود بكل صراط؛ لأن الصراط سبيل ، وحين يجمع الحق السبل لينهي عنها ، إنما ليذكرنا أن له صراطاً مستقيماً واحداً ، وسبيلاً واحداً يجب علينا أن نتبعه . ولذلك يقول : { فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ . . . } [ الأنعام : 153 ]
إذن فللشيطان سبل متعددة وسبيل الاستقامة واحد ، لأن للطرق المتعددة غوايات منوعة ، فهذا طريق يغوي بالمال ، وذلك يغوي بالمرأة ، وذاك يغوي بالجاه . إذن فالغوايات متعددة .
أو أن الهداية التي يدعو إليها كل رسول شائعة في كل ما حوله؛ فمن يأتي ناحية أي هداية يجد من يصده . ومن يطلب هداية الرسول يلقى التهديد والوعيد ، والمنع عن سبيل الحق . ولماذا يفعلون ذلك؟ تأتي إجابة الحق : { وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } .
إنهم يبغون ويودون شريعة الله معوجة ومائلة عن الاستقامة ، أو تصفونها بأنها غير مستقيمة لتصدوا الناس عن الدخول فيها ، ولتنفروا منها ، مثال ذلك السخرية من تحريم الخمر والادعاء بأنها تعطي النفس السرور والانسجام . إن الواحد من هؤلاء إنما ينفر من شريعة الله ، ويدعي أنها شريعة معوجة ، فنجد من يحلل الربا؛ لأن تحريم الربا في رأيهم السقيم المنحرف يضيق على الناس فرصهم . إنهم يبغون شريعة الله معوجة ليستفيدوا هم من اعوجاجها ، وينفروا الناس منها . { . . . واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } . [ الأعراف : 86 ]
نعلم أن كل ردع ، وكل توجيه يهدف إلى أمرين اثنين : ترغيب وترهيب ، وعلى سبيل المثال نجد المدرس يقول للتلاميذ : من يجتهد فسنعطيه جائزة ، وهذا ترغيب ، ويضيف الأستاذ للتلاميذ : ومن يقصر في دروسه فسنفصله من المدرسة؛ وهذا ترهيب . وما دام الناس صالحين لعمل الخير ولعمل الشر بحكم الاختيار المخلوق فيهم لله فلا بد من مواجهتهم بالأمرين بالترغيب في الخير والترهيب من الشر .
والحق هنا يقول في الترغيب : { واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } .
وكأنه يطالبهم بأن يكونوا أصحاب ذوق وأدب ، فنحن نعلم أن مدين تزوج وأنجب عدداً من الذرية وكانوا قلة في العدد فكثرهم حتى صاروا قبيلة ، وكانوا ضعافاً فقواهم ، وكانوا فقراء فأغناهم ، فمن صنع فيكم ولكم كل هذه المسائل ألا يصح أن تطيعوا أوامره . كان عليكم أن تطيعوا أوامره . وهذا ترغيب وتحنين .
ونعلم أن شعيباً هو خامس نبي جاء بعد نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط . لذلك يذكرهم الحق بما حدث لمن كذبوا الأنبياء الأربعة السابقين . وقد يكون قوم نوح معذورين لأنهم كانوا البداية ، فلم يسبقهم من أخذ بالعذاب لتكذيب رسلهم ، ثم صارت من بعد ذلك قاعدة هي أن من يكذب الرسل يلقى العذاب ، مصداقا لقوله الحق : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ . . . } [ العنكبوت : 40 ]
فإذا كان شعيب ينذرهم بأن ينظروا كيف كان عاقبة المفسدين ممن سبقوهم فهذا تذكير بمن أغرقهم ومن أخذتهم الصيحة ، ومن كفأ وقلب ودمر ديارهم ، ومن جاء لهم بمطر من سجيل ، فإن لم يعرفوا واجبهم نحو الله الذي أنعم عليهم بأن كانوا قليلاً فكثرهم ، فعليهم أن يخافوا عاقبة المفسدين . إذن فقد جمع لهم بين الترغيب والترهيب .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ . . . }
(1/2957)

وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
وهذا القول يوضح لنا أن طائفة آمنت ، وطائفة لم تؤمن ، ثم جاء الأمر للطائفتين ، فأمر المؤمنين بالصبر تأنيس لهم ، وأمر الكافرين بالصبر تهديد لهم .
وهذه دقة القرآن في الأداء وعظمة البيان والبلاغة . إذن ، فكلمة : فاصبروا نفعت في التعبير عن الأمر بالصبر للذين آمنوا ، ونفعت في كشف المصير الذي ينتظر الذين لم يؤمنوا ، فصبر الكافرين مآله وعاقبته ، إما أن يخجلوا من أنفسهم فيؤمنوا ، وإما أن يجدوا العذاب ، وصبر المؤمنين يقودهم إلى الجنة ، وأن الذي يحكم هو الله وهو خير الحاكمين؛ لأن المحكوم عليهم بالنسبة له سواء ، فلا أحد منهم له أفضلية على أحد ، ولا أحد منهم قريبه ، وإلا قرابة القربى والزلفى إليه ، وسبحانه هو العادل بمطلق العدل ، ولا يظلم أحداً .
ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ الملأ الذين استكبروا . . . }
(1/2958)

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
علمنا من قبل أن الملأ هم السادة ، والأعيان الذين يملأون العيون هيبة ، ويملأون القلوب هيبة ، ويملأون الأماكن تحيزاً . وقد استكبر الملأ من قوم شعيب عن الإيمان به ، طغوا وهددوه بأن يخرجوه من أرضهم . وقالوا مثلما قال من سبقوهم . فقد نادى بعض من قوم لوط بأن يخرجوا لوطاً ومن آمن معه من قريتهم . قال تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ]
وكلمة " قرية " تأخذ في حياتنا وضعاً غير وضعها الحقيقي ، فالقرية الآن هي الموقع الأقل من المدينة الصغيرة . لكنها كانت قديماً البلد الذي توجد فيه كل متطلبات الحياة ، بدليل أنهم كانوا يقولوا عن مكة " أم القرى " . وقد وضع شعيباً ومن آمن معه بين أمرين : إما أن يخرجوهم حتى لا يفسدوا من لم يؤمن فيؤمن ، وإما أن يعودوا إلى الملة .
وهنا " لفتة لفظية " أحب أن تنتبهوا إليها في قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } لأن العود يقتضي وجوداً سابقاً خرج عنه ، ونريد أن نعود إلى الأصل ، فهل كان شعيب والذين آمنوا معه على ملتهم ثم آمنوا والمطلوب منه أنهم يعودون؟
علينا أن ننتبه إلى أن الخطاب هنا يضم شعيباً والذين معه . وقد يصدق أمر العودة إلى الملة القديمة على الذين مع شعيب ، ولكنها لا تصدق على شعيب لأنه نبي مرسل ، وهنا ننتبه أيضاً إلى أن الذي يتكلم هنا هم الملأ من قوم مدين ، ووضعوا شعيباً والذين آمنوا معه أمام اختيارين : إما العودة إلى الملة ، وإمَّا الخروج ، ونسوا أن الحق قد يشاء تقسيماً آخر غير هذين القسمين . فقد يوجد ويريد سبحانه أمراً ثالثاً لا يخرج فيه شعيب والذين آمنوا معه ، وأيضاً لا يعودون إلى ملة الكفر ، كأن تأتي كارثة تمنع ذلك .
لقد عزل الملأ من قوم شعيب أنفسهم عن المقادير العليا ، لأن الله قد يشاء غير هذين الأمرين ، فقد يمنعكم أمر فوق طاقتكم أن تُخْرِجوا؛ شعيباً ومن آمن معه؛ بأن يصيبكم ضعف لا تستطيعون معه أن تخرجوهم ، أو أن يسلط الله عليكم أمراً يفنيكم وينجي شعيباً والذين آمنوا معه . إذن أنت أيها الإِنسان الحادث ، العاجز لا تفتئت ولا تفتري وتختلق على القوة العليا في أنك تخير بين أمرين قد يكون لله أمر ثالث لا تعلمه ، ويأتي الرد على لسان مَن آمنوا مع شعيب : { قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } [ الأعراف : 88 ]
لقد سأل شعيب والذين معه : أيمكن أن يتم قهر أحد على أن يترك الإِيمان إلى الكفر ، كأن الكافرين قد تناسوا أن التكليف مطمور في الاختيار ، فالإِنسان يختار بين سبيل الإِيمان وسبيل الكفر .
ويتتابع القول من شعيب والذين آمنوا معه : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً . . . }
(1/2959)

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
وقولهم : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } أي أنهم يعلمون أن العودة إلى مثل هذه الملة لون من الكذب المتعمد على الله . لأن الكذب أن تقول كلاماً غير واقع ، وتعلن قضية غير حقيقية ثم قلت على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب . لكن إن كنت عارفاً بالحقيقة ثم قلت غيرها فهذا افتراء واختلاق وكذب . والذين آمنوا مع شعيب عليه السلام يعلمون أن الملة القديمة ملة باطلة ، وهم قد شهدوا مع شعيب حلاوة الإِيمان بالله؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على الله . ويقولون بعد ذلك : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } [ الأعراف : 89 ]
قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الإِيمان ، وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلاقة القدرة ، فقالوا : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } . فمشيئته سبحانه فوق كل مشيئة . ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قلوب بني آدم كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَلْبٍ واحدٍ يصرفُه حيث شاء " .
وألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو الأنبياء والرسل : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام . . . } [ إبراهيم : 35 ]
لم يقل : واجنبنا . بل قالها واضحة ودعا ربًّه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الأصنام ، لأنه يعلم طلاقة قدرته سبحانه . إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلاقة القدرة في الحق؛ لذلك قالوا : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا . . . } [ الأعراف : 89 ]
ولكن الله لا يشاء لمعصوم أن يعود ، وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدلالة ويمده بالمزيد من هداية المعونة إلى الطريق المستقيم .
ويتابع أهل الإيمان مع شعيب . { . . . وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ]
جاء قولهم : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } لأن خصومهم من الملأ بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم : انتم بين أمرين اثنين : إما أن تخرجوا من القرية ، وإما أن تعودوا في ملتنا . وأعلن المؤمنون برسولهم شعيب : أن العود في الملة لا يكون إلا بالاختيار وقد اخترنا ألا نعود . إذن فليس أمامهم إلا الإخراج بالإجبار؛ لذلك توكل المؤمنون على الله ليتولاهم ، ويمنع عنهم تسلط هؤلاء الكافرين . { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ]
وساعة نسمع كلمة " افتح " أو " فتَح " أو " فَتْح " نفهم أن هناك شيئاً مغلقاً أو مشكلاً ، فإن كان من المُحسّات يكون الشيء مغلقاً والفتح يكون بإزالة الأغلاق وهي الأقفال ، وإن كان في المعنويات فيكون الفتح هو إزالة الإشكال ، والفتح الحسي له نظير في القرآن ، وحين نقرأ سورة يوسف نجد قوله الحق :
(1/2960)

{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا . . . } [ يوسف : 65 ]
وكلمة { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ } تعني أن المتاع الذي معهم كان مغلقاً واحتاج إلى فتح حسي ليجدوا بضاعتهم كما هي . وأيضاً يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا . . . } [ الزمر : 73 ]
ومادام هناك أبواب تفتح فهذا فتح حسي ، وقد يكون الفتح فتح علم مثلما نقول : ربنا فتح علينا بالإيمان والعلم ، ويقول الحق : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ . . . } [ البقرة : 76 ]
فما دام ربنا قد علمهم من الكتاب الكثير فهذا فتح علمي . ويكون الفتح بسوق الخير والإمداد به . والمثال على ذلك قوله الحق : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا . . . } [ فاطر : 2 ]
وكذلك قوله سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض . . . } [ الأعراف : 96 ]
والبركات من السماء كالمطر وهو يأتي من أعلى ، وهو سبب فيما يأتي من الأسفل أي من الأرض .
والفتح أيضاً بمعنى إزالة إشكال في قضية بين خصمين ، ففي اليمن حتى الآن ، يسمون القاضي الذي يحكم في قضايا الناس " الفاتح " لأنه يزيل الإشكالات بين الناس . وقد يكون " الفتح " بمعنى " النصر " ، مثل قوله الحق : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ . . . } [ البقرة : 89 ]
لقد كانوا ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لينتصروا به على الذين كفروا ، ومن الفتح أيضاً الفصل في الأمر من قوله الحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين . . . } [ الأعراف : 89 ] .
وهذا القول هو دعاء للحق : احكم يا رب بيننا وبين قومنا بالحق بنصر الإِيمان وهزيمة الكفر ، وأنت خير الفاتحين فليس لك هوى ضد أحد أو مع أحدٍ من مخلوقاتك .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ . . . }
(1/2961)

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
وهنا يقول الملأ من قوم مدين لمن آمنوا ولمن كان لديهم الاستعداد والتهيؤ للإِِيمان محذرين لهم من اتباع شعيب حتى لا يظل الملأ والكبراء وحدهم في الضلال :
وساعة نرى " اللام " في " لئن " نعلم أن هنا قَسَماً دلّت عليه هذه " اللام " . وهنا أيضاً " إن " الشرطية ، والقسم يحتاج إلى جواب ، والشرط يحتاج كذلك إلى جواب ، فإذا اجتمع شرط وقسم اكتفينا بالإِتيان بجواب المتقدم والسابق منهما ، مثل قولنا : " والله إن فعلت كذا ليكونن كذا " : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } .
وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لأنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون الميزان ، والقوي يأخذ من الضعيف؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج . وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف .
(1/2962)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
والرجفة هي الهزّة العنيفة التي ترج الإِنسان رجًّا غير اختياري ، وصاروا بها جاثمين أي قاعدين على ركبهم؛ ولا حراك بهم؛ ميتين ، وفي هيئة الذلة . وهذا يدل على أن كلا منهم ساعة أُخِذ تذكر كل ما فعله من كفر وعصيان ، وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول ، وأخذ يوبخ نفسه ويندم على ما فعل ، ولم تأخذه الأبهة والاستكبار ، لأن هناك لحظة تمر على الإِنسان لا يقدر فيها أن يكذب على نفسه ، ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه لا يجده . ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها التي يؤمن فيها الفاجر ، لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعاً لا . في هذه الحالة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل .
ويتابع سبحانه وصف ما حدث لهم إثر الرجفة : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن . . . }
(1/2963)

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
وغنى بالمكان : أقام به؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار ، كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ استؤصلوا وأهلكوا إهلاكاً كاملا ، وإذا كان هؤلاء المكذبون قد قالوا : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } فيكون مآلهم هو ذكره ربنا بقوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين } .
ويتتابع قوله الحق عن سيدنا شعيب : { فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم . . . }
(1/2964)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
و " تولى عنهم " أي تركهم وسار بعيداً عنهم ، وحدثهم متخيلاً إياهم { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } ، فكأن المنظر العاطفي الإنساني حين رأى كيف أصبحوا ، وتعطف عليهم وأسى من أجلهم ، لكن يرد هذا التعاطف متسائلا متعجباً { فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } ؟ إنهم نوع من الناس لا يحزن عليهم المؤمن . فما بالنا بنبي ورسول؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول : ما قصرت في مهمتي ، بل أبلغتكم رسالاتي التي تلقيتها من الله ، والرسالات إذا جمعت فالمقصود منها أو رسالته ورسالة الرسل السابقين في الأمور التي لم يحدث فيها نسخ ولا تغيير ، أو رسالاته أي في كل أمر بلغ به؛ لأنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم . أو أن لكل خير رسالة ، ولكل شر رسالة ، وقد أبلغهم كل ما وصله من الله ، ولم يقتصر على البلاغ بل أضاف عليه النصح ، والنصح غير البلاغ ، فالبلاغ أن تقول ما وصلك وينتهي الأمر ، و " النصح " هو الإلحاح عليهم في أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج الله .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ . . . }
(1/2965)

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
وعرفنا من قبل أن القرية هي البلد الجامع لكل مصالح سكانها في دنياهم .
والمقصود هنا أن القرية التي يرسل إليها الحق رسولاً ثم تُكَذِّب فسبحانه يأخذ أهلها بالبأساء والضراء . والبأساء هي المصيبة تصيب الإنسان في أمر خارج عن ذاته؛ من مال يضيع ، أو تجارة تبور وتهلك ، أو بيت يهدم ، والضراء هي المصيبة التي تصيب الإنسان في ذاته ونفسه كالمرض ، ويصيبهم الحق بالبأساء والضراء لأنهم نسوا الله في الرخاء فأصابهم بالبأساء والضراء لعلهم يرجعون إلى ربهم ويتعرفون إليه ، ليكون معهم في السراء والضراء . والحق يقول : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } [ يونس : 12 ]
وكان من الواجب على الإنسان أنه ساعة ما تمسه الضراء أن يتجه إلى خالقه ، ولقد جعل الله الضراء وسيلة تنبيه يتذكر بها الإنسان أن له ربا ، وفي هذه اللحظة يجيب الحق الإنسان المضطر ، ويغيثه مصداقاً لقوله الحق : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ النمل : 62 ]
وإذا صنع الله مع المضطر هذا فقد يثوب إلى رشده ويقول : إن الإله الذي لم أجد لي مفزعاً إلا هو ، لا يصح أن أنساه
وكأن الحق سبحانه وتعالى يذكرنا بطلاقة قدرته حين يقول : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ . . . } [ الأنعام : 43 ]
وكأنه سبحانه يطلب منا حين تجيء البأساء أن نفزع إليه ولا نعتقد أننا نعيش الحياة وحدنا ، بل نعيش في الحياة بالأسباب المخلوقة لله وبالمسبب وهو الله ، فالذي عزت عليه الأسباب وأتعبته يروح للمسبب ، ولذلك يأخذ سبحانه أية قرية لا تصدق الرسل بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون وذلك رحمة بهم .
ويقول : { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ . . . } [ الأنعام : 43 ]
فهل يتركهم الله في السراء والضراء دائماً؟ لا ، فهو سبحانه يجيئهم ويبتليهم بالبأساء والضراء ليلفتهم إليه ، فإذا لم يلتفتوا إلى الله ، فسبحانه يبدل مكان السيئة الحسنة ، لذلك يقول : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة . . . }
(1/2966)

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
ويعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق ، والعافية ، والغنى؛ لأن الحق إذا أراد أن يأخذ جباراً أخذ عزيز مقتدر فهو يمهله ، ويرخي له العِنان ليتجبر - كفرعون - من أجل أن يأخذه بغتة ، كأنه يسقط من أعلى ، فيعليه من أجل أن ينزل به - كما يقولون - على جذور رقبته : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } .
( عَفَوْا ) أي كثروا عدداً ومالاً وقوة أي أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلاِّ وكان القصد منها أن يلفتهم إليه ، فلم يلتفتوا ، فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم ، ثم يصيبهم بالعذاب بغتة . { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الأعراف : 95 ]
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلافة الإِنسان في الأرض ، وأنه أمده بكل ما تقوم به حياته ، وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء ، وأنزل المنهج مبينا ما أحل ، وما حرم بعد أن كانوا يحلون ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل الله ، فبيّن لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما يصلحهم فأحله ، وعالم بما يفسدهم فحرّمه ، فليس لكم أن تقترحوا على الله حلالاً ، ولا حراماً ، ولكن بعض المشككين في منهج الله قالوا - ومازالوا يقولون - : إذا كان الله قد أحل شيئاً وحرم شيئاً فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول : لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب والكسوة ، فبعض الأشياء يكون مخلوقاًَ لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك؛ فالبترول مثلاً مخلوق لمهمة أن يوجد طاقة ، لذلك لا نشربه .
والخنزير مخلوق لحكمة لا نعلمها نحن ، وإنما يعلمها من خلق ، لأنه من الجائز أن يكون أداة لالتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الأشياء التي يستعملها الناس في حياتهم ، إذن فكل شيء مخلوق لحكمة ، فلا تخرج أنت حكمة الأشياء من غير مراد خالقها؛ لأن صانع الصنعة هو الذي يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها . ونحن نعلم - مثلاً - أن أنواع الوقود كثيرة ، فهناك " البنزين " النقي جداً ويرقمونه برقم ( 1 ) وهو مخصص للطائرة ، ووقود السيارة وهو " البنزين " رقم ( 2 ) . فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها . كذلك خلق الله الإنسان وسخر له كل المخلوقات وأوضح : هذا يصلح لك مباشرة ، وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير مباشرة فدعه في مكانه .
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة ، ومواقف النار ، ومواقف أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظرياً ، وإنما هو واقع كوني أيضاً . ففرق بين الشيء يقال نظرا ، والشيء يقع واقعاً ، فقص علينا قصص الأنبياء حين أرسلهم إلى أقوامهم ، فمن كذب بالرسل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع؛ فذكر نوحا مع قومه ، وذكر عاداً وأخاهم هوداً ، وذكر ثمود وأخاهم صالحاً ، ومدين وأخاهم شعيباً ، وقوم لوط وسيدنا لوطا .
(1/2967)

وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة ، وما حدث للكافرين بالعطب والإذلال ، ويوضح الحق سبحانه وتعالى : أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، لأن الإنسان مخلوق أفاض الله عليه من صفات جلاله ، ومن صفات جماله الشيء الكثير ، فالله قوي ، وأعطى الإنسان من قوته . والله غني وأعطى الإنسان من غناه ، والله حكيم وأعطى الإنسان من حكمته ، والله عليم وأعطى الإنسان من علمه .
وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في الله ، فانظر ما علمه لكل خلق الله . ومع ذلك فعلمهم ناقص . ويريدون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى ، وربما غر الإنسان بالأسباب وهي تستجيب له ، فهو يحرث ويبذر ويروي ، وإذا بالأرض تعطيه أكلها . وهو يصنع الشيء فيستجيب له . كل ذلك قد يغريه بأن الأشياء استجابت لذاتيته فيذكره الله : أن أذكر من ذللها لك . { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
وساعة ما يجد الإِنسان أن كل الأسباب مواتية له فعليه أن يذكر الله . إن الإِنسان بمجرد إرادة أن يقوم من مكانه فهو يقوم . وبمجرد إرادة أن يصفع أحداً فهو يصفعه؛ لأن الأبعاض التي في الإِنسان خاضعة لمراده ، فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت ، وأنت مخلوق ، فكيف لا يكون الكون كله مراداً للحق بالإِرادة؟ فإذا استغنى الإِنسان بالأسباب ، فالحق يلفته إليه . فالقادر الذي كان بفتوته يفعل . سلب الله منه القدرة بالمرض؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء يذله الله بأشياء . لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبِّب ، فلا يُفتن بالأسباب .
ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب ، ونجد العالم وقد تقدم الآن تقدماً فضائيًّا واسعاً ، واستطاع الإِنسان أن يكتشف من أسرار كون الله ما شاء ، ولكن الحق يصنع لهم أحياناً أشياء تدلهم على أنهم لا يزالون عاجزين . فبعد أن تكتمل لهم صناعة الآلات المتقدمة يكتشفون خطأ واحداً يفسد الآلة ويحطمها ، وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء ، أو يشتعل حريق هائل . فهل يريد الله بكونه فساداً وقد خلقه بالصلاح؟ لا ، إنه يريد أن يلفتنا إلى ألا نغتر بما أوتينا من أسباب . فالذين عملوا " الرادار " لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع ، يفاجئهم ربنا - أحياناً - بأشياء تعطل عمل " الرادار " ، فيعرفون أنهم مازالوا ناقصي علم .
إذن فالأخذ بالبأساء ، والأخذ بالضراء ، سنة كونية الإِنسان فاهماً وعالماً أنه خليفة في الأرض لله . وفساد الإِنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون ، فلو كنت أصيلاً في الكون فحافظ على نفسك في الكون ولا تفارقه بالموت .
(1/2968)

وإن كنت أصيلاً في الكون فذلل الكون لمراداتك . ولن تستطيع؛ لأن هناك طبائع في الكون تتمرد عليك ، ولا تقدر عليها أبداً .
وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟! ليدل على طلاقة القدرة وأن يد الله فوق أيديهم ، إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء ، وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال للإِنسان الخليفة ، حتى إذا اغتر يرده الله سبحانه وتعالى من الأسباب إلى المسبِّب . وحين يأخذ الله قوماً بالبأساء التي تصيب الإِنسان في غير ذاته : مال يضيع ، ولد يفقد ، بيت يهدم ، أو يأخذهم بالضراء وهي الأشياء التي تصيب الإِنسان في ذاته ، فلذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء ، فلا يجدون ملجأ إلا أن يخضعوا لرب الأرض والسماء ، ولكي يتضرعوا إلى الله ، ومعنى التضرع - كما عرفنا - إظهار الذلة لله . وإذا لم يُجْدِ وينفع فيهم هذا ، وقالوا : لا ، إن البأساء والضراء مجرد سنن كونية ، وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان . نقول لهم : صحيح البأساء والضراء سنن كونية من مكوّن أعلى من الكون ، فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم الله بالنعماء ، فهو القائل : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ]
فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاماً يناسب جرمهم ، ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة .
وقديماً قلنا تعبيراً ريفيًّا هو : إن الإِنسان إن أراد أن يوقع بآخر لا يوقعه من على حصيرة ، إنما يوقعه من مكان عال . وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . وقد دلت وقائع الحياة على هذا ، ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الأرض والحق يملي له في العلو ويمد له في هذه الأسباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر ، ولو بواسطة حارسه . { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الأعراف : 95 ]
وقد يضبط الإِنسان أشياء تُعْلمه بواقع الشر في مستقبله . مثلها مثل " الرادار " الذي يكشف لنا أي خطر في الأفق قبل أن يأتي ، وحين يقول سبحانه : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي ليس عندهم حساب ولا مقاييس تدلهم على أن شرًّا يحيق بهم .
وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الإِنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق الله بل سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج الله ، وبينما لا يلتفت الانسان إلى مجيء الكارثة ، ويتساءل : لماذا تجري هذه الحيوانات؟! إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات؛ لأن الحيوان من واقع الأحداث في بلد تحدث فيه الزلازل يكون أول خارج من منطقة الزلزال ، إنَّ الله قد سلبه هذه المعرفة حتى تتمكن منه الضربة ، إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال ، بينما يظل الإِنسان واقفاً حتى يحيق ويحيط به الخطر ، فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار غريزي خلقه ربه فيه؛ لأنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز .
(1/2969)

وما دام الحق قد نبه الإِنسان بالبأساء فلم يلتفت ، وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج؛ لذلك يأتي له الحق ويمد له بالطغيان .
لكن أهل الإِيمان أمرهم يختلف ، فيقول سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى . . . }
(1/2970)

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
أي أنهم لو آمنوا بالموجود الأعلى ، واتقوا باتباع منهجه أمراً باتباع أمراً ونهيًا تسلم آلاتهم ، لأن الصانع من البشر حتى يصنع آلة من الآلات ، يحدد ويبيّن الغاية من الآلة قبل أن يبتكرها ، ويصمم لها أسلوب استخدام معين ، وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها ، فما بالنا بمن خلق الإِنسان ، إذن فالبشر إذا تركوا رب الإِنسان يضع منهج صيانة الإِنسان لعاش هذا الإِنسان في كل خير ، وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا ، تأت لهم بركات من السماء والأرض ، فإن أردتها بركات مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى ، وبركات من الأرض مثل النبات ، وكذلك كنوزها التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة .
وما معنى البركة؟ . البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون جنيهاً ونجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة ، ودون ضيق ، فنتساءل : كيف يعيش؟ ويجيبك : إنها البركة . وللبركة تفسير كوني لأن الناس دائماً - كما قلنا سابقاً - ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإِيجاب ، ويغفلون رزق السلب . رزق الإِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم ، ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف كثيرة ، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج .
إذن فقوله : { بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في الرزق الحلال ، ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا ، ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص ، فحين تملك مائة جنيه وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر . وإن أقرضت أحداً بالربا مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة ، لكن الحق سمى النقص في الأولى نماء وزكاة ، وسمى الزيادة في الثانية محقا وسحتاً ، وسبحانه قابض باسط . { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 96 ]
إذن فلو أخذ الإِنسان قانون صيانته من خالقه لاستقامت له كل الأمور ، لكن الإِنسان قد لا يفعل ذلك . ويقول الحق : { ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
وهكذا نعلم أن الأخذ ليس عملية جبروت من الخالق ، وإنما هي عدالة منه سبحانه؛ لأن الحق لو لم يؤاخذ المفسدين ، فماذا يقول غير المفسدين؟ . سيقول الواحد منهم : مادمنا قد استوينا والمفسدين ، وحالة المفسدين تسير على ما يرام ، إذن فلأفسد أنا أيضاً . وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد ، ويعطي لنفسه راحتها وشهوتها ، لكن حين يأخذ الله المفسدين بما كانوا يكسبون ، يعلم غير المفسد أن سوء المصير للمفسد واضح ، فيحفظ نفسه من الزلل .
كان القياس أنه يقول سبحانه : بما كانوا يكتسبون ، لأن مسألة الحرام تتطلب انفعالات شتى ، وضربنا المثل من قبل بأن إنساناً يجلس مع زوجته ، وينظر إلى جمالها ويملأ عينيه منها ، لكن إن جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها ، فهو يناور ويتحايل ، وتتضارب ملكاته بين انفعالات شتى ، وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلال الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل له الله ، ولكنْ هؤلاء المفسدين تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق : إنهم يكسبون الفساد ، ولا يجدون في ارتكابه عنتا .
ويقول الحق بعد ذلك : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ . . . }
(1/2971)

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
ونلحظ وجود ذ " همزة استفهام " و " فاء تعقيب " في قوله : { أَفَأَمِنَ } وهذا يعني أن هناك معطوفاً ومعطوفاً عليه ، ثم دخل عليهما الاستفهام ، أي أنهم فعلوا وصنعوا من الكفر والعصيان فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا وعذابنا بياتاً أو ضحى كما صنع بمن كان قبلهم من الأمم السابقة؟ هم إذن لم يتذكروا ما حدث للأمم السابقة من العذاب والدمار .
ويوضح الحق أن الذين كذبوا من أهل القرى ، هل استطاعوا تأمين أنفسهم فلا يأتيهم العذاب بغتة كما أتى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب؟ والبأس هو الشدة التي يؤاخذ بها الحق سبحانه الأمم حين يعزفون عن منهجه . وما الذي جعلهم يأمنون على أنفسهم أن تنزل بهم أهوال كالتي نزلت بمن سبقهم من الأمم .
وحين يتكلم الحق عن الأحداث فهو يتكلم عما يتطلبه الأحداث من زمان ومكان؛ لأن كل حدث لابد له من زمن ولابد له من مكان ، ولا يوجد حدث بلا زمان ولا مكان ، والمكان هنا هو القرى التي يعيش فيها أهلها ، والزمان هو ما سوف يأتي فيه البأس ، وهو قد يأتي لهم وهم نائمون ، أو يأتي لهم ضحى وهم يلعبون ، وهذه تعابير إلهية ، والإِنسان إذا ما كان في مواجهة الشمس فالدنيا تكون بالنسبة له نهاراً . والمقابل له يكون الليل . وقد يجيء البأس على أهل قرية نهاراً ، أو ليلاً في أي وقت من دورة الزمن ، ونعلم أن كل لحظة من اللحظات للشمس تكون لمكان ما في الأرض شروقاً ، وتكون لمكان آخر غروباً ، وفي كل لحظة من اللحظات يبدأ يوم ويبدأ ليل ، إذن أنت لا تأمن يا صاحب النهار أن يأتي البأس ليلاً أو نهاراً ، وأنت يا صاحب الليل لا تأمن أن يكون البأس نهاراً أو ليلاً .
وأهل القرى هم الذين قال الله فيهم : { . . . ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأعراف : 96 ]
وماداموا قد كذبوا فمعنى ذلك أنهم لم يؤمنوا برسول مبلغ عن الله ، وتبعاً لذلك لم يؤمنوا بمنهج يحدد قانون حركتهم ب " افعل " و " لا تفعل " .
إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية ، وغير نافعة ، بل هي لعب في الحياة الدنيا ، وليلهم نوم وفقد للحركة ، أو عبث ومجون وانحراف ، وكل من يسير على غير منهج الله يقضي ليله نائماً أو لاهيًا عاصيًّا ، ونهاره لاعباً؛ لأن عمله مهما عظم ، ليس له مقابل في الآخرة من الجزاء الحسن .
ويقول الحق بعد ذلك : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله . . . }
(1/2972)

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
و " الأمن " هو الاطمئنان إلى قضية لا تثير مخاوف ولا متاعب ، ويقال : فلان " آمن "؛ أي لا يوجد ما يكدر حياته . والحق يقول : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها الله لنفسه نستعظمها ، ونقول : وهل يمكر ربنا؟ لأننا ننظر إلى المكر كعملية لا تليق . . وهنا نقول : انتبه إلى أن القرآن قد قال : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ . . . } [ فاطر : 43 ]
إذن ففيه مكر خير ، ولذلك قال الحق : { . . . والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ]
والمكر أصله الالتفاف . وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الأغصان وكأنه مجدول بحيث لا تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين؛ لأن الأغصان ملفوفة بعضها على بعض ، وكذلك نرى هذا الالتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل .
إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل ، فلا تجعلها واضحة . ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له أمراً لا يفطن إليه ، وإذا كان الإِنسان من البشر حين يبيت لأخيه شرًّا ، ويفتنه فتناً يُعمي عليه وجه الحق وليس عند الإِنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لأنهم سيمكرون له أيضاً .
وإذا كان هناك مكر وتبييت لا يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت الله لأهل الشر ، وهذا هو مكر الخير؛ لأن الله يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلاكهم . { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ]
وهناك من يسأل : هل أمن الأنبياء مكر الله؟ نقول نعم . لقد آمنوا مكر الله باصطفائهم للرسالة ، وهناك من يسأل : كيف إذن لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون؟!
نقول : لقد جاء في منهج الرسل جميعاً أن الذي يأمن مكر الله هو الخاسر؛ لأن الله هو القادر ، وهو الذي أنزل المنهج ليختار الإِنسان به كسب الدنيا والآخرة إن عمل به ، وإن لم يعمل به يخسر طمأنينة الإِيمان في الدنيا وإن كسب فيها مالا أو جاها أو علماً ، ويخسر الآخرة أيضاً .
ويتابع سبحانه : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض . . . }
(1/2973)

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
و { يَهْدِ } أي يبين للذين يرثون الأرض طريق الخير ، ومعنى { يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ } أن الأرض كانت مملوكة لسواهم ، وهم جاءوا عقبهم . وحين يستقرئ الإِنسان الوجود الحضاري في الكون يجد أن كل حضارة جاءت على أنقاض حضارة ، وما في يدك وملكك جاء على أنقاض ملك غيرك ، والذي يأتي على أنقاض الغير يسمى إرثاً ، ومادمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم كان يجب أن يظل في بالكم أن غيركم سيرثكم .
إذن فالمسألة دُوَلٌ ، ويجب ألا يغتر الإِنسان بموقع أو منصب ، ونحن نرى في حياتنا من يحتل منصباً كبيراً ، ثم يُقال ويعزل عن منصبه ، أو يحال إلى التقاعد ويأتي آخر من بعده . ولذلك يقال : لو دامت لغيرك ما وصلت إليك . فإن كنت صاحب مكانة وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى جاهك ، وإلى منصبك؛ فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى لا يعز عليك فراقه يوماً .
واحذر أن تحسن الدخول في أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه .
واستمع إلى قول الشاعر في هذا المعنى :
إن الأمير هو الذي يُمسي أميراً يوم عزلهْ ... إن زال سلطان الإِمارة لم يزل سلطانُ فضلِهْ
وحين يقول الحق : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض } .
نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول ، فلم يقل : أو لم يهد الذين ، بل قال : { يَهْدِ لِلَّذِينَ } ، فما الحكمة في ذلك؟ . نعرف أن " الهداية " هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية ، وقد تعود فائدته عليك ، أي أنك قد هَدَيْت غيرك لصالحك . وقد تكون الهداية وهي الدلالة على فعل الخير لأمر يعود على الذي هَدَى وعلى المَهْدِيّ معاً ، لكن إذا كانت الهداية لا تعود إلا لك أنت ، ولا تعود على مَن هداك ، أتشك في هدايته لك؟ لا ، إن من حقك أن تشك في الهداية إذا كان هذا الأمر يعود على من هَدَى ، أو يعود أمرها على الاثنين؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة ، لكن إذا كان الأمر لا يعود على من يَهْدِي ويعود كله لمن يُهْدَي فليس في ذلك أدنى شك .
ولذلك يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي :
" . . . يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ِ فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المَخْيط إذا أُدْخِلَ البحر " .
(1/2974)

إذن فحين يهديهم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات بهذا العمل؟ لقد خلقكم بصفات الكمال فيه ، فلن ينشئ خلقه لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له ، وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى المَهْدِيّ . وبذلك يتأكد قوله : { يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض } ما هو مصلحتهم . { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأعراف : 100 ]
والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقول : { لَّوْ نَشَآءُ } ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله : { أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } ، وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط لا ، بل هي أيضاً مشيئة العباد الذين ميزهم بالاختيار ، وسبحانه يقول : { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً . . . } [ الرعد : 31 ]
وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعاً؟ . لا أحد يمنع الخالق ، ولكنه سبحانه خلق خلقاً مهديين بطبيعتهم ، لا قدرة لهم على المعصية وهم الملائكة ، وجعل سائر أجناس الأرض مسخرة مسبحة ، وذلك يثبت صفة القدرة ، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن مراد الله ، ولكن هذا لا يعطي صفة المحبوبية للمشرع الأعلى ، ثم إنه - سبحانه - خلق خلقاً لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا .
فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الاختيار في أن يؤمن وأن يكفر ، وأن يطيع وأن يعصي ، ثم آمن يكون إيمانه دليلا على إثبات صفات المحبوبية للإِله .
إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة ، والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع الأعلى ، ويتابع سبحانه في الآية نفسها : { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } . [ الأعراف : 100 ]
ونلحظ أن الحق لم يقل أنه لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه ، بل جعل العقاب بالذنوب التي يختارونها هم ، وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للاختيار . وسبق أن تكلمنا في أول سورة البقرة . عن كلمة " الطبع "؛ وهو الختم : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ . . . } [ البقرة : 7 ]
لأن القلوب وعاء اليقين الإِيماني؛ فحين يملأ إنسان وعاء اليقين الكفر ، فهذا يعني أنه عشق الكفر وجعله عقيدة عنده؛ لذلك يساعده الله على مراده ، وكأنه يقول له : أنا سأكون على مرادك ، ولذلك أطبع على قلبك فلا يخرج ما فيه من الكفر ، ولا يدخل فيه ما خرج منه من الإِيمان الفطري الذي خلق الله الناس عليه . لأنك أنت قد سَبَّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان؛ لأن أصول الإِيمان أن تُخْرِج ما في قلبك من أي اعتقاد ، ثم تستقبل الإِيمان بالله ، ولكنك تستقبل الكفر وترجحه على الإِيمان .
إن الله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه : قلب يؤمن ، وقلب لا يؤمن ، بل جعل قلباً واحداً ، والقلب الواحد حيز ، والحيز - كما قلنا - لا تداخل للمحيَّز فيه؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة ونقول : إنها " فارغة " فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها فقاقيع الهواء ، وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها؛ لأن الزجاجة ليست فارغة ، بل يخيل لنا ذلك؛ لأن الهواء غير مرئي لنا .
(1/2975)

ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق قي صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي أن تنكسر . والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الإِيمان بالله لا يسع الكفر ، وإن دخل فيه الكفر - والعياذ بالله لا يسع الإِيمان ، والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب ، ثم يدرس هذه ويدرس تلك ، وما يراه مفيداً لحياته ولآخرته يسمح له بالدخول . أما أن تناقش قضية الإِيمان بيقين قلبي بالكفر فهذه عملية لا تؤدي إلى نتيجة . { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأعراف : 100 ]
أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الأرض من بعد إهلاك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي والكفر فسار هؤلاء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي السماع المؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ فكأنهم لم يسمعوا .
ويقول الحق بعد ذلك : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ . . . }
(1/2976)

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الحق في موضع آخر من القرآن فقال : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ . . . } [ هود : 120 ]
فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والإِصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعاً من الرسل؛ لأن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الإِلحادية من القوم الذين خاطبهم . وإذا كان رسول يأخذ حظه من البلاء بقدر ما في رسالته من العلو فلابد أن تأخذ أنت ابتلاءات تساوي ابتلاءات الرسل جميعاً . { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين } [ الأعراف : 101 ]
والطبع - كما قلنا - هو الختم؛ لأن قلوبهم ممتلئة بالضلال؛ لذلك يعلنون التكذيب للرسول . وقد طبع الله على قلوبهم لا قهراً منه ، ولكن لاستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ . . . }
(1/2977)

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
وهؤلاء الذين كذبوا الرسل ، وردوا منهج الله الذي أرسله على ألسنة رسله . كانت لهم عهود كثيرة . فما وفوا بعهد منها ، مثال ذلك : العهد الجامع لكل الخلق ، وهو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم من صلبه حين مسح الله على ظهر آدم ، وأخرج ذريته وقال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ]
وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم؛ لذلك نقول : إذا قال الله فقد صدق عَقِلْنا ذلك أو لم نعقله ، إنك لو نظرت إلى " آحاد البشر " ، أي إلى الأفراد الموجودين ، تجد نفسك وغيرك يجد نفسه نسلاً لآبائكم ، وهذا يدل على أنَّ الإِنسان وجد من حيوان منوي حي انتقل إلى بويضة حيّة من أمه فنشأ هذا الإنسان . ولو طرأ على الحيوان المنوي موت ، أو طرأ على البويضة موت امتنع الإِنسال .
إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه ، وأبوه جزء من حياة والده ، ووالده جزء من حياة أبيه ، وإن سلسلت ذلك فسنصل لآدم ، فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم . ومادام فيه جزئ حي من آدم فقد شهد الخلق الأول ، ولذلك حين يسألهم الله سؤال التقرير ويقول : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } ؟ فيقولون : { بلى } .
وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء ، تشيع في أضعاف الشيء ، وسبق أن قلنا : إننا إذا جئنا بمادة حمراء - مثلاً - في حجم سنتيمتر مكعب ، ثم أذبناها في قارورة ، وبذلك يصبح كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة ، وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع ، هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزيء من المادة الحمراء ، وإن أخذت ماء البرميل وألقيته في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزيء من المادة الملونة ، وهكذا يقرب من ذهن كل منا أن في كل إنسان جزيئاً من آدم ، وقد شهد هذا الجزئ العهد الأول . ولقائل أن يسأل : كيف يخاطب الله الذر الذي كان موجوداً في ظهر آدم؟ . نقول : كما خاطب الأرض وخاطب السماء ، فهو القائل : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ]
إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب ، لا يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها وجود .
وهذا بالنسبة للعهد الأول ، وبعده العهد الثاني الذي أخذه الله على رسله ، مصداقاً لقوله الحق : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين }
(1/2978)

[ آل عمران : 81 ]
ثم هناك عهود خاصة أنشأتها الأحداث الخاصة ، مثلما يقول الحق سبحانه وتعالى : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } [ يونس : 22 ]
إنهم لا يسلمون أنفسهم للعطب ، ولا يغترون بجاههم وبالأسباب التي عندهم لأنها قد امتنعت ، ولذلك لا يغشون أنفسهم بل يلجأون صاغرين إلى الله قائلين : { . . . لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } [ يونس : 22 ]
هكذا نرى أنهم أعطوا العهد في حادثة ، فلما أنجاهم الله أعرضوا ، وفي ذلك يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } [ يونس : 12 ]
إذن فالعهد إما أن يكون عهداً عاماً وإما أن يكون عهداً خاصًّا .
والحق يقول : { وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } .
أي أن حال وشأن أكثرهم ظل على الفسق ونقض العهد والخروج عنه؛ لأن العهد إطار يحكم حركة المختار فيما أعطاه على نفسه من المواثيق ، وهو حر في أن يفعل أو لا يفعل ، لكنه إذا عاهد أن يفعل أصبح ملزماً ووجب عليه أن ينفذ العهد باختياره ، لأنه إذا قطع العهد على نفسه فعليه أن يحكم حركته في إطار هذا العهد ، فإن خرج بحركته عن إطار هذا العهد فهذا هو الفسق ، والأصل في الفسق أنه خروج الرطبة من القشرة لأن القشرة تصنع سياجاً على الثمرة بحيث لا تُدخل إلى الثمرة شيئاً مفسداً من الخارج ، ويقال : فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها . كأن ربنا جعل التكليف تغليفاً حماية للإِنسان من العطب ، فإذا ما خرج عن الدين مثل خروج الرطبة عن الغطاء والقشرة صار عرضة للتلوث وللميكروبات؟ ، فسمى الله الخارج على منهجه بالفاسق ، لأنه خرج عن الإِطار الذي جعله الله له ليحميه من المفاسد ، ومن العطب الذي يقع عليه .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى . . . }
(1/2979)

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهو وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهم وبين أقوامهم ، وكيف أهلك سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين ، أراد أن يأتي بتاريخ رسول من أولى العزم من الرسل ، أي من الذين تعرضوا في رسالاتهم لأشياء لا يتحملها إلا جَلْد قوي . وأظن أنكم تعلمون أن علاج موسى لليهود أخذ قسطاً وافراً في القرآن ، بل إن قصة موسى مع قومه هي أطول قصص القرآن؛ لأن انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة ، وكان أنبياؤهم كثيرون لذلك فهم يفتخرون بأنهم كثيرو الأنبياء ، وقالوا : نحن أكثر الأمم أنبياء . وقلنا لهم : إن كثرة أنبيائكم تدل على تأصل دائكم؛ لأن الأطباء لا يكثرون إلا حين يصبح علاج المريض أمراً شاقاً . إذن فكثرة أنبيائكم ، دليل على أن رسولاً واحداً لا يكفيهم ، بل لابد من أنبياء كثيرين .
وقوله الحق : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى } .
وكلمة " بعث " - كما نفهمها - توحي وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولاً إلى فرعون ، واختيرت كلمة " بعث " للرسالات لأن البعث يقتضي أن شيئاً كان موجوداً ثم انطمر ثم بعثه الحق من جديد ، والإِيمان يتمثل في عهد الفطرة الأول الذي كان من آدم؛ لأن الله خلقه بيديه خلقاً مباشراً وكلفه تكليفاً مباشراً ، فنقل آدم الصورة للذرية ، وهذه الصورة الأصلية هي التي تضم حقائق الإِيمان التي كانت لآدم ، وحين يبعث الله رسولاً جديداً ، فهو لا ينشئ عقيدة جديدة ، بل يحيي ما كان موجوداً وانطمر ، وحين يطم الفساد يبعث الله الرسول ، فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما كلف آدم التكليف الأول طلب منه أن ينقل هذا التكليف إلى ذريته ، ولو أن الإِنسان أخذ تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الإِيمان مسألة رتيبة في البشر .
إننا نأخذ الأشياء التي أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا في أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها ، فلماذا لم نأخذ الدين منهم؟ لأن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها في إطارها الصحيح . والإِنسان يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركة ، وحين يقول ربنا مرة إنه : " أرسل " الرسل ، ومرة أخرى إنه قد بعثهم ، فهذا يدل على أنه لم يجيء بشيء جديد ، ولكنه جاء بشيء كان المفروض أن يظل فيكم كما ظلت فيكم الأشياء التي ورّثها لكم أسلافكم وتنتفعون بها؛ مثال ذلك : نحن ننتفع برغيف الخبز وننتفع بخياطة الإِبرة فلماذا انتفعنا بهذه الأشياء المادية ونسينا الأشياء المنهجية؟ لأن الأشياء المادية قد تعين الإِنسان على شهواته ، أما قيم الدين فهي تحارب الشهوات . { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ . . . } [ الأعراف : 103 ]
والآيات - كما نعلم - جمع آية ، وهي الأمر العجيب الذي يقف العقل عنده مشدوهاً .
(1/2980)

وتُطلق الآيات ثلاث إطلاقات؛ فهي تطلق على الآيات القرآنية لأنها عجيبة أسلوبيًّا معبرة عن كل كمال يوجد في الوجود إلى أن تقوم الساعة ، وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه . والآيات الكونية موجودة في خلق الأرض والسماء وغير ذلك ، وكذلك تطلق الآيات على المعجزات الدالة على صدق الأنبياء . والبعث يقتضي مبعوثاً وهو موسى ، ويقتضي باعثاً وهو الله ، ومبعوثاً إليهم . وهم قوم فرعون ، ومبعوثاً به وهو المنهج .
والآيات التي بعث الله بها موسى هي أدلة صدق النبوة ، وهي أيضاً الكلمات المعبرة عن المنهج ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه ، والملأ - كما عرفنا من قبل - هم القوم الذين يملأون العيون هيبة ، فلا يقال للناس الذين لا يلتفت إليهم أحد إنهم ملأ ، أو هم الأناس الذين يملأون صدور المجالس ، أي الأشراف والسادة . ولماذا حدد الحق هنا أن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط؟ لأن الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن اهتدى الكبار ، والغالب والعادة أن الذي يقف أمام منهج الخير هم المنتفعون بالشر ، وهم القادة أو من حولهم ، ولا يرغبون في منهج الخير لأنه يصادم أغراضهم ، وأهواءهم ، ولذلك يحاربونه ، أما بقية العامة فهم المغلوبون على أمرهم ، وساعة يرون أن واحداً قد جاء ووقف في وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم ، تصبح قلوبهم مع هذا المنقذ! { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ . . . } [ الأعراف : 103 ]
وإن كانت الآيات هي الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة في التوراة ، أو كانت الآيات هي المعجزات التي تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضي إيمانهم . ونعلم أن القرآن قد عدد الآيات المعجزات التي أرسلها الحق مع موسى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } [ الإِسراء : 101 ]
ومن هذه الآيات العصا ، واليد يدخلها في الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير سوء أو علة ، وأخذ آل فرعون بالسنين ، وكلمة " سنين " تأتي للجدب الشديد الذي يستمر لفترة من الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدثٍ في زمان ، ولذلك نقول : كانت سنة عصيبة؛ لأن السنة عضة من الأحداث ، تهدم ترف الحياة ، ثم تأتي لهم بما يهدم مقومات الحياة ، وأولها الطعام والشراب فيصيبهم بنقص الثمرات ، وهو الجدب والقحط ، وسمي الجدب سنة ، وجمعه سنين ، لأنه شيء يؤرخ به ، فماذا كان استقبال فرعون وملئه للآيات التي مع موسى عليه السلام؟ يقول الحق : { فَظَلَمُواْ بِهَا } .
وهل كانت الآيات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لأنهم رفضوها كمنهج حياتي؟ . لقد ظلموا بها لأنهم رفضوا اتباع المنهج الحق ، وظلوا على فسادهم ، والمفسدون - كما نعلم - هم الذين يعمدون إلى الصالح في ذاته فيفسدونه ، برغم أن المطلوب من الإِنسان أن يستقبل الوجود استقبال من يرى أن هناك أشياء فوق اختياراته ومراداته ، وأشياء باختياره ومراداته ، فإذا نظر الإِنسان في الأشياء التي بها مقومات الحياة ، مما لا يدخل في اختياره يجدها على منتهى الاستقامة .
(1/2981)

إننا نجد الإِنسان لا يتحكم في حركة الشمس أو حركة القمر ، أو النجوم أو الريح أو المطر ، فهذه الكائنات مستقيمة كما يريدها الله ، ولا يأتي الفساد إلا في الأمر الذي للإِنسان مدخل فيه ، والناس لا تشكو من أزمة هواء - على سبيل المثال - لأنه لا دخل في حركة الهواء لأحد ، لكنهم شَكَوْا من أزمة طعام لأن للبشر فيه دخلاً ، ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل؛ لأن مدخل الإِنسان على الماء قليل .
إنه سبحانه وتعالى يجعل الأمر الذي يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل ، فيجعل من جسمك - على سبيل المثال - مخزناً للدهون ليعطيك لحظة الجوع ما كنزته فيه من طاقة . ومن العجيب أن الدهون هذه هي مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى المواد الأخرى التي نحتاج إليها .
تحتاج مثلا إلى زلال ، فيتحول الدهن إلى زلال ، تحتاج إلى كربون ، يعطي لك الدهن الكربون ، تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفوراً ، تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم ، وهكذا فإذا كنا نصبر على الطعام بقدر المخزون في أجسامنا ، ونصبر على الماء أيضاً بقدر المخزون في هذه الأجساد ، فنحن لا نصبر على الهواء لأن التنفس شهيق وزفير ، ولو أن إنساناً ملك الهواء يعطيك إياه لحظة الرضا ، ويمنعه عنك لحظة الغضب ، لمت قبل أن يرضى عنك ، لكن إياه منع عنك الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتي لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيلة ما لتصل إليه .
إذن فالأمر الذي لا دخل للإِِنسان فيه نجد على منتهى الاستقامة ، ولا يأتي الفساد إلا من الأمر الذي للإِنسان فيه دخل . { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } [ الأعراف : 103 ]
أي أن آخر الأمر سيعاقب الله المفسدين .
وأراد سبحانه أن يَذْكُر سلسلة القصة لا من بدء سلسلتها ، بل يبدأ من نهايتها ، فسبحانه لا يدرس لنا التاريخ ، ولكن يضع أمامنا العظة ، وللقطة التي يريدها في هذا السياق ، ولذلك لم يتكلم سبحانه في هذه السورة عن ميلاد موسى وكيف أوحى لأمه أن تلقيه في البحر ، ولم ترد حادث ذهابه إلى مدين ومقابلته لسيدنا شعيب ، لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون .
ويقول سبحانه : { وَقَالَ موسى يافرعون . . . }
(1/2982)

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
ويشرح لنا القرآن أمر بلاغ موسى لفرعون وقومه بان الله واحد أحد وهو رب العالمين ، وكان قوم فرعون يعتقدون بوجود إله للسماء وآخر للأرض ، لذلك يبلغهم موسى بأن الإِله واحد : { قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } [ الشعراء : 24 ]
ونجد موسى يعدد كلمة الربوبية في آيات أخرى؛ ليأتي بالمظهر الذي دُسَّت فيه دسيسة الربوبية لفرعون ، وكانوا يعتقدون أن للسماء إلهاً ، وللأرض إلهاً آخر ، فقال موسى : إنني أتكلم عن الإِله الواحد الذي هو رب السماء والأرض معاً فلا إله إلا الله وحده . وكانوا يعتقدون أن للشرق إلهاً ، وللغرب إلهاً ، فأبلغهم موسى بأنه إله واحد ، وكانوا يعتقدون أن للأحياء ألهاً ورباً ، وللأموات إلهاً ورباً ، فقال لهم موسى : { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ]
ويبلغ هنا موسى فرعونَ وقومَه : { . . . إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } [ الأعراف : 104 ]
وما دام موسى رسولا من رب العالمين ، فهو لا يقول إلا الحق ، لذلك يتابع الحق على لسان موسى : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ . . . }
(1/2983)

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
فأي هذه الأمور هو الذي يحتاج إلى بينة ، هل البلاغ بأنه رسول من رب العالمين؟ إن هذا القول يدلنا على أن موسى اختلف مع فرعون أولاً في أن موسى رسول ، وأن للعالمين رباً واحداً ، وأنه لا يبلغ إلا بالحق ، هذه - إذن - ثلاث قضايا خلافية بين موسى وفرعون ، ولكن فرعون لم يختلف مع موسى إلا في قضية واحدة هي : هل هو رسول بلغ عن الله بالقول الحق؟ فماذا طلب منه؟ طلب الدليل على أنه رسول من رب العالمين . وهذا يوضح أن فرعون يعلم أن العالم له رب أعلى .
كذلك فإن فرعون لم يقف مع موسى في مسألة أن للعالمين ربًّا ، وأن هذا الرب لا يستطيع كل إنسان أن يفهم مراده منه فلابد أن يرسل رسولاً ، بل وقف فرعون في مسألة : هل موسى رسول مبلغ عن الله أولا؟
ولذلك يقول موسى : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } [ الأعراف : 105 ]
كأن مهمة موسى عند فرعون أن يخلص بني إسرائيل . ونعرف أن قصة بني إسرائيل ناشئة من أيام نبي الله يعقوب وابنه يوسف حين كاد الإخوة لأخيهم يوسف ، وتشاوروا في أمر قتله أو طرحه أرضاً أو إلقائه في غيابة الجب ، لقد جاء الحق بقصة بني إسرائيل على مراحل لنتدرج بالانفعال معها . فمراحل الانفعال النفسي أمام من تكره تأخذ صورتين اثنتين : صورة تدل على تصعيد الرحمة في قلبك ، وصورة تدل على تصعيد الشر في قلبك ، مثال ذلك : لنفترض أن لك خصماً وصنع فيك مكيدة ، وتحكي أنت لإِخوانك ما فعله هذا الخصم ، وكيف أنك تريد الانتقام منه فتقول : أريد أن انتقم منه بضربه صفعتين ، ثم تصعد الشر فتقول : أنا أريد أن أقتله بالرصاص ، هذا شأن الشرير ، أما الخيّر فيقول : أنا لا أريد أن أقتله أو أصفعه أو أشتمه وأسبّه فهذا تصعيد في الخير . إذن . يختلف تصعيد الانتقام أو السماح حسب طاقة الخير أو الشر التي في النفس . وهكذا نجد إخوة يوسف وهو يكيدون له ، فقالوا : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ . . . } [ يوسف : 8 ]
هم يعترفون أنهم قوة وعصبة ، ويحسدون يوسف وأخاه على محبة الأب لهما ، ويعترضون على ذلك ، ويظهرون البينة على أن يوسف وأخاه أحب إلى الأب منهم ، وذكر القرآن هذه البينة لنعرف أهميتها ، حتى لا يغفل أحد عنها . لقد كان قلب نبي الله يعقوب مع يوسف وأخيه لصغرهما وضعفهما ، بينما بقية أبنائه كبار أقوياء أشداء؛ لأن الله سبحانه وتعالى وضع في قلب الأبوة والأمومة من الرحمة على قدر ضعف الوليد الصغير . فالصغير هو من يحتاج إلى رعاية وعناية ، ويكون قلب الأم والأب مع الابن المريض أو الغائب .
(1/2984)

ولذلك حينما سئلت امرأة حكيمة : من أحب بنيك إليك؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يعود ، والمريض حتى يشفى .
إذن فقول إخوة يوسف : { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } . هو بينة ضدهم . وكان المنطق يقتضى أن يعرفوا أنهم ما داموا عصبة فلا بد أن يكون قلب أبيهم مع يوسف وأخيه فكلاهما كان صغيراً ويحتاج إلى رعاية ، وبطبيعة تكوين أبناء يعقوب كأسباط وذريّة أنبياء ، نجدهم يصعدون الخير لا الشر ، فقد بدأوا بإعلان رغبة القتل ، ثم استبدلوا بها الطرح أرضاً بأن يلقوه في أرض بعيدة نائية ليستريحوا منه ويخلو لهم وجه أبيهم ، ثم استبدلوا بها إلقاءه في غياهب الجب؛ بدأوا بالقتل في لحظة عنفوان الغضب ثم تنازلوا عن القتل بالطرح أرضاً ، أي أن يتركوه في مكان يكون فيه عرضة لأن يضل ، ثم تنازلوا عن ذلك واكتفوا بإلقائه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة ، فهل كانوا يريدون أن يضروه ، أو كانوا يفكرون في نجاته؟ . إذن فهذا تصعيد للخير .
وتوالت الأحداث مع سيدنا يوسف واستقر معه بنو إسرائيل في مصر وكثرت أعدادهم . وعندما نستقرئ التاريخ ، نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ملوك مصر ، خص بعضهم باسم فرعون ، وخص بعضهم باسم ملك ، فهناك فرعون وهناك ملك .
فإذا ما نظرت إلى القديم نجد أن الحق يقول : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 10 ]
هكذا نجد الحق يسمى حاكم مصر " فرعون " وفي أيام سيدنا موسى أيضاً يسميه الحق فرعون . لكن في أيام يوسف عليه السلام لم يسمه فرعون ، بل سمَّاه ملكاً : { وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ . . . } [ يوسف : 50 ]
وبعد أن اكتشف العالم الفرنسي شامبليون - حجر رشيد - عرفنا أن الفترة التي دخل فيها سيدنا يوسف مصر ، لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر ، بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس الرعاة ، وطمر القرآن هذه الحقيقة التاريخية حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين ، وفي الفترة التي جاء فيها سيدنا يوسف سماهم " الملوك " ، وهؤلاء هم من أغاروا على مصر وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم ، وقاموا على مصالحهم ، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس التفت الفراعنة بالشّر إلى من أعان الهكسوس؛ فبدأوا في استذلال بني إسرائيل لمساعدتهم الهكسوس إبّان حكمهم مصر . وأراد الله أن يخلصهم بواسطة موسى عليه السلام ، ولذلك يقول الحق على لسان موسى : { وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } [ الأعراف : 104-105 ]
وكأن موسى يريد أن يخلص بني إسرائيل ، أما مسألة الألوهية وربوبية فرعون فقد جاءت عرضاً .
ويقول فرعون : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ . . . }
(1/2985)

قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
وهكذا يواجه فرعون موسى سائلاً إياه أن يُظهر الآية إن كان من الصادقين ، إذن ففرعون يعتقد أن لله آيات تثبت صدق الرسول بدليل أنه قال له : هاتها إن كنت من الصادقين .
ويكشف موسى عليه السلام الآية : { فألقى عَصَاهُ فَإِذاَ . . . }
(1/2986)

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
وهذا الإلقاء كان له سابق تجربة أخرى حينما خرج مع أهله من مدين ورأى ناراً وبعد ذلك قال لأهله : { امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً . . . } [ طه : 10 ]
ثم سمع خطاباً : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 17-18 ]
وحين يقال له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } ، كان يكفي أن يقول في الجواب : عصاي ، ولا داعي أن يقول : " هي " ولا داعي أن يشرح ويقول : إنه يتوكأ عليها وأن له فيها مآرب أخرى؛ لأن الحق لم يسأله ماذا تفعل بعصاك ، إذن فجواب موسى قد جاوز في الخطاب قدر المطلوب ، ويظن البعض أنه كان من الواجب أن يعطي الجواب على قدر السؤال . لكن من يقول ذلك ينسى أنه لا يوجد من يزهد في الأنس بخطاب الله . وحين قال موسى عليه السلام : { هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي . . . } [ طه : 18 ]
ولقد شعر موسى عليه السلام واستدرك هيبة المخاطب فكان تهافته على الخطاب حبًّا لأنسه في الله ، لكنه حين شعر أنه قارب أن يتجاوز قال : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } كان من الممكن أن يقول استعمالات كثيرة للعصا . إذن فللعصا أكثر من إلقاء ، إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون حين أمره الحق : { قَالَ أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 19-20 ]
فماذا حدث؟ قال له الله : { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ]
فساعة خاف ، دل على أن ما حدث للعصا ليس من قبيل السحر؛ لأن الساحر حين يلقي عصاه أو حبله يرى ذلك عصا أو حبلاً ، بينما يرى ذلك غيرُه حية ، ولذلك يقول الحق عن السحرة : { سحروا أَعْيُنَ الناس . . . } [ الأعراف : 116 ]
وهذا يدل على أن حقيقة الشيء في السحر تظل كما هي في نظر الساحر ، لكن موسى أوجس في نفسه خيفة ، فهذا يدل على أن العصا انتقلت من طبيعتها الخشبية وصارت حية .
وكان من الممكن أن تورق العصا وتخضر على الرغم من أنها كانت غصناً يابساً . ولو حدث ذلك فسيكون معجزة أيضاً ، ولكن نقلها الله نقلتين : نقلها من الجمادية ، وتعدى بها مرحلة النباتية إلى مرحلة الحيوانية .
وكأن الحق العليم أزلاً يرد على من أراد اللغط في مسألة إلقاء العصا ، وقد ظن بعض الجاهلين أن ذلك تكرار في الكلام في قصة واحدة . ولم يلحظوا أن جهة الإِلقاء للعصا كانت منفكة ، ففي القرآن ثلاثة إلقاءات للعصا : إلقاء التدريب حينما اصطفى الله موسى رسولاً وأعلمه بذلك في طور سيناء : { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني . . . } [ طه : 14 ]
وبعد ذلك قال له : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ . . . } [ طه : 17-18 ]
وإلقاء التدريب على المهمة هدفه طمأنة موسى ، حتى إذا ما باشرها أمام فرعون باشرها وهو على يقين أن العصا ستستجيب له فتنقلب حية بمجرد إلقائها ، ولو أن الله قال له خبراً " إذا ذهبت إلى فرعون فألق العصا فستنقلب حية " ، فقد لا يطمئن قلبه إلى هذا الأمر .
(1/2987)

فأراد الله أن يدربه عليها تدريباً واقعيًّا ، ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية ، وكان ذلك أول إلقاء لها ، أما الإِلقاء الثاني فكان ساعة أن جاء لفرعون للإِعلام بمهمته أنه رسول رب العالمين ، وإعلامه بالبينة ، وهو ما نحن بصدده الآن في هذه الآية التي نتكلم بخواطرنا الإِيمانية فيها .
ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدي للسحرة ، ولأن لكل إلقاء موقعاً فلا تقل أبداً : أن ذلك تكرار . وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملابسات ، فلكل موقف ما يتطلبه ، فلا تغني لقطة هنا عن لقطة هناك . { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 107 ]
ومرّة يقول عن العصا : { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } .
ويقول المشككون في كلام الله من المستشرقين : كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين . ثم مرة أخرى يقول : { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } ، ومرة ثالثة يقول : { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } . ونقول : إن هناك فارقاً بين مختلفات تتناقض ، ومختلفات تتكامل ، فهي ثعبان مرة ، وهي حية مرة ثانية ، وهي جان؛ لأن الثعبان هو الطويل الخفيف الحركة ، والحية هي الكتلة المخيفة بشكلها وهي متجمعة ، والجان هو الحية المرعبة الشكل . فكأنها تمثلت في كل مرة بمثال يرعب من يراه ، وكل مرة لها شكل؛ فهي مرة ثعبان ، ومرة حية ، وثالثة جان ، أو تكون ثعباناً عند من يخيفه الثعبان ، وتكون حية عند من تخيفه الحية ، وتكون جاناً عند من يخيفه الجان ، ولذلك تجد أن إشاعة الإِبهام هو عين البيان للمبهم .
ومثال ذلك إبهام الحق لأمر الموت ، فلا يحكمه سن ، ولا يحكمه سبب ، ولا يحكمه زمان ، وفي هذا إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بياناً شائعاً تستقبله بأي سبب في أي زمان أو في أي مكان ، وهكذا يأتي الإِبهام هنا لكي يعطينا الصور المتكاملة ، وقال بعض المستشرقين : إن المسلمين يستقبلون القرآن بالرهبة وبالانبهار . ولا يحركون عقولهم لكي يروا المتناقضات فيه ، لكن غير المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفة كثيرة ، قالوا بالنص : " أنتم تعلمون بقضايا اللغة أن التشبيه إنما يأتي لتُلْحِق مجهولاً بمعلوم " ، فيقال : أنت تعرف فلاناً ، فتقول : لا والله لا أعرفه . فيقول لك : هو شكل فلان؛ في الطول ، وفي العرض ، وفي الشكل ، إذن فقد ألحق مجهولاً بمعلوم ليُوضحه . فكيف يلحق القرآن مجهولاً بمجهول ، إن هذا لا يعطي صورة مثلما تكلم القرآن عن شجرة الزقوم فقال : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } [ الصافات : 64-65 ]
فكيف توجد شجرة في الجحيم ، إنها أشياء متناقضة؛ لأن الشجرة فيها خضرة ، وتحتاج إلى ري ، ومائية ، والجحيم نار وجفاف ، ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر ، وشجرة الزقوم غير معلومة لأنها ستأتي في الآخرة ، فكيف يُشَبِّه الله مجهولاً بمجهول .
(1/2988)

واستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بانبهار ولا يبحثون فيه ، ونرد عليهم : أنتم لا تعلمون لغة العرب كملكة ، بل عرفتموها صناعة ، ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء على لغة العرب . وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعة والقبح؛ كأن قالوا : " ومسنونة زرق كأنياب أغوال " ، والغول كائن غير موجود ، لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنياباً . . . إلخ .
إذن التشبيه قد يكون للأمر المُتَخَيَّل في أذهان الناس ، والأصل في التشبيه أن يلحق مجهولاً ليُعلم ، وشجرة الزقوم لا نعرفها ، ورءوس الشياطين لم نرها ، وهكذا ألحق الله مجهولاً بمجهول ، ولماذا لم يأت بها في صورة معلومة؟ . لأنه - سبحانه - يريد أن يشيع البيان ، ويعمم الفائدة ويرببها؛ لأن الإِخافة تتطلب مخيفاً ، والمخيف يختلف باختلاف الرائين ، فقد يوجد شيء يخيفك ، ولكنه لا يخيف غيرك ، وقد تستقبح أنت شيئاً ، ولكن غيرك لا يستقبحه ، ولذلك ضربنا - سابقاً - مثلاً . وقلنا : لو أننا أحضرنا من كبار رسامي الكاريكاتور في العالم ، وقلنا لهم : ارسموا لنا صورة الشيطان تخيلوا الشيطان وارسموه ، أيتفقون على شكل واحد فيه؟ لا؛ لأن كل رسام سيرسم من وحي ما يخيفه هو .
ولقد قال الله في صورة : شجرة الزقوم { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } ؛ ليتخيل كل سامع ما يخيفه من صورة الشيطان ، فتكون الفائدة عامة من التخويف من تلك الشجرة . لكنه لو قالها بصورة واحدة لأخاف قوماً ولم يخف الآخرين . ومثال ذلك أمر عصا موسى ، فهي مرة ثعبان ، ومرة جان ، ومرة حية ، وكلها صور لشيء واحد مخيف ، ويقول الحق هنا في سورة الأعراف : { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } .
وقوله : { فَإِذَا هِيَ } يوضح الفجائية التي أذهلت فرعون ، فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم في لمح البصر بمجرد إلقائها ، ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا في طور سيناء أن موسى لن تأخذه المفاجأة حين يلقيها أمام فرعون ، بل ستأخذ المفاجأة فرعون . كأن التدريب أولاً لإِقناع موسى وضمان عدم خوفه في لحظة التنفيذ ، وقد خاف منها موسى لحظة التدريب؛ لأن العصا صارت ثعباناً وحيَّة حقيقية ، ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا في عين الساحر ولا يخاف منها ، إذن خوفه منها إبَّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة ، ولا تخيلاً ، وتلك هي مخالفة المعجزة للسحر ، فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل ، وهذا هو الذي سيجعل السحرة يخرون ساجدين لأنهم قد ذهلوا مما حدث . { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 107 ]
و " مبين " أي بيّن ، وواضحة ملامحه المخيفة التي لا تخفى على أحد ، ويقدم موسى عليه السلام الآية الثانية ، فيقول : { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا . . . }
(1/2989)

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
وهذه آية معجزة أخرى . وقوله : " ونزع " تعني إخراج اليد بعسر ، كأن هناك شيئاً يقاوم إخراج اليد؛ لأنه لو كان إخراج اليد سهلاً ، لما قال الحق : { وَنَزَعَ يَدَهُ } لأنَّ النزع يدل على أن شيئاً يقاوم ، ومثال ذلك قوله الحق : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ . . . } [ آل عمران : 26 ]
لأن نزع الملك ليس مسألة سهلة؛ ففي الغالب يحاول صاحب الملك التشبث بملكه ، لكن الحق ينزعه من هذا الملك . كذلك قوله : { وَنَزَعَ يَدَهُ } ، وهذا يدل على أن يده لها وضع ، ونزع يده وإخراجها بشدة له وضع آخر ، كأنها كانت في مكان حريص عليها . إذن ففيه لقطة بينت الإِدخال ، ولقطة بينت النزع ، وهما عمليتان اثنتان . وقال سبحانه في آية ثانية : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء . . . } [ النمل : 12 ]
و " الجيب " هو مكان دخول الرأس من الثوب ، وإن كنا نسمي " الجيب " في أيامنا مطلق شيء نجعله وعاء لما نحب ، وكان الأصل أن الإِنسان حين يريد أن يحتفظ بشيء ، يضعه في مكان أمامه وتحت يده ، ثم صنع الناس الجيوب في الملابس ، فسميت الجيوب جيوباً لهذا .
والحق قال في موضع آخر : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء آيَةً أخرى } [ طه : 22 ]
إذن ففيه إدخال وإخراج ، وكل آية جاءت بلقطة من اللقطات؛ فآية أوضحت دخول اليد في الجيب ، وأخرى أوضحت ضم اليد إلى الجناح ، وثالثة أوضحت نزع اليد ، وهذه لقطات متعددة ، تكوّن كلها الصورة الكاملة؛ لنفهم أن القصص في القرآن غير مكرَّر ، فالتكرير قد يكون في الجملة . لكن كل تكرير له لقطة تأسيسية ، وحين نستعرضه نتبين أركان القصة كاملة . فكل هذه اللقطات تجمَّع لنا القصة . وقلنا قبل ذلك : إن الصراع بين فرعون وموسى لا ينشأ إلا عن عداوة ، وحتى يحتدم الصراع لابد أن تكون العداوة متبادلة ، فلو كان واحد عدوًّا والثاني لا يشعر بالعداوة فلن يكون لديه لدد خصومة ، وقد يتسامح مع خصمه ويأخذ أمر الخلاف هينا ويسامحه وتنفض المسألة . لكن الذي يجعل العداوة تستعر ، ويشتد ويعلو لهيبها أن تكون متبادلة . وتأتي لنا لقطة في القرآن تثبت لنا العداوة من فرعون لموسى ، ولقطة أخرى تثبت العداوة من موسى لفرعون ، فالحق يقول : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ . . . } [ طه : 39 ]
هذه تثبت العداوة من فرعون لموسى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً . . . } [ القصص : 8 ]
وهذه تثبت لأن موسى عدوٌّ لهم . وكلتا اللقطتين يُكمل بعضها بعضاً لتعطينا الصورة كاملة .
والحق هنا يقول : { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [ الأعراف : 108 ]
ونعرف أن موسى كان أسمر اللون ، لذلك يكون البياض في يده مخالفاً لبقية لون بشرته ، ويده صارت بيضاء بحيث يراها الناس يلفتهم ضوؤها ويجذب أنظارهم ، وهي ليست بيضاء ذلك البياض الذي يأتي في سُمرة نتيجة البرص ، لا؛ لأن الحق قال في آية أخرى : { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء . . . } [ طه : 22 ]
وكل لقطة كما ترى تأتي لتؤكد وتكمل الصورة . إذن فقوله : { بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } يدل على أن ضوءها لامع وضئ ، يلفت نظر الناس جميعاً إليها ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان لها بريق ولمعان وسطوع ، وقوله : { بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } يؤكد أن هذا البياض ليس مرضاً .
ويتابع الحق سبحانه : { قَالَ الملأ مِن قَوْمِ . . . }
(1/2990)

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
عرفنا أن الملأ هم القوم الذين يتصدرون المجالس ، ويملأونها أو الذين يملأون العيون هيبة ، والقلوب مهابة وهم هنا المقربون من فرعون . وكأنهم يملكون فكرة وعلما عن السحر . وفي سورة الشعراء جاء القول الحق : { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ الشعراء : 34 ]
إذن فهذه رواية جاءت بالقول من الملأ ، والآية الأخرى جاءت بالقول على لسان فرعون ، وليس في هذا أدنى تناقض ، ومن الجائز أن يقول فرعون : إنه ساحر ، وأيضاً أن يقول الملأ : إنه ساحر . وتتوارد الخواطر في أمر معلوم متفق عليه . وقد حدث مثل هذا في القرآن حينما نزلت آيات في خلق الإِِنسان وتطوره بأن كان علقة فمضغة إلخ فقال كاتب الوحي بصوت مسموع : { . . . فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ]
عن أنس رضي الله عنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وافقت ربي في أربع : نزلت هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } الآية قلت أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } .
" وعن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } إلى قوله : { . . . خَلْقاً آخَرَ } فقال معاذ : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له معاذ : مِمّ تضحك يا رسول الله؟ فقال : " بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين " .
لقد جاءت الخواطر في الحالة المهيجة لأحاسيس الإِيمان لحظة نزول الوحي بمراحل خلق الإِنسان .
فما الذي يمنع من توارد الخواطر فيجيء الخاطر عند فرعون وعند الملأ فيقول ويقولون؟ أو يكون فرعون قد قالها وعلى عادة الأتباع والأذناب إذا قال سيدهم شيئاً كرروه . { قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 109 ]
ولم يصفوا فعل سيدنا موسى بأنه ساحر فقط بل بالغوا في ذلك وقالوا : إنه ساحر عليم . وأضافوا ما جاء على ألسنتهم بالقرآن في هذه السورة .
(1/2991)

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
إنها نكبة جاءت لفرعون الذي يدعي الألوهية ، ونكبة لمن حوله من هؤلاء الذين يوافقونه ، فكيف يواجهها حتى يظل في هيئته وهيبته؛ قال عن موسى : إنه ساحر ، لكي يصرف الناس الذين رأوا معجزات موسى عن الإِيمان والاقتناع به ، وأنه رسول رب العالمين ، وبعد ذلك يهيج فرعون وطنيتهم ويهيج ويثير غيرتهم ويحرك انتماءهم إلى مكانهم فقال : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } .
اتهموا موسى عليه السلام بأنه يريد أن يخرج الناس بسحره من أرضهم ، وهذا القول من فرعون ومن معه له هدف هو تهييج الناس وإثارتهم؛ لأن فرعون اقنع الناس أنه إله . وها هي ذي الألوهية تكاد تنهدم في لحظة ، فقال عن موسى إنه ساحر ، وبين قوم لهم إلف بالسحر ، وقوله : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } على لسان الملأ من قوم فرعون تدل على أن القائل للعبارة أدنى من المقول لهم ، فالمفروض أن فرعون هو صاحب الأمر على الجميع ، ومجيء القول : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } يدل على أن الذي يأمر في مسائل مثل هذه هو فرعون ، وهذا يشعر بأن فرعون قد أدرك أن مكانته قد انحطت وأنه نزل عن كبريائه وغطرسته . أو أن يكون ذلك من فرعون تطييباً لقلوب من حوله ، وأنه لا يقطع أمراً إلا بالمشورة ، فكيف تشاور الناس يا فرعون وأنت قد غرست في الناس أنك إله؟ وهل يشاور الإِله مألوهاً؟ . إن قولك هذا يحمل الخيبة فيك لأنك تدعي الألوهية ثم تريد أن تستعين بأمر المألوه .
ويقول الحق سبحانه : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ . . . }
(1/2992)

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
و { أَرْجِهْ } أي أَخّره مثل قوله الحق : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ . . . } [ التوبة : 106 ] .
أي أنهم مؤخرون للحكم عليهم وهم الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو فخلفوا وأرجئ أمرهم حتى نزل فيهم قوله سبحانه : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } إلخ الآية .
وقولهم : { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } [ الأعراف : 111 ]
وهكذا كان طلب الإرجاء لأن المسألة أخطر من أن يُتَصَرَّف فيها تصرفاً سريعاً بل تحتاج إلى أن يؤخَّر الرأي فيها حتى يجتمع الملأ ، ويرى الجميع كيفية مواجهتها ، فهي مسألة ليست هينة لأن فيها نقض ألوهية فرعون ، وفي هذا دك لسلطان الفرعون وإنهاء لانتفاعهم هم من هذا السلطان . فإذا كان قد قال لهم : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } .
فكأنه كان يطلب منهم الرأي فوراً ، لكنهم قالوا إن المسألة تحتاج إلى تمهل وبطء ، وأول درجات البطء والتمهل أن يُستدعى القوم الذين يفهمون في السحر . فما دمنا نقول عن موسى : إنه ساحر ، فلنواجهه بما عندنا من سحر : وقبول فرعون لهذه المشورة هدم لألوهيته؛ لأنه يدعي أنه إله ويستعين بمألوه هم السحرة ، والسحرة أتباع له . وقوله الحق كان على ألسنتهم : { وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ } [ الأعراف : 111 ]
يدل على أن السحر كان منتشراً ، ومنبثقاً في المدائن وقد أتبع سبحانه هذا القول على لسان الملأ بقوله : { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }
(1/2993)

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
ولأن المستشرقين يريدون أن يشككونا في القرآن قالوا : ولماذا قال في سورة الشعراء : { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } . وكان هؤلاء المستشرقين يريدون أن يفرقوا بين { سَاحِرٍ عَلِيمٍ } و { سَحَّارٍ عَلِيمٍ } ؛ ولأنهم لا يعرفون اللغة لم يلتفتوا إلى أن " سحّار " تفيد المبالغة من جهتين . فكلمة " ساحر " تعني أنه يعمل بالسحر ، و " سحّار " تعني أنه يبالغ في إتقان السحر ، والمبالغات دائماً تأتي لضخامة الحدث ، أو تأتي لتكرر الحدث . ف " سحّار " تعني أن سحره قوي جدًّا ، أو يسحر في كل حالة ، فمن ناحية التكرار هو قادر على السحر ، ومن ناحية الضخامة هو قادر أيضاً . ومادام القائلون متعددين . . فواحد يقول : ساحر ، وآخر يقول : سحَّار وهكذا . والقرآن يغطي كل اللقطات . { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } [ الأعراف : 111-112 ]
و " حاشرين " تعني مَن يحشر لك السحرة ويجمعهم لا بإرادتهم ولكن بقوة فرعون وبطش جنده .
ويقول الحق سبحانه : { وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ . . . }
(1/2994)

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
وقوله : { وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ } يدل على بطش الآمر ، أي أنه ساعة قال الكلمة هُرع الجند بسرعة ليجمعوا السحرة . وقد ولغ بعض المستشرقين في هذه اللقطة أيضاً فتساءلوا : ولماذا جاء بقول مختلف في سورة أخرى حين قال : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً . . . } [ الشعراء : 41 ]
لقد جاء بها بهمزة الاستفهام ، وفي سورة الأعراف جاء من غير همزة الاستفهام ، وهذه آية قرآنية ، وتلك آية قرآنية . وأصحاب هذا القول يتناسون أن كل ساحر من سحرة فرعون قد انفعل انفعالاً أدى به مطلوبه؛ فالذي يستفهم من فرعون قال : " أإن " ، والشجاع قال لفرعون : { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً } . وفي القضية الاستفهامية لا يتحتم الأجر لأنه من الجائز أن يرد الفرعون قائلا : أنْ لا أجر لكم ، ولكن في القضية الخبرية " إن لنا لأجراً " اي أن بعض السحرة قد حكموا بضرورة وجود الأجر ، وقد غطى القرآن هذا الاستفهام ، وهذا الخبر .
وتأتي إجابة فرعون على طلب السحرة للأجر : { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ . . . }
(1/2995)

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
و " نعم " حرف جواب قائمة مقام جملة هي : لكم أجر ، وأضاف أيضاً : { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } .
وهذا دليل على أنه ينافقهم أو يبالغ في مجاملتهم؛ لأنه يحتاج إليهم أشد الحاجة . وهكذا نجد ألوهية فرعون قد خارت أمام المألوهين السحرة . وقوله : { لَمِنَ المقربين } هذه تدل على فساد الحكم؛ لأنه مادام حاكماً فعليه أن يكون كل المحكومين بالنسبة إليه سواء . لكن إذا ما كان هناك مقربون فالدائرة الأولى منهم تنهب على قدر قربها ، والدائرة الثانية تنهب أيضاً ، وكذلك الثالثة والرابعة فتجد كل الدوائر تمارس فسادها مادام الناس مصنفين عند الحاكم .
ولذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما جلس الصحابة يستمعون إليه كان يسوّي الناس جميعاً في نظره حتى يظن كل إنسان أنه أولى بنظر رسول الله ، ولا يدنى أحداً أو يقربه من مجلسه إلا من شهد له الجميع بأنه مقرب . .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { قَالُواْ ياموسى . . . }
(1/2996)

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
ونلحظ أنهم لم يؤكدوا لموسى رغبتهم في أن يلقي هو أولا عصاه . ولكنهم أكدوا رغبتهم في أن يكونوا هم أول الملقين . فجاءوا بضمير الفصل وهو ( نحن ) الذي يفيد التأكيد .
ونعلم أن مَن يعقِّب ويكون عمله تاليا لمن سبقه ، فإن فعله هو الذي سيترتب عليه الحكم . ولابد أن يكون قوي الحجة . هم يريدون أم يكونوا هم المعقبين ، وأن موسى الذي يبدأ ، لكن عزتهم تفرض عليهم أن يبدأوا هم أولاً؛ لذلك جاءوا بالعبارة التي تحمل المعنيين : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } [ الأعراف : 115 ]
فعلم موسى أنهم حريصون ، على أن يبدأوا هم بالإِلقاء فأتوا بكلمة ( نحن ) . وفكر موسى أن من صالحه أن يلقوا هم أولاً؛ لأن عصاه ستلقف وتبتلع ما يلقون؛ لذلك يأتي قوله سبحانه : { قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا . . . }
(1/2997)

قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
هم - إذن - سحروا أعين الناس ، والسحر - كما نعلم - لطف حيلة يأتي بأعجوبة تشبه المعجزة . وكأنها تخرق القانون ، وهو غير الحيلة التي يقوم بها الحواة؛ لأن الحواة يقومون بخفة حركة ، وخفة يد ، ليعموا الأمر على الناس . لكن " السحر " شيء آخر ، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى خلق كل جنس بقانون؛ خلق الإِنس بقانون ، وخلق الجن بقانون ، وخلق الملائكة بقانونها : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ . . . } [ المدثر : 31 ]
وكل قانون له خصائصه ومميزاته التي تناسب عنصر تكوينه ، فالإِنسان - مثلاً - لأنه مخلوق من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلال جدار؛ لأنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة وراء الجدار الذي تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ولا طعمها إلى فمك؛ لأن الجدار يحول بينك وبين ذلك ، لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذي تستند عليه لكان من الممكن أن يتعدى أثرها لك؛ لأن النار إشعاعات تنفذ من الأشياء ، ولأن الجن مخلوق من نار ، لذلك نجد له هذه الخاصية . { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ . . . } [ الأعراف : 27 ]
فإذا كان الجن له قانون والإِنس له قانون ، فهل القانون هو الذي يسيطر؟ لا ، بل رب القانون هو الذي يسيطر لأنه جل وعلا فوق القانون . فيأتي الله للإِنس ويُعَلّم واحداً منهم بعضاً من أسرار كونه ليستذل الجن لخدمته ، برغم ما للجن من خفة حركة ، فسبحانه يوضح : لا تظن أيها الجن أنك قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذي يكونك لأن هناك القادر الأعلى وهو المعنصر لك ولغيرك ، بدليل أن الإِنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه الله بعضاً من أسرار كونه . ولننتبه دائماً أن العلم بأسرار تسخير الجن هو من ابتلاءات الحق للخلق؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ . . . } [ البقرة : 102 ]
فكأن هاروت وماروت وهما يعلّمان الإِنسان كيف يمارس السحر ، ينصحان الإِنسان الذي يرغب في أن يتعلم السحر أولاً ، ويوضحان له أنهما فتنة أي ابتلاء واختبار ويقولان له : { فَلاَ تَكْفُرْ } ، مما يدل على أن كل من يتعلم السحر؛ إن قال لك : إني سأستعمله في الخير فهو كاذب؛ لأنه يقول ذلك ساعة صفاء نفسه تجاه الخلق ، لكن ماذا إن غافله إنسان من أي ناحية وغلبه على بعض أمره وهو يملك بعضاً من أسرار السحر؟ هل يقدر على نفسه؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل ، لكن هل يظل أميناً وقت الأداء؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه في الانتقام من غيره ، وبذلك يضيع تكافؤ الفرص ، ونعلم أن تكافؤ الفرص هو الذي يحمي الناس ، ويعطي بعضهم الأمن من بعض ، ويُلزم كل إنسان حدّه .
(1/2998)

فإذا أخذ إنسان سلاحاً ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من لا يملك مثله ، والإِنسي الذي يأخذ سلاح استخدام الجن إنما يأخذ سلاحاً لا يملكه أخوه الإِنسي ، وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من غيره وفي هذا ابتلاء؛ لأن الإِنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فلا يظفر بما يطلبه ، وقوله سبحانه : { فَلاَ تَكْفُرْ } يدل على أنهما علما طبائع البشر في أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد يُضْمَنون وقت صفاء نفوسهم ، ولكنهم لا يُضْمَنون يوم تعكير نفوسهم . { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله . . . } [ البقرة : 102 ]
ما دام الحق هو الذي أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على أن يسلبها منهم ، مثلما يمنح الله سبحانه وتعالى القدرة لإِنسان ليكون غنيًّا وقادراً على شراء سلاح ناري ، وأن يتدرب على إطلاق النار ، فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلافه مع غيره أو ينهي غضبه مع أي إنسان آخر بإطلاق الرصاص عليه . لكن لو لم يكن معه " مسدس " فقد ينتهي غضبه بكلمة طيبة يسمعها ، إذن فساعة ما يمنع الله أمراً فهو يريد أن يرحم؛ لذلك يقول : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } .
وفي هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا الأمر ، ويريد سبحانه أن يحمي خلقه من هذه المسألة ، فلو أنك تتبعت هؤلاء لاستذلوك واستنزفوك ، ويتركك الله لهم لأنك اعتقدت فيهم ، أما إن قلت " اللهم إنك قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر ، ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر ، فإني أعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه ، بحق قولك : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، ويكفي أن نعلم أنه سبحانه قد قال : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } . هنا لن يمكنهم الله منك ، إنما إن استجبت وسرت معهم ، فهم يستنزفونك ، وأراد الله أن يفضح هذه العملية فقال على ألسنة السحرة الذين استدعاهم فرعون : { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً . . . } [ الشعراء : 41 }
وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم ، فعلى الرغم من ادعائهم القدرة على فعل المعجزات إلا أنهم عاجزون عن الكسب الذي يوفي حاجاتهم؛ لذلك طلبوا الأجر من فرعون ، وهذا حال الذين يشتغلون بالسحر والشعوذة . هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز . هكذا حكم الحق بضيق رزق من يعمل بالسحر ، ويفضحهم الحق دائماً ، وللعاقل أن يقول : ماداموا يَدّعُون الفلاح فليفلحوا في إصلاح أحوالهم . ومادام الساحر يدعي أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا لا يعرف كنوزاً في الأرض التي ليست مملوكة لأحد ويأخذها لنفسه؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين للغاية ولا يريد أن يأخذ من خزائن الناس .
ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء ، بشعي الهيئة؛ مصابين في الذرية؛ لأن الكائن منهم استغل فرصة لا توجد لكل واحدٍ من جنسه البشري ، وذلك للإِضرار بالناس .
(1/2999)

واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ]
وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون في إرهاق وتعب . ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا لا ننكره مثلما ينكره آخرون . فقد قال بعض من العلماء : إن السحرة جاءوا بعصيّ وضعوا فيها زئبقاً ، وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطي له حرارة فتتلوى العصى ، لكن نحن لا ننكر السحر ، كما لا ننكر الجن لأنه لا يفوتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن عفريتا من الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي } " .
فمادام الحق قد قال : إنه خلق خلقاً لا تدركهم بإحساسك ، فنحن نقر بما أبلغنا به الحق؛ لأن وجود الشيء أمر وإدراك وجوده أمر آخر ، وكل مخلوق له قانونه ، فالعفريت من الجن قال لسيدنا سليمان عن عرش بلقيس : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ . . . } [ النمل : 39 ]
وكأن الجن يطلب زمناً ما ، فقد يجلس سليمان في مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلاثا ، لكن الذي عنده علم من الكتاب يقول : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ . . . } [ النمل : 40 ]
ولابد أن يكون طرفه قد ارتد في أقل من ثانية بعد أن قال ذلك ، ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث على الفور فيقول : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } .
مما يدل على أن الله قد خلق الأجناس ، وخلق لكل جنس قانوناً ، وقد يكون هناك قانون أقوى من قانون آخر ، لكن صاحب القانون مخلوق لذلك لا يحتفظ به؛ لأن خالق القانون يبطله ، ويسلط أدنى على من هو أعلى منه . ولندقق في التعبير القرآني : { سحروا أَعْيُنَ الناس } .
ونحن أمام أشياء هي العصى والحبال . وجمع من البشر ينظر . ونفهم من قوله الحق : { سحروا أَعْيُنَ الناس } أن السحر يَنْصَبُّ على الرائي له ، لكن المرئي يظل على حالته ، فالعصى هي هي ، والحبال هي هي ، والذي يتغير هو رؤية الرائي . ولذلك قال سبحانه في آية ثانية : { . . . يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ]
إذن فالسحر لا يقلب الحقيقة ، بل تظل الحقيقة هي هي ويراها الساحر على طبيعتها . لكن الناس هي التي ترى الحقيقة مختلفة . إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو : { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } .
واسترهبوهم أي أدخلوا الرهبة في نفوس الناس من هذه العملية ، وظن السحرة أن موسى سيخاف مثل بقية الناس المسحورين ، ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم؛ لأنه باصطفاء الله له وتأييده بالمعجزة صار منفذاً لقانون الذي أرسله فجعل عصاه حية ، وصاحب القانون هو الذي يتحكم . وهم قد جاءوا بسحر عظيم ، وهو أمر منطقي؛ لأن العملية هي مباراة كبرى يترتب عليها هدم ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته ، لذلك لا بد أن بأتوا يآخر وأعظم ما عندهم من السحر .
ويقول الحق : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى . . . }
(1/3000)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
ولماذا احتاجت هذه المسألة إلى وحي جديد خصوصاً أنه قد سبق أن تم تدريب موسى على إلقاء العصا؟ . ونقول : فيه فرق بين التعليم للإعداد لما يكون ، والتنفيذ ساعة يكون ، فساعة يأتي أمر التنفيذ يجيء الحق بأمر جديد ، فربما يكون قد دخل على بشرية موسى شيء من السحر العظيم ، والاسترهاب ، هذا ونعلم أن قصة موسى عليه السلام فيها عجائب كثيرة . فقد كان فرعون يقتل الذكران ، ويستحي النساء ، وأراد ربنا ألا يُقتل موسى فقال سبحانه : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم . . . } [ القصص : 7 ]
وقوله سبحانه : { أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } يدل على أن العملية المخوفة لم تأت بعد ، بل ستأتي لاحقّاً . وهات أيَّة امرأة وقل لها : إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر . من المؤكد أنها لن تصدقك ، بل ستسخر منك؛ لأنها ستتساءل : كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟ . وهذا هو الأمر الطبيعي ، لكن نحن هنا أمام وارد من الله إلى خلق الله ، ووارد الله لا يصادمه شك . إذن فالخاطر والإِلهام إذا جاء من الله لا يزاحمهما شيء قط . ولا يطلب الإِنسان عليه دليلاً لأن نفسه قد اطمأنت إليه؛ لذلك ألقت أم موسى برضيعها في البحر .
ويقدّر الله أنها أم فيقول : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ . . . } [ القصص : 7 ]
ولن يرده إليها فقط ، بل سيوكل إليه أمراً جللاً . { . . . وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ]
وكأن الحق سبحانه يوضح لأم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط ، بل إن له مهمة أخرى في الحياة فسيكون رسولاً من الله . فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لأجل خاطر الأم وعواطفها ، فإن السماء ستحفظه لأن له مهمة أساسية { وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } . ونلحظ أن الحق هنا لم يأت بسيرة التابوت لكنه في آية ثانية يقول : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } [ طه : 38-39 ]
ولم يقل في هذه الآية : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي } ؛ لأنه أوضح لها ما سوف يحدث من إلقاء اليم له بالساحل . وقوله في الأولى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } . هو إعداد للحدث قبل أن يجيء ، وفي هذه الآية : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى . . . } إلخ تجد اللقطات سريعة متتابعة لتعبر عن التصرف لحظة الخطر . لكن في الآية الأولى : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } نجد البطء والهدوء والرتابة؛ لأنها تحكي عن الإِعداد . لما يكون .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعطي كل جنس قانوناً ، وكل قانون يجب أن يُحترم في نطاقه ، لأن تكافؤ الفرص بين الأجناس هو الذي يريده الله . وحينما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا هذه المسألة أوضح أن على المؤمن أن ينظر إلى المعطيات من وراء التكاليف ، وفي آية الدّيْن - على سبيل المثال - نجد الحق يوصي المقترض " المدين " - وهو الضعيف - أن يكتب الدَّيْن ، ويعطي بذلك إقراراً للدائن وهو القوي القادر فيقول سبحانه :
(1/3001)

{ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ . . . } [ البقرة : 282 ]
والمسألة هنا في ظاهر الأمر أنه يحمي الدائن ونقوده ، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه يحمي المدين من نفسه؛ لأن الدَّيْن إن لم يكن موثقاً فالمدين لن يبذل الجهد الكافي للسداد ، وباجتهاد المدين نفيد الوجود بطاقة فاعلة . ولكن إن لم نوثق الدَّيْن ، وتكاسل المدين عن العمل والسداد فقد تشيع الفوضى في المجتمع ويرفض كل إنسان أن يقرض أحداً ما يحتاج إليه . وبذلك تفسد الأمور الاقتصادية .
إذن فسبحانه حين يأمر بتوثيق الدَّيْن ، وإن كان في ظاهر الأمر حماية للدائن . لكنّه في باطن الأمر يحمي سبحانه المدين ، لأن هناك فرقاً بين ساعة التحمل للحكم ، وساعة أداء الحكم .
مثال ذلك حين يأتيك إنسان قائلاً : أنا عندي ألف جنيه وخائف أن يضيع مني فخذه أمانة عندك إلى أن أحتاج إليه ، وبذلك يكون هذا الإِنسان قد استودعك أمانة ولا يوجد إيصال أو شهود ، والأمر مردود إلى أمانة المودَع عنده إن شاء أنكر ، وإن شاء أقر . ونجد من يقول لهذا الإِنسان : هات ما عندك . يقول ذلك وفي ذمته ونيته أن صاحب الألف جنيه حين يأتي ليطلبه يعطيه له ، إنه يَعِدُ ذلك ساعة التحمل ، لكنه لا يضمن نفسه ساعة الأداء ، فقد تأتي له ظروف صعبة ساعة الأداء فيتعلل بالحجج ليبعد صاحب المال عنه .
إذن هناك فرق بين حالة واستعداد حامل الأمانة ساعة الأداء لهذه الأمانة . والمؤمن الحق هو من يتذكر ساعة التحمل والأداء معاً ، إنّ بعض الناس يرفض الأمانة ليزيل عن نفسه عبء الأداء .
والذي يتعلم شيئاً يناقض ناموس وجوده كتعلم السحر نقول له : احذر أن تُبتلى وتُفتن ، بل ابتعد واحفظ نفسك ولا تستعمل ذلك ، واحذر أن تقول أنا سأستعمل ما تعلمته من سحر في الخير ، ومن يأتي لي وهو في أزمة سوف أحلها له بالسحر . ونقول : لهذا الإِنسان : أنت تتكلم عن وقت التحمل ، ولكنك لا تتكلم عن وقت الأداء .
ويقول الحق سبحانه : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [ الأعراف : 117 ]
والإِفك هو قلب الشيء على وجهه ، ومنه الكذب . وعلمنا من قبل أن كل شيء له نسبة كلامية وله نسبة واقعية ، فإذا قلت مثلاً " محمد مجتهد " فهذه نسبة كلامية ، لكن أيوجد واحد في الواقع اسمه محمد وموثوق في اجتهاده؟ . إن كان الأمر كذلك فقد وافقت النسبة الكلامية النسبة الواقعية ، ويكون الكلام هو الصدق ، أما الكذب فهو أن تقول " محمد مجتهد " ولا يوجد إنسان اسمه محمد ، وإن كان موجوداً فهو غير مجتهد ، ويكون الكلام كذباً لأن النسبة الكلامية خالفت النسبة الواقعية ، وحين يكذب أحد فهو يقلب المسألة ونسمى ذلك كذباً ، وشدة الكذب تسمى إفكاً .
(1/3002)

أو الكذب ألا يكون هناك تطابق ، وإن لم تكن تعلم ، والإِفك أن تتعمد الكذب ، وهذا أيضاً افتراء . { أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } .
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَإِذَا } وهي تعبر عن الفجائية حيث ابتلعت عصا موسى - بعد أن صارت حية - ما أتى السحرة وجاءوا به من الكذب والإِفك وسحروا به أعين الناس .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ . . . }
(1/3003)

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
وقوله : { فَوَقَعَ الحق } أي صار الحق النظري واقعاً ملموساً؛ لأن هناك فارقاً بين كلام نظريًّا وكلام يؤيده الواقع ، والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه .
وقوله سبحانه : { فَوَقَعَ الحق } أي ثبت الحق ، فبعد أن كان كلاماً خبريًّا يصح أن يصدَّق ويصح أن يُكَذب . صار بصدقه واقعاً . { فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر . إن الحق جعل الصدق موسى واقعاً مشهوداً . وبذلك غُلب السحرة .
ويقول الحق : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ }
(1/3004)

فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
ولم يغلب السحرة فقط ، بل غلب أيضاً فرعون وجماعته ، وعاش كل من هو ضد موسى في صَغَار ، صغار للمستدعِي وصغار للمستدعَى . لذلك ذيل الحق الآية بقوله : { وانقلبوا صَاغِرِينَ } أي أذلاء .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ }
(1/3005)

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
ولم يقل الحق : وسجد السحرة ، ولكنه قال : " ألقى " مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس برأيهم ، لكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم ، كأن شيئاً آخر ألقاهم ساجدين ، وهو الانبهار بالحق . فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر ، ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحراً ، وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي جاءوا بها من كل المدائن ، قيل إنها حُملت على سبعين بعيراً وشاهدوا كيف أن العصا التي صارت حية أو ثعباناً لقفت كل هذا وابتلعته! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت ، وهكذا تيقن أن هذا لا يمكن أن يكون من فعل ساحر ، وانظر إلى الاستجابة منهم لمَّا رأوا : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين }
(1/3006)

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
وهل هم سجدوا بعد الإِيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود ، ولكن كان الأمر يقتضي ألا يسجد أحد إلا لأنه آمن ، لكن نحن نعرف أن الإِيمان عمل قلبي ، والسجود عمل عضلي وسلوك عملي ، فكل منهم آمن بقلبه فسجد .
وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم؛ فيقولوا : آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن لا نرتب السجود على إيمان ، بل نرتب السجود مع القول بالإِيمان وبإعلان الإِيمان؛ لأن إعلان الإِيمان شيء ، والإِيمان شيء آخر ، فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلان الإِيمان ، وكأن الناس سألوهم : ما الذي جرى لكم؟ فقالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } .
إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الإِيمان يعني وجود الإِيمان أولاً ، والسحرة قد آمنوا فسجدوا ، فاستغرب منهم الناس هذا السجود ، وهنا قال السحرة : لا تستغربوا ولا تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين . { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } [ الأعراف : 121 ]
وقيل في بعض التفاسير : إن فرعون قال : أنا رب العالمين . لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا فأعلنوا أن رب العالمين هو : { رَبِّ موسى وَهَارُونَ } . وقال فرعون : لقد ربيت أنا موسى ، فقالوا : لكنك لم ترب هارون .
ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هو : { رَبِّ موسى وَهَارُونَ }
(1/3007)

رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
ولأن السحرة أعلنوها واضحة بالإِيمان برب العالمين رب موسى وهارون ، وكان لابد أن يغضب فرعون ، فيأتي القرآن بما جاء على لسانه : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ . . . }
(1/3008)

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
وكأن فرعون مازال يحاول تأكيد سلطانه ، ونعلم أن بني إسرائيل اختلطوا بالناس في مصر ، ومنهم من تعلم السحر . ولذلك اتهم فرعون السحرة بأنهم قد اتفقوا مع موسى على هذه المسألة .
لقد كان فرعون في مأزق ويريد أن يخرج منه؛ لأن الناس جميعاً قد شاهدوا المسألة ، وهو لا يريدهم أن يتشككوا في ألوهيته ، فينهدم الصرح الذي أقامه على الأكاذيب؛ لذلك قال السحرة : إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة . . أي أنكم اتفقتم مع موسى ، وسيأتي ويقول : اتهاماً لموسى : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر . . . } [ طه : 71 ]
ونتيجة لهذا المكر المتوهم بين بني إسرائيل وموسى يتوعدهم فرعون : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ . . . }
(1/3009)

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
والوعيد - كما نراه - قاسٍ وفظيع ، فتقطيع الأيدي والأرجل ثم الصلب كلها أمور تخيف ، فماذا يكون الرد ممن يتلقون هذا الوعيد ، وقد خالطت بشاشة الإِيمان قلوبهم؟ إنهم يقولون : { قالوا إِنَّآ إلى . . . }
(1/3010)

قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
إنك قد عجلت لنا الخير لأننا سنكون في جوار ربنا ، فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفاً وخيراً من حيث لا تدري . ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهم : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا . . . }
(1/3011)

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
ما الذي تكرهه منا لأن " تنقم " تعني تكره ، وقولهم لفرعون : أليس الذي تكرهه منا أنَّا آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا؟ وهل الإِيمان بآيات الإِله حين تجيء مما يُكره؟!! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ كأن يقول إنسان : ماذا تكره فيّ؟ أصدقي؟ أمانتي؟ أجودي؟ أعلمي؟
كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعاً أنها لا تُكره ، لكن الخطأ في مقاييس من يكره الصواب ، فهي أمور لا تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم . لقد تيقنوا أن لقاء الله على الإِيمان هو الخير وكلهم يفضل جوار الله على جوار فرعون . وهذا الذي يعتبره فرعون عقاباً إنما يثبت خيبته حتى في توقع العقوبة؛ لأنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى الله ، وهذا أمر مقطوع به ، وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى الله ، وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهم : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 124 ]
ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } .
و " الإفراغ " أن ينصب شيء على شيء ليغمره ، وكانهم يقولون : أعطنا يا رب كل الصبر ، وهم يحتاجون إلى الصبر لأن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم . ولذلك قال بعض العارفين بالله : عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة .
ويقول سبحانه : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ . . . }
(1/3012)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وهكذا نعرف أن المقربين من فرعون هم أول من خافوا على سلطانهم ، ويدل هذا القول أيضاً على أن فرعون لم يتعرض لموسى بأي أذى؛ لأنه مازال يعيش في رهبة اليقين وصولة الحق مما جعله متوجساً وخائفاً من موسى؛ لأن فرعون أول من يعلم أن مسألة ألوهيته كذب كلها ، ويعلم جيداً أن موسى على حق ، لكن إعلان انهزامه أمام الجمع ليس أمراً سهلاً على النفس البشرية ، وسأل الملأ من قوم فرعون الذين اهتز أمامهم سلطانه ومكانته ، قالوا : لفرعون : أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض؟ . أو فيما يبدو أن موسى وهارون تركا المكان بعد أن انتهيا من أمر السحرة ، ولم يقبض عليهما فرعون؛ لذلك تساءل الملأ من قوم فرعون : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ]
و " يذرك " أي يدعك ويتركك ، وكان فرعون يعتقد أن هناك آلهة علويين وآلهة سفليين ، وهو رب العالم السفلي كله . لذلك قالوا : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } . وهناك قراءة أخرى " ويذرك إلاهتك أي عبادتك " . أي يتركك أنت ويترك عبادتك . ويقول فرعون : { قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ } .
وحتى تلك اللحظة لم يتعرض فرعون لموسى ، ولا يزال خوفه من موسى يمنعه من الاقتراب أو الدنو أو الاتصال به ولو بكلمة ، إنه يأخذ الحذر من أن يقدم على شيء ضد موسى ، فيفاجئه موسى مفاجأة ثانية . ويقال إن الثعبان الذي ظهر ساعة ألقى موسى عصاه فتح شدقيه واتجه إلى فرعون ، فقال : كف عني وأومن بما جئت به . وهو أمر محتمل؛ لأن فرعون حتى هذه اللحظة لم يجرؤ على الاقتراب من موسى ، وجاء بخبر قتل الأبناء وسبيْ النساء ولم يأت بسيرة موسى . { . . . سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } [ الأعراف : 127 ]
والقوي حين يملك القدرة على الضعيف لا يشد الخناق عليه شدًّا ليفتك به؛ لأنه يعرف ضعفه ، ويستطيع أن يناله في أي وقت ، لكن لو كان الخصم أمامك قويًّا فأنت ترهبه بالقوة حتى يخضع لك . وهنا يقول فرعون : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون وغالبون ، ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم . ويؤكد فرعون : سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم؛ لأن الأبناء هم العدة ، والنساء عادة شأنهن مبني على الحجاب ، وعلى الستر ، وفي إبقاء المرأة وقتل الرجل إذلال للرجال؛ لأن التعب سيكون من نصيب النساء . ولذلك كان العرب حين يغيرون على عدو ، يصحبون نساءهم لتزيد الحمية ولا يخور ولا يجبن واحد وتراه زوجه أو أخته أو ابنته وهو على هذا الحال ، وكذلك كان العرب يخافون الانهزام حتى لا يمسك العدو نساءهم ويأخذهن سبايا .
وهنا يؤكد فرعون إصراره على إذلال قوم موسى بأن يعيد قتل الأبناء ، وأن يستحيي النساء ، وكان الفرعون يفعل مثل ذلك الأمر من قبل ، والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانوا يساعدون ملوك الهكسوس ، وبعد أن طرد الفراعنة الهكسوس ، اتجهوا إلى إيذاء بني إسرائيل الذين كانوا في صف الهكسوس ، ومن بقي من بني إسرائيل تعرض لتقتيل الأبناء ، لكن الحق أنقذ موسى حين أوحى لأمه أن تلقيه في اليم ليربيه فرعون . وها هو ذا فرعون يعيد الكرة مرة أخرى بالأمر بتقتيل الأبناء وسبي النساء .
ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ . . . }
(1/3013)

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
ويقرر موسى الحقيقة الواضحة وهي أن الأرض ليست لفرعون ، والعاقبة لا تكون إلاَّ للمتقين . وكأنه بهذا القول يريد أن يردهم إلى حكم التاريخ حيث تكون العاقبة دائماً للمتقين ، فإن قال لفرعون : وإنا فوقهم قاهرون ، مستعلون غالبون مسلطون مسيطرون ، فإن موسى يرد على ذلك : أنا أستعين بمن هو أقوى منك . إن موسى عليه السلام يأمر بأن يستعينوا بالله ، ويصبروا على ما ينالهم من بطش فرعون وظلمه .
ولأن قوم موسى كانوا من المستضعفين ، فإن الله وعدهم أن يؤمّنهم في الأرض ويمكن لهم فيها وهذا إخبار من الله وإخبار الله حقائق . ولكن ماذا كان موقف قوم موسى منه بعد هذا النصر العظيم لموسى ، والنصر لهم؟ . نجد الحق سبحانه يقول : { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ . . . }
(1/3014)

قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
لقد قالوا لموسى : من قبل أن تأتينا أوذينا بأن قتلوا الأبناء واستحيوا النساء ، وبعد أن جئت ها نحن أولاء نتلقى الإِيذاء . كأن مجيئك لم يصنع لنا شيئاً . إذن هم نظروا للابتلاءات التي يجريها الله على خلقه ، ولم ينظروا إلى المنة والمنحة والعطاء وإلى آلاء الانتصار ، وإلى أن فرعون قد حشد كل السحرة ، وبعد ذلك هزمهم موسى ، وكان يجب أن يكون تنبيها لهم لقدر عطاءات الله ، هم يحسبون أيام البلاء ، ولم يحسبوا أيام الرخاء .
وقوله : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } يدل على أنهم سوف يخونون العهود ، ويفعلون الأشياء التي لا تتناسب مع هذه المقدمات . وفي الإِسلام نجد عمرو بن عبيد وقد دخل على المنصور قبل أن يكون أميراً للمؤمنين ، وكان أمامه رغيف أو رغيفان ، فقال : التمسوا رغيفاً لابن عبيد . فرد عليه العامل : لا نجد . فلما ولي الخلافة وعاش في ثراء الملك ونعمته دخل عليه ابن عبيد وقال : لقد صدق معكم الحق يا أمير المؤمنين في قوله : { . . . عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ]
وقد قال موسى لقومه بعد أن عايروه بعدم قدرته على رد العذاب عنهم . وهكذا استقبل قوم موسى أول هزيمة لفرعون أمام موسى ، وقالوا له : أوذينا من قبل أن تأتينا ، ومن بعد ما جئتنا ، أي بالتذبيح ، واستحياء النساء ، وقتل الأبناء ، فكأن مجيئك لم يفدنا شيئاً لأننا مقيمون على العذاب الذي كنا نُسامه . فلا حاجة لنا بك ، ولا ضرورة في أن تكون موجوداً؛ بدليل أن الذي حدث بعدك هو الذي حدث قبلك .
ولم يلتفتوا إلى أن الإِيذاء من قبل ومن بعد لا ينشأ إلا من عدو ، فكأن موسى يرد عليهم بأن أسباب الإِيذاء ستنتهي ، وأن الله سيهلك عدوكم الذي آذاكم من قبل ويؤذيكم من بعد . ولن يقتصر الأمر على هذه النعمة؛ بل يزيدكم بأن يستخلفكم في الأرض ، ويعطيكم ملكهم ويعطيكم أرضهم . وكأن هنا أمرين : الأمر الأول سلبي : وهو إهلاك العدو ، والأمر الثاني إيجابي : وهو استخلافكم في الأرض وهذا أمر لكم ، ووعد من الله بأن تكون لكم السيادة والملك وعليكم أن تنتبهوا إلى أن نعمة الله عليكم بإهلاك عدوكم ، وباستخلافكم في الأرض لن تترك هكذا ، بل أنا رقيب عليكم أنظر ماذا تفعلون ، هل تستقبلون هذه النعم بالشكر وزيادة الإِيمان واليقين والارتباط بالله ، أو تكفرون بهذه النعمة؟
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى { عسى } فهي كلمة - كما يقول علماء اللغة - تدل على الرجاء ، ومعنى الرجاء أن ما بعدها يكون مرجو الحصول . وهناك فرق بين التمني وبين الرجاء . فالتمني أن تتطلب أمراً مستحيلاً أو يكون في الحصول عليه عسر ، ولكنك تريد - فقط - بالتمني إشعار حبك له ، فأنت إذا قلت : ليت الشباب يعود ، فهذا أمر لا يكون ، ولكنك تعلن حبك لمرحلة الشباب .
(1/3015)

وقصارى ما يعطيه أن يعلمنا أنك تحب هذا المتمنَّي . لكن هل يتحقق أو لا يتحقق . . فهذه ليست واردة .
لكن " الرجاء " شيء محبوب يوشك أن يقع . وهكذا نعرف أن الرجاء أقوى من التمني . وأداة التمني " ليت " وأداة الرجاء " عسى " . وحين يكون بعد " عسى " ما يُرْجَى فلذلك مراحل تتفاوت بقوة أسباب الرجاء في الوقوع . فأنا مثلاً إذا قلت : عسى أن أكرمك فهذا أمر يعود إليّ أنا ، لأنَّ إكرامي لك يقتضي بقائي ، وعدم تغير نفسي من ناحيتك ، فمن الجائز أن تتغير نفسي قبل أن أكرمك ولا يقع إكرامي لك . هذا هو الرجاء من صاحب الأغيار ، ومادمت صاحب أغيار فقد لا أقدر على الإِكرام ، أو أقدر ولكني لم أعد أحب هذا الأمر فقد انصرفت نفسي عنه ، وهذا يفسد الرجاء ويقلل الأمل في حصوله . فإذا قلت لإِنسان : عسى الله أن يكرمك فلان وهو مساويه ، فهذا أمر مستبعد قليلاً؛ لأن من يقول ذلك لا يملك أن يقوم فلان بإِكرام المساوي له ، لأنه صاحب أغيار .
لكن إذا قلت : عسى الله أن يكرمك فهذه أقوى ، لأن ربنا لا يعجزه شيء عن إكرام إنسان . وهل يقبل الله أن يجيب رجاءك؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة ، فسبحانه من ناحية القوة له مطلق القدرة فلا شيء يعطله أو يستعصي أو يتأبى عليه . فإذا ما قال الحق عن نفسه : { عسى رَبُّكُمْ } فقد انتهت المسألة وتقرر الوعد وتحقق ، وهذا ما يقال عنه رجاء محقق . إذن مراحل الرجاء هي : عسى أن أكرمك ، وعسى أن يكرمك زيد ، وعسى الله أن يكرمك ، وأقوى ألوان الرجاء أن بعد الحق بالإِكرام أو بالرحمة . { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ . . . } [ الأعراف : 129 ]
والكلام كما نراه هو من موسى ، ولا يقدر على هذه المسألة إلا الله ، فما موقع هذا من تحقيق الرجاء؟ . نعلم أن موسى رسول أرسله الله لهداية الخلق ، وأرسله مؤيداً بالمعجزة ، فإذا كان الرسول المؤيد بالمعجزة قد أمره الله أن يبلغهم ذلك ، فيكون الرجاء منه مقبولاً : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } .
ومرة تكون إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها ، أما أن يهلك الله عدوي ويعطيني الحق مكانة عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب ، تكون بعد نعمة سلب . ومثل هذا ما سوف يحدث يوم القيامة؛ لأن الحق يقول : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ . . . } [ آل عمران : 185 ]
ومجرد الزحزحة عن النار فضل ونعمة ، فما بالك بمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة؟ . لقد نال نعمتين . وهنا يقول الحق سبحانه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } . وتلك وحدها نعمة تليها نعمة أخرى هي : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض } .
(1/3016)

لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر ماذا تعملون؟ . هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عباداً صالحين ، أو تجحدونها وتكفرونها؟ فالإِنسان ظلوم كفار .
وكلمة " ينظر " إذا جاءت على الإِنسان فُهِم المراد منها أي يراك بناظره . وإذا أُسندت لله فالأمر مختلف ، فتعالى الله أن تكون له حدقة عين مثل عيوننا . لكنه سبحانه لا يجهل شيئاً لينظره؛ لأنه هو - سبحانه - عالمه قبل أن يقع . ونعلم أن هناك فارقاً بين الحكم على المخلوق بعلم الخالق ، وبين الحكم على المخلوق بعمل المخلوق .
مثال ذلك نجد الأستاذ في مادة ما يعرف مستويات الطلاب الذين يدرسون على يديه . وعميد الكلية يقول له : ما رأيك؟ فيقول فلان تلميذ يستحق النجاح بتقدير مرتفع والثاني لابد أن يرسب . الأستاذ يقول هذا الحكم بناء عن علمه بحال كل طالب . لكن إذا أرسب الأستاذ طالباً بناء على تقديره دون امتحان فالطالب الذي رسب قد يقول لأستاذه : أنت شططت في الحكم؛ ولو مكنتني من الامتحان لنجحت . وحين يقرر العميد امتحان الطالب ، ويؤدي الامتحان بالفعل ، ولكنه يرسب . هنا يتأكد للعميد أن الحكم برسوب طالب قد عرفه الأستاذ أولاً ثم تلا ذلك إخفاق الطالب في الامتحان .
إن الله سبحانه حين يقول : { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } . هو سبحانه لا ينظرها ليعلمها - حاشا الله - فهو عالمها ، ولكنه لا يريد أن يحكم بعلمه على خلقه . ولكن يريد أن يحكم على خلقه بفعل خلقه ، وسبحانه عالم أزلاً بكل من يهدي ومن يضل . ولذلك خلق الجنة وخلق النار لتسع كل منهما كل الخلق ، ولم يخلق أماكن في الجنة على قدر من سوف يدخلونها فقط ، وكذلك لم يخلق أماكن في النار لا تسع فقط أهل النار ، بل يمكنها أن تسع كل الخق ، ولم يحكم بعلمه في هذه المسألة ، بل يترك الحكم الأخير لواقع الأشياء مادام هناك اختيار للإِنسان ، فعلى فرض أنكم جميعاً آمنتم فلكم كلكم أماكن في الجنة . وعلى فرض أنكم - والعياذ بالله - كفرتم فلكم أماكن في النار ، وسبحانه لن ينشئ شيئاً جديداً ، بل أعد كل شيء وانتهى الأمر .
وحين يأتي أهل الجنة ليدخلوا الجنة ، وأهل النار ليدخلوا النار سوف يكون لأهل الجنة مقاعد أخرى كانت مخصصة لمن دخلوا النار . ويعلن لأهل الجنة : أورثتموها وخذوها أنتم : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا . . . } [ الأعراف : 43 ]
وهي ميراث من الذين كانت معدة لهم ولم يقوموا بالعمل المؤهل لامتلاكها . فإياك أن تفهم أن نظر الله إلى خلقه ليعلم منه شيئاً . لا . أنَّه العليم أزلاً .
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب . . . } [ الحديد : 25 ]
وسبحانه يعلم أزلاً ويتحقق بسلوك الناس علمهم بأفعالهم واقعاً ، وعلم الواقع هو الذي يكون حجة على الخلق . وهنا في الآية التي نحن بصددها ثلاثة أشياء : أن يهلك سبحانه عدوكم ، وأن يستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون . ونحقق فيما تحقق منهما .
وجاء سبحانه في مقدمة الإِهلاك ، فقال : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين . . . }
(1/3017)

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
وهكذا نرى أن الإِهلاك لم يحدث دفعة واحدة ، بل على مراحل لعلهم إذا أصابتهم شدة يضرعون إلى الله .
نحن نعلم أن السنة هي العام . . أي من مدة إلى نهاية مدة مثلها ، لكنها تطلق - أيضاً - على الجدب والقحط . ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه على قومه :
" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "
أي أن ينزل بهم سبحانه بعضاً من الجدب ليتأدبوا قليلاً .
ويقال : " أسنت القوم " أي أصابهم قحط وجدب . إذن فالسنة المراد منها هنا القحط والجدب .
ولماذا سماها سنة؟ لأن نعم الله متوالية كثيرة ، وابتلاءاته لخلقه بالشرِّ قليلة في الكون ، وسبحانه ينعم عليهم مدة طويلة ثم يبتليهم في لحظة ، فإذا ما ابتلاهم في وقت يؤرخ به ، ويقال حدث الابتلاء سنة كذا فيقال : سنة الجراد ، سنة حريق القاهرة ، وهكذا نجد الناس تؤرخ بالأحداث المفجعة؛ لأن الأحداث السارة عادة تكون أكثر من الأحداث السيئة . ولذلك قلنا إن الذي يعد أيام البلاء عليه أن يقارنها بأيام الرخاء ، وعلى الواحد منا أن ينظر إلى أيام السنة التي عاشها ، إن جاء له يوم بلاء حزن نقل له : وكم مرة عشت ونعمت بالرخاء؟ ونجد أن أيام الرخاء هي أكثر من أيام البلاء : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } .
وعرفنا أن السنين - كما قلنا - تعني الجدب والقحط ، أما قوله سبحانه : { وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } فهو يدل على أن بعضاً من الثمار كان موجوداً ، أو كان الجدب والقحط في البادية ، أما " نقص الثمرات " فكان في الحضر ، ويقال : إن النخلة الواحدة في الحضر كانت لا تطرح في السنة إلا بلحة واحدة . ولماذا هذه البلحة؟ لأن أسباب رحمته سبحانه يجب أن تبقى في خلقه ، ولو أن النخل كله لم يطرح ولا بلحة واحدة لا نقطع نسل النخيل؛ لذلك يُبقي الله أسباب رحمته لنا .
إننا نرى في واقعنا مهما حاولوا أن يستزرعوا فواكهه بدون بذور بواسطة التقدم العلمي المعاصر ، نجد ثمرة وقد شذت وفيها بذرة ، لماذا؟ يقال لنا لاستبقاء النوع ، فلو خرجت كل الثمار بلا بذور ثم أكلناها جميعها فكيف نزرع محصولاً جديداً؟ ولذلك قلنا من قبل إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بالخلق في استبقائه للنعم ومقومات الحياة لم يجعل الثمار حلوة تستساغ إلا بعد أن تَنْضج بذرتها ، فأنت حين تفتح البطيخة إن كان بذرها أبيض تجد طعمها لا يستساغ وترميها . لكن حين يسودَّ بذرها ويكون صالحاً لأن تعيد زراعته ، هنا تكون ثمرة البطيخة ناضجة وحلوة الطعم . وبذلك يوضح لك الحق أن الثمار لن تصير مقبولة ومستساغة إلا بعد أن تنضج بذرتها لتكون صالحة لاستنباتها من جديد ، وفي هذا استبقاء للرحمة ، وحتى مع العاصين نجده سبحانه يستبقي الرحمة معهم .
(1/3018)

{ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [ الأعراف : 130 ]
وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } يعني أن على الإِنسان أن يتذكر أنه الخليفة في الأرض وأنه غير أصيل في الكون حتى يظل العالم مستقيماً . لكن الذي يفسد العالم أن الإِنسان حينما تستجيب له أسباب الحياة ، وسننها الكونية ويحرث ويبذر ويطلع الزرع ، ويشعل النار ويستخرج المياه من الآبار ينسى أن كل ذلك " أسباب " ولا يتذكر المُسبِّب إلا حينما تمتنع عليه الأسباب .
والمثال في حياتنا اليومية أن الإِنسان منا إذا جاء ليفتح صنبور المياه في البيت فلم يجد ماءً فيتجه أول ما يتجه إلى محبس المياه الذي يتحكم في مياه المنزل ويرى هل به خلل أو سدد ، وإن وجده سليماً ، يبحث هل أنبوبة وماسورة المياه الرئيسية مكسورة أو لا؟ وإن كانت ماسورة المياه سليمة فهو يبحث عن الخلل في آلة رفع المياه ، ويظل يبحث في الأسباب الكثيرة ، وقديماً لم تكن المياه تأتي إلا من الآبار وعندما لا يوجد في البئر ماء يقول العبد : يا رب اسقني . والحضارة الآن أبعدتنا بالأسباب عن المسبِّب .
والحق قد أخذ قوم فرعون بالسنين ونقص الثمرات لينفض أيديهم من أسبابها ، فإذا نفضت اليد من الأسباب لم يبق إلا أن يلتفتوا إلى المسبِّب ويقولون : " يا رب " ويقول القرآن عن الإِنسان : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً . . . } [ يونس : 12 ]
إذن فالإِنسان يذكر المسبِّب حين تمتنع عنه الأسباب ، لأنها مقومات الحياة ، فإذا امتنعت مقومات الحياة يقول الإِنسان : يا رب ، وهكذا كان ابتلاء الله لقوم فرعون بأخذهم بالسنين ونقص الثمرات ليذكروا خالقهم .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ . . . }
(1/3019)

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
والحسنة إذا أطلقت فهي الأمر الذي يأتي من ورائه الخير . ولكن الحسنة مرة تكون لك ، ومرة تُطْلَب منك ، فالحسنة التي لك في ذاتك أولاً أن تكون في عافية وسلام ، ثم الحسنة في مقومات الذات ومقومات الحياة ، وهي في النبات ، والحيوان ، والخصب والثروة . والحسنة المطلوبة منك هي أيضاً لك . فسبحانه يطلب منك عمل شيء يورِّثك في الآخرة حسنة ، ولذلك يقول سبحانه : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . . . } [ الأنعام : 160 ]
وهذه هي الحسنة التي تعطي الإِنسان خيراً فيما بعد . إذن فالحسنة التي في ذاتك من عافية وسلامة أو في مقومات الذات من ثمرات وحيوانات وخصب وأعشاب وثراء فكلها موقوتة بزمن موقوت هو الدنيا . والحسنة الثانية غير محدودة لأن زمنها غير محدود . فأي الحسنات أرجح وأفضل بالنسبة للإِنسان؟ . إنها حسنة الآخرة .
وقوله الحق : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة } أي جاء لهم قدر من الخصب والثمار وغير ذلك من الرزق يقولون : " لنا هذه " أي أننا نستحقها؛ فواحد يقول : أنا أستحقها لأنني رتبت لها وأتقنت الزراعة والحصاد مثلما قال قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ علىعلم عندي . . . } [ القصص : 78 ]
وأجرى عليه الحق التجربة ، فمادام يدعي أنه جاء بالمال على علم من عنده فليجعل العلم الذي عنده يحافظ له على المال أو يحافظ له على ذاته . وهم قالوا عن الحسنات التي يهبها الله لهم : " قالوا لنا هذه " أي نستحقها ، لأننا قدمنا مقدمات تعطينا هذه النتائج . وجرت العادة قديماً بأن يفيض النيل كل سنة يغمر الأرض ، ثم يبذرون الحب وينتظرون الثمار . فإن جاءت لهم سيئة مثل أخذهم الله لهم بالسنين ينسبون ذلك لموسى . { . . . وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 131 ]
فإذا ما جاءتهم سيئة يطَّيَّرون أي يتشاءمون لأن الطيرة هي التشاؤم ، وضده التفاؤل ، ويقال : " فلان طائره نحس " ، و " فلان طائره يمن وسعد " . وقديماً حينما كانوا يريدون طلب مسألة ما ، يأتون بطير ويضعه صاحب المسألة على يده ويزجره ويثيره ، فإن طار يميناً فهذا فأل حسن ، وإن طار يساراً فهذا فأل سيئ ، والحق هنا يوضح : لا تظلموا موسى ، لأن شؤمكم أو حظكم السيئ ليس من موسى؛ لأن موسى لا يملك في كون الله شيئاً ، وإنما المالك للكون هو رب موسى . وكأن الحق يريدهم أيضاً ألا يفتنوا في موسى إن صنع شيئاً يأتي لهم بخير ، وهنا يقول لهم لا تتطيروا بموسى ، لأن طائركم من عند الله .
ولأن أحداث الحياة صنفان : حدث لك فيه مدخل ، مثل التلميذ الذي لم يذاكر ويرسب ، أو إنسان لا يحسن قيادة سيارته فقادها فعطبت به أو أصاب أحداً إصابة خطيرة ، وهنا لا غريم لهذا الإِنسان ، بل هو غريم نفسه .
(1/3020)

وهناك شيء يقع عليك ، واسمه حدث قهري ، فالإِنسان في الأحداث بين أمرين اثنين : إما مصيبة دخلت عليه من ذات نفسه لتقصيره في شيء . وإمَّا أحداث قدرية تنزل بالإِنسان ونقول إنها من عند الله لحكمة لا يعرفها الإِنسان؛ لأن الإِنسان ينظر إلى سطحيات الأشياء ، وإلى عاجل الأمر فيها ، ولكنه لا ينظر إلى عاقبة الأمر . ولهذا تحدث له بعض من الأحداث ليس له فيها مدخل .
مثال ذلك : أن يكون للإِنسان ابن نجيب وذكي وترتيبه دائماً من العشرة الأوئل ، ثم جاء في ليلة الامتحان أو في يوم الامتحان وأصابه صداع جعله لا يعرف كيف يجيب عن أسئلة الامتحان ورسب ، وهذه مصيبة ليس له مدخل فيها .
وعادة ما يحزن الناس من مثل هذه المصائب لكن المؤمن يقول : إن الولد لم يقصر ، وهذا أمر جاء من الله ، وسبحانه منزه عن العبث ، بل حكيم ولابد أن له حكمة في مثل هذه الأمور . وبعد مدة تتبين الحكمة ، فلو كان الولد قد نجح لأصابته عين الحسود . وحدث له ما يكره ، فكأن الله يصنع له تميمة يحميه بها من الحسد . وقديماً حين كانوا يصنعون للطفل الجميل " فاسوخة " ، ولا يهتمون بنظافته ولا بملابسه ، لماذا؟ يقال حتى لا تتجه إليه عين العائن الحاسد .
وأقول : وما الذي يدرك أن الله سبحانه وتعالى صنع الحادث الطارئ ليرد عنه العين ، ويُسكت الناس عنه؟ وما الذي يدريك أن الله أراد له أن يرسب هذا العام لأنه لم يكن يستطيع الحصول على المجموع الذي يدخله الكلية التي يريدها ، ثم يستذكر في العام التالي وتكون المذاكرة سهلة بالنسبة له ، ونقول له : احمد ربك على أنك لم تنجح في العام السابق وأن الله أراد بك خيراً . . لتبذل جهداً وتنجح وتنال المجموع الذي أردته لنفسك .
إذن فالمقادير التي تجري على الناس بدون دخل لهم فيها ، فلله فيها حكمة ، وهنا يقال : { طَائِرُهُمْ عِندَ الله } ، أما إن كان للإِِنسان دخل فيما يجري له فيقال : طائرك من عندك أنت وشؤمك من نفسك وعصيانك . { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 131 ]
ألم يتطير اليهود في المدينة برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قالوا : قلت الأمطار وارتفعت الأسعار من شؤم مجيء هذا الرجل ، ولم يتفهموا حكم الله . لقد كانوا سادة في الجزيرة؛ لأنهم أهل علم بالكتاب وسيطروا على حركة السوق التجارية ، وتعاملوا في الربا وتجارة السلاح وكان عندهم الحصون ، والأسلحة ، وأراد الله أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم ليلفتهم إلى أنهم خرجوا عن المنهج إلى أن هناك رسولاً قد جاء بعودة إلى المنهج .
وقوله الحق : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يفيد أن هناك قلة تعلم . فما موقف هذه القلة ، ولماذا لم يرفضوا موقف الكثرة؟ . كان موقفهم هو الصمت خوفاً من الطغيان؛ لأن الطاغية أجبرهم وقهرهم وجعلهم يسكتون ولا يعترضون على باطل ، ونرى في حياتنا كثيراً من الناس يعلمون الزور ويعلمون الطغيان ولكنهم لا يتكلمون .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ . . . }
(1/3021)

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
أي وقال قوم فرعون لموسى عليه السلام : أي شيء تأتينا به من المعجزات لتصرفنا عما نحن فلن نؤمن لك ، وسموا ما جاء به موسى " آية " استهزاء منهم وسخرية . وكل هذه مقدمات تبرز الإِهلاك الذي قال الله فيه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ . . . } [ الأعراف : 129 ]
وأعلنوا أن ما جاء به موسى هو سحر على الرغم من أنهم رأوا السحرة الذين برعوا في السحر وعرفوا طرائقه وبذّوا فيه سواهم قد خروا ساجدين وآمنوا ، كيف يحدث هذا والسحرة كلهم جُمِعوا إلى وقت معلوم؟ وشهد كل الناس التجربة الواقعية التي ابتلعت فيها عصا موسى كل سحر السحرة فآمنوا وسجدوا ، فكيف يتأتى لمن لا يعرفون السحر أن يتهموا موسى بالسحر؟ وكيف يظنون أن ما يأتي به من آيات الله هو لون من السحر؟ . إنهم يقولون كلمة " مهما " وهي تدل على استمرارية العناد في نفوسهم مثلما يقول واحد لآخر : لقد صممت على ألا أقبل كلامك ، فيكرر الرجل : انتظر لتسمع حجتي الثانية فقد تقنعك ، فيقول : مهما تأتني من حجج فلن أسمع لك ، وهذا يعني استمرارية العناد والجحود والتمرد ويقدمون حيثيات هذا الجحود فيقولون : { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 132 ]
وإذا كانوا يظنون أن آيات الله التي مع موسى من السحر ، فهل للمسحور إرادة مع الساحر؟ . لو كانت المسألة سحراً لسحركم وانتهى الأمر . وقلنا قديماً في الرد على الذين قالوا : إن محمداً يسحر ليؤمنوا به ، قلنا إذا كان هو قد سحر الناس ليؤمنوا به ، فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا وتنفض المسألة؟ إن بقاءكم على العناد دليل على أنه لا يملك شيئاً من أمر السحر .
وأنت ساعة تسمع كلمة " مهما " تعرف أن هناك شرطاً ، وله جواب ، ويقول العلماء : إن أصلها " مه " أي كُفّ عن أن تأتينا بأية آية فلن نصدقك . وهذا يعني أن هناك إصرار وعناداً على عدم الإِيمان .
ويبين الحق عقابه لهم على ذلك : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد . . . }
(1/3022)

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
وكلمة " الطوفان " يراد بها طغيان ماء ، والماء - كما نعلم - هو سبب الحياة ، وقد يجعله الله سبباً للدمار حتى لا تفهم أن المسائل بذاتيتها ، بل بتوجيهات القادر عليها ، وعندما ننظر إلى الطوفان الذي أغرق من قبل قوم نوح ، ولم ينج أحد إلا من ركب مع نوح في السفينة؛ وهنا مع قوم موسى لا توجد سفينة ، لأن الله يريد أن يؤكد لهم العقاب على طغيانهم . وإذا كان الطوفان قد أصاب آل فرعون ومعهم بنو إسرائيل لدرجة أن الواحد منهم كانت المياه تبلغ التراقي فيبقى واقفاً لأنه لو جلس يموت ، ويظل هكذا ، وأمطرت عليهم السماء سبعة أيام ، لا يعرفون فيها الليل من النهار ويرون أمامهم بيوت بني إسرائيل لا تلمسها المياه ، وهذه معجزة واضحة ، لقد عمّ الطوفان وأراد الحق أن ينجي بني إسرائيل منه دون حيلة منهم حتى لا يقال آية كونية جاءت على هيئة طوفان وانتهت المسألة ، لكن الطوفان جاء لبيوتهم ولم يلمس بني إسرائيل .
وقال الرواة : إن الطوفان دخل على فرعون حتى صرخ واستنجد بموسى ، وقال له : كف عنا هذا ونؤمن بما جئت به ، ودعا موسى ربه فكف عنهم الطوفان . لكنهم عادوا إلى الكفر .
وجعل الله من آياته لمحات ، وإشارات ، بدأت بالطوفان ، وحين يوضح ربنا : أنا عذبت بالطوفان قوم نوح ، وقوم فرعون ، فهو يعطينا ملامح تشعرنا بصدق القضية ، فيهبط السيل في أي بلد ويهدم الديار ويغرق الزرع والحيوانات ، لنرى صورة كونية ، وكذلك الجراد يرسله الله على فترات فيهبط في أي وقت من الأوقات ، ونقيم الحملات لمكافحته ، وهذا دليل على صدق الأشياء التي حكى الله عنها ، فلو لم يوجد جراد ولا طوفان لكنا عرضة ألا نصدق . وابتلاهم الله بالقمل كذلك .
{ والقمل } هو غير القَمْل . فالقَمْل هو الآفة التي تصيب الإِنسان في بدنه وثيابه وتنشأ من قذارة الثياب ، أما القُمَّل فقيل هو السوس الذي يصيب الحبوب ، ومفردها قُمَّلَة ، وقيل هو ما نسميه بالقراد ، وقيل هو الحشرات التي تهلك النبات والحرث ، وحين نراه نفزع ونبحث عن تخليص الزرع منه باليد والمبيدات ، وكل ذلك من تنبيهات الحق للخلق ، وهي مجرد تنبيه وإرشاد ولَفْتٌ للالتفات إلى الحق .
وكذلك يرسل الله عليهم { والضفادع } ، وعندما يضع أي إنسان منهم يده في شيء يجد فيها الضفادع؛ فإناء الطعام يرفع عنه الغطاء فترى فيه الضفادع ، والمياه التي يشربها يجد فيها الضفادع!! وإن فتح فمه تدخل ضفدعة في الفم!! . فهي آية ومعجزة ، وكذلك { والدم } ، فكان كل شيء ينقلب لهم دماً .
ويقال : إن امرأة من قوم فرعون أرادت أن تشرب ماء ، فذهبت إلى امرأة من بني إسرائيل وقالت لها : خذي الماء في فمك ومُجيه في فمي ، كأنها تريد أن تحتال على ربنا وتأخذ مياها من غير دم ، فينتقل من فم الإسرائيلية وهو ماء ، فإذا ما دخل فم المرأة التي هي من قوم فرعون صار دماً .
(1/3023)

{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ . . . } [ الأعراف : 133 ]
وقوله سبحانه : { مُّفَصَّلاَتٍ } أي لم يأت بها جل وعلا كلها مجتمعة مع بعضها البعض لتفزعهم دفعة واحدة وتختبرهم أيعلنون الإِيمان أم لا؟ بل جاء سبحانه بكل آية مُفصلة عن الآخرى؛ فلا توجد آية مع آية أخرى في وقت واحد ، أو جاء بها علامات واضحات فيها مواعظ وعبر ، مما يدل على موالاة الإِنذارات للرغبة في أن يَذّكروا ، وأن يرتدعوا ، فلو اذكروا وارتدعوا من آية واحدة يكف عنهم سبحانه البأس .
وأرسل سبحانه الآيات وهي : طوفان ، جراد ، قمل ، ضفادع ، دم ، هذه آيات خمس في هذه آيات خمس في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، ومن قبل قال الحق إنه أخذهم بالسنين ، وكذلك نقص الثمرات ، فأصبحت الآيات سبعاً ، ومن قبل كانت عصا موسى التي كانت تلقف ما صنعه السحرة فصارت ثماني آيات ، وكذلك " اليد البيضاء " التي أراها موسى لفرعون وملئه فيصبح العدد تسع آيات ، إذن فالآيات بترتيبها هي : العصا ، واليد ، والأخذ بالسنين ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم .
والآيات المفصلات . . هي عجائب؛ كل منها عجيبة يسلطها الله على مَن يريد إذلاله ، ويبتلي الله بها نوعا من الناس ولا يبتلي بها قوماً آخرين . فماذا كان موقفهم من الآيات العجائب؟ نجد الحق يذيل الآية : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } . إنهم لم يؤمنوا ، بل تكبروا وأجرموا في حق أنفسهم وقطعوا ما بينهم وبين الإِيمان .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز . . . }
(1/3024)

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
هم إذن بعد أن استكبروا وكانوا قوماً مجرمين ، وتوالت عليهم الأحداث ، والرجز هو الأمور المفزعة وما نزل بهم من العذاب ، وهنا ذهبوا إلى موسى ليسألوه أن يدعو الله ليكشف ويرفع عنهم ما نزل بهم من العقاب . إذن فهم آمنوا بأن موسى مرسل من رب ، وهم قد فهموا أن الرجز الذي عاشوا فيه لن يرتفع إلا من ذلك الرب . وهذا ينقض ربوبية إلههم فرعون ، لأنه لو كانت ربوبية فرعون في عقيدتهم لذهبوا إليه ولم يذهبوا إلى عدوهم موسى ليسألوه أن يدعو لهم الله . ومن هنا نأخذ أكثر من قضية عقدية هي أولاً : أن ألوهية فرعون باطلة ، وثانياً : أن موسى مقبولْ الدعاء عند ربه ، وثالثاً : أنه إن لم يكشف ربه هذا العذاب فسيستمر هذا العذاب ، وكل هذه مقدمات تعطي الإِيمان بالله . { . . . قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ } [ الأعراف : 134 ]
أي ادع ربّك بما أعطاك الله من العهد أن ينصرك لأنك رسوله المؤيَّد بمعجزاته وهو لن يتخلى عنك . ادع الله أن يرفع عنا العذاب والله لئن رفعت وكشفت عنا ما نحن فيه من العذاب لنؤمنن بك ولنصدقن ما جئت به ولنرسلن ونطلقن معك بني إسرائيل ، وقد كانوا يستخدمونهم في أحط وأرذل الأعمال ، ولكنهم في كل مرة بعد أن يكشف الحق عنهم العذاب يعودون إلى نقض العهد بدليل قوله سبحانه عنهم : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز . . . }
(1/3025)

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
فكأن لهم مع كل آية نقضاً للعهد ، وانظر الفرق بين العبارتين : بين قوله الحق : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } وبين قوله السابق : { ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز } ، فمن إذن يكتشف الرجز؟ إن الكشف هنا منسوب إلى الله ، وكل كشف للرجز له مدة يعرفها الحق ، فهو القائل : { إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } .
والنكث هو نقض العهد .
ويتابع سبحانه : { فانتقمنا مِنْهُمْ . . . }
(1/3026)

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
ويوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم ، وفي مقومات حياتهم ، وفي معكرات صفوهم لم يبق إلا أن يهلكوا؛ لأنه لا فائدة منهم؛ لذلك جاء الأمر بإغراقهم ، لا عن جبروت قدرة ، بل عن عدالة تقدير؛ لأنهم كذبوا بالآيات وأقاموا على كفرهم . ويلاحظ هنا أن أهم ما في القضية وهو الإِغراق قد ذكر على هيئة الإِيجاز ، وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل ، فالحق سبحانه يقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } [ الشعراء : 52 ]
ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الإِغراق؛ لأن كل آية في القرآن تعالج موقفاً ، وتعالج لقطة من اللقطات؛ لأن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر ، وهنا يأتي موقف الإِغراق بإجمال : { فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم } .
وكلمة { فَأَغْرَقْنَاهُمْ } لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضاً آخر في سورة أخرى ، فحين خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون ، وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا بمنطق الأحداث : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } . مدركون من فرعون وقومه لأن أمامهم البحر وليس عندهم وسيلة لركوب البحر . لكن موسى المرسل من الله علم أن الله لن يخذله؛ لأنه يريد أن يتم نعمة الهداية على يديه ، كان موسى عليه السلام ممتلئاً باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ]
هو يقول : " كلا " أي لن يدركوكم لا بأسبابه ، بل أسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثيتها معها وقال : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } . لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد ، وأن المسائل لا يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع؛ لأنه لم يؤد المهمة بكاملها ، لذلك قال : " كلا " يملء فيه ، مع أن الأسباب مقطوع بها . فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم ، وأتبع ذلك بقوله : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } بالحفظ والنصرة . . أي أن الأسباب التي سبق أن أرسلها معي الله فوق نطاق أسباب البشر ، فالعصا سبق أن نصره الله بها على السحرة ، وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلاً له : { اضرب بِّعَصَاكَ البحر . . . } [ الشعراء : 63 ]
ونعرف أن البحر وعاء للماء ، وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الاستطراق ، ولو لم يكن الماء سائلاً ، وبه جمود وغلظة لصار قطعاً غير متساوية ، ولكن الذي يعينه على الاستطراق هو حالة السيولة ، ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء .
وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلام : { اضرب بِّعَصَاكَ البحر } [ الشعراء : 63 ]
وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الاستطراق ، ويصور الله هذا الأمر لنا تصويراً دقيقاً فيقول : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } .
(1/3027)

أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل ، ونجد في الجبل الصلابة ، وهكذا فقد الماء السيولة وصار كل فرق كالجبل الواقف ، ولا يقدر على ذلك إلا الخالق ، لأن السيولة والاستطراق سنة كونية ، والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها . وحين سار موسى وقومه في اليابس ، وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الاستطراق حتى لا يتبعه فرعون وجنوده ، وهذا تفكير بشري أيضاً ، ويأتي لموسى أمر من الله : { واترك البحر رَهْواً . . . } [ الدخان : 24 ]
أي اترك البحر ساكناً على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه ، إنه سبحانه لا يريد للماء أن يعود إلى السيولة والاستطراق حتى يُغري الطريق اليابس فرعون وقومه فيأتوا وراءكم ليلحقوا بكم ، فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون؛ ليثبت الحق أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد ، وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله : { فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم } . و " اليم " هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة ، ويطلق مرة على المالح ، ومرة على العذب ، فمثلاً في قصة أم موسى ، يقول الحق : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم . . . } [ القصص : 7 ]
وكان المقصود باليم هناك النيل ، لكن المقصود به هنا في سورة الأعراف هو البحر . ويأتي سبب الإِغراق في قوله : { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } .
كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة ، ونعلم أن الغفلة ليس لها حساب؟ بدليل أن الصائم قد يغفل ويأكل ويصح صيامه . ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذيه بالطعام وحسب له الصيام لأنه غافل . لكن هنا يختلف أمر الغفلة؛ فالمراد ب " غافلين " هنا أنهم قد كانوا قد كذبوا بآيات الله ثم أعرضوا إعراضاً لا يكون إلا عن غافل عن الله وعن منهجه ، ولو أنهم كانوا عباداً مستحضرين لمنهج الله لما صح أن يغفلوا ، وهذا القول يحقق ما سبق ان قاله سبحانه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ . . . } [ الأعراف : 129 ]
ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ]
ويقول الحق تأكيداً لذلك : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين . . . }
(1/3028)

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
أي صارت مصر والشام تحت إمرة بني إسرائيل ، وهي الأرض التي باركها الله ، بالخصب ، وبالنماء ، بالزروع ، بالثمار ، بالحيوانات ، وبكل شيء من مقومات الحياة ، وترف الحياة : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } .
{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي استمرت عليهم الكلمة وتم وعد الله الصادق بالتمكين لبني إسرائيل في الأرض ونصره إياهم على عدوهم ، واكتملت النعمة؛ لأن الله أهلك عدوهم وأورثهم الأرض ، وتحققت كلمته سبحانه التي جاءت على لسان موسى : { . . . وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ]
هكذا تمت كلمة الله بقوله سبحانه : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : 137 ]
ونعلم أن كلمة { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } تقال بالنسبيات؛ فليس هناك مكان اسمه مشرق وآخر اسمه مغرب ، لكن هذه اتجاهات نسبية؛ فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما ، وكذلك يقال له " مغرب " بالنسبة لمكان آخر . وحين ينتقل الإِنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر . وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لهم مغرب ، ومن يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الأوسط بالنسبة لهم مشرق .
وقلنا من قبل : إن الحق حين جاء " بالمشرق والمغرب " بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل على أن لكل مكان مشرقاً ، ولكل مكان مغرباً؛ فإذا غربت الشمس في مكان فهي تشرق في مكان آخر . وفي رمضان نجد الشمس تغرب في القاهرة قبل الإسكندرية بدقائق .
ونعلم أن سبب هذه الدورة إنما هو ليبقى ذكر الله بكل مطلوبات الله في كل أوقات الله ، مثال ذلك حين نصلى نحن صلاة الفجر نجد أناساً يصلون في اللحظة نفسها صلاة الظهر ، ونجد آخرين يصلون صلاة العصر ، وقوماً غيرهم يصلون صلاة المغرب ، وغيرهم يصلي صلاة العشاء . وبذلك تحقق إرادة الله في أن هناك عبادة في كل وقت وفي كل لحظة ، فحين يؤذن مسلم قائلاً " الله أكبر " لينادي لصلاة الفجر ، هناك مسلم آخر يقول : " الله أكبر " مناديًّا لصلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ، وهذا هو الاختلاف في المطالع أراد به سبحانه أن يظل اسمه مذكوراً على كل لسان في كل مكان لتعلو " الله أكبر ، الله أكبر " في كل مكان .
وأنت إذا حسبت الزمن بأقل من الثانية تجد أن كون الله لا يخلو من " لا إله إلا الله " أبداً : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى } . ونعلم أن كلمة " الحسنى " وصف للمؤنث ، و " كلمة " مؤنثة ، والكلمة هي قوله الحق : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } [ القصص : 5 ]
لقد قال الحق القصة بإيجاز ، وهذه هي التي قالها ربنا وهي كلمة " الحسنى " لأنه سبحانه لم يعط لهم نعمة معاصرة لنعمة العدو ، بل نعمة على أنقاض العدو ، فهي نعمة تضم إهلاك عدوهم ، ثم أعطاهم بعد ذلك أن جعلهم أئمة وهداة وورثهم الأرض : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } .
(1/3029)

وهم بالفعل قد صبروا على الإِيذاء الذي نالوه وذكره سبحانه من قبل حين قال : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ . . . } [ البقرة : 49 ]
وجاء عقاب الله لقوم فرعون : { . . . وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ]
والتدمير هو أن تدرك شيئاً وتخربه ، وقد ظل ما فعله الله بقوم فرعون باقيًّا في الآثار التي تدلك على عظمة ما فعلوا ، وتجد العلماء في كل يوم يكتشفون تحت الأرض آثاراً كثيرة . ومن العجيب أن كل كشوف الآثار تكون تحت الأرض ، ولا يوجد كشف أثري جاء من فوق الأرض أبداً .
وكلمة " دمرنا " تدل على أن الأشياء المدمرة كانت عالية الارتفاع ثم جاءت عوامل التعرية لتغطيها ، ويبقى الله شواهد منها لتعطينا نوع ما عمّروا؛ كالأهرام مثلاً . وكل يوم نكتشف آثاراً جديدة موجودة تحت الأرض مثلما اكتشفنا مدينة طيبة في وادي الملوك ، وكانت مغطاة بالتراب بفعل عوامل التعرية التي تنقل الرمال من مكان إلى مكان . وأنت إن غبت عن بيتك شهراً ومع أنك تغلق الأبواب والشبابيك قبل السفر؛ ثم تعود فتجد التراب يغطي جميع المنزل والأثاث؛ كل ذلك بفعل عوامل التعرية التي تنفذ من أدق الفتحات ، ولذلك لو نظرت إلى القرى القديمة قبل أن تنشأ عمليات الرصف التي تثبت الأرض نجد طرقات القرية التي تقود إلى البيوت ترتفع مع الزمن شيئاً فشيئاً وكل بيت تنزل به قليلاً ، وكل فترة يردمون أرضية البيوت لتعلو ، وكل ذلك من عوامل التعرية التي تزيد من ارتفاع أرضية الشوارع . وكل آثار الدنيا لا تكتشف إلا بالتنقيب ، إذن فكلمة " دمرنا " لها سند . والحق يقول عن أبنية فرعون : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 10 ]
ونجد الهرم مثلاً كشاهد على قوة البناء ، وإلى الآن لم يكتشف أحد كيف تم بناء الهرم . وكيف تتماسك صخوره دون مادة كالأسمنت مثلاً ، بل يقال : إن بناء الهرم قد تم بأسلوب تفريغ الهواء ، ولا أحد يعرف كيف نقل المصريون الصخرة التي على قمة الهرم . إذن فقد كانوا على علم واسع . وإذا ما نظرنا إلى هذا العلم عمارة وآثاراً وتحنيطاً لجثث القدماء ، إذا نظرت إلى كل هذا وعلمت أن القائمين به كانوا من الكهنة المنسوبين للدين ، لتأكدنا أن أسرار هذه المسائل كلها كانت عند رجال الدين ، وأصل الدين من السماء ، وإن كان قد حُرِّف . وهذا يؤكد لنا أن الحق هو الذي هدى الناس من أول الخلق إلى واسع العلم . { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ]
و " يعرشون " أي يقيمون جنات معروشات ، وقلنا من قبل : إن الزروع مرة تكون على سطح الأرض وليس لها ساق ومرة يكون لها ساق ، وثالثة يكون لها ساق لينة فيصنعون له عريشة أو كما نسميه نحن التكعيبة لتحمله وتحمل ثمرهُ .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ . . . }
(1/3030)

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم الله إنجاء من عدو ، واستخلافاً في الأرض ، ومع ذلك بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنماً طالبوا موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه . لقد حسدوا من يجهلون قيمة الإِيمان ويعكفون على عبادة الأصنام ، ويعكف تعني أن يقيم إقامة لازمة ، ومنه الاعتكاف في المسجد ، أي الانقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة الله في بيته . { يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ . . . } [ الأعراف : 138 ]
وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء ، كأن الإِله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ عليهم من النعم الكثير ، وهذه أول خيبة ، وهم يريدون أن يكون الإِله مجعولاً برغم أن الإِله بكمالاته وطلاقة قدرته جاعل ، ولكن عقيلتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها الإِيمان . وقالوا : اجعل لنا إلهاً! وأرادوا أن ينحت لهم الأصنام ، وقد يقول واحد منهم : رأس الإِله كبيرة قليلاً صغّرها بعض الشيء ، وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالإِزميل ، وقولهم : { اجعل لَّنَآ إلها } . وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الإِيمان؛ لذلك يقول لهم موسى : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } .
ولم يقل لهم : " لا تعلمون " بل قال : " تجهلون " لأن هناك فارقاً بين عدم العلم بالشيء ، وبين الجهل بالشيء ، فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خالياً من أي قضية ، أما " الجهل " فهو يعني أن تعلم مناقضاً للقضية ، إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية . أما الذي لا يعلم فليس في باله قضية ، وحين تأتي له القضية يقتنع بها ، ولا يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل الأمي مثلاً الذي لا يعلم ، لأن ذهنه خال من قضية ، أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من الرسول إلى عمليتين عقليتين : الأولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل ، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة ، إن الذي يخرج ما في نفسه من قضية الجهل ، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة ، إن الذي يرهق العالم هم الجهلاء لا الأميون ، لأن الأمي حين تعطي له المعلومة فليس عنده ما يناقضها . لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ . . . }
(1/3031)

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
و { مُتَبَّرٌ } أي هالك ومدمر ، وهنا يوضح لهم موسى أن هؤلاء الجماعة التي تعبد الأصنام؛ وهم وأصنامهم هالكون ، وما يعملون هو باطل لأن قضايا الكون إن أردتم أن تعرفوا حقيقتها ، فلابد لها من ثبوث ، والحق ثابت لا يتغير أبداً لأن له واقعاً يُستقرأ ، ومثال ذلك إذا حصلت حادثة بالفعل أمامنا جميعاً ، ثم طلب من كل واحد على انفراد أن يقول ما رآه فلن نختلف في الوصف لأننا نستوحي واقعاً ، لكن إن كانت القضية غير واقعية فكل واحد سيقولها بشكل مختلف ، ولذلك نجد من لباقة القضاء أن القاضي يحاور الشهود محاورات ليتبيّن ما يثبتون عليه وما يتضاربون فيه . وإن كان الشهود يستوحون حقيقة واقعية ، فلن يختلفوا في روايتهم ، ولكنهم يختلفون حين لا يتأكد أحدهم من الواقعة أو أن تكون غير حقيقية .
والمثل العربي يقول : " إن كنت كذوباً فكن ذكوراً " أي إن كذبت - والعياذ بالله - وقلت قولاً غير صادق فعليك أن تتذكر كذبتك ، وأنت لن تتذكرها لأنها أمر متخيّل وليس أمراً ثابتاً . وقد يجوز أن يأخذ غير الواقع زهوة ولمعاناً فنقول : إياك أن تغتر بهذه الزهوة لأن الحق سبحانه وتعالى يقول : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } [ الرعد : 17 ]
لقد شبه سبحانه الباطل بالزبد وهو ما يعلو السائل أو الماء من الرغوة والقش والمخلفات التي تعوم على سطح المياه إنه يتلاشى ويذهب ، أما ما ينفع الناس فيبقى . ونحن نختبر المعادن لنعرف هل هي مغشوشة أو لا . . ونعرضها على النار ، فيطفوا ما فيها من مادة غير أصيلة وما فيها من شوائب ، ويبقى في القاع المعدن الأصيل .
وهنا يقول الحق على لسان موسى : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 139 ]
والأحداث إما فعل أو قول ، والقول : عملية اللسان ، والفعل : لبقية الجوارح ، وكل الأحداث ناشئة عن قول أو عن فعل ، والقول والفعل معاً هما " عمل " . ولذلك يقول الحق : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ]
إذن فالعمل يشمل القول ، ويشمل الفعل .
وقوله الحق : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إن الأصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها ، كانت تقوم على أقوال وأفعال ، كأن يقولوا : يا هبلٍ ، يا لات ، يا عزّى ، ويناجون هذه الأصنام ويطلبون منها أن تحقق لهم بعضاً من الأعمال وكانوا يقفون أمامها صاغرين أذلاء ، إذن فقد صدر منهم قول وفعل يضمهما معاً العمل .
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام : { قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ . . . }
(1/3032)

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
هم حينما قالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، قال لهم أولاً : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ، ثم قال : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، وبعد ذلك رجع إلى الدليل على أن هذا طلب جهل ، وأن الذين يعبدون الأصنام من دون الله إنما يفعلون باطلاً؛ فقال : { قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } .
وقوله : { أَغَيْرَ الله } أي أن الإِله الذي عرفتم بالتجربة العملية أنه فضلكم على العالمين ورأيتم ما صنع بعدوكم الذي استذلكم وسامكم سوء العذاب ، إنه قد أهلكه ودمره ، هل يمكن أن تطلبوا ربًّا غيره؟
وقوله : { قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ } أي أأطلب لكم إلهاً غيره؟ وفي سؤاله هذا استنكار لأنه يتبعه بتفضيل الله لهم على العالم ، ثم أراد أن يذكرهم بقمة التفضيل لهم فيقول سبحانه على لسان موسى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ . . . }
(1/3033)

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
وإذا سمعت " إذ " فافهم ان معناها ظرف زمان يريد الحق أن نتذكر ما حدث فيه ، و " إذ " يعني جيداً ولا يغيب عن بالكم حين أنجاكم الله من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وأفظعه وأشده .
ويقول بعدها مبيناً ومفسراً ذلك العذاب : { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } .
ونلحظ أنه لم يأت بالعطف هنا ، فلم يقل : يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم . مما يدل على أنه جاء بقمة سوء العذاب؛ لأن الاحتقار ، والتسخير هما جزء من العذاب . لكن قمة العذاب هي تقتيل الأبناء ، واستحياء النساء .
وفي آية ثانية يقول سبحانه : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ . . . } [ البقرة : 49 ]
أي أنهم تعرضوا للتقتيل ، وتعرضوا للتذبيح ، وفي آية ثالثة يقول : { إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ . . . } [ إبراهيم : 6 ]
لقد جاء ب " الواو " هنا للعطف . لأن المتكلم هنا مختلف ، فقد يكون المتكلم الله ، وسبحانه يمتن بقمة النعم . لكن : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا } ، فموسى يمتن بكل النعم التي ساقها الله إلى بني إسرائيل صغيرة وكبيرة .
ويذيل الحق الآية الكريمة : { وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } .
هو بلاء شديد الإِيلام والوقع لفراق من يقتل أو يذبح ، وبلاء آخر في الهم والحزن على من يستبقي من النساء لاستباحة أعراضهن وامتهانهن في الخدمة .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَوَاعَدْنَا موسى . . . }
(1/3034)

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وعلمنا من قبل في مسألة الأعداد أن هناك أسلوبين : الأسلوب الأول إجمالي ، والثاني تفصيلي؛ فمرة يتفق التفصيل مع الإِجمال ، وبذلك لا توجد شبهة أو إشكال ، وسبحانه في سورة البقرة يقول : { وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً . . . } [ البقرة : 51 ]
جاء بها هناك بالإِجمال . لكنه شاء هنا في سورة الأعراف ألا يأتي بها مرة واحدة مجملة . بل فصلها بثلاثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد ، ليكون الميقات قد تم أربعين ليلة ، وإذا جاء العدد مجملاً مرة ، ومفصلاً مرة ، واتفق الإِجمال مع التفصيل فلا إشكال . لكن إذا اختلف الإِجمال عن التفصيل فعادة يُحْمَل التفصيل على الإِجمال ، لأن المفصَّل يمكن أن يتداخل ليصير إلى الإِجمال .
وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والأرض في ستة أيام ، وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة أيام وهي مجملة . لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقول : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 9-10 ]
وظاهر الأمر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام ، لكنه قال جل وعلا بعدها : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ . . } [ فصلت : 11-12 ]
وهنا في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالاً وتفصيلاً ، والتفصيل يصل في ظاهر الأمر بأيام الخلق إلى ثمانية ، والإِجمال يحكي أنها ستة أيام فقط .
فهل هي ستة أيام أم ثمانية أيام؟ نقول : إنها ستة أيام لأننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في بعضه ، فإذا قلت : سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين ، وإلى الإِسكندرية في ثلاث ساعات ، فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلاث الساعات : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } .
والوعد هو أن الله وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه - سبحانه - سينزل عليه كتاباً يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق الله لتسير حركة حياتهم عليه ، لكن ما إن ذهب موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل ، في مدة الثلاثين يوماً ولم يشأ الله أن يرسل موسى بعد الثلاثين يوماً بل أتمها بعشر آخر حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه؛ لأنه بعد أن عاد أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل . وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون : { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }
(1/3035)

[ طه : 94 ]
فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلاثين يوماً ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة .
وهنا يقول الحق في سورة الأعراف : { وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ]
و " اخلفني " أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة فاستخلاف موسى لهارون ليس تكليفاً لهارون بامتداد إرسال الله لموسى وهارون ، فأسلوب تقديم موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ . . . } [ طه : 47 ]
لأن كلاًّ منهما رسول ، وقول الحق : { وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ } فيه التحنن ، أي أنني لي بك صلة قبل أن تكون شريكاً لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي ، ومن حقي عليك أن تسمع كلامي وتخلفني . فالأخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية الأخوة والمشاركة في الرسالة . وأكد موسى عليه السلام بكلمة " قومي " أنهم أعزاء عليه ، ولا يريد بهم إلا الخير الذي يريده لنفسه ، فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم ، وإذا نهاكم نهيّا فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه .
وقيل كان موسى عليه السلام قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه ، ولابد أن يكون الإِعداد بطهر وبتطهير وبتزكية النفس بصيام ، فصام ثلاثين يوماً ، وبعد ذلك أنكر رائحة فمه ، فأخذ سواكاً وتسوك به ليذهب رائحة فمه ، فأوضح الحق سبحانه له : أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك . وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد أن تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة أيام؛ حتى تأتي كذلك . وقال بعض العلماء : إن تفصيل الأربعين إلى ثلاثين وإلى عشرة ، لأن الثلاثين يوماً هي الأيام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل ، فكان ولابد أن تكون هناك فترة من الفترات؛ حتى يميز الله الخبيث من الطيب . { وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ]
وهنا أمر ونهى " أصلح " هي أمر ، و " لا تتبع " هي نهي ، ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه وتعالى محصورة في " افعل كذا " ، و " لا تفعل كذا " ، ولا يقول الحق للمكلَّفين : " افعلوا كذا " إلا إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل ، وإن قال لهم : " لا تفعلوا " فلابد أن يكونوا صالحين للفعل ولعدم الفعل ، ولذلك أوضحنا من قبل ان الله ركز كل التكاليف في مسألة آدم وحواء في الجنة فقال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } ، وكان هذا هو الأمر . وقال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } ، وهذا نهي : { وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } .
وكلمة " أصلح " تستلزم أن يبقى الصالح على صلاحه فلا يفسده ، وإن شاء الله يزيد فيه صلاحاً فليفعل .
(1/3036)

وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } لأنه قول موجه لنبي وهو هارون ، لا يتأتى منه الإِفساد ، ولكنَّ موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل ، فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد ، فقصارى ما يطلبه من أخيه هارون ألاَّ يتبع سبيل المفسدين ، ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبرراً تركه بني إسرائيل على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه . { . . . إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ]
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَمَّا جَآءَ موسى . . . }
(1/3037)

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
والميقات هو الوقت الذي يعد لعمل من الأعمال . ونسميه وقت العمل . وغلب على أشياء في الإِسلام ، كمواقيت الحج . ونحن نعلم أن كل عمل وحدث يتطلب أمرين يُظْرَف فيهما ، أي يكونان ظرفاً له؛ فلابد له من مكان يحدث فيه ، ومن زمان يحدث فيه كذلك ، واسمهما ظرف الزمان ، وظرف المكان . إلا أن ظرف الزمان غير قار أي غير ثابت؛ فقد يأتي الصبح ويذهب ويأتي بعده ، الظهر ، والعصر والمغرب والعشاء . لكن ظرف المكان قار وثابت .
والمواقيت - إذن - إما أن يتحكم فيها الزمان ، وإما أن يتحكم فيها المكان ، وإما أن يتحكم فيها المكان والزمان معاً . فإذا أخذنا المواقيت على أنها زمن كل فعل نجد فريضة " الصوم " لها زمن محدد وهو رمضان . فالذي يتحكم في الصوم هو الزمن ، فيكون ويحدث في أي مكان . وكذلك صيام عرفة يتحكم فيه أيضاً الزمان لأنه صيام يوم عرفة ، ومن يجلس في أي مكان يصوم يوم عرفة ولكنه غير مطلوب من الحاج . ولكن الوقوف بعرفة يتحكم فيه المكان والزمان معاً . والإِحرام بالحج أو العمرة يتحكم فيه المكان وهو ما يسمى بالميقات المكاني ولكل أهل جهة ميقاتهم المكاني الذي يطلب منهم ألاَّ يمروا عليه إلاَّ وهم محرمون . فمرة يتحكم الزمان ، ومرة يتحكم المكان ، وثالثة يتحكمان معاً .
وجاء موسى لميقاتنا المضروب له بعد أربعين ليلة .
وهل جاء موسى للميقات أو جاء في الميقات؟ لقد جاء في الميقات ، واللام تأتي بمعنى " عند " . ونعلم أن " اللام " تأتي بمعنى " عند " كثيراً في القرآن ، مثل قوله : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل . . . } [ الإِسراء : 78 ]
أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس أي عند زوالها عن وسط وكبد السماء إلى غسق الليل . ومن الدلوك إلى الغسق نجد صلاة الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء ، وهذه أربعة فروض ، وبقي الفرض الخامس وهو الفجر ، وقال فيه الحق : { . . . وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } [ الإِسراء : 78 ]
ولماذا بدأ بدلوك الشمس؟ وهل النهار يبدأ بالظهر أو يبدأ بالصبح؟ . إن الإسراء والمعراج كانا ليلاً ، ورسول الله جاء صباحاً إلى مكة ، وقد فرضت الصلاة في المعراج ، فكانت أول فريضة هي الظهر ، وكأن الحق يعني خذ الغاية وخذ البداية ، وكانت البداية هي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبقي الفجر ، وجاء فيه : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } .
ثم يخص الله رسوله بالتهجد وهو قيام الليل إنه فرض على رسول الله دون غيره ، فإنه بالنسبة لسائر الأمة تطوع . { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإِسراء : 79 ]
ومن يتشبه برسول الله فله الثواب الجزيل والأجر العظيم ولكن هذا الأمر مرجعه إلى اختيار المسلم : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } .
(1/3038)

وهذه المسألة تحتاج إلى بحث ، وقوله سبحانه : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } هو قول يدل على أن كلاماً حصل من الله لموسى فكيف يحدث ذلك وسبحانه قد قال في مسألة الكلام بالنسبة للبشر كلاماً عاماً : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ . . . } [ الشورى : 51 ]
وفي هذا نفي أن يكلم الله البشر . إلا بالوسائل الثلاث : الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً ، والوحي بالنسبة للأنبياء يكون بإلقاء المعنى في قلب النبي دفعة ، مع العلم اليقيني بأن ذلك من الله عز وجل ، وقد يراد بالوحي الإِلهامات؛ مثل الوحي إلى أم موسى ، والوحي إلى الحواريين ، وكذلك إلى الملائكة ، وقد يراد بالوحي : التسخير؛ كالوحي للأرض ، والنحل .
وبعد ذلك . . { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي أن يسمع كلاماً ولا يرى متكلماً ، { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } هو جبريل عليه السلام . والقرآن لم ينزل إلا بطريقة واحدة ، بواسطة نزول جبريل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فما نزل القرآن بالإِلهام ، وما نزل القرآن من وراء حجاب بل نزل بواسطة رسول من الله وهو جبريل وله علامات .
وهنا في كلام موسى نقول إن الكلام وقع فيه من وراء حجاب وهنا نمسك عن الخوض فيما وراء ذلك لأنه غيب لم يكشف لنا عنه ونترك الأمر فيه الله .
وقد سبق أن قلنا : إن صفات الله لا يوجد مثلها في البشر . فليس وجود الإِنسان كوجود الله ، وليس غنى الإِنسان كغنى الله ، وكذلك لن يكون أبداً كلامك ككلام الله ، لأن كل شيء يخص الله إنما نأخذه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وقد بين الحق سبحانه وتعالى أن كلامه لموسى تميز لموسى ، ولذلك يقول الحق : { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي . . . } [ الأعراف : 144 ]
ويجب أن نأخذ كل وصف يوجد في البشر ، ويوجد مثله . في وصف الله مثل " استوى " ، و " جلس " و " وجه " ، و " يد " نأخذ كل ذلك في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ . . . } [ الأعراف : 143 ]
وحينما خص الله موسى بميزة أن تكلم إليه ، حصل من موسى استشراق اصطفائي ، وكأنه قال لنفسه : مادام قد كلمني فقد أقدر أن أراه؛ لأن استطابة الأنس تمد للنفس سبل الأمل في الامتداد في الأشياء مثلما قال موسى من قبل رداً على سؤال الله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } [ طه : 17 ]
كان الجواب يكفي أن يقول : " عصا " لكنه قال : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي . . . } [ طه : 18 ]
قال ذلك على الرغم من أن الحق لم يسأله : ما تفعل بها؟ وأراد بالكلام أن يطيل الأنس بربه ، وكأنه عرف أنه من غير اللائق أن يكون الجواب مجرد كلمة رداً على سؤال .
(1/3039)

ولله المثل الأعلى - نجد الإِنسان منا حين يرى طفلاً صغيراً فهو يداعبه ويطيل الكلام معه إيناساً له . وحين وجد موسى أن الله يكلمه استشرفت نفسه أن يراه : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
لم يقل موسى : أرني ذاتك . بل قال : { أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه لا يمكن أن يرى الله ، لكن إن أراه الله ، فهذا أمر بمشيئة الحق وقدم موسى الطلب معلقاً بمشيئة الله وإرادته؛ لأنه يعلم أنه غير معد لاستقبال رؤية الله؛ لأن تكوينه لا يقوى على ذلك ، وحتى في الوحي والكلام لم يكلم ربنا الناس مباشرة ، بل لابد أن يصطفى من الملائكة رسلاً ، ثم تكون مرحلة ثانية أن يصطفى من البشر رسلاً ، ويبلغ الرسل الناس كلام الله؛ لأن الصفات الكمالية العليا الخالقة لا يمكن أن يستوعبها المخلوق .
ضربنا المثل من قبل - ولله المثل الأعلى - بصناعات البشر ، وأن الإِنسان حين ينام ليلاً ، قد يستيقظ لأي شيء ، فإذا كانت الدنيا ظلاماً قد يحطم الأشياء التي هي أقل منه أو تحطمه الأشياء التي هي أكثر صلابه منه؛ وإن اصطدم بشيء صغير فقد يكسره ، وإن اصطدم بدولاب أو حائط فقد ينكسر الإِنسان . ولذلك ترك الإِنسان في البيت شيئاً من النور الضئيل؛ ليستفيد من سكون الليل وظلمته ، فيضع ما نسميه " الوناسة " قوة شمعتين أو خمس شمعات ، ولا يقدر أن يركبها على قوة التيار الموجود في المنزل؛ لأنها تفسد فوراً ، لذلك يأتي لها بمحول يأخذ من القوي ويعطي الضعيف .
إذن إذا كانت صناعة البشر نجد فيها الضعيف الذي لا يأخذ من القوي إلا بواسطة ، فمن باب أولى أنه لا يمكن أن يتلقى خلق الله عن الله إلا بواسطة . وكانت الواسطة من البشر اصطفاء ومن الملائكة اصطفاء ، فليس كل ذلك صالحاً لهذه المسألة ، فمصطفى من الملائكة يعطي مصطفى من البشر .
وبعد ذلك يعطي المصطفى من البشر للبشر . كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي الله الدليل على أنه خلقكم لا على هيئة أن تروه الآن ، ولكن حين تبرزون في الآخرة وتعدون إعداداً آخر ، فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيته : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
ولا يستوي الناس في ذلك؛ لأن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى الله ، أما الكافر فهو محجوب عن رؤية الحق . يقول تعالى في شأن الكفار : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } فلا يستوي المؤمن والكافر في هذه الحالة ، فمادام الكافر محجوبا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربَّه . وقال موسى : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
(1/3040)

قال الحق : { قَالَ لَن تَرَانِي } .
وفي اللغة نجد أن " لن " تأتي تأبيدية ، أي تؤبد المستقبل أي لا يحدث ولا يتحقق ما بعدها . فهل معنى ذلك أن قول الحق : { لَن تَرَانِي } أن موسى لن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة؟ . ونقول : ومن قال إن زمن الآخرة هو زمن الدنيا؟ إن هذه لها زمن وتلك لها زمن آخر : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ]
إذن فزمن الآخرة وإعادة الخلق فيها سيكون أمراً آخر ، يكفي أن أهل الجنة سيأكلون ولن تكون لهم فضلات ، إنه خلق جديد . إن مجيء " لن " في قوله الحق : { لَن تَرَانِي } تأبيدها إضافي ، أي بالنسبة للدنيا ، وفيها تعليل لعدم قدرة موسى على الرؤية ، وأضاف سبحانه : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً . . . } [ الأعراف : 143 ]
وسبحانه هنا يعلل لموسى بعملية واقعية فأوضح : لن تراني ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق بصورة لا تمكنك من رؤيتي انظر إلى الجبل ، والجبل مفروض فيه الصلابة ، والقوة ، والثبات ، والتماسك؛ فإن استقر مكانه ، يمكنك أن تراني . إن الجبل بحكم الواقع ، وبحكم العقل ، وبحكم المنطق أقوى من الإِنسان ، وأصلب منه وأشد ، ولما تجلّى ربه للجبل اندك . والدكُّ هو الضغط على شيء من أعلى ليسوَّي بشيء أسفل منه . والحق هو القائل : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } [ الفجر : 21 ]
وهنا في موقف موسى وحواره مع الله يتأكد لنا أن الله تجلى على خلق من خلقه ، ولكن أيقدر المتجلَِّي عليه على هذا التجلي أم لا يقدر؟ . إن أقدره الله فهو يقدر ، أما إن لم يقدره الله فلن يقدر . والجبل هو الأصلب ، فلما تجلى له ربه اندك ، إذن فمن الممكن أن يتجلى الله على بعض خلقه ، ولكن المهم أيقوى المستقبل للتجلي أو لا يقوى؟ ولم تقو طبيعة موسى على التجلي لله بدليل أن الأقوى منه لم يقو . وبعد ذلك أراد الله أن يلفتنا لفتة تصاعدية . ويبين لنا أن موسى قد صعق لرؤية المتجلَّى عليه فكيف لو رأى المتجلِّي؟!! { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً } . ويقال : خر الشيء إذا سقط من أعلى إلى أسفل ، ويقول الحق في آية قرآنية : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً . . . } [ ص : 24 ]
والحق يخبرنا هنا : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } ، وصعقه تُطلق ويراد بها الوفاة ، ولكن هنا صعقة أخرى تعبر عن الإِغماءة الطويلة . وصعقة الوفاة يقول فيها الحق سبحانه : { . . . فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ]
إذن النفخة الأولى لصعق وموت الجميع ، ثم تأتي النفخة الثانية للبعث . وهنا يقول الحق : { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } .
(1/3041)

وهذا يدل على أن الصعقة ليست هي الصعقة المميتة ، وأفاق سيدنا موسى من الصعقة ، وانتبه إلى أنه لم يكن من اللائق أن يطلب الرؤية المباشرة لله . وكما نقول : " فلان فاق لنفسه " وهنا " أفاق " موسى على حاجتبن اثنتين ، أفاق من الغشية التي حصلت له من الصعقة ، وكأنَّه تساءل : لماذا انصعقت؟ لقد انصعق لأنه سأل ربنا ما ليس له به علم : { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ } ، وساعة تسمع كلمة " سبحانك " اعرف أنَّه يراد بها التنزيه لله من الحدث الذي نحن بصدده وهو رؤيته - تعالى - أي تنزيها لك يا رب أن يراك مخلوقك؛ لأن الرؤية قدرة بصر على مرئي ، ومعنى : " رأيت الشيء " أي أن عين البشر قد قدرت على الشيء ، ولو أننا نحن المخلوقين رأينا الله بقانون الضوء ، فهذا يعني أن أبصارنا تقدر على ربنا وهذا لا يمكن أبداً؛ لأن المقدور لا ينقلب قادراً ، والقادر لا ينقلب مقدوراً . { . . . فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } [ الأعراف : 143 ]
وتوبة موسى هنا من أنه سأل الله ما ليس له به علم ، ولأنه لم يقف عند التجليات المخالفة لنواميس الكون ، وأنَّ ربنا فقد أعطاه بدون أن يسأل ، لقد كلمه الله ، فلماذا يُصعد المسألة ويطلب الرؤية؟ ولماذا لم يترك الأمور للفيوضات التي يعطيها الله له ويتنعم بفيض جود لا ببذل مجهود؟ .
ويقرر موسى ويقول : { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } ، أي بأنّ ذاتك - سبحانك - لا يقدر مخلوق أن يراها ويدركها . لقد شعر موسى ببعض من انكسار الخاطر لأنه طمح إلى ما يفوق استطاعته وقال : { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } وكأنه قد فهم ما أوضحه الحق له : لا تلتفت إلى ما منعتك ، ولكن انظر إلى ما أعطيتك : { قَالَ ياموسى إِنِّي . . . }
(1/3042)

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
والاصطفاء هو استخلاص الصفوة ، وقوله : { اصطفيتك عَلَى الناس } تعبير فيه دقة الأداء لأنه لو قال اصطفيتك فقط ، ولم يقل على الناس ، فقد يُفهم الاصطفاء على الملائكة أيضاً . ولكن الاصطفاء هنا محدد في دائرة الاصطفاء البشري : { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } . ولقائل أن يقول : إن الحق اصطفى غيره أيضاً من الرسل ، والحق هو القائل : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً . . . } [ آل عمران : 33 ]
ونقول : هناك فرق بين اصطفاء رسالة منفردة ، وبين اصطفاء في رسالة ومعها شيء زائد ، وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فإذا جئت كمدرس لتلاميذ وأعطيت واحداً منهم هدية عبارة عن قلم كمكافأة ، ثم أعطيت الثاني قلماً وزجاجة حبر ، أنت بذلك اصطفيت التلميذ الأول بهدية القلم ، واصطفيت الآخر باجتماع قلم وزجاجة حبر في هدية واحدة . والاصطفاء هنا لموسى بالرسالة كما اصطفى غيره من الرسل بالإضافة إلى شرف الكلام : { اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } .
وعرفنا من قبل أن " رسالاتي " هي في مجموعها رسالة واحدة ، ولكن الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرت جزئياتها ثلاثاً وعشرين سنة في النزول ، فكأن كل نجم رسالة ، أو كل باب من أبواب الخير رسالة ، فهي رسالات متعددة ، أو أن رسالته جمعت رسالات السابقين : { قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } [ الأعراف : 144 ]
أي لا تنظر إلى ما منعتك ، بل اذكر أني اصطفيتك وكلمتك وعليك أن تشكر لي هذا . ولذلك يجب على الإِنسان المؤمن حين يتلقى قضاء الله فيه أن ينظر دائماً إلى ما بقي له من النعم . لا إلى ما سلب عنه من النعم . ولذلك نجد المؤمن المتفاءل ينظر إلى الكوب الذي نصفه مملوء بالماء فيقول : الحمد لله نصف الكوب ملآن . أما المتشائم فيقول : إن نصف الكوب فارغ ، وبرغم أن كُلاًّ منهما يقرر الحقيقة إلا أن المؤمن المتفائل نظر إلى ما بقي من نعم الله .
إننا نجد ابن جعفر حين ذهب للخليفة الأموي في دمشق وجرحت رجله في أثناء السير من المدينة إلى دمشق ، ولم تكن هناك عناية طبية فتقيحت ، وحين أحضروا له الأطباء وقرروا قطع رجله ، قال بعض الحاضرين : التمسوا له مرقداً أي دواء تخدير يجعله لا يحس بالألم ، فقال : لا ، فإني لا أريد أن أغفل عن ربي لحظة عين ، فلما قطعوها أخذوها ليدفنوها ، فقال هاتوها . فأحضروها له وأمسك بها وقال : اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو فقد عافيت في أعضاء .
هذه نظرة المؤمن الذي لا ينظر إلى ما أُخذ منه بل ينظر إلى ما بقي له . وكذلك كان توجيه الحق لموسى عليه السلام ، فقد أوضح له : لا تنظر إلى أني منعتك الرؤية ، لا ، بل انظر الاصطفاء وشرف الكلمة إلى الخالق واشكر ذلك .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح . . . }
(1/3043)

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
والكتْب هو الرقم بقلم على ما يكتب عليه من ورق أو جلد أو عظم أو أي شيء ، وعندما يقول ربنا : { وَكَتَبْنَا } فالله لم يزاول الكتابة بنفسه ، ولكن أرسله من الملائكة يكتبون بأمر من الحق وهو القائل : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ . . . } [ يس : 12 ]
وكتابة الرسل من الملائكة لأعمالنا هي بالأمر من الله ، ومرة ينسب الأمر إلى الأعلى ، أو ينسب إلى المباشر أو إلى الواسطة : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً } .
ونحن نعرف الألواح ، وكنا نكتب عليها قديماً . وللكتابة على الألواح سبب ، فقديماً كانوا يكتبون على أي شيء مبسوط ، وتبين لنا الآثار أن هناك كتباً مكتوبة على جلود الحيوانات ، مثلاً نجد قدماء المصريين قد كتبوا على الأحجار ، مثل حجر رشيد الذي أتاح لنا معرفة تاريخهم . وكان العرب يكتبون على القحف المأخوذ من النخل ، وكذلك كتبوا على عظام الذبائح ، أخذوا منها قطعة العظم المبسوطة مثل عظم اللوح وكتبوا عليها ، وكانت هذه الوسيلة مشهورة جدًّا لديهم ، وصار كل مكتوب يسمونه لوحاً . { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ . . . } [ الأعراف : 145 ]
وقوله سبحانه : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } يعني : من كل شيء تتطلبه خلافة الإِنسان في الأرض في الوقت المناسب له؛ فالرسل تأتي بعقيدة ، لكن قد يأتي تشريع مناسب للفترة الزمنية التي جاء فيها الرسول ، ويضيف الله لرسول آخر يأتي من بعده ، إلى أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج المكتمل إلى قيام الساعة .
لقد أوضح سبحانه أنه كتب في الألواح الموعظة والتفصيل لمنهج الحياة ، والموعظة تعني ألاَّ تنشئ حكماً للسامع ، بل تعظه بتنفيذ ما عُلِم له من قبل ، ولذلك يقال : واعظ وهو الذي لا يُنشئ مسائل جديدة . بل يعرف أن المستمع يعلم أركان الدين ويعظه بما يعلم .
وقوله الحق سبحانه : { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي أن الكلام لم يأت مجملاً ، بل يأتي بالتفصيل ، ويأمر الحق موسى أن يقبل على الموعظة والتفصيلات التي في الألواح بقوة . ولماذا جاء الأمر هنا بأن يأخذها بقوة؟ لأن الإِنسان حين يؤمر أمراً قد يكون الأمر مخالفاً لرتابة ما ألف ، وحين يُنهي نهيا قد يكون هذا النهي مخالفاً لرتابة ما ألف . وبذلك ينزع هذا النهي أو ذلك الأمر الإِنسان مما ألف ، ويأخذه ويخرجه عما اعتاد .
إن الإِنسان في هذه الحالة يحتاج إلى قوة نفس تتغلب على الشهوة الرتيبة التي تخلقها العادة ، ولذلك فمن يريد أن يقبل على منهج الله فعليه أن يعرف أن المنهج سوف يخرجه مما ألف ، ولابد أن يقبل على المنهج بقوة وعزم ليواجه إلف النفس ، لأن إلف النفس قد يقول للإِنسان : لا تفعل ، والمنهج يقول له : " افعل " وعلى المؤمن - إذن - أن يأخذ التكاليف بقوة ، لأن شهوات النفس تحقق متع الدنيا الزائلة ، والمنهج يعطي متعة طويلة الأجل .
(1/3044)

إن الشهوة قد تحقق للإِنسان لذة على مقدار قدرته واستعداده ، لكن التكليف يعطي للمؤمن نفعاً يتناسب مع طلاقة قدرة الله في النفع . إذن لابد أن تشحن نفسك بما يعطيه الله لك من المنهج ، وإياك ساعة أن ترى المنهج مطالباً لك ببعض من الجهد أن تقول : إن تلك أمور صعبة لأنك لست وحدك في المنهج ، بل معك غيرك . فإذا قال لك : لا تسرق ، إياك أن تقول : أيحدد المنهج حريتي؟ لا ، لا تنظر إلى أن حظر وتحريم السرقة هو تحديد لحريتك بل هو صيانة لك من أن يعتدي عليك آخرون؛ فقد قال المنهج للناس كلهم لا تسرقوا منه وأنت الكاسب في هذه الحالة . ويتابع الحق بيان ما في الألواح من قيم فيقول سبحانه : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } .
" أحسن " تفيد أن هناك مرتبة أقل منها وهي " حسن "؛ فأمرهم الحق أن يتركوا الحسن ويأخذوا بالأحسن ، ونعلم أن الإِنسان من الأغيار ، إذا ما أصابته مصيبة من أحد يعتبره غريماً له ، فإذا ما كان للإِنسان غريم تحركت نوازع نفسه إلى عقابه بمثل ما أصابه به . وهذا ما يبيحه الله في القصاص ، ولكن الله يطلب من المؤمن إن قدر على نفسه أن يعفو ، إذن فالعقوبة بالقصاص أو بغيره مادامت مشروعة من الله بمثل ما عوقبت فهذه مرتبة الحسن ، لكن إذا تركت نوازع نفسك وعفوت فهذه مرتبة " الأحسن " ، وجاءت هذه الترقيات لأن الحق سبحانه وتعالى خلق في الإِنسان عواطف وغرائز ، وللعواطف والغرائز مهمة في حركة الحياة ، ولكن العواطف لا يمكن أن يسيطر عليها الإِنسان ، ولذلك لا يقنن الله للعاطفة ولكنه سبحانه يقنن للغرائز . كيف؟ .
نحن نعلم أن " حب الطعام " غريزة ، ولكن يجب ألا يصل حب الطعام إلى مرتبة النهم والشره . وأيضاً " بقاء النوع " أو المتعة الجنسية أوجدها الحق من أجل بقاء النوع . لكن لا يصح أن تتحول إلى درجة الشرود والوقوع في أعراض الناس وانتهاك حرماتهم ، وحب الاستطلاع غريزة ، والذين اكتشفوا الكشوف العلمية جاءت أعمالهم من حب استطلاعهم على أسرار الوجود . لكن لا يصح ولا ينبغي أن يصل حب الاستطلاع إلى التجسس الاستذلالي .
إن للإِنسان غرائز يعليها الشرع؛ أمَّا الحب فهو مسألة عاطفية . فالمشرع ، يقول لك : أحبب من شئت وأبغض من شئت ، ولكن لا تظلم من أبغضته ولا تظلم الناس لحساب من أحببت .
ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين قال :
" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين " .
فقال عمر : كيف؟ .
وكررها رسول الله فعلم عمر - رضي الله عنه - بفطرته أن ذلك أمر تكليفي .
(1/3045)

وعرف أن الحب المراد هو الحب العقلي . فيقول المؤمن لنفسه : من أنا لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . وكل مؤمن يحب رسول الله حبًّا عقليًّا ، وقد يتسامى إلى أن يصير حبًّا عاطفيًّا . والإِنسان منا - كما قلنا سابقاً - يحب الدواء بعقله لا بعاطفته لأنه مُرّ ، ولكنه يغضب إن اختفى الدواء من الأسواق ويفرح بمن يأتي له به .
إذن التكليف يتطلب الحب العقلي . ومن أخبار سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما مرّ أمامه قاتل أخيه زيد بن الخطاب فقال له عمر : ازو نفسك عني فأنا لا أحبك ، فرد الرجل بكل جرأة إيمانية : أو عدم حبك لي يمنعني حقًّا من حقوقي؟ . قال عمر : لا ، قال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء .
والحق يقول هنا : { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } فمثلاً ، حين يُقْتَلُ إنسان فلولي الدم أن يقتص ، لكن الحق يحنن قلب ولي الدم على القاتل فيقول : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف . . . } [ البقرة : 178 ]
وحين يسمى الحق القاتل أخاً فهو يهدئ من صراع العواطف ويخفف من رغبة الانتقام . ويقول سبحانه أيضاً : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ]
ونجده سبحانه يؤكد أن مثل هذا الأمر من " عزم الأمور " لأنه أمر يتطلب الصبر والمغفرة . ومادام المؤمن قد استطاع أن يصبر وأن يغفر لغريم له ، أفلا يصبر إذا نزلت مصيبة عليه بدون غريم كمرض مفاجئ أو افتقاد حبيب؟ . من إذن غريمك في المرض؟ وممن تغضب ، وعلى من تهيج وإلى أين انفعالك؟ ولذلك يقول لك الحق سبحانه : { واصبر على مَآ أَصَابَكَ } أي مما لا غريم لك فيه ، ويوضح لك سبحانه : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } . ونلحظ أن الحق هنا لم يؤكد " باللام " لكنه أكد الأخرى " باللام "؛ لأن لك غريماً يهيجك ساعة أن تراه ، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق لسيدنا موسى : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } .
يعني إذا وجدت لهم ذريعة ووسيلة وسبباً إلى شيء ويوجد ما هو أحسن فأمرهم أن يأخذوا بالأحسن ، لماذا؟؛ لأن الإِنسان إذا روَّض نفسه وذللها وعودها على الأحسن يكون قد فهم عن الله . ونفرض أن واحداً أساء إليك ويمكنك أن تسيء إليه ، فعليك أن تراعي في ردك للإِساءة أن تكون بقدرها مصداقاً لقوله الحق سبحانه : { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ . . . } [ النحل : 126 ]
ولكن منَ منا يتصف بالدقة في الموازين النفسية حتى يستطيع أن يعرف المثلية بالهوى؟ فإن كان هناك من صفعك وتريد أن ترد الصفعة ، فمن أين لك أن تقدر حجم الألم الذي في صفعتك له؟ . لا يمكن لك أن تحدد هذا القدر من الألم؛ لأن هذه مسألة تتناسب مع القوة .
(1/3046)

إذن لماذا تدخل نفسك في متاهات ، ولماذا لا تعفو وينتهي الأمر؟
وحين يدلك الحق على أن العفو أحسن ، إنما يريد بذلك أن ينهي شراسة النفوس وضغن الصدور . فحين يقتل إنسانٌ إنسانا آخرَ؛ سيكون هناك قصاص ودم ، ولكن إذا عفا وليّ الدم تكون حياة المعفو عنه هبة من وليّ الدم فيستحي القاتل - بعد ذلك - أن يجعل أية حركة من حركات هذه الحياة ضد وليّ الدم أو من ينسب إلى وليّ الدم ، وحينذاك تنتهي أي ضغينة أو رغبة في الثأر ، ولذلك نجد البلاد التي تحدث فيها الثأرات وتستشري فيها عادة الأخذ بالثأر - مثل صعيد مصر - نجد القاتل إذا ما أخذ كفنه على يده ودخل على وليّ الدم وقال له : أنا جئت إليك . . يعفو عنه وليّ الدم وتفهم العائلة كلها أن حياة المطلوب للثأر صارت هبة من وليّ الدم ، وتصفى الثأرات وتنتهي . ولذلك جاء الأمر من الحق بالأخذ بالأحسن : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } . ومثال آخر على الأخذ بالأحسن ، قد نجد مديناً غير قادر أن يوفي الدين ، هنا نجد الحق يقول : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ . . . } [ البقرة : 280 ]
اقترض الرجل لأنه محتاج؛ لأن القرض لا يكون إلا عن حاجة ، وهو عكس السؤال الذي يكون عن حاجة أو عن غير حاجة ، ولهذا نجد ثواب القرض أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة ، ولأن المتصدق حين يتصدق بشيء من ماله يكون قد أخرج هذا المال من نفسه ولم يعد يتعلق به . لكن القرض تتعلق به النفس ، فكلما صبر المقرِض مع تعلق نفسه بماله أخذ أجراً ، وهكذا يكون القرض أحسن من الصدقة .
إذن فهناك حَسَن وهناك أحسن ، الحَسَن هو أن تأخذ حقك المشروع ، والأحسن أن تتنازل عنه ، ومن يتنازلون هم الفاهمون عن الله فهماً واسعاً ، ولنا المثل والأسوة في سيدنا الحسن البصري - رضي الله عنه - الذي أحسن لمن أساء إليه فقال كلمته : " ألا نحسن إلى من جعل الله في جانبنا " . ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - هب أن إنساناً عنده أولاد وأساء واحد منهم للآخر . نجد قلب الأب يكون مع من أُسي إليه ، وكذلك الأمر فينا نحن خلق الله . إن أساء واحد من خلق الله إلى واحد آخر من خلق الله؛ نجد رب الخلق مع من أُسيء إليه ، وعلى من أسيء إليه أن يقول : هذا الإِنسان الذي أساء إلي قد جعل ربنا في جانبي ولذلك فهو يستحق أن أحسن إليه . ولهذا يقول الحق سبحانه : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ]
وفي آية ثانية يقول الحق : { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ . . . } [ الزمر : 55 ]
ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } .
(1/3047)

ودار الفاسقين هي النار ، وكأن الحق هنا يقول : سأريكم النار ، ونعلم أن كل البشر سيمرون عليها ويرونها ، ولكن المؤمنين سيعبرونها ويردون عليها ويدخلون الجنة . ولقائل أن يقول : ولماذا تأتي سيرة النار هنا؟ ونقول : جاءت سيرة النار ليرهب ويخيف النفس ويحملها على أن تبتعد عن كل ما أمر يقرب إلى النار . والقول هنا أيضاً لبني إسرائيل الذين نصرهم الحق على قوم فرعون وأخذوا منهم الكنوز والمقام الكريم . وكأن الحق يقول لهم : إن كنتم تحبون أن يكون مآلكم مثل مآل قوم فرعون فافعلوا مثلهم ، وإن كنتم لا تريدون هذا المآل فالتزموا منهج الحق .
إذن فقوله الحق : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } معناه حملهم على ما في الألواح من عظة ، وعلى أن يأخذوه بقوة ، وعلى أن يتبعة أحسن ما أنزل على الله . أو { دَارَ الفاسقين } هي المدائن التي دمرّت وخربت بتمرد وكفر وعصيان أهلها وفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل الله بكم مثل نكاله بهم ، وأنتم تمرون عليها في الغدو والرواح .
ويقول الحق بعد ذلك : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي . . . }
(1/3048)

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
والآيات جمع آية وهي الأمر العجيب ، وتطلق ثلاث إطلاقات ، فإما أن تكون آية كونية مثل قوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } ، وإما أن تكون آية دلالة على صدق الرسول في البلاغ ، وإما أن تكون آية قرآنية فيها حكم من أحكام الله ، وهنا يقول الحق : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق . . . } [ الأعراف : 146 ]
إذن يوضح سبحانه هنا أنه سيصرف الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق عن أن ينظروا نظر اعتبار في آيات الكون ، أو أن الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق سيبطل كيدهم في أن يتجهوا للحق بالهدم؛ لأن الواحد من هؤلاء ساعة يرى آية من آيات الله سينظر إليها على أنها سحر ، أو شعوذة ، أو أن يقول عنها إنها ضمن أساطير الأولين .
إذن وجه الصرف أن يسلط الحق عليه من الكبر ما يجعله غير قادر على وزن الآية بالميزان الصحيح لها ، والمتكبر هو من ظن أن غيره أدنى منه وأقل منزلة ، ومقومات الكبر قد تكون قوة ، لكن ألم يرَ المتكبر قويًّا قد ضعف؟ وقد يكون الثراء من مقومات التكبر ، لكن ألم يرَ المتكبر غنيًّا قد افتقر؟ أو يكون المتكبر صاحب جاه ، ألم يرَ ذا جاه صار ذليلاً؟ .
إذن فمن يتكبر ، عليه أن يتكبر بشيء ذاتي لا يُسْلَب منه أبداً . فإذا ما أردت أن تطبق هذا على البشر فلن تجد واحداً يستحق أن يكون متكبراً أبداً؛ لأنه لا يوجد في الإِنسان خاصية ذاتية فيه تلازمه ولا تفارقه أبداً ، بل كلها موهوبة ، ومن الأغيار التي تحدث وقد تزول . فكلها من الله وليست أموراً ذاتية؛ لأن القوة فيك إن كانت ذاتية فحافظ عليها ، ولن تستطيع . وإن كان الثراء ذاتيًّا فحافظ على غناك أبداً ، ولن تستطيع . وإن كانت العزة ذاتية فحافظ على عزتك أبداً ولن تستطيع . إذن فمقومات الكبرياء في البشر غير ذاتية .
وقوله سبحانه : { يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } يفيد أن هناك كبرياء بحق لمن يملك في ذاته كل عناصر القوة والثراء والجاه والعزة ، ولذلك فالكبرياء لله وحده . واعلموا أن كل متكبر في الأرض لا يخطر الله بباله؛ لأنه لو خطر الله بكماله وجلاله في باله لتضاءل؛ لأن الله يخطر فقط ببال المتواضعين من الناس ، ولذلك نضرب هذا المثل : إننا نجد من حولنا إنساناً هو الرئيس الأعلى ، وهناك رئيس لطائفة ومرؤوس لآخر ، وهناك مرؤوس فقط . والرئيس المرؤوس لا يستطيع أن يجلس مع المرؤوسين له بتكبر ويضع ساقاً على ساق ويعطي أوامر؛ لأنه قد يلتفت فيجد رئيسه وقد دخل عليه . فلو فعل الرئيس المرؤوس ذلك لضحك منه المرؤوسون له .
(1/3049)

فكذلك الناس الذين لا يستحضرون الله في بالهم نجدهم مثار سخرية ، لكن الذين يستحضرون الله الذي له الكبرياء في السموات والأرض لا يتكبرون أبداً .
إنه سبحانه يصرف عن المتكبرين النظر في الآيات الكونية فلا يعتبرون ، ويصرف عنهم تصديق الآيات الدالة على نبوة الأنبياء ، ويصرف عنهم القدرة على تصديق أحكام القرآن ، ويطبع على قلوبهم ، فما بداخل هذه القلوب من الكفر لا يخرج ، وما في خارج هذه القلوب من الإِيمان لا يدخل . وهم برغم حركتهم في الحياة إلا أن الحق يعجزهم عن رؤية آياته في الكون . { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً . . . } [ الأعراف : 146 ]
وحين يرى أهل الكبر الآية الكونية أو الآية الإِعجازية أو آيات الأحكام فهم لا يؤمنون بها ، وحين يرون سبيل الرشد لا يتخذونه سبيلاً؛ لأن سبيل الرشد يضغط على شهوات النفس وهواها ، فينهى عن السيئات وهم لا يقدرون على كبح جماح شهواتهم لأنها تمكنت منهم ، ولكن سبيل الغي يطلق العِنان لشهوات النفس ، ولا يكون كذلك إلا إذا غفل عن معطيات الإِيمان الذي يحرمه من شيء ليعطيه أشياء أثمن ، وهكذا تكون نظرة أهل الكبر سطحية . ونلحظ أن كلمة السبيل تأتي مرة كمذكر كقوله؛ { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } ، ومرة تأتي مؤنثة ، فالحق يقول : { قُلْ هذه سَبِيلِي } .
وهنا يقول الحق عن الذين يتبعون سبيل الغي من أهل الكبر : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } . وقديماً قلنا إن الغفلة لا توجب الجزاء عليها؛ لأن الغافل ساهٍ وناس ، ولكن هؤلاء صدفوا عن الأمر صدوفاً عقليًّا مقصوداً ، لدرجة أنهم لا يعيرون الإيمان أي التفات .
ويقول الحق بعد ذلك : { والذين كَذَّبُواْ . . . }
(1/3050)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
وقد جاء لفظ الآيات هنا أكثر من مرة ، فقد قال الحق : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } . ويقول أيضاً : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } . ويقول سبحانه : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } .
إذن فالمسألة كلها مناطها في الآيات الكونية للاستدلال على من أوجدها ، والإِعجازية للاستدلال على صدق مَنْ أرسل من الرسل ، والقرآنية لأخذ منهج الله لتقويم واستواء حركة الإِنسان . { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ . . . } [ الأعراف : 147 ]
ويقال : حبط الشيء أي انتفخ وورم من علة أو مرض . أي أنهم في ظاهر الأمر يبدو لهم أنهم عملوا أعمالا حسنة ولكنها في الواقع أعمال باطلة وفاسدة ، وقد يوجد من عمل عملاً حسناً نافعاً للناس ، ولكن ليس في باله أنه بفعل ذلك إرضاء لله ، بل للشهرة لينتشر ذكره ويذيع صِيتُه ويثني الناس عليه ، أو للجاه والمركز والنفوذ . ولذلك حين " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من الشهيد؟ . قال :
" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
لأن الرجل قد يقاتل حمية ، أو ليعرف الناس مثلاً أنه شجاع . إذن فهناك من يعمل عملاً ليفتخر به . ويقال مثلاً : إن الكفار هم من اكتشفوا الميكروب وصعدوا إلى الفضاء . ونقول : نعم لقد أخذوا التقدير من الناس لأن الناس كانت في بالهم ، ولن يأخذوا التقدير من الله لأنهم عملوا أعمالهم وليس في بالهم الله . والإِنسان يأخذ أجره ممن عمل له ، والله سبحانه وتعالى لن يضيع أجر أعمالهم الحسنة ، بل أعطى لهم أجورهم في الدنيا ، لكن حرث الآخرة ليس لهم . { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا . . . } [ الشورى : 20 ]
فمن زرع وأحسن اختيار البذور ، واختيار التربة وروى بنظام يأتي له الزرع بالثمر لأنه أخذ بالأسباب ، وهذا اسمه عطاء الربوبية وهو عطاء عام لكن مَن خلق الله ، مؤمناً كان أو كافراً ، عاصيًّا أو طائعاً ، لكن عطاء الألوهية يكون في اتباع المنهج ب " افعل ولا تفعل " وهذا خاص بالمؤمنين ، فإذا ما أحسنوا استعمال أسباب الحياة في السنن الكونية . يأخذون حظهم منها ، والكافرون أيضاً يأخذون حظهم منها ، إذا أحسنوا الأخذ بالأسباب؛ ويكون ذلك بتخليد الذكرى وإقامة التماثيل لهم . وأخذ المكافآت والجوائز وحفلات التكريم . أما جزاء الآخرة فيأخذه من عمل لرب الآخرة ، أما من لم يفعلوا من أجل لقاء الله فهو سبحانه يقول في حقهم : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ]
وكذلك يقول : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً . . . } [ النور : 39 ]
فالكافرون مثلهم مثل الظمآن الذي يسير في صحراء ويخيل له أن أمامه ماء ، ويمشي ويمشي فلا يجد ماء .
(1/3051)

أما غير الظمآن فلا يهمه إن كان هناك ماء أو لا يوجد ماء ، فالظمآن ساعة يرى السراب يمني نفسه بأن المياه قادمة وأنه سيحصل عليها . { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً . . . } [ النور : 39 ]
وليس المهم أنه لم يجده شيئاً ، بل يفاجأ : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } . إنه يفاجأ بأن الإِله الذي كان لا يصدق بأنه موجود يجده أمامه يوم القيامة فيوفيه حسابه ويجزيه على عمله القبيح . إذن فإن عمل الإِنسان عملاً فلينتظر الأجر ممن عمل له ، وإن عمل الإِنسان عملاً وليس في باله الله فعليه ألاّ يتوقع الأجر منه ، وعلى الرغم من ذلك يعطي الله لهؤلاء الأجر في قانون نواميس الحياة الكونية؛ لأن من يحسن عملاً يأخذ جزاءه عنه . { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 147 ]
هم إذن كذبوا بآيات الله ، وكذبوا باليوم الآخر ، ولم يعملوا وفق منهج الإِيمان ، فلهم جزاء وعقاب من الحق الذي أنزل هذا المنهج ، ولكنّهم أعرضوا عنه وكذبوه .
ولذلك يقول سبحانه : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-104 ]
ويقول الحق بعد ذلك : { واتخذ قَوْمُ . . . }
(1/3052)

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
وقوله : { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون : { اخلفني فِي قَوْمِي } .
بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلاً جسداً له خُوار ، ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزين به من الذهب ، والجواهر والأشياء الثمينة ، وسيد هذه الحلي هو الذهب دائماً ، ونعلم أن الصائغ الماهر يشكل الذهب كما يريد ، وإن انكسر يسهل إصلاحه ، كما أن كسر الذهب بطيء ، ولذلك يقال : إن الذهب كالإِنسان الطيب ، كسره بطيء ، واجباره سهل .
وساعة نسمع كلمة " زينة " قد يدخل فيها الماس والزمرد ، والياقوت ، لكن الذهب سيد هذه الحلي . ونعلم أن العالم مهما ارتقى ، فلن يكون هناك رصيد لأمواله إلا الذهب ، ولذلك لم يأت سبحانه بالياقوت ، أو بالجواهر ، أو بالماس . ولذلك إذا أطلقت كلمة " الحلي " فالمراد بها الذهب .
وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل ، وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية لأن الماس والجواهر لا يمكن صهرها . لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا مستضعفين ، ومستذلين؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلي كسلفة سيردونها من بعد ذلك . ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم!
وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى ، وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي عجلاً ، والعجل هو الذكر من ولد البقر ، وساعة تسمع قوله : { عِجْلاً جَسَداً } أي أنه مُحَجَّم ، أي له حجم واضح . وأخذ أهل التفسير من كلمة " جسداً " أن ذلك العجل هو بدن لا روح له ، مثلما نقول : " فلان هذا مجرد جثة " . أي كأنه جثة بلا روح .
وقوله الحق : { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } ، هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة؛ لأنه لو كان جسداً فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلاً جسداً له خوار ، ولاكتفي بالقول بأنه عجل . لكن قوله سبحانه : { لَّهُ خُوَارٌ } دليل على أن الجسدية في العجل لا تعطي له الحياة . وجاء بالوصف في قوله : { لَّهُ خُوَارٌ } والخُوار هو صوت البقر . وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن يتميز عن الآلهة التي كانت من الأحجار ، وحاول أن يجعله إلهاً نفيساً ، فصنعه - كما نعرف - من الحلي المسروقة ، وصنعه بطريقة أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء؛ صنعت وأحدثت في جوفه صوتاً يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه ، وهذه المسألة نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب ، ويعزف عليه العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها .
وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة ، حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر .
(1/3053)

وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الإِيمانية لسورة طه بإذن الله : { . . . عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأعراف : 148 ]
ولماذا اختار السامري العجل؟ لأنهم حين خروجهم من مصر ، رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون العجل لمزية فيه ، فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة ، كما عبد الآخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر قوة ، وكذلك من عبدوا القمر ، والنجوم . وقدماء المصريين عبدوا العجل لأن فيضان النيل كان يغمر الأرض بالمياه ، وكانوا يستخدمون العجل . حين يريدون حرث الأرض . وكان أَيِّدًا ، أي قويًّا وشديداً في حرث الأرض وهذا مظهر من مظاهر القوة ، ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده عجلاً يعبدونه بعد أن أتم عليهم الله المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله؟ . وهنا أوضح لنا الله أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الأصنام؛ فقالوا لموسى عليه السلام : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة .
ويأتي القول من الحق : { . . . أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأعراف : 148 ]
وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة الله؛ لأن العبد لابد أن يتلقى من المعبود أوامر ، وأن يكون عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه ، وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالات الله وكلام الله للبشر . أما الذين يعبدون الشمس - مثلاً - فنسألهم : لماذا تعبدونها؟ وما المنهج الذي أرسلته الشمس لكم؟ . إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في " افعل " و " لا تفعل " فهل قالت لكم الشمس " افعلوا " و " لا تفعلوا "؟ لا؛ لأنه لا توجد واسطة كلامية تقول لكم المنهج ، وكيف يوجد - إذن - معبود بدون منهج للعابد؟ وهل قالت : إن من يعبدني سأشرق عليه ، وأعطيه الضوء والحرارة ، ومن لا يعبدني فلن أعطيه شيئاً من ذلك؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها ومن كفر ، ولم ترسل خبراً عن الآخرة وقيام القيامة .
وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير الله من ناحية أن العبادة تقتضي أمراً ونهيا ، في " افعل " و " لا تفعل " ولم يقل معبود من هؤلاء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه . والأصل في المعبود أنه يهدي العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الآخرة . لذلك يقول الحق : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } . و { وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } لأنهم أعطوا حقًّا لمن ليس له الحق ، والحق سبحانه أعلى قمة في الحق ، ولذلك قال عن الشرك به : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ . . . }
(1/3054)

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور . لكن الناس الذين امتلكوا قدراً من البصيرة ، أو بقية إيمان قالوا : هذه الحكاية سخيفة ، وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان ، ويقال : سُقِط في يده ، وهذه من الدلالات الطبيعية الفطرية التي لا تختلف فيها أمة عن أمة ، بل هي في كل الأجناس ، وفي كل لغة تشير إلى أن الإِنسان إذا ما فعل فعلا وحدث له عكس ما يفعل يعض على الأنامل ندماً وغمًّا ، وهذه من الدلالات الفطرية الباقية لنا من الالتقاء الطبعي في المخاطبات ، في كل الأجناس . ويعض الإِنسان الأنامل لأنه عمل شيئاً ما كان يصح أن يعمله ، فإذا كان الشيء عظيماً فهو لا يكتفي بالأنملة بل يمسك يده كلها ويعضها . والحق يقول : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } .
و " سُقط في أيديهم " أي جاءت أنيابهم على أيديهم ، كأن الندم بلغ أشده ، إن ذلك حدث من التائبين الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران . أي قالوا : لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته لنكونن من الهالكين ، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَمَّا رَجَعَ موسى . . . }
(1/3055)

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
وكون موسى يعود إلى قومه حالة كونه غضبان أسِفاً ، يدلنا على أنه علم الخبر بحكاية العجل . والغضب والأسف عملية نفسية فيها حزن وسموها : " المواجيد النفسية " ، أي الشيء الذي يجده الإِنسان في نفسه ، وقد يعبر عن هذه المواجيد بانفعالات نزوعية ، ولذلك تجد فارقاً بين من يحزن ويكبت في نفسه ، وبين من يغضب ، فمن يغضب تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويستمر هياجه ، وتبرق عيناه بالشر وتندفع يداه ، وهذا اسمه : غضبان . وصار موسى إلى الحالتين الاثنتين؛ وقدّم الغضب لأنه رسول له منهجه . ولا يكفي في مثل هذا الأمر الحزن فقط ، بل لابد أن يكون هناك الغضب نتيجة هياج الجوارح .
وقديماً قلنا : إن كل تصور شعوري له ثلاث مراحل : المرحلة الأولى . مرحلة إدراكية ، ثم مرحلة وجدانية في النفس ، ثم مرحلة نزوعيه بالحركة ، وضربنا المثل لذلك بالوردة . فمن يرى الوردة فهذا إدراك ، وله أن يعجب بها ويسر من شكلها ويطمئن لها ويرتاح ، وهذا وجدان . لكن من يمد يده ليقطفها فهذا نزوع حركي . والتشريع للإِدراك أو للوجدان لكنه قنن للسلوك . إلا في غض البصر عما حرم الله وذلك رعاية لحرمة الأعراض .
والأسف عند موسى لن يظهر للمخالفين للمنهج . بل يظهر الغضب وهو عملية نزوعية ، ونلحظ بكلمة أَسِف . وهي مبالغة . فهناك فرق بين أَسِف وآسف ، آسف خفيفة قليلاً ، لكن أسِف صيغة مبالغة ، مما يدل على أن الحزن قد اشتد عليه وتمكن منه . { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ . . . } [ الأعراف : 150 ]
وقوله سبحانه : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } أي استبطأتموني ، وهذا نتيجة لذهاب موسى لثلاثين ليلة وأتممها بعشر ، فتساءل موسى : هل ظننتم أنني لن آتي؟ أو أنني أبطأت عليكم؟ وهل كنتم تعتقدون وتؤمنون من أجلي أو من أجل إله قادر؟ . ولذلك قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه : عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى :
" من كان يعبد محمدًّا فإن محمدًّا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " . وهنا يقول سيدنا موسى : افترضوا أنكم عجلتم الأمر واستبطأتموني أو خفتم أن أكون قد مت . فهل كنتم تعبدونني أو تعبدون ربنا .
{ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألواح } ، ونعلم أن الألواح فيها المنهج ، وقدر موسى على أخيه : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } وهذا " النزوع الغضبي " الذي جعله يأخذ برأس أخيه ، كأن الأخوة هنا لا نفع لها ، فماذا كان رد الأخ هارون : ؟ { . . . قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين } { الأعراف : 150 ]
نلحظ أنه قال : " ابن أم " ولم يقل : " ابن أب " لأن أبا موسى وهارون طُوي اسمه في تاريخ النبوات ولم يظهر عنه أي خبر ، والعلم جاءنا عن أمه لأنها هي التي قابلت المشقات في أمر حياته ، لذلك جاء لنا بالقدر المشترك البارز في حياتهما ، ولأن الأمومة مستقر الأرحام؛ لذلك أنت تجد أخوة من الأم ، وأخوة من الأب فقط ، وأخوة من الأب والأم ، والأخوة من الأب والأم أمرهم معروف .
(1/3056)

لكن نجد في أخوة الأم حناناً ظاهراً ، ويقل الحنان بين الأخوة من الأب . وجاء الحق هنا بالقدر المشترك بينهما - موسى وهارون - وهو أخوة الأم ، وله وجود مستحضر في تاريخهم . أما الأب عمران فنحن لا نعرف عنه شيئاً ، وكل الآيات التي جاءت عن موسى متعلقة بأمه ، لذلك نجد أخاه هارون يكلمه بالأسلوب الذي يحننه : { قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } .
ومادام قد قال : { وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } فهذا دليل على أنه وقف منهم موقف المعارض والمقاوم الذي أدى ما عليه إلى درجة أنهم فكروا في قتله ، ويتابع الحق بلسان هارون : { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين } .
والشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم ، والأعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل ، وقد وصفهم بالأعداء كدليل على أنه وقف منهم موقف العداوة ، وأن موقف الخلاف بين موسى وهارون سيفرحهم ، وقوله : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } . . إجمال للرأس في عمومها ، وفي آية أخرى يقول : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } .
ولقد صنع موسى ذلك ليسمع العذر من هارون؛ لأنه يعلم أن هارون رسول مثله ، وأراد أن يسمعنا ويسمع الدنيا حجة أخيه حين أوضح أنه لم يقصر . قال : إن القوم استغضعفوني لأني وحدي وكادوا يقتلونني ، مما يدل على أنه قاومهم مقاومة وصلت وانتهت إلى آخر مجهودات الطاقة في الحياة؛ حتى أنهم كادوا يقتلونه ، إذن فهو لم يوافقهم على شيء ، ولكنه قاوم على قدر الطاقة البشرية ، لذلك يذيل الحق الآية بقوله سبحانه : { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين } .
وكأنه يقول : لموسى إنك أن آخذتني هذه المؤاخذة في حالة غضبك ، ربما ظُنَّ بي أنني كنت معهم ، أو سلكت مسلكهم في اتخاذ العجل وعبادته . وأراد الحق سبحانه أن يبين لنا موقف موسى وموقف أخيه؛ فموقف موسى ظهر حين غضب على أخيه وابن أمه ، وموقف هارون الذي بيّن العلة في أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه ، ولا يمكن أن يطلب منه فوق هذا ، وحينما قال هارون ذلك تنبه موسى إلى أمرين :
الأمر الأول : أنه كيف يلقي الألواح وفيها المنهج؟ والأمر الثاني : أنه كيف يأخذ أخاه هذه الأخذة قبل أن يتبين وجه الحق منه؟
ويقول الحق على لسانه بعد ذلك : { قَالَ رَبِّ اغفر لِي . . . }
(1/3057)

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قال يا رب اغفر لي إن كان قد بدر مني شيء يخالف منطق الصواب والحق . واغفر لأخي هارون ما صنع ، فقد كان يجب عليه أن يأخذ في قتال من عبدوا العجل حتى يمنعهم أو ينالوا منه ولو مادون القتل جرحاً أو خدشاً أو . . أو . . إلخ .
ويطلب موسى لنفسه ولأخيه الرحمة : { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } [ الأعراف : 151 ]
وحين تسمع { أَرْحَمُ الراحمين } أو { خَيْرُ الرازقين } ، أو { خَيْرُ الوارثين } ، أو { أَحْسَنُ الخالقين } ، وكل جمع هو وصف لله ، وإنه بهذا أيضاً يدعو خلقه إلى التخلق بهذا الخلق ، ويوصف به خلقه . فاعلم أن الله لم يحرمهم من وصفهم بهذه الصفات لأن لهم فيها عملا وإن كان محدودا يتناسب مع قدرتهم ومخلوقيتهم وعبوديتهم ، فضلا على أنها عطاء ومنحة منه - سبحانه - أما صفات الله فهي صفات لا محدودة ولا متناهية جلالا وكمالا وجمالا فسبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، فإذا كان خلق الله هو { أَرْحَمُ الراحمين } فهذا يعني أنه سبحانه لم يمنع الرحمة من خلقه على خلقه؛ فمن رحم أخاه سُميِّ رحيماً ، وراحماً ، ولكن الله أرحم الراحمين؛ لأن الرحمة من كل إنسان ضمان لمظهرية الغضب في هذا الأحد ، يقال : " رحمت فلاناً " أي من غضبك عليه وعقوبتك ، وإنّ عقوبتك على قدر قوتك ، لكن الله حين يريد أن يأخذ واحداً بذنب فقوته لا نهاية لها ، وكذلك رحمته أيضاً لا نهاية لها .
ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ الذين اتخذوا . . . }
(1/3058)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
حين يقال : { اتخذوا العجل } قد نجد من يتساءل : هل اتخذوه مذبوحاً يأكلونه؟ أو يثير الأرض أو يسقي الحرث ويدير السواقي؟ لأن العجل موجود لهذه المهام ، لكنهم لم يأخذوا العجل لتلك المهام ، بل إنهم قد اتخذوا العجل إلهاً ومعبوداً ، أما اتخاذه فيما خُلِقَ له فلا غبار عليه ، وهو هنا محذوف ومتروك لفطنة السامع؛ فإذا اتخذنا العجل فيما خُلِقَ له العجل لا ينالنا غضب من الله ، أما الذين سينالهم غضب الله فهم من اتخذوا العجل في غير ما خُلِقَ له ، إنهم اتخذوه إلهاً : { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا } .
وقوله : { سَيَنَالُهُمْ } يدل على أن أوان الغضب والذلة لم يأت بعد ، وسيحدث في المستقبل ، ومستقبل الدنيا هو الآخرة ، ولكن الحق هنا يقول : إن الذلة ستحدث في الدنيا ، فكيف يكون { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ } مع أنهم تابوا؟ ويوضح سبحانه لنا ذلك في قوله : { فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } .
فبعضهم تاب إلى بارئه وقتل نفسه فلماذا إذن الغضب؟
ويوضح الحق لنا أن الذي ينالهم من الغضب هو ما ألجأهم إلى أن يقال لهم : " اقتلوا أنفسكم " ، وهكذا نفهم أن قوله تعالى : { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ } أي قبل أن يتوبوا ، وقتل النفس هو منتهى الذلة ومنتهى الإهانة . { . . . سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } [ الأعراف : 152 ]
أي أن هذا الأمر ليس بخاصية لهم ، فكل مفتر يتجاوز حده فوق ما شرعه الله لابد أن يناله هذا الجزاء؛ لأن ربنا حين يقول لنا ما حدث في تاريخهم؛ وحين يسرد لنا هذه القصة فإنه يريد من وراء ذلك - سبحانه - أن يعتبر السامع للقصة في نفسه . واعتبار السامع للقصة في نفسه لا يتأتى إلا بأن يقول له الله تنبيهاً وتحذيراً : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } أي احذر أن تكون مثل هؤلاء فينالك ما نالهم ، وهو سبحانه ينبه كلا لينتفع من هذه العبرة وهذه اللقطة فإنَّ التاريخ مسرود لأخذ العبرة ، والعظة ليتعظ بها السامع .
ويقول الحق بعد ذلك : { والذين عَمِلُواْ . . . }
(1/3059)

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
وهذا ما حدث ، فبعد أن اتخذوا العجل ، وقال لهم : اقتلوا أنفسكم توبة إلى بارئكم ، ثم تابوا إلى الله وآمنوا بما جاءهم ، غفر الله لهم . وإذا كان الحق قد قص علينا مظهرية جباريته فإنه أيضاًً لم يشأ أن يدعنا في مظهرية الجبارية ، وأراد أن يدخلنا في حنان الرحمانية . لذلك يقول هنا : { والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 153 ]
وقوله : { ثُمَّ تَابُواْ } أي ندموا على ما فعلوا وأصروا وعزموا على ألاَّ يعودوا ، ونعلم من قبل أن التوبة لها مظهريات ثلاثة؛ أولاً : لها مظهرية التشريع ، ولها مظهرية الفعل من التائب ثانياً ، ولها قبولية الله للتوبة من التائب ثالثاً . ومشروعية التوبة نفسها فيها مطلق الرحمة ، ولو لم يكن ربنا قد شرع التوبة سيستشري شره في السيئة فهذه رحمة بالمذنب ، وبالمجتمع الذي يعيش فيه المذنب . بعد ذلك يتوب العبد ، ثم يكون هنا مظهرية أخرى للحق ، وهو أن يقبل توبته .
التوبة - إذن - لها تشريع من الله ، وذلك رحمة ، وفعل من العبد بأن يتوب ، وذلك هو الاستجابة ، وقبول من الله ، وذلك هو قمة العطاء والرحمة منه سبحانه .
وقوله الحق : { والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا . . . } [ الأعراف : 153 ]
إنَّ هذا القول يدل على أن عمل السيئة يخدش الإِيمان ، فيأمر سبحانه عبده : جدّد إيمانك ، واستحضر ربك استحضاراً استقباليًّا؛ لأن عملك السيئة يدل على أنك قد غفلت عن الحق في أمره ونهيه ، وحين تتوب فأنت تجدد إيمانك وتجد ربك غفوراً رحيماً : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
إن ذنب العبد يكون فيما خالف منهج ربه في " افعل " و " لا تفعل " ، ومادام العبد قد استغفر الله وتاب فسبحانه يقبل التوبة . ويوضح : إذا كنت أنا غفوراً رحيماً ، فإياكم يا خلقي أن تُذَكِّروا مذنباً بذنبه بعد أن يتوب؛ لأن صاحب الشأن غفر ، فإياك أن تقول للسارق التائب : " يا سارق " ، وإياك أن تقول للزاني التائب : " يا زاني " ، وإياك أن تقول للمرتشي التائب : " يا مرتشي " لأن المذنب مادام قد جدّد توبته وآمن ، وغفر الله له ، فلا تكن أنت طفيليًّا وتبرز له الذنب من جديد .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى . . . }
(1/3060)

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وهل للغضب سكوت؟ هل للغضب مشاعر حتى يسكت؟ نعم؛ لأن الغضب هيجان النفس لتعمل عملاً نزوعيًّا أمام من أذنب ، فكأن الغضب يلح عليه ، ويقول للغاضب : اضرب ، اشتم ، اقتل . كأن الغضب قد مُثِّل وصُوِّر في صورة شخص له قدرة إصدار الأوامر ، فشبَّه الله الغضب بصورة إنسان يلح على موسى في أن يفعل كذا ، ويفعل كذا ، فلما قال الله ذلك كأن الغضب قد سكت عنه .
أو هو كما قال إخواننا العلماء : من القلب في اللغة ، أي أنه يقلب المسألة ، اتكالاً على أن فطنة السامع سترد كل شيء إلى أصله؛ كما نسمع في اللغة : خرق الثوبُ المسمارَ ، نفهم من هذا القول أن المسمار هو الذي قام بخرق الثوب؛ لأننا لن نتخيل أنّ الثوب يخرق مسماراً . ويسمى ذلك " القلب " أي أن يأتي بمسألة مقلوبة تفهمها فطنة السامع . أو أن المسمار مستقر في مكانه ، والثوب هو الذي طرأ عليه فانخرق ، فيكون سبب الخرق من الثوب ، فكأن الفاعلية الحقيقية من الثوب : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } .
أو تكون كلمة ( سكت ) كناية عن أن الغضب زال وانتهى . { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ الأعراف : 154 ]
وأول عمل قام به موسى ساعة أن كان غضبان أسفاً أنه ألقى الألواح ، وأول ما ذهب الغضب عنه وزايله أخذ الألواح ، وهذا أمر منطقي ، فالغضب جعله يلقي الألواح ، ويأخذ برأس أخيه ، ثم فهم ما فعله أخوه واعتذر به فقبل عذره ، وطلب من الله أن يغفر له ، وأن يغفر لأخيه وانتهى الغضب وكانت الألواح ملقاة فأخذها ثانية . { . . . وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ الأعراف : 154 ]
النسخة من الكتاب مأخوذة من الشيء المنسوخ أي المنقول من مكان إلى مكان ، ويقال : نسخت الكتاب الفلاني من الكتاب الفلاني . أي أن هناك كتاباً مخطوطاً ثم نقلناه بالطباعة أو بالكتابة إلى نسخة أو عدد من النسخ ، أي أخذته من الأصل إلى الصورة ، واسمه منسوخ ، وكلمة نُسخة على وزن " فُعْلَة " وتأتي بمعنى مفعولة ، فنسخة تعني منسوخة ، وفي القرآن مثل هذا كثير . والحق سبحانه وتعالى قال : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ . . . } [ البقرة : 249 ]
و " غُرْفة " أي مغروفة ، وهي القليل من المياه في اليد لتبل الريق فقط ، والغرفة أيضاً تكون في البيوت؛ لأنها مكان متقطع من مكان آخر ولها جدران تحددها . واسمها غرفة لأنها مغروفة من المكان في حيز مخصوص . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } .
و " هدى " المقصود بها المنهج الموصل للغاية في " افعل " و " لا تفعل " .
(1/3061)

إنّه يوصل للغاية وهي ثواب الآخرة . إذن فالهدى والرحمة شيء واحد له طرفان ، فالهدى هو المنهج الذي إن اتبعته تصل إلى الرحمة ، ولذلك يقول الحق : { هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } .
وهكذا نجد المنهج هدى ورحمة ، فمن يسمع كلام الله ويتبعه يهتدي ويرحمه ربنا؛ لأنه جعل الله في باله وخاف من صفات الجبارية في الحق ، ولهذا لابد أن يستحضر الإِنسان أو المؤمن رهبته لربه وخوفه منه - سبحانه - ليكون المنهج هدى ورحمة له . ويكون من الذين يرهبون ربهم .
وساعة ترى المفعول تقدم في مثل قوله سبحانه هنا : { . . . لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [ الأعراف : 154 ]
نفهم أن هذا هو ما يسمى في اللغة " اختصاص " وقََصْر مثلما قال الحق في فاتحة الكتاب : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .
وما الفرق بين { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } و " نعبدك "؟ إن قلنا : " نعبدك " فهو قول لا يمنع من العطف عليه ، فقد نعبدك ونعبد الشركاء معك؛ لكن قولنا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي خصصناك بالعبادة وقصرناها عليك سبحانك فلا تتعدى إلى غيرك .
إذن حين تقدم المفعول فهذا هو عمل الاختصاص . ومثال ذلك في حياتنا حين نقول : " أكرمتك " ، ولا مانع أن نقول بعدها " وأكرمت زيداً وأكرمت عمراً " . لكن إن قلت : إياك أكرمت ، فهذا يعني أني لم أكرم إلا إياك . وهنا يقول الحق : { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } . ولقائل أن يقول : ألا يمكن أن يدعي أحد الرهبة ظاهراً وأنه ممتثل لأمر الله رياء أو سمعة حتى يقول الناس : إن فلاناً حسن الإِسلام ، ويأخذون في الثناء عليه؟ ولكن هنا نجد التخصيص الذي يدل على أن العبد لا يرهب أحداً غير الله ، وأن الرهبة خالصة لله ، وليست رياء ، ولا سمعة ، ولا لقصد الثناء .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { واختار موسى قَوْمَهُ . . . }
(1/3062)

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
وكلمة " اختار " تدل على أن العمل الإِختياري يُرجح العقل فيه فعلاً على عدم فعل أو على فعل آخر ، وإلا فلا يكون في الأمر اختيار؛ لأن " اختار " تعني طلب الخير والخيار ، وكان في مكنتك أن تأخذ غيره ، وهذا لا يتأتى إلا في الأمور الاختيارية التي هي مناط التكليف ، مثال ذلك : اللسان خاضع لإِرادة صاحبه الاختيارية التي هي مناط التكليف ، مثال ذلك : اللسان خاضع لإِرادة صاحبه فخضع للمؤمن حين قال : لا إله إلا الله ، وخضع للملحد حين قال - لعنه الله - : لا وجود لله ، ولم يعص اللسان في هذه ، ولا في تلك . والذي رجح أمراً على أمر هو ترجيح الإِِيمان عند المؤمن في أن يقول : لا إله إلا الله ، وترجيح الإِلحاد عند الملحد في أن يقول ما يناقض ذلك . والحق هنا يقول : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } .
والذين درسوا اللغة يقولون : إن هناك حدثاً . وأنّ هناك موجدا للحدث نسميه فاعلاً مثل قولنا : " كتب زيد الدرس " أي أن زيداً هو الذي أدى الكتابة ، ونسمي " الدرس " الذي وقعت عليه الكتابة مفعولاً به ، ومرة يكون هناك ما نسميه " مفعولاً له " أو " مفعولاً لأجله " مثل قول الابن : قمت لوالدي إجلالاً ، فالذي قام هو الابن ، والإِجلال كان سبباً في إِيقاع الفعل فنسميه " مفعولا لأجله " : ونقول : " صُمْت يوم كذا " ونسميه " مفعولاً فيه " ، وهو أن الفعل ، وقع في هذا الزمن . فمرة يقع الحدث على شيء فيكون مفعولاً به ، ومرة يقع لأجل كذا فيكون مفعولاً لأجله ، ومرة يقع في يوم كذا؛ العصر أو الظهر فيكون مفعولاً فيه ، ومرة يكون مفعولاً معه " مثل قولنا : سرت والنيل : أي أن الإِنسان سار بجانب النيل وكلما مشى وجد النيل في جانبه .
وهنا يقول الحق : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا . . . } [ الأعراف : 155 ]
ولأن اختيار موسى للسبعين كان وقع من القوم؛ فيكون المفعول قد جاء من هؤلاء القوم ، ويسمى " مفعولاً منه "؛ لأنه لم يخترهم كلهم ، إنما اختار منهم سبعين رجلاً لميقاته مع الله سبحانه .
وقالوا في علة السبعين إن من اتبعوا موسى كانوا أسباطاً ، فأخذ من كل سبط عدداً من الرجال ليكون كل الأسباط ممثلين في الميقات ، وكلمة " ميقات " مرت قبل ذلك حن قال الله : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ . . . } [ الأعراف : 143 ]
وهل الميقات هذا هو الميقات الأول؟ لا؛ لأن الميقات الأول كان لكلام موسى مع الله ، والميقات الثاني هو للاعتذار عن عبدة العجل . { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ .
(1/3063)

. . } [ الأعراف : 155 ]
ولماذا أخذتهم الرجفة؟
لأنهم لم يقاوموا الذين عبدو العجل المقاومة الملائمة ، وأراد الله أن يعطي لهم لمحة من عذابه ، والرجفة هي الزلزلة الشديدة التي تهز المرجوف وتخيفه ونترهبه من الراجف . وحين أخذتهم الرجفة قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } .
أوضح موسى : لقد أحضرتهم من قومهم . وأهلوهم يعرفون أن السبعين رجلاً قد جاءوا معي ، فإن أهلكتهم يا رب فقد يظن أهلهم أنني أحضرتهم ليموتوا وأسلمتهم إلى الهلاك . ولو كنت مميتهم يا رب وشاءت مشيئتك ذلك لأمتّهم من قبل هذه المسألة وأنا معهم أيضاً . ويضيف القرآن على لسان موسى والقوم معاً : { . . . أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } { الأعراف : 155 ]
أنت أرحم يا رب من أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، وهذا القول يدل على أن العملية عملية فعل ، والفعل هو عبادة العجل؛ فلو أن هذا هو الميقات الأول لما احتاج إلى مثل هذا القول؛ لأن قوم موسى لم يكونوا قد عبدوا العجل بعد . ولكنهم قالوا بعد الميقات الأول : مادام موسى قد كلم الله ، فلابد لنا أن نرى الله ، وقالوا فعلاً لموسى : { أَرِنَا الله جَهْرَةً . . . } [ النساء : 153 ]
إذن نجد أن ما حصل من قوم موسى بعد الميقات الأول هو قولهم : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وليس الفعل ، أما هنا فالآية تتحدث عن الفعل : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } .
وهكذا نعلم أن الآية تتحدث عن ميقات ثانٍ تحدد بعد أن عبد بعضهم العجل ، والفتنة هي الاختبار ، والاختبار ليس مذموماً في ذاته ، ولا يقال في أي امتحان إنه مذموم . إنما المذموم هو النتيجة عند من يرسب ، والاختبار والامتحان غير مذموم عند من ينجح .
إذن فالفتنة هي الابتلاء والاختبار ، وهذا الاختبار يواجه الإِنسان الجاهل الذي لا يعلم بما تصير إليه الأمور وتنتهي إليه ليختار الطريق ويصل إلى النتيجة . ولا يكون ذلك بالنسبة لله؛ لأنه يعلم أزلاً كل سلوك لعباده ، لكن هذا العلم لا يكون حجة على العباد؛ ولابد من الفعل من العباد ليبرز ويظهر ويكون له وجود في الواقع لتكون الحجة عليهم . والأخذ بالواقع هو الأعدل .
وقول موسى عليه السلام : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ . . . } [ الأعراف : 155 ]
هذا القول يعني : أنك يا رب قد جعلت الاختبار لأنك خلقتهم مختارين؛ فيصح أن يطيعوا ويصح أن يعصوا . والله سبحانه هو من يُضل ويهدي؛ لأنه مادام قد جعل الإِنسان مختاراً فقد جعل فيه القدرة على الضلال ، والقدرة على الهدى .
وقد بيّن سبحانه من يشاء هدايته ، ومن يشاء إضلاله فقال : { . . . والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين }
(1/3064)

[ آل عمران : 86 ]
والسبب في عدم هدايتهم هو ظلمهم ، وكذلك يقول الحق : { . . . والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ]
وهكذا نرى أن الكفر منهم هو الذي يمنعهم من الهداية . إذن فقد جعل الله للعبد أن يختار أو أن يختار الضلال ، وما يفعله العبد ويختاره لا يفعله قهراً عن الله؛ لأنه سبحانه لو لم يخلق كلا منا مختاراً لما استطاع الإِنسان أن يفعل غير مراد الله ، ولكنه خلق الإِنسان مختاراً ، وساعة ما تختار - أيها الإِنسان - الهداية أو تختار الضلال فهذا ما منحه الله لك ، وسبحانه قد بيّن أن الذي يظلم ، والذي يفسق هو أهل لأن يعينه الله على ضلاله ، تماماً كما يعين من يختار الهداية؛ لأنه أهل أن يعينه الله على الهداية .
ويقول الحق على لسان سيدنا موسى في نهاية هذه الآية : { . . . أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } [ الأعراف : 155 ]
والولي هو الذي يليك ، ولا يليك إلا من قربته منك بودك له ، ولم تقربِّه إلا لحيثية فيه قد تعجبك وتنفعك وتساعدك إذا اعتدى عليك أحد أو تأخذ من عمله لأنه عليم . إذن فالمعنى الأول لكلمة الولي أي القريب الذي قربته لأن فيه خصلة من الخصال التي قد تنفعك ، أو تنصرك ، أو تعلمك .
وقول موسى { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي ناصرنا ، والأقرب إلينا ، فإن ارتكب الإِنسان منا ذنباً فأنت أولى به ، إنك وحدك القادر على أن تغفر ذنبه؛ لذلك يقول موسى : { فاغفر لَنَا } ، ونعلم من هذا أنه يطلب درء المفسدة أولاً لأن درءها مقدم على جلب المصلحة ، فقدم موسى عليه السلام طلب غفر الذنب ، ثم طلب ودعا ربّه أن يرحمهم ، وهذه جلب منفعة . وقد قال ربنا في مجال درء المفسدة : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } وهذا درء مفسدة وهو البعد عن النار : { وَأُدْخِلَ الجنة } . وهذا جلب منفعة ومصلحة .
إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، - وعلى سبيل المثال - إنك ترى تفاحة على الشجرة ، وتريد أن تمد يدك لتأخذها ، ثم التفت فوجدت شابًّا يريد أن يقذفك بطوبة ، فماذا تصنع؟ انت في مثل هذه الحالة الانفعالية تدفع الطوبة أولاً ثم تأخذ التفاحة من بعد ذلك . وهذا هو درء المفسدة المقدم على جلب المصلحة ، وهنا درء المفسدة متمثل في قول موسى : { فاغفر لَنَا } ثم قال بعد ذلك : { وارحمنا } وهذا جلب مصلحة ، والقرآن يقول : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ . . . } [ الإِسراء : 82 ]
لأن الداء يقع أولاً ، وحين تذهب لمنهج القرآن يشفيك من هذا الداء ، والرحمة ألاَّ يجيء لك داء بالمرة . فإذا أخذت القرآن لك نصيراً فلن يأتي لك الداء أبداً . { . . . فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } [ الأعراف : 155 ]
ومثلها مثل قول الحق سبحانه : { خَيْرُ الرازقين } ، و { خَيْرُ الماكرين } ، و { خَيْرُ الوارثين } و { خَيْرُ الغافرين } هنا؛ لأن المغفرة قد تكون من الإِنسان للإِنسان ، ولكنا نعرف أن مغفرة الرب فوق مغفرة الخلق؛ لأن الغافر من البشر قد يغفر رياء ، وقد يغفر سمعة ، قد يغفر لأنه خاف بطش المقابل . لكنه سبحانه لا يخاف من أحد ، وهو خير الغافرين من غير مقابل .
ويقول الحق بعد ذلك : { واكتب لَنَا . . . }
(1/3065)

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
ونلحظ أن هذه الآية تضم طلبات جديدة لسيدنا موسى من ربّه بعد قوله : { فاغفر لَنَا وارحمنا } . ونرى أن خير الغافرين تعود لقول موسى - عليه السلام - : { فاغفر لَنَا } أما الحسنة في قوله : { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً } فإنها تعود على طلب الرحمة : { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة } .
هو إذن يطلب الحسنة في الدنيا وكذلك في الآخرة ، والحسنة لها معنى " لغوي " ، ومعنى " شرعي " أما المعنى اللغوي فكل ما يستحسنه الإِنسان يُسمى حسنة ، ولكن الحسنة الشرعية هي ما حسنه الشرع ، فالشرع رقيب على كل فعل من أفعالنا وتصرفاتنا ، فالحسنة ليست ما يستحسنه الإِنسان؛ لأن الإِنسان قد يستحسن المعصية ، وهذا استحسان بشري بعيد عن المنهج ، أما الاستحسان الشرعي فهو في تنفيذ المنهج ب " افعل " و " لا تفعل " .
والحسنة المعتبرة في عرف المكلفين من الله هي الحسنة الشرعية؛ لأن الإِنسان قد يستحسن شيئاً وهو غير شرعي لأنه ينظر إلى عاجلية النفع فيه ، ولا ينظر إلى آجلية النفع ، ولا ينظر إلى كمية النافع . والنفع - كما نعلم - في الدنيا على قدر تصورك في النفع ، أما النفع في الآخرة فلا يعلم قدره إلا علاّم الغيوب - سبحانه - إذن فقوله : { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً } يكون المراد بها الحسنة الشرعية في الدنيا عملاً ، وفي الآخرة جزاءً .
ونلحظ أن موسى أراد بالحسنة الأولى ما يعم الحسنة الشرعية والحسنة اللغوية؛ فهو دعاء بالعافية والنعم الجلية الطيّبة؟ ، وكل خير الدنيا في ضوء منهج الله . والحق سبحانه وتعالى يقول : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة . . . } [ الأعراف : 32 ]
إذن فالحسنة الخالصة هي في يوم القيامة ، ولكن هناك من ينتفع بها في الدنيا؛ فالجماد منتفع برحمة الله ، والنبات برحمة الله ، والحيوان منتفع برحمة الله ، والكافر منتفع برحمة الله . كل ذلك في الدنيا ، وهي الرحمة التي وسعت كل شيء ، لكن مسالة الآخرة كجزاء على الإِحسان فهو جزاء خاص بالمؤمنين .
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } .
و " هاد " أي رجع ، و " هدنا إليك " أي رجعنا إليك ، وهذا كلام موسى عن نفسه وعن أخيه ، وعن القوم الذين عبدوا العجل ثم تابوا ، وما دمنا قد رجعنا إليك يا ربي فأنت أكرم من أن تردنا خائبين . ويرد الحق سبحانه : { . . . قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ]
وقوله الحق : { عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } أي لا يوجد من يدفعني ويرشدني في توجيه العذاب لأحد؛ فحين يذنب عبد ذنباً أنا أعذبه أو أغفر له؛ لذلك لا يقولن عبد لمذنب إن الله لابد أن يعذبه؛ لأنه سبحانه هو القائل : { عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ .
(1/3066)

. . } [ الأعراف : 156 ]
وما المقصود بالرحمة هنا؟ أهي الرحمة في الدنيا أو الرحمة في الآخرة؟ إنها الرحمة في الدنيا التي تشمل الطائع والعاصي ، والمؤمن والكافر ، ولكنها خالصة في اليوم الآخر - كما قلنا - للمؤمنين .
وقوله سبحانه : { فَسَأَكْتُبُهَا } يدل على أن هذا سيكون في الآخرة . أي أن رحمة الله وسعت كل شيء في الدنيا ولكنها رحمة تنتهي بالنسبة للكافرين في إطار الدنيا ، ولكن بالنسبة للمؤمنين فهي رحمة مستمرة قد كتبها الله أزلاً وتعطي للمؤمنين فضلاً ومنًّة وعطاء منه - سبحانه - { . . . فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 156 ]
وعندما سمع بعض اليهود ذلك قالوا : نحن متقون ، فقيل لهم : في أي منهج أنتم متقون أفي منهج موسى؟ لو كنتم متقين في منهج موسى - كما تزعمون - لآمنتم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لأن من تعاليم موسى أن تؤمنوا برسول الله محمد - عليه الصلاة والسلام - ولذلك جاء قوله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ . . . }
(1/3067)

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
فهذه تسع صفات لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أن الله أوحى إليه كتابًا مختصاً به وهو القرآن ، وأنه صاحب المعجزات ، أنه بلّغ ونبأ بأفضل وأتم العقائد والعبادات والأخلاق - وهو - عليه الصلاة والسلام - الأمي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إلى معلم ، فهو - عليه السلام - باقٍ على الحالة التي ولد عليها ، وقد ذكره ربّه - جل وعلا - باسمه وصفاته ونعوته عند اليهود والنصارى في التوارة والإِنجيل وقد كتمها الكافرون منهم أو أساءوا تأويلها ، كما وصفه ربه بأنه يأمرهم بالمعروف ويكلفهم بفعل ما تدعوا إليه الطبائع المستقيمة والفطر السليمة؛ لأن في ذلك النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يزجرهم وينهاهم عن كل منكر مستهجن تستقبحه الجبلة القويمة ، والخلقة السوية ، ويحل لهم ما حرم عليهم من الطيبات التي منعوا منها وحظرها الله عليهم جزاء طغيانهم وضلالهم ، ويحرم عليهم كل ضار وخبيث : كأكل الميتة والمال الحرام من الربا والرشوة والغش ، ويخفف عنهم ما شق عليهم وثقل من التكاليف التي كانت في شريعة موسى - عليه السلام - كقطع الأعضاء الخاطئة وتحريم الغنائم عليهم ووجوب إحراقها ، وكذلك يخفف الله ويحط عنهم المواثيق الشديدة التي فرضت عليهم عقابا لهم على فسوقهم وظلمهم .
يقول - جل شأنه - : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 160-161 ]
وهكذا أعلم الله الرسل السابقين على سيدنا رسول الله أن يبلغوا أقوامهم بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يؤمن الأقوام التي يشهدون ويعاصرون رسالته صلى الله عليه وسلم ، صحيح أن رسول الله لم يكن معاصراً لأحد من الرسل ، ولكن البشارة به قد جاءت بها أنبياؤهم وسجلت في الكتب المنزلة عليهم ، وكل رسول سبق سيدنا محمداً صلوات الله وسلامه عليه ، قد أمره الله أن يبلغ الذين أرسل إليهم أن يتبعوا الرسول محمداً ويؤمنوا به ولا يتمسكوا بسلطة زمنية ويخافوا أن تنزع منهم . ومادام الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه معجزة وبينة فلابد أن يؤمنوا به . { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين . . . } [ آل عمران : 81 ]
إذن فقد صنع الله سبحانه وتعالى خميرة إيمانية حتى لا يتعارض اتباع الأديان . ولا يفهم أصحاب دين موجود أن ديناً آخر جاء لينسخه ويأخذ منه السلطة الزمنية؛ لأن رسالة الإِيمان موصولة وتحدث الأقضية للناس بامتداد الزمان . فكل الرسل يحرصون على أن تكون الحياة آمنة سعيدة تتساند فيها المواهب ولا تتعاند فيها الحركات .
(1/3068)

وقد طلب الحق من الرسل ذلك وأخذ عليهم العهد وبعد ذلك أكده فقال :
{ أَأَقْرَرْتُمْ } واستوحى منهم الكلام الذي يؤيد هذا المنهج . ولذلك لا يصح لتابع نبي أن يصادم رسالة جديدة مؤيدة بمعجزة ومؤيدة بمنهج يضمن للإِنسان الحياة وسلامتها وسعادتها .
ولم يكتف الحق بأن يجعل الإِيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه ونسلم مجرد خبر ، بل وضع لمحمد وحده سمة في الكتب التي سبقته ، ووصفه لهم مشخصاً ، وحين يصفه مشخصاً فهذا أوضح من الخبر عنه بكلام . ولذلك قال عبدالله بن سلام عندما سأله عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أعلم به منّي يا بني . قال : وَلِمَ؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبيّ ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت ، فقبّل عمر رأسه . ولذلك يقول الحق سبحانه : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } .
ولا شك أن الإِنسان يعرف ابنه معرفة دقيقة . ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له سمات خاصة وهي التي تثبت شخصيته صلى الله عليه وسلم المادية ، وليس الأمر في رحلة الإِسراء والمعراج مجرد كلام ، بل إنه حينما سئل عن هذه الرحلة قال : " رأيت موسى وإذا رجل ضَرْبٌ ، رَجَلٌ كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى فإذا رَبعة أحمر كأنه خرج من ديماس- الحمَّام- وأنا أشبه ولد إبراهيم به " .
وكذلك أعطى الله في التوراة والإِنجيل لا الخبر عن محمد صلى الله عليه وسلم فقط ، بل أعطي تفاصيل صورته بحيث تتشخص لهم ، فلا يلتبس به عند مجيئه مع التشخيص شريك ، فبقول سبحانه : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } . ولكن فريقاً منهم كتموا الحق ليحتفظوا بالسلطة الزمنية ، لأنهم كانوا يظنون أنه حين يأتي دين جديد سيأخذ منهم هذه السلطة الزمنية ويقود الأمم والشعوب . لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رسل السماء إلى الأرض متعاونين لا متعاندين ، ينصر بعضهم بعضاً . كما جاء في سورة الفتح : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 29 ]
لقد جاء الحق بصورة المؤمنين برسالة رسول الله صلى الله في التوراة والإِنجيل ، لأن الدين الإِسلامي الذي نزل على محمد لن يأتي دين بعده؛ لذلك جاء بسيرة رسول الله وصفاته وصفات أتباعه في التوراة والإِنجيل ، وفي هذا الدين ما تفتقده اليهودية التي انجرفت إلى مادية صرفة وتركت الروحانيات؛ لذلك تأتي سيرة أتباع محمد في التوراة : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } .
حين أسرف اليهود في المادية أراد الله أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى الروحانية وهو سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام .
(1/3069)

. ليحصل الاعتدال في تناول الحياة دون إفراط أو تفريط .
إذن فالحق سبحانه وتعالى مهد لكل رسول بأن يبشر به الرسول السابق لأنه لا معاندات في الرسالات . ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الموكب الرسالي ، كان ولابد أن يصفه الله - سبحانه - وصفًّا ليس بالكلام ، بل يصفه كصورة ، بحيث إذا رأوه يعرفونه ، ولذلك نجد سيدنا سلمان الفارسي حين رأى رسول الله في المدينة ورأى منه علامات كثيرة أحب أن يرى فيه علامة مادية ، فرأى في كتف الرسول خاتم النبوة .
ولكن هل نفع ذلك؟ نعم ، فكثير من الناس آمن به . " وقد أقام رسول الله مناظرة بينه وبين اليهود بواسطة عبدالله بن سلام ، الذي قال بعد أن أسلم بين يدي رسول الله : " يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك ، فجاءت اليهود ودخل عبدالله البيت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي رجل فيكم عبدالله بن سَلاَم؟ قالوا : أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفرأيتم إن أسلم عبدالله؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبدالله إليهم ، فقال : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه " .
إذن فالأوصاف الكلامية والأوصاف الشخصية المشخصة جاءت حتى لا يقال : إن أديان السماء تتعاند ، إنها كلها متكاتفة في أن تصل الأرض بالسماء على ما تقتضيه حالة العصر زماناً ومكاناً . وقديماً كان العالم معزولاً عن بعضه ، وكل بيئة لها أجواؤها وداءاتها؛ فيأتي الرسول ليعالج في مكان خاص داءات خاصة ، لكن الله جاء برسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توحدت هذه الداءات في الدنيا؛ جاء رسولنا الكريم ليعالج هذه الداءات العالمية ، وجاء رسول الله مؤيداً بأوصافه ومؤيداًُ بتعاليمه التي تخفف عنهم إصرهم وأغلالهم ، والإِصر هو الحِمْل الثقيل ، والأغلال جمع غُلّ وهو الحديدة التي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة .
وقد ذكر الحق الأوصاف ومهَّد الأذهان إلى مجيء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم الأغلال بالنور الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فالرسالة المحمدية هي الجامعة المانعة ، ولذلك يقول الحق بعد ذلك : { قُلْ ياأيها الناس . . . }
(1/3070)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
هنا يأمر الحق رسوله بالآتي : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } في رسالة تعم الزمان ، وتعم المكان . وفي ذلك يقول رسول الله :
" أعطيت خمساً لم يُعْطَهن أحد من الأنبياء قبلي . . نُصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة " .
ثم بعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يثبت عمومية الرسالة بعمومية تسخير الكون للخلق؛ لذلك كان الحديث موجهاً إلى كافة الناس : { قُلْ ياأيها الناس } . وكل من يطلق عليهم ناس فالرسول مرسل إليهم : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وأراد سبحانه أن يعطينا الحيثيات التي تجعل لله رسولاً يبلغ قومه وكافة الأقوام منهج الله في حركة حياتهم ، فقال : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } .
ومادام هو الذي يملك السموات والأرض ، ولم يدّع أحد من خلقه أنه يملكها ، وفي السموات والأرض وما بينهما حياتنا ومقومات وجودنا فهو سبحانه أولى وأحق أن يعبد . ولو أن السماء لواحد ، والهواء لواحد ، والأرض لواحد ، وما بينهما لواحد لكان من الممكن أن يكون إله هنا ، وإله هناك وإله هنالك . وفي هذا يقول الحق : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . . } [ المؤمنون : 91 ]
إذن فما دام الوجود كله من السموات والأرض وما سواهما لله ، فهو الأوْلى أن يعبد ، وأول قمة العبادة أن تشهد بأنه لا إله إلا الله ، وحيثية ألوهيته الأولى أن له ملك السموات والأرض . وما دام إلهاً فلا بد أن يطاع ، ولا يطاع إلا بمنهج ، ولا منهج إلا بافعل ولا تفعل . وأول المنهج القمة العقدية إنه هو التوحيد . وجعل الله للتوحيد حيثية من واقع الحياة فقال : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } . وهذا أمر لم يدعه أحد أبداً؛ لأن الله هو الذي له ملك السموات والأرض ، ولأنه يحيي ويميت .
ولذلك نجد من حاجّ إبراهيم في ربه يقول الحق عنه : { أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ . . . } [ البقرة : 258 ]
وحاول هذا الملك أن يدير حواراً سفسطائيًّا مضللا ليفحم ويسكت إبراهيم - عليه السلام - فقال : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ . . . } [ البقرة : 258 ]
وذلك بأن يأمر بقتل انسان ثم يعفو عنه ، وهو بذلك لا يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين . لكن هل الأمر بالقتل هو الموت؟ . طبعا لا؛ لأن هناك فارقا بين الموت والقتل ، فقد يقتل إنسان إنساناً آخر ، لكنه لا يمكن أن يميته؛ لأن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء؛ برصاصة أو بحجر أو بقنبلة . ولا أحد قادر على أن يميت احداً إذا رغب في أن يميته ، فالموت هو الحادث بدون سبب ، لكن أن يقتل إنسان إنساناً آخر فهذا ممكن ، ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه : { يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ .
(1/3071)

. . } [ الأعراف : 158 ]
وانظروا إلى الدقة في الأداء؛ فما دام قد أمر الحق رسوله أن يقول : إني رسول الله إليكم جميعاً ، وحيثية الإِيمان هي الإِقرار والاعتقاد بوحدانية الإِله الذي له ملك السموات والأرض ، وهو لا إله إلا هو ، وهو يحيي ويميت؛ لذلك يدعوهم إلى الإِيمان بالخالق الأعلى : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } .
لم يقل محمدٌ وآمنوا بي؛ لأنها ليست مسألة ذاتية في شخصك ما يا محمد ، إنما هو تكريم لرسالتك إلى الناس ، فالإِِيمان لا بذاتك وشخصك ، ولكن لأنك رسول الله ، فجاء بالحيثية الأصلية { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ، والرسول قد يكون محمداً أو غير محمد . . وبعد ذلك قال في وصف النبي : { النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } . والأمية - كما علمنا من قبل - شرف في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو صلى الله عليه وسلم يؤمن بكلمات الله ، وهي إما بما بلغنا عنه من أسلوب القرآن ، وإمّا بالذي قاله موسى لقومه : " وجعل كلامي في فيه " .
ويقول فيه عيسى - الذي لا يتكلم من قِبَل نفسه - ، وإنما تأتي له كلمات ربنا في فمه ، والقول الشامل في وصف كلمات محمد صلى الله عليه وسلم : ما بيّنه الحق في قوله : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } [ النجم : 3 ]
أو أن الإِيمان بالكلمات هو أن يؤمن بأن كل كون الله مخلوق بكلمة منه : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ]
ولقائل أن يقول : كيف يخاطب الله شيئاً وهو لم يكن بعد؟ ونقول : إنه سبحانه قد علمه أزلاً ، ووجوده ثابت وحاصل ، ولكن الله يريد أن يبرز هذا الموجود للناس ، فوجود أي شيء هو أزلي في علم الله ، وكأنه يقول للشيء : اظهر يا كائن للوجود ليراك الناس بعد أن كنت مطموراً في طيّ قدرتي .
وسواء أكانت الكلمة بخلق الأسباب ، مثل خلث الشمس والقمر أم بخلق شيء بلا أسباب ، كعيسى - عليه السلام - فأنه " كلمة منه " أي كلمة تخطت نطاق الأسباب؛ بأن ولدت سيدتنا مريم من غير رجل . وفي هذا تخطٍ للأسباب ، ولذلك قال الحق سبحانه :
{ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } . ونعلم أن كل شيء لا يكون إلا بكلمة منه سبحانه ، ولكن بكلمة لها أسباب ، أو بكلمة لا أسباب لها . والكلمات هي أيضاً الآيات التي فيها منهج الأحكام ، ولذلك يأتي قوله الحق : { قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ]
ويروي لنا الأثر أن سيدنا موسى عليه السلام قال لربه :
" أني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد " .
(1/3072)

وقول موسى آمنوا بالكتاب الآخر ، هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه : { قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط . . . } [ البقرة : 136 ]
ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله :
{ واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . و " لعل " رجاء وطلب . ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين : إما طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه ، وهو لون من التمني مثل قول من قال : ليت الشباب يعود يوماً ، إنه يعلم أن الشباب لا يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب . أو كقول إنسان : ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح ، وهذا طلب لمحال ، إلا أنه يريد أن يشعرك بأن هذا أمر يحبه ، إمَّا طلب ممكن التحقيق . وهو ما يسمى بالرجاء . وله مراحل : فأنت حين ترجو لإِنسان كذا ، تقول : لعل فلاناً يعطيك كذا ، والإِدخال في باب الرجاء أن تقول : لعلي أعطيك؛ لأن الرجاء منك أنت ، وأنت الذي تقوله ، ومع ذلك قد لا تستطيع تحقيقه ، والأقوى أن تقول : لعل الله يعطيك . أما الله يعطيك . ولكنها من كلامك أنت فقد يستجيب الله لك وقد لا يستجيب ، أما إذا قال الله : لعلكم ، فهذا أرجي الرجاءات ، ولابد أن يتحقق .
وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى ، يتكلم عنهم بعرض قصصهم ، وفضائحهم للعهد بعد نعم الله الواسعة الكثيرة عليهم ، وأوضح لنا : إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عاماً؛ لأن الحكم لو كان عاماً ، لما وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد . ولذلك قلنا قديماً إن هناك ما يسمى " صيانة الاحتمال " . ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول الله مثل مخريق الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مخريق خير يهود " . وعبدالله بن سلام إن بعض اليهود كانوا مشغولين بقضية الإِيمان ، ولذلك لا تأخذ المسألة كحكم عام؛ لأن من قوم موسى من يصفهم الحق بالقول الكريم : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ . . . }
(1/3073)

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
وحين يسمع قوم موسى هذا القول سيقولون في أنفسهم أنه يعلم ما في صدورنا من تفكير في الإِيمان برسالة صلى الله عليه وسلم . ولكن لو عمَّم الحكم فمن يفكر في الإِيمان بمحمد يقول : لماذا يصدر حكماً ضدي وأنا أفكر في الإِيمان؟ لكن الحق " صان الاحتمال " وأوضح لكل واحد من هؤلاء الذين يفكرون في الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى إعلان الإِيمان فقال : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ]
أي يدلون الناس على الحق ويدعونهم إلى طريق الخير ، وبهذا الحق يعدلون في حكمهم بين الناس ولا يجورون .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ . . . }
(1/3074)

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وحين يقول الحق " قطعناهم " فهذه عودة لقوم موسى ، ونعرف أن القرآن لا يخصص كأي كتاب فصلاً لموسى وآخر لعيسى وثالثاً لمحمد ، لا ، بل يجعل من المنهج الإِيماني عجينة واحدة في الدعوة ، فيأتي بقضية عيسى ، ثم يدخل في الدعوة قضية موسى وغيره وهكذا ، ثم يرجع إلى القضية الأصلية كي يستغل انفعالات النفس بعد أي قصة من القصص .
وهنا يعود الحق سبحانه لقوم موسى مرة أخرى . فبعد أن أنصفهم وبيّن أن فيهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . يقول : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } . والمقصود هنا بنو إسرائيل ، ومعنى " قطعت الشيء " أن الشيء كان له تمام وجودي مع بعضه ، ثم قطعته وفصلت بعضه عن بعض ، وجعلته قطعاً وأجزاء . فهم كلهم بنو إسرائيل ، ولكن الحق يوضح أنه قطعهم وجعلهم " أسباطاً " ، و " السبط " هو ولد والولد ، وهم هنا أولاد سيدنا يعقوب وكانوا اثني عشر ولداً ، وحكت سورة يوسف وقالت : { . . . ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ]
وحين تعد وتحصي ستجد أحد عشر كوكباً مرئية ، وتضم إليها الشمس والقمر والرائي ، فيصير العدد أربعة عشر واترك الشمس والقمر لأنهما يرمزان إلى يعقوب وزوجه ، وخذ الأحد عشر كوكباً ، وأضف الرائي وهو يوسف فيكون العدد اثنى عشر . وهؤلاء هم الاثنى عشر سبطاً ، فقد أنجب سيدنا يعقوب اثنى عشر ابناً من أمهات مختلفة ، وعرفنا من قبل أن الأمهات حين تتعدد فالميول الأهوائية بين الأبناء قد تتعاند . ولذلك تنبأ سيدنا يعقوب وقال لسيدنا يوسف : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً . . . } [ يوسف : 5 ]
هذا أول دليل على أنهم مختلفون ، وهو سبب من أسباب وحيثية التقطيع : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } .
وفي سورة يوسف نقرأ : { هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً . . . } [ يوسف : 100 ]
وهنا يقول الحق سبحانه : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً . . . } [ الأعراف : 160 ]
إنهم لا يريدون حتى مجرد الاشتراك في الماء تحسباً للاختلاف فيما بينهم ، فجعل الحق لكل سبط منهم عيناً يشرب منها ليعالج ما فيهم من داءات الغيرة والحقد على بعضهم البعض؛ لأن الحق قال عنهم : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } .
وهنا وقفة لغوية فقط ، والأسباط في أولاد يعقوب وإسحاق يقابلون القبائل في أولاد إسماعيل ، وأولاد إسماعيل " العرب " يسمونهم قبائل ، وهؤلاء يسمونهم " أسباطاً " ، ونعرف أن لفظ " اثنتي " يدل على أنهم إناث ، و " عشرة " أيضاً إناث ، لأننا نقول : " جاءني رجلان اثنان " و " امرأتان اثنتان "؛ أي اثنان للذكور ، واثنتان للإِناث ، وكلمة " اثنتي عشرة " عدد مركب وتمييزه يكون دائماً مفرداً ، ولذلك يقول الحق : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } .
(1/3075)

إذن " اثنتا عشرة " يدل على أنه مؤنث . لكن المذكور هنا " سبط " وسبط مذكر ، ولنا أن نعرف أنه إذا جمع صار مؤنثاً لأنهم يقولون : " كل جمع مؤنث " وأيضاً فالمراد بالأسباط القبائل ، ومفردها قبيلة وهي مؤنثة ، وقطعهم أي كانت لهم - من قبل - وحدة تجمعهم ، فأراد الحق أن يلفتنا إلى أنهم من شيء واحد ، فجاء بكلمة " أسباط " مكان قبيلة ، وقبيلة مفردة مؤنثة ، ويقال : " اثنتا عشرة قبيلة " ، ولا يقال اثنتا عشرة قبائل ، فوضع أسباطاً ، موضع قبيلة لأن كل قبيلة تضم أسباطاً لذا جاء التمييز مذكراً . . . { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً . . . } [ الأعراف : 160 ]
أي جعلنا كل سبط أمة بخصوصها . والواقع الكوني أثبت أنهم كذلك؛ لأنك لا تجد لهم - فيما مضى - تجمعاً قوميًّا وهو ما يسمونه " الوطن القومي لليهود " برغم أن الدول الظالمة القوية أعانوهم وأقاموا لهم وطنًّا على أرض فلسطين ، ومع ذلك نجد في كل بلد طائفة منهم تعيش معزولة عن الشعوب التي تحيا في رحابها ، وكأنهم لا يريدون أن يذوبوا في الشعوب ، ففي باريس - مثلاً - تجد " حي اليهود " ، وفي لندن المسألة نفسها ، وفي كل مدينة كبيرة تتكرر هذه الحكاية ، فهم يعيشون فيها بطقوسهم وبشكلهم وبأكلهم ، وبعاداتهم معزولين عن الشعوب ، وكأنهم ينفذون قدر الله فيهم : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } .
وقطعهم ربنا في الأرض أي أنه نشرهم في البلاد ، ولم يجعل لهم وطناً مستقلاً ، ولذلك ستقرأ في سورة الإِسراء إن شاء الله : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض . . . } .
أي أنه سبحانه قال لهم بعد سيدنا موسى : اسكنوا الأرض وحين تقول لنا يا رب : " اسكن " فأنت تحدد مكاناً من الأرض . كأن يسكن الإِنسان في الإِسكندرية أو القاهرة أو الأردن أو سوريا ، لكن أن يصدر الحكم بأن { اسكنوا الأرض } فهذا يعني أن انساحوا فيها فلا تجمع لكم .
ويقول الحق : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } .
أي أنه حين يجيء وعد الآخرة تكون ضربة قاضية عليكم - أيها اليهود - لأن عدوكم لن يتتبعكم في كل أمة من الأمم ، ويبعث جيشاً يحاربكم في كل مكان تعيش فيه طائفة منكم ، لكن إذا جاء وعد الآخرة يأتي بهم الحق لفيفاً ويتجمعون . في هذا الوطن القومي الذين يفرحون به ، ونقول لهم : لا تفرحوا فهذا هو التجمع الذي قال الله عنه : { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } لتكون الضربة موجهة لكم في مكان واحد تستأصلكم وتقضي عليكم .
ويأتي الحق بعد ذلك بخبر المعجزات : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر .
(1/3076)

. . } [ الأعراف : 160 ]
و " استسقى " المراد منه هو طلب السقيا ، والسقيا هي طلب الماء الذي يمنع على الإِنسان العطش ، ومادام قد طلبوا السقيا فلابد أنهم يعانون من ظمأ ، كأنهم في التيه . وأراد الله سبحانه أن يبرز لهم نعمه وقت الحاجة ، فقد تركهم إلى أن عطشوا ليستسقوا وليشعروا بنعمة الرِّي .
والحق يقول : { إِذِ استسقاه قَوْمُهُ } ، أي طلبوا من سيدنا موسى أن يسأل الله السقيا . فلماذا لجأوا إلى موسى وقت الظمأ؟ وقال لهم موسى : ليس بذاتي أرويكم ، ولكن سأستسقي لكم ربي ، ونعلم أن مقومات الحياة بالترتيب الوجودي الاضطراري : الهواء والماء والطعام . وساعة ترى " همزة " وسيناً " وتاء " واقعة على شيء من الأشياء فاعرف أنه أمر مطلوب ومرغوب فيه .
مثال ذلك : حين سار موسى والعبد الصالح ونزلا قرية استطعما أهلها ، أي طلبا طعاماً وهذا هو المقوم الثالث للحياة . وهنا " استسقى " أي طلب المقوم الثاني وهو الماء ، ونعلم أن المقوم الأول وهو الهواء لا نستغني عنه . لذا لم يضعه الله في يد أحد بل أعطاه ومنحه كل الخلق .
ولما كان الهواء غير مملوك وهو مشاع؛ لذلك لم توجد فيه هذه العملية . إنما الطعام يُمكن أن يُملك ، والماء يُمكن أن يُملك ، فقال سبحانه مرة " استطعم " ، وقال هنا " استسقى " ، ولم يوجد " استهوى " لطلب الهواء ، لكن وجد في القرآن " استهوى " بمعنى طلب أن تكون على هواه : { استهوته الشياطين . . . } [ الأنعام : 71 ]
أي طلبت الشياطين أن يكون هواه ومراده تبعاً لما يريدون لا لما يريده الله .
وقصة الاستسقاء وردت من قبل في سورة البقرة : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } . وفي سورة الأعراف التي نحن بصدد خواطرنا عنها هم الذين طلبوا الاستسقاء . فهل هناك تعارض؟ . طبعاً لا؛ لأن قوم موسى طلبوا السقيا من موسى ، فطلب لهم السقيا من ربه . فهل هذا تكرار؟ لا؛ لأنه سبحانه تكلم عن الواسطة ، وبعد ذلك تكلم عن الأصل ، وهو سبحانه الواهب للماء؛ فقال هنا : " إذ استسقاه قومه " ، وفي سورة البقرة قال : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } .
وهذا ترتيب طبيعي . أقول ذلك لنعرف الفارق بين العبارتين حتى نؤكد أنه لا خلاف ولا تكرار؛ لأن المستسقي هنا القوم ، والمستسقي لهم هنا هو موسى والمستسقي منه هو الله - جلت قدرته- وهذا أمر طبيعي .
والحق سبحانه يقول في سورة البقرة : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر . . . } [ البقرة : 60 ]
ونجد الوحي نزل إلى موسى بقوله : { فَقُلْنَا اضرب } ؛ وهنا في سورة الأعراف نجد الحق يقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر . . . } [ الأعراف : 160 ]
ولنا أن نعرف أَنَّ { فَقُلْنَا } تساوي " أوحينا " تماماً ، لأن المقصود بالقول هنا ليس من مناطات تكليم الله لموسى ، بل مناط هذه القضية غير المناط في قوله الحق : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } .
(1/3077)

فليس كل وحي لموسى جاء بكلام مباشر من الله ، بل سبحانه كلمه مرة واحدة كتشريف له ، ثم أوحي له من بعد ذلك كغيره من الرسل .
وقوله الحق : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً . . . } [ الأعراف : 160 ]
هذا القول يدلنا على الإِعجاز المطلق ، فمرة أمر الحق موسى أن يضرب الماء بالعصا { فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } ، ومرة يأمره هنا أن يضرب الحجر فينحبس منه الماء ، وهكذا نرى طلاقة قدرة الله في أن يعطي ويمنع بالشيء الواحد ، ولم يكن ذلك إلا بالأسباب التي في يد الله يحركها كيف يشاء . ولذلك رأينا أمر الله حين ضرب موسى البحر بعصاه ، فصار كل فرق كالطود ، أي كالجبل ، وامتنعت السيولة ، ولما خرج موسى وقومه إلى البر بعد أن عبر البحر أراد أن يضرب البحر ليعود ثانية إلى سيرته الأولى من السيولة ، فأوحى له الله : { واترك البحر رَهْواً } .
أي تركه كما هو عليه؛ لأن الله يريد أن يغتر فرعون وقومه بأن يروا اليابس طريقاً موجوداً بين الماء ، فيحاولوا النفاذ منه وراء موسى وقومه ، وما أن دخل فرعون وقومه خلف موسى حتى عاد الماء إلى سيولته فغرق فرعون وقومه . وهكذا أنجى الله وأغرق بالشيء الواحد ، وكذلك في أمر العصا؛ إنها حين ضربت الماء فلقته فصار كل فرق كالطود والجبل الشامخ ، ثم ضرب موسى بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء ، وهكذا نرى قدرة من بيده القدرة والأسباب . { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً . . . } [ الأعراف : 160 ]
وهنا تعبير " انبجست " ، وهناك تعبير " انفجرت " ، ونعلم أن الانبجاس يحدث أولاً ثم يتبعه الانفجار ثانياً ، فالانبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة ، ثم يأتي الانفجار وتتدفق المياه الكثيرة ، فكان موسى عليه السلام أول ما يضرب الضربة تأتي وتجيء المياه قليلة ثم تنفجر بعد ذلك . إذن فقد تكلم الحق عن المراحل التي أعقبت الضربة في لقطات متعددة لمظهر واحد؛ له أولية وله آخرية .
وحين تكلم أمير الشعراء عن عطاء الله وقدرته قال :
سبحانك اللهم خير معلم ... علمت بالقلم القرون الأولى
أرسلت بالتوراة موسى مرشداً ... وابن البتول فعلَّم الإِنجيلا
ثم جاء لسيدنا محمد وقال :
وفجرت ينبوع البيان محمداً ... فسقى وناول التنزيلا
وهنا توفيق رائع في العبارة حين قال : " فسقى الحديث " ، فالحديث سقيا أما القرآن فمناولة من الله لخلقه . والحق يقول : { فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } .
إن الضربة واحدة من عصا واحدة ، وكان المفترض أن تحدث هذه الضربة عينا واحدة تنبع منها المياه ، لكن الحق أرادها اثنتي عشرة عينا وعلم كل أناس مشربهم؛ لذلك كان لابد أن يكون المكان متسعاً .
(1/3078)

وأن هذه الضربة كانت إيذاناً بالانفعال من الأرض . { فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ . . . } [ الأعراف : 160 ]
ومن أين عرف كل قسم منهم الماء الذي يخصه؟ إنها قسمة الله وصارت كل عين تجذب أصحابها ، فلم يتزاحموا ، وهذا يدل أيضاً على التساوي ، فلم تنفجر عين بماء أكثر من الأخرى فتثير الطمع ، لا ، بل انتظم الجميع فيما أراده الحق : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } .
والحق هنا يتكلم عن رحلة بني إسرائيل في التيه ، وفي الصحراء والشمس محرقة ، ولا ماء ، فاستسقوا موسى ، فطلب لهم السقيا من الله ، وجاءت لهم اثنتا عشرة عينا حتى لا يتزاحموا ، وعرف كل منهم مشربه .
ويضيف الحق : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام } .
ولأن الشمس محرقة يرحمهم الله بمسيرة من الغمامات تظللهم ، ولكل سبط غمامة على قدره ، فإذا كان الواحد من البشر حين يوزع جماعة من كتل صغيرة ، لا يعجز أن يضعهم في عشرين خيمة مثلا ، فهل يعجز ربنا عن ذلك؟ طبعاً لا . وإذا كان الحق قد ضمن لنا في الأرض الرزق حتى لا نجوع ، ولا نعرى ، ولا تحرقنا الشمس ، ونجد ماء . إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلاء . فقال : لا تحرقنا الشمس ، ونجد ماء . إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلاء . فقال : { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . . } [ الأعراف : 160 ]
ساعة تأتي كلمة " أنزلنا " نعرف أنها مسألة جاءت من علو ، ولا يُفترض أن يكون مكانها عاليًّا ، لكن هي مسألة جاءت من أعلى من قدرتك ، أي من فوق أسبابك إنها بقدرة الأعلى .
و " المنّ " مادة بيضاء اللون حلوة الطعم مثل قطرات الزئبق . يجدونه على الشجر . ولا يزال هذا الشجر موجوداً إلى الآن في العراق ، يهزونه صباحاً فيتساقط ما على الورق من قطرات متجمدة لونها أبيض ، فيأخذونه على ملاءة بيضاء واسمه عندهم المنْ - أيضاً - وهو طعم القشدة وليونتها ، وحلاة العسل .
و " السلوى " هو طير من رتبة الدجاجيات يستوطن أوروبا وحوض البحر المتوسط واحدته " سَلواة " وهو " السُّماني " ويسميه أهل السواحل " السُّمان " وهو يأتي مهاجراً ولم يربه أحد ، وفي هذا إنزال من الله لأنه رزق من فوق قدرة العباد وأسبابهم . { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . . } [ الأعراف : 160 ]
وهناك مصانع تصنع المن في أشكال مختلفة وأنواع من الحلوى جميلة ، ومن زار العراق ذاقه أو أحضره لأهله . والسلوى - كما قلنا - هو طائر " السمان " الموجود في بيئة أخرى يغريه ربنا بالطقس الدافئ فيأتي إلينا لنأخذه ، وهذه الطيور جاءت طالبة استمرار الحياة ، ويبعثها ربنا لتصير لنا طعاماً ليدلل على أنه حين يريد الماء ، وكما ظلّلهم بالغمام ، وبذلك صارت حاجاتهم قدريَّة ليس لهم فيها أسباب وجاءت لهم بالهناء .
(1/3079)

فقالوا : ومن يدرينا أن الرزق الذي يأتينا من المن والسلوى سيستمر ، ثم كيف لنا أن نصبر على طعام واحد؟ إنهم قالوا لنبيهم سيدنا موسى ما حكاه القرآن بقوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا . . . } [ البقرة : 61 ]
وهنا قال الحق : اذهبوا إلى أي مِصْرٍ من الأمصار والمدن تجدوا ما تريدون : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } . لقد أعطاهم الحق الرزق بدون السببية ، إنه منه مباشرة ، فكان من الواجب أن تشكروا من أراحكم ، وجعل لكم الرزق ميسرا . لكنهم لم يشكروا الله ، بل تمردوا ، ولذلك ذيل الحق الآية بقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } . نعم فهم ظلموا بعدم شكر النعمة .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا . . . }
(1/3080)

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
وهذه القصة مذكورة أيضاً في سورة البقرة ، ونعرف أن قوله سبحانه : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } ، ولم يذكر الحق من القائل؛ لأن طبيعة الأمر في الأسباط أنه سبحانه جعل لكل سبط منهم عيناً يشرب منها ، وكل سبط له نقيب ، وهذا دليل على أنهم لا يأتلفون؛ فلا يكون القول من واحد إلى الجميع ، بل يصدر القول من المشرع الأعلى وهو الحق إلى الرسول ، والرسول يقول للنقباء ، والنقباء يقولون للناس .
وبعد أن تلقى موسى القول أبلغه للنقباء ، والنقباء قالوه للأسباط ، وفي آية أخرى قال الحق : { وَإِذْ قُلْنَا } . وهذا القول الأول وضعنا أمام لقطة توضح أن المصدر الأصيل في القول هو الله ، ولأنهم أسباط ولكل سبط مشرب؛ لذلك يوضح هنا أنه أوحى لموسى . وساعة ما تسمع " وإذ " فاعلم أن المراد اذكر حين قيل لهم اسكنوا هذه القرية ، لقد قيل إن هذه القرية هي بيت المقدس أو أريحا ، لكنهم قالوا : لن ندخلها أبداً لأن فيها قوماً جبارين وأضافوا : { . . . فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]
والحق لا يبين لنا القرية في هذه الآية؛ لأن هذا أمر غير مهم ، بل جاء بالمسألة المهمة التي لها وزنها وخطرها وهي تنفيذ الأمر على أي مكان يكون : { اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا } .
ويوضح الحق : أنا تكفلت بكم فيها كما تكفلت بكم في التيه من تظليل غمام ، وتفجير ماء غماما ، وتفجير ماء من صخر ، ومَنّ وسلوى . وحين أقول لكم ادخلوا القرية واسكنوها فلن أتخلى عنكم : { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } . وقديماً كان لكل قرية باب؛ لذلك يتابع سبحانه : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً } .
والحطة تعني الدعاء بأن يقولوا : يا رب حط عنا ذنوبنا فنحن قد استجبنا لأمرك وجئنا إلى القرية التي أمرتنا أن نسكنها ، وكان عليهم أن يدخلوها ساجدين؛ لأن الله قد أنجاهم من التيه بعد أن أنعم عليهم ورفّههم فيه . وإذا ما فعلوا ذلك سيكون لهم الثواب وهو : { . . . نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين } [ الأعراف : 161 ]
وسبحانه يغفر مرة ثم يكتب حسنة ، أي سلب مضرة ، وجلب منفعة ، لكن هناك في سورة البقرة قد جاء النص التالي : { وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين } [ البقرة : 58 ]
فالكيان العام واحد ونجد خلافاً في الألفاظ واللقطات عن الآية التي وردت في سورة الأعراف . أول خلاف { وَإِذْ قُلْنَا } ، و { وَإِذْ قِيلَ } ، وشاء الحق ذلك ليأتي لنا بلقطة مختلفة كنا أوضحنا من قبل . ففي آية سورة البقرة يقول سبحانه : { ادخلوا } وفي آية سورة الأعراف يقول : { اسكنوا } ، ونعلم أن الدخول يكون لغاية وهي السكن أي ادخلوا لتسكنوا ، وأوضح ذلك بقوله في سورة الأعراف : { اسكنوا } ليبين أن دخولهم ليس للمرور بل للإِقامة .
(1/3081)

وأراد سبحانه أن يعطيهم الغاية النهائية؛ لأنه لا يسكن أحد في القرية إلا إذا دخلها .
وهكذا نرى أن كلمات القرآن لا تأتي لتكرار ، بل للتأسيس وللإِتيان بمعنى جديد يوضح ويبين ويشرح . ويقول الحق هنا في سورة الأعراف : { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } . وفي آية سورة البقرة يقول : { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } .
وحين أمرهم الله بالدخول وكانوا جوعى أمرهم الحق أن يأكلوا ، على الفور والتوّ بتوسع ، لذلك أتى بكلمة " رغداً " لأن حاجتهم إلى الطعام شديدة وملحة ، لكنه بعد أن أمرهم بالسكن أوضح لهم أن يأكلوا؛ لأن السكن يحقق الاستقرار ويتيح للإِنسان أن يأكل براحة وتأن . وقال الحق هنا في سورة الأعراف : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً } . أي أنه قدم قولهم " حطة " على السجود ، وفي آية سورة البقرة قدم السجود فقال : { وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ . . . } [ البقرة : 58 ]
جاء الحق بهذا الاختلاف لأنه علم أن انفعالات السامعين تختلف ساعة الدخول ، فهناك من ينفعل للقول ، فيقول أول دخوله ما أمر به من طلب الحطة وغفران الذنب من الله ، وهناك آخر ينفعل للفعل فيسجد من فور الدخول تنفيذاً لأمر الله . وأيضاً قال الحق هنا في سورة الأعراف : { . . . نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم سَنَزِيدُ المحسنين } [ الأعراف : 161 ]
وفي سورة البقرة يقول : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين } .
ونعلم أن صيغة الجمع تختلف؛ فهناك " جمع تكسير " وجمع تأنيث ، ففي جمع التكسير نغير من ترتيب حروف الكلمة ، مثل قولنا " قفل " فنقول في جمعها " أقفال " . أما في جمع التأنيث فنحن نزيد على الكلمة ألفاً وتاء بعد حذف ما قد يوجد في المفرد من علامة تأنيث ، مثل قولنا " فاطمة " ، و " فاطمات " ، و " أكلة " ، و " أكلات " وهذا جمع مؤنث سالم ، أي ترتيب حروفه لم يتغير ، وجمع المؤنث السالم يدل على القلة . لكن جمع التكسير يدل على الكثرة فجاء- سبحانه- بجمع المؤنث السالم الذي يدل على القلة وبجمع التكسير الذي يدل على الكثرة لاختلاف درجات ونسب الخطايا؛ لأن المخاطبين غير متساوين في الخطايا ، فهناك من ارتكب أخطاء كثيرة ، وهناك من أخطأ قليلاً . والاختلاف حدث أيضاً في عجز الآيتين ، فقال في سورة البقرة : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } وجاء عجز سورة الأعراف بدون " واو " فقال : { سَنَزِيدُ المحسنين } .
وقد عودنا ودعانا الحق إلى أن نقول : اغفر لنا وأنت خير الغافرين ، وارحمنا وأنت خير الراحمين ، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة . وهنا يوضح سبحانه : أنا لن أكتفي بأن أغفر لكم وأن أرفع عنكم الخطايا . لكني سأزيدكم حسناً ، وفي هذا سلب للضرر وجلب للنفع . كأن الله حينما قال : " خطاياكم " بجمع التكسير الذي ينبئ ويدل على كثرة الذنوب والخطايا و " خطيآتكم " التي تدل على القلة انشغلوا وتساءلوا : وماذا بعد الغفران يا رب فقيل؟ لهم : { سَنَزِيدُ المحسنين } هل يغفر لنا فقط ، أو أنه سيجازينا بالحسنات أيضاً؟ وكانت إجابة الله أنه سيغفر لهم ويزيدهم ويمدهم بالحسنات . وقد عقدنا هذه المقارنة المفصلة بين آية سورة البقرة وآية سورة الأعراف لنعرف أن الآيات لا تتصادم مع بعضها البعض ، بل تتكامل مصداقاً لقول الحق : { . . . وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ]
ويقول الحق بعد ذلك : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ . . . }
(1/3082)

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
هذه الآية تدل على أنهم افترقوا فرقتين؛ لأن الحق سبحانه مادام قد قال : { مِنْهُمْ } فهذا يعني أن بعضهم قالوا وفعلوا المطلوب ، وبعضهم ظلموا وبدلوا القول ، فقد أمرهم الحق أن يقولوا : " حطة " وطلب منهم أن يدخلوا سجداً . والتغيير منهم جاء في القول؛ لأن القول قد يكون بين الإِنسان وبين نفسه بحيث لا يسمعه سواه . لكن الفعل مرئي مما يدل على أن بعضهم يرائي بعضاً ، ففي القول أرادوا أن يهذروا ويتكلموا بما لا ينبغي ولا يليق ، فبدلاً من أن يقولوا : " حطة " قالوا : " حنطة " استهزاءً بالكلمة .
وهكذا نرى أن التبديل جاء في القول ، لكن الفعل لم يأت فيه كلام ، وإن قال بعضهم : إن التبديل أيضاً حدث من بعضهم في الفعل . فبدلاً من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مقعداتهم ، كنوع من التعالي ، لكن الحق لم يذكر شيئاً من ذلك؛ لأن سلوكهم في الفعل قد يكون السبب فيه أن بعضهم لا قدرة له على الفعل . { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ . . . } [ الأعراف : 162 ]
وكأن الحق يذكرنا بما فعله معهم من رعايتهم في أثناء التيه وكيف ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى ، واستسقى لهم موسى فجاءت المياه . لكن غريزة التبديل والتمرد لم تغادرهم . وما داموا قد بدَّلوا في كلمات الله ، فعليهم أن ينالوا العقاب : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء } .
وهناك آية ثانية في سورة البقرة يقول فيها الحق : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء } [ البقرة : 59 ] . والفارق بين " الإِنزال " وبين " الإِرسال " أن الإِنزال يكون مرة واحدة . أما الإِرسال فهو مسترسل ومتواصل . ولذلك يقول الحق سبحانه في المطر : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } . لأن المطر لا ينزل طوال الوقت من السماء . لكن في الإِرسال استمرار ، اللهم إلا بعضاً من تأثير الهواء . ولذلك يقول الحق : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } . فالذي يحتاج إلى استمرارية في الفعل يقول فيه الحق : " أرسل " بدليل أن الله حينما أراد أن يجيء بالطوفان ليغرق المكذبين بموسى قال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان . . . } [ الأعراف : 133 ]
وعندما أراد أن يرغب عاداً قوم سيدنا هود في الاستغفار والتوبة والرجوع عما كانوا عليه من الكفر والآثام قال لهم : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً . . . } [ هود : 52 ]
إذن فالإِرسال يعني التواصل ، أما الإِنزال فهو لمرة واحدة ، وأراد الحق سبحانه من قصة بني إسرائيل أن يأتي لنا بلقطة فجاء بكلمة " أنزلنا " ، ولقطة أخرى جاء فيها ب " أرسلنا "؛ لأن العقوبة تختلف باختلاف المذنبين ، والمذنبون مقولون بالتشكيك ، فهذا له ذنب صغير ، وآخر ذنبه أكبر ، وكل إنسان يأخذ العذاب على قدر ذنبه؛ فمن أذنب ذنباً صغيراً أنزل الله عليه عقاباً على قدر ذنبه .
(1/3083)

ومن تمادى أرسل الله عليه عذاباً يستمر على قدر ذنوبه الكبيرة .
وهنا يقول الحق : { . . . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [ الأعراف : 162 ]
و " رجزاً " أي عذاباً ، وهناك رِجْز ، ورُجْز ، والرِّجز يُولد من الرُّجز؛ وينشأ مثل قوله الحق : { والرجز فاهجر } . أي اهجر الرُّجز . . أي المآثم والمعاصي والذنوب لتسلم من الرِّجز . . أي من العذاب . وهنا يبين الحق أنهم تلقوا العذاب بسبب ظلمهم ، وهناك في الآية الأخرى قال : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } .
والفسق يسبق الظلم؛ لأن الإِنسان لا يمكن أن يظلم نفسه بمخالفة منهج إلا إذا فسق أولاً ، ولذلك جاء الحق بالمسبَّب وجاء السبب ، وهكذا نتأكد أن كل كلمة في القرآن جاءت لمعنى أساسي تؤديه ولا تكرار إلا لمجموع القصة في ذاتها ، أما لقطات القصة هنا ، ولقطات القصة هناك فأمور جاءت تأسيساً في كل شيء لتعطي معاني ولقطات جديدة .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية . . . }
(1/3084)

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
هنا سؤال عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، ونعلم أن القرية الأولى التي دخلوها هي " بيت المقدس " ولم تكن على البحر ، والقرية التي كانت على البحر هي " أيلة " أو " مدين " أو " طبرية " ، المهم أنها كانت " حاضرة البحر " أي قريبة من البحر ومشرفة عليه؛ لأننا نقول فلان حضر ، أي كان بعيداً فاقترب . فمثل الإِسكندرية يمكن أن نسميها حاضرة البحر .
وقوله : " واسألهم " والسؤال هنا موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوجه السؤال إلى أهل الكتاب ، ويطلب منهم أن ينظروا في كتبهم ليعرفوا أن ما يقوله هو وحي من الله إليه؛ لأنهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلم ، ولم يقرأ في كتاب ، وإنما علّمه من أرسله ، إنّه صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يَعْلَم منهم ، بل يريد أن يُعْلِمَهم أنه يعلم ، وهم يعلمون أنه لا مصدر له كعلم سائر البشر؛ لا جلس على معلم ولا قرأ في كتاب ولذلك تجد " ماكُنَّات " القرآن أي قوله الحق : " ما كنت " و " ماكنت " و " ما كنت " و " ما كنت " مثل قوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر . . . } [ القصص : 44 ]
ومثل قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا . . . } [ القصص : 45 ]
ومثل قوله تعالى : { . . . وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ]
إذن فأنت يا رسول الله لم تكن معهم لتقول ما حدث وحصل لهم ، بل إن ذلك موجود عندهم في كتبهم ، إذن فالذي علمك هو من أرسلك . كذلك هنا مصداقاً لقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } [ العنكبوت : 48 ]
وفي هذا القول أمر من الله سبحانه وتعالى أن يخبرهم أنه سبحانه قد علمه وأعلمه بما لا يستطيعون إنكاره ليتيقنوا أن الله يعلمه ليؤمنوا به . { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر . . . } [ الأعراف : 163 ]
وكلمة " واسألهم " تحل لنا إشكالات كثيرة ، مثال ذلك حديث الإِسراء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء بصلاة إبراهيم .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كرباً مثله قط ، فرفعه الله إليّ أنظر إليه ، ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى قائم يصلي أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت إليه فبدأني بالسلام " .
(1/3085)

وتأتي آية في القرآن تقول : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ . . . } [ الزخرف : 45 ]
والأمر لرسول الله عليه الصلاة والسلام أن يسأل رسل الله من قبله ، ومتى يسألهم؟ لابد أن توجد فرصة ليلتقوا فيسأل . إذن حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه التقى بالأنبياء وكلمهم وصلى بهم فالخبر مصدق لأنه أدى أمر الله : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } . والسؤال هنا سؤال للتقرير والتقريع والتوبيخ : وما قصة القرية التي كانت حاضرة البحر؟
لقد قلنا إن حاضرة البحر أي القريبة من البحر ، ونفهم أن ما تتعرض له الآية من سؤالهم يشير إلى أنّ للبحر فيه مدخلاً؛ لأن المسألة متعلقة بالحيتان والسمك والصيد؛ لذلك لابد أن تكون بلدة ساحلية . { . . . إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ]
وحيتان جمع حوت ، مثلما يجمعون " نُوناً " - وهو الحوت أيضاً - على " نينان "؛ وهو صنف من الأسماك . لقد حرم الله عليهم العمل في يوم معين لينقطعوا فيه للعبادة وهو يوم " السبت " ، ومازالت عندهم بعض هذه العادات ، حتى إن واحداً منهم زار أمريكا ورفض أن يركب سيارة يوم السبت لأنه يوم عطلة ، ورفض كذلك أن يعمل حتى جاء اليوم التالي . وشاء الحق سبحانه أن يؤدبهم حينما ارتكبوا أشياء مخالفة للمنهج ، وسلب منهم وقتاً للعمل وقال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ . . . } [ النساء : 160 ]
وفي هذه مُثُل وعِبَر لأي منحرف ، ولكل منحرف نقول : إياك أن تظن أنك بانحرافك عن منهج الله ستأخذ أشياء من وراء ربنا وتسرقها ، لا؛ لأن ربنا قادر أن يبتيله بعقاب يفوق ما أخذ آلاف المرات ، فالمرتشي مثلاً يفتح له الله أبواباً من الأمراض ومن العلل ومن المصائب فيضيع عليه كل شيء أخذه .
إذن فقد استحل بنو إسرائيل أشياء محرمة ، فابتلاهم الله بأن يحرمهم من أشياء كانت حلالاً لهم . وهكذا نرى أن ما وقع عليهم من عقاب كان بظلمهم لأنفسهم؛ لأنهم انشغلوا بالدنيا وبالمادة ، فحرم عليهم العمل في يوم السبت ، وهؤلاء الذين كانوا يقيمون قريباً من حاضرة البحر يبتليهم الله البلاء العظيم ، ويرون السمك في المياه وهو يرفع زعانفه كشراع المركب ، وتطل عليهم أشرعة الحيتان وهم في بيوتهم ، وهذا ابتلاء من ربهم لهم وعقاب؛ لأنهم ممنوعون من صيده ، ويرون هذا السمك أمامهم في يوم السبت ، لكن في بقية الأيام التي يباح فيها العمل ، كيوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لا تظهر لهم ولا سمكة واحدة : { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } .
(1/3086)

وهنا قالوا : ما دام ربنا قد حرم علينا أن نصطاد يوم السبت فعلينا أن نحتال . وصنعوا كيساً من السلك المضفر والذي نسميه " الجوبية " وهم أول من صنعوا هذه الجوبية بشكل خاص ، ويدخل السمك فيها ولا يستطيع الخروج منها ، فيأتي السمك يوم السبت في الجوبية ويستخرجونه يوم الأحد . وفي هذا اعتداء . أو يصنعون حوضاً له مدخل وليس له مخرج وفي هذا مكر . وتمكر لهم السماء بحيلة أشد . لقد أراد الله ابتلاءهم لأنهم فسقوا عن المنهج . وخرجوا عن الطاعة ، واستحلوا أشياء حرمهما الله؛ لذلك يحرم الله عليهم أشياء أحلها لغيرهم .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ . . . }
(1/3087)

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
وحينما تجد أن طائفة قالت قولاً ، فلابد أن هناك أناساً قيل لهم هذا القول . إذن ففيه " قوم واعظون " ، و " قوم موعوظون " ، و " قوم مستنكرون وعظ الواعظين " . وهكذا صاروا ثلاث فرق :
الذين قالوا وعظاً لهم : لماذا لا تلتزمون بمنهج الله؟ هؤلاء هم المؤمنون حقًّا . وقالوا ذلك لأنهم رأوا من يخالف منهج الله . والذين لاموا الواعظين هم الصلحاء من أهل القرية الذين يئسوا من صلاح حال المخالفين للمنهج .
وحين ندقق في الآية : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ . . . } [ الأعراف : 164 ]
نعلم أن القائلين هم من الذين لم يعتدوا ، ولم يعظوا وقالوا هذا التساؤل لمن وعظوا؛ لأنهم رأوا الوعظ مع الخارجين على منهج الله لا ينفع . كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } .
هنا يسأل الحق رسوله : ولماذا تُحزن نفسك وتعمل على إزهاق روحك . وهنا قال بعض بني إسرائيل : لم تعظون هؤلاء المغالين في الكفر ، لماذا ترهقون أنفسكم معهم ، إنهم يعملون من أجل أن يعذبهم الله . وماذا قال الواعظون؟ : { قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
وما هي المعذرة إلى الله؟ . يقال : " عذرك فلان إذا كنت قد فعلت فعلاً كان في ظاهره أنه ذنب ثم بينت العذر في فعله ، كأن تقول : لقد جعلتني انتظرك طويلاً وتأخرت في ميعادك معي . انت تقول ذلك لصديق لك لأنه أتى بعمل مخالف وهو التأخر في ميعادٍ ضربه لك . فيرد عليك : تعطلت مني السيارة ولم أجد وسيلة مواصلات ، وهذا عذر . إذن فمعنى " العذر " هو إبداء سبب لأمر خالف مراد الغير . ولذلك يقال : أعذر من أنذر ، والحق يقول : { وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب . . . } [ التوبة : 90 ]
ونعلم أيضاً أن هناك مُعْذِراً . والمُعَذِّر هو من يأتي بعذر كاذب ، والمُعْذِر هو من يأتي بعذر صادق . وقال الواعظون : نحن نعظهم ، وأنتم حكمتم بأن العظة لا تنفع معهم لأنهم اختاروا أن يهلكهم الله ويعذبهم ولكنا لم نيأس ، وعلى فرض أننا يئسنا من فعلهم ، فعلى الأقل قد قدمنا لربنا المعذرة في أننا عملنا على قدر طاقتنا .
وكلمة " وَعْظ " تقتضي أن نقول فيها : إن هناك فارقاً بين بلاغ الحكم ، والوعظ بالحكم؛ فالوعظ أن تكرر لموعوظ ما يعلمه لكنه لا يفعله . كأن تقول لإِنسان : قم إلى الصلاة ، هو يعلم أن الصلاة مطلوبة لكنه لا يقوم بأدائها .
إذن فالوعظ معناه تذكير الغافل عن حكم ، ومن كلمة الوعظ نشأت الوعَّاظ . وهم من يقولون للناس الأحكام التي يعرفونها ، ليعملوا بها ، فالوعاظ إذن لا يأتون بحكم جديد .
وبعض العلماء قال : إن قول الحق : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ليس مراداً به الفئة التي لم تفعل الذنب ولم تعظ ، إنما يراد به الفئة الموعوظة ، كأن الموعوظين قالوا : إن ربنا سيعذبنا فلماذا توعظوننا؟ . ونقول : لا؛ لأن عجز الآية ينافي هذا . فالحق يقول : { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
ومجيء " لعلهم " يؤكد أن هذا خبر عن الغير لا أنَّه من الموعوظين .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ . . . }
(1/3088)

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
ويخبرنا الحق هنا أن الموعوظين حينما نسوا ما وعظهم به بعض المؤمنين أهلكهم الله بالعذاب الشديد جزاءً لخروجهم وفسوقهم عن المنهج وأنجى الله الفرقة الواعظة . وماذا عن الفرقة الثالثة التي لم تنضم إلى الواعظين أو الموعوظين؟ الذين قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } إن قولهم هذا لون من الوعظ؛ فساعة يخوفونهم بأن ربنا مهلك أو معذب من يخرج على منهجه ، فهو وعظ من طرف آخر .
وقوله الحق : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } يدل على أنه قد وعظهم غيرهم وذكروهم . ويعذب الحق هؤلاء الذين ضربوا عرض الحائط بمنهجه ولم يسمعوا مَن وعظوهم ، وخرجوا على تعاليمه فظلموا أنفسهم واستحقوا العذاب الشديد؛ فالمسألة ليست تعنتاً من الله؛ لأنهم السبب في هذا ، إما بفسق ، وإمّا بظلم للنفس .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ . . . }
(1/3089)

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
وأخذهم بعذاب يدل على أنه لم يزهق حياتهم ويميتهم؛ لأن العذاب هو إيلام من يتألم ، والموت ليس عذاباً لأنه ينهي الإِحساس بالألم ، ولنتعرف على الفارق بين الموت والعذاب حين نقرأ قصة الهدهد مع سيدنا سليمان ، يقول سيدنا سليمان حين تنبه لغياب الهدهد عندما وجد مكانه خاليا : { مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذْبَحَنَّهُ . . . } [ النمل : 20-21 ]
هكذا نرى الفارق بين العذاب وبين الموت . وهنا يقول الحق : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } و " عتوا " تعني أبْوا وعصوْا واستكبروا فحق عليهم عذاب الله الذي أوضحه قول الحق : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } .
لأن " العتو " كبرياء وإباء؛ فيعاقبهم الله بأن جعلهم كأخس الحيوانات فصيرهم أشباه القرود ، كل منهم مفضوح السوءة ، يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم . فهل انقلبوا قردة؟ . نعم؛ لأنك حين تأمر إنساناً بفعل . . أَلاَ تُقَدِّر قبل الأمر له بالفعل أنه صالح أن يفعل وألا يفعل؟ . وحين يقول الله : { كُونُواْ قِرَدَةً } فهل في مكنتهم أن يصنعوا من أنفسهم قردة؟ . ونقول : إن هذا اسمه " أمر تسخيري " أي اصبحوا وصُيرِّوا قردة . وقد رأوهم على هذه الهيئة من وعظوهم ، وهي هنا مقولة " خبر " نصدقه بتوثيق من قاله ، وكان هذا الخبر واقعاً لمن شاهده .
ولذلك نجد المعجزات التي حدثت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الذي وصلنا ككتاب منهج ومعجزة وسيظل كذلك إلى قيام الساعة ، لكن ألم ينبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ؟ لقد حدث ذلك وغيره من المعجزات وشاهده أصحابه صلى الله عليه وسلم ، وأخبرونا بالخبر ، وكان ذلك آية تُثبِّت يقينهم وإيمانهم . وتثبت لنا خبراً ، فإن اتسع لها ذهنك فأهلاً وسهلاً ، وإن لم يتسع لها فلا توقف إيمانك؛ لأنها آية لم تأت من أجلك أنت ، وكل معجزة كونية حدثت لرسول الله فالمراد بها من شاهدها ، ووصلتك أنت كخبر ، إن وثقت بالخبر صدقته ، وإن لم تثق به ووقفت عنده فلن ينقص إيمانك . غير أنه يجب على من وصل إليه الخبر بطريق مقطوع به ، أن يصدق ويذعن .
وقد أخبر الحق هنا بالأمر بقوله : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } بأنه أوقع عليهم عذاباً بأن جعلهم قردة خاسئين ، فهذا عقاب للذين عتوا عمَّا نهوا عنه . والذين وعظوهم أو عاصروهم هم من شاهدوا وقوع العذاب .
وهل الممسوخ يظل ممسوخاً؟ . إن الممسوخ قرداً أو خنزيراً ، يظل فترة كذلك ليراه من رآه ظالماً ، ثم بعد ذلك يموت وينتهي .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ . . . }
(1/3090)

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
وتَأَذَّن نجد مادتها من الهمزة والذال والنون ، فمنه أُذُن ، ومنها أَذَان ، وكلها يراد بها الإِعلام ، والوسيلة للإِعلام هي الأذن والسمع ، حتى الذي سنُعلمه بواسطة الكتابة نقول له ليسمع . ثم يكتب ويقرأ ، وما قرأ إلا بعد أن سمع؛ لأنه لن يعرف القراءة إلا بعد أن يسمع أسماء الحروف " ألف " ، " باء " إلخ ، ثم تهجاها . إذن فلا أحد يقرأ إلا بعد أن يسمع ، وهكذا يكون السمع هو الأصل في المعلومات ، ونقول في القرآن : { إِذَا السمآء انشقت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 1-2 ]
وأذنت لربها . . أي سمعت لربها ، فبمجرد أن قال لها : " انشقي " امتثلت وانشقت . { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ } [ الأعراف : 167 ]
والكلام هنا بالنسبة لبني إسرائيل ، ويبين لنا سبحانه أنهم مع كونهم مختارين في أن يفعلوا ، " فإن مواقفهم الإِيمانية ستظل متقلبة مترددة ، ولن يهدأ لهم حال في نشر الفساد وإشاعته ، ولذلك يسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ولماذا؟ .
لأنهم منسوبون لدين ، والله لا يسوم العذاب للكافر به وللملحد ، لأنه بكفره وإلحاده خرج عن هذه الدائرة ، إذ لم يبعث الله له رسولا . ولكن المنسوب لله ديانة ، والمنسوب لله رسالة ، والمنسوب لله كتاباً؛ إذا فسد مع كون الناس ويعلمون عنه أنه تابع لنبي ، وأن له كتاباً ، حينئذ يكون أسوة سيئة في الفساد للناس ، فإذا ما سلط الله عليهم العذاب فإنما يسلط عليهم لا لأجل الفساد فقط ، ولكن لأنه فساد لمن هو منسوب إلى الله . وعرفنا أن مادة أذن كلها مناط الإِعلام ، وحينما تكلم الله عن خلقنا قال : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة . . . } [ النحل : 78 ]
إنّ الحق - سبحانه - يسمي العرب المعاصرين لرسول الله أميين ، أي ليس عندهم شيء من أسباب العلم ، وسبحانه خلق لنا وسائل العلم . بأن جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة ، وهي وسائل العلم التي تبدأ بالسمع ثم بالأبصار ثم الأفئدة . ومن العجيب أنه رتبها في أداء وظيفتها؛ لأن الإِنسان منا إذا كان له وليد - كما قلنا سابقاً - ثم جاء أحد بعد ميلاده ووضع أصبعه أمام عينه فإنه لا يطرف؛ لأنه عينه لم تؤد بعد مهمة الرؤية ، وعيون الوليد لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة من ثلاثة أيام إلى عشرة ، ولكنك إذا جئت في أذنه وصرخت انفعل .
إن هذا دليل على أن أذنه أدت مهمتها من فور ولادته ، بينما عينه لا تؤدي مهمة الرؤية إلا بعد مدة ، فأولاً يأتي السمع ، ثم يأتي البصر ، ومن السمع والبصر تتكون المعلومات ، فتنشأ عند الإِنسان معلومات عقلية ، ويقولون للطفل مثلاً : إياك أن تقبل على هذه النار حتى لا تحرقك ، فلا يصدق ، ومنظر النار يجذبه فيلمسها ، فتلسعه مرة واحدة ، وبعد أن لستعه النار مرة واحدة ، لم يعد في حاجة إلى أن يتكرر له القول : بأن النار محرقة .
(1/3091)

فقد تكونت عنده معلومة عقلية . فأولاً يأتي السمع ، ثم الأبصار ، ثم تأتي الأفئدة . ولذلك قال سبحانه : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . تشكرون له سبحانه أن أمدكم بوسائل العلم ليخرجكم مِن أميتكم .
وهناك لفتة إعجازية أخرى؛ فحين تكلم الحق عن وسائل العلم ، تكلم عن السمع بالإِفراد ، وعن الأبصار بالجمع . مع أن هذه آلة ، وهذه آلة؛ فقال : ( السمع والأبصار ) ولم يقل السمع والبصر ، ولم يقل الأسماع والأبصار؛ لأن السمع هي الآلة التي تلتقط الأصوات ، وليس لها سد من طبيعتها ، أما العين فليست كذلك ، ففي طبيعة تكوينها حجاب لتغمض . وإذا أنت أصدرت صوتاً من فمك يسمعه الكل ، وعلى هذا فمناط السمع واحد ، لكن في أي منظر من المناظر قد تكون لديك رغبة في أن تراه ، فتفتح عينيك ، وإن لم تكن بك رغبة للرؤية فأنت تغمضهما .
إذن فالأبصار تتعدد مرائيها ، أما السمع فواحد ولا اختيار لك في أن تسمع أو لا تسمع . أما البصر فلك اختيار في أن ترى أو لا ترى ، وهذه الأمور رتبها لنا الحق في القرآن قبل أن ينشأ علم وظائف الأعضاء ، ورتبها سبحانه فأفرد في السمع ، وجمع في البصر مع أنهما في مهمة واحدة ، إلا آية واحدة جاءت في القرآن : { . . . إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإِسراء : 36 ]
قال الحق ذلك لأن المسئولية هنا هي الفردية الذاتية ، وكل واحد مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده ، وليس مسئولاً عن أسماع وأبصار وأفئدة الناس . ونرى مادة السمع قد تقدمت ، وبعدها جاءت مادة البصر إلا في آية واحدة أيضاً ، تتحدث عن يوم القيامة : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا . . . } [ السجدة : 12 ]
هنا قدّم الحق مادة الإبصار على مادة السمع؛ لأن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيراً في الكون قبل أن نسمع شيئاً . { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ } [ الأعراف : 167 ]
وتأذَّن أي أَعْلم الله إعلاماً مؤكداً بأنكم يا بني إسرائيل ستظلون على انحراف دائم ، ولذلك سيسلط الله عليكم من يسومكم سوء العذاب ، إما من جهة إيمانية ، مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني النضير وبني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر ، وإما أن يسلط عليهم حاكماً ظالماً غير متدين ، مصداقاً لقوله الحق : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً . . . } [ الأنعام : 129 ]
وكذلك مثلما حدث من بختنصر ، وهتلر . إذن { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي أعلم ربك إعلاماً مؤكداً؛ لأن البشر قد يُعْلمون بشيء ، ولكن قدرتهم ليست مضمونة لكي يعملوا ما أعلموا به ، فإذا أعلمت أنت بشيء فأنت قد لا تملك أدوات التنفيذ ، أمّا الله - سبحانه - فهو المالك لأدوات التنفيذ ، والإعلام منه مؤكد ، ولذلك يُعْلم بالشيء ، أما غيره فالظروف المحيطة به قد لا تساعده على أن ينفذ .
(1/3092)

مثال ذلك : صحابة رسول الله الأول وهم مستضعفون ولم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من اضطهاد المشركين والكافرين ، وصار كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يأمن فيه؛ منهم من يذهب إلى الحبشة أو يذهب إلى قوي يحتمي به ، فينزل الله في هذه الظروف العصيبة آية قرآنية لرسول الله يقول فيها : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ]
وتساءل البعض كيف يُهزمون ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا . فعندما نزلت هذه الآية قال سيدنا عمر : أي جمع يُهزم ، قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدروع وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } ، فعرفت تأويلها يومئذ . إن الله سبحانه وتعالى أَعْلَمَ بالنصر . وهو قادر على إنفاذ ما أعْلَم به على وفق ما أعَلم؛ لأنه لا يوجد إله آخر يصادمه . إذن { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } يعني أعلم إعلاماً مؤكداً ، وحيثية الإعلام المؤكد أنه لا توجد قوة أخرى تمنع قدرته ولا تنقض حكمه . { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة . . . } بالأعراف : 167 ]
أي يبعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب . وهناك بنص القرآن مبعوث ، والله يخلي بينه وبينهم ، فلا يمنعهم الله منه ، إنما يسلط الله عليهم العذاب باختيار الظالم . مثلما قال الحق : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ]
أي أنه - سبحانه - أرسلهم لهذه المهمة وخلّى بينهم وبين الذين يستمعون إليهم : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة } .
وكلمة { إلى يَوْمِ القيامة } تفيد أن هذا العنصر ، المشاكس من اليهود سيبقى في الكون كخميرة ( عكننة ) إلى أن تقوم الساعة ، لماذا؟!
هم يقومون بمهمة الشر في الوجود ، ولولا أن هذا الشر موجود في الوجود ، ويعضُّ الناس بمساوئه وإفساداته ، لم يكن من الناس من يتهافت على الحق وعلى الخير . فالشر - إذن - جاء ليعضّ الناس بآلامه وإفساده ليتجه الناس إلى الخير ، ولذلك تجد أقوى انفعالات تعتمل في صدور المسلمين وأقوى نزوع حركي إلى الإِسلام حين يجدون مَن يضطهد قضية الإِسلام .
إنَ مهمة الشر في الوجود أنه يجمع عناصر الخير في الوجود ومهمة الباطل في الوجود أنه يحفز عناصر الحق ويحضهم على محاربة الشر ومناهضته؛ لأن الباطل حين يعم ، ويتضايق منه الناس ، ترفع يدها وتقول : يا ناس افعلوا الخير . ولو لم يحدث ذلك فلن تجد من يقبل على الخير بحمية وحرارة . { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب .
(1/3093)

. . } [ الأعراف : 167 ]
( ويسوم ) من مادتها سام ، ونسمعها في البهائم ونسميها السائمة وهي التي تطلب مقومات حياتها ، وليس صاحبها هو الذي يجهز لها مقومات حياتها . أما البهائم التي تُرْبط وليست سائمة التي تجد من يجهز لها طعامها ، إذن أصل " سام " أي طلب ، وبهيمة سائمة أي تطلب رزقها وأكلها بنفسها .
و " سام " أيضاً أي طلب العذاب . ولا يطلب أحد العذاب إلا أن يكون قد أفرغ قوته في التعذيب . فيطلب ممن يقدر على العذاب أن يعذب ، أي أن الله يسلط ويبعث عليهم من يقوم بتعذيبهم جهد طاقته ، فإذا فترت طاقته أو ضعفت فإنه يستعين على تعذيبهم بغيره .
إذن فطلب العذاب معناه أنّه : عَذَّب هو ، ولم يكتف بأنه عذَّب بل طلب لهم عذاباً آخر ، و { يَسُومُهُمْ سواء العذاب } أي العذاب السيء الشديد . ويذيل الحق الآية بقوله تعالى : { . . . إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ } [ الأعراف : 167 ]
ومعنى سرعة الشيء أن تأخذه زمناً أقل مما يتوقع له؛ لن السرعة هي اختصار الزمن . { لَسَرِيعُ العقاب } هي للدنيا وللآخرة ، فساعة يقترفون ذنباً . يسلط عليهم من يعذبهم في الدنيا ، أما الآخرة ففيها سرعة عالية؛ لأن مسافة كل إنسان إلى العذاب ليست هي عمر الدنيا ، فالإِنسان بمجرد أن يموت تنتهي الدنيا بالنسبة له . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته " .
إن هناك سرعة لحساب الآخرة . وحتى لو افترضنا أننا سنبقى جميعاً دون حساب إلى أن تنتهي الدنيا ، فإن الحساب سيكون سريعاً لأن كل لحظة تمر على أي إنسان تقربه من العقاب ، وحتى لو كان عمر الدنيا مليون سنة ، فكل يوم يمر سينقص من عمر الدنيا .
وحين يقول الحق سبحانه بعد سرعة العقاب { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌْ } قد نجد من يسأل كيف والحديث هنا عن العقاب؟ ونقول : إنه سبحانه الذي يتكلم . وهو القادر ، فإذا قال : أنه لسريع العقاب ، فهذا يعني أنه يسرع بعقاب المفسدين والظالمين؛ لأنه غفور رحيم بالمظلومين الذين يُظلمون ، إذن فسرعة عقاب الظّلمَة رحمة منه بالمظلومين . أو أن الله كما قال " سريع العقاب " فإنه - سبحانه - يأتي بالمقابل لكي يشجع كل إنسان على الدخول في رحمته .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض . . . }
(1/3094)

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضاً : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً . . . } [ الأعراف : 160 ]
ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } .
وقد قطعهم الحق حتى لا يبقى لهم وطن ، ويعيشون في ذلة؛ لأنهم مختلفون غير متفقين مع بعضهم منذ البداية ، كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطاً وأولاد إخوة على خلاف دائم . وهنا يقول الحق : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } .
ومعنى { وَقَطَّعْنَاهُمْ } أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها ، وأيضاً لا تشيع في المكان الذي تحيا فيه ، ولذلك قلنا : إنهم لا يذوبون في المجتمعات أبداً ، - كما قلنا - فعندما تذهب إلى أسبانيا مثلاً تجد لهم حيًّا خاصًّا ، كذلك فرنسا ، وألمانيا ، وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص بهم ، لا يدخل فيه أحد ، ولا يأخذون أخلاقاً من أحد ، وشاء الحق بعد ذلك أن قال لهم : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ . . . } [ المائدة : 21 ]
فبعد أن مَنَّ عليهم بأرض يقيمون فيها ، قالوا : { . . . إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]
فحرم الله عليهم أن يستوطنوا وطنا واحداً يتجمعون فيه ، ونشرهم في الكون كله لأنهم لو كانوا متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها . ويريد الله أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم فساد عام . ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلابد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو تعذبهم ، وأظن حوادث هتلر الأخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة ، وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح قوله الحق : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض . . . } [ الإِسراء : 104 ]
لقد قلنا : إن السكن في الأرض هو أن يتبعثروا فيها؛ لأنه - سبحانه - لم يحدد لهم مكانا يقيمون فيه ، فإذا جاء وعد الآخرة ينتقم الله منهم بضربة واحدة ، ويأتي الحق بهم لفيفاً تمهيداً للضربة القاصمة : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } .
وهناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب ، وأهل الثراء وأهل المال ، وأهل بنايةٍ للحصون ، وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد معهم معاهدة . فالذي دخل منهم في الإِيمان استحق معاملة المؤمنين ، فلهم ما لهم وعليهم وما عليهم ، والحق قد قال : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ]
وقلنا إن هذه تسمى صيانة الاحتمال لمن يفكرون في الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } . و " دون " أي غير ، فالمقابل للصالحين هم المفسدون . أو منهم الصالحون في القمة ، ومنهم من هم أقل صلاحاً . فهناك أناس يأخذون الأحسن ، وأناس يأخذون الحسن فقط .
(1/3095)

ويتابع الحق سبحانه : { . . . وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الاعراف : 168 ]
كلمة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } هي التي جعلتنا نفهم أن قول الحق سبحانه وتعالى : أن منهم أناساً صالحين ، ومنهم دون ذلك ، أي كافرون؛ لأنهم لو كانوا قد صنعوا الحسن والأحسن فقط ، لما جاء الحق ب { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . أو هم يرجعون إلى الأحسن .
و " بلونا " أي اختبرنا؛ لأن لله في الاختبارات مطلق الحرية ، فهو يختبر بالنعمة ليعلم واقعاً منك لأنه - سبحانه - عالم به ، من قبل أن تعمل ، لكن علمه الأزلي لا يُعتبر شهادة منا . لذلك يضع أمامنا الاختبار لتكون نتيجة عملنا شهادة إقرار منا علينا : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات } . وسبحانه وتعالى يختبر بالنعمة ليرى أتغزنا الأسباب في الدنيا عن المُسبِّب الأعلى الذي وهبها : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
فالواجب أن نشكر النعمة ونؤديها في مظان الخير لها . فإن كان العبد سيؤديها بالشكر فقد نجح ، وإن أداها على عكس ذلك فهو يرسب في الاختبار . إذن فهناك الابتلاء بالنعم ، وهناك الابتلاء بالنقم . والابتلاء بالنقم ليرى الحق هل يصبر العبد أو لا يصبر ، أي ليراه ويعلمه واقعاً حاصلاً ، وإلا فقد علمه الله أزلاً .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15-16 ]
إننا نجد من يقول : { ربي أَكْرَمَنِ } . ومَن يقول : { ربي أَهَانَنِ } والحق يوضح : أنتما كاذبان . فليست النعمة دليل الإِكرام ، ولا سلب النعمة دليل الإِهانة . ولكن الإِكرام ينشأ حين تستقبل النعمة بشكر ، وتستقبل النقمة بصبر . إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إلا اختبارا . وكذلك إن قَدَر الله عليك رزقك وضيقه عليك ، فهذا ليس للإِهانة ولكنه للاختبار أيضاً .
ويوضح الحق جل وعلا : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً } [ الفجر : 17-20 ]
أنتم لا تطعمون في مالكم يتيماً ولا تحضون على طعام مسكين . فكيف يكون المال نعمة؟ إنه نقمة عليكم . وهنا يقول الحق : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . ولله المثل الأعلى ، نقول : إن فلاناً أتعبني ، لقد قلبته على الجنبين ، لا الشدة نفعت فيه ، ولا اللين نفع فيه ، ولا سخائي عليه نفع فيه ، ولا ضنى عليه نفع فيه ، وقد اختبر الله بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل على أن هذا طبع تأصل فيهم .
ويقول الحق بعد ذلك : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ . . . }
(1/3096)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
والخَلَف أو الخَلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك ، ويقال : فلان خليفة فلان ، ومن قبل قرأنا أن سيدنا موسى قال لسيدنا هارون : { اخلفني فِي قَوْمِي . . . } [ الأعراف : 142 ]
أي كن خليفة لي ، إلا أنك حين تسمع " خَلْفُ " بسكون اللام ، فاعلم أنه في الفساد ، وإن سمعتها " خَلَفٌ " بفتح اللام فاعلم أنه في الخير ، ولذلك حين تدعو لواحد تقول : اللهم اجعله خير خَلَف لخير سلف . وهنا يقول الحق : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } . والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون والمفسدون ، والشاعر يقول :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب
الشاعر هنا يبكي موت الكرماء وأهل السماحة ، فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم وسماحتهم؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم؛ لأن هذا الجوار كان نعمة أيضاً . وحين يجاور رجل ضُيِّق وقُدِر عليه رزقه رجلاً طيباً عنده نعمة ، فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب . والشاعر هنا قال : " وبقيت في خَلْفٍ كجلد الأجرب " أي أن جلده قريب ولاصق لكنه جلد أجرب .
وعرفنا قصة " أبودلف " وكان رجلاً كريماً في بغداد . يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج يعطيه . وطرأ طارئ على جار فقير له ، وأراد أن يبيع داره ، فعرض الدار للبيع ، وسألوه عن الثمن الذي يرتضيه ، فقال : داري بمائة دينار . لكن جواري لأبي دلف بألف دينار ، فبلغ هذا الكلام أبا دلف فقال : إن رجلاً قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق ألا يفرّط فيه . قالوا له : فليبق جاراً لنا وليأخذ ما يريد من مال .
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } . والكتاب هو التوراة ، والخَلْف أخذوه ميراثاً ، والشيء لا يكون ميراثاً إلا إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للاحق ، ولكن لأنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في الكتاب؟ لقد ورثوه . وبُلِّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه . { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ . . . } [ الأعراف : 169 ]
أي لا حجة لهم في ألاّ يكونوا أصحاب منهج خير ، لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب - التوراة - من المواثيق ، والحلال ، والحرام ، وافعل كذا ولا تفعل كذا؛ لم يلتفتوا لكل هذا؛ لأنهم قالوا لأنفسهم : إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الآخرة ، وهم يريدون النعيم القريب ، فمنهم من قبل الرشوة واستغلال النفوذ . وبذلك أخذوا عَرَضَ الحياة الأدنى وهو عرض الدنيا . ولم يأخذوا إدارة الدنيا بمنهج الله ، والدنيا فيها جواهر أو أعراض ، والجوهر هو الشيء الذاتي ، فالإِنسان بشحمه ولحمه " جوهر " أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض ، قصيراً أو طويلاً ، صحيحاً أو مريضاً ، وغنيًّا أو فقيراً فهذا عرض .
(1/3097)

إذن فالأعراض هي ما توجد وتزول ، والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من بقاء ، وكما يقول علماء المنطق : الجوهر ما قام بنفسه ، والعَرَض ما قام بغيره .
وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا ، وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام ، وأن يغشوا ويستحلوا الرشوة . ونعلم أن الإِنسان - حتى المؤمن - قد تحدث منه معصية ولا يمنع ربنا هذا؛ لأن المشرع الأعلى حين يشرع عقوبة لجريمة ، فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث ، وحين يقول الحق : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا . . . } [ المائدة : 38 ]
إنَّ معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلاً ، ولم يترك الحق هذا الجرم بدون عقوبة . وإن رأينا مسلماً يسرق ، نقل له هذا فعل مُجَرَّم من الإِسلام ، وله عقوبة ، والمُجْرَم لا يمكن أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدِّين ، بل هو منسوب للدين فقط ، وعندما يرتكب مسلم ذنباً أو معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته ، وكذلك لو ألحَّت عليه معصيته فيعود إليها ، ثم تاب ، المهم أنه في كل مرة لا يصر على الفعل ، ثم يقول : سوف أتوب . وهم كانوا يصرون على المعصية ويقولون : سبغفر الله لنا ، بل إنهم لم يفكروا في التوبة ، ووجدنا منهم من يقول : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ . . . } [ المائدة : 18 ]
ويأتي الرد : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ . . . } [ المائدة : 18 ]
إذن هم يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف يَغْفِر لهم . وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر؛ لأن هناك فرقاً بين أن تفعل الشيء وتقول هو معصية . لكن أن يرتكب الإِنسان المعصية ويقول : ليست بمعصية ، فهذا انتقال من العصيان إلى الكفر ، ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله ، نقول له : اقْبَلْ أن تكون عاصيًّا ولا تدخل نفسك في الكفر؛ لأنك إن حللت ما حرم الله يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ بالله ، أما إن قلت : هو حرام ولكن ظروفي صعبة ولا أقدر على نفسي فقد يغفر الله لك . لكن قوم موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون : سيغفر الله لنا :
ويقول الحق : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } .
وهم بعد ذلك تركوا الأعلى وأخذوا عرض الحياة الأدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة . لذلك ينبههم الحق سبحانه : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق . . . } [ الأعراف : 169 ]
لقد ورثوا الكتاب ، وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موثقٌ ألا يقولوا على الله إلا الحق ، لكن هل يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق؟ . طبعاً لا ، هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب ، رغم أنهم قد درسوا ما فيه مصداقاً لقوله الحق : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }
وكلمة " دَرَسَ " تدل على تكرار العمل ، فيقال : " فلان درس الفقه " أي تعلمه تعلما متواصلاً ليصير الفقه عنده ملكة .
(1/3098)

وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة ، هنا لا يصبح الفقه عنده ملكة . وحتى نفهم الفرق بين " العلم " و " الملكة " ، نقول : إن العلم هو تلقي المعلومات ، أما من درس المعلومات وطبقها وصارت عنده المسألة آلية ، فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة .
إذا التقى صائم - مثلا - بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فوراً؛ لأنه علم كل صغيرة وكبيرة في الفقه . لكن إن تسأل تلميذاً مبتدئاً في الأزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه ليعثر على الإجابة؛ لأن الفقه لم يصبح لديه ملكه . والملكة في المعنويات هي مقابل الآلية في الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة ، فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين لا يفعل ذلك إلا عن دُرْبة . إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب .
إذن فقوله : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } اي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم . ونحن أخذنا " درس العلم " من مسألة حسية هي " درس القمح " ، ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس القمح ، حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه ، ويقطع لنا العيدان ، وهذه العملية تسمى " درس القمح " .
إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألاّ يقولوا على الله إلا الحق ، لأنهم درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة ، لكنهم أخذوا العرض الأدنى . وكان لابد أن يأتي بمقابل العرض الأدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الآخرة هو الثواب الدائم ولذلك يقول الحق : { . . . والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأعراف : 169 ]
وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير ، وأن تتركوه إن كان يعطي الكثير من الشر ، وزنوا المسألة بعقولكم ، وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم ستعرفون أن عمل الخير راجح .
ويقول الحق بعد ذلك : { والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب . . . }
(1/3099)

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
إنّ الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب ، وأخذوا العرض الأدنى ، ولم يزنوا الأمور بعقولهم؛ لذلك لم يتمسكوا بالكتاب ، وتركوه ، وساروا على هواهم؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذَا ولا تفعل كذَا ، ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه ، ولا يقولوا على الله إلا الحق .
ومادة الميم والسين والكاف تدل على الارتباط الوثيق؛ فالذي يجعل الانسان متصلاً بالشيء هو ماسكه ، وتقول : " مسَكَ " وتقول : " مَسَّكَ " ، و " أمسك " ، وتقول " استمسك " ، و " تماسك " ، وكلها مادة واحدة . وقوله الحق : " يمسِّكون " مبالغة في المسك ، كُل قطع وقطَّع ، ولكن قطَّع أبلغ .
و ( مسَّك ) يعني أن الماسك تمكن مما يمسك ، و ( استمسك ) أي طلب ، و ( تماسك ) أي أنّ هناك تفاعلاًً بين الاثنين؛ بين الماسك والممسوك . ومن رحمة ربنا أنه لا يطلب منا أن نمسك الكتاب . بل يطلب أن نستمسك بالكتاب ، ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى : إن أنت ملت إلى القرب مني والزلفىإليّ ، فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا ، ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن لا يلقى الهوان أبدا { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } وهنا يستخدم الحق سبحانه كلمة ( استمسك ) لا كلمة مسَك ، فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه الله المعونة ، ولذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي :
" أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إليَّ بشبر ، تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إليّ ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة . "
فأنت بإيمانك بالله تعزز نفسك وتقويها بمعونه الله لك . فإن أردت أن يذكرك الله فاذكر الله؛ فإن ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه ، وإن ذكرته في ملأ يذكرك في ملأ خير منه ، وإن تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً ، فماذا تريد أكثر من ذلك ، خاصة أنك لن تضيف إليه شيئاً ، إذن فالموقف في يدك ، فإذا أردت أن يكون الله معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فوراً . وهكذا يكون الموقف معك وينتقل إليك ، وذلك بإيمانك بالله وإقبالك على حب الارتباط به .
ولذلك قلنا من قبل : إن الانسان إذا أراد أن يلقى عظيماً من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من مصالح الإِنسان فهو يكتب طلباً ، فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألاّ يوافق ، وحين يوافق هذا العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان ، ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها ، وحين تقابله وينتهي الوقت ، فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة ، هذا هو العظيم من البشر ، لكن ماذا عن العظيم الأعظم الأعلى الذي تلتقي به في الإِيمان؟ أنت تلقى الله في أي وقت ، وفي أي مكان ، وتقول له ما تريد ، وأنت الذي تنهي المقابلة ، ألا يكفي كل ذلك لتستمسك بالإِيمان؟ .
(1/3100)

{ والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } [ الأعراف : 170 ]
والكتاب هنا هو الكتاب الموروث ، والمقصود به التوراة وهو الذي درسوا ما فيه ، وقد أخذ الله في هذا الكتاب الميثاق عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق ، والحق يقول هنا : { وَأَقَامُواْ الصلاة } فهل هذا الكتاب ليس فيه إلا الصلاة؟ لا ، ولكنه خص الصلاة بالذكر . لأننا نعلم أن الصلاة عماد الدين ، وعرفنا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن الصلاة قد فرضت بالمباشرة ، وكل فروض الإِسلام - غير الصلاة - قد فرضت بالوحي .
لقد قلنا من قبل ولله المثل الأعلى ، إن رئيس أي مصلحة حكومية حين يريد أمراً عادياً رُوتينياً ، فهو يوقع الورق الذي يحمل هذا الأمر ويكتب عليه : " يعرض على فلان " ويأخذ الورق مجراه ، وحين يهتم بأمر أكثر ، فهو يتحدث تليفونياً إلى الموظف المختص ، وحين يكون الأمر غاية في الأهمية القصوى فهو يطلب من الموظف أن يحضر لديه ، وهكذا فرضت الصلاة بهذا الشكل لأنها الإِعلان الدائم للولاء لله خمس مرات في اليوم ، وإن شئت أن تزيد على ذلك تنفلا وتهجداً فعلت .
إنك بالصلاة توالى الله بكل أحكامه ، إنك توالي الله بالزكاة كل سنة ، وبالصوم في شهر واحد هو رمضان ، وبالحج مرة واحدة في العمر إن استطعت . لكن الصلاة ولاء دائم متجدد ، ولأن الصلاة لها كل هذه الأهمية؛ لذلك لا تسقط أبداً . وأركان الإِسلام - كما نعلم - خمسة؛ شهادة أن لا إله إلا اله وأن محمداً . رسول الله ، إنها الإِيمان بالله وبالرسول كوحدة واحدة لا تنفصل ، ويكفي أن ينطقها الإِنسان مرة لتكتب له ، ثم تأتي أركان الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والحج ليس ركناً مفروضاً إلا على من يستطيعون . قد لا يكون للإِنسان مال يخرج عنه الزكاة؛ فلا يجب عليه إخراج شيء حينئذ ، وقد يكون الإِنسان مريضاً أو مسافراً فلا يصوم .
إذن فبعض فروض الإِسلام قد تسقط عن المسلم ، إلا الصلاة فهي لا تسقط أبداً؛ لأن في الصلاة في ظاهر الأمر قطعا لبعض الوقت عن حركة عملك ، وإن كان كل فرض يأخذ مثلاً نصف ساعة ، فالإِنسان يقتطع من وقته ساعتين ونصف الساعة كل يوم في أداء الصلاة . والوقت عزيز عند الإِنسان . ففي الصلاة بذل لبعض الوقت الذي يستطيع أن يكسب الإِنسان فيه مالاً ، وفيها أيضا الصوم عن الأكل والشرب ومباشرة الزوجات ، ففيها كل مقومات أركان الإِسلام ، لذا فهي لا تسقط أبدا . { والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة . . . } [ الأعراف : 170 ]
إذن الاستمساك واضح هنا جداً ، وأداء الصلاة تعبير عن الالتزام بالاستمساك بمنهج الإِيمان .
(1/3101)

ولذلك نسمع من يقول : حين ذهبنا إلى مكة والمدينة عشنا الصفاء النفسي والإِشراق الروحي ، وعشنا مع التجلِّي والنور الذي يغمر الأعماق . وأقول لمن يقول ذلك : إن ربنا هنا هو ربنا هناك ، فقط أنت هناك التزمت ، وساعة كنت تسمع الأذان كنت تجري وتسعى إلى الصلاة ، وإذا صنعت هنا مثلما صنعت هناك فسترى التجليات نفسها . إذن إن صرت على ولاء دائم مع الحق سبحانه وتعالى فالحق لن يضيع أجرك كاحد المصلحين . لأنه القائل : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } .
وهذه قضية عامة ، والحق سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المصلح . وقوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } بعد قوله : { يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة } دليل على أن أي إصلاح في المجتمع يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة؛ لأن المجتمع لا يصلح إلا إذا استدمت أنت صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع ، وأنزل لك المنهج القويم . ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل . . . }
(1/3102)

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر أو أكثر ، والحق يقول عن الجبال : { والجبال أَرْسَاهَا } ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل ، فأنت لا تقول : " أرسيت الورقة على المكتب " ، ولكنك تقول : " أرسيت لوح الزجاج علىلمكتب ليحميه " ، وأنت بذلك ترسي شيئاً له وزن وثقل .
وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا ، والوَتِد - كما نعلم - ممسوك من الموتود والمثبت فيه ، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه " تخشينة " لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه ، وهنا يقول الحق : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } " نتقنا " أي قلعنا ، وهناك قول آخر : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت . . . } [ النساء : 154 ]
وقال الحق أيضا : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور . . . } [ البقرة : 63 ]
وهنا اختلاف بين " نتق " و " رفع "؛ لأن الجبل راسٍ في الأرض ، وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض ، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع ، و " نتقا " تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه ، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم ، أي أن هناكَ ثلاث عمليات : نتق أي نزع وخلع ، ثم رفع ، ثم جعله سبحانه ظلة لهم ، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما . والحق يقول : " وإذ " أي اذكر إذ نتقنا الجبل ، أي نزعناه وخلعناه من الأرض ، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي نجعله ظلة ، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل ، وصار الجبل ظلة " عذاب "؛ لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له : إن أحكام هذه التوراة شديدة . وللإِنسان أن يتساءل : لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر؟ . وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه قد يقع فوقهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } .
لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر ، على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض ، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل ، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل ، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم ، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر ، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه فصار فوقهم . { وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } .
والظن هو رجحان قضية ، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين ، مثل قوله الحق : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ }
وحين بقيت الحالة هذه ، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم ، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق : { .
(1/3103)

. . خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ]
و " خذوا " فعل أمر ، والأمر يقتضي آمرا ، ولابد له من شيء يأمر به . وكلمة " القوة " هذه هي الطاقة الفاعلة ، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لأن الكون الذي تراه مسخراً ليس له رأي في أن يفعل أو لا يفعل ، بل هو فاعل دائما إذا أمُر ، وكما قلنا من قبل : لم تغضب الشمس على الناس وقالت : لن أطلع هذا اليوم ، وكذلك لم يمتنع الهواء ، وأيضاً لا يرفض الحمار مثلاً أن يحمل الروث ، أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له ب " البرذعة " ليجعله ركوبة متميزة ، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك ، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة . { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ]
وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظراً لأنه مقهور وليس له تكليف ، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي ، ومع هذا الاختيار فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يَدْرِي عنها شيئاً مع أن بها قوام حياته ، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له : دق ، والرئة كذلك وحركة التنفس ، والحركة الدودية في الأمعاء ، والحالب ، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول ، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا ، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار ، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال ، هذا اسمه " غريزة " أي أمر غير محكوم بالفعل الاختياري .
وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه . أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع ، وحين يقول له مُضيفه - على سبيل المثال - : أنت لم تذق هذا اللون من اللحم ، فيأكل . ولهذا نجد أن الأمراض في الانسان أكثر من الأمراض في الحيوان؛ لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه .
ونعرف جميعاً هذا المثال للفارق بين الإنسان والحيوان ، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه ، ويطبخ الملوخية ليأكلها ، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين ، فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية ، رغم تشابه أوراقهما . لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار ، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار ، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب ، وهما يفعلان ذلك بالغريزة ، فالمحكوم بالغريزة له نظام ، ولو كان الحيوان مختارا لارْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها .
(1/3104)

وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة ، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر . فالكهرباء مثلاً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها ، لكن بعد ذلك انتفعنا بها ، وكذلك الجاذبية ، كانت موجودة في الكون منذ الأزل ، لكنا لم ننتبه لها ، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها ، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون ، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في بعض الأمور ، وله جهة قهر في البعض الآخر ، فهو يشارك الكون في القهر ، ويتميز عن بقية المخلوقات - عدا الجن - بالاختيار في أمور أخرى . ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما ، عندما يصعد هذا الإنسان سلماً ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة ، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود .
ومثال آخر ، نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها ، فإن وجدها حاملاً لا يقربها ، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان؛ لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع ، ومادامت الأنثى قد حملت ، فالذكر لا يقربها ، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر؛ فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب ، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان .
ومن رحمة الله - إذن - أن يكون الإنسان مقهوراً في بعض الأشياء ومختاراً في أشياء أخرى ، ب " افعل " و " لا تفعل " حتى يختار بين البديلات .
وهنا يقول الحق : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّة }
أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد . وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة . وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي ، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة . وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية ، القانون الأول والثاني والثالث ، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه ، فإن كان ساكناً يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه . وإن كان الجسم متحركاً فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك . وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي . أو التعطل ، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك ، والمتحرك يُعَطّلُ عن السكون إلا أن يوقفه موقف ، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير ، فإنك تظل ساكناً ، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء .
(1/3105)

وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لامع وأملس ، ثم يضع عليها أطباقاً وأكواباً ، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش .
وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة ، وقلنا : إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة ، والمتحرك يتعطل عن السكون ، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ . ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود ، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات ، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود ، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني ، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف . ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها ، وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف ، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء ، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة .
وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي . والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن ، وهو القانون القائل : إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في الاتجاه ، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام .
وهكذا نرى قول الحق : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } في الواقع المادي والواقع القيمي . وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها ، فالواحد منهم لا يصلي ، ولا يزكي ، ولا يقول كلمة معروف ، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله . ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة . أو يزني أو يسرق أو يرتشي . وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة . ولذلك نقول : إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين : الأول إن كان ساكناً عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير ، وإن كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه ، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في " افعل " ، و " لا تفعل " . فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ . ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه ، إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج ب " افعل " ليحرك الساكن ، و " لا تفعل " ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون والحركة في ضوء المنهج .
(1/3106)

ولنعرف أن الله سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون ، فقد اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات ، وليس اكتشاف الكافرين للقوانين في الكون مدعاة للكسل والاعتماد عليهم ، بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي يُسير أمور الحياة ، ولنعلم أنه لا شيء ينشىء فينا فطرة جديدة؛ لأن البشر من قديم مفطورون على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعاً ، فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا وجود إله واحد . بل إن الفلاسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك ، وأغلب الفلاسفة كانوا غير مؤمنين ، وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق الأعظم؛ لأن الإنسان لا يبحث عن شيء لا يظن وجوده . ولأنهم جميعا يعلمون أن الإنسان طرأ على كون ، وهذا الكون مقام بهندسة حكيمة ، ومخلوق بقوة لا تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها ، إذن لابد لهذا الكون من الخالق .
لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم ، إلا أن الناس يتهافتون على قانون المادة لأنها تحقق لهم خيراً أو تدفع عنهم شرا ، فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما يضرهم ، ولذلك احتاج الإنسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له السعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة ، أما قوانين المادة في الأرض فتركها الله لنشاط العقل ، حتى الذين لا يؤمنون بالله يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها ، ويتهربون من قوانين القيم لأنها تحد من شهوات النفس ، وتتعب بمشقة التكليف ، فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يقول فيها : { . . . خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ]
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد الفعل ، لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لأنها تحقق لها شهوة من شهواتها ، لكن يجب ألا يغيب عن ذهنك أيها الإنسان أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في الحركة ومضاداً له في الاتجاه ، فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيداً رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه ، وكذلك مشقات التكليف ، حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها وهو الراحة وحسن الثواب ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ]
وفي هذا القول فعل ورد فعل ، الفعل هو العمل الصالح في الأيام التي مضت ، ورد الفعل هو الطعام والشراب الهنيء في الآخرة . ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً . . . } [ التوبة : 82 ]
وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل .
(1/3107)

ويأتي الإنسان من هؤلاء يوم القيامة ليقال له : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ]
إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب . ولذلك يقول لنا الحق عن المنهج : { واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية ، فالذي يتعب الناس في مناهج الله أنهم يغفلون عنها؛ لأن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء ، والمعاصي تكسبهم لذة وشهوة ، فأوضح الحق : اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم .
ونعلم أن الذِّكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جدا ، فالواعظ مثلاً يذكرهم دائماً ، وقلنا إن " الوعظ " هو نوع من إعادة التذكير بالإعلام بالحكم ، فأنا أعظ من عَلِمَ الحكم؛ لأني أريد أن يفعله ، فبعد أن علمه الموعوظ علماً فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عملياً . فكلنا نعلم أن الصلاة ركن ، وأن الحج ركن ، والزكاة ركن من أركان الإسلام ، وكلنا جاءنا العلم بذلك ، لكن منا من يكسل في تطبيق هذا العلم . ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ ، وهذا من خيرية أمته صلى الله عليه وسلم : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . . . } [ آل عمران : 110 ]
ولماذا هذا التذكير؟ . يجيب الحق : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر . . . } [ آل عمران : 110 ]
الأمر بالمعروف عظة قولية ، والنهي عن المنكر عظة قولية ، ويعددها الرسول صلى الله عليه وسلم لبقاء التذكير ، وليأخذ كل مسلم منهج الله بقوة ، فيقول في الحديث :
" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان " .
إذن فقد نقل الرسول المسألة من الأمر وهو القول والنهي وهو قول أيضاً إلى أن نباشرها فعلاً ، فإن لم يستطع الإنسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه ، ونجد القرآن قد جاء بها أمراً ونهياً ، والرسول جاء بها فعلاً ، لأن هناك فرقاً بين المعلومة التي تدخل الذهن ، وحمل النفس على مطلوب المعلومة . ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا ، وندرس فيها أيضا الجبر والهندسة ، والكيمياء والطبيعة ، والمتعب ليس تدريس الدين ، بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على مطلوب الدين . لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء ، فهذه علوم تعطي الإنسان خير الدنيا فيذهب لها ، لكن مسألة الدين مسألة قيم؛ لذلك لا يكفي أن نعلم الدين بل لابد أن تنفذ ذلك العلم ، وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة .
وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلاميذ ، ثم لا يجدون من أثر هذه المعلومة نضحاً على سلوك مَن علَّمها ، ماذا يكون الموقف؟ . هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة ، وتضعف ثقته في الدين؛ لأنه لم ير من الدين إلا كلاماً يقال ، بدليل أن من يقولونه لا ينفذونه ، وفي هذا فشل في تعليم منهج الدين ، والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم المعلومات الدينية ، لا .
(1/3108)

إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات ، عكس العلوم الأخرى التي تعطي المعلومة فقط . وإن أراد الإنسان أن ينتفع بها في حياته انتفع ، وإن لم يرد فهو حر في ذلك .
إذن فالتذكير مرة يكون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر ، ومرة يكون بالفعل ، " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه " وماذا يعني التغيير باللسان؟ . يعني أن الإنسان إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة . وليس كل إنسان صالحا لأن ينصح؛ لأن المنصوح يخالف المنهج ، والناصح يقف أمامه حتى لا يخالف المنهج ، إنه يخرجه عما ألف وأحب ، لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح .
ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء ، والدواء قديماً كان كله مرًّا . وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة ، ويمسك الكبار الأطفال ليعطوهم الدواء . وحين ارتقت صناعة الدواء ، قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلاف يحجب المرارة . ليتلطفوا مع مريض الجسم ، فما بالنا بمريض القيم؟ . إنه يحتاج إلى المسألة نفسها . لذلك لابد أن نجعل النصح خفيفاً ، ولا نجمع على المنصوح بين أن نخرجه عما ألف وما يكره من الأساليب ، ولذلك قلنا : إن النصح ثقيل ، لأنك حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكاً منه ، وهو أقل منك في ذلك ، وهذا هو أول مطب ، وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه . ولهذا قالوا في الأثر : النصح ثقيل فلا ترسله جبلا ، ولا تجعله جدلاً . وقيل أيضا : الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان . هكذا يكون التذكير ، وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول؛ لأن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيِّر على المغيَّر ، وهذا لا يأتي إلا بأن يكون للمغير مقدمة وسابقة مع المغيَّر يثبت فيها المغيِّر أنه يحب مصلحة المغيَّر . وقد يكون ذلك وارداً من غير أن تقول . كأن تكون أباه أو أمه ، والأب والأم يقومان برعاية الابن ، وتلبية احتياجاته طعاماً ومشرباً ومسكناً ومصروفاً . وكل منهما هو المتولي لمصالح الابن . وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح ، فعليه أن يتلطف له أولاً بما يحب . فحين يطلب منك أمراً تقوم بإجابته إلى طلبه ، وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك قد قدمت له شيئاً من المعروف فيتحمل منك النصح .
ومثال آخر : افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة ، وبعد ذلك قالت لك أمه : إنه لم يستذكر دروسه حتى الآن . ثم تأتي له بالساعة وتقول له : يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها لك ، وتناولها له وتقول : إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك ، ولو تذكرت قولها لما أحضرت لك الساعة .
(1/3109)

وقد توجه له توبيخاً فيضحك لأنك قد حننت قلبه ، وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح ، حتى ولو صفعته قد يقبل لأنه يعلم أنك تحب مصلحته . إذن للتذكير ألوان متعددة : عظة بالقول ، وتغيير بالفعل وإنكار بالقلب .
{ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } والأصل في التقوى أن تتقي شيئاً بشيء؛ تتقي مؤلماً بجعل وقاية بينك وبينه ، وهي تأتي كما علمنا في المتقابلات؛ فالحق سبحانه يقول : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ]
وهو سبحانه وتعالى يقول : { . . . واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ البقرة : 189 ] [ آل عمران : 130 ]
ونجد من يتساءل : كيف يقول : " اتقوا الله " ، " واتقوا النار "؟
نقول : نعم؛ لأن اتقوا الله تعني اتقوا غضب الله عليكم ، واتقوا عذاب الله لكم بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، ولابد أن تجعل بينك وبين النار وقاية؛ لأن الحق سبحانه وتعالىَ كما علمنا لَه صفات جلال وصفات جمال ، وصفات الجمال هي التي تسعد الإنسان ككونه - سبحانه - " غفوراً " ، و " رحيماً " ، " باسطاً " ، وكما أن لله صفات جمال تعطيك الرغبة والإقبال عليه - سبحانه - فله صفات جلال تعطيك الرهبة ، فهو - جل شأنه - جبار منتقم . فاتق الله حتى تحجب عن نفسك متعلقات صفات الجلال التي منها جبار منتقم .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن . . . }
(1/3110)

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
وإذ تنصرف إلى الزمن ، أي اذكر وقت أن أخذ الله من بني آدم ، والآخذ هو الله ، والمأخوذ منه بنو آدم ، والشيء المأخوذ هو ذريتهم ، هذه هي العناصر . ولنتأمل ذلك بدقة ، إن الرب هنا هو الآخذ ، وبنو آدم مأخوذ منهم ، والمأخوذ هو الذرية . وبنو آدم هم أولاد آدم من لدنه إلى أن تقوم الساعة ، وهنا اتحد المأخوذ والمأخوذ منه ، ولابد أن نرى تصريفاً في هذا النص؛ لأنه يشترط أن يكون المأخوذ منه كلاً ، والمأخوذ بعضه .
والمثال : إن أنا أخذتُ منك شيئاً ، فالمأخوذ منه هو الكل ، والمأخوذ بنفسه هوالبعض . لكننا هنا نجد المأخوذ هو عين المأخوذ منه ، وأزال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإشكال في هذه الآية فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه :
" لما خلق الله أدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وميضاً من نور ثم عرضهم على آدم ، فقال : أيْ رَبَّ . من هؤلاء؟ قال : هؤلاء ذريتك . فرأى رجلاً منهم . فأعجبه وميض ما بين عينيه . فقال : أي رب . من هذا؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك ، يقال له داود ، فقال : رب كم جعلت عمره؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب زده من عمري أربعين سنة ، فلما قُضي عُمُر آدم جاءه ملك الموت . فقال : أو لم يَبْقَ من عُمُري أربعون سنة؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود؟ قال : فجحد آدمُ فجحدتُ ذُريته ، ونسي فنسيت ذريته . وخطئ آدم فخطئت ذريته "
إذن ذرية آدم أُخذت من ظهر آدم . وعرفنا من قبل أنّ كُلاً منا قبلَ أن تحملَ به أمّه كان ذَرَّةً في ظهر أبيه ، وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه حتى آدم . وهكذا نجد أنَّ كل واحد مأخوذ من ظهره ذرية ، هناك أناس يؤخذون - كذرية - ولا يؤخذ منهم ، مثًل من فرض عليهم الله أن يكون الواحد منهم عقيماً ، وكذلك آخرُ جيل تقومُ عليه الساعة ، ولن ينجبوا . وآدم مأخوذ منه لأنه أول الخلق ، وهو غير مأخوذ من أحد . وما بين الأب آدم وآخر ولد؛ مأخوذ ومأخوذ منه . وبذلك يكون كل واحد مأخوذ ومأخوذ منه ، وهكذا يستقيم المعنى .
والمأخوذ منه آدم ثم كل ولد من أول أولاد آدم إلى الجيل الأخير الذي سينقطع عن النسل .
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم : أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه الذرية ، وقال لهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى . وبهذا عَلمْنا أنَّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما قبلها ، وأُخذ منها ما بعدها؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه ، اللهم إلا القوسين؛ القوس الأول : آدم لأنه مأخوذ منه وليس مأخوذاً من شيء ، والقوس الثاني : آخر ولد من أولاده مأخوذ وليس مأخوذاً منه؛ لأن الإنسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ .
(1/3111)

ولو أن الحيوانَ المَنَويَّ أصابه موت لما أنجب الأب . ومن وُلد من حيوان مَنَوِيَّ لأب ، هذا الأب مأخَوذ من حيوان مَنَوِيَّ حيّ من الجد أيضاً ، وسلسلها إلى آدم؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزيء حَيّ من لدن آدم لن يدركه موت أبداً .
لذلك يقول ربنا : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ . . . } [ الأعراف : 172 ]
ولا تقل إن الكل سيكون في ظهره؛ لأن المأخوذ منه هو الأساس الموجود في ظهره ، ومادام كل شيء يتكاثر فهو قد وجد من أقل شيءٍ ونعلم أن الأقل يوجد فيه الأكثر مطموراً . وقد أخذ ربنا من ظهور بني آدم الذرية وخاطب الذرية بقوله تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } ؟ .
وهنا قد يقول قائل : أكان لهذه الذرية القدرة على النطق؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الآخر؛ لتتحد مثلاً ب " البويضة " في رحم الأم؟ فنرد عليه ونقول : لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أمرُ صعب؟ إن الواحد من البشر يستطيع أن يتَعلَّم عَشْرَ لغاتٍ ، ويتزوجَ من أربع سيدات ، وكل سيدة ينجب منها ذرية ، ويقعد يوماً عند سيدة وذريتها ويعلمهَا اللغة الإنجليزية مثلا ، ويجلس مع الأخرى ويعلمها اللغة الألمانية ، ويعلم الثالثة وأولادها اللغة العربية وهكذا ، بل يستطيع أن يتفاهم حتى بالإشارة معَ من لا يعرف لغته ، وإذا كان الإنسانُ يستطيع أن يعدد وسائل الأداء ، ألاَ يقدر أن يعدد وسائل الأداء لمخلوقاته؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب ، ألم يقل الحق تبارك وتعالى للجبال : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ . . . } [ سبأ : 10 ]
كيف إذن لا يتسع أفق الإنسان لأن يدرك أن الله قادر على أن يخاطب أيّاَّ من مخلوقاته؟ . إنه قادر على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة لا يفهمها الآخر . وهو القائل سبحانه : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ . . . } [ الأنبياء : 79 ]
ونعلم أن القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضاً من غير داود ، شأنها شأن المخلوقات جميعها مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . . } [ الإسراء : 44 ]
وحتى ذرات يد الكافر تسبح ، وإن كان تسبيحها لا يوافق إرادته .
وقول الحق سبحانه : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ }
يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داوود وتلاوته للزبور ، ولا يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل إلى كل مخلوق ، فنحن - على سبيل المثال - نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا اوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً من الشجر ومما يعرشون . إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب؛ لأنه هو الذي خلق الكون والمخلوقات ، وله سبحانه خطاب بألفاظ ، وخطاب إشارات ، وخطاب بإلهام ، وخطاب بوحي ، فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم : ألست بربكم؟ فهذا يعني أنه قالها لهم باللغة التي يفهمونها ، لأنه هو سبحانه الذي قال للسماء والأرض :
(1/3112)

{ . . . ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ]
ولقد تكلمت النملة وفهم سليمان كلامها ، ولو لَمْ يُعْلِم اللهُ سليمانَ كيف يفهم كلامها لما عرفنا أنها تكلمت : { قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ . . . } [ النمل : 18 ]
إنها تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها ، ولكن سليمان نبي من أنبياء الله ، ولن يعتدي على خلق الله ، والنملة التي تكلمت كانت تحرس بقية النمل . وكذلك تكلم الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها .
إذن فالله عز وجل يخاطب جميعَ خلقه ، ويجيبُه جميعُ خلقه ، فلا تقل : كيف خاطب المولى سبحانه الذر ، والذَر لم يكن مكلفاً بعد؟ ولم يحاول العلماء أن يدخلوا في هذه المسألة؛ لأنها في ظاهرها بعيدة عن العقل ، ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائلا : ألست بربكم؟ . قالوا : بلىَ . ويبدو من هذا القول أن المسألة تمثيل للفطرة المودعة في النفس البشرية . وكأنه سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات الإنسانية فطرةً تؤكد له أنَّ وراءَ هذا الكونِ إلهاً خالقاً قادرا مدبرا .
وقديماً قلنا : هب أنَّ طائرةً وقعت في صحراء ، وحين أفقت من إغماءة الخوف؛ فكرّت في حالك وكيف أنك لا تجد طعاماً أو شراباً أو أنيساً ، وأصابك غمٌّ من هذه الحالة فنمت ، ثم استيقظت فوجدت مائدة عليها أطايب الطعام والشراب ، ألا تتلفت لتسأل من الذي أقام لك هذه المأدبة قبل أن تمد يدك إلى أطايب الطعام؟ . كذلك الإنسان الذي طرأ على هذا الكون الحكيم الصنع؛ البديع التكوين؛ ألا يجدرُ بهِ أن يسأل نفسه من خلق هذا الكون؟ .
إننا نعلم أن المصباح الكهربي احتاج لصناعته إلى علماء وصناع مهرة كثيرين وإلى إمكانات لا حصر لها لينير هذا المصباح حجرة محدودة ، وحين نرى الشمس تنير الكون كله ، ولا يصيبها كللٌ أو تعبٌ ولا تحتاج منا إلى صيانة ، ألا نسأل من صنعها؟ وخصوصاً أنَّ أحداً لم يدَّع أنه قد صنعها ، وقد أبلغنا المولى سبحانه وتعالى بأنه هو الذي خلق الأرض وخلق الشمس وخلق القمر ، فإما أن يكون هذا الكلام صحيحاً؛ فنعبده ، وإما لا يكون الكلام صحيحاً فنبحث عمن صنع وخلق الكون لنعبده .
وبما أن أحداً لم يَدَّعِ لنفسه صناعة هذه الكائنات ، فهي تسلم لصاحبها وأنه لا إله إلا الله . إذن فالفطرة تهدينا أن وراء هذا الكون العظيم قدرةً تناسب هذه العظمة؛ قدرة تناسب الدقة؛ هذه الدقة التي أخذنا منها موازين لوقتنا؛ فقد أخذنا من الأفلاك مقياساً للزمن؛ ولولا حركة الأفلاك التي تنظم الليل والنهار؛ لما قسمنا اليوم إلى ساعات ، ولولا أن حركة الأفلاك مصنوعة بدقة متناهية؛ لما استطعنا أن نَعُدَّها مقياساً للزمن .
(1/3113)

وحينما نستعرض قول الحق سبحانه وتعالى : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ]
نجد أن كلمة " بحسبان " وردت مرتين ، فقد أبلغنا الحق سبحانه وتعالى : أنه جعل الشمس والقمر بحسبان ، أو حسبانا ، وهما من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ولم يخلقهما عبثا بل لحكمة عظيمة . { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب . . . } [ يونس : 5 ]
فقد أخذنا من دورة الشمس والقمر مقياساً ، ولم نكن لنفعل ذلك إلا أن كانت مخلوقة بحساب؛ لأن الكون مصنوع ومخلوق على هذه الدرجة من الدقة والإحكام لهذا يجب أن نلتفت إلى أن هناك قدرة وراء هذا العالم تناسب عظمته . لكن أنعرف ماذا تريد هذه القوة بالعقل؟ إن أقصى ما يهدينا العقل هو أن نعرف أنَّ هناك قوةً ولا يعرف العقل اسم هذه القوة ، وكذلك لم يعرف العقل مطلوبات هذه القوة ، وكان لابد أن يأتي لنا رسولٌ من طرف تلك القوة ليقول لنا مرادَها ، وجاء الموكب الرسالي فجاءت الرسل ليبلغ كلُّ رسولٍ مرادَ الحق من الخلق ، فقال كلُّ رسول : إن اسم القوة التي خلقتكم هو الله ، وله مطلق التصرف في هذا الكون ، ومراد الحق من الخلق تعمير هذا الكون في ضوء منهج عبادة الحق الذي خلق الإنسان والكون . وكل هذه الأمور ما كانت لتدرك بالعقل .
وهكذا نعلم أن منتهى حدود العقل هو إيمانٌ بقوةٍ خالقه وراءَ هذا الكون ، وتستوي العقول الفطرية في هذه المسألة . أما اسم القوة والمنهج المطلوب لهذا الاله فلابد له من رسول .
وأرهق الفلاسفة أنفسهم في البحث عن هذه القوة ومرادها . وسموها مجال البحث " الميتافيزيقا " أي " ماوراء الطبيعة " وعادة ما يقابل الفلاسفة من يسألهم من أهل الإيمان : ومن الذين قال لكم إن وراء المادة قوة يجب أن تبحثوا عنها؟ .
وغالباً ما يقول الفيلسوف منهم : إنها الفطرة التي هدتني إلى ذلك . وتشعبت الفلسفة إلى مدارس كثيرة . وحاول أهل الفلسفة أن يتصوروا هذه القوة ، وهذا هو الخلل؛ لأن الإنسان يمكنه أن يعقل وجود القوة الخالقة ، ولا يمكن له أن يتصورها . وغرق الكثيرون من الفلاسفة في القلق النفسي المدمَّر . وأنقذ بعضهم نفسه بالإيمان . وكان يجب على كل فيلسوف أن يرهف أذنه ويسمع ما قاله الرسل ليحلّوا لنا هذا اللغز ، بدلاً من إرهاق النفس بالخلط بين تعقل وجود قوة وراء المادة ، وبين تصور هذه القوة .
وإنني في هذا الصدد أضرب هذا المثل وأرجو آلا تنسوه أبداً : إننا إذا كنا قاعدين في حجرة ، والحجرة مغلقة الأبواب . ودق الجرس وكلنا يجمع على أن طارقاً بالباب؛ وهذا الشيء المجمع عليه من الكل يَعدُّ تعقلاً ، لكن أنستطيع أن نتصور من الطارق؟ رجل؟ امرأة؟ شاب؟ شيخ؟ .
(1/3114)

المؤكد أننا سنختلف في التصور وإن اتحدنا في التعقل .
ونقول للفلاسفة : أنتم أولى الناس بأن ترهفوا آذانكم لمجيء رسول يحل لكم لغز هذا الكون ، واسم القوة التي وراء هذا الكون ، ومطلوب هذه القوة منا .
والحق سبحانه وتعالى يهدينا إلى هذا عبر الرسل ، ويقول هنا : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ . . . } [ الأعراف : 172 ]
وهذه شهادة الفطرة ، ونحن نرى أن الفطرة تكون موجودة في الطفل المولود الذي يبحث بفمه عن ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليرضع بالفطرة وبالغريزة ، وهذه الفطرة هي التي تصون الإنسان منا في حاجات كثيرة ، وفي رد فعل الانعكاسي؛ مثال ذلك حين تقرب أصبعك من عين طفل ، فيغمض عينيه دون أن يعلمه أحد ذلك .
وقد أشهدنا الحق على وحدانيته ونحن في عالم الذر : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ }
ويقال " أشهدته " أي جعلته شاهداً ، والشهادة على النفس لَوْنٌ من الإقرار ، والإقرار سيد الأدلة؛ لأنك حين تُشهد إنساناً على غيره؛ فقد يغيّر الشاهد شهادته ، ولكن الأمر هنا أن الخلق شهدوا على أنفسهم وأخذ الله عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ }
فحين يأتي يوم الحساب ، لا داعي أو يقولَن أحد إنني كنت غافلاً .
ويتابع المولى سبحانه : وتعالى قوله : { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا . . . }
(1/3115)

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج الله ، فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية المطمورة في كل إنسان؛ حيث شهد كل كائن بأنه إلهٌ واحدٌ أحَدٌ ، ويذكرنا سبحانه بهذا العهد الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا .
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } وهل كان أحد من الذر وهو في علم الله وإرادته وقدرته يجرؤ على أن يقول : لا لست ربي؟ . طبعاً هذا مستحيل ، وأجاب كل الذر بالفطرة " بلى " . وهي تحمل نفي النفي ، ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : 8 ]
و " أليس " للاستفهام عن النفي؛ ولذالك يقال لنا : حين تسمع " أليس " عليك أن تقول " بلى " وبذلك تنفي النفي أي أثبتّ أنه لا يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه ، وهنا يقول الحق : " ألست بربكم "؟ وجاءت الإجابة : بلى شهدنا . ولماذا كل ذلك؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم بالفطرة مؤمنون بأن الله هو الرب ، والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرُّك شهواتهم في نطاق الاختيار ، ومع وجود الشهوات في نطاق الاختيار إن سألتهم من خلقهم؟ يقولون : الله ، ومادام هو الذي خلقهم فهو ربهم . { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله . . . } [ العنكبوت : 61 ]
وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى لا يقولَنَّ أحدُ : { إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ }
وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين اثنين : الغفلة عن عهد الذر ، وتقليد الآباء .
وما الغفلة؟ وما التقليد؟ . الغفلة قد لا يسبقها كفر أو معصية ، ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد ذلك . والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلام قد أبلغ أولاده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا عنه ولم يعد من اللائق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك . ولكن جاء هذا الأمر من الغفلة ، ثم جاء إشراك الآباء في المرحلة الثانية؛ لأن كل واحد لو قلد أباه في الإشراك؛ لانتهى الشرك إلى آدم ، وآدم لم يكن مشركاً ، لكن الغفلة عن منهج الله المستقيم حدثت من بعض بني آدم ، وكانت هذه الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقةً يتطلبها المنهج ، فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم؛ لأن الإنسان إنما ينفذ دائماً الموجود في بؤرة شعوره . أما الشيء الذي سيكلفه مَشقَّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه ، هكذا كانت أول مرحلة من مراحل الانفصال عن منهج الله وهي الغفلة في آبائهم . وهنا يضاف عاملان اثنان : عامل الغفلة ، وعامل الأسوة في أهله وآبائه . ولم تكن القضايا الإيمانية في بؤرة الشعور ، ولذلك يقال : الغالب ألا ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه؛ لأن الإنسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة الشعور ، ويُخرج الإنسان ما عليه بعيداً عن بؤرة الشعور .
(1/3116)

ولأن البعض قد يتصور أن في التكليف الإِيماني مشقة ، لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه ، وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف .
ونأخذ المثل من حياتنا : قد نجد إنساناً مَدِيناً لمحل بقالة أو لنجاَّرٍ وليس عنده مال يعطيه له ، لذلك يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال ، أو أن يسير بعيدا عن أعين النجار . وهكذا يكون افتعال الغفلة في ظاهره هو أمراً مَنْجِياً من مشقات التكاليف ، لكن البشر في ميثاق الذر قالوا : { بلى شَهِدْنَآ }
وقد أُخِذَ ذلك العهدُ عليهم ، وأُقرُّوا به واستشهد الحقُّ بهم ، على أنفسهم حتى لا يقولوا يوم القيامه { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } لأنه لا يصح أن نغفل عن هذا العهد أبداً ، ولكنَّ الحقَّ تبارك وتعالى عرَفَ أنَّنا بشرٌ ، وقال في أبينا آدم : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ . . . } [ طه : 115 ]
ومادام آدم قد نسي ، فنسيانه يقع عليه حيث بيَّن وأوضح لنا الإسلام أن الأمم السابقة على الإسلام تؤخذ بالنسيان ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر واضح : فقال عليه الصلاة والسلام :
" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
والخطأ معلوم ، كأن يقصدَ الإنسانُ شيئاً ويحدث غيرهُ ، والنسيانُ ألاَّ يجيءَ الحكمُ على بال الإنسان . والمُكْرَهُ هو من يقهره من هُو أقْوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم يفعل ما يؤمر به ، وفي الحالات الثلاث يرفع التكليف عن المسلم . وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أكرم الأمة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم . وهذا دليل على أن من عاشوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤاخذون به . وإذا سلسلنا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد الله المباشرة ، بينما نحن أبناء آدم مخلوقون بالقانون؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علاقة زوجية فيأتي النسل .
وقد كلف الله آدم في الجنة التي أعدها له ليتلقى التدريب على عمارة الأرض بأمر ونهي؛ فقال له سبحانه وتعالى : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة . . . } [ البقرة : 35 ]
إذن فقصارى كل تكليف هو أمر في " افعل " ، ونهي في " لا تفعل؛ ، وقد نسي آدم التكليف في الأمر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد الله والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن الأكل من الشجرة ، وإن لم يتذكر آدم ذلك ، فما الذي يتذكره؟ وما كان يصح أن ينسى لأنه مخلوق بيد الله المباشرة ومكلف من الله مباشرة ، والتكليف وإن كان بأمرين؛ لكن ظاهر العبء فيه على أمر واحد؛ الأكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم ، و " لا تقرب " هو تكليف واحد .
(1/3117)

- ولذلك قال الحق في آية أخرى : { . . . وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ]
وهو عصيان لأنه نسيان لأمر واحد ، ما كان يصح أن ينساه . لعدم تعدده ويقول الحق تبارك وتعالى : { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } [ الأعراف : 173 ]
جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة لا يجب أن تكون أسوة لأن التكاليف شاقة ، والإنسان قد يسهو عنها فيورث هذا السهو إلى الأجيال اللاحقة فيقول الأبناء : { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } .
وهذا يعني أن إيمانهم هو إيمان المقلد ، رغم أن الحق قد أرسل لهم البلاغ ، وإذا كان الآباء مبطلين للبلاغ بالمنهج فلا يصح للأبناء أن يغفلوا عن صحيح الإيمان .
ويقول الحق بعد ذلك : { وكذلك نُفَصِّلُ . . . }
(1/3118)

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
والآيات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة ، ورفع الجبل ليأخذوا التوارة بقوة ، وكذلك العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ، وجاء سبحانه بكل ذلك ليؤكد لهم أن قضية الإيمان عقيدةً يجب أن تكون في بؤرة الشعور ، فمن غفل فليتذكر ، ومن قلد آباه في شيء مخالف للمنهج القويم ، فليرجع عن هذا التقليد؛ لأن التكاليف الإيمانية تكاليف ذاتية ، وسبحانه لا يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك ، أو إلى أمك . لكنه يكلفك من بعد البلوغ؛ لأنك بعد البلوغ تستقل بذاتيتك استقلالا كاملا مثل والدك ، ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا للإنجاب فلا ولاية إيمانية لأبيك عليك أبداً ، فلا تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج السليم؛ لأن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولاً لو كان التكليف للإنسان وهو في دور الطفولة ، حيث الأب يسعى لإطعام أبنائه ورعايتهم ، لكن التكليف لا يأتي للإنسان إلا بعد البلوغ ، ومعنى بعد البلوغ : أنك صالح لإنجاب مثلك ورعاية نفسك .
ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الآباء أن يدربوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف قبل مجيء أوان تكليف الله ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام :
" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع . . إلخ "
الأب إذن يأمرُ ويُعاقب قبل أوان التكليف ليتدرب الأبناء عليه ويصير دربة سهلة لا يتعب منها الإنسَان بعد البلوغ . { وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر ، وأن يرجع المقلد لآبائه عن التقليد ، ويقتنع اقتناعاً ، مصداقاً لقوله الحق : { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . . } [ لقمان : 33 ]
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ . . . }
(1/3119)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
ولأنهم قالوا : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلاء فيقول : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا } .
والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر . ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } [ النبأ : 1-2 ]
كما يقول { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } ، كأن هذا النبأ كان مشهوراً جداً ، ويقال : إنه قد قيل في " ابن بعوراء " أو أمية بن أبي الصلت ، أو عامر الراهب ، أو هو واحد من هؤلاء ، والمهم ليس اسمه ، المهم أنّ إنساناً آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات ، فبدلاً من أن ينتفع بها صيانة لنفسه ، وتقرباً إلى ربه { فانسلخ مِنْهَا } واتبع هواه ومال إلى الشيطان .
وكلمة " انسلخ " دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها؛ لأن الأصل في السلخ إزاحة جلد الشاة عنها ، فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها ، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان؛ لأن هذا الكيان العام فيه شرايين ، وأوردة ، ولحم ، وشحم ، وعظام . وجعل الله التكاليف الإيمانية صيانة للإنسان ، ولذلك سمي الخارج عن منهج الله " فاسقاً " مثله مثل الرطبة من البلح ، فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض من الماء ، فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة ، ولذلك سمي الخارج عن المنهج " فاسقاً " من فسوق الرطبة عن قشرتها ، والله عز وجل يقول هنا : { ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } . وكان يجب ألا يغفل عنها ، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها ، لكن الإنسان انسلخ من الآيات .
ونعرف جميعاً ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماماً ، ويغير الثعبان جلده كل فترة ، ولا ينخلع من الجلد القديم إلا بعد أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج ، وصلح لتحمل الطقس والجو ، وكذلك حين يندلق سائل ساخن على جلد الإنسان ، تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها ، وله أفرغ الإنسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب ، أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم ، وكذلك نعلم أن الشاة - مثلاً - لا تسلخ نفسها . بل نحن نسلخها ، والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار . . . } [ يس : 37 ]
فكأن الليل كان مجلداً ومغلفاً بالنهار ، والليل أسود ، والنهار فيه الضوء ، ونعلم أن اللون الأسود ليس من ألوان الطيف ، وكذلك اللون الأبيض ليس من ألوان الطيف؛ لأن ألوان الطيف : الأحمر ، البرتقالي ، الأصفر ، الأخضر ، الأزرق ، النيلي ، البنفسجي ، واللون الأسود يأخذ ألوان الطيف ويجعلها غير مرئية ، لأنك لا ترى الأشياء إلا إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك ، واللون الأسود يمتص كل الأشعة التي تأتي عليه فلا يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلماً .
(1/3120)

والأبيض هو مزيج من ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون الأبيض ، وهكذا نعلم أن الأبيض مثله مثل الأسود تماماً ، فالأسود يمتص الأشعة فلا يخرج منه شعاع لعينيك ، والأبيض يرد الأشعة ولا يخرج منه شعاع لعينيك . وقوله الحق : { نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } كأن سواد الليل جاء يغلف بياض النهار .
وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان : إنه يصلح لأن يتبعني ، وكأن الشيطان حين يجد واحداً فيه أمل ، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما أتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج ، ويزكي الشيطان في نفس هذا الإنسان مسألة الخروج عن منهج ربنا .
وقلنا من قبل : إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس ، ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا الفارق ، وقلنا : إن الشيطان لا يجرؤ عليك إلا إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملاً فيك ، لكن إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للإنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها ، والشيطان لا يذهب - مثلا - إلى الخمارة ، بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس التي تتجه إلى الخير ، أما الاخرون فنفوسهم جاهزة له . إذن فالشيطان ساعة يرى واحداً بدأ في الغفلة عن الآيات فهو يلاحقه مخافة أن تستهويه الآيات ثانية ، ولذلك لابد لنا أن نفرق بين الدافع إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان ، فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لأي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية ، فاعلم أنها شهوة نفسك . لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا من نزغ الشيطان؛ لأن الشيطان لا يريدك عاصياً بمعصية مخصوصة ، بل يريدك بعيداً عن المنهج فقط ، لكن النفس تريد معصية بعينها وتقف عندها ، فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك ، فاعلم أنها من نفسك ، وإن امتنعت عليك معصية وتركتها ، ثم فكرت في معصية ثانية . فهذا نزغ من الشيطان - ويقول الحق : { . . . فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين } [ الأعراف : 175 ]
الغاوي والغَوِيّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال ، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية ، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء . وهو الذي يُسمى " الغاوي " ، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه . . . }
(1/3121)

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
وهنا أمران اثنان ، الرفعة : وهو العلو والتسامي ، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل ، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين .
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ } ، والفعل رفع هنا مسند لله . ولكنه اختار أن يخلد في الأرض . وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله . لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله ، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون . وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج ، وحين يقول الحق تبارك وتعالى { وَلَوْ شِئْنَا } أي أنها مشيئتنا . فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة ، لكن هذا الأمر ينقض الاختيار ، والحق يريد أن يُبقَي للإنسان الاختيار ، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة ، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق ، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 65-66 ]
ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبداً من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } .
وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم . وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم .
وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 67-68 ]
أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك ، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها . لكن سيدنا موسى قال له لا : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً } وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا ، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح . وكان كل ذلك مجرد كلام نظري ، فيه أخذ ورد ، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما . بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح ، لم يصبر سيدنا موسى بل قال : { . . . لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ الكهف : 71 ]
وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح ، وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل ، تراجع موسى ، وتكرر السؤال ، وتكرر التذكير . إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } لماذا؟ . لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة ، يفعل ما يريده ، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً ، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف ، لأنها سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
(1/3122)

وسنة الله أن من عمل عملاً طيباً يثيبه الله عليه . ومن عمل سوءاً يعاقبه ، ومشيئته سبحانه مطلقة ، ولا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .
وبمقضى مشيئة الله فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله ، وله سبحانه مطلق الإرادة فهو عزيز ، وحكيم في كل فعل . { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ . . . } [ الأعراف : 176 ]
و { أَخْلَدَ إِلَى الأرض } ، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية ، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو ، والحق يقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . . . } [ الأنعام : 151 ]
ونخطئ حين نفهم أن " تعالوا " بمعنى " أقبلوا " فقط وهذا فهم ناقص ، إنها دعوة للقبول وإلى العلو ، لأنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى لا نلزم منهج الأرض السفلى . بل نرتقي ونأخذ منهج الله الذي يضمن لنا العلو . وكأنه سبحانه يقول : تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من الله العلي الأعلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع الله ، لأن في هذا تسفلا ونزولا إلى الحضيض . { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ . . . } [ الأعراف : 176 ]
ويقال : " حملت على الكلب " ، فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره ، فهذا تفسير لقوله : " تحمل عليه " ، أي أنك تحمل عليه طرداً أو زجراً؛ لذلك يلهث ، وأن تركت الكلب بدوح حمل عليه طرداً أو زجراً فهو يلهث ، لأن طبيعته أنه لاهث دائماً ، وهذه الخاصية في الكلب وحده ، حيث يتنفس دائماً بسرعة مع إخراج لسانه .
ونعلم أن الحيوانات لا تلهث إلا أن فزعت فتجري ، لتفوت من الألم أو من العذاب الذي يترصدها من كائن آخر ، وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة ، فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من غذاء إلى كل الجسم ، ولابد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء . ونلحظ أن الكائن الحي حين يجلس برتابة فهو لا يلحظ تنفسه ، لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب " الأوكسجين " من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة الجديدة ، فيحاول أن يتنفس أكثر . ولا تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إلا إذا كانت جائعة أو متعبة أو مهاجمة ، لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها ، جائعا أو شبعان ، عطشان أو غير عطشان ، مزجوراً أو غير مزجور ، إنه يلهث دائماً . ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللاهث؟؛ لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروهاً دائماً؛ لأنه متبع لهواه ، وتتحكم فيه شهواته . وحين تتحقق له شهوة الآن ، يتساءل هل سيفعل مثلها غداً؟ وتتملك الشهوة كل وقته ، لذلك يعيش في كرب مستمر ، لأنه يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم ، ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمناً أو غير آمن ، جائعاً أو غير جائع ، عطشان أو غير عطشان .
(1/3123)

{ . . . فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ]
هكذا يكون مصير من كذَّب بالآيات .
وقول الحق : { فاقصص القصص } يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخاً ، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ ، بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة ، لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر ، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة . ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل ، ومن قصص المبطلين مع المحقين ، ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ لأن القصة أمر واقعي ، والتقنين للمناهج أمر لفظي ، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع؛ لأن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظري معزول عن الواقع .
وهكذا بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية ، أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى بعض خلقه ، فمنهم من يأخذ منهج الله بالاستيعاب أولاً ، وتوظيف ما علم ثانياً ، وبذلك يرتفع من منطق الأرض إلى منطق السماء . ومن يعطيه الله ذلك المنهج ، ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه إلى السماء ، ليهبط إلى مستوى الأرض . وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لأنفسهم ، ويضعون نظم الحياة على وفق هواهم ، وعلى وفق نظمهم ، ويتركون منهج الله الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم قانون صيانتهم .
وهذا كلام نظري له واقع في ابن " باعوراء " ، هذا الذي آتاه الله العلم ، ولكنه أخلد في الأرض ولم يتبع ما علم ، فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ . . . } [ الأعراف : 176 ]
ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب ، مع الفارق بين الاثنين؛ لأن الكلب يلهث غريزة . فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود ، ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه ، ولا يذم على هذه ولا على تلك ، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك ولا ينبغي أن تقولوا : وما ذنب الكلب في أنه يلهث ، ويضرب به المثل في الكفر؟ لأن الكلب يفعلها غريزة ، وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء ، أما الإنسان الذي ارتفع بكفره وميزه الله بأن يختار بين البديلات ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى ، ومثل هذا السلوك في الكلب محمود فيه لأن طبيعته هكذا ، وإياك أن تقول : لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها هي؟
والحق - سبحانه - هو القائل عن اليهود :
(1/3124)

{ مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً . . . } [ الجمعة : 5 ]
هل الحمار حين يحمل أسفاراً يستحق الذم لأنه لم يفقه ما في الأسفار؟ الجواب لا؛ لأن مهمته ليس منها فقه وفهم ما في الأسفار ، بل مهته أن يحمل ما عليه فقط ، وكأن الحق يقول : لا تكونوا مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله ، ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما يحويه من التشريع . إذن فهذه الأمثلة ليست ذماً للكلب ، ولا هي ذما للحمار . إنما ذم لمن يتشبه بهما؛ لأنه نزل إلى مرتبة لم يرده الله لها ، وأراد الله المثل فيها بشيء لا تذم منه ، ولكنه مذموم من الإنسان .
والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة ، حتى وإن كان في نعمة ، لأنه معزول عن الله ، ومادام معزولاً عن الله تجده دائم التساؤل : أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم ، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه . { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
إذن حين يضرب الله لنا مثلاً من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى " ابن باعوراء " ، فسبحانه يعطينا واقعاً لما حدث بالفعل .
أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، ولستم بدعاً في هذا ، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض ، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء ، وكلمة " مثل " إذا سمعتها هي من مادة ال " م " وال " ث " وال " لام " ، وتنطق كما يأتي : إما أن تنطقها مثْل " يكسر الميم وسكون الثاء " ، وإما أن تنطقها مَثَل " بفتح الميم والثاء " ، والمَثْلَ هو المشابه والنظير ، فتقول : فلان مِثْل فلان في الكرم ، في العلمَ ، في الَطول ، في العرض ، وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له .
والحق سبحانه يقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . . . } [ الشورى : 11 ]
أي لا أحد يشبهه في شيء؛ لأنه مَنَزّه في الذات والصفات والأفعال .
وأيضاً نقول : هذا مَثَل هذا؛ أي أن فلاناً المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به ، لكن الناس لا تعرف ذلك . وإن كان المشبه به ذائع الصيت؛ بحيث يجري اسمه على كل لسان؛ فنحن نقول : إنَّه مَثَلٌ؛ كقولنا عن الكريم : " هو حاتم " لأن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلاً .
(1/3125)

والفرق أنك إذا قلت في فلان إنه يشبه حاتماً في الكرم ، فقد تكون أول من يخبر عنه ، ولك أن تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل ، كأن تقول : مَثَل حاتم في الكرم ، أو مَثل عنترةَ في الشجاعة . والمَثَل في الذكاء إياس ، لأن كل واحد منهم مشهور بصفة ، ولذلك لما مدح الشاعر الخليفة قال فيه : إقدام عمرو ( في شجاعته ) في سماحة حاتم ( أي الطائي ) في حلم أحنف ( الأحنف بن قيس وكان مشهوراً بالحلم عند العرب ) وفي ذكاء إياس . وقال رجل من القوم : كيف تُشَبَّهُ الأميرَ بصعاليك العرب؟ إن الأمير فوق من ذكرت جميعاً .
ما عمرو بالنسبة للأمير؟!
وما حاتم بالنسبة للأمير؟!
فقال الشاعر :
وشبهه المدّاح في الباس والندى ... بمن لو رآه كان أصغر خادم
ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر ... وفي خُزنه أُلف ألف كحاتم
أي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة . فما كان منه إلا أن أسعفته ذاكرته وبديهيته؛ فقال :
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس
وكأن الشاعر يقول : أنا ضربت بهم المَثل لأنهم أصبحوا المثل المشهور والأمثال لا تتغير .
وأنت تقدر في المثل ، فقد تقول : فلان حاتم ، وحاتم انقضى عمره ، لكنه قد صار مثلاً مشهوراً في التاريخ ، أو تقول : " فلان عنتر " ، أو " فلان إياس " ، وفي ذلك يرتقي التشبيه ، بأن صار المشبَّه به مشهوراً معلوماً متوارداً على الألسنة وكل واحد يشبه به .
ويُعَرفون المَثَل بأنه : قول شبِّه مورده بمضربه ، أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولاً ، ومثال ذلك : حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها " عصام " لتخطب له أمَّ إياس؛ فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها ، فقال : اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف ، فذهبت الخاطبة وخلَّت أم الفتاة بينها وبينها ، وقالت لها : يا هذه ، هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه ، من وجه وخلق ، وناطقيها فيما استنطقتك به . ثم أرسلت إلى خباء ، ونظرتها كلها وفحصتها فحصاً شاملاً . فلما عادت إلى من أرسلها ، وكان ينتظرها في شوق وكأنه على أحر من الجمر ، قال لها : " ما وراءكِ يا عصامُ؟ " قالت : " أبدي المخض عن الزُّبد " أي أن الرحلة جاءت بفائدة .
وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولاً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعاً؛ وبعد أن يعود إليهم ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته ، فهم يقولون له : " ما وراءَك يا عصام؟ " ، ولو كان رجلاً ، لأن الأمثال لا تغير . وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه : " أبدي المخض عن الزبد " .
(1/3126)

فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال : " أبدي المخض عن الزبد " .
والحق تبارك وتعالى يقول : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } [ البقرة : 26 ]
وكانوا قد قالوا : كيف يضرب الله المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه : { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ . . . } [ الحج : 73 ]
لقد فهموا قوله : " فما فوقها " أنها أكبر منها ، والمراد غير ذلك؛ لأنه سبحانه ضرب المثل بالأقل؛ لذلك قال : " فما فوقها " من باب فما فوقها في الاحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه ، وهو الضآلة . وحتى تفهم ذلك نسمع أحياناً : فلان مريض . ويراد السامع وفلان فوقه في المرض . ونجد " فوقه " هنا لا تعني المرض الأقل ، بل المرض الأكثر شدة : { . . . ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ]
والكلام موجه لليهود : أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد ، ووصفته بسمات وعلامات ، بحيث إذا رآه الإنسان يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة ، ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابناً له ، لأنه مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله ، وعرضه . وكنتم تستفتحون به على العرب . لكنكم امتنعتم عن التصديق بالآيات ، وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به . وصار مثلكم كمثل الرجل الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها . { ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }
وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا بالآيات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والأرض والشمس ، والآيات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلاغه عن الله ، وكذلك آيات القرآن التي تحمل منهج الله .
{ فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث وما كان ، وأنت لن تحكي الأمر التافه ، بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها حركة المجتمع .
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، ونعلم أن القرآن قد جاء فيه الأمر بالتفكر والتذكر والتدبر .
والتفكر - كما نعرف - هو عمل العقل في المقارنات بين البديلات المتنوعة لِيُرَجّح بدلاً على بديل فتُعقلَ به القضايا .
والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره ، حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة .
أما التدبر فهو أيضاً بحث عقلي . فلا تنظر إلى واجهة الأشياء ، بل إلى كلية الأشياء من جميع جهاتها بواجهة وجوانب وخلف ، وما ينتج عنها . وعلى سبيل المثال يقال : انظر خلف العبارة ، لتجد المعنى الخفي فيما يقال . والمثال في قول الحق : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . } [ البقرة : 26 ]
وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى " فما فوقها " لا يعني الأعلى منها في القوة ، بل الأعلى منها في الضعف الذي أنكروه . لذلك لا يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط ، بل لما خلف اللفظ ، ومعطياته .
{ فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون وهذه فائدة القصص .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { سَآءَ مَثَلاً القوم الذين . . . }
(1/3127)

سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
والحق قال فيهم من قبل : إنهم كذبوا بآياتنا ، وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهوراً في أيامهم ، لكنهم فاقوا ابن باعوراء لأنه كان فرداً وهم جماعة؛ لذلك لا تقل إن في المسألة تكراراً؛ لأن المثل من قبل ما كان على فرد واحد ، أوتي آيات الله فانسلخ منها ، ولكنهم كانوا جماعة . لذلك فانسلاخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءاً . { سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }
و " ساء " أي قَبُح ، وحين نقول : ساء فلان؛ أي قبح أمره ، ولكن أي أمر من أموره هو القبيح؟ فنقول : ساء صحةً أي صار مريضاً أو ساء حالاً أي صار فقيراً ، أو ساء خلقاً أي صار شرساً ، وأنت حين تقول : ساء ، فهذا السوء عام له جوانب متعددة ، ويقتضي الأمر التمييز .
و " ساء مثلاً " أي ساء من جهة المثل ، والمثل في ذاته لا يسوء؛ لأن الله تعالى يضرب المثل لنا . والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح ، والمعنى هنا : ساء مثلاً حال القوم . أو القوم أنفسهم هم الذين ساءوا . لأنهم حين كذبوا بالآيات ظلموا أنفسهم ، فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج الله في الأرض ، ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئاً في كون الله تعالى ، فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته سبحانه وآيات الكون سائرة . إذن كان تكذيبهم بآيات لن يضير أبداً في أي شيء . والخيبة إنما تقع عليهم . وإن كان التكذيب في الآيات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الآن . وهم الذين خابوا ، وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضاً الذين خسروا ولم يصب الآيات الإعجازية أو القرآنية أي شيء . وهم قد ظلموا أنفسهم ومثلهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلام الطبيب فإنه يسيء إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء ، والله سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة الحياة ، فمن يأخذه ينفع نفسه ، ومن لا يأخذه لن يضر الله شيئاً .
هم إذن ظلموا أنفسهم ، ومن يظلم نفسه كان هو أول عدو لها ولن يضر الله شيئاً ، ولا الرسول ، ولا المجتمع . { . . . وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } [ الأعراف : 177 ]
وحين تجد معمولاً تقدم على عامله - قاعدة نحوية - فعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم البلاغة ، وقد نقول : " يظلمون أنفسهم " ويصح أن تعطف قائلاً : ويظلمون الناس . ولكن حين نقول : أنفسهم يظلمون ، فمعنى ذلك أنه لا يتعدى ظلمهم أنفسهم ، ويكون الكلام فيه قصر وتخصيص ، مثلما نقول : " لله الأمر من قبل ومن بعد " ، أي أن الأمر لا يتعدى إلى غيره أبداً .
ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ . . . }
(1/3128)

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
وهذه الآية هي الوحيدة التي جاء فيها سبحانه وتعالى : { المهتدي } - بالياء - بينما جاء المولى سبحانه وتعالى بكلمة " المهتد " - من غير ياء- في آيات متعددة عدا هذه الاية :
واقرأ قوله تعالى : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد . . . } [ الإسراء : 97 ]
ويقول الحق : { . . . فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 26 ]
وكذلك تأتي الكلمة بدون " ياء " في قوله سبحانه : { . . . مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ]
والمعركة الخاصة بقضية الهداية والإضلال قائمة من قديم ، ولا تزال أيضاً ذيول هذه المعركة موجودة إلى الآن ، وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الأذهان ، لأن هناك دائماً من يقول : إذا كان الله هو الهادي والمضل ، فلماذا يعذبني إن ضللت؟ . وشاع هذا السؤال وأخذه المستشرقون والفلاسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة . ونقول لكل مجادل : لماذا قصرت الاعتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا لا تذكر الثواب إن أحسنت وآمنت؟ . إن اقتصارك على الأولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر . ولا يقول ذلك إلا المسرفون على أنفسهم .
وضرَبْنا من قَبْلُ أمثلةً كثيرة . لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين؛ لأن الجهة عندهم منفكة وهم قد ناقشوا مسألة " خلق أفعال العباد " وتساءلوا : مَنْ خلق هذه الأفعال؟ هل خلقها الله أم أن العبد يخلق أفعاله؟ .
ونسأل : ما هو الفعل؟ . إنه توجيه طاقة لإحداث حدث؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيَّ عمل تريده منها؛ قد تضرب بها إنساناً أو تحمل بها إنساناً واقعاً على الأرض ، أو تربت بها على اليتيم .
إذن ففي اليد طاقة تصلح لأن تفعل الخير وتفعل الشر ، وأنت لحظة أن تضرب إنساناً؛ فأي عضلة تحركها حين ترتفع اليد لتضرب؟ . إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب؛ تضرب؛ عكس الإنسان الآلي حين يرفع شيئاً ، فله أجزاء وأزرار تعمل . وكلها آلات .
وأنت حين تربت على كتف يتيم ، ما هي الأعضاء والأجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل؟ . إذن فالله هو الذي خلق فيك الانفعال للفعل . فإن نظرت إلى ذلك ، فكل فعل من الله ، ولكن توجيه الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف .
إذن فأنت تحاسب لأنك فعلت ، لا لأنك خلقت؛ لأن خالق الأفعال هو الله سبحانه وتعالى ، وأنت تفعل بمجرد الإرادة والاختيار ، مثل اللسان فيه طاقة مخلوقة لبيان ما في النفس؛ إن أردت أن تقول بها " لا إله إلا الله " صلحت ، وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول - والعياذ بالله - لا يوجد إله . واللسان لم يعص في هذه ولا في تلك .
(1/3129)

إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو الله . وأنت توجه الجارحة ، إذن فكل الافعال مخلوقة لله ، لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والاختيار إنما يكون من العبد . والحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع بالمنهج ، ومن يقبل عليه بنيَّة الإيمان ، يعينه على ذلك ، ولذلك لا يصح أن نختلف في مسألة مثل هذه ، وأن نسأل من خلق الأفعال ، بل علينا أن نحدد الأفعال وكيف توجد ، وما دور الإنسان فيها؛ لأننا نعلم أن الله قد يسلب طاقة الفعل على الأحداث ، مثل من يريد أن يؤذي إنساناً بيده لكنه يصاب بشلل فلا يقدر أن يرفع يده . ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من أراد ، لكنه لا يخلق الطاقة الصانعة للفعل .
وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين : هداية دلالة ، وهي للجميع؛ للمؤمن والكافر؛ لأن الحق لم يدل المؤمن فقط ، بل يدل المؤمن والكافر على الإيمان به ، فمن يُقْبل على الإيمان به؛ فإن الحق تبارك وتعالى يجد فيه أهلاً للمعونة . فيأخذ بيده ، ويعينه ، ويجعل الإيمان خفيفاً على قلبه ، ويعطي له طاقة لفعل الخير ، ويشرح له صدره وييسر له آمره : وسبحانه القائل : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله . . . } [ البقرة : 282 ]
ويقول سبحانه وتعالى : { . . . وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ الأعراف : 178 ]
فإذا كان الله قد عمّم حكماً ثم خصّصه ، فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم .
ويقول ربنا عز وجل : إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية ، ومن شاء له الضلال زاده ضلالاً ، وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من الله ، والكافر لا يهتدي وكذلك الظالم ، والفاسق؛ لأنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لاختياره ، وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم هداية المعونة . ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة ، فهو سبحانه يقول : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى . . . } [ فصلت : 17 ]
والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدلالة ، وليست هداية المعونة .
ويقول سبحانه : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية ، بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية ، والحق سبحانه وتعالى يقول لرسوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ . . . } [ القصص : 56 ]
أي أنك يا محمد لن تعين أحداً على الطاعة لأن هذا أمر يملكه ربك .
ويقول سبحانه لرسوله : { . . . وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ]
أي أنك يا محمد تهدي هدايةَ الدّلالة بالمنهج الذي أنزله الله إليك .
إذن إذا رأيت فعلاً أو حدثاً مُثبتاً لواحد ومنفياّ عنه . . فاعلم أن الجهة منفكة ، والكلام هنا لحكيم عليم . ولماذا يقول الحق سبحانه : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ الأعراف : 178 ]
لأن الحق سبحانه وتعالى حين ينصرف عن معونة عبده ، فعلى العبد أن يواجه حركة الحياة وحده بدون مدد من خالقه . ويعيش وحالته كرب ، سواء كان في يسر مادي أو في عسر . هذا إن اعتبر أن الدنيا هي كل شيء ، فإذا أضيف إلى ذلك غفلته عن أن الدنيا معبر للآخرة ، فالخسارة تكون كبيرة حقاً .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً . . . }
(1/3130)

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
وذرأ ، بمعنى بث ونشر ، وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }
كما يقول الحق أيضاً : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس . . . } [ الأعراف : 179 ]
ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا الإنس والجن؛ لأن كلا منهما في سلك الاختيار ، وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان }
وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا ، وكلمة كثير لا تعني أن المقابل قليل ، فقد يكون الشيء كثيراً ومقابله أيضاً كثير ، والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب . . . } [ الحج : 18 ]
إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد لله سبحانه وتسبحه ، ولكن الأمر انقسم عند الإنسان فقط ، حيث يقول الحق في ذات الآية : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب . . . } [ الحج : 18 ]
أي هناك كثير يسجدون ويخضعون لله . ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب . وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس }
فقد يثور في الأذهان سؤال هو :
هل أنت خالقهم يا رب لجهنم ، ماذا تستطيعون إذن؟ ولا شيء في قدرتهم مادمت قد خلقتهم لذلك؟
ونقول : لا . ولنلفت الأنظار إلى أن في اللغة ما يسمى " لام العاقبة " ، وهو ما يؤول إليه الأمر بصورة تختلف عنا كنت تقصده وتريده؛ لأن القصد في الخلق هو العبادة مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ]
ومعنى العبادة طاعة الأمر ، والكف عن المنهي عنه ، والمأمور صالح أن يفعل وألا يفعل ، فالعبادة - إذن - تستدعي وجود طائع ووجود عاصٍ ، وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى ومنزه سبحانه وتعالى : يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك : لماذا يقف منك هذا الموقف العدائي ، أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه؟ فترد عليه : " زرعته ليقلعني " . هل كان وقت مجيئك به كنت تريده أن يقلعك؟ لا . ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا .
والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة أو النار ، لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه ، فمنهم من آمن وأصلح فدخل الجنة ، ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه " لام العاقبة " ، أي ما صار إليه غير مرادك منه ، ومثال ذلك حينما قال الله سبحانه لأم موسى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين * فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً . . . }
(1/3131)

[ القصص : 7-8 ]
هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً؟ لا ، لأن زوجة فرعون قالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا . . . } [ القصص : 9 ]
فقد كانت علة الالتقاط - إذن - هي أن يكون قرة عين ، لكنه صار عدواً في النهاية ، وهذا اسمه - كما قلت - لام العاقبة .
وهكذا لا تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والإنس النار ، في قوله الحق : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس }
لأن علة الخلق في الأصل هي العبادة ، والعبادة تقتضي طائعاً وعاصياً ، فالذي يطيع يدخل الجنة ، والذي يعصي يدخل النار ، ولله المثل الأعلى ، أذكركم بالمثل الذي ضربته من قبل حين يسأل وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو المدير : إننا نعلم جيداً من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم وأحددهم . لم يقل العميد أو المدير لأنه يتحكم في إجابات الطلبة ، ولكنه علم من تصرفاتهم ما يؤولون إليه ، والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير . وعلى ذلك فإن قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس }
يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، وهم من يعرضون عن منهجنا ، ثم يأتي بالحيثيات لذلك وهي أولا : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا . . . } [ الأعراف : 179 ]
وثانياً : { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا . . . } [ الأعراف : 179 ]
وثالثاً : { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 179 ]
ولقائل أن يقول : إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث لا تفقه فما ذنبهم هم؟ . ومادامت عيونهم مخلوقة بحيث لا ترى فما ذنبهم؟ وكذلك مادامت الآذان مخلوقة بحيث لا تسمع فلماذا يعاقبون؟ . ونقول : لا ، لم يخلقهم الله للعذاب ، لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم ، وصارت عقولهم لا تفكر في شيء غيره وتخطط للحصول على الشهوة ، وكذلك العيون لا ترى إلا ما يستهويها ، وكذلك الآذان . وكل منهم يرى غير مراد الرؤية ، ويسمع غير مراد السمع .
والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الأذان . . أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها الإدراكات . ونعلم أن الإدراكات تأتي بواسطة الحواس الخمس ، فنحن نعرف أن الحرير ناعم باللمس ، ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم ، ونعلم أن العسل حلو الطعم بالذوق .
إذن لكل وسيلة إدراك ، وهي من المحسَات ، وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك الإنسان خميرة علمية في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلماً بها .
وكلنا يعرف أن النار محرقة؛ لأن الإنسان أول ما يلمس النار تلسعه ، فيعرف أن النار محرقة ، ويتحول الإدراك إلى إحساس ثم إلى معنى . إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس الإنسانية وملكاتها الحواس الظاهرة ، وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الأشياء بالحمل . وقد انتبه العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل؛ لأنك حين تحمل شيئاً قد تجهد العضلة أكثر إن كان الحمل ثقيلاً .
(1/3132)

وحينما ترى واحداً من قريب وواحداً من بعيد ، فهذه اسمها حاسة البعد ، وكذلك حاسة البين وهي التي تميز بها سمُك القماش مثلاً .
كل الحواس - إذن - تربي المعاني عند الإنسان وحين تربي المعاني في النفس الإنسانية تتكون القضايا التي تستقر في القلب .
ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا }
والفقه هو الفهم ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها الاقتناع من المرائي والمحسّات ، لكنّ هؤلاء الكافرين لا يرون بأعينهم إلى هواهم ، وكذلك لا تسمع آذانهم إلا ما يروق لهم ، فلا يستمعون إلى الهدى ، ولا يلتفتون إلى الآيات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بلا فقه ، فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الأشياء التي تروق لانحرافهم .
ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلاء فيقول : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون }
وهنا وقفة لإثارة سؤال هو : ما ذنب الأنعام التي تُشبه بها الكفار؟ إن الأنعام غير مكلفة وليس لأي منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات الله أو آذان تسمع بها آيات الله . هي فقط ترى المْرعَى فتذهب إليه ، وترى الذئب فتفر منه ، وتتعود على أصوات تتحرك بها ، وكافة الحيوانات تحيا بآلية الغريزة ، ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها الله فيه ، لا بعقله .
والإنسان منا لا يبتعد عن الضرر إلا حين يجربه ويجد فيه ضرراً . لكن الحيوان يبتعد عن الضر من غير تجربة بل بالغريزة ، لأن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلات ، وفطره الله على غريزة تُسَيّرهُ إلى مقومات صالحة ، ومثال ذلك : أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما ، ويعطي الله له لوناً يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه .
ومثال آخر : نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع الإنسان ، ولابد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه الإنسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي في الإنسان ، حيث تصير في بعض الأحيان غاية في ذاتها ، بجانب أنها وسيلة للنسل . ولذلك نجد كثيراً من ظواهر الحياة المتعلقة بالإنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ . . . } [ المائدة : 31 ]
إذن فالغراب مَهْدِيّ بغريزته إلى كل متطلباته ، ولذلك نجد من يقول : كيف نشبه الضال بالأنعام؟ نقول : إن الضال يختلف عن الأنعام في أنه يملك الاختيار وقد رفع فوق الأنعام ، لكنه وضع نفسه موضع الأنعام حين لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل .
(1/3133)

وبذلك صار أضل من الأنعام ، وكلمة " أضل " تبين لنا أن الأنعام ليست ضالة ، لأنها محكومة بالغريزة لا اختيار لها في شيء . لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والإنس ، لا يعرفون ربهم ، بينما الأنعام ، والجمادات والنباتات تعرف ربها لأن الحق يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . . } [ الإسراء : 44 ]
إذن فالأنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده . وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ . . . } [ النور : 41 ]
وعلى ذلك فكل الجماد - إذن - بعلم صلاته وتسبيحه .
ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بالله حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط إلى غايات وأهداف سامية . والعارف بالله من هؤلاء الصالحين يستقبل الأحسن منه في العبادة بالضحك ، أما الأحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله " بالتكشير " ، وقال واحد منهم لآخر : أتشتاق إلى ربك؟ فرد عليه : لا .
تساءل الآخر : كيف تقول ذلك؟ .
قال له : نعم . إنما يُشْتَاقٌ إلى غائب . { . . . أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ]
ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج ، أو لعدم مُذَكِّر ، أو لعدم وجود مُنْذرٍ أو مُبَشِّر . بل هي غفلة منهم ، فالأمور واضحة أمامهم ، لكنهم يهملونها ويَغُفلون عنها .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَللَّهِ الأسمآء الحسنى . . . }
(1/3134)

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
وحين يقول المولى سبحانه وتعالى { وَللَّهِ الأسمآء الحسنى } نقول : أنه لا يوجد لغير الله اسم يوصف بأنه من الحسنى ، إن قلت عن إنسان إنه " كريم " ، فهذا وصف ، وكذلك إن قلت إنه " حليم " ، وكلها صفات عارضة في حادث ، ولا تصير أسماء حسنى إلا إذا وصف الله بها . فأنت- مثلا- لك قدرة تفعل أفعالاً متعددة ، ولله قدرة ، لكن قدرتك حادثة من الأغيار ، بدليل أنها تسلب منك لتصير عاجزاً ، أما قدرة الله تعالى فلها طلاقة لا يحدها شيء . فهي قدرة مطلقة . وأنت قد تكون غنياً ، لك غنى ، ولله غنى ، لَكنّ ثراءك محدود ، وأمَّا غنى الله فإنه غير محدود .
إذن الأسماء الحسنى على إطلاقها هي لله ، وإن وجدت في غيره صارت صفات محدودةً مهما اتسعت . { وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا }
والحسنى . . تأنيث لكلمة " الأحسن " اسم تفضيل ، وهي الأسماء الحسنى في صلاحية الألوهية لها ، وصلاحيتها للألوهية . وحين تقول عنه سبحانه : إنه " رحيم " ، فهذا أمر أحسن عندي وعندك لأنني أنظر إلى رحمته لي ، وأنت تنظر إلى رحمته لك . وحين تقول : " غفار " فأنت وأنا وكل من يسمعها تعود عليه .
وحين تقول : " قهّار " وأنت مذنب ستخاف ، وهي صفة حسنى بالنسبة للإله؛ لأن الإله لابد أن تكون له صفات جمال وصفاتُ جلال ، فصفات الجمال لمن أطاع ، وصفات الجلال لمن عصى . ولذلك لا تأخذ النعم بمدلولها عندك ، بل خذ النعم بمرادات الله تعالى فيها .
وساعة يتكلم الحق سبحانه وتعالى قائلا : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان*فبأي آلاء رَبِّكُمَا تكذبان*يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ*فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ*فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 31-36 ]
فهل إرسال الشواظ من النار والنحاس نعمة يقول بعدها : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟
نقول : نعم ، هي نعمة كبيرة ، لأنه سبحانه وتعالى ينبهنا قبل أن توجد النار ، أن النار قوية ، ويعطي لك نعمة العظة والاعتبار . وعظته وتنبيهه - إذن - قبل أن توجد النار نعمة كبرى ، وأيضاً هي نعمة بالنسبة للمقابل ، فحين يطيعه المؤمنون في الدنيا ويلزمون أنفسهم بمنهج الله ، فلهم ثواب حق الالتزام ، والمقابل لهم الذين لم يلتزموا وأخذوا الخروج عن المنهج غاية ، يتوعدهم سبحانه بالعقاب ، وهذه نعمة كبرى . { وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا }
والحق سبحانه وتعالى عرفنا اسمه بالبلاغ منه ، لأننا قد نعرف مسماه من القوى القادرة وهي التي تعرف بالعقل ، لكن العقل لا يقدر أن يعرف الاسم . وسبق أن قلت : لنفترض أن أناساً يجلسون في حجرة ثم طرق الباب . هنا يجمع الكل على أن طارقاً بالباب ، لكن حين دخلوا في التصور اختلفوا ، فواحد يقول : إن الطارق رجل ، فيرد الآخر : لا إنها امرأة لأن نقرتها خفيفة ، ويقول ثالث : هذه النقرة على الباب تأتي من أعلاه وهي دليل على أن الطارق ضخم ، وهو نذير لأنه يطرق بشدة ، ويختلف تصور كل الحضور عن الطارق ، ولا أحد يعرف اسمه .
(1/3135)

إذن حين تريد أن تعرف من الطارق ، فأنت تسأله من أنت؟ فيقول لك " اسمه " .
إذن فإن الاسم لا يدرك بالعقل . ومن خلق الخلق كله قوي ، قادر ، حكيم ، عليم ، لأن عملية الخلق تقتضي كل هذا . أما اسم الله . فهذه مسألة لا يعرفها العقل وتحتاج إلى توقيف . إذن فأسماء الله تبارك وتعالى توقيفية ، فحين يقول لنا : هذه أسمائي فإننا ندعوه بها ، وما لم يقل لنا عليه لا دعوة لنا به ، ولذلك يقول تعالى : { فادعوه بِهَا }
فإذا أنت نقلت هذا إلى غيره . فأنت تدعو بالأسماء الحسنى سواه ، مثلاً كذاب اليمامة مسيلمة سمى نفسه الرحمن ، وبذلك ألحد في اسم الله حيث نقل أحد أسماء ربنا إلى ذاته ، ومثله فعل غيره ، ألم يسموا " اللات " من الله؟ . ألم يسموا " العزّى " من العزيز؟ . ألم يسموا " مناة " من المنان؟ . كل هؤلاء ألحدوا في أسماء الله التي لا ندعو غيره بها ، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله في دعآئه : " اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك ، عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وذهاب حزني وغمي "
إذن فهذه الأسماء وضعها ربنا لنفسه ، لأنها لا تعرف بالعقل . أما إذا نظرت إلى الأوصاف المبدعة للخلق فأنت تتعرف على هذه الأوصاف؛ لأنه تعالى خلق الكون بحكمة وتدبير وقدرة . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن نؤسس مصانع كثيرة وكبيرة لتصنع المصابيح ، فنصنع زجاجاً ونفرغه من الهواء ، ونضع داخله أسلاكاً تتحمل ذبذبة الكهرباء ، وبعد استخدام هذه المصابيح لفترة تفسد ، بينما الشمس تضيء الكون كل هذا العمر ، من بدء الخلق ، ولا تحتاج منا إلى قطعة غيار .
وحين نقول هو : " حكيم " ، نقولها ونرى أثر ذلك في حركة الكواكب التي تسير منسجمة ، وكل كوكب يدور في فلكه ولا يصطدم بآخر ، وهذا دليل على أن الكواكب قد خلقت بحكمة .
وينبهنا الحق سبحانه وتعالى أن ندعوه بالأسماء الحسنى في قوله : { وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا } لأنه يريد من خلقه دائماً أن يذكروه؛ لأنه هو الرب الذي خلق من عَدَم ، وأمد من عُدْم .
(1/3136)

وصان الخلق بقيوميتة ، وحين تأتي لك حاجة وجب عليك أن تذكر أسماء الله الحسنى وتنادي الله بها ، وحين تريد أن تتقرب إلى الله لا تناديه إلا بالاسم الذي وضعه لنفسه وهو " الله " ، لأن هذا هو اسم علم على واجب الوجود ، وأسماء الله الحسنى كلها صفات وصلت إلى مرتبة الأسماء ، وهناك أسماء تدل على مجموع الصفات .
ولله المثل الأعلى : أنت تقول : " زيد " فيعرف السامع أن هذا اسم علم على شخص اسمه زيد ، ثم له صفات أخرى ، كأن يكون تاجراً ، أو عالماً متفقها في العلم ، أو مهندساً . لكن الاسم العلم هو زيد وهو الذي لا يشترك معه أحد من معارفك فيه وهو زيد ، لكن الصفات الأخرى قد يشترك معه فيها غيره .
والأسماء لله نوعان ، اسم يدل على ذات الله ، الذات المجردة عن أي شيء وهو الله ، ولكن هناك صفات لله مثل الرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلام والمؤمن والمهيمن ، وهذه صفات ارتقت في السمو والعلو لأنه لا أعلى منها ، حتى أصبحت إذا أطلقت إطلاق الكمال الأعلى لا تنصرف إلا لله . فصارت أسماء .
قد نقول فلان غني ، وفلان كريم ، وفلان حكيم ، لكن الغنى على إطلاقه هو لله تعالى .
والأسماء الحسنى ناشئة من صفات مبالغة في العلو فيها ، لأنه سبحانه الأكمل فيها وهي في الأصل صفات لها متعلقات فعلية ، وهذه نوعان اثنان : نوع يطلق على الله منها اسم ومقابله ، ونوع يطلق عليه الاسم ولا يطلق عليه المقابل ، ونأتي بصفة شبيهة بالاشتقاق ، فنقول : " غني " ، ونقول : " مغني " فهو غني في صفة ذاته قبل أن يوجد من يُغنيه ، ومغني وجدت بعد وجود من يُغنيه من عباده ، وسبحانه حي في ذاته ، ومحيي لغيره ، والإحياء صفة فعل في الغير . ولابد لها من مقابل ، فنقول : محيي ومميت . ولم نقل حي ومقابله ، الغير . إذن فالاسم الذي ترى له مقابلاً هو صفات الفعل ، أما صفات الذات فهي التي لا يوجد لها المقابل . ويلحدون في أسماء الله أي يُميلونها إلى غير الله وينقلها الواحد منهم لغير الله أو يأتي باسِم للغير ويطلقه على الله ، أو يطلق اسماً ليس له معنى أو لا يُفهَم منه أي معنى على الله . إذن " الإلحاد " يأتي في ثلاثة أشياء : إما أن ينقل أحد أسماء الله إلى غير الله ، أو يأتي باسم للغير ويطلقه على الله ، أو يطلق اسماً لله من غير أن يكون قد أنزله الله توقيفياً . { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
ونعلم أن " العمل " هو اسم للحدث من أي جارحة؛ فنطق اللسان عمل ، وشم الأنف عمل ، ونعلم أن هناك ما يسمى ب [ قول وفعل ] ، والفعل عمل الجوارح ما عدا اللسان؛ والقول عمل اللسان ، والاثنان يطلق عليهما عمل ، ولذلك يقول الحق : تبارك وتعالى في سورة الصف :
(1/3137)

{ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الآية : 2 ] .
إذن فالقول مقابله الفعل ، والجزاء هنا على الفعل والقول لأن كليهما عمل .
وإذا كان لله أسماءُ كثيرةٌ ، فهل يجوز هنا لنا أن نأخذ من فعل الله في شيء اسماً له؟ وخصوصاً انه القائل : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا . . . } [ البقرة : 31 ]
وهو القائل أيضاً : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ . . . } [ النساء : 113 ]
هل يمكن أن نقول : إن الله معلم؟ وهل يصح أن نأخذ من قوله : { وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 16 ]
اسماً هو كائد؟
لا يجوز ذلك لأن أسماء الله توقيفية ، وإن رأيت فعلاً منسوباً لله فقف عند الفعل فقط ولا تأخذ منه اسماً لله تعالى .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ . . . }
(1/3138)

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وبعد أن قال سبحانه : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس } أراد أن يطمئن أهل منهج الله ، فلم يقل : " كل الناس " ، بل كثير من الجن والإنس " ، وعرفنا المقابل يكون كثيراً أيضاً بدليل قوله تعالى في سورة الحج : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } أي كثير من الناس يسجدون لله وكثير حق عليهم العذاب .
ويعني قول الحق تبارك وتعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 181 ]
أن كون الله لا يخلو من هداة مهديين ، لتستمر الأسوة السلوكية في المجتمع . والأسوة السلوكية في المجتمع هي التي تربي عقائد المواجيد عند الصغار ، فالصغير لا يعرف كيف يصلي ، ولا كيف يصوم ، ولا يميز بين الكذب والصدق ولكنَّه يتعلم بالتقليد لوالديه ، فالطفل حين يرى والده وأمه ساعة يَؤَذَّنُ للصلاة يقوم كل منهما إلى الوضوء وأداء الصلاة ، هنا يتعلم الطفل كيفية الصلاة ، وحين يتكلم إنسان في سيرة آخر ، يقول الأب أو الأم : لا داعي للخوض في سيرة الآخرين حتى لا نحبط حسناتنا؛ بذلك يتعلم الطفل كيف يصون لسانه عن الخوض في سيرة الغير ، لأن الأسوة السلوكية تنضح عليه ، بدليل أن الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الفهم إذا سمع المؤذن بعد ذلك يقوم من نفسه ليُحضر سجادة الصلاة ويقلد والده ووالدته .
ونفهم من قوله تعالى : { وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
إنهم في حكمهم على الأشياء يقيمون العدل بالحق ، أو أن يكون العدل هو نفي الشرك ، وقد يكون العدل في مسألة الكبائر ، أو يقيمون العدل في مسألة الحقوق بين الناس . { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ }
وقوله في الآية الكريمة : " أمة " يعني أن صفات الكمال المنهجية أكثر من أن يحيط بها واحد لينفذها كلها ، فكل واحد له جزء يقوم به ، فهناك من يتميز بالصدق ، وآخر في الشجاعة ، وثالث في الكرم ، وهكذا تبقى الأسوة في مجموع الصفات الحسنة ، وقد ميز الله سيدنا إبراهيم - على نبينا وعليه السلام - فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ]
أي أنه جامع لخصال الخير التي لا توجد إلا في مجتمع واسع ، { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
وأي أمة من أمم الأرض - إذن - هي التي تهدي بالحق؟ لقد سبحانه في قوم موسى! { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق . . . } [ الأعراف : 159 ]
ثم جاءت أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا رسول بعده ، لذلك تظل هذه الأمة المسلمة مأمونة على صيانة منهج الله إلى قيام الساعة .
فإذا رأيت إلحاداً انتشر فاعلم أن لله مدداً ، وكلما زاد الناس في الإلحاد ، زاد الله في المدد ، وحتى إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة الهادية إلى الحق لتبقى شريعة الله مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج الله .
(1/3139)

إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر ، ولسائل أن يسأل : ما لزوم هذا الشر في كون خلقه الله على هيئة محكمة؟ نقول! لولا أن الناس يضارون بالشر؛ لما تنبهوا إلى حلاوة الخير ، ولو أن الإنسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء؛ ما تحمس للحق أحدٌ ، ولا عرف الناسُ ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود ، فللشر - إذن - رسالته في الوجود . وهو أن يهيج إلى الخير ، فكما ذرأ الله لجهنم كثيراً من الجن والإنس؛ أوضح سبحانه وتعالى في قوله : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } في الحكم ، عدلاً في القمة؛ وهو ألا يشركوا بالله شيئاً ، لأن أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم ، فالشرك والعياذ بالله ينقل الأمر من مستحقه إلى غير مستحقه ، وكذلك تحريم ما أحل الله ، أو حل ما حرم الله ، وكل ذلك ظلم ، وكذلك عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس ، فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم وولي ومسلط؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته بحيث لا يترك للظالم أن يأخذ منه شيئاً ، فلا يتحرك في الحياة إلا حركة محدودة ، ولا يعمل إلا بقدر ما يكفيه فقط ، فإذا ما حدث ذلك؛ فلن يجد الضعاف الذين لا يقدرون على الحركة الإنتاجية أي فائض ليعيشوا به .
إذن أراد الله أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد . فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك لك . لَكِنْ لله حق فيه ، وأنت لك الباقي ، حتى يجد الضعيف الذي لا يقدر على حركة الحياة من يقيته ، ولذلك يحذرك المنهج الإيماني بقوله : إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف ، لأن قُوَّتَك التي استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض لا يدوم لك ، فإن أخذنا منك وأنت قويُّ قادر على الحركة ، سنأخذ لك حينما تكون عاجزاً لا تقدر على الحركة ، وذلك هو التأمين والعدالة .
وبالنسبة للأمة في تلك الآية { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
فقد جاء في الآثار أن المراد بالأمة في هذه الآية الأمة المحمدية ، قال قتادة : بلغني " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إذا قرأ هذه الآية : هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون "
ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بقوله : هذه لكم ، أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول الله سبحانه وتعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر . . . } [ آل عمران : 110 ]
وكلمة " للناس " هنا تفيد أن الله لم يجعل خيرية الأمة المحمدية وهي أمة الإجابة للمؤمنين فقط ، بل جعل خيريتها للناس جميعاً؛ مؤمنهم وكافرهم . { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
وذكر " أمة " لأن خصال الخير لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد ، بل كل واحد يأخذ لمسة من خير ، هذا فيه ذكاء ، وذاك فيه شجاعة ، وذاك عنده مال ، وذلك له خلق . فكأن الأمة المحمدية قد وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الصالحة للخلافة في الأرض .
ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم ، لأن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول سبحانه : { والذين كَذَّبُواْ . . . }
(1/3140)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
وهؤلاء هم المقابلون للذين خلقهم الله أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، والآيات جمع آية ، وقلنا : إن الآيات التي في الكون ثلاث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي الأطراف بتلك الدقة العظيمة ، وذلك الإحْكام المتقن ، آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس والقمر ، وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلاغ عن الله ، وآيات قرآنية تحمل منهج الله . والذين كذبوا بآيات الله الكونية ولم يعتبروا بها ، ولم يستنبطوا منها وجود إله قوي قادر حكيم ، وكذبوا الآيات المعجزات لصدق النبوة ، وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا بها ، ولم يتمسكوا بها؛ هؤلاء يلقون الحكم من الله فلن يدخلهم الحق النار فقط ، بل لهم عذاب أقرب من ذلك في الدنيا ، لأن المسألة لو أجلت كلها للآخرة لاستشرى بغي الظالم الذي لا يؤمن بالحياة الآخرة ، لكن من يؤمن بالآخرة هو من سيحيا بأدب الإيمان في الكون ، وتكون حركته جميلة متوافقة مع المنهج . عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لابد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون أثناء الحياة الدنيا ، وسبحانه وتعالى القائل : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ . . . } [ الطور : 47 ]
أي أن لهم عذاباً قبل الآخرة .
ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }
وحين تقول : أنا استدرجت فلانا ، فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل ، مثل وكيل النيابة حين يحقق مع المجرم ، ويحاصره بالأسئلة من هنا ، ومن هناك ، إلى أن يقر ويعترف ، وهذا هو الاستدراج . و " الاستدراج " من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية " السلَّم " وهو وسيلة للانتقال من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على الإنسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى الدور الخامس مثلا في عمارة ما ، ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على وفق الحركة العادية للنفس ، وهناك من يجعل علو الدرجة مثلاً اثنى عشر سنتيمتراً بحيث يستطيع كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس ، وهذا يعني أننا نستدرج العلو لنصل إليه أو ننزل منه .
وقد خصوا في الآخرة الجنة بالدرجات العليا ، والنار بالدرجات السفلى .
وهنا يقول الحق : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ]
أي نأخذهم درجة درجة ، ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه ، كما قال سبحانه من قبل : { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً . . . } [ الأنعام : 44 ]
لأن الله حين يريد أن يعاقب واحداًَ على قدر جرمه في حق أخيه الإنسان في الدنيا يأخذه من أول جرم؛ لأن الأخذة في هذه الحالة ستكون لينة ، لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من عَلِ . { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً . . . } [ الأنعام : 44 ]
وهكذا يكونُ الآخذ أخذ عزيز مقتدر .
وحينَ يستدرج البشرُ ، فإن الطرف المستدرج له أيضاً ذكاء ، ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ منصوب له ، لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت . والعلة في قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } هي قوله : { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ لأن البشر يعلمون طرق استدراج بعضهم لبعض .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ . . . }
(1/3141)

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
والإملاء هو الإمهال وهو التأخير ، أي أنه لا يأخذهم مرة واحدة ، فساعة يقوم الفاسد بالكثير من الشر في المجتمع ، نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات ، ونسمع دائماً من يقول : لو لم يكن هناك إيمان لأكل الناسُ بعضهم بعضاً ، فالإيمان يُعطي الأسوة واليقين . والإملاء للظالم الكافر ليس إهمالاً له من المولى تعالى ، بلَ هو إمهال فقط ، ثم يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وهنا يوضح الحق : إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين . والكيد هو المكر ، والمكر أخذهم من حيث لا يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به .
وهو تدبير خفي حتى لا يملك الممكور به ملكات الدفع . وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيراً يخفى على بعضهم ، فماذا حين يدبر الله للكافرين مكيدة أو مكراً؛ أيستطيع واحد أن يكشف من ذلك شيئاً؟ . طبعاً لن يستطيع أحد ذلك . هذا هو معنى { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } ؛ ومتين أي قوي ، والمتانة مأخوذة من المتن وهو الظهر ، ونعرف أن الظهر مُكوَّنٌ من عمود فقري وفقرات عظيمة ، تحيط بها عضلات . فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان أي حمل عليه يكسره . فشاءت تجلياتُ رَبنا عز وجل واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين ، وهما ما نسميه في عرف الجزارين " الفلتو " لحماية الظهر وتقويته ووقايته .
وإذا نظرنا إلى كلمة " متين " ، نجد " المتن " هو الشيء العمودي في الأشياء ، وفي العلم مثلاً ندرس الفقه وندرس النحو ، ويقال : هذا هو المتن في الفقه ، أي الكلام الموجز الذي يختزل العلم في كلمات محددة ، والذكي هو من يستوعبه . وغالباً مع المتن الموجز شرحاً للمتن ، ثم حاشية للمتن .
ويقول الحق بعد ذلك : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ . . . }
(1/3142)

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
وهنا يُنَبّه الحقُّ سبحانه وتعالى كلَّ الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقلُ عن القوة العليا مرادَها من الخلق . وأول ما يستحق التفكير فيه أن نعرف هل هذا الإنسان الذي يقول عنه رسول صادق أو غير صادق؟ ولقد ثبت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نزول الرسالة عليه ، وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى الإيمان بالله . لكنهم لا يريدون أن يسمعوا ، ليوجدوا لأنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج ، فقال بعضهم اتهاما للرسول : إنه مجنون ، مثلما قال بعضهم من قبل : إنه ساحر ، وكاهن ، وقالوا : شاعر ، ويرد ربنا على كل تلك الأقاويل .
ونتساءل : من هو المجنون؟ .
نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل ، وحين يأخذ منه هذه القدرة على التوازن الفكري ، يصبح غير أهل للتكليف؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا ولا تفعل كذا ، والمجنون لا يملك القدرة على هذا الترجيح .
والحق سبحانه وتعالى لم يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملابس والطعام ، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقاً يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لأنه قد صارت له ذاتية ، والذاتية - كما نعلم - توجد في النبات وفي الحيوان والإنسان وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادراً على إنجاب مثله ، سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو الإنسان . أما إن كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل ، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل .
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ ، والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه ، وهذه عدالة الجزاء من الحق ، وهكذا نجد أن التكليف لا يلزم إلا من بلغ جسمه ونضج عقله ، وبهذا يحرس رَبُّنا الكون بِقَيُّومِيَّتِه .
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات ، فكيف يقولون ذلك على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو قد عاش بينهم ، ولم يكن قط فاقداً لميزان الاختيار بين البديلات ، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين ، وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون به . وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم .
لقد قالوا ذلك على محمد ظلماً له ، وبغَوْغَائِيَّة ، وكل واحد يلقى اتهاماً ليس له من الواقع نصيب؛ لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لأصحاب هذه الاتهامات : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ . . . } [ سبأ : 46 ]
أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا : هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته أنَّ محمدَّا هو أكثر الناس أمانة ، وكان الجميع يسمونه الأمين ، حتى قبل أن يتصل به الوحي ، وليس من المعقول أن يضره الوحي ، أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي ، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى :
(1/3143)

{ ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1-4 ]
كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً عظيماً؛ لأن الخُلق هو الصفات التي تؤهل الإنسان لأن يعيش في مجتمع سليم وهو مسالم . ومادام خُلُقه سليماً ، فمعيار الحكم عنده سليم .
وبعد ذلك قالوا عنه : إنه " ساحر " ، ونقول لهؤلاء : لماذا إذن لم يسحر كبار رجال قريش ليؤمنوا برسالته؟ إن كل ذلك جدل خائب ، والمسألة ليس فيها سحر على الإطلاق . { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }
الجنَّة التي تقولون عليها وتفترون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم - هي منتَهى العقل ومنتهى الخلق ، فمحمد صلى الله عليه وسلم نذير واضح ، جاءكم أولاً بالبشارة لكنكم في غيكم لا تستحقون البشارة ، بل تستحقون الإنذار .
ويقول الحق بعد ذلك : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ . . . }
(1/3144)

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى ، ينتقل الجدل إلى التفكير ومسئوليته : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض }
والتفكير هو إعمال العقل حتى لا يقولَنَّ أحد : إن رسول الله مجنون ، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد ، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق . { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض }
إذن فوقَنا سماء ، وهناك ما فوق السماء ، وتحتنا الأرض ، وفيها ما تحت الأرض ، وهناك بين السسموات والأرض . وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه " مُلْك " أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه " ملكوت " .
ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض . . . } [ الأنعام : 75 ]
فكلمة " ملكوت " معناها مبالغة في الملك ، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة ، ورحموت أي الرحمة الشديدة ، وكلها صيغة " فعلوت " وهي صيغة المبالغة . { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ }
ونحن نرى السماء والأرض بوضوح ، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط ، بل هناك أشياء دقيقة جداً ، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر ، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق . وأنت قد ترى ساعة " بيج بن " الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم ، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم ، وننبهر ونعجب بدقة عمله وصنعته . فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السموات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر ، وخلق أيضاً مخلوقات دقيقة لطيفة لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر ، كالميكروب ، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها ، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دماً .
إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السموات والأرض فقط ، لذلك يقول الحق : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }
أي من أول شيء يقال له شيء ، صار محكوماً عليه وجودياً ، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي نعطي له الحياة ، وتعينه ، حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن ، ولا يقوى عليها صاحب العقل . مثال ذلك : نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء .
وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار ، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم . وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من كائنات قد لا تراها العين المجردة ، كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم .
(1/3145)

إننا نعلم أن الإنسان جنس ، وأن له نوعين : نوع ذكورة ، ونوع أنوثة ، وبينهما جنس مشتبه نسميه الخنثى ، والأجناس لها أفراد متعددة . وكل واحد له خلق ، وكل واحد له موهبة ، وكل واحد له مهمة . وساعة يطلب منا الحق : إياك أن تستصغر شيئاً منك ضد فيرك ، وإياك أن تستكثر شيئاً منك لغيرك ، ويجب عليك أن تجعل كلمة " شيء " هذه هي المقياس ، ولذلك يقول لك الشرع : إنك حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها ، بل قل هي ليست بشيء ذي بال . وإن همّ واحد بعمل سيئة فلا يقل : وماذا ستفعل لي سيئة واحدة؟ مستصغراً شأن هذه السيئة . وهذا نقول له : لا ، لأن كلمة " شيء " يجب أن تحكم الكون . إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحداً مثلاً ضئيل التكوين ، ولا بسطة له في جسمه ، لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة ، وقد تجد إنساناً آخر متين التكوين وليست عنده أية موهبة؛ لأن الله قد يعطي الضئيل فكرا عميقاً ، أو حيلة كبيرة ، أو موهبة خاصة في أي شيء . فلا تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان ، بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي عنك في نفسك . { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }
ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الأجل؟ وللإجابة عن التساؤل أقول : إنها هامة جداً؛ لأننا مادمنا أفراداً أي جنسين أو ثلاثة أجناس ، وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الأرض ، فعلينا أن نعلم أن الخليفة في الأرض جاء ليخلف من سبقوه ، وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة ، أو سنتين أو خمسين عاماً؛ لأن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق - تبارك وتعالى - نفسه ولا يعلمه أحد؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية ، وعلى سبيل المثال : إن سألنا طلبة كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا : لنيل إجازة الليسانس ، وسنجد منهم الطويل ، والقصير ، والأبيض ، والأسود ، والذكي والغبي ، والقوي والضعيف ، وهم لا يتفقون إلا على دراسة الحقوق ، وكذلك لا نتساوى جميعاً كبشر إلا أمام الموت ، فهناك من يموت وهو في بطن أمه ، ومن يموت وهو طفل ، ومن يموت وهو فتى . وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك ، والمؤمن أو الكافر يرى هذه الأحداث أمامه ولا يستطيع أن يقول : لا لن أموت .
ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت ، لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلاً من أن تعاقب ، فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت لا تعرف متى يجيء الأجل ، وإبهام الأجل من الله لنا إشاعة للأجل ، والإبهام هو أوضح أنواع البيان ، فحين يريد ربنا أن يوضح أمراً توضيحياً كاملاً فهو يبهمه .
(1/3146)

ومثال ذلك : لو جعل الله للموت سنّاً ، لصار الأمر محدداً بلا أمل . لكنه سبحانه لم يجعل للموت سنّاً أو سبباً ، وأشاعة في كل زمن ، والإنسان عرضة لأن يستقبل الموت في أي لحظة ، ونزل الموت لا يتوقف على سبب ، فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب ، ومادام الإنسان يستقبل الموت في أي وقت ، فعلى العاصي ألا يستقبل الموت وهو على عصيان لله .
وإياك أن تقول : كيف مات فلان وهو غير مريض؟؛ لأن هناك العديد من الأسباب للموت ، واعلم أن الموت بدون أسباب هو السبب ، فالإنسان الذي نفقده بالموت ، مات لأن أجله قد انتهى ، والحق هنا يوضح : أيها الكافرون ألا تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان ، ومن مات وعمره ثلاث سنوات ، ومن مات وهو ظالم ، ومن مات وهو مظلوم ، ولو لم تكن هناك حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة؟ . وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إلا شهرا؟ لابد أن تعرفوا أن هناك غاية تنتظركم ، غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم ، وآجال إجماعية تتمثل في يوم القيامة .
وفي قوله تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }
يوضح الحق تبارك وتعالى : إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من الإعجاز ومن الإبداع ، ويجمع كل أنواع الكمالات ، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟
وهل في اتباعهم للأهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك . وكان يجب عليهم أن يتأدبوا مع الله ومع الرسول .
ولذلك يقول سبحانه وتعالى : { مَن يُضْلِلِ الله . . . }
(1/3147)

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
وقد كرر الحق هذا كثيراً ، لأن الأشياء التي قد يقف العقل فيها ، أو تأخذه مذاهب الحياة منها ، ويكررها الله ، ليجعلها في بؤرة الاهتمام دائماً ، لعل هذا التكرار يصادف وعياً من السامع . وانظر إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
إنه يكرر ذكر النعم ليستقر الأمر في ذهن السامع . { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ }
وسبحانه لا يرغم واحداً على أن يهتدي ، فإن اهتدى فلنفسه ، وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلال .
وكلنا نعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلاج للمريض ، ليتم الشفاء بإذن من الله ، الدواء إذن وسيلة إلى العافية ، فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب؟ لا . وكذلك منهج الله . { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ }
لكن هل يريد الله الضلال لأحد ، لا ، بل سبحانه دعا الناس جميعاً بهداية الدلالة ، فمن اهتدى زاده بهداية المعونة ، ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء . ولذلك يقول لنا الشرع : إياك أن تشرك بالله شيئاً في أي عمل؛ لأن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول : قال الله تبارك وتعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه "
ومعنى الشركة في عرف البشر ، أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم ، وموهبة كل منهم ، لا تكفي لإقامة مشروع ما ، لذلك يكونون شركة لإنتاج معين ، فهل هناك ما ينقص ربنا ليستكمله من آخر؟ حاشا لله . بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكاً يجعل الله رافضاً لعبادة العبد المشرك . لذلك يقول في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه " . ومادام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب من حيث لا يدري .
ومن قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ }
نتبين أنه حين يحكم الله بضلال إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدِّل على الله ، ليجعل شيئاً من ضلال هو هدى ، أو شيئاً من هدى هو ضلال .
كما يتضح من تلك الآية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم الله مرضاً ويتركهم في طغيانهم يعمهون ، والعمه هو فقدان القلب للبصيرة ، والعمى هو فقدان العين للبصر .
ويقل الحق - تبارك وتعالى - بعد ذلك : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة . . . }
(1/3148)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
والمسئول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة ، وعن الروح ، وعن ذي القرنين ، فكان الجواب منه مطابقاً لما عندهم في التوارة لأنهم ظنوا أن الكلام الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافاً بدون ضابط وليس من رب يُنْزلُه . فلما أجاب بما عندهم في التوراة ، علموا أنه لا يقول الكلام من عنده ، ولذلك سألوه أيضاً عن أهل الكهف وما حدث لهم ، وكانوا جماعة في الزمن الماضي ، واتفقوا معه على كل شيء حدث لأهل الكهف إلا على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً } [ الكهف : 25 ]
فقال اليهود : الثلاثمائة سنة نعرفها ، أما التسعة فلا نعرفها ، وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لأن ربنا هو القائل : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله . . . } [ التوبة : 36 ]
إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي ، ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكماً دقيقاً فهم يؤرخون له بالهلال ، والمثال أن كل عَالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلال ، لأنه أدق ، وأيضاً فالهلال آية تعلمنا متى يبدأ الشهر ، ولا نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر؛ لأن الشمس دلالة يومية تدل على النهار والليل ، بينما القمر دلالة شهرية ، ومجموع الاثنى عشر هو الدلالة السنوية . لكنهم لم يفطنوا إلى هذه ، وأخذوا على الثلاثمائة سنة بالحساب الشمسي ، وأضاف الحق : { وازدادوا تِسْعاً } لأنك إن حسبت الثلاثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع سنين .
ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن الإيمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة ب " افعل " و " لا تفعل " ، وساعة يقول الشرع : افعل ، ففي ظاهر هذا الفعل مشقة ، وساعة يقول : لا تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب ، والمنع عنه يناقض شهوات النفس . وللتأكد من أن الأسئلة ظاهره صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول الله من أمته ، حكاها القرآن بصور متعددة ، ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله : { ويَسْأَلُونَكَ } ؛ ومرة ورد بصورة فعل ماض " وإذا سألك " . وكثيراً ما جاء السؤال بهيئة المضارع { يَسْأَلُونَكَ } ، لأن المضارع يكون للحال وللاستقبال .
وجاءت الأسئلة بالقرآن في صيغة المضارع خمس عشرة مرة ، وجاءت بصيغة الماضي مرة واحدة . وإن نظرت إلى الخمس عشرة مرة تجد كل مرة مِنْها جاءت لتبين حكماً . وإذا نظرنا إلى مادة الفعل " يسأل " في القرآن وبترتيب المصحف ، نجد القرآن يقول : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ . . . } [ البقرة : 189 ]
ويقول سبحانه : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين . . . }
(1/3149)

[ البقرة : 215 ]
ويقول الحق تبارك وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل . . . } [ البقرة : 217 ]
ويقول سبحانه وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . . . } [ البقرة : 219 ]
ومرة أخرى يقول في ذات الآية السابقة : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو . . . }
ويقول سبحانه وتعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ . . . } [ البقرة : 220 ]
ويقول عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض . . . } [ البقرة : 222 ]
ويقول الحق تبارك وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات }
وبعد ذلك في سورة الأعراف يقول : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي . . . } [ الأعراف : 187 ]
وأيضاً يقول سبحانه : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا . . . } [ الأعراف : 187 ]
ثم يقول الحق : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول . . . } [ الأنفال : 1 ]
ويقول الحق تبارك وتعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي . . . } [ الإسراء : 85 ]
ويقول المولى سبحانه : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 83 ]
ويقول الحق : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ]
ويختم هذه الأسئلة بقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } [ النازعات : 42-43 ]
تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله { يَسْأَلُونَكَ } ، وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك وتعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ . . . } [ البقرة : 186 ]
والآيات الخمس عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع { يَسْأَلُونَكَ } نجد كل جواب فيها مُصدرا ب " قل " وهو أمر للرسول : قل كذا ، قل كذا ، ولكن في الآية الواحدة التي جاء فيها الفعل الماضي { وَإِذَا سَأَلَكَ } ، لم يقل : فقل إني قريب ، بل قال : { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع } ، لأن الله يعلم حب محمد لأمته ، وحرصه عليهم ولذلك يقول : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ]
ويقول سبحانه : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ]
ولذلك حين علم الحق علم وقوع : أن رسول الله مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن يشملها الله بمغفرته ورحمته وألا يسؤوه فيها ، أخبره المولى عز وجل بأنه سوف يرضيه في أمته . وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك ، فقد روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلم { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقول عيسى صلى الله عليه وسلم : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } فرفع يديه فقال : أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فَسَلْهُ ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك "
(1/3150)

وتأكيداً لعلم الحق تبارك وتعالى من حرص رسوله على أمته ، أراد أن يكرم هذه الأمة من نوع ما كرّم به الرسول ، فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون " قل " . { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . . } [ البقرة : 186 ]
وأراد الله أن يبين لمحمد ولأمته أن الله يعلم لا بما تسألونه فقط ، بل يعلم ما سوف تسألونه عنه . لذلك نجد أربع عشرة آية تأتي فيها { يَسْأَلُونَكَ } وتكون الإجابة " قل " ، والآية الخامسة عشرة جاء فيها { يَسْأَلُونَكَ } وكانت الإجابة " فقل " لتدل على " الفاء " على أن السؤال لم يقع بعد ، فكأن الفاء دلت على شرط مقدر هو : إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفاً ، وهنا يقول الحق سبحانه : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 187 ]
و " يجٌليها " أي يُظهرها ، وهناك ما يسمى " الجلوة " وما يسمى " الخلوة " ، و " الجلوة " أن يظهر الإنسان للناس ، و " الخلوة " أن يختلي عن الناس ، و " لا يجليها " أي لا يظهرها ، و " لوقتها " ترى أنها مسبوقة باللام ، ويسمونها في اللغة العربية " لام التوقيت " ، مثلما يقول الحق سبحانه : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس . . . } [ الإسراء : 78 ]
وهي بمعنى " عند " ، ومعنى دلوك الشمس ، أنها تتجاوز نصف السماء ، وتميل إلى المغرب قليلاً . وقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } أي لا يُبَيّنُها عند وقتها إلا هو سبحانه وتعالى . { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً }
والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لأن الكتلة إن تساوت مع الطاقة فهي لا تثقل على الحمل .
أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الأرض؛ فيكون الشيء ثقيلاً ، وقد يكون هذا الثقل أمْراً ماديا ، كما يحمل الإنسان - مثلاً - على ظهره أردباً من القمح فيقدر على حمله ، لكنه إن زاده إلى أردب ونصف ، فالحمل يكون ثقيلاً على ظهره لأن طاقته لا تتحمل مثل هذا الوزن " فينخ " به . { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض }
والثقل لا يكون مادياً فقط ، بل هو فكري وعقلي أيضاً ، مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي أو تمرين في مادة الجبر ، فالطالب يشعر أحياناً أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره ، وصعب الحل في بعض الأحيان .
(1/3151)

وقد يكون الأمر ثقيلاً على النفس في ملكاتها ، مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه ، وهو أقسى أنواع الثقل ، ولذلك فالشاعر القديم يقول :
ليس بحمل ما أطاق الظهر ... ما الحمل إلا ما وعاه الصدر
إذن هناك ثلاثة أثقال : ثقل مادي ، وثقل فكري ، وثقل نفسي .
و { ثَقُلَتْ فِي السماوات } ، ونحن نعلم أن السموات فيها الملائكة . ونعلم أن الملائكة أيضاً لا تعرف ميعاد الساعة ، ولا يحاول معرفتها إلا الإنسان بشهوة الفكر ، أما الملائكة فهي ليست مكلفة لأنها لا اختيار لها ، وبعضها يخدم البشر ، وهم الملائكة الذين سجدوا لآدم وهم الموكلون بمصالحه ، وبحياته ، وقد رضخوا لأمر الحق بأن هناك سيداً جديداً للكون . فكونوا جميعاً مسخرين في خدمته ، وهم الملائكة الحفظة الكرام الكاتبون ، ولهم إلف بالخلق ، إلف كاره للعاصي ، وإلف محب للطائع . ومن يسير على منهج الله من البشر يفرحون به . وإن وقع من الطائع زلة ، يأسون له ويتمنون ألا تقع منه زلة أخرى . ومن يسير ضد منهج الله يغضبون منه ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه : " ما من يوم يصبح العياد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفاً "
ونعلم أن المنفق سيأخذ ثواب إنفاقه ، أما الممسك فإن تلف ماله وصبر عليه فهو أيضاً ينال ثواباً عليه . وهكذا تدعو لنا الملائكة .
و " ثقلت " هنا تعني أن ميعاد الساعة لا يعرفه إلا ربنا ، فلا يعرف ذلك الميعاد من هم في السموات وكذلك من هم في الأرض ، وكل من على الأرض خائف مما سوف يحدث لحظة قيام الساعة ، وخصوصاً أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، يعطي لها صورة توضح قوله الحق : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً }
ويخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالحالة التي تأتي عليها فيقول : " إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق والرجل يخفض ميزانه ويرفعه "
ومثل هذه التوقعات تخيف .
وقوله الحق : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً }
أي أن الواقع في هذا اليوم يكون فوق احتمال البشر وهو يأتي بغتة ، أي يجيء من غير استعداد نفسي لاستقباله . ويتابع سبحانه : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }
وحفيَ من الحفاوة ، والحفيّ هو المُلِحُّ في طلب الأشياء ، مثل التلميذ الذي يتوقف عند درس لا يفهمه ، فيسأل هذا ، وذاك إلى أن يجد إجابة .
والحفى بالسؤال عن أمر يحاول أن يصل إليه ، والحفى أيضاً عالم بما يسأل عنه ، وسبب العلم أنه ألحّ في السؤال عليها .
والأمور التي يعالجها الإنسان إما أن يعالجها وهو مستقر في مكانه كالأمور الفكرية أو العضلية الموقوتهَ بمكان ، وقد يكون أمراً بعيداً عن مكانه ويريد أن يعالجه ، فيقطع المسافة إلى المكان الثاني لتحقيق هذه المهمة ، إنما يمشي ويسعى على رجليه ، و " يدوب " النعل الذي يضعه في قدميه من المشي فيقال عنه إنه : " حافي " .
(1/3152)

ولذلك يقال : حفي فلان إلى أن وصل للشيء الفلاني ، أي سار مرات كثيرة وقطع عدة مسافات ، مزقت نعله حتى جعلته يمشي حافياً . وهنا يقول الحق على ألسنة القوم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } أي أنك مُعْنى بها ، ودائب السؤال عنها ، وعارف لها .
وتأتي الإجابة من الحق : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله }
وفي ذات الآية سبق أن قال : { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي }
والربوبية متعلقها الخلق ، والرعاية بالقيومية لمصالح البشر ، والأوهية متعلقها العبادة وتطبيق المنهج ، وجاء الحق في هذه الآية ، مرة بالربوبية ، ومرة بالألوهية . والأولى هي علة الثانية ، فأنت أخذت الله معبوداً ، وأطعته لأنه خلقك ووضع لك المنهج ، ولا يذخر وسعاً بربوبيته أن يقدم للعبد الصالح كل شيء ويمنحه البركة ، وكذلك يعطي الكافر إن أخذ بالأسباب ولكن دون بركة وبغير ثواب في الدنيا أو الآخرة ، لذلك هو الإله الحق الذي نتبع منهجه . { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ }
وأكثر الناس الذين يسألون عن موعد الساعة لا يعلمون أن ربنا قد أخفاها ، وسبحانه هو القائل : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } [ طه : 15 ]
هم إذن لا يعلمون أن علمها عند الله .
ويقول سبحانه وتعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً . . . }
(1/3153)

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
ويقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله : أنتم تسألونني عن الساعة ، وأنا بشر ، ومتلقّ فقط ، والإرسال بالمنهج يأتي من الله وأنا أبلغه ، ولا علم لي بموعد قيام الساعة ، ولا أملك لنفسي لا ضراً ولا نفعاً ، أي لا أملك أن أدفع الضر عني أو أجذب النفع لنفسي ، ولكن حين يسوق الله النفع أو يمنع الضر ، فالإنسان يملك ما يعطيه الله ، والعاقل حين يملك ، يقول : إن هذا ملك عَرَضي ، لا آمن أن ينزع مني . لذلك قال لنا الحق تبارك وتعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ]
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله }
أيْ أنَّ أحداً لا يملك شيئاً إلا ما شاء الله أن يملكه ، ورسول الله من البشر . ويضيف : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء . . . } [ الأعراف : 188 ]
ومحمد صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير ، فقد حارب ، وانتصر ، وحارب وانهزم ، وتاجر فربح ، ويسير عليه ما يسير على البشر ، ومرة يدبر الأمر الذي لم يكن فيه منهج من السماء ، فمرة يصيب ومرة يخطىء . فيصحح له الله؛ لذلك يأتي القول على لسانه بأمر من الله : لو كنت أعلم الغيب لما وقعت في كل هذه المسائل ، وكان أهل رسول الله من قريش قد قالوا : إننا أقاربك ، فقل لنا على موعد الساعة . حتى نستعد لملاقاتها .
ويتابع المولى سبحانه قوله : { وَمَا مَسَّنِيَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وساعة ترى " إن " فهي مرة تكون شرطية مثل : " إن ذاكرت تنجح " ، ومرة تكون للنفي وتجد بعدها اسما ، والمعنى : ما أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون . والكلام موجه إلى المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالنذارة وبالبشارة ، وما يُنذروا به لا يفعلوه ، وما يبشروا به يفعلوه .
ويقول الحق بعد ذلك : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا . . . }
(1/3154)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
وقوله تعالى : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } المقصود بها آدم ، وقول الحق : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } المقصود بها حواء ، ونلحظ في الأداء في هذه الآية أن الضمير عائد إلى مؤنث . { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }
ثم جاء بالتذكير في قوله : { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا }
إذن فصل الذكورة عن الأنوثة جاء عند { لِيَسْكُنَ } . فكأن الكلام في النفس معنىٌّ به جنس بني آدم وهو الذي نسميه " الإنسان " ومنه ذكورة ومنه أنوثة ، ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة كذكورة ، والأنوثة كأنوثة ، يأتي بضمير المذكر ، أو بضمير المؤنث ، وقوله : { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } .
لأنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلَت للرجل سكناً ، لا يقال : إنها له سكن إلا إذا كان هو متحركاً ، كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل ، ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان ، بالعطف ، بالرقة . أما إن لم تكن سكناً فهو يخرج من البيت لأن ذلك أفضل له . وقول الحق تبارك وتعالى : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } .
يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن الله خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ ، أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة ، وأوضح : أنا جعلت منها زوجها ، و " منها " أي أنها قطعة منه ، وقيل : إنها خلقت من ضلع أعوج ، ومن يرجع هذا الرأي يقول لك : لأن الله يريد أن يجعل السكن ارتباطاً عضويا ، فالمرأة بعض من الرجل ، ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لأنه بعض منه . وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم الألفة . وهناك من يقول : إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء؟
ونقول : إن آدم أعطى الصورة في خلق الإنسان من طين ، لأن آدم هو الرسول وهو المسجود له . ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر . ومثال ذلك نجد الفلاح في مصر لا يقول : زوجتي ، بل يقول : " الجماعة " أو " الأولاد " أو يقول : " أهلي " ولا يذكر اسم الزوجة أبداً .
والحق يقول هنا : { وَجَعَلَ مِنْهَا } ، فإن كانت مخلوقة من الضلع ف " مِنْ " تبعيضية ، وإن كانت مخلوقة مثل آدم تكون " مِنْ " بيانية ، أي من جنسها ، مثلها مثلما يقول ربنا : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ . . . } [ الجمعة : 2 ] .
أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن الله ، والمبلغ عن الله واحدا منا ونكون مستأنسين به ، ولذلك قلنا : إن اختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم من البشر فيه رد على من أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر ، فقال الحق على ألسنتهم : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً }
(1/3155)

[ الإسراء : 94 ] .
ويأتي الرد عليهم : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] .
ثم لو كان الرسول من جنس الملائكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته؟ كان لا بد أن يخلقه الله على هيئة الإنسان .
ويتابع سبحانه : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً }
و { تَغَشَّاهَا } تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة ، والغشاء هو الغطاء ، وجعل الله الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء .
والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي لا تدري أنها حامل ، لأن نموّ الجنين بطىء بطىء لا تشعر الأم به . { فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } [ الأعراف : 189 ] .
ومرت به ، مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قياماً وقعوداً إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في شهوره الأخيرة .
وهنا عرف الزوج أن هناك حملا ورفع الاثنان أيديهما بالدعاء لله عز وجل أن يكون الولد صالحاً بالتكوين البدني وصالحاً للقيام بقيم المنهج . { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الأعراف : 189 ] .
أي أن الذكورة قد انفصلت عن الأنوثة ، وصار الذكر يسكن عند الأنثى .
وهكذا كان الأمر الخاص بآدم ، ثم جاء الكلام للذرية ، وخصوصاً أن حواء كانت تحمل بذكر وأنثى ، وآدم وحواء وأولادهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد .
والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة . لكنها تضم قيماً ذات نسق فريد ، فنجد الحق يتكلم في أمر ثم يتكلم في آخر ، مثل قوله : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ . . . } [ يونس : 22 ] .
ولم يأت بسيرة البر هنا ، بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت ، وأيضاً انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً . . . } [ الأحقاف : 15 ] .
هنا يوصي الحق الإنسان بوالديه ، بالأب وبالأم ، ثم يتابع : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً . . . } [ الأحقاف : 15 ] .
ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للأم .
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك : { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ . . . } .
(1/3156)

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
ويروى أن هذه الآية قد نزلت في " قٌصَيّ " وهو جد من أجداده صلى الله عليه وسلم ، فقد طلب " قُصَيّ " من الله أن يعطي له الذرية الصالحة ، فلما أعطاه ربنا الذرية الصالحة سماها بأسماء العبيد ، فلم يقل : عبدالله أو عبدالرحمن ، بل قال : عبدمناف ، عبدالدار ، عبدالعزى . وجعل لله شركاء في التسمية ، ولهذا جاء قول الحق : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } ؛ ليدلنا على أن الإنسان في أضعف أحواله ، أي حينما يكون ضعيفاً عن استقبال الأحداث ، يخطر بباله ربنا؛ لأنه يحب أن يسلم نفسه لمن يعطي له ما يريده ، وبعد أن ينال مطلبه ينسى ، ولذلك يقول الحق : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } [ يونس : 12 ] .
إذن فائدة الضر أنه يجعلنا نلجأ إلى ربنا ، ولذلك نجد الإنسان أحسن ما يكون ذكراً لله وتسبيحا لله حينما يكون في الشدة وفي المرض ، ولذلك لو قدر المريض نعمة الله عليه في مرضه وشدته ، لا أقول : إنه قد يحب أن يستطيل مدة المرض والشدة . لا ، بل عليه فقط ألا يضجر وأن يلجأ إلى ربه ويدعوه . وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما قال : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين . أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي . إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ مّلكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قول إلا بك " .
والإنسان ساعة يوجد في المرض عليه أن يعرف النعمة فيه ، فهو في كل حركة من حركاته يذكر الله ، وكما تخمد فيه طاقات الاندفاعات الشهوانية ، يمتلىء بإيجابيات علوية ، ولذلك نجد الحديث القدسي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى :
" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، قال : وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ، قال : يا رب . كيف أطعمك ، وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان ، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني ، قال : يا رب . كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي " .
إذن ماذا عن حال مريض يستشعر أن ربه عنده ، ويكون في المرض مع المنعم ، وفي الصحة مع النعمة . { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الأعراف : 190 ] .
ومعنى هذا أن ربنا تبارك وتعالى ينزه نفسه عما يقول فيه المبطلون ويشركون معه ما يزعمون من آلهة . ولذلك يقول سبحانه وتعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ . . . }
(1/3157)

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
أيشركون في عبادة الله من لا يخلقون شيئاً ، وهم أنفسهم مخلوقون لله ، إن من أشركوا بالله الأصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل ، وكان الواجب أن يكونوا عقلاء فلا يتخذون من الأصنام آلهة . { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }
ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ . . . } [ الحج : 73 ] .
ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي لا ترى بالعين المجردة ، ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق ، بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئاً ، لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه ، فقد ضعف الطالب والمطلوب .
والخلق - كما نعلم - أول مرتبة من مراتب القدرة ، فإذا كانت الأصنام التي اتخذها هؤلاء شركاء لا تخلق شيئاً بإقرارهم هم ، فكيف يعبدونها؟ إنها لا تخلق شيئاً بدليل أنها لا تتناسل . بل إذا أراد العابدون أن يزيدوا صنماً صنعه العابدون بأنفسهم . ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول : { أَيُشْرِكُونَ } بصيغة تعجب ، والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الاستفهام ، أي تعجب منكراً على وفق الطباع العادية ، مثلما يقول لنا : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله . . . } [ البقرة : 28 ] .
أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بالله وتسترون وجوده ، مع هذه الآيات البينات الواضحات؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والاستغراب والإنكار الشديد ، وحينما يتكلم الحق بإنكار شيء لأنه أمر عجيب ، يوجه الكلام مرة إليهم ، ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم ، مثل قوله هنا : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }
والكلام للمؤمنين لأنه يريد أن يعطي لقطتين في الآية ، اللقطة الأولى : أن ينكر ما فعله هؤلاء ، وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم ، وفرحة بمواقفهم الإيمانية ، حيث لم يكونوا مثل هؤلاء { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } .
وفي الآية الكريمة وقفة لفظية في الأسلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكالا ، في قوله تعالى : { مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } . و " ما " تعني الذي لم يخلق شيئاً ، و " يخلق " هنا للمفرد ، وسبحانه وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } .
وأقول : إن الذي يقف هذه الوقفة ، ويلاحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية ، لأنه لا يعلم أن " ما " و " من " و " ال " تطلق على المفرد والمفردة ، وعلى المثنى والمثناة ، وعلى جمع الذكور وجمع الإناث ، فتقول : جاءني من أكرمته ، وجاءتني من أكرمتها ، وجاءني من أكرمتهما ، وجاءت من أكرمتهما ، وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن .
(1/3158)

وكذلك " ما " . إذن فقول الحق : { مَا لاَ يَخْلُقُ } في ظاهرها مفرد ، ولكن اللفظ يطلق على المفرد والجماعة؛ لذلك جاء في الأمر الثاني وراعى الجماعة ، إذن " يخلق " للمفرد ، و " هم يخلقون " للجمع لأن قوله : " ما " صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث .
ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ . . . } [ محمد : 16 ] .
وسبحانه قال هنا : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ، ولم يقل : " حتى إذا خرج من عندك " بل قال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ } أي أنه جاء بالجماعة ، فإذا رأيت ذلك في " ما " و " من " و " ال " فاعلم أن هذه الألفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور وجمع الإناث . { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } .
وهنا في هذه الآية وقفة لغوية أخرى في قوله : " هم " وهي لا تطلق إلا على جماعة العقلاء ، فكيف يطلق على الأصنام " هم " وليست من العقلاء؟ وأقول : إن الحق سبحانه وتعالى لما علم أنهم يعتقدون أنها تضر ، وأنها تنفع ، فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون ، لكي يرتقي معهم في رد الإنكار لكل ما يستحق الإنكار . فأول مرحلة عرفهم أن الأصنام لا تخلق ، وثاني مرحلة عرفهم أنهم هم أنفسهم مخلوقون والأصنام لا تقدر على نصرهم ، إذن فهم معطلون من كل ناحية؛ لأنهم لا يخلقون . وهذا أول عجز ، ومن ناحية أخرى أنهم يُخْلَون وهذا عجز آخر ، لكن بعد هذا العجز الأول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار معهم ترقية أخرى فيقول : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً . . . }
(1/3159)

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
إذن فلا أحد من الأصنام قادر على أن ينصر نفسه أو يضمن نصر غيره .
وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل ، أولاَ : لا يخلقون ، ثانياً : هم يُخلَقون ، ثالثاً : لا ينصرونكم ، ورابعاً : ولا ينصرون أنفسهم . ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ . . . }
(1/3160)

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
وعلى ذلك فهي خمس مراحل - إذن - ، أكررها لتستقر في الذهن ، أولها أنه من الجائز أنه لا يَخلُق ، ومن الجائز أن يكون مخلوقاً ، ومن الجائز أنه لا يقدر أن ينتصر لغيره لأنه ضعيف ، ولا ينتصر لنفسه لأنه أضعف ، ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم فلا يقبل منك .
وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون : يا هبل ، يا لات ، يا عزى . وإن لم يصبهم أمر سكتوا عن نداء الأصنام؛ لذلك يقول لهم الله من خلال الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون } [ الأعراف : 193 ] .
أي إن دعوتكم لهم لا تفيد في أي أمر تماماً كصمتكم .
ونلحظ أن الأسلوب هنا مختلف { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ } فلم يقل : " أدعوتموهم أم صَمَتّم "؛ لأن الفعل يقتضي الحدوث ، ولنا أن نعرف أنهم كانوا لا يفزعون إلى آلهتهم إلا عند الأحداث الجسام . أما بقية الوقت فقد كانوا لا يكلمونهم أبداً؛ لذلك جاءت " صامتون " لازمة ، لأنها اسم ، والاسم يقتضي الثبوت والاستمرار ، أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد .
والحق هنا يبلغ المشركين : سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا ، فعدم الاستجابة متحقق فيهم وواقع منهم ، وعدم النصر لأنفسهم ولغيرهم متحقق منهم .
ثم يتكلم الحق عن قضية أخرى فيقول : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله . . . }
(1/3161)

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
و { تَدْعُونَ } لها معنيان ، المعنى الأول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم ، والمعنى الثاني هو أن يقال : " تدعونه " أي تطلب منه شيئاً . والمعنيان يجيئان في هذه الآية : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم } .
وعنْدَما يسمع الإنسان كلمة " عباد " يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي ، فكيف تكون الأصنام عباداً؟ وأقول : نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ ، أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده ، فالبناء مأخوذ من التذلل والخضوع ، ألم يقل موسى لفرعون : ؟ { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 22 ] .
أي أذللتهم . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الأصنام عباداً أمثالهم في أنهم يُذلون؛ لأن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الأصنام قد وقعت وتكسرت رقابها ، فيهرع المشركون ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه الآلهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لأنكم مخلوقون بالله قد تملكون قدرة ، وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم ، أما الأصنام فليست لها أدنى قدرة إن جاءها من يحطمها ، أو يكسرها ، أو يقبلها ، فهي أضعف منكم . وبذلك تكون كلمة { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } لوناً من الترقي .
وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم ، فالعبد من الأحياء حينما يأتي شيء يستذله ، قد يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض الشيء إلا إن كان الشيء قويا فوق طاقته . فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم أي مذللون ومسخرون ولا يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم . وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة وأخذت معنى عباد على معناها الإطلاقي ، فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد .
لكن هناك مذلل ومسخر فيما لا اختيار له فيه ، وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضاً ، والفرق بين الاثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن لا يؤمن ويختار الكفر ، بل إن الإنسان المؤمن له الاختيار في أن يطيع أو يعصي . ولكن هناك أشياء أخرى تجري على الإنسان لا اختيار له فيها ، كأن يمرض ولا يقدر أن يقول : لا لن أمرض ، أو قد يأتيه الموت فلا يقدر أن يقول : لن أموت . وقد يهلك ماله أو تحترق داره فلا يستطيع دفع القدر ، وكل هذه أمور قهرية يكون الإنسان فيها مذللاً مسخراً ، والكافر والمؤمن في هذه الأمور سواء .
والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج الله فيما له فيه اختيار ، وهذه فائدة الإيمان ، وبذلك يخرج المؤمن عن الاختيار المخلوق لله ، إلى مراد الله منه في الحكم ، ويستوي بكل شيء مسخر لله ، ولذلك نقول للذين يكفرون : كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الاختيار عن الإيمان بالله .
وقد جعلها الله لكم بقوله :
(1/3162)

{ . . . فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ]
وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم الله ، إذن فللواحد منكم أيها الكافرون رياضة على التمرد ، فلماذا لا تقول للمرض لن أستسلم لك . ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك ، لأنه إنما يكفر بما له حق ممنوح من الله في منطقة الاختيار ، أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون . { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } [ الأعراف : 194 ]
وقول الحق تبارك وتعالى : { فادعوهم } أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب ، وهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم لا يقدرون أبداً . وفي هذا القول لون من التحدي { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } لكنهم لن يستجيبوا ، فليست لهم قدرة لأن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون ، لأن طاقتهم وطبيعتهم لا تقدر أن تستجيب .
وبعد أن قال الحق عن الأصنام : إنهم عباد أمثالكم ، أراد أن ينزلهم منزلة أدنى من البشر فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ . . . }
(1/3163)

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك ، وكأنه يقول له : أنت لك رجل تمشي بها ، ولك يد قد تبطش بها ، ولك أذن تسمع ، ولك عين تبصر ، فهل للأصنام حواس مثل هذه؟ . لا ، ليست لهم ، إذن ، فالأصنام أقل منك ، فكيف تجعل الأقل إلهاً للأكبر؟ إن هذا هو جوهر الخيبة .
وقوله : { يَمْشُونَ بِهَآ } ، و { يَسْمَعُونَ } و { يُبْصِرُونَ } جاءت لأن المشركين صوروا التمثال وله رجلان وله اذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين ، وحين ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { . . . يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] .
وفي قوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا . . . } [ الأعراف : 195 ] .
حين يعرض الحق مثل هذه الأمور بأسلوب الاستفهام . فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى طريق ، لأن الاستفهام لا بد له من إجابة . والكلام من الله عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب . وإجابة الكافر ستكون قطعاً بعدم استطاعة الأصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع؛ لذلك أراد الحق ألا يكون الحكم من جهته . بل الحكم من جهة المشركين ، وفي هذا إقرار منهم . ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم . { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الانشراح : 1 ] .
أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول : شرحنا لك صدرك؟ كان يستطيع ذلك . ولكنه يأتي بالاستفهام الذي يكون جوابه : بلى لقد شرحت لي صدري . وينبه قوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا . . . }
إلى مقارنة الأصنام بالبشر . فالبشر لهم أرجل وأيْدٍ وأعين وآذان ، وكل من هذه الجوارح لها عمل تؤديه ، وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم . فكيف يجوز في عرف العقل أن يكون الأعلى مرتبة مربوباً للأدنى مرتبة؟ إن ذلك لون من الحمق . { . . . قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ }
ورسول الله جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الأصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلامهم فيها ، وبذلك أعلن العداوة ضدهم - العابدين ، والمعبودين - وصارت خصومة واقعة ، وسألهم أن يدعوا الشركاء ليكيدوا لرسول الله بالأذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للإسلام ، إن كانت عندكم أو عندهم قدرة على ضر أو نفع { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } .
ويتحداهم صلى الله عليه وسلم أن يكيدوا هم وآلهتهم ، والكيد هو التدبير الخفي المحكم . وانظروا ما سوف يحدث ، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر .
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء ، ليثبت بها أشياء ، وقد قالوا : إن واحداً قد سحر النبي ، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل ، فكيف ينسحر النبي؟ ونقول : ومن الذي قال : إنه سحر؟ .
(1/3164)

إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر ، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر ، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله . { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ . . . } [ الأنفال : 30 ] .
وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل ، فأوضح ربنا : أنتم بيتم ، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم . وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته . ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته ، ولا بتبييت الجن - وهم أكثر قدرة على التصرف - يستطيعون مواجهة دعوته . وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول ، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم ، إذن فلا بد أن ييأسوا ، ولذلك تحداهم وقال : { . . . قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ الأعراف : 195 ] .
وأنظره يعني أخره ، والقول هنا : لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم ، بل نفذوا الكيد بسرعة ، وقد أمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما آوى إلى ركن شديد؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب . . . }
(1/3165)

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
وما دام الوليّ هو الله ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبالي بهم ، و " الولي " هو الذي يليك ، وأنت لا تجعل أحداً يليك إلا أقربهم إلى نفسك ، وإلى قلبك ، ولا يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك ، إلا إذا آنست منه نفعاً فوق نفعك ، وقوة فوق قوتك ، وعلماً فوق علمك ، وقول الرسول بأمره سبحانه وتعالى : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله . . . }
أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي . فالله هو ولي الرسول أي ناصره ، والقريب منه بصفات الكمال والجلال التي تخصه سبحانه وتعالى ، وعندما يكون لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة ، ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلام حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }
أي أن جيش فرعون سيدركهم ، لأن البحر أمامهم والعدو وراءهم . وليس أمامهم فسحة أمامية للهرب ولا منفذ لهم إلا أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بلا قوة ولم يكذبهم موسى عليه السلام في قولهم . بل قال لهم يطمئنهم : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل . ولا يقول هذا القول إلا وهو واثق تمام الثقة من نصرة الله ، وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الأوروبية التي أسلمت لأنها كانت تقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كبطل من أبطال العالم ، صنع أكبر انقلاب في تاريخ البشرية ، ولما مرت في تاريخه صلى الله عليه وسلم ، قرأت أن صحابته كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه ، إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهبوا عني . فإن الله أنزل عليّ : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس . . . } " [ المائدة : 67 ] .
واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت : إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعاً ما كذب على نفسه ، ولا يمكن أن يُسلم نفسه لأعدائه بدون حراسة إلا إذا كان واثقاً من أن الله أنزل عليه هذا ، وأنه قادر أن يعصمه ، وإلا دخلَ بنفسه في تجربة . والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت لفتة العبرة . وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم : { . . . قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ الأعراف : 195 ] .
وكأنه صلى الله عليه وسلم يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت ، وألا يتأخروا عن ذلك وهو واثق من أن الله عز وجل ينصره . { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } [ الأعراف : 196 ]
وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق ، ولا يمكن أن يسلمه إلى عدو يمنعه من تمام البلاغ عن الله .
(1/3166)

لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ولا يمكن أن يتخلى عنه . { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين }
وقوله : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } أي أنه لا يجعل الولاية خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم ، بل يقول لكل واحد من أتباعه : كن صالحاً في أي وقت ، أمام أي عدو ، ستجد الله وهو يتولاك بالنصر ، وساعة يعمم الله الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة الإيمانية في قلوب أتباعه صلى الله عليه وسلم . وكل من يحمل من أمر دعوته صلى الله عليه وسلم شيئاً ما سوف يكون له هذا التأييد ، وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغاً عنه المنهج ، وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة الكون؛ لأن الله قد جعل الإنسان خليفة ليصلح في الكون ، وأول مراتب الإصلاح أن يبقى الصالح على صلاحه ، أو أن يزيده صلاحاً إن أمكن .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ . . . }
(1/3167)

وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
لأن الذي لا يستطيع نصرك . يجوز أن يكون ضنيناً بنصرتك؛ لأن حبه لك حب رياء ، أو لأنه يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه ، أما حين يكون غير قادر على نصرتك؛ لأنه لا يملك أدوات النصر ، فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا ، وهكذا كان حال المشركين . وفي يوم الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الأصنام ، ولم يقاوم صنم واحد . بل تكسرت كلها جميعاً .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ . . . }
(1/3168)

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
وبطبيعة الحال لو أن أحداً دعا هذه الأصنام إلى الهداية فلن تهتدي الأصنام لأنها من الجماد الذي لا تصلح معه دعوة أو فهم . رغم أن الصنم منها له عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو البوذيين ، حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزاً ملوناً يشبه العين ، وتوجه الحدقة بميلها وكأنه ينظر إليك وهو لا يرى شيئاً .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف . . . }
(1/3169)

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق .
وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو المشركين لأن يكيدوا له مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا . وبعد ذلك يوضح له : أنا أحب أن تأخذ بالعفو ، وفي هذا تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن يتبعه ، وكلمة " العفو " ترد على ألسنتنا ، ونحن لا ندري أن لها معنى أصيلاً في اللغة . وقد يسألك سائل : من أي أتيت بهذا الشيء؟ فتقول له : جاءني عفواً ، أي بدون جهد ، وبدون مشقة ، وبدون سعي إليه ولا احتيال لاقتنائه .
ويقال أيضاً : إن هذا الشيء جاء لفلان عفو الخاطر ، أي لم يفكر فيه ، بل جاء ميسراً . هذا هو معنى العفو . والحق هنا يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو ، أي أن يأخذ الأمر الميسر السهل ، الذي لا تكلف فيه ولا اجتهاد؛ لأنك بذلك تُسهل على الناس أمورهم ولا تعقدها ، أما حين تتكلف الأشياء ، فذلك يرهق الناس ، ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] .
وقوله : { وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } أي أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف الأمور حتى تصير الحياة سهلة ولا يوجد لدد بين الناس؛ لأن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس ، ويجب أن تقوم المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف . ولذلك يقال : إن المؤمن هو السمح إذا باع ، والسمح إذا اشترى ، والسمح إذا اقتضى ، والسمح إذا اْقتُضِي منه : أي أنه في كل أموره سمح .
وللأمر بأخذ " العفو " معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك؛ لأن ذلك ييسر الأمور .
والعفو أيضاً له معنى ثالث ، هو الأمر الزائد ، مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض الزكاة : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو . . . } [ البقرة : 219 ] .
ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها ، ونلحظ أن الأمر بالإنفاق من قبل أن تفرض الزكاة ، والإنفاق بعد أن نزل الأمر بالزكاة يلتقيان في السهولة؛ لأن المؤمن لا ينفق مما يحتاجه . بل من الزائد عن حاجته .
وقول الله سبحانه وتعالى في الآية " خذ العفو " فيه أمر " خذ " ومقابله " أعْطِ " وقد تعطي إنساناً فلا يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته ، لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى : " خذ " فهذا أمر يعود نفعه عليك ، فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر الأمر ينقصك شيئاً ، فاعلم أنك أخذت العفو لنفسك .
واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا ليناً مع إخوانه من المؤمنين .
(1/3170)

فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له ، فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك ، فلا تتعال عليه أو تتعالم حتى لا تقوم معركة بينكما ، بل تواضع أنت ، ليزيدك الله رفعة وعزة .
وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لك : أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلاله . ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابناً لك قد أساء إلى أخيه فيتجه قلبك وحنانك إلى المظلوم . ونحن عيال ربنا ، فإن ظلم واحدٌ آخرَ ، فالظالم بظلمه يجعل الله في جانب المظلوم ، ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية الله لنا فنفعل معه مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له : إن فلاناً اغتابك بالأمس . ونادى سيدنا حسن البصري الخادم وقال له : جاءنا طبق من باكورة الرطب . اذهب به إلى فلان - وحدد للخادم اسم من اغتابه - وتعجب الخادم : كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك؟ فقال : أفلا أحسن إلى من جعل الله بجانبي ، قل له : " يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك ، وهو أهداك رطبه " . { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين }
وتتناول الآية الكريمة الأمر بالعرف :
والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه ، وتطمئن إليه النفوس ، ويوافق شرع الله ، ونسميه العرف؛ لأن الكل يتعارف عليه ، ولا أحد يستحيي منه ، لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض ألوان السلوك : هذا ما جرى به العرف . وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية .
وخير مثال على ذلك : أننا نجد الشاب لا يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها ، لأن هذا أمر متعارف عليه ولا حياء منه ، بينما نجد المجتمع المسلم يستحي أن يوجد بين أفراده إنسان يزني ، والغاية من الزنا الاستمتاع ، والغاية من طلب يد الفتاة هو الاستمتاع ، لكْن هناك فارق كبير بين متعة يحرمها الله عز وجل ، ومتعة يٌحلّها الله تعالى .
وفي نهاية الآية يقول الله تعالى : { . . . وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين }
وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين؟ . يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم ، لأن من لا يعلم هو الأمي ، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع . ونلحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذي لا يعلمون ، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛ لأنه لا يملك بديلاً لها ، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية ، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة .
والحق هنا يوضح : أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها ، وأنت حين تعرض عن الجاهل ، يجب ألا تماريه ، أي لا تجادله؛ لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة؛ لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتاباً واحداً ، وقرأ في كتب الانحراف عن الدين المئات ، أقول له : كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن تكون عادلاً ومنصفاً فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها .
(1/3171)

وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثاً منطقياً يصحح لك عقيدتك ، فعليك أن تخْرِج كل الاقتناعات المسبقة من قلبك ووجدانك . وتدرس الأمرين بعيداً عن قلبك ، ثم أدخل إلى قلبك الأمر الذي ترتاح إليه ، لكن لا تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك . والحق سبحانه وتعالى يقول : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ . . . } [ الأحزاب : 4 ] .
فأنت لك قلب واحد ، إما أن يمتلئ بالإيمان واليقين وإما بغير ذلك . والقلب حيز واحد فلا تشغله أنت بباطل ، حين تبحث قضية الحق ، بل أخرج الباطل من قلبك أولاً ، واجعل الباطل والحق خارجه ، وابحث بعقلك ، والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله .
وفي بيان معنى هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال : لما أنزل الله عز وجلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا يا جبريل؟ قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك " .
وسبحانه - إذن - يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية؛ لأنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه ، فما بالك بالمصاب في قيمه ، ألا يحتاج إلى معونتك؟ .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ . . . }
(1/3172)

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
و " نزغ " تساوي كلمة " نخس " أي أمسك بشيء ووضع طَرَفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه . ويتضح من معنى " نخس " أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس .
وعملية النخس لا يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض ، أما كلمة " مس " فقد يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الآخر منهما بسرعة ، لكن أحدهما لا يدرك نعومة الآخر ، أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللامس والملموس . ومعارك الحرب كلها تدور في هذا النطاق ، فحين يكون العدو بعيداً يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيلا يصيبه بالنبال أو السهام ، ويحاول هو أن يصيب خصمه بالنبال أو السهام . وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم . وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية دون قدرة تلك القوات على الرد ، لأنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى . ونجد الإشارة في قول الحق تبارك وتعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ . . . } [ الأنفال : 60 ] .
وأوضح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : " إلا أن القوة الرمي " . لأن الرمي يُمَكّن قذيفتك من عدوك ، وأنت بعيد عنه فلا يقدر أن يصيبك بما يرميه .
وقديماً كانت الجيوش تزحف ، فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام ، وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الآخر . وإذا حمى وطيس المعركة تتلاقى السيوف . إذن كلها من النخس ، والمس ، واللمس .
وحينما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ربه قائلاً : " يا رب كيف بالغضب؟ " أي كيف يكون علاج الغضب؟ نزل قول الحق : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 200 ] .
وقد يستفهم قائل فيقول : أينزغ الشيطان الرسول؟ . وأقول : إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل : " وإذ نزغك الشيطان " ، ولكنه قال : " وإما ينزغنك " أي إن حدث ذلك ، وهو قول يفيد الشك - ثم لماذا يحرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من لذة مجابهة الشيطان؟ . ونعم عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة . قالوا : وإياك؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " .
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله . . . } .
والاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلا بمن هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر .
(1/3173)

ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة ، وقدرة التغلغل ، ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي ألا تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه ، ولكنك تستعيذ بخالق الإنس والجن وجميع المخلوقات ، وهو القادر على أن يعطل فاعلية الشيطان . وسبحانه سميع عليم ، والسمع له متعلق ، والعلم له متعلق ، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحون بالإيمان وتلجأ إلى من خلقك . وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ لا بد أن يهرب الشيطان من طريقك لأنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة على خالقه ، وسبحانه سميع لقولك : " أعوذ بالله " ، عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة .
وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ }
أي أن الشيطان بعيد ، وهو يحاول مجرد النزغ ، فماذا عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء هذا؟ . هنا يقول الحق تبارك وتعالى : - { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف . . . } .
(1/3174)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
ومن رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مسّهم " ولم يقل : " لمسَهم " . لأنهم من الذين اتقوا ، أي وضعوا بينهم بين صفات جلال الله وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده ولذلك يقول : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ } .
والطائف هو الخيال الذي يطوف بالإنسان ليلاً ، وبما أن الشيطان لا يرى ، لذلك نصوره على أنه خيال ، فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم ، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم ، وتذكروا أن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم ، وأن محارم الله واضحة وبينة ، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير : " الحلال بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات لا يعلمها كثير من النّاس ، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم ، هنا تزول عنهم أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي . . . } .
(1/3175)

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
ونحن حين نتتبّع كلمة " يمدونهم " في القرآن ، نجدها مرة " يمدونهم " ومرة يمددكم كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ . . . } [ نوح : 12 ] .
ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم ، بل تظل في محاولة الغواية ، وتحاول الشياطين غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لأن العاصي إنما يعاون الشيطان باتباعه شهوات نفسه ، ولا يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك ، بل يحاول العاصي أو الشيطان غواية المؤمنين و " أقصر " من مادة " قصر " ، أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها . وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين .
فالشيطان - كما جاء في القرآن - يعترف بموقفه من ملاحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين المعاصي . { . . . لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] .
والشيطان يعلم أن من لا يتقي الله لا يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لأنه يرغب ويميل للمعاصي والعياذ بالله؛ لذلك لا يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيراً .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ . . . }
(1/3176)

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة " آيات " ، والآيات - كما أوضحنا - إما آيات كونية وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل ، وإما آيات الأحكام .
والله سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة : " آية " لا " آيات " ، والكون أمامهم ملئ بآياته ، والمنهج المنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام واضح ، ولا ينقص إلا أن تأتي الآية المعجزة - من وجهة نظرهم - وينبه الحق هؤلاء بقوله تبارك وتعالى في سورة الإسراء : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 89 - 93 ] .
إذن فالآياتُ المعجزاتُ التي طلبوها ، لا يأتي بها الرسول من عنده ، والآيات التي ينزل بها المنهج أيضاً ليست من عنده ، بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم . وكانوا يتهمونه صلى الله عليه وسلم أنه يفتري القرآن . لذلك طلبوا منه صلى الله عليه وسلم المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي }
يأمره هنا ربه أن يقول : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي }
أي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح الأمين جبريل عليه السلام من آيات القرآن الحاملة للمنهج الإلهي ، وهذا المنهج في حد ذاته معجزة متجددة العطاء ، لذلك يضيف : { . . . هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 203 ] .
ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ ، والبصائر جمع بصيرة ، من الإبصار ، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق ، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة ، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية ، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكشفها إلا البصيرة ، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية ، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكونُ مشحوناً باليقين الإيماني .
والقرآن الكريم بصائر؛ لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبصَرَةً ، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين .
(1/3177)

وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى ، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم ، وهو رحمةٌ أيضاً لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية ، إذن فهو رحمة لكل الناس ، وهدى لمن يسأل عن الدليل ، وبصائر لمن تيقين أصول الإيمان مشهدياً .
وكما قلنا من قبل : إنَّ الله قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية ، ومن هذه الأمور الغيبية أن له جنةً وأن له ناراً ، وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلاغ عن ربهم ، وعلموا أن ذلك من الله ، وصار هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم ، فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروباً عن متن جهنم مطابقاً لما صدقوه وصار عين يقين ، وإذا ما دخل بعضهم النار - والعياذ بالله - تكفيراً لذنوب ارتكبوها ، فهذا حق يقين . وضربت المثل من قبل - ولله المثل الأعلى - كان الجغرافيون يحدثوننا ونحن طلاب عن خريطة الولايات المتحدة ، ويقولون : إن عاصمتها " واشنطن " ، والميناء الكبير فيها اسمه " نيويورك " ، وفي " نيويورك " توجد ناطحات السحاب وهي مبان ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر ، وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا ، وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك من الطائرة ، صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين . وعند هبوط الطائرة في مطار واشنطن صارت الرؤية حق يقين .
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا الإيمان ببعض من الغيب في قوله تعالى : { أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين * لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } [ التكاثر : 1 - 7 ] .
أورد سبحانه هناك " علم اليقين " " وعين اليقين " ، وأما " حق اليقين " فقد جاء في قوله : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 88 - 95 ] .
والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة . . فهناك من صدق الله في الخبر عن الغيب كعين يقين ، وهناك من صدق قول الله حق اليقين ، ولذلك فإننا نجد الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول : " لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا " .
وفي الحوار الآتي الذي دار بين حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابي الجليل الحارث بن مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من الإيمان :
(1/3178)

" فقد روى الحارث بن مالك الأنصاري : أنه مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث؟ قال : أصبحت مؤمناً حقّاً ، قال : " انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضارغون فيها . فقال يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً " .
هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قد صار حق يقين ، وامتلك البصيرة التي رأى بها كلَّ ذلك .
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 203 ] .
وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لأصحاب المنزلة والدرجات العالية ، وهدى لأصحاب الاستدلال ورحمةً للجميع .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا . . . } .
(1/3179)

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا وهدى ورحمة ، ألا يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟ . . ألا تجذبك هذه الحيثيات الثلاث لأن تعطي له أذنك وألا تنصرف عنه؟ .
إذن لا بد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلاث؛ البصائر ، والهدى ، والرحمة ، وهو حقيق وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ .
ولنلحظ أن الله تعالى قال : { فاستمعوا لَهُ } ولم يقل " اسمعوا " ، لأن الاستماع فيه تعمد أن تسمع ، أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك ، وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد لا تنتبه ، ومن الرحمة المحمدية يقول حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ناهياً عن التسمع لأسرار الغير تجسساً عليهم بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تجسَّسُوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا " .
وفي هذا تحذير من هذه الأمور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس . { وَإِذَا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] .
والإنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الاستماع ، فاستمع وأنصت بنية العبادة ، لأن الله هو الذي يتكلم ، وليس من المعقول والتأدب مع الله أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت عن كلامه ، وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق : ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول :
" عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } ، فإني سمعت الله عقبها يقول : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } .
وعجبت لمن اغتم ، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } فإني سمعت الله عقبها يقول : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } .
وعجبت لمن مُكر به ، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى : { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } . فإني سمعت الله عقبها يقول : - { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } .
وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى : { مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } . فإني سمعت الله عقبها يقول : - { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } .
ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو حُسْن الأدب الذي يجب أن نستقبل به العبر التي تعود بالفائدة علينا .
ووقف العلماء حول الإنصات سماعاً للقرآن؛ أيكون الإنصات إذا قرئ القرآن مطلقاً في أي حال من الأحوال ، أو حين يُقرأ في الصلاة ، أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟
وقد اختلفوا في ذلك ، فبعضهم قال : إن المقصود هو الإنصات للقرآن حين يُقرأ في الصلاة ، والسبب في ذلك أن الأوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال : بسم الله الرحمن الرحيم؛ قالوا : بسم الله الرحمن الرحيم ، وإذا قال : " الحمد لله رب العالمين " ، قالوا : " الحمد لله رب العالمين " فينبههم الله عز وجل إلى أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة .
(1/3180)

وقال آخرون من العلماء : الإنصات للقرآن الكريم يكون في الصلاة ، وفي خطبة الجمعة أو العيدين ، لأنها تشتمل على آيات من القرآن ، ولكن اشتمالها على الآيات أقل مما يقوله الخطيب ، ونبه البعض إلى أن الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام : " إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت " .
إذن الإنصات للخطبة جاء بدليل من السنة .
وهناك قول بأن الاستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الأوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ ومهابةٌ لكلام الله عز وجل ، وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولانا سيدي " أبي عبدالله الحسين " ، فيقول :
إذا قُرئ القرآن سواءٌ إن كنت في صلاة أو كنت في خطبة ، أو كنت حرّاً فأنصت؛ لأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلام ، فميزه بأشياءَ ، إذا قُرئ ننصت له ، وإذا مسّ المصحف لا بد أن يكون على " وضوء " حتى لا يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب من الكتب ، وهذا يربي المهابة فلا تمسك المصحف إلا وأنت متوضئ ، فإذا علمنا أولادنا ، نقول للواحد منهم : لا تقرب المصحف إلا وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد .
وأيضاً في " الكتابة " شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد الإملائي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة ، فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلامه ليس ككل كلام . { وَإِذَا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] .
وبعض العلماء قال : ليس المطلوب مجرد الاستماع بالآذان ، بل المقصود بالاستماع هنا هو أن نستجيب لمطالبه ، ألا تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض : " الله يسمع دعاك "؟ إنك تقولها وأنت تعلم أن الله سامعك ، ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء ، إذن فالاستماع للقرآن يقتضي الاستجابة لمطلوبات القرآن . لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن الرحيم . { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
ونعلم أن " لعل " " وعسى " حين تقال يقصد بها الرجاء ، و " ليت " تعني التمني وهو مستحيل ولا يُتَوَقّع ، ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا ، لكننا نعلم أنه مستحيل ، مثلما قال الشاعر العجوز :
(1/3181)

ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب
إنه يعلم يقيناً أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة . ومثل قول الشاعر :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كَلِم
ولن تدنو الكواكب .
إذن ساعة تسمع " عسى " أو " لعل " يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث ، وإذا كان رجاء من الله ، فهو رجاء من كريم لا بد له من واقع .
ويقول الحق بعد ذلك :
والذكر مرور الشيء ، إن كان بالبال ، فهو ذكر في النفس ، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسْمِعك أنت فهذا ذكر السر ، وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر مقبول ، وجهر غير مقبول ، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكرُ إلى إزعاج والعياذ بالله ، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { . . . وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] .
ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الآية؛ تنبهاً يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج ، لأني أقول لكل واحد منهم : إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر ، إنما طلب دون الجهر ، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه؛ فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 73 ] .
فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحاً على المنابر ، إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله . وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعاً . { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } والحق تبارك وتعالى يقول مرة : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } [ الأحزاب : 41 ] .
ومرة يقول : { واذكر رَّبَّكَ }
وقوله : " اذكر الله " يستشعر سماعها التكاليف؛ لأن الله هو المعبود ، والمعبود هو المطاع في الأوامر والنواهي .
أما قوله : " اذكر ربك " فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى . فاذكر ربك؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفاً ، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم ، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعاً بالنعم .
وأضرب لك هذا المثل - ولله المثل الأعلى وهو منزه عن التشبيه - وأنت لك أولاد ، وتعطي لهم مصروفاً ، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر ، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر ، لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك ، فإن كنت نائماً يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة ، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك ، اذكر ربك دائماً .
(1/3182)

واذكره على حالين : الأول تضرعاً . أي بذلة ، لأنك قد تذكر واحداً بكبرياء ، إنما الله الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية ، واذكر ربك " خيفة " أي خائفاً متضرعاً؛ لأنك كلما ذللت له يعزك ، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد ، والناس ينفرون ممن يستعبدهم؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد ، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك . ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] .
وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة كبرى بحادث الإسراء ، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
والشاعر المؤمن يقول :
حسب نفسي عزَاً بأني عبد ... يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن ... أنا ألقي متى وأين أحب
وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت ، وإذا أسلمت زمامك للإيمان؛ فالزمام في يدك . يكفي أن تنوي الصلاة وتقول : الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان . وفي منتهى العزة لك . { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول . . . } [ الأعراف : 205 ] .
ولم يقل هنا رب العالمين : بل ربك أنت يا محمد ، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس ، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولاً ، نعمةٌ ومنةٌ من الله على المؤمنين برسالته ، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد . وقوله تعالى لرسوله : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } أي أنه سبحانه لم يجعل دليل عنايته بك مقصوراً على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لأنك قد لا ترى شيئاً في الكون أو لا تسمع شيئاً في الكون؛ لأن الكون منفصل عنك ، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك ، { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] .
فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك ، جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها ، وبنوازعها ، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك ، وستجد الكثير من الآيات ، وهي آيات أكبر منك ، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا ، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك .
ونعود إلى قول الله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال } والذكر حَدَثٌ ، والحدَثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان . والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار ، والآصال هو من العصر للمغرب ، مثلما نقول " شمس الأصيل " .
(1/3183)

وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا ، فالحق تبارك وتعالى يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الأحزاب : 41 - 42 ] .
وكما يقول عز وجل : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 8 - 9 ] .
و " الأصيل " هنا مشترك ، ومقابل الأصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة ، وأخرى يطلق عليه : الغدو ، وسبحانه القائل : { الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 35 - 36 ] .
إنك ساعة أن تقرأ " في بيوت " تعرف أن هنا حدثاً؛ لأن قوله : " في بيوت " شبه جملة " في معنى الظرف ، وإذا استقرأت ما قبلها ، لم تجد لها مُتَعَلَّقاً . والحظ إذن أن ما قبلها هو { نُّورٌ على نُورٍ } { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى الله ، فذلك نور ، وتصلى له فذلك نور ، وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته ، وكل هذا نور على نور ، فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور الله عز وجل؛ فليكثر من الذهاب إلى بيوت الله ، وللمساجد مهابة النور لأنها مكان الصلاة ، ونعلم أن الصلاة هي الخلوة التي بين العبد وربه ، وكان رسول الله إذا حز به أمر قام إلى الصلاة . وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتصلي ركعتين لله فلن حز بك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت بها إلى الله فلن يخرجك الله إلا راضياً . { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } .
والغدو والآصال أو البكرة والأصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل .
ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أو الليل؟
لأن هذه الأزمنة هي التي يطلب فيها الذكر . فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة ، وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم ، لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة ، ولك أن تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة : ( الحمد لله ) وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول : " ما شاء الله " وعندما ترى أي شيء يعجبك تقول : ( سبحان الله ) .
(1/3184)

ولذلك حينما دعا الله خلقه المؤمنين به إلى الصلاة قال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] .
وهذا التكليف في صلاة الجمعة المفروضة كصلاة للجماعة ، والجماعة مطلوبة فيها ، ومن الضروري أن نتواجد فيها كجمع؛ لأن الجماعة مشروطة فيها فلا تصح بدون الجماعة .
ونعرف أن الصلاة إنما هي ذكر لربنا ، فماذا بعدها؟ { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] .
أي إياك أن يشغلك انتشارك في الأرض وابتغاؤك من فضل الله ، والأخذ بأسباب الدنيا عن واجبك نحو الله ، بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً . . . } .
(1/3185)

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
أي لا تكن من الغافلين عن مطلوبات الله بالحدود التي بينها الله عز وجل؛ لأن الغفلة معناها انشغال البال بغير خالقك ، وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك لا تغفل عن مطلوباته في الغدو والآصال وفي كل وقت ، سواء كنت في الصلوات الخمس ، أو كنت تضرب الأرض في أي معنى من المعاني ، وتأس أيها المؤمن بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فإذا كان الملائكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية ، ولا يأكلون ولا يتناسلون ، وليس لهم شهوة بطن ولا شهوة فرج ، وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية ، مع ذلك يجب عليك أن تتأسى بهم؛ لأنهم هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته ، ويسبحونه؛ وله يسجدون ، لذلك يقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ . . . }
(1/3186)

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء ، فلماذا خص هؤلاء بالعندية؟ .
إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لأن المكان مُحَيَّز ، وربنا عز وجل لا يتحيز في مكان ، والعندية هنا عندية الفضل ، وعندية الرحمة ، وعندية الملك ، وعندية العناية . أو إن كل خلق لله جعل لهم أسباباً ومسبَّبات ، ولكن خلقاً من خلقه يسبحونه بذاته ، وليس لهم عمل آخر ، ويعرفون بالملائكة العالين ، لا الملائكة المدبرات أمراً أو الحفظة . ولذلك قلنا سابقاً : إن الحق سبحانه وتعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وامتنع إبليس ، قال له : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] .
و { العالين } هم الذين لم يشملهم أمر السجود ، فهم ملائكة موجودون ولا عمل لهم إلا تسبيح الذات العلية ولا يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئاً . وهم غير الملائكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين عند ربنا هم الملائكة المُهيَّمون الذين لا يعرفون شيئاً إلا الذات الإلهية وتسبيح الذات وعملهم يحدده الله هنا : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }
واختلف العلماء في كيفية سجود الملائكة ، أهو الخضوع؟ أهو الصلاة؟ أهو السجود الذي نعرفه نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع لله عز وجل وقت الصلاة . لأنه نزول بأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الأرض خضوعاً لله عز وجل . ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب الله فيها مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلاوة ، ويكون ذلك عند تلاوتها أو سماعها من القارئ ، وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة وجعلوا عندها علامة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطاً . وحين قام العلماء ببيان المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة " الأعراف " التي نتناولها بخواطرنا الآن ، وانتهت بسجدة " العلق " : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] .
وبينهما سجدات ، وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في هذه السورة . فمن حسبها خمس عشرة سجدة ، عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة الحج الأولى - المتفق عليها - وبعض العلماء قال : إنها أربع عشرة سجدة؛ لأنه لم يحسب سجدة الحج الثانية .
وهب أنك أردت أن تسجد لله شكراً في أي وقت ، وعند أي آية فاسجد لله سجدة الشكر ، وهي سجدة واحدة كسجدة التلاوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه ، أو زوال نقمة ولا تكون إلا خارج الصلاة .
والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير ، ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلاة ، والمفترض أن تقول : " سبحان ربي الأعلى " ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا ما نقوله في السجود للتلاوة ، وروي عن ابن عباس قال :
(1/3187)

" كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال : إنِّي رأيتُ البارحَة - فيما يرى النائم كأنِّي أصلي إلى أصل شجرة ، فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول : اللهم احطُطْ عني بها وِزْراً ، واكتُب لي بهاَ أَجْراً ، واجْعْلها لي عندكَ ذُخْراَ . قال ابنُ عباس : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد ، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ الشجرة " .
وبذلك تختم سورة الأعراف ، والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لأن " الأعراف " هو المكان العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة وينظروا إلى أهل النار ، وهكذا تكون الأعراف مكاناً يزيد في الارتفاع ، وهي مأخوذة من " عرف الفرس " ، وعرف الفرس أعلى شيء فيه ، والأنفال أيضاً هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة سواء بالنسبة لسورة الأعراف أو الأنفال ، وأيضاً يوجد التناسب في المعنويات ، وهذا التناسب نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة الأعراف : { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .
ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة الأنفال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ . . . } [ الأنفال : 1 ] .
لأن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم ، فإذا ما تذكروا الله وما أعده لأهل الإيمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الأولى التي ترتفع على كل شيء وهي الإيمان بالله ، وهذا الإيمان إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية .
(1/3188)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
يقول الحق سبحانه وتعالى مفتتحاً سورة الأنفال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
السؤال يقتضي سائلاً : وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتضي مسئولاً هو الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويقتضي مسئولاً عنه وهو موضوع السؤال المطروح .
والمسئول عنه قد يوجد بذاته ، مثلما نسأل صديقنا : ماذا أكلت اليوم؟ هذا السؤال فيه تحديد لمنطقة الجواب ، والجواب عنه أيضا يحدد المنطقة .
وموضوع السؤال في قول الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] .
يدل عليه الجواب ، فهم لم يسألوا عن أسباب المحيض ، أو لماذا ينقطع عن الحامل أو من بلغت الكبر ، لكن كان موضوع السؤال الذي هو واضح من إجابة الحق تبارك وتعالى : أيجوز أن يباشر الرجل المرأة أثناء المحيض أو لا؟
وسؤال آخر سألوه للرسول صلى الله عليه وسلم عن اليتامى ، ويحدد الجواب موضوع السؤال : يقول الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 220 ] .
لأنهم كانوا يتخوفون من مخالطة اليتامى في الأموال ومن مؤاكلتهم ، وغير ذلك من ألوان التعامل ، ورعاً وبعداً عن الشبهات وجاءت الإجابة لتحدد موضوع السؤال :
ومرة يأتي السؤال وفيه تحديد مناط الإجابة لأنها عامة مثل قوله الحق تبارك وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] .
هم سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم : لماذا يبدأ الهلال صغيراً ولماذا يكبر ، ثم لماذا يختفي في المحاق؟ . وهذا سؤال في الفلك . ولم يجبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في الحدود التي يستفيدون منها وهي القيمة النفعية العملية ، وجاءت الإجابة : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } .
لأننا ورغم وجودنا في هذا القرن العشرين إلا أن البعض من الناس ما زال يكذب الحقيقة العلمية التي ثبتت بما لا يدع مجالاً لأي شك . ونقول للعامة : إن الهلال يشبه قلامة الظفر ثم يكبر ليستدير ثم يختفي قليلاً . وفي هذا يقول الشاعر :
وغاية ضوء قمير كنت آمله ... مثل القلامة قد قدت عن الظفر
ولو قال لهم : إن الهلال يظهر حين تتوسط الأرض بين الشمس والقمر ثم يبدأ في الاكتمال تباعاً ، لما استطاعت عقولهم أن تستوعب هذه المسألة ، فجاء لهم بالحكمة المباشرة النفعية التي تدركها عقولهم تماماً ، ثم ارتقت العقول بالعلم ووصلنا إلى دراسة حركة الأفلاك التي توضح كل التفاصيل الفلكية .
وهناك سؤال يجيء في أمر محدد ، مثل قول الحق : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله }
(1/3189)

[ البقرة : 217 ] .
وهكذا عرفنا أن موضوع السؤال هو عن حكم القتال في الشهر الحرام ، لا طلب تحديد الأشهر الحرم بالذات .
ويقول الحق تبارك وتعالى هنا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } والأنفالُ جمعُ نَفَل ( بفتح الحرف الأول والثاني ) ، مثل كلمة سَبَب وأسباب ، والمراد بالنَفل هنا الغنيمة؛ لأنها من فضل الله تعالى وهي من خصائص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد اختصت بها هذه الأمة دون الأمم السابقة ، والنفْل بالسكون الزيادة ، ومنه صلاة النافلة؛ لأنها زيادة عن الفريضة الواجبة ، وفي هذا المعنى يقول ربنا عز وجل في آية ثانية : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } .
ونافلة تعني أمراً زائداً غير مفروض ، ولذلك نقول : إن النفل هو العبادة الزائدة ، وشرطها أن تكون من جنس ما فُرض عليك؛ لأن الإنسان لا يعبد ربه حسب هواه الشخصي ، بل يعبد ربه بأي لون من ألوان العبادة التي شرعها الله ، وإذا أراد زيادة فيها فلتكن من جنس ما فرض الله ، حتى لا يبتدع العبد عبادات ليست مشروعة . ولذلك قال الحق تبارك وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] .
النفل إذن هو أمر تعبدي زائد عن الأصل .
وحينما ابتلى الله سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن يذبح ولده إسماعيل ، جاءه الابتلاء لا بوحي صريح ، ولكن برؤيا منامية وهو ابتلاء شاق ، فلم يكن الابتلاء - مثلا - أن يذبح إنسان آخر سيدنا إسماعيل ، ثم يصبر سيدنا إبراهيم على فقده ، لا بل هو الذي يقوم بذبح ولده إسماعيل . وهكذا كان الابتلاء كبيراً ، خصوصاً أنه لم يأت إلا في آخر العمر . وكانت هذه المسألة من الملابسات القاسية على النفس . ولذلك أوضح ربنا عز وجل أن سيدنا إبراهيم كان أمة ، أي اجتمعت فيه صفات الإيمان اللازمة لأمة كاملة . { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] .
ولنر رحموت النبوة في سلوك سيدنا إبراهيم عليه السلام حين جاء لينفذ أمر الرؤيا بذبح الابن لأن رؤيا الأنبياء وحي؛ لذلك لم يشأ أن يأخذ ولده أخذاً دون أن يطلعه على الحقيقة؛ لأنه لو فعل ذلك سيعرض ولده لحظة لها جس عقوق لأبيه ، وقد يقول الابن : أي رجل هذا الذي يذبح ابنه؟ . وأراد سيدنا إبراهيم أن يشاركه ابنه كذلك في الثواب ، وأن يكون الابن خاضعاً لأمر الحق تبارك وتعالى كأبيه فقال له : { يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } [ الصافات : 102 ] .
وهكذا أوضح سيدنا إبراهيم عليه السلام الابتلاء الذي جاءه كرؤيا في المنام فماذا يقول الابن إجابة على سؤال أبيه؟ { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] .
أي أن إسماعيل عليه السلام أسلم زمامه لأمر الحق تبارك وتعالى ، ويواصل المولى سبحانه وتعالى وصف ابتلاء سيدنا إبراهيم بذبح الابن فيقول تبارك وتعالى :
(1/3190)

{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } [ الصافات : 103 - 105 ] .
فبعد أن رضي كل من سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل وسلما أمرهما لله تعالى وامتثلا للأمر بالقضاء ، رفع الله برحمته هذا القضاء؛ لذلك يصف الحق تبارك وتعالى هذا البلاء وتكرمه بالفداء فيقول : { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 106 - 107 ] .
وتعلمنا هذه الواقعة أيها المسلم أنك إذا ما جاء لك قضاء من الله ، إياك أن تجزع ، إياك أن تسخط ، إياك أن تغضب ، إياك أن تتمرد؛ لأنك بذلك تطيل أمد القضاء عليك ، ولكن سلم لقضاء الله فيُرفع هذا القضاء؛ لأن القضاء لا يُرفَع حتى يُرْضى به . وهكذا لم يكن جزاء الصبر على القضاء لسيدنا إبراهيم عليه السلام افتداء إسماعيل بذبح عظيم فقط ، بل وزيادة على ذلك يسوق له المولى البشرى بمزيد من العطاء فيقول : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } [ الصافات : 112 ] .
أي أنه لم يرزقه بولد ثانٍ فقط ، بل بولدٍ يكون نبياً وصالحاً . وتأتي زيادة أخرى في العطاء الرباني لسيدنا إبراهيم عليه السلام فيقول سبحانه وتعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } [ الأنبياء : 72 ] .
هكذا يتجلى عطاء المولى سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام فلا يعطيه الولد الذي يحفظ ذكره فقط ، بل يعطيه الولد الذي يحفظ أمانة الدعوة أيضاً ، وكل ذلك نافلة من الله ، أي عطاء كريم زائد وفضل كبير لأبي الأنبياء .
إذن النفل هو الأمر الزائد عن الأصل . ومثال ذلك ما خص الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركتْه الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة " .
إذن تشريع الله للغنائم في الإسلام أمر زائد عن الأصل؛ لأن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم .
وهناك نفل ، وهناك غنيمة ، وهناك فيء ، وهناك قبض .
وسنوجز معنى كل منها :
الغنيمة : هي ما يأخذه المسلمون من الأعداء المهزومين ، وتقسم فيما بينهم بنسب معينة ، فللرجل المقاتل سهم واحد ، وللفارس سهمان ، وهذا على سبيل المثال فقط وتقسيمها حسب تشريع الله عز وجل ، وسبق بيان النفَل والنفْل بفتح الوسط وسكونه ، والفيء هو كل مال صار للمسلمين من غير حرب ولا قهر - " والقبَض " بتحريك الوسط بمعنى المقبوض وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم .
(1/3191)

لكن إذا جاء ولي الأمر وبين للمقاتلين مشجعاً لهم على حركة الحرب مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
" من قتل كافراً فله سلبه " .
فلذلك أمر زائد في حصته في الغنيمة .
وقد يبعث القائد سريةً ويشجعها على خوض الصعاب فيقول لأفراد تلك السرية : لكم نصف ما غنمتم ، أو الربع أو الخمس ، فهذا يعني أن من حقهم أن يأخذوا النسبة التي حددها لهم القائد كأمر زائد ، ثم تقسم الغنائم من بعد ذلك ، وساعة يأخذ المقاتلون الأسلاب والمتاع ، والعتاد والأموال من الأسرى ، فهذه تسمى غنائم ، أما حين تُجْمع الغنائم عند ولي الأمر فيصير اسمها القبَض وقد سبق بيانه .
وفي يوم بدر حدثت واقعة يرويها الصحابي الجليل سعد بن مالك رضي الله عنه قائلاً :
" قلت يا رسول الله : قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، قال عليه الصلاة والسلام : " إن هذا السيف لا لك ، ولا لي ، فضعه " ، قال : فوضعته ، ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي ، قال : فإذا رسول الله يدعوني من ورائي . قال الصحابي : قد أنزل الله في شيئاً؟ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت سألتني السيف ، وليس هو لي ، وأنه قد وُهِب لي ، فهو لك " ، قال : وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ]
أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحكم في أمر السيف إلا بعد أن ينزل حكم الله عز وجل . ونعلم جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى غزوة بدر ولم يكن يقصد القتال ، بل كان الخروج للعير التي تحمل بضائع قريش القادمة من الشام ، وليس معها إلا بعد أربعون رجلاً يحرسونها ، ولذلك خرج المسلمون وكان عددهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً وليس معهم عدة أو عتاد ، بل لم يكن لديهم إلا فرسان اثنان لأنهم لم يخرجوا لقتال ، بل خرجوا للعير بغية أن يعوضوا أنفسهم شيئاً مما سُلبوه في مكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان سلك طريق الساحل . أي سار في طريق بعيد عن المسلمين ولم يأت من جهة الرسول والذين معه ، واستنفرت قريش كل رجالها ليحموا العير ، وصار الأمر بين أن يرجع المؤمنون دون حرب ، وإما أن يواجهوا النفير ، وهو التعداد الكثير ، وكانوا ألفاً ومعهم العُدّة والعتاد ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشجع الفتيان على الحرب فقال لهم : " من قتل كافراً فله سلبه " ، أي أنه خصّهم بأمر زائد عن سهمهم في الغنيمة . فلما علم الكبار من الصحابة والشيوخ ، قالوا : يا رسول الله هم قاتلوا وقتلوا ، لكن نحن كنا عند الرايات ، يفيئون إلينا إن وقعت عليهم هزيمة فلا بد أن نتشارك ، وحدث لغط وخلاف ، فحسم الله سبحانه وتعالى هذا اللغط بأن أنزل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله } .
(1/3192)

فبين سبحانه أن الحكم في قسمة الغنائم بين الجميع لله وللرسول وإياكم أن تخرجوا عن أمر الله فيها ، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية . فلا تنازعوا ولا تختلفوا { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } .
إن كان قد حصل بين الطرفين ، الشبان والشيوخ الكبار قليل من الخلاف فأصلحوا ذات بينكم . وساعة تسمع { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } قد تسأل : ما هو البين؟ الجواب " البين " هو ما بين شيئين ، فحين يجلس صف من الناس بجانب بعضهم البعض ، فما بين كل منهم هو ما يُسمى " البين " ، وقد يكون الذي يفصلنا عن بعض " بين مودة " أو بين جفوة ، إذن فالبين له صورة وله هيئة ، فإن كانت الصورة التي بينكم وبين بعضكم فيها شيء من الجفوة فأصلحوا السبب الذي من أجله وُجدَ " البين " حتى لا يكون بينكم جفوة ونزاع .
ثم يقول تبارك وتعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } [ الأنفال : 1 ] .
وقلنا إن أمر الطاعة معناه الامتثال ، والطاعة ليست للأمر فقط بل للنهي أيضاً ، لأن الأمر طلب فعل ، والنهي طلب عدم فعل ، وكلاهما طلب . وحينما يقول الحق : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } .
تفهم هذا القول على ضوء ما عرفناه من قبل وهو أن مسألة الطاعة أخذت في القرآن صورا ثلاثا ، الصورة الأولى : يقول الحق تبارك وتعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } وفيها يكرر المطاع وهو الله والرسول ، ولكنه يفرد الأمر بالطاعة .
ومرة ثانية يقول المولى عز وجل : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ المائدة : 92 ] .
أي أنه سبحانه يكرر المطاع ، ويكرر الأمر بالطاعة .
ومرة ثالثة يقول سبحانه وتعالى : { وَأَطِيعُواْ الرسول } . لأن منهج الله فيه أمور ذكرها الله عز وجل ، وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواردت السنة مع النص القرآني ، فنحن نطيع الله والرسول في الأمر الصادر من الله . وهناك بعض من التكاليف جاءت إجمالية ، والإجمال لا بد له من تفصيل ، مثل الصلاة وفيها قال الحق تبارك وتعالى : { فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
إذن فالله عز وجل أمر بالصلاة إجمالاً وقدّم الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الإجمال تفسيراً وتطبيقاً فهي خمس صلوات ، ركعتان للصبح ، وأربع ركعات للظهر ، وأربع ركعات للعصر ، وثلاث ركعات للمغرب ، وأربع ركعات للعشاء ، وحدد الرسول عليه الصلاة والسلام الصلوات التي نجهر فيها بقراءة الفاتحة وبضع آيات من القرآن ، وحدد الصلوات التي لا نجهر فيها بالتلاوة .
إذن فحين يقول الحق تبارك وتعالى { أَطِيعُواْ الله } ، أي أطيعوه في مجمل الحكم ، وحين يقول : { وَأَطِيعُواْ الرسول } أي أطيعوه في تفصيل الحكم ، وإذا ما قال : { أَطِيعُواْ الله والرسول } فهذا يعني أن الحق قد أمر وأن الرسول قد بلغ ، والمراد واحد ، وإذا لم يكن لله أمر ، وقال الرسول شيئاً فالحق يقول : { وَأَطِيعُواْ الرسول } ، وسبحانه قد أعطى رسوله تفويضاً بقوله :
(1/3193)

{ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
أي أن كل أمر من الرسول إنما يأتي من واقع التفويض الذي أكرمه الله به ، وهنا يقول سبحانه وتعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] .
أي إن كنتم مؤمنين حقا فاتقوا الله الذي آمنتم به واتّبِعُوا الأمر الصادر من الله ورسوله لكم ، لأن مدلول الإيمان هو اقتناع القلب بقضية لا تطفو للمناقشة من جديد ، وكذلك اقتناع بأن هذا الكون له إله واحد ، وله منهج يبلغه الرسول المؤيد من الله عز وجل بالمعجزة ، وهذا الإيمان وهذا المنهج يفرض عليكم تقوى الله بإصلاح ذات البين ، ويفرض عليكم طاعة الله والرسول في كل أمر ، ومن هذه الأمور التي تتطلب الطاعة هو ما أنتم بصدده الآن ، لأنه أمر في بؤرة الشعور .
ويأتي الحق بعد ذلك ليبين من هم المؤمنون فيقول : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا . . . }
(1/3194)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وفي هاتين الآيتين الكريمتين خمسُ صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي ، وبذلك يتحدد تشخيص كلمة " المؤمنين " ، هذه الصفات هي الأولى : أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وثانية الصفات أنه : إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيماناً ، ثالثة الصفات : أنهم على ربهم يتوكلون ، ورابعة الصفات : أنهم يقيمون الصلاة ، وخامسة الصفات : أنهم ينفقون مما رزقهم الله .
والصفة الأولى للمؤمنين هي : { إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] .
والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة ، واضطراب في القلب ، وحينما أراد الشعراء أن يعطوا صورة بهذا الإحساس ، نجد شاعراً منهم يقول :
كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلي العامرية أو يراح
قطاط غرها شرك تجا ... ذبه وقد علق الجناح
فالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر حبيبته ، كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو مَصْيدة وقعت فيها ، إنها تجاذب المصيدة حتى تخرج ، وهي ترجف في مثل هذا الموقف ، هكذا حال القلب لحظة فراق المحبوبة عند الشاعر .
وإذا كان ذكر الله عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل ، ألا يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه وتعالى : ؟ { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] .
في الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين؛ لأن ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة ، فإن كان الإنسان مسرفاً على نفسه ، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه . وإن كان الإنسان يراعي حق الله في كل عمل قَدْر الاستطاعة ، فلا بد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر الله؛ لأنه اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهابةِ وسطوة صفات الجلال . والاطمئنان إنما يجيء من إشراقات وحنان صفات الجمال . ولذلك تجمعها آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ] .
فالجلود تقشعر خوفاً ووجَلاً ومهابة من الله عز وجل ، ثم تلين اطمئناناً وطمعاً في حنان المنّان سبحانه وتعالى ، لأن رّبنا قال : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم } [ الحجر : 49 ] .
إذن فلا يقولن أحد إن هناك تعارضاً بين الوجل والاطمئنان ، فكلها من ذكر الله بالأحوال المتعددة للإنسان ، فإذا ما وجل الإنسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } [ هود : 114 ] .
وهل يزيد الإيمان أو ينقص؟
اختلف العلماء في هذا الأمر . ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة الإيمان ، وحينما نسأل ما الإيمان؟ وما الإسلام؟ . . . . إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صلى الله عليه وسلم ورده على السائل في الحديث الآتي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال :
(1/3195)

" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله : ما الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر ، قال يا رسول الله : ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان . قال يا رسول الله : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك . قال : يا رسول الله : متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها ، إذا ولدت الأمة ربها فذلك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاءُ البَهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله . ثم تلا صلى الله عليه وسلم : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم " .
وجبريل عليه السلام حين جاء يسأل ليعلم بعضاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الرسول عليه السلام عن الإيمان : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " ، وفي رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره .
وهذه كلها أمور غيبية ، ولا يقال في الأمر المحسّ إيمان ، فلا يقول واحد : أنا مؤمن أنى أتحرك على الأرض؛ لأن هذا أمر حسيّ . والإيمان لا يكون إلاّ بالأمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد لا تدركه الأبصار وهو غيب ، وبملائكته وهي غيب ، وصدقنا وجودها لأنه أبلغنا بذلك الوجود . وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل . وبالرسل ، وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول كذلك له وجود حسيّ ، لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول . إذن فهو أمر غيبي ، وكذلك الإيمان باليوم الآخر أمر غيبي أيضاً ، والايمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته ، وكلها إذن أمور غيبية .
هذا الإيمان في القمة ، لكن هناك إيمان آخر يجيء لأننا نعلم أن التشريعات لم تأت مرة واحدة ، بل كانت تأتي على مراحل ، فتشريع ينزل أولاً بأن نؤمن أنه من الله . إذن فالذي يزيد وينقص من الإيمان هو الإيمان بالتكليفات ، وأنها صادرة من الله عز وجل ، وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد كانت تزيد المؤمنين إيماناً ، فعندما نزل الأمر بالصلاة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا ، ثم جاء الصوم فامتثلوا للأمر به ، ثم يجيء الأمر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ ، وطبعاً هناك فرق بين أن تؤمن بالشيء ، وأن تفعل الشيء .
(1/3196)

فالإيمان شيء ، وفعله شيء؛ لأن الإسلام هو الانقياد الظاهري للمنهج ، وتطبيق كل ما يجيء به الإسلام هو إيمان مستمر متزايد؛ لأننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من الله . إذن فالذي يزيد هو توابع الإيمان من التكليفات والامتثال لهذه التكليفات ، مثال ذلك : كلنا نعرف قول الحق : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] .
لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قوله الحق : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ] .
والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا : كفر بماذا؟ هل كفر لأنه لم يحج؟ لا ، إن كفره في هذه المسألة لا يكون إلا بأن ينكر أن الحج ركن من أركان الإسلام ، فالمطلوب منا إيمانياً أن نقر بالحج كركن من أركان الإسلام في حدود الاستطاعة ، فإن فعله الإنسان كان قد نفذ الحكم ، أما إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الاستطاعة .
ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها بقوله : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
ومُتَعلّق الجار والمجرور دائماً يكون متأخراً ، بينما هنا يتقدم الجار والمجرور؛ لذلك ففي الأسلوب حصر وقصر ، مثلما نقول : " لزيد المال " أي أن المال ليس لغيره ، وقول الحق : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي لا يتوكلون على غيره ، بل قصروا توكلهم على الله سبحانه وتعالى ، والتوكل : أن تؤمن بأن لك وكيلاً يقوم لك بمهام أمورك ، بدليل أن الشيء الذي لا تقوى عليه تقول بصدده : " وكلت فلاناً ينجزه لي على خير وجه " وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسباً لأداء تلك المهمة فأنت تعلن باطمئنان : أنك قد وكلت فلانا .
إذن معنى { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم ، وهو الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون ، وخلق فيه أسباباً تؤدي إلى مسبَّبات الأسباب مقدمة ، والمسبّبات هي النتيجة . وبعد ذلك ترك أموراً ليس فيها أسباب ، إلا أن نلحظ دائماً المسبب وهو الله تعالى ، فكل أمر يعز عليك في أسبابه؛ إياك أن تيأس من أنه لا يحدث ، بل قل : تلك هي قضية الأسباب ، أما أنا فلي رب خلق الأسباب . وهو القادر فوق كل الأسباب ، وفي حياتنا اليومية نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح ، وعمل القلوب ، ويظن إنسان ما أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ويركن إلى الكسل ويقول : أنا متوكل على الله ، وهذا نقول له : لا ، إن هذا منك تواكلٌ وليس توكلاً؛ لأن التوكل ليس عمل جوارح ، التوكل عمل قلوب .
والمؤمن الذي يستقبل منهج الله بالفهم يجد الأسباب التي يجب أن يأخذها ، وسبحانه وتعالى هو المسبب الأعلى ، والإيمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل ، فعلى الجوارح أن تحرث الأرض ، وأن تختار البذرة الطيبة ، وتنثرها في الأرض ، ثم ترويها ، وتتعهدها ، وهذه العمليات اسمها الأسباب ، ثم لا تركن إلى الأسباب فقط ، بل عليك أن تقول : إن فوق كل الأسباب هناك المسبِّبُ .
(1/3197)

فمن الجائز أن يخضر الزرعُ وينمو ، ثم تأتي له آفةٌ من مطر أو حر وتضيعه .
ومن ينقل التوكل إلى الجوارح . نقول له : أنت تواكلت ، أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح . ومن يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس . لأنه تكاسل عن الأخذ بالأسباب وادّعى أنه متوكل على الله . ولو كان الواحد من هؤلاء صادقاً في توكله على الله لأخذ بالأسباب . وعادة فإني دائماً أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل : لماذا لا تترك الطعام يأتي إلى فمك ، لماذا تمد إليه يديك؟ . إن من يكسل إنما يكذب في التوكل ، فلا أحد مثلاً يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه ، لكنه يأخذها بيده . ويمضغها بأسنانه ، ويبلعها بعد المضغ ، ولو كان صادقاً في أن التوكل هو ألا تعمل جوارحه لما فعل شيئاً من ذلك ، لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه ، ولا يستعملها في الأمور التي تتعبه . وقول الحق تبارك وتعالى : { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .
هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن الأسباب من خلق الله . وحين يأخذ المؤمن بالأسباب فهو يؤمن أنه لاجىء إلى الله ومعتمد عليه ، لكن إن عزت عليه الأسباب فهو يعلم أن له رباً ، ولذلك قال : { وعلى رَبِّهِمْ } ، والرب هو الخالق من عَدَم ، والممد من عُدْم ، وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم قبل أن يكلفك ، فهل من المعقول أن يظلمك؟ طبعاً لا . لكن عليك أن تفطن أنه لك جوارح ، فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله .
وتأتي الآية التالية لتوضح عمل الجوارح ، وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات المؤمنين : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ الأنفال : 3 ] .
والقيام والقعود والقراءة والتسبيح والتكبير في الصلاة عمل جوارح ، وكذلك الزكاة هي عمل ناتج من عمل سبق ، فحتى تخرج الزكاة لا بد أن تبذل الجهد وتأخذ بالأسباب لتنتج ما يعولك أنت ودائرتك القريبة من زوجة وأبناء ثم أقارب ، ومن بعد ذلك يفيض من المال ما تستقطع منه الزكاة ، وهذه بطبيعة الحال غير زكاة الزروع التي تُخْرَج في يوم الحصاد . { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] .
ودائما ما نجد الصلاة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما ، ولا تجد آية فيها ذكر للصلاة إلا وفيها ذكر للزكاة أيضاً؛ لأن الصلاة تعني ترك أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا الأسباب ، وتذهب إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه ، أي أنك قد اقتطعت جزءاً من الزمن الذي كنت تقضيه في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق الأسباب .
(1/3198)

والزكاة تعني أنك تقتطع جزءاً من مالك ، ولذلك قلنا : إن الصلاة فيها زكاة وزيادة ، فأنت تخرج مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصاباً ويكون زائداً عن الحاجة الأصلية ، لكنك بالصلاة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال ، إذن ففي الصلاة زكاة وأكثر . وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال ، لكنك في الصلاة تتنازل عن الوقت الذي هو محل العمل ، وهو الذي تنتج فيه الرزق ، والرزق وعاء الزكاة .
ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية قائلاً :
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به الإنسان ، وحتى اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقاً لكنه رزق غير طيب وله عقاب في الدنيا إن تم ضبطه ، ولن يفلت من عقاب الله الحاكم العادل في الدنيا والآخرة ، وهو بطبيعة الحال غير الرزق الحلال الذي يأتي من عمل مشروع ، والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق الحلال؛ سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع الإيماني .
وبعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { أولائك هُمُ المؤمنون . . . }
(1/3199)

أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
و " أولئك " تشير إلى من أنعم الله عليهم بالصفات الخمس السابق ذكرها ، وهؤلاء هم من وجلت قلوبهم من ذكر الله ، وزادتهم الآيات في إيمانهم ، وعلى ربهم يتوكلون ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، هؤلاء هم المؤمنون حقاً { أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } .
ولنعلم أن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا تذهب به الأغيار ، ويخضع له كل الناس لأنه يتعلق بمصالح حياتهم . وإن جاء الباطل ليزحزح الحق ، نجد الحق ثابتاً لا يتزحزح لأنه قوي . ولنقرأ قول الحق تبارك وتعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } [ الرعد : 17 ] .
وحين ينزل المطر من السماء ، يأخذ من مائة كل وادٍ من الوديان على قدر اتساعه وعمقه ، ويمتلىء ، ترى الرغاوي وهي الزبد تطفو فوق السيْل ، وهي عبارة عن هؤلاء سببه وجود الشوائب من قش وغيره ، وهذا مثل نراه في حياتنا ، ونجد الأرض والناس وكل المخلوقات تنتفع بالمياه ، لكنها لا تنتفع بالزبد أو الرغاوي . ثم ينتقل الحق في ذات الآية من ضرب المثل بالماء ، إلى ضرب المثل بالنار فيقول : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ } [ الرعد : 17 ] .
وأنت حين ترى قطعة الحديد وهي تتحول إلى السيولة بالانصهار في النار ، تجد شرراً يتطاير منها ، ويطفو فوق سطح الحديد المصهور ، وهو ما يسمى ب " خبث الحديد " وتتم إزالة هذا الخبث ليبقى الحديد صافياً لتصنع منه السيوف أو الخناجر وغيرها ، وهذه الحالة تحدث في الذهب حين يصهره الصائغ ليزيل عنه أية شوائب ويعيد تشكيله ليكون حلياً .
وزبد الماء وزبد الحديد وزبد الذهب يتجمع على الجوانب ويبقى الماء صافياً ، وكذلك الحديد والذهب ، ولهذا يقول الحق : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } [ الرعد : 17 ] .
أي أن الحق يبقى صافياً ثابتاً ، أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة .
ويوضح الحق علو كلمته سبحانه وتعالى في آية أخرى فيقول : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } [ التوبة : 40 ] .
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى جاء بالجعل لكلمة الكافرين ، أما كلمته سبحانه وتعالى فلها العلو الثابت .
والحق هنا يبين أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات الخمس هم مؤمنون حق الإيمان فيقول عز وجل : { أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } .
ومعنى هذا أن هناك مؤمنين ليسوا على درجة عالية من الإيمان ، أي أن هناك منازل ودرجات للإيمان متفاوتة ، ولكل قدر من الصفات منزلة وعطاء مناسب .
ونحن نرى البشر حينما يخصهم واحد بوده يفيضون عليه من خيراتهم ، فنجد غير العالم يأخذ ممن يودهم من العلماء بعض العلم ، والضعيف الذي يعطي وده لقوي ، يعينه القوي ببعضٍ من قوته ، والفقير الذي يعطي وده لغني ، يعطيه الغني بعضاً من المال ، والأرعن يأخذ ممن يودهم من العقلاء قدراً من التعقل للأمور .
(1/3200)

إذن أهل المودة والقرب والتقوى يفاض عليهم من المولى وهم ممن اختصهم الله بالعطاءات ، فالذي وجدت فيه هذه الصفات ، ومؤمن حقاً تكون له درجات عند ربه تناسب حظه من الحق وحظه من الصفاء ، ولنعرف أن السير في درب الحق يعطي الكثير . والمثال الذي نقدمه على ذلك أننا نجد من يصلي الأوقات الخمسة في مواعيدها ، وهذا هو المطلوب العام ، إذا ما صلى ضعف ذلك بالليل ، أو واظب على الصلاة في الجماعة ويلزم نفسه بمنهج الله ، سوف يأخذ حظاً من الصفاء لم يكن موجوداً عنده من قبل ذلك ، وسيجد في قلبه إشراقات وتجليات ، وتسير أمور حياته بسهولة ويسر .
وقد يكون الإنسان من هؤلاء - على سبيل المثال - خارجاً من البيت وسألته زوجته : ماذا نطبخ اليوم؟ ويجيبها : لنقض هذا اليوم بما تبقى عندنا من الأمس . وعندما يعود قد يفاجأ بأن شقيقه قد قدم من الريف ، وأحضر له هدية من البط ، والقشدة والفطائر . فتسأله زوجته : أكنت تعلم بمجيء أخيك؟ فيقول : لم أكن أعلم ، وهذا مجرد مثال ، لكن عطاءات الصفاء تكون أكثر من ذلك مادياً ومعنوياً ، ومن يستمر في العبادة ويزيد عليها ويؤدي كل ذلك بحقه ، سيزيد عطاء الله له؛ لأن الله لا يمل عطاء أهل الصفاء أبداً . ومن يجرب مثل هذه العبادة ويزيدها سيجد عطاء الله وهو يزيد .
ودائما أضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وهو منزه سبحانه وتعالى عن التشبيه لنفترض أن إنساناً أراد أن يسافر من القاهرة إلى الإسكندرية ، وسأل إنساناً آخر ، فقال له : إن ذهبت من الطريق الفلاني ستجد استراحة طيبة ، عكس الطريق الفلاني .
ويتبع المسافر نصائح من أرشده ، فيجده صادقاً ، فيرتاح من بعد ذلك لرأيه ، وكذلك أهل الصفاء ، هم أهل العطاء ، وعلى قدر صفائهم يكون هذا العطاء . والذي يشجع الناس الذين يبالغون في التعبد هو هذا الإشراق ، وهناك من يصف الواحد منهم بأنه مجذوب وإن من يطلق على المتعبد الزاهد هذا الوصف يرى المنزلة العالية وهي تشد هذا المتعبد إليها ، وهو من جهة أخرى ينظر هذا الزاهد إلى من يتعثرون في طلب الدنيا ، ويصفهم بينه وبين نفسه بأنهم من " الغلابة " ويدعو لهم .
وأقول لمن يرى واحداً من هؤلاء : لا شأن لك بأي إنسان من هؤلاء وإياك أن تتعرض لهم واتركهم في حالهم ، ما دام الواحد منهم لا يسألك شيئا . { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } .
والدرجات عند البشر هي ارتقاءات يسعى إليها ، فما بالنا بالدرجات التي عند الرب؟ وما دام الله سبحانه وتعالى قد وعدهم بالدرجات العالية عنده فقد ضمنوا المغفرة؛ لأن الواحد منهم سيطهر بالمغفرة ، وجاء الحق بعطاء الدرجات قبل المغفرة لأنه سبحانه خلق الخلق ويعرف أنهم أهل أغيار ، ويعلم أن هناك من أسرفوا على أنفسهم ، ويحاولون فعل الخيرات لأنهم يؤمنون بأن الحسنات يذهبن السيئات ، وسبحانه علمنا أن معالم الدين تأخذ حظها من المسرفين على أنفسهم ، لأن من لم يسرف على نفسه تجده يطيع الله طاعة هادئة رتيبة فليس وراءه ما يلهب ظهره .
(1/3201)

أما من عملوا السيئات فإن هذه السيئات تقض مضاجعهم . والمسرف على نفسه لحظة الإسراف يظن أنه أخذ من الله شيئاً واحداً من خلف منهجه ، فيوضح له ربنا : إياك أن تظن أن هناك من يخدع الله . فأنت ستعمل كثيراً وبشوق لخدمة منهج الله ، ونجد المسرف على نفسه لحظة الإفاقة والتوبة ، وهو يندفع إلى فعل الخيرات . مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى ليؤيد الدين بالرجل الفاجر " . لأن فجر الفاجر يتجسد أمامه ويريه سوء المصير ، فيندفع إلى فعل الخيرات ليمحو السيئات ، أما من لم يخطىء فنجده هادىء القلب ، مطمئن النفس ، لا يلهب ظهره شيء .
{ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 4 ] .
وهل هذا الرزق ناشىء من كريم؟ الجواب لا؛ لأن الكرم تعدى من الكريم الأصيل ، إلى أن صار الرزق نفسه كريماً ، وكأن هذا الرزق يتعشق صاحبه؛ لأن ربنا ساعة يعطي إنساناً نعمةً ، ثم يستعملها العبد في الطاعة ، تحس النعمة أنها مسرورة بالذهاب إلى هذا الإنسان لأنه استعملها في طاعة وفيما يرضى الله عز وجل .
ولك أن تعرف أن الرزق أعلم بمكانك منك بمكانه . فلا أحد يعرف عنوان الرزق الذي قدره الله له ، لكن الرزق يعرف عنوان صاحبه ، ويبحث عنه في كل مكان إلى أن يجده . هكذا نفهم أن الكرم يتعدى إلى الرزق نفسه فيصبح الرزق كريماً .
وجاء كل هذا الحديث بمناسبة الخلاف على الغنائم والأنفال ، وفصل ربنا بالحكم وبين وأوضح أن الأنفال لله والرسول ولم يعد لأحد كلام بعد كلام الله ، وهذه الحادثة في الأنفال حدثت في الخروج إلى الحرب ، فحين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج للحرب ، كان هناك فريق منهم كاره لهذا الخروج ثم رضي به . لكن حالهم اختلف في الغنائم فطالب بعضهم بأكثر مما يستحق؛ لذلك يقول المولى سبحانه وتعالى : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ . . . }
(1/3202)

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
و " كما " تدل على تشبيه حالة بحالة ، فهم قد رضوا بقسمة الله في الغنائم بعد أن رفضوها ، وكذلك قبلوا من قبلُ أن يخرجوا لملاقاة النفير بعد كراهيتهم لذلك . لكنهم خرجوا وحاربوا وانتصروا ثم اختلفوا على الغنائم ، ورضوا أخيراً بقسمة الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام .
فهل ذكر مسألة كراهيتهم للخروج إلى الحرب هي طعن فيهم؟ لا ، فهذا القول له حيثية بشرية؛ لأن الذي يريد أن يخوض معركة لا بد أن يغلب عليه الظن بأنه سوف ينتصر ، وإلا سينظر إلى أن عملية الخروج إلى القتال فيها مجازفة . وكان المسلمون في ذلك الوقت قليلي العدد ، وليس معهم عُدَد ، بل لم يكن لديهم من مراكب إلا فرسان اثنان . وكان خروجهم من أجل البضائع والعير ، لا لملاقاة جيش كبير ، وهكذا لم تكن الكراهية لهذه المسألة نابعة من التأبي على أوامر الله تعالى ، أو مطالب رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ولكنهم نظروا إلى المسألة كلها بالمقاييس البشرية فلم يجدوا فيها التوازن المحتمل .
ويريد الله أن يثبت لهم أنهم لو ذهبوا وانتصروا على العير فقط ، لقيل عنهم إنهم جماعة من قطاع الطرق قد انقضوا على البضائع ونهبوها ، فلم يكن مع العير إلا أربعون رجلا ، والمسلمون ثلاثمائة ويزيدون ، ومن المعقول أن ينتصروا ، ولكن ربنا أراد أن ينصرهم على النفير الذي استنفره الكفار من مكة ، هذا النفير الضخم في العدد والعدة ويضم جهابذة قريش وصناديدها ، وتتحقق إرادة الحق في أن يزهق الباطل . { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } .
والخروج من البيت هنا مقصود به خروج الرسول من المدينة لملاقاة الكفار ، وهذا الفريق من المؤمنين لم تخرجهم الكراهية عن الإيمان؛ لأن معنى " فريق " هم الجماعة الذين يفترقون عن جماعة ويجمعهم جميعاً رباط واحد ، فالجيش مثلاً يتكون من فرق ، يجمعهم الجيش الواحد .
وهذه الفرق التي يأتي الحديث عنها هنا هي الفرق التي كرهت أن تخرج إلى القتال رغم أنهم مؤمنون أيضاً ، ونعلم أن كراهية القتال أمر وارد بالنسبة للبشر ، وسبحانه وتعالى القائل : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] .
ويقول الحق بعد ذلك : { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ . . . }
(1/3203)

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
و { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق } ، أي يجادلونك في مسألة الخروج لملاقاة النفير ، بعد ما تبين لهم الوعد الحق من الله عز وجل وهو وعده سبحانه وتعالى بأن تكون لهم إحدى الطائفتين ، وهما طائفة العير أو النفير الضخم الذي جمعته قريش لملاقاتهم . وما دام الحق قد وعدكم إحدى الطائفتين ، فلماذا لا تأخذون الوعد في أقوى الطوائف؟ لماذا تريدون الوعد في أضعف الطوائف؟! لقد وعدكم الحق سبحانه وتعالى أن إحدى الطائفتين ستكون لكم ، فكان المنطق والعقل يؤكدان أنه ما دام قد وعدنا الله عز وجل إحدى الطائفتين ، فلنقدم إلى الأنفع للإسلام والحق الذي نحارب من أجله ، وأن نواجه الطائفة ذات القوة والشوكة والمنعة؛ لأنه قد يكون من الصحيح أن النصر مؤكد على طائفة العير ، لكن هذا النصر سيبقى من بعد ذلك مجرد نصر يقال عنه! إنه نصر لقطاع طريق ، لا أهل قضية إيمان ودين .
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } [ الأنفال : 7 ] .
فالمنطق إذن يفرض أن الله عز وجل ما دام قد وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ، طائفة في عير والأخرى في نفير ، كان المنطق يفرض إقبال المؤمنين على مواجهة الطائفة القوية؛ لأن النصر على النفير هو أشرف من النصر على طائفة العير . { يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } .
ونلحظ أن هناك " سوق " ، وهناك " قيادة " ، والقيادة تعني أن تكون من الأمام لتدل الناس على الطريق ، و " السوق " يكون من الخلف لتحث المتقدم أن يقصر المسافة مع تقصير الزمن ، فبدلاً من أن نقطع المسافة فى ساعة - على سبيل المثال - فنقطعها في نصف ساعة .
وقوله تعالى :
{ يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } [ الأنفال : 6 ] .
أي أنهم غير منجزين للسير . بل هم مدفوعون إليه دفعاً ، وهم ينظرون بشاعة الموت ، لأنهم تصوروا أن مواجهتهم لألف فتى من مقاتلي قريش مسألة صعبة ، فألف أمام ثلاثمائة مسألة ليست هينة؛ لأن ذلك سيفرض على كل مسلم أن يواجه ثلاثة معهم العدة والعتاد ، فكأن الصورة التي تمثلت لهم صورة بشعة ، لكنهم حينما نظروا هذه النظرة لم يلتفتوا إلى أن معهم ربّا ينصرهم على هؤلاء جميعاً .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ . . . }
(1/3204)

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
والوعد من الله عز وجل يجب أن يستقبل من الموعود بأنه حق؛ لأن الذي يقدح في وعد الناس للناس أن الإنسان له أغيار ، فقد تعد إنساناً بشيء ، وقد حاولت أن تفي بما وعدت ولكنك لم تستطع الوفاء بالوعد . أو كانت لك قوة وانتهت . أو قد يتغير رأيك . إذن فالوعد من المساوي من الخلق غير مضمون ، لكن الوعد من القادر القوي ، الذي لا تقف عراقيل أمام إنفاذ ما يريد ، هو وعد حق ويجب أن يتلقوا هذا الوعد على أنه حق . { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } .
أي إن كنتم تميلون وتحبون أن تكون لكم الطائفة غير ذات الشوكة التي تحرس العير - والشوكة هي شيء محدد من طرف تحديداً ينفذ بسهولة من غيره ، وأنت تجد الشوكة مدببة رفيعة من الطرف ثم يزداد عرضها من أسفلها ليتناسب الغِلْظُ مع القاعدة لتنفذ باتساع . وذات الشوكة أي الفئة القوية التي تنفذ إلى الغرض المراد ، ولا يتأبى عليها غرض ، ولذلك يقال " شاكي السلاح " . فإن كتم تتمنون وتريدون عدم ملاقاة جيش الكفار في معركة فالمولى عز وجل يقول لكم { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } .
أي أن الله تعالى يريد أن ينصر الإسلام بقوة ضئيلة ضعيفة بغير عتاد على جيش قوى فيعرفون أن ربنا مؤيدهم ، وبذلك يحق الحق بكلماته أي بوعده . وهناك الكلمة من الله التي قال فيها : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى } [ الأعراف : 137 ] .
هكذا كان وعد الله الذي تحقق . { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين }
والدابر والدُبر هي الخلف ، وتقول : " قطعت دابره " أي لم أجعل له خلفاً .
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل . . . }
(1/3205)

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
ونلحظ أنه سبحانه وتعالى قال من قبل ويريد الله أن { يُحِقَّ الحَقَّ } ، وهنا يقول : { لِيُحِقَّ الحق } والمراد بالحق الأول نصر الجماعة الضعاف ، القلة الضعيفة على الكثرة القوية ، هذا هو الحق الأول الذي وعد به الحق بكلماته ، ليحق منهج الإسلام كله ، ولو كره المجرمون .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ . . . }
(1/3206)

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
ومادة " استغاث " تفيد طلب الغوث ، مثل " استسقى " أي طلب السقيا ، و " استفهم " أي طلب الفهم ، و " الألف " و " السين " و " التاء " توجد للطلب . و " استغاث " أي طلب الغوث من قوى عنه قادر على الإغاثة ، وأصلها من الغيث وهو المطر ، فحين تجدب الأرض لعدم نزول المطر ولا يجدون المياه يقال : طلبنا الغوث ، ولأن الماء هو أصل الحياة؛ لذلك استعمل في كل ما فيه غوث ، وهو إبقاء الحياة ، وفي حالة الحرب قد يفنى فيها المقاتلون؛ لذلك يطلبون الغوث من الله عز وجل { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } .
و { تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } بضمير الجمع ، كأنهم كلهم جميعاً يستغيثون في وقت واحد ، وقد استغاث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطف القوم وقال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره ، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه واستقبل القبلة وقال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم ائتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " .
ويدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه كان يستغيث بالخالق الذي وعد بالنصر ، ورد القوم خلفه : آمين ، لأن أي إنسان يؤمن على دعاء يقوله إمام أو قائد فهو بتأمينه هذا كأنما يدعو مثلما يقول الإمام أو القائد . فمن يقول : " آمين " يكون أحد الداعين بنفس الدعاء . والحق سبحانه وتعالى هو القائل : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
وهذا ما جاء في القرآن الكريم على لسان موسى عليه السلام .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعدها : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [ يونس : 89 ] .
مع العلم بأن سيدنا موسى عليه السلام هو الذي دعا ، وقوله سبحانه من بعد ذلك { أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } دليل على أن موسى دعا وهارون قال : " آمين " فصار هارون داعياً أيضاً مثل أخيه موسى . { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ } [ الأنفال : 9 ] .
{ فاستجاب لَكُمْ } الألف والسين والتاء - كما علمنا - تأتي للطلب ، وقول الحق سبحانه وتعالى { فاستجاب } يعني أنه طلب من جنود الحق في الأرض أن يكونوا مع محمد وأصحابه؛ لأن الله سبحانه وتعالى ، خلق الكون ، وخلق فيه الأسباب . نراها ظاهرة ، ووراءها قوى خفية من الملائكة . والملائكة هم خلق الله الخفي الذي لا نراه ولا نبصره ، إلا أن الله أخبرنا أن له ملائكة .
فالملائكة ليست من المخلوقات المشاهدة لنا ، وإنما إيماننا بالله ، وتصديقنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله تعالى جعلنا نعرف أنه سبحانه وتعالى قد خلق الملائكة ، وأخبرنا أيضاً أنه خلق الجن وصدقنا ذلك ، إذن فحجة إيماننا بوجود الملائكة والجن هو إخبار الرسول الصادق بالبلاغ عن الله تعالى ومن يقف عقله أمام هذه المسألة ويتساءل : كيف يوجد شيء ولا يرى ، نقول له : هذه أخبار من الله .
(1/3207)

وهناك من أنكر وجود الملائكة والجن وقال : إنها القوى الميكانيكية في الأسباب ، ولم يلتفتوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن أمر غيبي ، فسبحانه يترك في مشهديات وجوده وكونه ما يقرب هذا الأمر الغيبي إلى الذهن ، فيجعلك لا تعرف وجود أشياء تشعر بآثارها ، ثم بمرور الزمن تدرك وجودها ، وهذه الأشياء لم تُخلق حين اكتشفتها ، وإنما هي كانت موجودة لكنك لم تتعرف عليها ، وهناك فارق بين وجود الشيء وإدراك وجود الشيء . ومثال ذلك كان اكتشاف الميكروب في القرن السابع عشر وهو موجود من قبل أن يكتشف ، وكان يدخل في أجسام الناس ، وينفذ من الجلد ، وحين اكتشفوه ، دلّ ذلك على أنه كان موجوداً لكننا لم نكن نملك أدوات إدراكه . إذن فإن حُدثت بأن لله خلقاً موجوداً وإن لم تكن تدركه ، فخذ مما أدركته بعد أن لم تكن تدركه دليل تصديق لما لا تدركه .
وأخبرنا الحق تبارك وتعالى بوجود الملائكة ، وكل شيء له ملائكة يدبرونه ، وهم : " المدبرات أمرا " ، والملائكة الحفظة ، وسبحانه القائل : { لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] .
وسبحانه أيضاً القائل : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] .
وهؤلاء الملائكة هم الموكلون بمصالح الإنسان في الأرض ، المطر مثلاً له ملكه ، الزرع مثلاً له ملكه ، وكل شيء له ملك . وهو سبب خفي غير منظور يحرك الشيء . { فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة } .
والإمداد هو الزيادة التي تجيء للجيش ، لأن الجيش إذا ووجه بمعارك لا يستطيع أن يقوم بها العدد الموجود من الرجال أو السلاح ، حينئذ يطلب قائد الجيش إرسال المدد من الرجال والعتاد . { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ }
ونعلم أنه ساعة أن أمر ربنا الملائكة أن تسجد لآدم ، لم يكن الأمر لكل جنس الملائكة ، بل صدر الأمر إلى الملائكة الموكلين بمصالح الأرض . أما الملائكة غير الموكلين بهذا ، فلم يدخلوا في هذه المسألة ، ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى حينما عنف إبليس ، قال له : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } [ ص : 75 ] .
والمقصود ب " العالين " هم الملائكة الذين لم يشملهم أمر السجود .
والحق تبارك وتعالى هنا في هذه الآية يبين أنه سبحانه وتعالى قد أمد المسلمين المحاربين في غزوة بدر ب : { بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ }
والردْفُ هو ما يتبعك ، ولذلك يقال : " فلان ركب مطيته وأرْدَفَ فلاناً " ، أي جعله وراءه .
(1/3208)

والمُردف هو من يكون في الأمام ، والمردَف هو من يكون خلفه . والآية توضح لنا أن الملائكَة كانت أمام المسلمين؛ لأن جيش المسلمين كان قليل العدد ، وجيش الكفار كان كثير العدد ، وجاءت الملائكة لتكثير عدد جيش المسلمين ، فإذا كان العدد مكوناً من ألف مقاتل ، فقد أرسل الحق ملائكة بنفس العدد ويزيد بذلك جيش المؤمنين بعدد المؤمنين . وكان يكفي أن يرسل الحق ملكاً واحداً ، كما تحكي الروايات عما حدث لقوم لوط ، فقد روي أن جبريل عليه السلام ، أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط ، وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمار ، ونباح الكلاب ، وصياح الديوك ، ولم تنكفىء لهم جرّة ، ولم ينسكب لهم إناء ، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض .
وصيحة واحدة زلزلت قوم ثمود . لماذا إذن أرسل الحق تبارك وتعالى هنا ألفاً من الملائكة؟ . حدث ذلك لتكثير العدد أمام العدو وليفيد في أمرين اثنين :
الأمر الأول : أن تأخذ العدو رهبة ، والأمر الثاني : أن يأخذ المؤمنون قوة لكن أكان للملائكة في هذه المسألة عمل؟ أو لا عمل لهم؟ هنا حدث خلاف .
ونجد الحق تبارك وتعالى يقول : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى . . . }
(1/3209)

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
أي أن الملائكة هي بشرى لكم ، وأنتم الذين تقاتلون أعداءكم ، وسبحانه وتعالى هو القائل : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] .
قال الحق سبحانه وتعالى ذلك للمؤمنين وهم يدخلون أول معركة حربية ، ويواجهون أول لقاء مسلح بينهم وبين الكافرين ، لأنهم إن علموا أن الملائكة ستقاتل وتدخل ، فقد يتكاسلون عن القتال ويدخلون إلى الحرب بقلوب غير مستعدة ، وبغير حمية ، فأوضح ربنا : أنا جعلت تدخل الملائكة بشرى لكم ، و { لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } ، أي أن عدد الملائكة يقابل عدد جيش الكفار ، والزيادة في العدد هي أنتم يا من خرجتم للقتال . واعلموا أن الملائكة هي لطمأنة القلوب . لكن الحق يريد أن يعذبهم بأيديكم أنتم ، لأن الله يريد أن يربي المهابة لهذه العصبة بالذات ، بحيث يحسب لها الناس ألف حساب .
واختلفت الروايات في دور الملائكة في غزوة بدر ، فنجد أبا جهل يقول لابن مسعود : ما هذه الأصوات التي أسمعها في المعركة؟ فقد كانت هناك أصوات تُفزع الكفار في غزوة بدر - ويرد ابن مسعود على أبي جهل : إنها أصوات الملائكة . قال : إذن بالملائكة تغلبون لا أنتم . .
فإياكم أن تفتنوا حتى بالملائكة؛ لأن النصر لا منكم ولا من الملائكة ، ولكن النصر من عندي أنا؛ لأن الذي تحب أن ينصرك ، لا بد أن تكون واثقاً أنه قادر على نصرتك ، والبشر مع البشر يظنون الانتصار من قبل الحرب ، ومن الجائز أن يغلب الطرف الآخر ، لكن النصر الحقيقي من الذي لا يُغْلَب وهو الله سبحانه وتعالى : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله }
وأنت حين تستنصر أحداً لينصرك على عدوك فهذا الذي نستنصر به إن كان من جنسك يصح أن يَغْلِب معك ويصح أن تنغلب أنت وهو ، لكنك تدخل الحرب مظنة أنك تغلبَ مع من ينصرك وقد يحدث لكما معاً الهزيمة أمَّا الحقُّ سبحانه وتعالى فهو وحده الذ لا يُغَالَب ولا يُغْلَب . { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
وهو سبحانه وتعالى الناصر ، وهكذا يكون المؤمن الذي يقاتل بحمية الإيمان واثقاً من النصر ، لكن إياكم أن تظنوا أن النصر من الله لا يصدر عن حكمة ، إن وراء نصر الله للمؤمنين حكمةً ، فإن تهاونتم في أي أمر يُسلب منكم النصر؛ لأن الله لا يغير سننه مع خلقه ، وقد رأينا ما حدث في غزوة أحد حين تخاذلوا ولم ينفذوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينتصروا؛ لأن الحكمة اقتضت ألا ينتصروا ، ولو نصرهم الله لاستهانوا بعد ذلك بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقال بعض منهم : خالفناه وانتصرنا ، وهكذا نجد أن طاعة الله والرسول والأخذ بالأسباب أمر هام ، فحين جاء الأمر من رسول الله في غزوة أحد بما معناه : يا رماة لا تتركوا أماكنكم ، ولو رأيتمونا نفر إلى المدينة ، فلا شأن لكم بنا ، وعلى كل منكم أن يأخذ دوره ومهمته ، فإذا رأى أخا له في دوره قد انهزم فليس له به شأن ، وعلى كل مقاتل أن ينفذ ما عليه .
(1/3210)

لكنهم خالفوا فسلبهم الله النصر . وهكذا يتأكد لهم أن النصر من عند الله العزيز الذي لا يغلب . وقال البخاري عن البراء بن عازب قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة ، وأمَّر عليهم " عبد الله بن جبير " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تبرحوا وإن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا " .
ونلحظ أن المدد بالملائكة ورد مرة بألف ، ومرة بثلاثة آلاف في قول الحق سبحانه { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بثلاثة آلاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } [ آل عمران : 124 ] .
فإن لم يكفكم ثلاثة آلاف سيزيد الله العدد ، لذلك يقول المولى عز وجل : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
إذن المدد يتناسب مع حال المؤمنين ، ويبين ذلك قوله سبحانه : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ }
فالصبر إذن وحده لا يكفي بل لا بد أيضا من تقوى اللخ ، ولا بد كذلك من المصابرة بمغالبة العدو في الصبر؛ لذلك يقول المولى تبارك وتعالى في موقع آخر : { اصبروا وَصَابِرُواْ } [ آل عمران : 200 ] .
وذلك لأن العدو قد يملك هو أيضاً ميزة الصبر؛ لهذا يزيد الله الصابر ، فإن صبر العدو على شيء فاصبر أنت أيها المؤمن أكثر منه .
وقد جعل الله عز وجل الإمداد بالملائكة بشرى لطمأنة القلوب وثقة من أن النصر من عند الله تعالى :
{ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] .
وما أن بدأت المعركة حتى بدأ توالي النعم التي سوف تأني بالنصر ، إمداد بالملائكة ، بشرى لتطمئن القلوب ، وثقة من أن النصر من عند الله العزيز الحكيم .
ثم يأتي التذكير بالدلالة على ذلك فيقول المولى سبحانه وتعالى : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }
(1/3211)

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
والنعاس عبارة عن السِّنة الأولى التي تأخذ الإنسان عندما يحب أن ينام ، ويسميها العامة في مصر " تعسيلة " ويقولون : " فلان معسل " أي أخذته سِنَة النوم ، وهي ليست نوماً بل فتور في الأعصاب يعقبه النوم ، وهذا من آيات الله تعالى في أن يهب الإنسان راحة مؤقتة وليست نوماً . وسبحانه يقول عن ذاته العليا : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] .
أي أنه - جل وعلا - لا يأخذه النومُ الخفيفُ ولا النوم الثقيل . لأنّ السِّنة هي إلحاح من الجسم في طلب النوم ، ويكون نوماً خفيفاً ، وسبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فهو عز وجل لا يتجسد أو يتمثل في شيء ، لا السِّنة تأخذه ولا النوم يقاربه ، ونلحظ أن الإنسان إذا ما تكلم بجانب من تأخذخ السِّنة فهو يصحو وينتبه . أما النائم بعمق فقد لا يصحو .
فالسِّنة - إذن - هي الداعي الخفيف للراحة . أما النوم فهو الداعي الثقيل . وهنا أنزل الله عليهم النعاس بمثابة مقدمة للنوم ليستريحوا قليلاً . ونعلم أن النوم آية من آيات الله عز وجل في كونه؛ لأن الجسم حين يعبر عن نفسه بالحركة والطاقة ويأكل الغذاء ويشرب الماء ويتنفس الهواء ، كل ذلك يتحول إلى طاقة ثم إلى وقود للحركة .
وهذه الطاقة تتكون بالتفاعل بين العناصر المختلفة ، من تمثيل للغذاء وتحويل الطعام إلى نوعيات مختلفة لتغذية كل خلية من خلايا الجسم بما يناسبها ، ثم استخلاص " الأوكسجين " عبر التنفس وطرد ثاني أكسيد الكربون ، وعشرات الآلاف من التفاعلات الكيميائية لا توجد بها فضلات لتخرج ، وهي تختلف عن التفاعلات الأخرى التي تخرج منها الفضلات من أحد السبيلين ، أو من صماخ الأذن أو غير ذلك .
ومثل هذه الفضلات إنما تنتج من الاحتراقات التي نقول عنها : " العادم " في الآلات الميكانيكية . والعادم هو نتيجة الاحتراق وهي غازات تنفصل لتسير الحركة . وفي الإنسان نجد العادم يتمثل في الغائط ، وما خرج من صماخ الأذن ، و " عماص العين " ، والعرة ، كلها عوادم . لكنْ هناك لون من تركيبة هذه التفاعلات يُمثل لإيجاد الطاقة وليس له عادم .
والوسيلة الأساسية لاستعادة التوازن الكيميائي المناسب للإنسان هي أن نريح الجسم ، وتتفاعل مواد الجسم مع نفسها ويعود طبيعياً . وهذا لا يحدث إلا بالنوم . ولذلك نجد الإنسان حين يسهر كثيراً ويذهب إلى النوم يشعر برجليه وقد " خدلت " أو كما يقال : " نملت " . وهذا نتيجة عجز مواد الجسم عن التفاعل الذي تحتاجه نتيجة اليقظة ، وهذه كلها مسائل لا إرادية . بدليل أن الإنسان يرغب أحياناً في أن ينام ، ويتحايل أحيانا على النوم فلا يأتيه؛ لأن النوم من العمليات المختصة بالحق سبحانه وتعالى ، وهو آية من آيات الله في هذا الكون ، ومن ضمن الآيات العجيبة .
(1/3212)

واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ الروم : 23 ] .
وحين حاول العلماء الباحثون أن يفسروا ظاهرة النوم ، وضعوا عشرات النظريات ، وآخر التجارب التي أجريت أنهم أحضروا إنسانا وعلقوه كالرافعة من وسطه ، وكأنه عصا مرفوعة من وسطها بتوازن ، وجعلوا كل نصف من النصفين متساوياً في الوزن ، وحين جاء النوم لهذا الإنسان محل التجربة وجدوا أن جهة من النصفين مالت ، وكأن ثقلاً ما جاءها من النصف الآخر فزادت كتلتها ، وهذا آخر ما درسوه في النوم ، هذه التجربة أثبتت أن النوم عجيبة من العجائب التي تستحق أن يقول الحق تبارك وتعالى عنها : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ الروم : 23 ] .
وانظر إلى كلمة " النهار " هذه تر فيها الرصيد الاحتياطي الموجود في آية النوم؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل } .
وفي هذا القول رصيد احتياطي لمن جاء له ظرف من الظروف ولم ينم بالليل ، فيعوض هذا الأمر وينام بالنهار ، ومن حكمة الله تعالى أنه ذيل هذه الآية بقوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .
وهذا بسبب أن النوم يعطل كل طاقات الجسم ، فعندما ينام الإنسان لا يقدر جسمه على أن يتحرك التحرك الإداري ، إلا السمع فهو باق في وظيفته؛ لأن به الاستدعاء ، وإنَّ العين - مثلاً - لا ترى أثناء النوم ، إنما الأذن تسمع ولا تتخلى عن السماع أبداً؛ لأن بالأذن يكون الاستدعاء ، فإذا ما نادى الأب ابنه وهو نائم فهو يسمع النداء . لذلك قلنا سابقاً : إنَّ الحق سبحانه وتعالى حينما أراد أن ينيم أهل الكهف ثلثمائة سنة وازدادوا تِسْعا ، قال تعالى : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] .
لأنه لو لم يضرب على آذان أهل الكهف لظل السمع باقياً ، فإذا ظل السمع ، أهاجته الأعاصير ، وعواء الذئاب ، وزئير الأسود ، ولما استطاعوا النوم طيلة هذه المدة .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] .
وقد يتبادر إلى الأذهان سؤال هو :
وهل هناك نعاس غير أمنة؟ والجواب نعم؛ لأنه مجرد الراحة من تعب لتنشط بعدها ، هذا لنفهم أن " أمنة " جاءت لمهمة هي تهدئة أعماق المؤمنين في المهيجات المحيطة ، فهذا عدو كثير العدد ، وهو بلا عتاد؛ لذلك شاء الحق تبارك وتعالى ألا يضيع منهم الطاقة اللازمة للمواجهة ، ولا تتبدد هذه الطاقة في الفكر؛ لذلك جعل نعاسهم مخصوصاً يغلبهم وهو " نعاس أمنة " ، وجعل المولى عز وجل من هذا النعاس آية ، حيث جاءهم كلهم جميعا ، وهذه بمفردها آية من آياته سبحانه وتعالى ولو غلبهم النوم العميق لمال عليهم الأعداء مَيْلًة واحدة ، ولكنهم أخذوا شيئاً من الراحة التي فيها شيء من اليقظة .
(1/3213)

{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً } .
وهنا النعاس مفعول به ، وهو أمنة من الله ، وسبحانه يقول في آية أخرى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } [ آل عمران : 154 ] .
هنا في آية الأنفال نعاس وأمنة ، وهناك في آية آل عمران أمنة ونعاس؛ لأن الحالتين مختلفتان - فتوضح آية آل عمران أن التعاس قد غشى طائفة واحدة من المقاتلين في غزوة أحد بعد أن أصابهم الغم في هذه الغزوة ، وهؤلاء هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما في سورة الأنفال فتبين الآية أن النعاس قد غشى الجيش كله حيث كان الجميع على قلب رجل واحد والإيمان يملأ قلوبهم جميعا ولا يوجد بينهم منافق أو مرتاب فغشيتهم جميعا هذه الأمنة بالنعاس؛ لأنه يزيل الخوف ، ومن دلائل الأمن والطمأنينة والثقة بنصر الله .
ويقول الحق تبارك وتعالى متابعاً في ذات الآية :
{ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } [ الأنفال : 11 ] .
ومعنى التطهير أن هناك حادثاً يستحق التطهر منه وهم لم يجدوا ماءً ليتطهروا به حيث كان المشركون قد غلبوا المسلمين على الماء في أول الأمر ، فظمئ المسلمون وانشغلوا بالعطش ، وبالرغبة في تطهير أجسامهم ، وهذا يدل على أن المؤمن يجب أن يظل نظيفاً ، رغم الوجود في المعركة التي لو استمر فيها الواحد منهم يوماً أو اثنين دون استحمام ، لما لامه أحد على ذلك ، وجاء هذا القول ليدل على حرص المؤمن على النظافة إن خرج شيء من الإفرازات والعرق ، أو كان التطهر من رجز الشيطان؛ لأن الشيطان خيل لهم منامات جنسية ، وأخذ يوسوس قائلا لهم : أنتم تقولون إنَّكم على حق ، فكيف تصلون وأنتم جنب؟ وكان مجرد حدوث هذا الأمر لهم جميعاً هو آية أخرى من الآيات . فأغاظ الله الشيطان وأنزل عليهم الماء ليشربوا ويتطهروا .
ويقول المولى سبحانه وتعالى في ذات الآية : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام }
وأراد الحق تبارك وتعالى أن يطمئن المؤمنين فلا تتوزع أو تتشتت مشاعرهم ، وما أن نزل المطر حتى حفروا الحفر ليتجمع فيها الماء ، وهكذا حماهم سبحانه وتعالى من نقص الماء ، كما أن نزول المطر على الأرض الرملية نعمة كبرى - من جهة أخرى - حيث يثبت الرمال على الأرض فلا تثير غباراً ، ونعلم أن الإنسان حين يسير على الأرض ، فإن ثقلة يدك ما تحته مما يحتمل الدك على قدر وزنه ، فالطفل الصغير حينما يمشي على الرمال ، فأثر سيره يكون بسيطاً ، عكس الرجل الضخم ، وإن قستها بالنسبة لوزن الصبي أو الغلام ، وبوزن الرجل الممتلئ ، تجد أن الأرض قد غاصت بنسبة الكتلة التي سارت عليها ، وحين يسير الناس دون عمل ولا يقصدون غير السير ، يكون الثقل خفيفاً ، أما حين يدخل الرجال الحرب فالأقدام قد تغوص في الرمال وقد يصير جزءٌ من جسد المقاتل معطلاً عن الحركة؛ لأن القدم هي التي تحقق التوازن .
(1/3214)

إن هذه من حكمة الله تعالى ، ونحن نرى ذلك في حياتنا ، فنجد أهل الريف يضعون فوق جداول الماء جزع نخلة أو " عرقاً " من الخشب ليسير عليه الإنسان بين الشطين ، وإن فكّر السائر في هذه المسألة قد يقع في الماء ، لكنه إن ترك رجليه للسير تلقائيا ، فهو يمشي محققاً التوازن ، ومثل الأمر يحدث في صناعة سلالم البيوت ، إننا نجدها متساوية في ارتفاع درجاتها ليصعد الإنسان صعوداً رتيباً من غير تفكير ، فإذا اختلت درجة واحدة في السلم بأن كا ارتفاعها مختلفا عن بقية الدرجات يختل التوازن ويقع الإنسان؛ لأن الساق ضبطت نفسها آليا على هذا الوضع .
ولذلك نجد الصعود على السلالم الحلزونية متعباً لأن السلالم الحلزونية فيها جهة واسعة وأخرى ضيقة . وقد يرتبك الإنسان أثناء الصعود ، ولهذه الأسباب نجد الجيوش تكشف طبيّاً على المجندين ، ولا يختارون إلا الشخص المستوي القدمين لتستقبل أقدامه كل الظروف ويكون قادراً على مواجهة الظروف غير العادية ، ومن عظمة الخالق سبحانه وتعالى أن جعل كل عضو من الأعضاء له مواصفات خاصة .
وسبحانه يذيل هذه الآية بقوله عز وجل : { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام }
وتثبيت الأقدام من جهة يمثل أمراً معنويّاً ، ومن جهة أخرى يكون تثبيت الأقدام " بمعنى أن نزول المطر جعل الأرض ثابتة " ولا تثير الغبار أو الرمال ، وسبحانه هو القائل في مناسبة أخرى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قاتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ آل عمران : 146 - 147 ] .
وهكذا نفهم أن تثبيت الأقدام له ألوان متعددة ، حسيّة ومعنوية .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ . . . }
(1/3215)

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
والمولى سبحانه وتعالى هنا يبين أنه أوحى إلى الملائكة بالإلهام : أني معكم بالنصر والتأييد { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } .
أي قوُّوا عزائم المؤمنين وثبتوا قلوبهم . أي اجعلوا قلوبهم كأنها مربوطة عليها فلا يخافون أية أغيار من عدوهم ، ويزيد الإيضاح للمؤمنين : إياكم أن تظنوا أن كثرةَ العدَدِ أو قوةَ العُدَدِ هي التي تصنع النصر . بل النصرُ دائماً من عند الله تعالى وسبحانه القائل : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 249 ] .
وذلك لأن النسبة بين المؤمنين والكافرين غير متوازنة وتحتاج إلى مدد عال من الله تعالى . وقلنا إن السماء تتدخل إذا كان الأمر فوق أسباب الخلق ، ولذلك يقول سبحانه وتعالى : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] .
وإن قال قائل : أنا أدعو الله أكثر من مرة ولا يجيبني . . نرد عليه ونقول له : أنت لم تدع دعوة المضطر ، بل دعوت دعوة المترف ، مثلما يدعو ساكن في شقة بأن يرزقه الله بقصرٍ صغير . أو يدعو من يسير على أقدامه وتحمله سيارة العمل طالباً سيارة خاصة ، أو يدعو من يملك " تليفزيونا " بأن يهبه الله جهاز " فيديو " ، هذه كلها ليست دعوة اضطرار؛ لأن المضطر هو من فقد أسبابه .
ويتابع الحق القول في ذات الآية : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] .
وإذا ألقى الله عز وجل الرعب والخوف في قلوب العدو مهما كان عَدَدُه ومهما كانت عُدَدُه ، فسيترك هذا العدو كل ما معه ويفر من حالة الرعب والفزع ، وقد فعل بعض من الكفار ذلك . وقد امتنَّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن أمدهم بالملائكة بشرى واطمئناناً ، وهيأ لهم الماء ، وطهرهم ، وأذهب عنهم رجز الشيطان ، وكل هذه مقدمات المعركة مستوفاة من جانب الحق تبارك وتعالى إمداداً لكم ، وما عليكم أيها المؤمنون سوى أن تُقبلوا على المعركة بعزيمة صادقة ، عزيمة المقاتل الشجاع المحارب الذي له من العقل ما يفكر به ويدبر في التخطيط ، وفي الكر والفر .
وكانت أدوات القتال قديماً هي السيوف والرماح والنبال ، وكان المقاتل يحتاج رأسه ليخطط به ، ويحتاج يديه وأنامله ليمسك بها السيف ، ولذلك ينبه الحق المؤمنين إلى هاتين النقطتين المؤثرتين فيقول : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } .
والضرب لما فوق الأعناق هو ضرب الرأس فيفقد القدرة على التفكير ، أو تذهب حياته لينتهي ، وإن بقي على قيد الحياة فسوف يشاهد مصارع زملائه وذلتهم . والضرب منهم في كل بنان . . أي ضربهم بالسيوف في أيديهم؛ لأن الضرب في الأيدي إنما يجرحها ويجعلها عاجزة عن القتال .
لماذا؟ . يجيب الحق في الآية التالية : { ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ . . . }
(1/3216)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
وهنا يوضح الحق سبحانه وتعالى : أن هذا النصر المؤزر للنبي وصحبه والهزيمة للمشركين؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله ، و " شاقوا " من " الشق " ومعناه أنك تقسم الشيء الواحد إلى اثنين . وكان المفروض في الإنسان منهم أن يستقبل منهم الله الذي نظم له حركته في هذا الكون ، ولم يكن هناك داع لتبديد الطاقة بالانشقاق إلى جماعتين؛ جماعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجماعة مع الكفر والشرك؛ لأن الطاقة التي كانت معدة لإصلاح أمر الإنسان والكون للخلافة؛ إنما يتبدد جزء منها في الحروب بين الحق والباطل ، ولو توقفت الحروب لصارت الطاقة الإنسانية كلها موجهة للإصلاح والارتقاء والنهوض وتحقيق الخير لبني الإنسان ، لكنهم شاقوا الله ورسوله ، فجعلوا أنفسهم في جانب يواجه جانب المؤمنين بالله ورسوله ، فجعلوا أنفسهم في جانب يواجه جانب يواجه جانب المؤمنين بالله والرسول؛ لذلك استحقوا عذاب الله وعقابه ، وبسبب أنهم شاقوا الله ورسوله ، عليهم أن يتحملوا العقاب الشديد من الله ، فيقول سبحانه وتعالى :
{ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 13 ] .
وهذه قضية عامة ، وسنة من الله في كونه تشمل هؤلاء الذين شاقوا الله ورسوله من بدء الرسالة ، وإلى قيام الساعة .
ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك : { ذلكم فَذُوقُوهُ . . . }
(1/3217)

ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
وذلكم إشارة للأمر الذي حدث في موقعة بدر من ضرب المؤمنين للكافرين فوق الأعناق ، وضرب كل بنان كافر ، وإن ربنا شديد العقاب ، وهذا الأمر كان يجب أن يذوقه الكافرون . والذوق هو الإحساس بالمطعوم شراباً كان أو طعاماً ، إلا أنه تعدى كل محسّ به ولو لم يكن مطعوماً أو مشروبا ويقول ربنا عز وجل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
أي ذق الإهانة والمذلة لا مما يُطعم أو مما يُشرب ، ولكن بالإحساس؛ لأن ذوق الطعام هو الحاسة الظاهرة في الإنسان؛ قد يجده بالذوق حريفاً ، أو حلواً ، أو خشناً أو ناعماً إلى غير ذلك . وها هو ذا الحق يضرب لنا المثل على تعميم شيء : فيقول عز وجل : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] .
والجوع سلب الطعام ، فكيف تكون إذاقة الجوع؟ الجوع ليس مما يذاق ، ولا اللباس مما يذاق ، ومن قول الحق تبارك وتعالى نفهم أن الإذاقة هي الإحساس الشديد بالمطعوم ، واللباس - كما نعلم - يعم البدن ، فكأن الإذاقة تتعدى إلى كل البدن ، فالأنامل تذوق ، والرجل تذوق ، والصدر يذوق ، والرقبة تذوق؛ وكأن الجوع قد صار محيطاً بالإنسان كله . وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى : { ذلكم فَذُوقُوهُ } .
والذوق غير البلع والشبع ، ونرى ذلك في عالمنا السِّلعي والتجاري؛ فساعة تشتري - على سبيل المثال - جوافة ، أو بلحاً أو تيناً ، يقول لك البائع : إنها فاكهة حلوة ، ذق منها ، ولا يقول لك كل منها واشبع ، إنه يطلب منك أن تجرب طعم الفاكهة فقط ثم تشتري لتأكل بعد ذلك حسب رغبتك وطاقتك . وما نراه في الدنيا هو مجرد ذوق ينطبق عليه المثل الريفي " على لساني ولا تنساني " ، والعذاب الذي رآه الكفار على أيدي المؤمنين مجرد ذوق هيّن جدًا بالنسبة لما سوف يرونه في الآخرة من العقاب الشديد والعذاب الأليم ، وسيأتي الشبع من العذاب في الآخرة ، لماذا؟ { ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 13 ] .
وهذا اللون من إذاقة الذل والإهانة في الدنيا لهؤلاء الكفار المعاندين ، مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب الله على الكفر ، وفي يوم القيامة يطبق عليهم القانون الواضح في قوله سبحانه وتعالى : { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار }
إذن فالهزيمة لمعسكر الكفر والذلة هي مجرد نموذج ذوق هين لما سوف يحدث لهم يوم القيامة من العذاب الأليم والحق سبحانه وتعالى هو القائل : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } [ الطور : 47 ] .
وعذاب الآخرة سيكون مهولاً ، و " العذاب " هو إيلام الحس ، إذا أحببت أن تديم ألمه ، فأبق فيه آلة الإحساس بالألم ، ولذلك تجد الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن سليمان والهدهد يقول : { وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 20 - 21 ] .
كأن الذبح ينهي العذاب ، بدليل أنّ مقابل العذاب في هذا الموقف هو الذبح .
وماذا عن عذاب النار؟ . إن النار المعروفة في حياتنا تحرق أي شيء تدخله فيها ، لكنّ نار الآخرة تختلف اختلافا كبيرا لأن الحق هو القائل : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب } [ النساء : 56 ] .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ . . . }
(1/3218)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
ونعلم أن نداء الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين بقوله : { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا } ، إما أن يكون بعدها أمر بمتعلق الإيمان ومطلوبه ، وإما أن يكون بعدها الإيمان نفسه ، ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] .
وبعضهم يقول : كيف ينادى مؤمنين ثم يقول لهم : " آمِنوا "؟ ، وهؤلاء المستفهمون لمْ يلتفتوا إلى أن الحق حين يكلم المؤمنين يعلم أنهم مؤمنون بالفعل ، ولكن الأغيار في الاختيار قد تدعوهم إلى أن يتراخى البعض منهم عن مطلوبات الإيمان . و " آمنوا " الثانية معناها : أنشئوا دائما إيماناً جديداً أي مستمراً يتصل بالإيمان الحاضر والإيمان المستقبل ، ليدوم لكم الإيمان .
فإذا كان ما بعد { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا } أمراً بمطلوب الإيمان ، من حكم شرعي ، أو عظة أخلاقية . يكون أمرها واقعاً ، والمعنى : يا من آمنتم بي إلهاً قادراً حكيماً ، ثقوا في كل ما آمركم به لأني لا آمركم بشيء فيه مصلحة لي؛ لأن صفات الكمال لي أزلية ، فخلقي لكم لم ينشئ صفة كمال ، فإن كلفتكم بشيء ، فتكليفي لكم يعود عليكم بالنفع والمصلحة لكم ، وضربنا المثل - ولله المثل الأعلى منزّه عن كل مثل - أنت تذهب إلى الطبيب بعد أن تتشاور مع أهلك وزملائك وتكون واثقاً بأن هذا هو الطبيب الذي ينفع في هذه الحالة التي تشكو منها ، وساعة تذهب إليه يشخص لك المرض ويكتب لك الدواء ، وسواء استخدمت الدواء أم لم تستخدمه فأنت حر وأثر ذلك يعود عليك وعود استعمالك الدواء لن يضر الطبيب شيئاً ، بل أنت الذي تضر نفسك ، كذلك منهج الله الذي جعله لصلاحية حركة الحياة . إن اتبعته وطبقته تنفع نفسك ، وإن تركته فلم تطبقه فسوف تضر نفسك ، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] .
إذن فالاختيار لك والله سبحانه وتعالى قد خلقك ، وخلق الكون الذي يخدمك من قبل أن توجد ، وأنت طارىء على هذا الكون ، طارىء على الشمس وعلى القمر ، وعلى الأرض ، وعلى الجبال ، وعلى الماء وعلى أي شيء في هذا الوجود . والذي خلق ما سبقك لا بد أن تكون له صفات الكمال المطلق . فهو سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء بالحكمة والنظام ، وما دامت له سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق المستوعبة ، فهو لا يطلب منك بالتكاليف أن تنشىء له صفات كمال جديدة ، وهو غني عنك . فإذا اقتنعت بالإيمان فلمصلحتك أنت ، ولم يكلفْك إلا بالأحكام التي تصلح من حالك . وحيثية كل حكم هو تصديره ب { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا } .
إياك أن تبحث عن علة في الحكم؛ لأنك لو ذهبت إلى الحكم لعلته ، لاشتركت مع غير المؤمنين ، فالمؤمن - مثلا - حين سمع الأمر باجتناب الخمر ، امتثل للحكم لأنه صادر من الله ، من بعد ذلك عرف غير المؤمنين - بالتحليل العلمي - أن الخمر ضارة فامتنعوا عنها ، فهل امتناعهم هو امتناع إيماني؟ لا .
(1/3219)

إذن فإن المؤمن يأخذ الأمر من الله عز وجل لا لعلة الأمر بل لمجرد أنه قد صدر من الله؛ لذلك يمتثل للأمر وينفذه . . فالمسلم يمتثل لأوامر الله ويؤدي العمل الصالح دون بحث أو تساؤل عن علته ، فحين يقال - على سبيل المثال - إن من فوائد الصيام أن يذوق الغني ألم الجوع ، ويعطف على الفقير ، حين أسمع من يقول ذلك أقول له : قولك صحيح لأن فيه لمسة من فهم ، لكن ماذا عن صوم الفقير الذي ليس عنده ما يعطيه لغيره ، ألا يصوم أيضاً؟ .
إن المؤمن يصوم لأن الأمر جاء من الله بالصيام . ومعظم أحكام الله تأتي مسبوقة بقوله : { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا } ، أي : يا من آمنتم بي إلهاً أقبلوا عليّ ، فإنكم إن بحثتم عن العلة ، ثم نفذتم الحكم لعلته فأنتم غير مؤمنين بالإله الآمر والمشرع ، لكنكم مؤمنون بعلة المأمور به ، والله يريدك أن ترضخ له فقط ، ولذلك يأمرك بأوامر وينهاك بنواهٍ ، فأنت - مثلا - حين تحج بيت الله الحرام ، تسلم على الحجر الأسود بأمر من الله ، وقد تتيح لك الظروف أن تقبِّل هذا الحجر كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت في كل ذلك لا ترضخ للحجر . بل للآمر الأعلى الذي بعث محمداً بحرب على الأصنام وعلى الأحجار ، وأنت تتبع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنتهى التسليم والإيمان ، وتذهب بعد ذلك لترجم الأحجار التي هي رمز إبليس . وتفعل ذلك تسليماً لأوامر الله تعالى التي بلغتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } [ الأنفال : 15 ] .
فما دمت قد آمنت بالإله ، لا بد أن تدافع عن منهج الإله؛ لأن هذا أيضاً لمصلحتك؛ لأنك بإيمانك بالله أيها المؤمن ينتفع المجتمع كله بخيرك ، ولن يأمرك سبحانه إلا بالخير ، فلن تسرق ، ولن تزني ، ولن تشرب خمراً ، ولن تعربد في الناس ، ولن ترتشي ، وبكل ذلك السلوك ينتفع المجتمع؛ لأن المجتمع يضار حين يوجد به فريق غير مهتدٍ . وأنت حين تقاتل لتفرض الكلمة الإيمانية هلى هؤلاء ، فهذا يعود إلى مصلحتك ، ولذلك فإن اتصافك بالإيمان لا يتحقق إلا إن عديته لغيرك ، ومن حبك لنفسك ، أن تعدى الإيمان بالقيم التي عندك إلى غيرك لتنتفع أنت بسلوك من يؤمن ، وينتفع غيرك بسلوكك معه ، ومن مصلحتك أن يؤمن الجميع .
وحين يكلفك الحق تبارك وتعالى بالجهاد في سبيل الله فأنت تفعل ذلك لصالحك .
{ يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } [ الأنفال : 15 ] .
(1/3220)

وزحفاً مصدر زَحَف ، والزحْف في الأصل هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر بالنصف الأعلى من الجسم . وتقول : " الولد زحف " أي تحرك من مكانه بنقل يديه وشد بذلك بقية جسمه . كما نقول : " حبا " . أي استعمل الوركين والركبتين ليتحرك بجسده على الأرض ، ثم نقول : " مشى " أي وقف على قدميه وسار ، فتلك إذن مراحل تبدأ من زَحْف ثم حَبْو ثم مَشْى ، والطفل يبدأ حركته الأولى بالزحف ، بعد أن يتمكن من السيطرة على رأسه ، ويمتلك القدرة على تحريكها بإرادته ، ويقوى نصفه الأعلى ، فيقعد ، ثم يزحف ، وبعد ذلك تقوى فخذاه فيحبو ، ومن بعد ذلك تقوى الساقان فيمشي .
إذن قوة الطفل تبدأ من أعلى .
ولكن ما حكاية " زحفا " هنا في هذه الآية الكريمة؟ ولماذا لم يقل هًرْولوا إلى القتال؟ . ونقول : إن الزحف هو انتقال كتلته لا ترى الناقل فيها ، فمن يراها يظن أن الكتلة كلها تتحرك .
وكأن الحق تعالى يقصد : أريد منكم أن تتحركوا إلى الحرب كتلة واحدة متلاصقين تماماً فيظهر الأمر وكأنكم تزحفون . وزحفاً أصلها زاحفين ، وقد عدل سبحانه وتعالى عن اسم الفاعل وجاء بالمصدر ، مثلما نقول عن إنسان عادل : إنه إنسان عدل ، أي أن عدله مجسم . ولذلك نجد الشاعر يقول عن الجيش الزاحف :
خميس بِشَرْقِ الأرضِ والغربِ زحفُه ... وفي أذنِ الجوزاءِ منه زمازم
والخميس هو الجيش الجرار ، ويريد الشاعر أن يصوّر الزحف كأنه كتلة واحدة متماسكة ومترابطة ، بحيث لا تستطيع أن تميز حركة جندي من حركة جندي آخر ، حتى ليخيّل إليك أن الكتلة كلها تسير معاً . ومن يريد أن يتأكد من ذلك ندعو الله أن يكتب له الحج ويصعد إلى الدور الثاني من الحرم المكي الشريف ويرى الطائفين ، ويجدهم ملتحمين جميعاً كأنهم كتلة واحدة تسير ، ولذلك سمّوها " السيل " .
و " سالت بأعناق المطي الأباطح "
مَثلُهم مثل السيل في تدفقه لا تفرق فيه نقطة عن أخرى .
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هنا أن لقاء الكفار يجب أن يكون زحفاً أي كتلة واحدة متماسكة ، فيصيب المشهد الكافرين بالرعب حين يرون هذه الكتلة الضخمة التي لا يفرق أحد بين أعضائها ، وهكذا تكون المواجهة الحقيقية .
ويواصل الحق سبحانه وتعالى التنبيه فيقول :
{ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } [ الأنفال : 15 ] .
أي لا تعطوهم ظهوركم ، وهو سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ] .
ويريد الله أن يعطي صورة بشعة في أذن القوم؛ لأن " الأدبار " جمع " دبر " والدبر مفهوم أنه الخلف ويقابله القُبُل ، وهذا تحذير لك من أن تمكن عدوك من ظهرك أي دبرك ، لأن هذا أمر مستهجن ، ولذلك نجد الإمام عليا - كرّم الله وجهه - يرد على من قالوا له إن درعك له صدار وليس له ظِهار ، أي مغطى من الصدر ، وليس له ظهر . وهنا يقول الإمام على رضي الله عنه : " ثكلتني أمي إن مكّنت عدوي من ظهري " ، وكأن شهامة وشجاعة الإمام تحمله على أنه يترك ظهره من غير وقاية .
وفي قول الحق جل وعلا { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } تحذير من الفرار من مواجهة العدو .
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ . . . }
(1/3221)

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة لم يرتب الغضب منه إلا على من يولي الدبر هَرباً وفراراً من لقاء الأعداء . أما الذي يولي الدبر احتيالاً ولإيهام العدو بأنه ينسحب وفي ذات اللحظة يعاود الكرّة على العدو مطوّقاً له ، فهذا هو المقاتل الحق والصادق في إيمانه الذي يمكر بالعدو . وكذلك من يولي الدبر متحيزاً إلى فئة مؤمنة ليعاود معها الهجوم على الأعداء حتى لا تضيع منه حياته بلا ثمن ، فهذا أيضاً من أعمل فكرة ليُنزل بالعدو الخسارة؛ لأن المؤمن يحرص دائما على أن يكون موته بمقابل ، فإذا ما وعده الله بالجنة . ألا يقاتل هو ليصيب الأعداء بالهزيمة؟ . وكان ثمن المؤمن من قبل عشرة كافرين ، بمعنى أن الله تعالى منح كل مؤمن قوةً تغلب عشرة ، مصداقاً لقوله عز وجل : { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ]
ولكن علم الله أن بالمؤمنين ضعفاً فجعل مقابل المؤمن في المعركة اثنين من الكفار ، مصداقاً لقوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } [ الأنفال : 66 ]
ولذلك فإننا نجد الذي يفر أمام ثلاثة من الأعداء لا يسمى فارًا في الحكم الشرعي . لكن من يفر من مواجهة اثنين ، يعد فارّاً؛ لأن الحق تعالى قال قبل أن يوجد فينا الضعف : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ]
أي أن المقاتل المؤمن كان يمكنه أن يواجه عشرة من الكافرين . فإن كان المقابل أقل من عشرة كافرين ، فعلى المؤمن أن يحافظ على نفسه حتى لا يموت رخيص الثمن . ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى أن الضعف سيصيب المؤمنين؛ لذلك قال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] .
وهكذا انتقلت النسبة بين المؤمنين والكافرين من واحد لعشرة ، إلى مؤمن مقابل اثنين من الكفار ، وهذا من رحمة الله تعالى ، فمن رأى نفسه في مواجهة أكثر من اثنين من الأعداء يوضح له الحق تعالى : عليك أن تنحاز إلى فئة من المؤمنين تعصمك من نيلهم منك بلا ثمن .
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } [ الأنفال : 16 ] .
وعرفنا أن المتحرف للقتال هو صاحب الحيلة ، ونقول في ألفاظنا التي تجري على ألسنتنا في حياتنا اليومية : " فلان حريف " أي لا يغلبه أمر ويحتال عليه ، وهكذا يكون المتحرف في القتال الذي يكيد للكافرين ويدبر لهم أشياء فيظنون الانهزام ، وهي في الواقع مقدمات للنصر ، وقوله سبحانه : " أو متحيزا " مأخوذ من " الحيز " ، وهو المكان الذي يشغله الجسم ، وكل واحد منا له " حيز " في مكان يشغله ، أي أن كل واحد منا متحز ، والحيز هو الظرف المكاني الذي يسع الإنسان منا واسمه ظرف مكان ، وكل واحد من المخاطبين له مكان وهو متحيز بطبيعته ، وجاءت كلمة " متحيز " في هذه الآية لتوجه كل مؤمن مقاتل أن يأخذ لنفسه حيزاً جيداً يمكنه من إصابة الهدف ، وكذلك تفيد ضرورة انضمام المقاتل دائما إلى فئة مع إخوانه بهدف تقوية المواجهة مع العدو .
(1/3222)

ومن لا يفعل ذلك فعليه أن يتلقى العقاب من الله ، وقد بينه تعالى في قوله سبحانه : { فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ الأنفال : 16 ] .
و " باء " تعني رجع ، والتعبير الأدائي في القرآن الكريم مناسب لما فعلوه؛ لأن من يعطي الأعداء دبره فهو الراجع عن الزحف والقتال . لكن من يرجع بهدف الكيد للأعداء والمناورة في القتال أو لتقوية جماعة أخرى من المؤمنين ، فهذا له وضع مختلف تماما ، إنه ناصر لدين الله ، عكس المنسحب الفار الذي يصحبه في انسحابه غضب من الله ، والغضب من الله - كما نعلم - هو سبب من أسباب إنزال العذاب ، ولهذا يقول الحق تبارك وتعالى :
{ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] .
والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ، ونعلم أن الواحد منا حين يرغب في الراحة فهو يأوي إلى المكان الذي يجد فيه الراحة والأمن من كل سوء .
والفارُّ من مواجهة العدو في معارك الإسلام لن يجد مأوى إلا النار ، بل وترحب به النار ويدور حوار بينها وبين الحق عز وجل يوم القيامة توضحه الآية الكريمة : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
ويُثْبتُ الحق في قرآنه الكريم أن النار تغتاظُ من الكافرين لأنها جندٌ من جنود الله تعالى ومسخرة لتنفيذ حكم الله ، فمن خالف المنهج في الدنيا تتلقاه النار بتغيظ وزفير ، ويسمع الكافرون تغطيتها حين تراهم من بعد ، والحق سبحانه هو القائل : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
وحين تكون النار هي المأوى ، أليس ذلك هو بئس المرجع؟ .
كأن الراجع من الزحف والفارَّ من مواجهة الأعداء ومخافة أن يُقتل ، سيذهب إلى شيء شر من القتل .
ثم يربب الحق في المؤمنين ويطلب منهم ألاّ يفتتنوا بالأسباب فيقول سبحانه : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى . . . }
(1/3223)

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
وقول الحق تبارك تعالى :
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] .
مثل قوله تعالى في آية أخرى : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 126 ] .
وفي هذا ترتيب من الحق تبارك وتعالى للمؤمنين ، فكما أن النصر من عند الله عز وجل لمن أخذ بالأسباب ، كذلك قتل الكافرين كان بإرادته سبحانه لمن كفر ووقع هذا القتل بيد المؤمن ، فالمؤمن يضرب بالسيف ، وينجرح العدو وينزف ، لكن ألم تر جريحاً لم يمت ، وألم تر غير مجروح يموت؟ . إذن فالقتل هو من الله .
سبحان ربي إن أراد فلا مرد له يفوت ... كم من جريح لا يموت وغير مجروح يموت
إذن فالمؤمنون حين حاربوا أهل الكفر . إنما يجرحونهم فقط ، أما الموت فهو واقع بهم من الله سبحانه وتعالى .
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] .
ولقائل أن يقول : إن الحق تبارك وتعالى قال في موقع آخر : { قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] .
إذن فللمؤمن المقاتل مظهرية القتال ، وللحق حقيقة القتل . ولذلك يأتي سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله :
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
وفي هذا القول الكريم عطاء لشيء كان مجهولا لهم بشيء عُلِم لهم ، وبذلك قاس غير معلوم بمعلوم . وعرفنا من قبل أنك إذا رأيت حدثاَ أو فعلاً منفياً ومثبتا له في وقت واحد ، قد يبدو لك أن في الكلام تناقضاً . وهنا - على سبيل المثال - ينفي الحق الحدث في قوله : " وما رميت " وثبته في قوله : " إذ رميت " . والرمي معروف . والفاعل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف ينفي عنه الفعل أولاً ، ويثبته له ثانياً؟ .
ونعلم أن القائل هو رب حكيم ، وأسلوبه على أعلى ما يكون . وحتى نفهم هذه المسألة ، نحن نعرف أن كل حدث له هيئة يقع عليها وله غاية ينتهي إليها ، فمرة يوجد الحدث ، لكن الغاية منه لا تتحقق ، مثلما يقول الوالد لولده : لقد قرب الامتحان فاجلس في حجرتك وذاكر . ويجلس الولد في حجرته وأمامه كتاب ما يقلب صفحاته ، وبعد ساعة يدخل الأب حجرة ابنه ليقول : هات كتابك لأسألك فيما ذاكرته . ويسأل الأب ابنه سؤالاً ثم ثانياً فلا يعرف الابن الإجابة عن الأسئلة ، فيقول الأب : ذاكرت وما ذاكرت . أي كأنه لم يذاكر ، بل فعل الفعل شكليّاً ، بأن جلس إلى المذاكرة ، ولم يؤد ما عليه لأن أثر الفعل وهو المذاكرة لم يتحقق .
وفي غزوة بدر استنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه واستغاث ودعا الله ورفع يديه فقال :
" ( يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ، فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم ) فأخذ صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلاّ أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين "
(1/3224)

ومعلوم أنه ساعة تأتي ذرة تراب في عيني الإنسان يشتغل بعينيه عن كل شيء . إذن فقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
أي أنك يا رسول الله ما أرسلت بالرمية الواحدة - حفنة التراب - إلى عيون كل الأعداء؛ لأن هذه مسألة لا يقدر عليها أحد ، ولكنك " إذ رميت " أي أديت نصيحة جبريل لك ، أما الإيصال إلى عيون العدو فهذا من فعل الله القويّ القادر .
ويتابع سبحانه وتعالى قوله :
{ وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 17 ] .
والبلاء الحسن هنا هو خوض المعركة وحسن أداء القتال فيها .
ويخطىء الإنسان حين يظن أن البلاء هو نزول المصائب ، لا ، إن البلاء هو الاختبار بأية صورة من الصور . فالطالب الذي استذكر دروسه يكون الامتحان بالنسبة له بلاءً حسناً ، ومن لم يستذكر يكون الامتحان بالنسبة له يلاءً سيئاً . إذن فالابتلاء غير مذموم على إطلاقه ، ولا ممدوح على إطلاقه ، لكن بنتيجة الإنسان فيه هل ينجح أم لا .
وحتى نعرف أن القرآن يفسر بعضه بعضا فلنقرأ قول الحق تبارك وتعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] .
فالخير بلاء ، كما أن الشر بلاء ، وحين تستخدم الخير في خدمة منهج الله تعالى ولا تطغى به ، وحين تصبر على الشر ولا تتمرد على قدر الله ، فهذا كله اختبار من الله عز وجل ، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ } [ الفجر : 15 ] .
وهذا هو الابتلاء بالخير ، أما الابتلاء بالشر فيقول عنه الحق سبحانه : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أهانن } [ الفجر : 16 ] .
والابتلاء بالخير أو بالشر هو مجرد اختبار ، والاختبار كما وضحنا غير مذموم على إطلاقه ، ولا ممدوح على إطلاقه ، ولكنه يذم ويمدح بالنسبة لغايته التي وصل إليها المبتلي أو من يمر بالاختبار ، فإن نجح ، فهذا ابتلاء حسن ، وإن فشل ، فهو ابتلاء سيىء .
ونلحظ - على سبيل المثال - أن الطالب الذي ركز فكره ووقته وحبس نفسه وبذل كل طاقته في التحصيل والاستذكار طوال العام الدراسي ، هذا الطالب حين يدخل الامتحان . فهو يحاول أن يثأر من التعب الذي عاناه في التحصيل والإحاطة؛ لذلك يجيب على الأسئلة بدقة ، وكلما انتهى من إجابة سؤال إجابة صحيحة ، يشعر ببعض الراحة ، وإن حاول زميل له أن يشوش عليه فهو يصده ولا يلتفت إليه ، بل قد يستدعي له المراقب . والمؤمن الذي يشترك مع المؤمنين في البلاء الحسن فهو التلميذ الذي يؤدي ما عليه بإخلاص .
والذي يسمع همسة كل مؤمن ويرى فعله هو الحق سبحانه وتعالى ، ولذلك جاء بعد الحديث عن البلاء الحسن بقوله تعالى :
{ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 17 ] .
إذن فالله سبحانه وتعالى سميع بما تجهرون به وعليم بما تخفونه في صدوركم . وهو جل وعلا يعلم من حارب بقوة الإيمان ، ومن خالطته الرغبة في أن يرى الآخرون مهارته في القتال ليشيدوا ويتحدثوا بهذه المهارة . ولا أحد بقادر على أن يدلس على الله عز وجل .
ويقول سبحانه وتعالى من بعد ذلك : { ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ . . . }
(1/3225)

ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
و " ذلكم " إشارة إلى أن الأمر كان كذلك ، وسبحانه وتعالى هنا يخبرنا أنه موهن كيد الكافرين ، أي يضعف هذا الكيد ، ولسائل أن يقول : لماذا لا ينهاهم؟ ولماذا يضعف الكفر فقط؟ ونقول : إن إضعاف الكفر يُهَيّج على الإيمان ويحبب المؤمنين في الإيمان حين يرون آثار الكفر التي تفسد في الأرض وهي تضعف ، ولأن الحمية الإيمانية تزيد حين يهاج الإسلام من خصومه . إذن فبقاء الكفر لون من استبقاء الإيمان .
ويقول سبحانه بعد ذلك : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ . . . }
(1/3226)

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
و " تستفتحوا " من الاستفتاح وهو طلب الفتح؛ لأن الألف والسين والتاء تأتي بمعنى الطلب ، فنقول : استفهم أي طلب الفهم ، و " إن تستفتحوا " ، أي تطلبوا الفتح ، ونعلم أن المعنويات مأخوذة كلها من الأمر الحسيّ؛ لأن أول إلف للإنسان في المعلومات جاء من الأمور الحسّية؛ ثم تتكون للإنسان المعلومات العقلية . ومثال ذلك قولنا : " إن النار محرقة " ، وعرفنا هذا القول من تجربة حسّية مرت بأكثر من إنسان ثم صارت قضية عقلية يعرفها الإنسان وإن لم ير ناراً وإن لم ير إحراقاً .
وعندما تجتمع المحسات تتكون عند الإنسان خمائر معنوية وقضايا كلية يدير بها شئونه العامة ، ومثال ذلك : إننا نعرف جميعاً أن المجتهد ينجح ، وأخذنا هذه الحقيقة من الواقع ، تماماً كما أخذنا الحقيقة القائلة : إن المقصر والمهمل كل منهما يرسب .
وسبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه فيقول : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [ النحل : 78 ] .
أي أن الإنسان منا مخلوق وهو خالي الذهن ، وخلو الذهن يطلب الامتلاء ، وكل معلومة يتلقاها الذهن الصغير يستطيع أن يستظهرها فوراً ، ولذلك نجد التلمذ الصغير أقدر على حفظ القرآن الكريم من الشاب الكبير؛ لأن هذا الشاب الكبير قد يزدحم ذهنه بالمعلوم العقلي .
وقد شرح لنا علماء النفس هذه المسألة حين قالوا : إن لكل شعور بؤرة هي مركز الشعور . والأمر الذي تفكر فيه تجد المعلومات الخاصة به في ذهنك فوراً . وقد تتزحزح هذه المعلومات من ذاكرتك إذا فكرت في موضوع آخر ، كما تتزحزح المعلومات الخاصة بالموضوع السابق إلى حافة الشعور لتحل مكانها المعلومات الخاصة بالموضوع الجديد في بؤرة الشعور .
والحيز في المعنويات مثله مثل الحيز في الحسِّيات ، فأنت حين تملأ زجاجة بالمياه لا بد أن تكون فوهة الزجاجة متسعة لتدخل فيها المياه ويخرج الهواء الذي بداخل الزجاجة . لكن إن كانت فوهة الزجاجة ضيقة كفوهة زجاجة العطر مثلا فهذه يصعب ملؤها بالمياه إلا بواسطة أداة لها سن رفيع كالسرنجة الطيبة حتى يمكن إدخال المياه وطرد الهواء الموجود بداخل الزجاجة ذات الفوهة الضيقة .
وهكذا نرى أن الحيز في الأمور المحسة لا يسع كميتين مختلفتي النوعية ، ويكون حجم كل منهما مساوياً لحجم الحيز . وتقترب المسألة في المخ من هذا الأمر أيضاً ، فأنت لا تتذكر المعلومات الخاصة بموضوع معين إلا إذا كان الموضوع في مركز الشعور ، فإذا ما ابتعد الموضوع عن تفكيرك بعدت المعلومات الخاصة به إلى حاشية الشعور البعيدة . والطفل الصغير يكون خالي الذهن لذلك يستقبل المعلومات بسرعة ويكون مستحضرا لها .
ولذلك لا يجب أن نتهم إنساناً بالغباء وآخر بالذكاء لمجرد قدرة واحد على سرعة التَّذكر وعجز الآخر عن مجاراة زميله في ذلك ، فالذكاء له مقاييس متعددة ما زال العلماء إلى الآن يختلفون حولها .
(1/3227)

لكن في موضوع التذكر اتفق جانب كبير من العلماء على أن الذهن كآلة التصوير يأخذ المعلومة من أول لقطة شريطة أن تكون بؤرة الشعور خالية لهذه المعلومة . أما إن كانت بؤرة الشعور مشغولة بأمر آخر فهي لا تلتقط المعلومة . والحق سبحانه وتعالى هو القائل : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
والسمع والأبصار هما عمدة الحواس ، نأخذ بهما محسّات ونُكَوّنُ منها معلومات عقلية .
والحق تبارك وتعالى هنا يقول :
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } [ الأنفال : 19 ] .
والفتح يُطلق إطلاقات متعددة ، منها الحسّي ، مثل فتح الباب أو فتح الكيس ويقصد إزالة إغلاق شيء يصون شيئاً ، مثل فتح الباب ، والباب إنما يصون ما بداخل الغرفة . والفتح الحسّي يمثله القرآن الكريم بقول الحق تبارك وتعالى : { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } [ يوسف : 65 ] .
أي إن إخوة يوسف حين فتحوا الأخراج - وكانت هي بديلة الحقائب - وجدوا البضاعة التي كانوا قد أخذوها معهم ليستبدلوا بها سلعاً أخرى . وهذا هو الفتح الحسّي .
وقد يكون الفتح في الأمور المعنوية كالفتح في الخير وفي العلم مثل قول الحق تبارك وتعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .
إذن ففتح الرحمة فتح معنوي .
وقد يكون الفتح في الحكم؛ لأن الحكم يكون بين أطراف مشتبكة في قضية ، وكل طرف يدّعي على الآخر ، ويأتي الحكم ليزيل خفاء القضية ويَفْتَحها .
ومثال ذلك ما حدث بين سيدنا نوح عليه السلام وقومه . فقومه قالوا : { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } [ الشعراء : 116 ] .
فماذا قال سيدنا نوح عليه السلام؟ : { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين } [ الشعراء : 117 - 118 ] .
أي أن سيدنا نوحاً عليه السلام قد دعا الله أن يفصل في القضية التي بينه وبين قومه بالحق وهو يعلم أن الله تعالى معه . لذلك طلب منه النجاة لنفسه ولمن معه من المؤمنين .
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد أن الفتح يأتي بمعنى الحكم الذي يفصل بين المتنازعين ، وهو صلب حكم يفصل بين فريقين ، فريق الهدى والداعي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين ، وفريق الضلال وهم كفار قريش .
وقد استفتح الفريقان ، فقد قال أبو جهل حين التقى القوم : " اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة " .
لقد ظن أبو جهل أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم يقطع رحمهم ، ويجعل الولد يترك أباه وأمه ، وأيضاً كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا :
" اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين وخير القبيلتين "
هكذا كان دعاء الكفار .
(1/3228)

أما دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو قوله :
" يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً " .
والاستفتاح من الطرفين يدل على أن كلا منهما مجهد بأمر الآخر ، فلو كان أحدهما مرتاحاً والآخر متعباً لطلب المتعب الفتح وحده .
وجاء الحكم من الله سبحانه وتعالى في القضية هذه ، حيث حكم تبارك وتعالى على الكافرين بأن يُسلبوا ويقتلوا ويصبحوا مثار السخرية من أنفسهم وممن يرونهم وقد استحقوا ذلك بسبب كفرهم وضلالهم وعنادهم ومحاربتهم للحق ، والذي رجح أن الفتح جاء أيضاً من المؤمنين أن الحق قال :
{ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] .
أي إن كنتم قد استفتحتم وطلبتم الفصل والحكم فقد جاءكم الفتح ، وهذا الفتح كان في صالح المؤمنين ، وأيضاً في صالح دعاء الكافرين ، إنه جاء في الأمرين الاثنين؛ فتح للمؤمنين ، وفي صالح دعاء الكفار . فأنتم - أيها الكافرون - قد دعوتم ، فإما أن تكونوا قد دعوتم والله أجاب دعاءكم وهو شر عليكم ، وهذا دليل على أنكم أغبياء في الدعاء ، وما دام الفتح قد جاء ، كان الواجب أن ينتهي كل فريق عند الحد الذي وقع ، وكان على الكافرين أن يقتنعوا بأنهم انهزموا ، وعلى المؤمنين أن يقتنعوا بأنهم انتصروا .
{ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 19 ] .
و " تنتهوا " هذه صالحة أولاً بظاهرها للكفار ، أي إن تنتهوا عن معاداة الرسول وخصومته ، واللجج في أنكم جعلتموه عدوا ، وتتكتلون وتتآمرون عليه ، فإن تنتهوا فهذا خير لكم في دنياكم لأنكم قد رأيتم النتيجة . حيث قتل البعض من صناديدكم ، وأسر البعض الآخر ، وأخذت منكم الأسلاب والغنائم . فإن انتهيتم عن العمل الذي سبب هذا فهو خير لكم في دنياكم ، وخير لكم أيضاً في أخراكم؛ إذا كان الانتهاء سيئول بكم إلى أن تنتهوا عن مخاصمة الدين الذي تخاصمونه وتصبحوا من المنتمين إليه .
ويتابع سبحانه وتعالى قوله :
{ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } [ الأنفال : 19 ] .
وإن لم تنتهوا وعدتم إلى العداء ومحاربة هذا الدين فسنعود لنصرة المؤمنين ، وإياكم أن تقولوا إنكم فئة كثيرة؛ ففئتكم لن تغني من الله عنكم شيئاً ، والدليل على ذلك أنكم هزمتم في بدر وأنتم كثرة ، وأصحاب عدد ، وأصحاب عدة . فما أغنت عنكم كثرتكم ولا عدتكم شيئا .
{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } [ الأنفال : 19 ] .
وكان المؤمنون قلة ورغم ذلك كانوا هم الغالبين .
وما تقدم إنما يعني الكلام بالنسبة للكفار ، فماذا إذا كان الكلام والاستفتاح بالنسبة للمؤمنين ، ففي أي شيء ينتهون؟ .
(1/3229)

إن عليهم أن ينتهوا عن اللجاج والخلاف في الغنائم ، الذي جاء فيه قول الحق تبارك وتعالى : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] .
وهم قد اضطروا أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ، فإن عادوا للنزاع والجدل فيما بينهم وكأنهم فريقان متعارضان غير مجموعين على إيمان ، فلن تغني فئة عن أخرى شيئا ، وعليكم أن تعلموا يا أهل الإيمان أنه إن عزت طائفة منكم ، فلتهن أمامها الطائفة الأخرى ، ولا تظنوا أنكم بالنصر قد صرتم كثيراً لأن النصر لم يكن لا بالفئة ولا بالملائكة ، ولكن النصر كان من عند الله العزيز الحكيم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ . . . }
(1/3230)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
وهذا نداء واضح من الله عز وجل للمؤمنين ، وأمر محدد منه بطاعة الله والرسول؛ لأن الإيمان هو الاعتقاد الجازم القلبي بالله وبملائكته ، وكتبه ، ورسله ، وباليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، وعلى المؤمنين أن يؤدوا مطلوب الإيمان . ومطلوب الإيمان - أيها المؤمنون - أن تنفذوا التكاليف التي يأتي بها المنهج من الله عز وجل ، ومن المبلغ عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الأوامر وفي النواهي .
وقد فصلنا من قبل مسألة الطاعة ، الطاعة لله تكون في الأمر الإجمالي ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون في اتباع الحكم التفصيلي التطبيقي الذي يأتي به رسول الله للأمر الإجمالي . وكذلك تكون طاعة الرسول واجبة في أي أمر أو حكم؛ لأن الله قد فوض رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] .
ويتمثل التفويض من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قول الحق تبارك وتعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الملحظ الجميل في الأداء القرآني :
{ ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [ الأنفال : 20 ] .
والتولي - كما نعلم - هو الإعراض ، والأمر هنا بعدم الإعراض ، وما دمتم قد آمنتم فلا إعراض عما تؤمنون به . والملحظ الجميل أنه سبحانه لم يقل : ولا تولوا عنهما . قياساً بالأسلوب البشري . لكنه قال : { وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي أنه سبحانه وتعالى قد وحد الكلام في أمرين اثنين؛ طاعة الله وطاعة الرسول ، ولأن الرسول مبلغ عن الله فلا تقسيم بين الطاعتين؛ لأن طاعة الرسول هي طاعة لله تعالى .
أو نقول : إن التولي لا يكون أبداً بالنسبة إلى الله ، فلا أحد بقادر على أن يتولى عن الله؛ لأن الله لاحقه ومدركه في أي وقت .
لذلك نجد الحق تبارك وتعالى يقول في آية ثانية : { يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 62 ] .
وهو سبحانه وتعالى في هذا القول يوحد بين رضاء الله والرسول فيجعله رضاءً واحداً ، فالواحد من هؤلاء يقسم أنه لم يفعل الفعل المخالف للإيمان إرضاءً للمؤمنين ، وليبرىء نفسه عند البشر ، لكن هناك رضاء أعلى هو رضاء مراعاة تطبيق المنهج الذي أنزله الله عز وجل وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهناك قيوم أعلى يرقب كل سلوك ، ويعلم ما ظهر وما بطن . فلو كنا متروكين لبعضنا البعض لكان لأي إنسان أن يواجه الآخر ، كل بقوته ، لكن نحن في الإيمان نعلم أننا تحت رقابة المقتدر القيوم ، فمن ظلم أخاه؛ وغفر المظلوم لظالمه ، فالله سبحانه وتعالى رب الظالم ورب المظلوم - لا يغفر للظالم بل يؤاخذه .
(1/3231)

وسبحانه وحد أيضاً في هذه الآية بين رضاء الله ورضاء الرسول ولم يقل : والله ورسوله أحق أن يرضوهما بظاهر الأسلوب في لغة البشر ، لكنه شاء أن يوحد الرضاء؛ لأنه يدور حول أمر واحد بطاعة واحدة ، وحول نهي واحد بانتهاء واحد .
{ ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [ الأنفال : 20 ] .
وهذا الأمر بطاعة الله تعالى والرسول بلاغ من الله ، والبلاغ أول وسيلة له الأُذن ، لأن الأُذن أول وسيلة للإدراكات ، ولذلك فإنّ الرسول يبلغ الأوامر بالقول للناس ، ولم يبلغهم بالكتابة؛ لأن كل الناس لا تقرأ ، فأبلغ صلى الله عليه وسلم الناس قولاً كما أمر أن يكتب القرآن ليظل محفوظا .
ونعلم أن السماع هو الأصل في القراءة . وأنت لا تقرأ مكتوباً ، ولا تكتب مسموعاً إلا إذا عرفت القواعد ، وعرفت كيفية نطق الحروف .
والمعلم يعلم طالب المعرفة القراءة والكتابة عن طريق السماع أولاً ، إذن فالسماع مقدم في كل شيء ، ولن يستطيع واحد أن يقول في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تبلغني الدعوة؛ لأن الدعوة أبلغت للناس بالسماع ، وقوله : { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } تعطينا أن الإنسان إن لم تبلغه الدعوة ، فليس مناطاً للتكليف ، لأن ربنا سبحانه وتعالى هو القائل : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
والمجتمعات التي تعيش في غفلة وليس عندهم رسول ولم يبلغهم المنهج ، لن يعذبهم الله ، وهذا أمر وارد الآن في البلاد النائية البعيدة عن الالتقاء بالإسلام وبمنهج الإسلام ، وبالسماع عن الإسلام؛ لأنهم ما سمعوا شيئاً عن الدين ولم يعرفوا منهجه . وهؤلاء ناجون من العذاب طبقاً لقول الله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
فثمرة بعث الرسول أن يبلغ الناس ، ولذلك أخذنا حكما هاماً من الأحكام من قوله الحق تبارك وتعالى :
{ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [ الأنفال : 20 ] .
أخذنا من هذا القول أن من لم يبلغهم المنهج لا يحاسبون . ولكن أيكفي السماع في أن نعلم المنهج . لا ، لا يكفي في السماع أن نعلم أن هناك رسولاً جاء ليعقب على رسول سبق ، ولكن عليك أن تبحث أنت . فإن كان في الأرض من لم يبلغه هذا فهو ناجٍ ، وإن كان قد بلغه خبر رسول ولم يبلغه المنهج الكامل فعليه أن يبحث بنفسه ، بدليل أن الإنسان يبحث عن أهون الأشياء بمجرد أن يسمع عنها ، ويشغل نفسه بالبحث .
ولنفرض أن إنساناً قال في قرية : إن الدولة ستغير بطاقة التموين ، ألا يتجه كل فرد في القرية ليسأل عن هذا الأمر ويهتم به كل الاهتمام؟ . إذن كان يكفي في وصول البلاغ أن يسمع الإنسان رسولاً في العرب قد جاء للناس كافة برسالة عامة ، وأن هذه الرسالة تعقب الرسالات السابقة ، ومن سمع هذا السماع كان عليه أن يعامل هذا الخبر معاملة المصالح الدنيوية الأساسية لأنه اذا كان أمر الدنيا هاماً فما بالنا بأمر صلاح الدنيا والآخرة؟ .
وجزء من التبعة في ذلك يقع على المسلمين الذين لم يجدُّوا ويبلغوا منهج الله ودين الله إلى غيرهم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }
(1/3232)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
ففي هذه الآية الكريمة ينهانا الحق جل وعلا أن نكون مثل من قالوا : " سمعنا " وحكم الله بأنهم لا يسمعون ، وهؤلاء هم من أخذوا السمع بقانون الأحداث الجارية على ظواهر الحركة فسمعوا ولم يلتفتوا؛ لأن المراد بالسماع ليس أن تسمع فقط ، بل أن تؤدي مطلوب ما سمعت ، فإن لم تؤد مطلوب ما سمعت ، فكأنك لم تسمع . بل تكون شرّاً ممن لم يسمع؛ لأن الذي لم يسمع لم تبلغه دعوة ، أماَّ أنت فسمعت فبلغتك الدعوة ولكنك لك تستجب ولم تنفذ مطلوبها .
إذن قول الله تعالى :
{ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأنفال : 21 ] .
يفسر لنا أن هذا السماع منهم كان مجرد انتقال الصوت من المتكلم إلى أذن السامع بالذبذبة التي تحدث ، ولم يأخذوا ما سمعوه مأخذاً جاداً ليكون له الأثر العميق في حياتهم . فإذا لم يتأثروا بالمنهج ، فكأنهم لم يسمعوا ، وياليتهم لم يسمعوا؛ لأنهم صاروا شرّا ممن لم يسمع .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ الأنفال : 21 ] .
أو أن السمع يراد ويقصد به القبول ، مثلما نقول : اللهم اسمع دعاء فلان ، وأنت تعلم أن الله سميع الدعاء وإن لم تقل أنت ذلك ، لكنك تقول : اللهم اسمع دعاء فلان بمعنى " اللهم اقبله " ، فيكون المراد بالسمع القبول .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم . . . }
(1/3233)

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
وكلمة " دابَّة " تعني كل ما يدب على الأرض ، ولكنها خُصَّتَّ عرفاً بذوات الأربع . وجمع دابة دوابّ .
و " الدواب " كما نعلم هي القسم الثالث من الوجود ، لأن الوجود مرتقي إلى حلقات؛ أولها الجماد ، وثانيها النبات ، وثالثها الحيوان ، ورابعها الإنسان ، ويجمع هذه الأشياء الأربعة رباط واحد ، فنجد أن أعلى مرتبة في الأدنى ، هي أول مرتبة في الأعلى ، فالأدنى هو الجماد ، وفوقه النبات ، وأعلى شيء في الجماد ، يُمثل أول شيء في النبات ، مثل المرجانيات ، كأن الجماد نفسه له ارتقاءات في ذاته تتوقف عند مرحلة معينة لا يتعداها ، فلا ترتقي إلى أن تصير نباتاً ، أو أن يصبح النبات حيواناً ، لا ، إن كل قسم يظل مستقلا بذاته وفيه ارتقاءات تقف عند حد معين . وإذا كان أعلى شيء في الجماد يكاد أن يماثل أول شيء في النبات ، فهو لا يتحول نباتاً مثل ظاهرة نمو الشعاب المرجانية التي أخذت ظاهرة النبات ، لكنها لا تنتقل إلى نبات ، بل تظل أعلى قمة في الجماد . وكذلك النبات ، نجده يرتقي إلى أن ينتهي إلى أعلى مرحلة فيه . فالنبات مراحل ، وآخر مرحلة فيه أن يوجد نبات يُحسّ ، لأن الإحساس فرع الحياة ، وهذا ما نراه في نباتات الظل التي نشاهدها وهي تتجه بطبيعة تكوينها إلى نور النهار . وكأن فيها نوْعاً من الإحساس . وإن تغير مكان الضوء ، فإنها تُغيِّر اتجاهها إلى المكان الجديد .
وهناك نوع من النبات يذبل فور أن تلمسه . ونسمع عن نبات يسمى في الريف " الست المستحية " وهي تغلق أوراقها على ثمرها فور اللمس ، وأخذت أعلى مرتبة في النبات ، وهي أول مرتبة في الحيوان ، لكنها لا ترتقي إلى حيوان . بل تظل في حلقتها كنبات .
ونأتي إلى الحيوانات لنجدها ترتقي ، فهناك حيوانات تستأنس ، وحيوانات لا تستأنس ، بل تظل متوحشة ، وقد خلقها ربنا لحكمة ما . فالإنسان يستأنس الجمل ولا يستطيع أن يستأنس الثعبان ، ولا البرغوث ، كأن الله يريد بذلك أن يعلمنا أننا لم نستأنس الحيوانات التي نستأنسها بقدرتنا وبذكائنا؛ بل هو الذي جعلك تأنس بها ، فأنت أنست بالجمل ، وقد ترى البنت الصغيرة وهي تقوده ، وتأمره بالقيام والقعود ، بينما البرغوث الصغير قد يجعل الإنسان ساهراً طوال الليل لا يعرف كيف يصطاده . إذن هذه الأمور تعطينا حكمة أوجزها الحق تبارك وتعالى في قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 - 72 ] .
ولو لم يذلل الحق تبارك وتعالى هذه المخلوقات ، لما استطاع الإنسان تذليلها ، ونرى المخلوق الصغير وقد عجز الإنسان أمام تذليله ، ليعرف أن المذلل ليس الإنسان ، بل المذلل هو الله سبحانه وتعالى .
(1/3234)

وفي المستأنس من الحيوانات تجد نوعاً تُعوده على بعض الأشياء فيعتادها ويقوم بها مثل القرد الذي يقول له مدربه اعجن عجين الصبية ، أو العجوزة ، فيقلد القرد الصبية أو " العجوزة "؛ لأن فيه قابلية التقليد ، فهو يملك درجة من الفهم وهو أعلى مرتبة في الحيوان ، ويقف عندها ولا يتطور إلى خارجها ، بدليل أنك إن علمت قرداً كل شيء ، فهو يصنع ما تعلمه له من الحركات ويضحك الناس منه ، لكن القرد لا يستطيع أن يعلمها لبني جنسه . وكذلك نجد من يدرب الأسد والنمر ليؤدي فقرات ترفيهية في السيرك ، لكن الأسد لا يعلم أولاده من الأشبال ما تعلمه من مدرب السيرك .
إذن فالوجود بحلقاته الأربع؛ جماداً ونباتاً وحيواناً وإنساناً لا ترتقي فيه حلقة إلى الأعلى منها؛ بل تقف عند حد معين ، وتلك هي الشبهة التي أصابت بعض المفكرين في أن يظنوا أن أصل الإنسان قرد؛ لأن المخلوقات حلقات يسلم بعضها لبعض ، وأدنى مرتبة في الأعلى لكل حلقة هي أعلى مرتبة في الأدنى وتقف في حدودها . والذي يهدم نظرية داروين من أولها هو هذا الفهم لطبيعة التطور : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] .
أي أن كل الكائنات مخلوقة ابتداءً من الله ، ولا يوجد جنس قد نشأ من جنس آخر .
ونقدم هذا الدليل العقلي لغير المتدينين ، فنقول : لماذا لم تؤثر الظروف التي أثرت في القرد الأول ليصير إنساناً ، في بقية القرود لتكون أناساً؟
وهكذا تنهدم النظرية - نظرية داروين - من أولها لآخرها ، وعلماء الأجناس يهدمونها الآن . والحق تبارك وتعالى أخبرنا أن هذه المخلوقات التي تقع في المرتبة تحت الإنسان ، لا تستطيع أن ترتب المقدمات ، وتأخذ منها النتائج . ولا تعرف البديلات في الاختيار ، والحيوان وهو أرقى الأجناس ليس عنده بديلات؛ إنه يتعلم مهمة واحدة وتنتهي المسألة؛ لأنها دواب لا تعقل ، لكن الإنسان يملك القدرة على الاختيار بين البديلات . وجرب أن تعاكس قطة فإنك تجدها تهاجمك وتجرحك بمخالبها إلا إن كنت أنت مستأنسها وتعرف أنك تداعبها . أمَّا المؤمن العاقل المكلف فهو يتصرف في المواقف بشكل مختلف . فإن قام إنسان بإيذائه فقد يعاقبه بمثل ما عوقب ، وقد يعفو عنه ، وقد يكظم غيظه . { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس } [ آل عمران : 134 ] .
إذن فأنت أيها المؤمن عندك بديلات كثيرة ، لكن الحيوان لا يملك مثل هذه البديلات .
ولذلك ضربنا من قبل المثل : لو أنك علفت حيواناً إلى أن أكل وشبع ثم جئت إليه بعد شبعه بشيء زائد من أشهى طعام عنده؛ تجده لا يأكله . بينما الإنسان إن شبع فقد لا يمانع أن يأكل فوق الشبع من صنف يحبه .
ومثال آخر : نرى في الريف أن الحمار حين يرى جدولاً من المياه ويكون اتساع الجدول فوق قدرته على أن يقفز عليه ليعبره ، نجد الحمار قد توقف رافضاً القفز أو المرور فوق هذا الجدول .
(1/3235)

فهل قاس الحمار المسافة بنظره ووازنها بقدرته؟! إنه يقفز فوق الجداول التي في متناول قدرته ، لكنه يرفض ما فوق هذه القدرة ، رغم أننا نصف الحمار بالبلادة .
وهذا يبين لنا أن كل جنس يسير في ناموس تكوينه ليؤدي مهمته التي أرادها له الله . ولقائل أن يقول : كيف يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } بينما الحيوانات كلها مسخرة؟ ونقول : إذا كنت أيها الإنسان تأخذ وظيفة الأدنى فأنت تختار أن تكون شرًا من الدابة؛ لأن الأدنى مسخر بقانونه ويفعل الأشياء بغرائزه لا بفكره ، فكأن فكر الاختيار بين البديلات غير موجود فيه ، لكنك أيها الإنسان ميزك الله بالعقل الذي يختار بين البديلات ، فإن أوقفت عقلك عن العمل ، وسلبت قدرتك على القبول لما تسمع من وحي ألا تكون شر الدواب؟
وحين نتأمل كلمة " شر وخير " نقرأ قول الحق تبارك وتعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] .
فالخير يقابله الشر ، وحين يقابل الخير الشر ، فالإنسان يميز الخير ، لأنه نافع وحسن ، ويميز الشر؛ لأنه ضار وقبيح .
ولكن كلمة " خير " تستعمل أحياناً استعمالاً آخر لا يقابله الشر ، بل يقال : إن هذا الأمر خير من الثاني ، رغم أن الثاني أيضاً خير ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه :
" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير " .
إنّ كلاً منهما - أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف - فيه خير ، لكن في الخير ارتقاءات ، هناك خير يزيد عن خير ، ويخبر المولى في قوله تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدوآب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } .
أي أن الكفار شر ما دبَّ على الأرض لأنهم قد افتقدوا وسيلة الهداية وهي السماع ، وبذلك صاروا بكماً أي لا ينطقون كلمة الهدى .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ . . . }
(1/3236)

وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
فهو سبحانه وتعالى قد علم أنه ليس فيهم خير ، فلم يسمعهم سماع الاستجابة .
والمولى سبحانه وتعالى منزه من أن يبتدئهم بعدم إسماعهم؛ لأنهم لم يوجد فيهم خير ، والخير هنا مقصود به الإيمان الأول بالرسول ، وهم لم يؤمنوا . فلم يستمعوا لنداء الهداية منه صلى الله عليه وسلم كمبلغ عن الله تعالى . إذن فعدم وجود الخير بدأ من ناحيتهم ، وسبحانه وتعالى القائل : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [ البقرة : 264 ] .
وهم - إذن - سبقوا بالكفر فلم يهدهم الله . { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ البقرة : 258 ] .
وهم سبقوا بالظلم فلم يهدهم الله .
وسبحانه وتعالى القائل : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المائدة : 108 ] .
وهم سبقوا بالفسق فلم يهدهم الله .
والله منزه عن الافتئات على بعض عباده ، فلم يسمعهم سماع الاستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }
وعلم الله تعالى أزلي ، لكنه لا يحاكم عباده بما علم عنهم أزلاً . بل ينزل لهم حق الاختيار في التجربة الحياتية العملية . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - تجد أباً يعاني من مأساة فشل ابنه في الدراسة أو في الاعتماد على نفسه في الحياة ، ويحيا الولد لاهياً غير مقدر لتبعات الحياة ، فيقول أصدقاء الوالد له : لماذا لا تقيم لابنك مشروعاً يشغله بدلاً من اللهو ، فيرد الأب : إنني أعرف هذا الولد ، سيأخذ المشروع ليبيعه ويصرف ثمنه على اللهو . والأب يقول ذلك بتجربته مع الابن . لكنْ ألا يُحتمل أن يكون هذا الابن قد ملَّ الانحراف واللهو وأراد أن يتوب ، أو على الأقل ليثبت للناس أن رأى والده فيه غير صحيح؟ لذلك نجد الأب يفتح لابنه مشروعاً ، لكن الولد يغلبه طبعه السيىء فيبيع المشروع ليصرف نقوده في الفساد .
هل حدث ذلك من نقص في تجربة الوالد؟ لا ، بل عرف الأب عدم الجد عن ابنه ، وسهولة انقياده لهواه . فما بالنا بالحق الأعلى العليم أزلاً بكل ما خفي وما ظهر من عباده؟ .
ولكنّه سبحانه وتعالى شاء ألا يحاسب عباده بما علمه أزلاً ، بل يحاسبهم سبحانه وتعالى بما يحدث منهم واقعاً ، فهو القائل : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } [ العنكبوت : 11 ] .
فسبحانه وتعالى العالم أزلاً ، لكنه شاء أن يعلم أيضاً علم الإقرار من العبد نفسه؛ لأن الله لو حكم على العباد بما علم أزلاً ، لقال العبد : كنت سأفعل ما يطلبه المنهج يا رب . لذلك يترك الحق الاختيار للبشر ليعلموا على ضوء اختياراتهم ويكون العمل إقراراً بما حدث منهم .
{ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] .
وحتى لو أسمعهم الله عز وجل لتولوا هم عن السماع وأعرضوا عنه؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنهم اختاروا أن يكونوا شرّاً من الدواب عنده ، وهو الصم الذين لا يسمعون دعوة هداية ، وبُكْم لا ينطقون كلمة توحيد ، ولا يعقلون فائدة المنهج الذي وضعه الله تعالى لصلاح دنياهم وأخراهم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ . . . }
(1/3237)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وهنا نقل المسألة من سماع إلى استجابة؛ لأن مهمة السماع أن تستجيب .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }
أي استجيبوا لله تعالى تشريعا ، وللرسول صلى الله عليه وسلم بلاغاً ، وغاية التشريع والبلاغ واحدة ، فلا بلاغ عن الرسول إلا بتشريع من الله عز وجل ، بل وللرسول صلى الله عليه وسلم تفويض بأن يشرع . ورسول الله لم يشرع من نفسة ، وإنما شرع بواسطة حكم من الله تعالى حيث يقول : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - : نسمع أن فلاناً قد فُصل لأنه غاب خمسة عشر يوماً عن عمله في وظيفته ، ويعود المحامي إلى الدستور الذي تتبعه البلد فلا يجد في مواد الدستور هذه الحكاية ، ويسمع من المحامي الأكثر خبرة أن هذا القانون مأخوذ من تفويض الدستور للهيئة التي تنظم العمل والعاملين .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفوض من ربه بالبلاغ وبالتشريع .
{ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] .
ونجد هنا أيضاً أن الحق تبارك وتعالى قال : { إِذَا دَعَاكُم } ولم يقل : إذا دعَوَاكُمْ ، وفي ذلك توحيد للغاية ، فلم يفصل بين حكم الله التشريعي وبلاغ الرسول لنا . ونعلم أن الأشياء التي حكم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم حكماً ثم عدّل الله له فيها الحكم ، هذا التعديل نشأ من الله ، وهو صلى الله عليه وسلم لم ينشىء حكماً عدّله الله تعالى إلا فيما لم يُنزِل الله فيه حكماً . وحين ينزل الله حكماً مخالفاً لحكم وضعه الرسول ، فمن عظمته صلى الله عليه وسلم أنه أبلغنا هذا التعديل ، وهكذا جاءت أحكامه صلى الله عليه وسلم إذا وافقت حقّاً فلا تعديل لها ، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو صلى الله عليه وسلم يعدل لنا . وبذلك تنتهي كل الأحكام إلى الله تعالى . فإذا قال قائل : كيف تقول إن قول الرسول يكون من الله؟ نجيب : إنه سبحانه القائل : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] .
و " الهوى " - كما نعلم - أن تعلم حكماً ثم تميل عن الحكم إلى مقابله لتخدم هوًى في نفسك ، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما عمد إلى أي حكم شرعه ولم يكن عنده حكم من الله عز وجل ، فإن جاءه تعديل أبلغنا . إذن ما ينطق عن الهوى . أي من كل ما لم ينزله الله ، وحكم فيه صلى الله عليه وسلم ببشريته ، ولم يكن له هوى يخدم أي حكم ، ونجد في قول الله تعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] .
أنَّ كلمة " دعاكم " مفردة ، مثلها مثل كلمة " يرضوه " في قوله لكم :
(1/3238)

{ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 62 ] .
ومثلها مثل الضمير في " عنه " في قوله تعالى : { أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } [ الأنفال : 20 ] .
وفي هذه الآيات الكريمة توحيد للضمير بعد المثنى ، وهذا التوحيد كان مثار شبهة عند المستشرقين ، فقالوا : كيف يخاطب اثنين ثم يوحدهما؟ ونقول لمن يقول ذلك : لأنك استقبلت القرآن بغير ملكة العربية . فلم تفهم ، ولو وجد الكفار في أسلوب القرآن ما يخالف اللغة لما سكتوا ، فهم المعاندون ، ولو كانوا جربوا في القرآن كلمة واحدة مخالفة لأعلنوا هذه المخالفة . وعدم إعلان الكفار عن هذه الشبهات التي يثيرها الأعداء ، يدل على أنهم فهموا مرمى ومعنى كل ما جاء بالقرآن ، وهم فهموا - على سبيل المثال - الآية التي يكرر المستشرقون الحديث عنها ليشككوا الناس في القرآن الكريم ، وهي قول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ] .
وتساءل المستشرقون - مستنكرين - : كيف يتحدث القرآن عن طائفتين ، ثم يأتي الفعل الصادر منهما بصيغة الجمع؟ . ونقول : إن " طائفتان " هي مثنى طائفة ، والطائفة لا تطلق على الفرد ، إنما تطلق على جماعة ، مثلما نقول : المدْرَسَتان اجتمعوا؛ وصحيح أن المَدْرسة مفرد . لكن كل مدرسة بها تلاميذ كثيرون ، وكذلك " طائفتان " ، معناها أن كل طائفة مكونة من أفراد ، وحين يحدث القتال فهو قتال بين جمع وجمع؛ لذلك كان القرآن الكريم دقيقاً حين قال :
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا }
ولم يقل القرآن الكريم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا؛ لأن هذا القول لا يعبر بدقة عن موقف الاقتتال لأنهم كطائفتين ، إن انتهوا فيما بينهم إلى القتال . فساعة القتال لا يتحيز كل فرد لفرد ليقاتله ، وإنما كل فرد يقاتل في كل أفراد الطائفة الأخرى ، وهكذا يكون القتال بين جمع كبير من أفراد الطائفتين .
وبعد ذلك يواصل الحق تبارك وتعالى تصوير الموقف من الاقتتال بدقة فيقول سبحانه : { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] .
وهنا يقول سبحانه وتعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ، ولم يقل : أصلحوا بينهم . وهكذا عدل عن الجمع الذي جاء في الاقتتال إلى المثنى؛ لأننا في الصلح إنما نصلح بين فئتين متحاربتين ، ونحن لا نأتي بكل فرد من الطائفة لنصلحه مع أفراد الطائفة الأخرى . ويمثل كل طائفة رؤساؤها أو وفد منها ، وهكذا استخدم الحق المثنى في مجاله ، واستخدم الجمع في مجاله ، وسبحانه وتعالى منزه عن الخطأ .
وهنا في الآية التي ما زلنا بصدد خواطرنا عنها وفيها يقول المولى سبحانه وتعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
(1/3239)

وفي أولها نداء من الله للمؤمنين ، والنداء يقتضي أولاً أن يكون المنادى حيّاً؛ لأنه سبحانه وتعالى القائل : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور } [ فاطر : 22 ] .
إذن : كيف يقول سبحانه لمن يخاطبهم وهم أحياء : { دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ .
وهنا نقول : ما هي الحياة أولاً؟ . نحن نعلم أن الحياة تأخذ مظهرين ، مظهرَ الحسّ ومظهرَ الحركة ، ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن توجد الروح في المادة فتتكون الحياة ، وهذه مسألة يتساوى فيها المؤمن والكافر . وثمرة الحياة أن يسعد فيها الإنسان ، لا أن يحيا في حرب وكراهية وتنغيص الآخرين له وتنغيصه للآخرين ، والحياة الحقيقية أن يوجد الحسّ والحركة ، شرط أن تكون حركة كل إنسان تسعده وتسعد من حوله ، وبذلك تتآزر الطاقات في زيادة الإصلاح في الأمور النافعة والمفيدة ، أما إذا تبددت الطاقات الناتجة من الحسّ والحركة وضاعت الحياة في معاندة البعض للبعض الآخر ، فهذه حياة التعب والمشقة ، حياة ليس فيها خير ولا راحة . وهذا ما يخالف ما أراده الحق سبحانه وتعالى للخلق ، فقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة له في الأرض ليصلح لا ليفسد ، وليزيد الصالح صلاحاً ، ولا تتعاند حركة الفرد مع غيره؛ لأن كل إنسان هو خليفة لله ، وما دمنا كلنا خلفاء لله تعالى في الأرض . فلماذا لا نجعل حركاتنا في الحياة متساندة غير متعاندة؟
وعلى سبيل المثال : إن أراد إنسان أن يخدم نفسه ومن حوله بحفر بئر ، هنا يجب أن يتعاون معه جميع من سوف يستفيدون من البئر؛ فمجموعة تحفر ، ومجموعة تحمل التراب بعيداً ، ليخرج الماء ويستفيد منه الجميع ، لكن أن يتسلل إنسان ليردم البئر ، فهذا يجعل حركة الحياة متعاندة لا متساندة .
وقد نزل المنهج من الله عز وجل ليجعل حركة الحياة متساندة؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
والنداء هنا من الله للمؤمنين فقط ، فإذا قال الله : يأيها الذين آمنوا استجيبوا لما آمنتم به؛ فهو لم يطلب أن تستجيب لمن لم تؤمن به ، بل يطلب منك الاستجابة إذا كنت قد دخلت في حظيرة الإيمان بالله ، واهتديت إلى ذلك بعقلك ، وبالأدلة الكونية واقتنعت بذلك ، وصرت تؤمن أنه إذا طلب منك شيئاً فهو لا يطلب منك عبثاً؛ بل طلب منك لأنك آمنت به تعالى إلهاً ، وربّاً ، وخالقاً ، ورازقاً ، وحكيماً ، وعادلاً .
حين يأمرك من له هذه الصفات ، فمن الواجب عليك أن تستجيب لما يدعوك إليه . ولله المثل الأعلى؛ نجد في حياتنا الأب والأم يراعيان المصالح القريبة للغلام ، ويأمره الأب قائلا :
اسمع الكلام لأني والدك الذي يتعب من أجل أن تنعم أنت .
(1/3240)

وتضيف الأم قائلة له : اسمع كلام والدك ، فليس غريباً عنك ، بل لك به صلة وهو ليس عدوّاً لك ، وتجربته معك أنه نافع لك ويحب لك الخير ، هنا يستجيب الابن . وكلنا عيال الله ، فإذا ما قال الله : يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول المبلغ عن الله لأنه سيدعوكم لما يحييكم فعلينا أن نستجيب للدعوة .
الداعي - إذن - هو الله تعالى وقد سبقت نعمه عليك قبل أن يكلفك ، وهو سبحانه قد أرسل رسولاً مؤيداً بمعجزة لا يستطيع واحد أن يأتي بها ، ويدعو كل إنسان إلى ما فيه الخير ، ولا يمنع الإنسان من الاستجابة لهذا الدعاء إلا أن يكون غبيا .
ونلحظ في حياتنا اليومية أن الإنسان المريض ، المصاب في أعز وأثمن شيء عنده وهو عافيته وصحته ، وهو يحاول التماس الشفاء من هذا المرض ويسأل عن الطبيب المتخصص فيما يشكو منه ، وهناك لكل جزء من الجسم طبيب متخصص ، فإذا كان له علم بالأطباء فهو يذهب إلى الطبيب المعين ، وإن لم يكن له علم فهو يسأل إلى أن يعرف الطبيب المناسب ، وبذلك يكون قد أدى مهمة العقل في الوصول إلى من يأمنه على صحته . فإذا ما ذهب إلى الطبيب وشخص له الداء وكتب الدواء ، في هذه اللحظة لن يقول المريض : أنا لا أشرب الدواء إلا إن أقنعتني بحكمته وفائدته وماذا سيفعل في جسمي؛ لأن الطبيب قد يقول للمريض : إن أردت أن تعرف حكمة هذا الدواء ، اذهب إلى كلية الطب لتتعلم مثلما تعلمت . وطبعاً لن يفعل مريض ذلك؛ لأن المسألة متعلقة بعافيته ، وهو سيذهب إلى الصيدلية ويشتري الدواء ويسأل عن كيفية تناوله ، والمريض حين يفعل ذلك إنما يفعله لصالحه لا لصالح الطبيب أو الصيدلي .
والرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعونا لما يحيينا به ، إنما يفعل ذلك لأن الله تعالى أوكل له البلاغ بالمنهج الذي يصلح حالنا ، وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة ، بعد أن تأتي الروح في المادة ، يواجه الإنسان ظروف الحياة من بعد ذلك إلى الممات . وهذه حياة للمؤمن والكافر . وقد يكون في الحياة منغصات وتمتلىء بالحركات المتعاندة ، وقد يمتلىء البيت الواحد بالخلافات بين الأولاد وبين الجيران ، ويقول الإنسان : هذه حياة صعبة وقاسية . والموت أحسن منها . والشاعر يقول :
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وشاعر آخر يقول :
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحِمام
والحِمام هو الموت ، وكأن الموت - كما يراه الشاعر - أخف من الحياة المليئة بالمنغصات . إذن فليس مجرد الحياة الأولى هو المطلوب ، بل المطلوب حياة خليفة يأتي في مجتمع خلفاء لله في الأرض . وكل منا موكل بالتعاون وإصلاح المجال الذي يخصه . ولا يصح للوكلاء أن يتعاندوا مع بعضهم البعض ، بل عليهم أن يتفقوا؛ لأنهم وكلاء لواحد أحد .
(1/3241)

كذلك خلف الله الإنسان ، خلفه خليفة له في الأرض وأنجب الخليفة خلفاء؛ ليؤدوا الخلافة بشكل متساند لا متعاند .
إننا - على سبيل المثال - حين نرغب في تفصيل جلباب واحد ، نجد الفلاح يزرع القطن ، والغزّال يغزله ، والنسّاج ينسجه ، ومن بعد ذلك نشتريه لنذهب به إلى الخيّاط الذي يأخذ المقاسات المناسبة للجسم ، ثم يقوم بحياكة الجلباب على آلة اشتراها بعد أن صنعها آخرون . إذن فجلباب واحد يحتاج إلى تعاون بين كثير من البشر ، هكذا تتعاضد الحياة .
وإذا نظرنا إلى العالم الذي نحيا فيه نجده مليئاً بالتعب ، خصوصاً الأمم المتخلفة ، وأيضاً نجد التعب في الأمم المتقدمة؛ لأننا نجد صعاليك من أية دولة يصعدون إلى طائرة تتبع دولة كبرى ويهددون بتفجير الطائرة بمن فيها ويفرضون الشروط ، وَيُزِلُّون الدولة الكبرى .
إذن فالحياة حتى في الدول الراقية متعبة .
وعلى سبيل المثال : الحروب التي قامت في منطقتنا منذ عام 1948 مع إسرائيل واستمرت كل هذه المدة الطويلة ، ثم الحرب الأهلية في لبنان ، ثم الحرب التي دارت بين العراق وإيران؛ هذه الحروب تكلفت المليارات التي لو استخدمت في وجه آخر لرفعت من شأن تقدم بلادنا .
إذن الذي يتعب العالم هو الحركة المتعاندة ، والحق سبحانه وتعالى أنزل لنا المنهج القويم ليجعل حركة حياتنا متساندة . فإن اتبعنا المنهج صرنا نأخذ الأوامر من إله واحد ، وصار كل منا مكلفاً بالتعاون مع غيره ، وهذا لن يحدث إلا إذا استجبنا لما يدعونا الله تشريعاً والرسول بلاغاً ، وبهذا تتساند الحياة وتصبح حياة لها طعم . وينطبق عليها قول الحق تبارك وتعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] .
أمَّا من يحيا بغير منهج فتكون حالته كما يبينها قول الله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 124 ] .
وعلى هذا : فالعقاب على عدم اتباع المنهج الإلهي لا يتأخر إلى يوم القيامة ، ولكن الحياة في الدنيا تكون مرهقة ، والمعيشة ضنكا .
إذن إياكم أن تفهموا أن المنهج الديني لله غايته الآخرة فقط ، لا . بل إن اتباع المنهج الديني لله جزاؤه في الآخرة ، وأما ثمرته ففي الدنيا . فمن يوفق في هذه الدنيا ، وحركته متساندة مع غيره ، يعطي له الله الجزاء في الحياة المستريحة في الدنيا بالإضافة إلى جزاء الآخرة . وهكذا نفهم أن موضوع الدين هو الدنيا ، أما الآخرة فهي جزاء على هذا الاختبار الدنيوي .
وقوله سبحانه وتعالى :
{ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
أي يعطيكم منهجاً من إله واحد؛ لا يعود بالخير عليه ولا على المبلغ عنه وهو الرسول ، وإنما يعود بالخير عليكم أنتم ، وتلك هي حيثيات الاستجابة ، ومن لا يستجيب لهذه فهو الأحمق .
{ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
(1/3242)

إذن فالخير يأتي من أمر إله واحد؛ فلا يجعل كل منا إلهه هواه ، حتى لا تتعدد الأهواء : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] .
ولذلك لا يتعرض التشريع من الله سبحانه وتعالى إلا ما للأهواء فيه مدخل ، أمَّا الشيء الذي ليس للأهواء فيه مدخل فهو يترك الإنسان ليواجهه بملكاته التي خلقها الله له ، والشرع يتدخل فقط فيما يمكن أن يخضع للهوى ، أما الأمور التي لا تخضع للهوى فألد الأعداء يتفقون فيها .
والحياة الآن فيها موجة ارتقاء طموحي علمي ، وهذا الطموح العلمي نشأ عن التجربة في المعمل حيث يجلس العلماء الوقت الطويل ليخترعوا ويطوروا ، مثال ذلك : " أديسون " الذي قضى وقتاً طويلاً ليخترع المصباح الكهربي ، وغيره من العلماء طوروا مخترعاته وجاءوا باختراعات جديدة ، ولم ندر عنهم شيئاً إلا أننا نفاجأ بمخترع قد أتى منهم ، والعالمُ من هؤلاء تجده أشعث أغبر ، لا يفكر في العناية بحسن مظهره وقد لا يأكل ولا يشرب ، ولا تدري أنت به إلا إذا الثمرة من عمله واختراعه جاءت ، ويقال : فلان اخترع الشيء " الفلاني " . وتنتفع أنت بما اخترع رغم أنك لم تَشْقَ شقاءَه حين أخذت الخير الناتج منه .
ونرى المعسكرات المتضادة في عالمنا المعاصر تحاول أن تسرق تجارب غيرها في العلوم ، وهذه المعسكرات تختلف فقط في الأهواء ، فذلك شيوعي ، وآخر رأسمالي ، وثالث وجودي . الخلاف - إذن - في الأهواء غير المحكومة بالمادة أو بالتجربة . ومن المؤسف حقًا أن ما اتفقنا عليه كالعلوم المادية الكونية التي هي وليدة التجربة ، هذه المخترعات نستعملها في فرض ما نختلف فيه ، وهكذا تجد أن التعب في العالم إنما يأتي من الطموح الأهوائي لا الطموح المادي العلمي؛ لذلك يتدخل الشرع في الأهواء ويحسمها؛ ليكون كل منا عبداً لله تعالى ، وكل منَّا حر أمام غيره .
والرسول صلى الله عليه وسلم بمنهجه الذي جاء به من الله يدعو الحيّ - صاحب الحس والحركة - إلى أن تكون حياته حياة طيبة ليس فيها ضنك؛ هذا إن نظرنا إلى كيفية الحياة . فإن قسنا الحياة بعمر الآخرة ، فهي لا تساوي إلا القليل؛ لأن ما لا نختلف فيه كأفراد في الخلافة يجب أن يكون غاية للخلفاء ، فربنا قد يخلق واحدا ليموت في بطن أمه ، وواحدا يموت بعد ساعة من مولده ، وثالثا يموت بعد شهر من ميلاده ، ومنا من يعمر مائة سنة ، ولا يمكن أن يكونَ الأمر المُخْتَلَف فيه غاية للمتحدين في الجنس ، فالغاية أن نعمر الدنيا بالعمل الصالح لنسعد بها ، ونعبر منها إلى ما هو أجمل وهي الآخرة ، ومأمون فيها أننا لا نموت ، ومأمون فيها أننا لن نتعب أبداً ، لأنه كلما اشتهيت شيئاً ستجده أمامك . وهذه قمة الحياة الطيبة .
وعلى فرض أنك ستتعب في سبيل منهج الله حين تبلغه للناس ، دفاعاً عنه بالحرب والقتال وبالتضحية بالأموال ، فأنت رابح لحياة طيبة أبدية ، ويبين القرآن الكريم لنا هذه الحياة في قول الحق تبارك وتعالى :
(1/3243)

{ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] .
فالدار الآخرة ليست مجرد حياة ، بل أكبر من حياة؛ لأن حياتك الدنيا موقوتة ومحددة ، ونعيمك فيها على قدر إمكانياتك وتصوراتك ، ولكن الحياة الأخرى ليست موقوته بل ممتدة ، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات خالقك المنعم القادر . وهكذا نتأكد أنه صلى الله عليه وسلم قد دعانا إلى ما يحيينا .
والحق سبحانه وتعالى حينما دعانا إلى الحياة الطيبة سمى المعيشة في منهجه حياة ، لأنها حياة سعيدة ، وتسلم إلى حياة خالدة . ولذلك سمى الحياة الأولى التي تأتي إذا نفخ الله الروح في المادة ، وقال عن آدم وكل بني آدم : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ ص : 72 ] .
وأعطى الله سبحانه وتعالى هذه الحياة للمؤمن والكافر . وسمى سبحانه وتعالى ما يحمل المنهج للناس وهو القرآن روحاً : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
والمنهج - إذن - روح من أمر الله سبحانه وتعالى نزل به الروح الأمين ، وهذه هي الحياة المطلوبة لله سعادة ، وتسانداً ، وخلوداً في الجنة . ولذلك أنزل المنهج ليمنع التعاند والتعارض والتضاد بين المؤمنين ، وليحمي كل مؤمن نفسه من الزلل ، فيقاوم المعصية وهي صغيرة قبل أن تكبر وتستفحل .
ثم يقول المولى سبحانه وتعالى :
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] .
وماذا يعني قوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } ؟ .
وأقول : إياك أن تظن أن الكافر - على سبيل المثال - يعلن أن قلبه قد انعقد على الكفر؛ لأنه قد يجرب أن يخلع نفسه من هواه وينظر إلى حقيقة الإيمان فيقتنع به ، ولن يسيطر على هواه ، وقد انقلب أكثر من قلب شرير إلى قلب خير ، مثل صناديد قريش من الكفار الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد كانت قلوبهم معقودة على الشر ، لكنها لم تستمر على الشر ، بل حال الحق بين كل إمرىء منهم وقلبه .
والقلب هو محل التمنيات والأماني ، وأول الأماني أن تطول حياة الإنسان ، خصوصاً وهو يرى أن من في مثل عمره يموت ، ومن في مثل عمر والده يموت . وأن جده يموت ، ولأن الإنسان يحب أن تطول حياته ، يرغب في أن ينجب ولداً ليمتد ذكره ، إنه يريد الحياة ولو من غيره ، ما دام منسوباً له .
كما أن الإنسان يحب الآمال ، ويبني في أحلامه الكثير مما يريد أن يحققه ، والواجب عليه ألاَّ ينسى أن لهذا الكون إلهاً قادراً ، قد ينهى حياة أي منا رغم أن كل إنسان يحلم أن تطول حياته ، وقد يقف بين الإنسان وبين آماله التي يريد أن يحققها ، ولا أحد منا معزول عن خالقه ، وكل منا في يد الخالق ، وسبحانه وتعالى لم يخلق الخلق ثم يترك النواميس لتعمل دون إرادته ، بل كل النواميس في يده .
وما دام الحق يحول بين المرء وتمنيات قلبه؛ استطالة حياة ، وتحقيق آمال ، وستراً للموت وأسبابه وزمنه ، كل ذلك لنتجه دائماً إلى فعل الخير لنحيا في ضوء المنهج وأنت لا تعرف متى ينتهي الأجل ، وإلى الله المصير .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ . . . } .
(1/3244)

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
ويأمرنا الحق عز وجل أن نتقي الفتن من بدئها قبل أن يستفحل شأنها . وأن يتجنب الإنسان المعصية ، وأن يضرب المجتمع على يد أي انحراف ، فمن يسرق الآن الخزائن قد بدأ أولا بسرقة اليسير ، سرق من أخيه أو من البيت ثم من الجيران ثم من البنك . ولو أن كل انحراف عوجل بالضرب على يد من فعله وهو صغير لما كبر المنحرف والانحراف . ولتم وأد الجرائم الكبيرة في مهدها؛ لأن من ارتكب الصغيرة قد عوقب . وإياكم أن يقول أحدكم ما دام مثل هذا الانحراف لا يمسني فليس لي به شأن؛ لأن الذي اجترأ على مثلك ، من السهل أن يجترىء عليك . ونحن نعرف جميعاً قصة الثيران الثلاثة؛ الأحمر والأبيض والأسود ، فقد هاجم الأسد الثور الأبيض فأكله ، ولم يدافع عنه الثور الأحمر أو الأسود . وهاجم الأسد الثور الأحمر بعد ذلك فقال الثور الأسود لنفسه : ما دام الأسد لم يأكلني فلا دخل لي بهذا الأمر . وجاء الأسد إلى الثور الأسود ، بينما هو يقترب منه قال : لقد أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض .
إذن فقول الحق تبارك وتعالى :
{ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] .
هذا القول يدلنا على أن اتقاء الفتنة يبدأ من الضرب على أيدي صانع الفتنة وهي في بدايتها . وأضرب هذا المثل ليبقى في الذاكرة دائما؛ إن الأم التي قسمت الأكل بما فيه من لحم وخضر وفاكهة على الأبناء ، فأكل أحد الأبناء نصيبه ، ثم احتفظت الأم ببقية أنصبة إخوته في الثلاجة ، ومن بعد ذلك لاحظت الأم أن الابن الذي أكل نصيبه يأكل نصيب أحد إخوته من خلف ظهرها ودون استئذانها ، وهنا يجب أن تؤنبه وتعاقبه على مثل هذا الفعل حتى لا يتمادى في ذلك .
كذلك إن دخل الابن بلعبة أو بشيء يفوق قدرة مصروف يده على الشراء ، فعلى الأب أن يضرب على يد الابن حتى لا يتمادى الولد في إفساد نفسه . ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى جعل الدية في القتل الخطأ على العاقلة وهم العصبة أي قرابة القاتل من جهة أبيه ، ويطلق عليهم العائلة - أي عائلة القاتل - لأن أفراد العائلة حين يرون أن كلاً منهم سوف يصيبه جزء من الغرم ، فإنه يضرب على يد من يتمادى في إرهاب الغير وتهديدهم إن كان من عائلته .
ولذلك ترى أن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يضربوا على يده فإن الله يعمهم بغضب من عنده؛ لأن الظالم يتمادى في ظلمه وطغيانه ويعربد في الآخرين . فيستشري الظلم في المجتمع ويحق على الجميع عقاب الله . ولذلك نجد سيدنا أبا بكر رضوان الله عليه - يقول ، يبين لنا ذلك فيما رواه عنه الإمام أحمد .
(1/3245)

فقد روى الإمام أحمد قال : قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس أنتم تقرأون هذه الآية :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } وإنكم تضعونها على غير موضعها .
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه ، يوشك الله - عز وجل - أن يعمهم بعقابه " .
ويبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق الفاصل في القضايا العقدية والحكمية ويأتي بمثال واضح يتفق عليه الكل ، فيقول صلى الله عليه وسلم : فيما يرويه عنه النعمان بن بشير :
" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها . فكان الذين في أسفلها إذا استقوْا من الماء مرُّوا على مَنْ فوقهم ، فقالوا لو أنّا خرقنا خرقاً في نصيبنا ولم نؤذ منْ فَوْقنا . فإن يَتْركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا ونَجَوْا جميعا " .
والرسول صلى الله عليه وسلم يضرب لنا المثل بقوم ركبوا سفينة ، وأجروا فيما بينهم القرعة لينقسموا إلى جماعتين؛ جماعة تجلس في النصف الأعلى من السفينة أي على سطحها ، وجماعة تسكن في بطن السفينة ، حسب ما تأتي به قسمة القرعة وهي ما تسمى بالاستهام .
وهذا يدلنا على أنهم أناس طيبون ، ولا توجد فيهم جماعة قوية تفرض شيئاً على جماعة ضعيفة . وكان الذين يسكنون أسفل السفينة حين يريدون الماء يصعدون إلى أعلى لينزلوا الأواني من فوق سطح السفينة إلى النهر .
ولو تُرك الذين في أسفل السفينة لتنفيذ رغبتهم في خرق السفينة ليأخذوا الماء من النهر لغرقت السفينة ، لكن إن ضرب الذين يعيشون فوق السفينة على يد من يريدون خرقها لنجوا جميعاً .
وهكذا يكون فهمنا لقول الحق تبارك وتعالى :
{ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 25 ] .
ولسائل أن يسأل ويقول : إن العقاب يقع هنا على الظالم والمظلوم ، والظالم هو الذي يستحق العقاب على ما وقع منه من ظلم ، ولكن ما ذنب المظلوم؟ والجواب : أن المظلوم قد كان في مكنته أن يرد الظلم لكنه سكت عن ذلك فاستحق أن يشمله العقاب .
وإن لم تنتبه المجتمعات إلى مقاومة الفتن ، أنزل الله بها العقاب ، وعقاب الحق تبارك وتعالى أشد من عقاب الخلق .
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ . . . }
(1/3246)

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
وبعد كل ما حدث من وقائع ، يذكّر الحق عز وجل هنا صاحب الحال الأعلى بالماضي الأدنى ، ليثبت له : أن الذي نقلك من أدنى حياة إلى أعلى حياة ، موجود ولا يزال موجوداً ، وما دام قد شاءت قدرته أن ينقلك من الأدنى للأعلى ، فقدرته سبحانه وتعالى - إن شاءت - نقلتك من الأعلى إلى الأدنى . فإذا كنت في حال أعلى؛ إياك أن تنسى أنك كنت في حال أدنى . وعليك أن تعترف بجميل عطاء الخالق المنعم المتفضل وتقول : إن ربي القوي العظيم هو الذي وهبني ورفع مكانتي ولم أفعل ذلك بمهارتي ، وحتى إن كنت قد ارتقيت بالمهارة ، فالمهارة عطاء منه سبحانه وتعالى ، لذلك يقول المولى عز وجل هنا :
{ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض } .
أي اجعلوا هذا الأمر على بالكم دائما وإياكم أن تخافوا أية قوة مهما بلغت هذه القوة ، ولكن أعدوا لكل قوة ما يناسبها من أسلوب المواجهة الكثير؛ لأنكم حملة دعوة ، ومن يحمل الدعوة قد يعاني من المصاعب والمتاعب والمشقات؛ لكن يجب ألاَّ يفت ذلك في عضدكم .
لقد كان المسلمون الأوائل قلة تعاني من إذلال واضطهاد الكافرين الأقوياء . وكان المسلم من الأوائل لا يجد أحياناً من يحميه من اضطهاد المتجبرين ، فيلجأ إلى كافر يتوسم فيه الرحمة ويقول له : أجرني من إخوانك الكفر . وحين بلغ الضعف بالمسلمين الأوائل أشده ، ولم يجدوا حامياً لهم من ظلم وتعذيب الكفار ، عرض عليهم صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا إلى الحبشة؛ لأنَّ فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد . وكانت الهجرة إلى الحبشة هرباً من قوة الخصوم ، ولم يظل حال المسلمين كذلك ، بل نصرهم الله لا بقوتهم ، ولكنه سبحانه وتعالى شاء لهم أن يأخذوا بأسباب منهجه فانتصروا وعلت كلمة الله عز وجل .
إننا نتخذ من هذه المسألة حجة ومثلاً نواجه به من يشككون في قدرة المسلمين على إدارة الحياة والارتقاء بها؛ لأن العالم كله قد شهد ألف عام كان المسلمون فيها هم قادة العلم والفكر والابتكار ، وكانت غالبية الدول تخضع لحكم دولة الإسلام .
لقد سبق أن قلت : إن هارون الرشيد الخليفة المسلم بعث لشارلمان ملك فرنسا بهدية هي ساعة دقاقة بالماء؛ تم تصميمها بدقة عالية تفوق طاقة خيال الناس في فرنسا ، ولحظة أن شاهدوها في فرنسا ظنوا أن الشياطين هي التي تحركها؛ لأن التقدم العلمي والتطبيقي في بغداد في ذلك الوقت فاق كل التصور الأوروبي حيث كانوا يعيشون في تخلف علمي شديد .
لكن المسألة انعكست في زماننا هذا وصرنا نعاني من تخلف في الأخذ بأسباب الله للاستفادة بالعلم ، فحين جاء " الراديو " وجاء " التليفزيون " إلى بعض البلاد الإسلامية ، وجدنا من يقول عن الراديو : إن بداخله شيطاناً يتكلم ويلوّن ويغير من صوته .
(1/3247)

ولم يغير أصحاب هذا الرأي اندهاشهم ورفضهم لوجدوا محطة الإذاعة وأجهزة الاستقبال في بلادهم إلا بعد أن قلنا لهم : حرّكوا مؤشر الراديو وستجدونه يذيع القرآن الكريم ، وحين فعلوا ذلك استمعوا إلى صوت الشيخ محمد رفعت ، وكان يقرأ في سورة مريم ، وقلنا لأصحاب هذا الرأي : إن الشيطان لا يقرأ القرآن ، بل إن الإذاعة وأجهزة الاستقبال هي اختراعات علمية توصل إليها من أخذوا بأسباب الله في العلم التطبيقي .
وحين جاء اختراع " الميكروفون " وطالب الكثير بوضعه في المساجد وقت صلاة الجمعة ، وجدنا البعض يرفض دخول الميكروفون إلى المسجد ، متجاهلاً أن هناك مساجد كبيرة يحتاج إسماع الناس فيها لخطبة الجمعة وجود أكثر من " ميكروفون " . وقلت لواحد من هؤلاء : ليصلح الله حالك وبالك ، لماذا ترتدي نظارة طبية وتضعها على عينيك؟ أجابني : لأن نظري ضعيف والنظارة تكبر لي الكتابة . فقلت : وهكذا " الميكروفون " يكبر الصوت ليسمعه من يجلس بعيداً عن المنبر والإمام ، أثناء صلاة الجماعة وصلاة الجمعة .
فإذا كان بعض من الدول الإسلامية قد وصل بها الحال إلى هذا الحد من العجز في تقبل العلم ، فهذا تنبيه لنا لأن نعيد الأخذ بأسباب الله في الكون ، ولنطور العلوم ، ونخدم بها منهج الله ، بدلاً من أن نظل متخلفين رغم أن منهج الله يحضنا على الأخذ بالأسباب الموجودة في الكون ، وكلنا يعلم أن كون الله في يده والنواميس في يده ، يسخرها سبحانه وتعالى لمن يأخذ بالأٍباب .
ويذكرنا الحق تبارك وتعالى بقوله :
{ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } [ الأنفال : 26 ] .
والخطف هو أخذ بسرعة ، أي أن يأخذ إنسان أو جماعة غير الحق ، وعرفنا من قبل أنَّ أخذ غير الحق له صُوَر متعددة ، والمثال : نجد تاجراً يعرض أيْ يفرش بضاعته من تمر أو تفاح ، ويأتي أحد المارة لينظر إلى البضاعة المعروضة والمفروشة وليس معه نُقُود يشتري بها فيخطف تفاحة أو بعضاً من التمر ويجري بسرعة ، ويحاول صاحب البضاعة أن يلحق به وحاول اللص أن يتخلص ويفلت منه؛ فهذا اسمه " غصب " ، أما السرقة ، فهي أخذ المال خفيةً من حرز وصاحبه غير موجود . ويختلف كل ذلك عن الاختلاس؛ لأن الاختلاس هو أن تأخذ مما في حوزتك وأنت مأمون عليه؛ إذن أخذ غير الحق له عدة صور هي : خطف ، أو غصب ، أو سرقة أو اختلاس . والحق تبارك وتعالى يقول :
{ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 26 ] .
أي يأخذونكم دون أن يدافع عنكم أحد . وها أنتم أولاء قد صرتم أقوياء باستقرار الإيمان في قلوبكم ، وبمدد من الله عز وجل؛ لذلك يجب أن تذكروه دائماً امتناناً وتقديرا وعبادة ، وشكراً ، وخشوعاً .
(1/3248)

فهو سبحانه وتعالى قد أعطاكم الاستقرار في المأوى الجديد - المدينة المنورة - ورحب بكم مجتمع الإيمان في المدينة المنورة .
وعندما دخلتم إلى المدينة أقمتم المسجد وهو سمة استمرار النور من السماء هداية للأرض . كان هذا هو أول عمل لكم ولم تنشغلوا من قبله بأي عمل آخر . واعتبركم الأنصارُ إخوةً ، فصرتم أقوياء بأخوة الإيمان ، وصاروا هم أيضا أقوياء بهذه الأخوة بعد أن كان اليهود هناك يستفتحون عليهم بالرسول القادم ، جاء الرسول وكان في نصرة المستضعفين وصار منهجه قوة لكم وللأنصار ، وكان المهاجر منكم يجد الدعوة من الأنصارى إلى بيته ، لا للطعام ولا للشراب فقط ، بل للإقامة أيضاً .
ثم حدث الملحظ العجيب ، فالإنسان إذا أنعم الله عليه بنعم شتى ، فقد يحب أن يمتع صاحبه من هذه النعم ، إلا المرأة ، فالزوج يغار على نسائه . لكن الأنصاري من هؤلاء إن كان متزوجاً من اثنين ، يقول للمهاجر : لقد جئت من مكة إلى المدينة دون أهلك . فانظر إلى زوجتيَّ ، فأيهما تعجبك أطلقها وتتزوجها بعد انقضاء عدتها ، هذا هو الملظ العجيب ، وهي مسألة لا يمكن أن تمر على خيال العربي أبداً .
ويذيل الحق تبارك وتعالى الآية الكريمة بقوله :
{ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الأنفال : 26 ]
وقد رزقهم المولى سبحانه وتعالى وأمدهم بالخيرات والأسلحة والنفائس وهزموا صناديد قريش ، ولم تكن الغنائم تحل لأحد من الأنبياء من قبل ، لكنها أحلت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن فالذي صنع لكم كل ذلك حقيق أن يُذكر فلا ينسى وأن يشكر دائما .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول . . . }
(1/3249)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
والخيانة مقابلها الأمانة ، والأمانة هي الشيء يستودعه واحد عند آخر بدون وثيقة عليه ، ولا شهود . بل الأمر متروك إلى من عنده الأمانة ، إن شاء أقر بها وإن شاء أنكرها؛ لأن الأمانة ليس عليها صك ولا عليها شهود . ولا عليها " كمبيالة " ، وغير محكومة بأي شيء إلا بذمة من ائْتُمن ، والحق سبحانه تعالى يقول : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
وكل الأجناس التي في الوجود ودون الإنسان من حيوان ونبات وجماد ، كلها مُسخرة ، ولا تملك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل . الشمس ليس لها اختيار في أن تقول : سأشرق اليوم على هؤلاء الناس ، أو لن أشرق اليوم . والهواء لا يملك إرادة الاختيار ، كل الكائنات التي أوجدها الله في هذا الوجود ما عدا الإنسان مسخرة للمؤمن وللكافر . ورفضت هذه الكائنات أن تحمل أمانة الاختيار ، لكن الإنسان قال : أنا لي عقل يختار بين البديلات وأقبل تحمل الأمانة وسوف أؤدي كل مطلوبات الأمانة لأني أقدر على الاختيار .
لكن الإنسان ادّعى لنفسه القدرة على أداء الأمانة . وكأنه قد وثق من نفسه أنه سيؤديها ، وهو لا يعلم بأي شيء حكم ذلك الحكم على أمر غيبي مستقبلي .
صحيح أنه ساعة التحمل كان في نيته أن يؤدي الأمانة ، لكن ماذا عن ساعة الأداء؟ . وأنت لا تعرف ماذا تجيء به الأحداث والأغيار معك ، فقد يأتي لك ظرف تضطر أن تبدد فيه الأمانة؛ لذلك تجد العاقل هو من يقول : ابعد عني أمانة الاختيار ، لأني لا أعلم ماذا ماذا ستفعل بي الأغيار لحظة الأداء . وكل ما دون الإنسان أعلن عدم تحمل الأمانة وقبل التسخير ، أما الإنسان فأعلن قبول الأمانة وأنه سيؤديها . ووصفه القرآن الكريم بقوله : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
" ظلوماً " لنفسه لأنه حمّل نفسه شيئاً ليس في يده . و " جهولاً " لأنه قاس وقت التحمل ولم يذكر وقت الأداء . فلم يضع في الاعتبار ما سوف تفعل به الأغيار .
ويقول الحق عز وجل هنا :
{ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وكثير من التصرفات السلوكية للإنسان تكون مستترة عن أعين الخلق؛ لأن أعين الخلق حين ترى جريمة ما ، فهي تستدعي رجال القانون ليأخذوا حق المجتمع من المجرم ، لكن ماذا عن الجرائم المستترة؟ .
نحن نعلم أن كل جريمة تطفو وتظهر واضحة إنما توجد تحتها جرائم مختفية؛ لأن الذي يقتل إنما يخفي جرائم أخرى؛ مثل شرائه السلاح بدون ترخيص ، وإن كان لا يملك نقوداً فقد يسرق ليشتري السلاح ، ثم يقوم بتجنيد غيره لمساعدته في القتل ، وكل ذلك جرائم مستترة ، وبالتأكيد هناك سلوكيات باطنة يأتي بعدها السلوك المقلق للمجتمع وهو الجريمة الظاهرة ، وقصارى قانون البشر أن يحرس المجتمع من الجرائم الظاهرة فقط ، لكن عين القانون لا ترى الجرائم الباطنة والخفية ، أما عين الدين فتختلف ، إنها ترشد الأعماق إلى الصواب؛ لأن الدين أمانة وضعها الحق - الذي خلق الخلق - في ضمير الإنسان .
(1/3250)

فإياك أن تخون الأمانة في الأمور السرية التي لا يعرفها أحد سوى الله؛ لأن الأمور التي يعرفها الناس يمكن أن تدافع عنها أمام هؤلاء الناس ، بخلاف الأمور الباطنة وهي المهمة؛ لأنها هي التي تسيطر على إيجاد السلوك .
فإياك أن تخون الله والرسول ، وتخون الأمانة التي وضعت لك . ولا حجة لك - في ذلك - إلا اختيارك . إن شئت فعلت وإن شئت تركت ، وعلى الإنسان ألا يخون الأمانة التي بينه وبين ربه وإذا لم تتوافر الحراسة الإيمانية من ضميره على الأعمال الباطنة قد ينحرف؛ لأن كل جريمة ظاهرة إنما تتم بتبييت أمرٍ باطن .
وما دمت قد آمنت بالله تعالى ربّا بمحض اختيارك ، فالتزم بالأشياء التي جاء لك بها من آمنت به ، وأنت تعلم : أن الإيمان هو علة كل تكليف ، وعلى سبيل المثال؛ أنت تصلي خمسة فروض لأن المشرع أمرك بذلك؛ تصلي في الصبح ركعتين ، وفي الظهر أربع ركعات ، وفي العصر أربع ركعات ، وثلاث ركعات في المغرب ، وأربع ركعات في العشاء؛ لأن المشرع وهو المولى سبحانه وتعالى أمرك بذلك . وأنت تصوم لأن الله أمرك أن تصوم ، فإن أدركت من بعد الصيام أن فيه منافع لك ، فهذا موضوع آخر ، ومع ذلك تظل علة الصيام أن الله أمرك به ، وهكذا تكون علة كل حكم هي الإيمان بمن حكم بهذا الحكم .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } [ الأنفال : 27 ] .
وما الخيانة؟ . إن مادة الخيانة كلها الانتقاص؛ وضده التمام ، والكمال ، والوفاء . ويقابل كل ذلك الاختيان والغدر . فإذا كان الله يقول لنا : لا تخونوا الله والرسول ، فعلينا أن نلتزم؛ لأن التشريع وصلنا من الله بواسطة الرسول ، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله؛ لأن الله لم يخاطبنا مباشرة ، بل خاطب رسولاً اصطفاه من خلقه وأيده بمعجزة . وكل بلاغ وصلنا إنما كان بواسطة الرسول .
{ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } .
فلا تخن الله فيما جاء في القرآن ، وجاء من الرسول المفوَّض من الله بأن يشرع . وتشريع الرسول واتباعه جاء في قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .
فلله أمانة فيما نص عليها قرآناً ، وللرسول أمانة فيما لم ينص عليه القرآن إلا بتفويض قائل القرآن للرسول بأن يشرع ، فإن أطعت هذا الرسول ، فقد أطعت الله .
وعرفنا أن الاختيانَ هو الانتقاص ، ومعنى الانتقاص هو الوقوف بعيداً عن الكمال والإتمام المطلوب . والإنسان حين آمن يصبح للإيمان في النفس أمانة .
(1/3251)

فأنت قد آمنت أنه لا إله إلا الله ، وأمانة هذا الإيمان تقتضيك ألاَّ تجعل لمخلوق ولاية عليك ولا ولاء له إلا أن يكون هذا الولاء نابعاً من اتباع منهج الله تعالى . وهذه هي أمانة الشهادة ، أما أمانة الرسالة فهي الحرص على تطبيق كل ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه قدر الاستطاعة .
إذن فالأمانة مع الله تعالى أن تلتزم بكلمة الإيمان في أنه لا إله إلا الله ، وإياك أن تعتقد في أن أحدا يمكنه أن يتصرف فيك ، أو يملك لك ضرّاً أو نفعاً ، أو أن مصالحك ممكن أن تقضى بعيداً عن الله ، فكل شيء بيد الله سبحانه صاحب الحول والطول ولا إله إلا الله ، وإياك أن تفهم أن حكماً يجيء لك عن غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنك إن خرجت عن هذا الإطار تكون إنساناً لم يؤد أمانة الله ولا أمانة الرسول .
والقمة في الأمانة هي إيمان بالله ، وإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم . والله قد أمر بأحكام وحين تقبلها فلها أمانة ، وأمانتها هي أداؤها من غير نقص في شيء سواء كان عاماً أو خاصاً ، ولو في الحديث يجري أمامك ، وتمتد أمانة الإيمان إلى كل شيء ، مثل أمانة أي مجلس توجد فيه ، فلا يحق لك ان تنقل أسرار غيرك إلى هذا المجلس أو أسرار المجلس إلى آخرين .
ونعرف رجلاً من قادة العرب هو زياد بن أبيه وكان شديد الحزم ، فوشى واش بهمام بن عبد الله السلولي إلى زياد ، وتوقع القوم عقاباً صارماً بهمام؛ لأن زياداً كان يأخذ بالظن ، لكن الله ألهم همَّاماً كلمة ظلت دستوراً يطبق ، وحين استدعى زياد هماماً ، قال زياد : بلغني أنك هجوتني . قال همام : كلا أصلحك الله . ما فعلت ولا أنت لذلك بأهل . فقال : إن هذا الرجل - وأخرج الرجل من الخباء - أخبرني . فنظر همام إليه فوجده جليساً وصديقاً ومؤنساً ، فلما رآه كذلك أقبل عليه وقال : أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً فخنت ، وإما قلت قولاً بلا علم فأبت - رجعت - من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة الخيانة والإثم ، أي إما أنك خائن أو آثم ، فإن كنت قد ائتمنتك على كلمة نفست بها عن نفسي فأنت خائن ، وإن كنت اختلقتها عليّ فأنت كاذب ، فأعجب زياد هذا المنطق ، وأقصي الواشي ولم يتقبل منه . ويقال إنه خلع همام الصلة والعطايا . فكان همام حين يرى الواشي يقول له : هل لك في وشاية أخرى تغنيني؟!!
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم وقائع حدثت في تاريخه حتى من بعض الصحابة ، وعلى سبيل المثال : نحن نعلم أنه حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جعل عهداً بينه وبين اليهود ، فاستقام لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استقاموا للعهد ، فلما خالفوا هم العهد؛ أراد رسول الله أن يؤدبهم ، فأدبهم ، وكان أول ذلك في بني النضير وأوضح لهم أنه لن يقتلهم ، بل سيكتفي بإخراجهم من ديارهم وإبعادهم إلى الشام .
(1/3252)

ثم حدثت خيانة من بني قريظة ، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن . فبعثوا إلى رسول الله من يقول : يا رسول الله إن بني قريظة يريدون ان تصنع بهم ما صنعته مع بني النضير ، أي أن بني قريظة يعرضون ترك البلاد إلى الشام ، فرفض الرسول ذلك إلا بعد أن يحكّم فيهم سعد بن معاذ ، وكان يحب بني قريظة وبينه وبينهم صلة ، وعرف بنو قريظة أن رسول الله يطمئن إلى حكم سعد بن معاذ فقالوا : لا ولكن أرسل لنا أولاً أبا لبابة ، وهذه كُنْيته ، أما اسمه فهو مروان بن عبد المنذر ، وكان ماله في يد اليهود يتاجرون له فيه ، أي أن بينه وبينهم صلةً مالية .
ذهب أبو لبابة إلى اليهود ، فاسْتَشاروه في الأمر متسائلين : أنرضى بحكم سعد بن معاذ؟ فماذا قال أبو لبابة؟ قال : إنه الذبح ، وأشار إلى حلقومه ، وبعد ذلك لام أبو لبابة نفسه وقال : والله ما جالت قدماي حتى تيقنت أني خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن انظروا إلى الإيمان ، ويقين الإيمان ، وترجيح أمر الآخرة على أمر الدنيا ، والنظر إلى أن افتضاح الإنسان في الدنيا أمر هين بالنسبة لافتضاحه في الآخره .
ذهب إلى سارية المسجد - أي عمود في وسط المسجد - على مرأى ومشهد من الناس ، وحكم على نفسه بأن يربط نفسه بالسارية بيده ، وظل لا يَطْعَم ولا يَشْرَب سبعة أيام ، حتى خارت قواه وغشي عليه وسقط ، فعطف الله عليه ، وأبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قد تاب عليه . فقالوا له : حل نفسك بنفسك لأنك أنت الذي ربطت نفسك ، فقال : والله لا أحلها حتى يحلني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحله من السارية .
لماذا فعل أبو لبابة ذلك بنفسه؟ لأنه شعر بأنه خان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه قال لليهود إنه الذبح .
وهناك صحابي آخر هو حاطب بن أبي بلتعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع أمره لفتح مكة وأراد أن يستر مقدمه حتى تفاجأ قريش . وتكون المفاجأة سبباً في عدم تولد اللدد وليتم الصلح . لذلك كتم الأمر ، وبعد ذلك جلس رسول الله بين صحابته وأعلمه الله أن حاطبا قد أرسل إلى قريش يخبرها . فانتدب عليّاً ومعه صحابيان وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى مكان حدَّده لهم في الطريق إلى مكة ليجدوا فتاةً معها كتاب إلى قريش ، فلما ذهبوا إلى المكان المحدد وجدوا الفتاة ، فقال لها الإمام عليّ : أخرجي ما معك ، فقالت : ليس معي شيء .
(1/3253)

فمسك عليّ بن أبي طالب عقيصتها وأخرج الكتاب من المكان الذي تخبىء فيه أشياءها ، فوجد رسالة تحذير لقريش ، وعاد عليّ - كرّم الله وجهه - بالرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حاطبا : ما حملك على هذا يا حاطب؟
قال : والله يا رسول الله لقد علمت أن ذلك لا يضرك في شيء ، وأن الله ناصرك . . ناصرك ، ولكني أردت أن أتخذ لي يداً عند قريش ، لأنني رجل ضعيف ولا مال لي ولا أهل .
فعفا عنه رسول الله صلى الله وسلم رغم أن هذا نوع من اختيان الرسول . ولكنْ عليك أن تعلم أن كل مخالفة لحكم قبلته من الله الذي آمنت به يعتبر خيانة للأمانة .
{ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 27 ] .
أي لا تخونوا الله والرسول في المنهج ولا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وأنتم تعلمون ، أي ألا يخون أحدكم قومه عن عمد ، ويؤخذ من هذا القول ثبوت المغفرة في حالة الخطأ والنسيان ، والممنوع أن تخون وأنت تعلم وتقصد ، لكن إن حدث أمر بسبب فلتة لسان ، فاعلم أن ربنا سبحانه وتعالى غفور رحيم ، وله فضل عظيم ، لا يأخذك بالسهو ، وأنتم تعلمون بالفطرة أن مثل هذا الفعل رذيلة لا يقبل عليها إنسان كريم ، ولو لم يكن متديناً ، وعليك أن تقيس الأمر بمقياس واضح هو : أتحب أن يفعل أحد معك نفس ما تفعله مع غيرك؟ . وهذا سؤال تكون إجابته دليل الفطرة . فإن عرفت أن الفطرة ترفض الفعل ولا تقبله ، فعليك ألا تفعله ، لأنه مناف لهذه الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها ، وعلى سبيل المثال : إن اللص لو تخيل نفسه مسروقاً لما رضي أن يسرق ، والمعتدي على العرض ، لو تخيل أن هناك من يعتدي على عرضه لما اقترف الاعتداء على عرض الغير بهدف تحقيق شهوة في النفس . وما لا ترضاه لنفسك يجب عليك ألا ترضاه لغيرك . أتحب أن يخونك أحد في حديث أو في أمانة؟ لا؛ لذلك عليك أن تقيس كل أمر لا من الطرف الآخر ، بل من طرفك أنت .
إذن فقول الحق تبارك وتعالى : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي متعمدون ، غير ناسين أو ساهين ، أو جاء الأمر كفلتة لسان؛ لأنكم إذا كنتم تعلمون ، ففي ارتكاب هذه الأفعال خيانة والله ينهي عن ذلك فيقول :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 27 ] .
ونلحظ أن الخطاب هنا لجماعة المؤمنين ، وجاءت الأمانات أيضاً جماعة ، وأنت حين تُفصِّل الأمانات المجموعة على القوم المخاطبين بذلك ، تعلم أنَّ على كل إنسان تكليفاً محدوداً هو ألا يخون أمانته مثلما يقول الأستاذ للتلاميذ : أخرجوا أقلامكم . فعذا أمر لجماعة التلاميذ بأن يخرج كل واحد قلمه .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ }
(1/3254)

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
وإذا بحثنا عن علاقة هذه الآية بالآية السابقة عليها نجد أن العلاقة واضحة؛ لأن خيانة الله ، وخيانة الرسول ، وخيانة الأمانات إنما يكون لتحقيق شهوة أو نفع في النفس ، وعليك أن تقدر أنت على نفسك لأنك قد لا تقدر على غيرك ، ومثال ذلك : أنت قد لا تقدر على مطالب أولادك ، وقد لا يكفي دخلك لمطالبهم ، فهل يعني ذلك أن تأخذ من أمانة استودعها واحد عندك؟ لا .
هل يعني ذلك أن تخون في البيع والشراء لتحقيق مصلحة ما؟ لا .
هل تخون أمانات الناس من أجل مصالح أولادك أو لتصير غنيّاً؟ . لا .
وقد جاء الحق هنا بالأمرين ، والأولاد وأخبرنا أنهما فتنة ، والفتنة - كما علمنا من قبل - لا تذم ولا تمدح إلا بنتيجتها؛ فقد تكون ممدوحة إذا نجحت في الاختبار ، وتكون مذمومة حين ترسب في ذلك الاختبار المبين في تلك الآية الكريمة .
والمتتبعون لأسرار الأداء القرآني يعرفون أن لكل حرف حكمة ، وكل كلمة بحكمة ، وكل جملة بحكمة؛ لذلك نجد من يتساءل : لماذا قدم الحق تبارك وتعالى الأموال على الأولاد؟ . ونقول : لأن كل واحد له مال ولو لم يكن له إلا ملبسه . وبطبيعة الحال ليس لكل واحد أولاد . ثم إن الأبناء ينشأون من الزواج ، ومجيء الزوج ، يحتاج إلى المال؛ لذلك كان من المنطق أن يأتي الحق بالأموال أولاً ثم يأتي بذكر الأولاد .
وأساليب القرآن الكريم تتناول هذا الموضوع بألوان مختلفة؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } [ آل عمران : 14 ] .
وفي هذا القول نجد أن القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تأخرت هنا عن النساء والبنين . ولم يأت بذكر الأموال أولاً ثم الأولاد كفتنة . وعلينا أن ننتبه أنه سبحانه وتعالى جاء هنا بالقناطير المقنطرة ، وهي تأتي بعد تحقيق الشهوة الأولى؛ وهي النساء ، والزينة الثانية وهي الأبناء ، ونعلم أن من عنده مال يكفيه للزواج والإنجاب قد يطمع في المزيد من المال ، فإن كانت الوحدة من القناطير المقنطرة هي القنطار ، فمعنى ذلك أن الإنسان الذي يملك قنطاراً إنما يطمع في الزيادة مثلما يطمع من يملك ألف جنيه في أن يزيد ما يمتلكه ويصل إلى مليون جنيه ، وهكذا . إذن فالقناطير المقنطرة تعني الرغبة في المبالغة في الغنى .
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :
{ واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] .
ويقول في آية ثانية : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] .
وفي هذا القول نجد أن العداوة تأتي من الأزواج قبل الأولاد ، ونعلم أن الزوجة في بعض الأحيان هي التي تكره أولاً ثم يتأثر بكراهيتها ويتشبه بها الأبناء ، وهذا كلام منطقي؛ لأن الذي يتكلم هو رب حكيم .
(1/3255)

{ واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } .
وفي هذا القول تحذير واضح : إياكم أن ترسبوا في هذا الاختبار؛ فمن يجمع المال من حرام لترف أبنائه فهو خائن للأمانة ، وهذا له عقاب ، ولذلك يذكرنا الحق تبارك وتعالى في آخر هذه الآية بما يحبب إلينا النجاح في الاختبار فيقول سبحانه :
{ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
ونعلم أن النفس البشرية مولعة بحكم تكوينها الفطري من الله بحب النفع لنفسها ، ولكن المختلف فيه قيمة هذا النفع؛ وعمر هذا النفع؛ لأن الذي يسرق إنما يريد أن ينفع نفسه بجهد غيره ، ومن لا يسرق يريد أيضاً أن ينفع نفسه ليبارك الله له في المال وأن يعطيه الرزق الحلال . وهكذا تكون النفعية وراء كل عمل سواء أكان إيجاباً أم سلباً ،
والمثال الذي أضربه دائماً لذلك هو الطالب الذي يهمل في دروسه ، ويوقظه أهله كل صباح بصعوبة ، ثم يخرج من المنزل ليتسكع في الشوارع ، والطالب الثاني الذي استيقظ صباحاً وذهب إلى مدرسته وانكب على دروسه ، إنَّ كلاً من الطالبين قد أراد نفع نفسه ، الفاشل أراد النفع الأحمق ، والناجح أراد النفع في المستقبل . ونعرف أن النفع غاية مطلوبة لكل نفس . والمهم هو قيمة النفع ، وعمر النفع . فإذا كانت الخيانة ستؤدي لك نفعاً في أولادك أو أموالك؛ فاذكر ما يقابل الأمانة من الأجر عند الله عز وجل ، وضع هذه في كفة ، وضع تلك في الكفة الأخرى ، وانظر أي كفة ترجح ، ولا بد أن ترجح كفة الأجر عند الله عز وجل .
ولذلك قال المتنبي :
أرى كلنا يبغي الحياةَ لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبًا
فحُبُّ الجبانِ النفسَ أوْرَده التقى ... وحُبُّ الشجاعِ النفسَ أوْرَده الحَرْبَا
فكلنا نحب الحياة؛ الجبان الخائف من الحرب يحب الحياة ، والشجاع الذ يحب نفسه ويعلم قيمتها عند خالقها يخوض الحرب رغبة في حياة الاستشهاد ، وهي حياة عند الله إلى أن تقوم الساعة ، ثم تتلوها حياة الجنة حيث يخلد فيها أبداً .
إذن فالمعيار الذي نقيس به النفع هو محل الاختلاف .
وفي عرف البشر نجد أن الأجر يساوي قيمة العمل ، لكن الأجر عند الله لا يساوي العمل فقط ، بل هو عظيم بطلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى :
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ . . . }
(1/3256)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
ويستهل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة بنداء الإيمان ، ثم يضع شرطاً هو : { إِن تَتَّقُواْ الله } ، ويكون جواب الشرط أن يجعل لنا فرقاناً ، ويكفر عنا السيئات ، ويغفر لنا وسبحانه هو الكريم وصاحب الفضل العظيم .
والمراد بالتقوى هنا أن تكون التزاما بالأحكام؛ وقمة الالتزام بالأحكام هي الإيمان بالله عز وجل ، وإذا وجد الاثنان؛ الإيمان بالله والالتزام بالأحكام ، لا بد أن يتحقق وعد الله المتنثل في قوله تعالى
{ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] .
والفرقان من مادة " فرق " " الفاء والراء والقاف " ، وتأتي دائماً للفصل بين شيئين ، مثلما ضرب موسى البحر بعصاه فكان كل فِرْق كالطود العظيم . وسبحانه وتعالى يقول : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] .
أي نزع الله سبحانه الاتصال بين متصلين فصار بينهما فرق كبير .
وافرض - على سبيل المثال - أنك أحضرت ثوباً من قماشٍ مُتَساوٍ في النسيج واللون ، ثم شققت من الثوب جزءاً منه؛ هنا لا يقال إنك فرقت بين القطعتين ، بل فصلت بينهما ، لكن لا يقال فِرْق إلا إذا كان الفصل يؤدي إلى فرقتين؛ فِرقة هنا ، وفِرقة هناك وهذه أشياء ومتعلقات ، وتلك لها أشياء ومتعلقات .
إذن فالفرق ليس هو الفصل بين متلاحمين فقط ، بل هو فصل يؤدي إلى أن يكون لكل فرقة منهج ، ومذهب ، ورأي .
و { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } أي يفصل بين شيئين لم يكن يوجد بينهما اتفاق؛ لأنه لو كان بينهما اتفاق لصارا فرقة واحدة ، لكن لأنهما مختلفات لذلك لا بد من وجود تناقض بينهما . وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : إنه يجعل لكم فرقاناً ، مثال ذلك ، هناك من يهتدي ، وهناك من يضل . وبطبيعة الحال يوجد فرق بين الهدى وبين الضلال . فالله شرح صدر المتهدي للإسلام ، وجعل صدر الكافر ضيقاً حرجا؛ فيه غل وحقد وحسد ومكر ، وخديعة؛ لذلك يفصل ربنا بين من بقلبه طمأنينة الإيمان وبين من يمتلىء صدره بالضغينة ، فالمؤمن من فرقة تختلف عن فرقة أصحاب القلوب الحقودة .
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] .
أي أنه سبحانه وتعالى يفصل بينكم أو يفصل بين عموم الحق وعموم الباطل؛ لأنه يريد أن تكون حركة الحياة وحدة متكاملة منسجمة ، لا يسودها هوى جماعة ضد جماعة لها هوى آخر؛ لأنهم كلهم خلفاء لله في الأرض ، وكلهم مخلوقون لله ، وكلهم متمتعون بخيرات الله؛ لذلك يجب أن تكون حركاتهم متساندة ومتناسقة غير متعاندة .
والتفرق - كما نعلم - إنما ينشأ عن اشتباك؛ بين فريقين اثنين ، واحد منهما يمثل فريق الهدى ، والثاني هو من حق عليه عذاب الله .
{ إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] .
(1/3257)

ويتمثل الفرقان في هدى القلب ، والبصيرة والعلم؛ وأي شيء يفصل بين الحق والباطل ، وأحوال الإنسان - كما نعلم - قسمان : أحوال الدنيا ، وأحوال الآخرة ، وأحوال الدنيا فيها أمور قلبية مستترة ، وفيها أمور ظاهرة ، وإن نظرنا إلى حالات الدنيا نجد منها الظاهر وهو الحركة المحسة ، ومنها القلبي الذي لا يعرفه من بعد الله إلا صاحب القلب . والفرقان في أحوال الدنيا القلبية تلمسه حين تجد من اهتدى ، ومن ضل؛ ونجد أن المهتدي قد شرح ربنا صدره للإسلام . ونجد أن الضال هو من لم يشرح الله صدره للإسلام والمهتدي يعيش ضمن الفريق الذي لا غل فيه ولا حقد ، والضال هو من يعيش في فريق يتصف بالغل والحقد ، هذا في الأمور القلبية . أما في الأعمال الظاهرة ، فالحق يجعل الفرقان بين أهل الإيمان وأهل الكفر؛ بالنصر ، والغلبة ، والعزة .
وماذا عن الفرقان في الآخرة؟ .
إن الحق يجعل الفرقان في الآخرة بحيث يكون لأهل الإيمان النعيم المقيم والثواب العظيم ، ويجعل لأهل الكفر العذاب الشديد والمقت الكبير .
{ إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ الأنفال : 29 ] .
وإذا كنا سنتقي الله فهل سيكون لنا سيئات؟ .
وأقول : إن أردت بقوله : { إِن تَتَّقُواْ الله } إيماناً به ، فسبحانه يُكَفِّر عنكم سيئاتكم؛ صغائرها وكبائرها . ولا يضر مع الإيمان معصية ، بل تدخل في عفو الله وغفرانه .
وإن أردت بالتقوى " التزام أمر " فتكفير السيئات يعني أن نتقي الله بترك الكبائر فيكفر عنا السيئات وهي الصغائر . والتكفير على نوعين؛ أولا أن يسترها عليك في الدنيا ، أو يذهب عنك عقوبة الآخرة ، ولذلك يقول سبحانه في ختام جميل للآية :
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] .
وحين يوصف الفضل بأنه عظيم ، فمعنى ذلك أنَّ هناك فَضْلاً أقل من عظيم ، كما أن هناك فَضْلاً يعلوه تميزاً . نعم ، ونعلم أن التفاضل موجود عند البشر؛ هذا يتفضل على هذا بطعام ، أو يتفضل عليه بِمَلْبَس ، أو يتفضل عليه بشراب ، أو يتفضل عليه بمسكن ، أي أن هناك أنواعاً متعددة من الفضل ، لكنها لا توصف بالعظمة؛ لأن الفضل العظيم يكون من الله تعالى فقط لأنه سيؤول إليه كل فضل من دونه ، فمن أعطى آخر رغيف خبز فلنعلم أن وراءه من أحضر الخبز من المخبز ، ووراءه من جاء بالدقيق من المطحن ، ووراءه من زرع وحصد .
إذن كل فضل هو من الله ومآله مردود إلى الله عز وجل ، وهذا هو الفضل العظيم . وأيضاً نجد أن الذي يتفضل على واحد لا بد أنه يبغي من وراء هذا الفضل شيئاً ، مثل كمال الذات ، وأنه يود الحمد والثناء ، ويبغي راحة نفس إنسانية ، ونرى أناساً يؤدون الفضل لغيرهم ليقللوا من آلامهم ، لا لأنهم يطبقون منهج الله ، بل يرغبون في مجرد راحة النفس ، مثل الكفار الذين يصنعون أشياء تفيد الناس ، فهم يفعلونها وليس في بالهم الله ، بل في بالهم راحة النفس وانسجامها .
(1/3258)

إذن فالذي يتفضل إنما يريد شيئاً ، إما كمال مال أو ثناء وإطراء ، وراحة نفس من مناظر الإيلام التي يراها ، وهذا دليل على أنه يعاني من نقص ما ويريد أن يكمله . فإذا كان الله عز وجل هو صاحب الفضل ، ألله نقص في كمال؟!! لا . إذن فهذا هو الفضل العظيم ويمنحه لعباده تفضلاً منه دون رغبة في كمال أو ثناء ، وأيضاً فكل فضل من دون الله يتضمّن المنّ ، لكن فضل الله تعالى ليس فيه منّ وليس فيه ذِلة لأحد . وقد يستنكف إنسان أن يأخذ شيئا من إنسان آخر . لكن من الذي يستنكف على فضل الله؟ . لا أحد . لأنَّ الحياة كلها هبة منه ، ولذلك يُضرب المثل بالفتاة التي قالت لمعن بن زائدة :
فَعُدْ إنَّ الكريَم له معاد ... وظنِّي بِابْن أروى أن يعودا
وكانت الفتاة تطالب ابن زائدة أن يعود إلى التفضل عليهم ، فنهرها أبوها ، فقالت له : يا أبي إن الملوك لا يُسْتَحَى من الطلب منهم .
{ والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] .
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن تنتبه إلى أن كل مظهر من مظاهر وجودك في الحياة ومظاهر استبقاء حياتك ، ومظاهر نعيمك كلها ، إن نسبتها فستصل إلى الله ، فإن كنت تشتري - على سبيل المثال - أثاثاً لبيتك ، واخْتَرت خَشَب الورد ليكون هو الخشب الذي يصنع لك منه النجار هذا الأثاث ، فأنت تأتي بهذا الخشب من أندونيسيا أو باكستان مثلاً؛ لأن الغابات هناك تنتج مثل هذا النوع من الخشب ، وكل شيء في حياتك إن سلسلته ستجد أن أيدي المخلوقات من البشر تنتهي عند خلق لله وهبه للإنسان ، وهذا هو الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى .
وبعد أن أوضح الحق سبحانه وتعالى بهذا التوجيه : لا تخونوا الله ، ولا تخونوا الرسول ، ولا تخونوا أماناتكم ، من أجل أولادكم أو أزواجكم ، واعلموا أن مرد كل الفضل إلى الله تعالى ، واذكروا واقع الدنيا معكم ، أصدقت هذه المسائل أم لم تصدق؟ لقد صدقت كلها ، كما قال الحق سبحانه وتعالى من قبل : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } [ الأنفال : 26 ] .
وكان هذا القول بالنسبة للمسلمين ، فماذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ . هنا يقول المولى سبحانه : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ . . . }
(1/3259)

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
ونلحظ أنه سبحانه وتعالى لم يأت بمادة الذكر في جانب النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يقل له : واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا؛ لكنه في جانب الصحابة جاء بمادة الذكر حيث قال : واذكروا إذ أنتم قليل ، فما السبب؟
ذلك لأنه لا يطرأ على البال أن يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذكر الله تعالى؛ لأن الذكر هو مهمته عليه الصلاة والسلام ، وسبحانه وتعالى القائل : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [ الغاشية : 21 ] .
هذا الذكر والتذكير هما وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويختلف هذا عن مهمة الإيمان في حياة المؤمنين؛ لأن الإيمان بالنسبة لهم إنما ليعدل من حياتهم . لذلك جاء هنا بالظرف فقط .
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] .
وهذا كله شرط وحيثية لقولة تعالى : { والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] .
والمكر هو التَّبْييت بشيءٍ خفِيً يضرّ بالخَصْم . والذي يمكر ويبيت شيئاً خفيّاً بالنسبة لعدوه ، لا يملك قدرة على المواجهة ، فيبيت من ورائه ، ولو كانت عنده قدرة على المواجهة فلن يمكر؛ لذلك لا يمارس المكر إلا الضعيف . ونجد ربنا سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] .
ثم نجده سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] .
وما دام كيدهن عظيما فضعفهن أعظم . ولذلك نجد الشاعر العربي يقول :
وضعيفة فإذا أصابَتْ فرصةً ... قَتَلتْ كذلك قُدْرَةُ الضُّعفاءِ
لأن الضعيف إن أصاب فرصة استغلها حيث يظن أنه قد لا تتاح له فرصة ثانية؛ لذلك يندفع إلى قتل خصمه . أمَّا القوي فهو يثق في نفسه وقدراته ولذلك يعطي خصمه فرصة ثانية وثالثة ، ثم يعاقب خصمه على قدر ما أساء إليه .
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .
أي يذكرون الكيد والتبييت لك بالمكر ، لكنهم لا يعلمون أن مَنْ أرسلك يا رسول الله لا تخفى عليه خافية ، فقد يقدرون على المكر لمن هم في مثلهم من القدرة ، لكنك يا رسول الله محاط بعناية الله تعالى وقدرته وحامل لرسالته فأنت في حفظه ورعايته .
إذن فلست وحدك لأنك تأوي إلى الله ، ويكشف الله لك كل مكرهم ، وهذا المكر والتبييت مكشوف ومفضوح من الله؛ لذلك يقول لك المولى سبحانه وتعالى :
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] .
والمكر منهم له وسائل وغايات ، هم يمكرون ليثبتوك ، ويمكرون ليقتلوك ، ويمكرون ليخرجوك . وكل لقطة من الثلاثة لها سبب . فحين علم كفار قريش أن أهل المدينة من الأوس والخزرج قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصروه؛ هنا فزع كفار قريش وأرادوا أن يضعوا حّداً لهذه المسألة ، فاجتمعوا في دار الندوة يريدون أن يجدوا حلاً يوقف رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليهم أعرابي فوجدهم يتشاورون؛ وقالوا لنثبته ، والتثبيت ضد الحركة ، وقوله : " ليثبتوك " أي ليقيدوا حركتك في الدعوة؛ لأن هذه الدعوة تزلزلهم .
(1/3260)

ولولا الرسالة ، لظلوا على الترحيب بك يا رسول الله ، فقد كنت في نظرهم الصادق والأمين ، ولم يرهقهم إلا التحرك الأخير لإشاعة منهج الله تعالى في الأرض ، لذلك أرادوا أن يقيدوا حركته صلى الله عليه وسلم .
والتقييد إما أن يكون بأن تمنع المتحرك عن الحركة ، وإمّا أن تقيد المتحرك نفسه فتحدد مجال حركته . إذن فالتثبيت يكون بالقيد أو السجن ، وقيل لهم : إن هذا رأي غير صائب لأنكم لو قيدتموه أو سجنتموه فسوف يقوم قومه ويغيرون عليكم ، أو يحتالون ليفكوا عنه القيد أو السجن ، وقد سبق لكم أن حاصرتموه فلم تفلحوا ، وقال آخر : نخرجه من بلادنا ، وناقشوا هذا الأمر فلم يجدوه صواباً ، وقالوا : إنه إن خرج ، فلسوف يؤثر فيمن يخرج إليهم تأثيراً يجعل له منهم أتباعاً ، يأتون إلينا من بعد ذلك ليقاتلونا ، وأشار الأعرابي بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن كبار قريش قالوا : نخاف من قومه أن يأخذوا بثأره ، فاقترح أبو جهل قائلا : نأخذ من كل قبيلة من قبائلنا فتى جلداً قويّاً ، وبعد ذلك يذهبون إلى محمد وهو في فراشه ويضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا مات تفرق دمه في القبائل ، ولن تستطيع قبيلة محمد أن تواجه القبائل كلها ، فيرضون بالدية ، وندفعها لهم وننهي هذا الأمر .
هكذا ناقش القوم تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقييد حركته أو إخراجه من بلده أو قتله ، وكل هذا بمكر وتبييت . وكشف الله لرسوله كل ذلك وأخرجه من مكة مهاجراً إلى المدينة ليوضح لهم أنه سبحانه خير الماكرين حقّاً وصدقاً .
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا . . . }
(1/3261)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
وقول الحق : " آياتنا " يعني آيات القرآن؛ لأننا عرفنا من قبل أن الآيات إما أن تكون الآيات الكونية التي تلفت إلى وجود المكوِّن الأعلى مثل الليل والنهار والشمس والقمر ، وإمّا أن تكون الآيات بمعنى المعجزات : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } [ الأعراف : 203 ] .
وهذه الآيات المعجزة علامة على أنه صادق . أو الآيات التي هي قسط من القرآن وهو المنهج .
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } [ الأنفال : 31 ] .
ونفهم من التلاوة أن المقصود هو آيات القرآن الكريم . فماذا قالوا؟
{ قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ] .
وقولهم : " لو نشاء " هذا يدل على أنهم لم يقولوا؛ لأن " لو " حرف امتناع لامتناع ، مثلما تقول : لو جئتني لأكرمتك ، فامتنع الإكرام مني لامتناع المجيء منك ، فهذا يعني امتناع لامتناع ، ومثلما يقول قائل : لو عندي مال لاشتريت قصراً ، ولأنه لا يملك مالاً ، فهو لم يشتر القصر - إذن هم لم يشاءوا ولم يقولوا؛ لذلك كان كلامهم مجرد " تهويش " وتهديد لا محل له . فلم يحصل منهم هذا ولا ذاك .
إذن ثبت الإعجاز . لقد ثبت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منهم أولاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وحين قالوا : إن القرآن كثير ولا يقدرون أن يأتوا بمثله ، تحداهم بأن يأتوا بعشر سور ، وحين فشلوا ، تحداهم بأن يأتوا بسورة ، فلم يأتوا ، وكان هذا تدرجاً في الإعجاز .
لقد تحداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى التحدي حفز المُتَحدّى أن يُجند كل ما يقوى عليه ليرد التحدي . فإن لم تتجمع لهم المواهب التي تكفل قبول التحدي انسحبوا؛ لكن واحداً منهم " النضر بن الحارث " ذهب لفارس ، ورأى كتاباً هناك يضم أساطير وحكايات ، وجاء ليقول وسط قريش : هأنذا أقول مثل محمد . لكن كلامه لم يكن له هدف ولا يحمل منهجاً ولا توجد لكل كلمة فيه قدرة جذب لمعنى ، ولم يوجد في قوله أي معنى جاذب للكلمة ، لذلك انصرف عنه القوم .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } [ الأنفال : 31 ] .
وهذا قولهم ، وسبق أن اعترفوا بأنه قرآن ، وسبق لهم أن قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }
(1/3262)

[ الإسراء : 90 - 93 ] .
وحين نقرأ هذه الآيات الكريمة ونقوم بتعداد ما طلبوا منه ، نجد أنهم طلبوا تفجير الأرض بينبوع ماء ، وطلبوا أن تكون له جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، وطلبوا أن تسقط السماء كما زعم عليهم كسفا ، وطلبوا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا ، وطلبوا أن يكون له بيت من زخرف ، وطلبوا أن يرقى في السماء ، وكل هذا كلام طويل أثبته القرآن الكريم ، فهل ما قالوه يعد قرآنا؟ لا ، ولنلتفت إلى دقة أداء القرآن ، فلم يقل كل هذه الطلبات إنسان واحد ، بل قال كل منهم طلباً ، وبأسلوب مختلف ، ولكن بلاغة القرآن الكريم جمعت كل الأساليب فأدتها بتوضيح دقيق وبإعجاز بالغ ، ولذلك لنا أن نلتفت أننا ساعة نسمع نقلا لكلام الغير من القرآن ، فعلينا ألا نأخذه على أن هذا الكلام الذي قيل هو معانٍ قيلت ، وجاء القرآن الكريم بها بأسلوب الله .
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إذا جئت لابنك وقلت له : يا بني اذهب إلى عمك فلان وقل له : إن أبي يدعوك غداً مساءً لتناول العشاء معه؛ لأن عنده ضيوفاً ويحرص على أن تشاهدهم ويشاهدوك وتقوي من مكانته . وحين ذهب الولد لعمه ، هل قال له نفس الكلام؟ طبعا لا؛ لأن الأب قد يكون متعلماً ، ولا يستطيع الابن أن يقول ذات الكلمات . أو قد يكون الأب أميّاً ، والابن مثقفا ناضجا فينقل الابن رسالة أكثر بلاغة .
إذن فأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً من غير الله على لسان أحد ، فاعلم أن هذا أداء الله لمطلوبات المتكلم .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } [ الأنفال : 31 ] .
والأساطير جمع أسطورة ، أي الحوادث والأحاديث الخرافية مثل ألف ليلة وليلة ، وكليلة ودمنة ، والإلياذة وغيرها من كتب الأساطير .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ . . . }
(1/3263)

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
و " إذ " تأتي للظرف أيضاً ، ولم يقل سبحانه وتعالى : واذكر أن قالوا ، بل قال : " إذ قالوا " . وقد بلغ بهم العجز إلى أن قالوا إن كان هذا القرآن هو الحق القادم من عندك فأمطر علينا حجارة ، أو ائتنا بعذاب أليم .
أليس هذا الكلام دليلاً على غباء قائليه؟ بالله لو كان عندهم عقل ومنطق وتفكير ، أكانوا يقولون ذلك؟
ألم يكن من المناسب أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ، أو فاجعلنا نقبله؟ . وما داموا قد قالوا : " اللهم " فالمنادى هو الله .
{ وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] .
إذن هم يعلمون أن لله عز وجل عنديةً ، وفيها حق ، وهكذا نرى أنهم اعترفوا بوجود الله ، وأنَّ عند الإله حقًا . فكيف إن جاء إنسان وقال لكم : إنني رسول من عند الله ، وهذا هو المنهج ، وهو منهج ومعجزة في وقت واحد ، ألم يكن من الواجب أن تستشرف آذانكم إلى من يبلغ عن الله هذا الحق وأن تستجيبوا له؟ . لكن ما داموا قد استمطروا على أنفسهم اللعنة والعذاب ، فهذا دليل كراهيتهم لمحمد ، ومن أجل هذه الكراهية دعوا الله أن ينزل عليهم العذاب كما فعل بالأمم السايقة - وطلبهم هذا للعذاب يدل على أنهم علموا أن من يكذب الرسل ويرفض المنهج إنما يتلقى العذاب من الله . وهكذا يتبين لنا أن ما ينقصهم لإعلان الإيمان هو عدم قبولهم لرسول الله شخصياً ، ويتمثل هذا في قول الحق تبارك وتعالى في آية أخرى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
إذن لو أن القرآن نزل على شخص آخر؛ لآمنوا به . وفي هذا اعتراف بأن القرآن معجزة ، ومنهج . وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ورد على لسان أبي جهل وهذا يدل على كثرة جهله وشدة تكذيبه وعناده وعتوه هو ومن معه من المشركين المكذبين . فعن أنس بن مالك : قال أبو جهل بن هشام :
{ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فنزلت : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
وهؤلاء المعاندون قالوا أيضا : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [ الإسراء : 92 ] .
وهذا دليل على التخبط في الكلام ، وفقدان الوعي العقلي .
{ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] .
والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يصيب بالعذاب قوماً بعينهم وقادر على نجاة المؤمنين ، وشاء الله سبحانه ألا ينزل العذاب؛ لأن رؤية المتألم حتى ولو كان عدوّاً ، فيه إيلام - لذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ . . . }
(1/3264)

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
لأن سنة الله مع خلقه المكذبين للرسل ، أنه سبحانه وتعالى قبل أن ينزل العذاب يخرج الرسول والمؤمنين به ، مثال ذلك أمْره نُوحاً عليه السلام بأن يصنع السفينة؛ لينجو من الطوفان . وكل رسول لم تستجب أمته أصابها شيء من هذا ، وعلى ذلك يخرج الرسول أولا ، ثم ينزل الحق عذابه ، كما أنه يقول سبحانه وتعالى موضحا فضل اللجوء إلى الله بالاستغفار :
{ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
وهم إن استغفروا الله فمعنى ذلك أنهم آمنوا به ، ولكن الحق جاء بهذا القول ليدلهم على المنقذ الذي يخلص الإنسان منهم من جريمة الكفر ، وفي ذلك رحمة منه سبحانه وتعالى ، وكأنه يحضّهم على أن يستغفروا حتى لا ينزل بهم العذاب . ويرسم لهم وسيلة النجاة .
{ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] .
وتسمى اللام في " ليعذبهم " ب " لام الجحود " ، نجحد أن يعذبهم الله وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذن فوجود الرسول فيما بينهم أمر له تقدير خاص ، أما هم فالحق تبارك وتعالى يقول بشأنهم : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
وهكذا نرى الحقائق الإيمانية ، فالنفس المؤمنة الصافية حين يكون لها عدو ، ثم تحل بالعدو مصيبة ، لا تأتي أبداً كلمة الشماتة على بال المؤمن ، هذا هو الخلق الإيماني الذي قد يؤلمه مظهر الضعف والمهانة للعدو ، فيضنّ الله على أن يعذب قوماً وفيهم من يستغفر ، وكأنه يُوضَّح لنا : هب مسيئنا لمحسننا ، أي أن يداري المحسن على المسيء . ولذلك نجد " أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية صُدَّ عن البيت الحرام ، وهذا الصد تسبب في أنهم يعقدون معه معاهدة هي صلح الحديبية ، وكان هناك من المؤمنين من يعارض هذه المعاهدة ، ومنهم من قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ . والقائل لذلك هو عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - ، وفي التفاوض ، جاء علي بن أبي طالب ليكتب المعاهدة وفي بدئها " هذا ما صالح عليه رسول الله " فاعترض المفاوض عن معسكر الشرك قائلاً : لو كنا مؤمنين بأنك رسول الله لما حاربناك ، بل اكتب : " هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله " ، فامتنع عليّ عن الكتابة ، وقال : لا أكتبها إلا رسول الله . فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتبها كما يقولون لينهي الموقف ، وليعطي معجزة ، فينظر لعلي وهو مغتبط به ، فيقول له :
" اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد " ويتحقق ذلك بعد حياة النبي ، وخلافة أبي بكر ، وخلافة عمر ، وخلافة عثمان ، ثم تجيء الخلافة لعلي وحدث فيها ما حدث . ويتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد "
(1/3265)

أي سيقفون منك موقفاً مثل هذا وسوف تقبله ، ولما جاء الخلاف بين معاوية وجنوده ، وبين علي وجنوده ، أرادوا أن يوقعوا معاهدة فيما بينهم ليمنعوا النزاع بين المسلمين ، فقال علي - كرم الله وجهه - : هذا ما تعاهد وتعاقد عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فقال المفاوض عن معاوية : لو كنت أميرا للمؤمنين أكنّا نحاربك؟ ، فتذكَّر علي كرم الله وجهه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية : " أُكتب فإن لك مثلها . . . . . إلخ " .
ومعنى ذلك أن السياسة تقتضي ألا تتجمد كمن يكون في قالب حديدي ، بل تفترض السياسة فيمن يعمل بها شيئاً من الليونة وبعد النظر لتنتهي المواقف الصعبة؛ لأن كل طرف لو أصرّ على موقفه لما وقعت المعاهدة ، وكانت معاهدة صلح الحديبية مطلوبة ومناسبة ليتفرغ المسلمون - بعد الأمن من قريش - للدعوة إلى منهج الله في الأرض ، وهذا ما حدث خلال السنوات العشر التي تلت هذه المعاهدة ، وانتشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية ، ومن بعدها إلى آفاق الأرض كلها .
إذن فوليّ الأمر عليه أن يملك البصيرة التي لا تجعله جامداً ، لأنه لو تجمد لأنهى الخير الموجود فيه وفي قومه ، وهكذا أراد رسول الله أن يعلمنا عدم الجمود بصلح الحديبية على الرغم من أن بعض المسلمين ومنهم عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - قالوا : لا ، علام نعطي الدنية في ديننا؟ وبعضهم قالوا متسائلين ، بل وعاتبين : ألم تعدنا يا رسول الله أننا سندخل البيت الحرام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقلت لكم هذا العام؟ .
ولم ينتبه المسلمون حين سمعوا ذلك إلى أهمية أن تنضج القرارات السياسية لتأخذ طريقها إلى التنفيذ . وكادت الفُرقة أن تحدث بين المسلمين ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجه أم سلمة مكروباً . وقال لها : يا أم سلمة هلك المسلمون . أمرتهم فلم يمتثلوا .
ونرى موقف أم سلمة رضي الله عنها وهي الزوجة الأمينة المشيرة الناصحة ، لقد قالت : يا رسول الله إنهم مكروبون ، لقد جاءوا وفي نيتهم أن يذهبوا إلى البيت الحرام بعد طول فرقة واشتياق ، ثم حُرموا من ذلك وهم بمرأى من البيت ، ولكن قم يا رسول الله فاعمد إلى ما أمرك الله به ، ولا تقل لهم شيئاً ، بل اذبح هديك ، وهم إذا رأوك فعلت فَعَلوا .
وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وذبح الهدي ، وفعل المسلمون مثله . ونجد سيدنا أبا بكر - رضي الله عنه - يقول عن الحديبية : هي الفتح في الإسلام . وما كان فتح الحديبية ، ولكن الناس لم تتسع ظنونهم إلى السر من الله . والعباد دائماً يعجلون ، والله لا يعجل بعجلة عباده حتى تبلغ الأمور ما يراد لها .
(1/3266)

وقد كان المخالفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيورين على دينهم ، على قدر علمهم لا علم الله . وشاء الحق تبارك وتعالى أن يبين لهم السبب في أنه لم يجعل من الحديبية أرض قتال أو التحام؛ فقال : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ] .
نعم فقد كان هناك مؤمنون ومؤمنات يختفون بين الكفار ، فلم يكن في مكة قبل الفتح - حيّ للمسلمين الذين يخفون إيمانهم ، وحيّ للكفار ، بل كان الناس يسكنون معاً ، فإذا ما قامت الحرب بين أهل مكة وبين الجيش القادم إلى الحديبية ، لقتل المسلم أخاه المسلم الذي لم يعلن إسلامه ، ولو أمكن التفريق بين المسلمين الذين لم يعلنوا إسلامهم وبين الكفار ، لعذب الله الكفار بأيدي المؤمنين عذاباً أليماً .
وهنا في هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
ويعني بذلك أن بعضهم هو الذي يستغفر فيمنع الله عز وجل العذاب عن الكل ، مثلما منع تعذيب الكافرين بصلح الحديبية؛ لأن هناك مؤمنين مستخفين فيما بينهم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ }
(1/3267)

وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
وهنا نتساءل : أي شيء يمنعهم من أن يعذبهم الله؟ . إن تعذيبهم هو عدالة؛ لأنهم فعلوا ما يستحقون عليه التعذيب . لقد صدوا الرسول والمسلمين عن زيارة المسجد الحرام؛ لأنهم ظنوا أن لهم الولاية عليه ، رغم أن منهم من سمع خبر أبرهة الأشرم حين جاء بالأفيال ليهدم الكعبة . واستولى أبرهة الأشرم على مائة من الإبل كانت لسيد قريش عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه عبد المطلب وقال له : إنك قد أصبت لي مائة بعير فأرجو أن تردها إليّ . فقال أبرهة الأشرم : جئت لأهدم بيتكم ، وبيت آبائكم ، ثم لا تكلمني فيه وتكلمني في مائة من الإبل أصبتها منك؟ فقال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل ، أما البيت فله رب يحميه .
وهذه كلمة لا يقولها إلا واثق من أن للبيت الحرام ربّاً يحميه .
وجاءت طير أبابيل ترمي بحجارة من جهنم فجعلته هو وجيشه كعصف مأكول .
إذن فكيف تصد قريش محمداً والمؤمنين معه عن البيت الحرام ، وهم بإقرار سيدهم قديماً يعلمون أنَّ للبيت ربّاً يحميه ، فكيف تكون لكم على البيت ولاية؟ وكان عليهم أن يعلموا أن ولاية أمر بيت الله باختيار الله ولا تكون إلاَّ للمتقين ، ولم تكن قريش من المتقين .
وحيثيَّات التعذيب إذن هي صدهم عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه . لماذا؟
{ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] .
وإذا كان أكثرهم لا يعلم ، فأقلهم يعلم علم اليقين حقيقة البيت الحرام ، فقداسة هذا البيت التي تعلمها الأقلية ونسيتها الأكثرية من كفار قريش هو قول الحق تبارك وتعالى على لسان سيدنا إبراهيم : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات } [ إبراهيم : 37 ] .
لقد جعلهم الله عز وجل في هذا المكان ليقيموا الصلاة؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب أن يعبد في الأرض ولو بواحد في هذا المكان ، ولتظل عبادته دائمة . ومهما علت فئة من البشر مثل قريش فهي بصدها عن البيت الحرام قد اتبعت أهواءها ، وسبحانه يحقق ما يريد ، فهزم قريشا ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعادت للكعبة حرمتها وصارت مكانا للعبادة لله بصفة مستمرة .
وإننا نجد تشريعات الحق سبحانه في أوقات الصلاة ، فالصبح عند قوم هو ظهر عند قوم آخرين ، والظهر عند قوم هو صبح عند قوم آخرين ، والعصر عند قوم هو صبح أو ظهر أو مغرب أو عشاء عند أقوام آخرين ، وهكذا نجد كل أجزاء النهار مشغولة بأوقات الاتجاه إلى الله ، وهناك في كل لحظة من يتجه إلى بيت الله الحرام بصلاة ما في ميقاتها ، ولا تخلو بقعة في الأرض من قول : " الله أكبر " ، وقد تم بناء البيت الحرام من أجل هذه الصلاة .
لكن قريشاً حولت الصلاة من خضوع وخشوع وعبادة لله تعالى واستحضار لعظمته وجلاله إلى ما يقول عنه الحق سبحانه وتعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً . . . }
(1/3268)

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
حيث كانت صلاتهم مظهرا من مظاهر اللهو واللعب يؤدونها بالمكاء والتصدية ، والمكاء هو التصفير الذي يصفرونه ، والتصدية هي التصفيق ، وكانت صلواتهم هي صفير يسبب صدى للآذان ، بالإضافة إلى التصفيق بإيقاع معين ، فكيف تكون الصلاة هكذا؟ . وكيف يصدون عن البيت الحرام ولا ولاية لهم عليه؛ لأن الذي يلي أمر البيت الحرام لا بد أن يكون متقياً لله ، لكن هؤلاء لم يكونوا أهلاً للتقوى؛ لأنهم لم يقوموا بالصلاة المطلوبة للبيت الحرام والتي يجب أن يذكر فيها الله ويُعبد؛ لذلك كان التعذيب لمن أصر على ذلك بعد أن نزل منهج الله الخاتم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . . .
(1/3269)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
ويبين المولى في هذه الآية أن هؤلاء المشركين قد كفروا بالله وصرفوا المال ليصدوا عن سبيل الله فلم يتحقق لهم ما أرادوا ولم يأت ذلك الأمر بأدنى نتيجة ، وكأن الحق يغري الكافر بأن يتمادى في الإنفاق ضد الإيمان ، فيخسر الكافر ماله ويتجرع آلام الحسرة؛ لأن الله يغلبه من بعد ذلك .
وحين سمعوا قول الله سبحانه وتعالى :
{ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 36 ] .
لم ينتبهوا إلى أن الحق سبحانه يتحدث عن المستقبل ، وأنه مهما أنفق الكفار ضد دين الله فلن يصلوا إلى أية نتيجة ، ومصداق الأحداث يؤكد أن كلَّ ما يجيء به القرآن الكريم حق .
ولماذا لم ينتبهوا إلى ذلك؟ ولم يدخروا أموالهم؛ وقد نصر الله دينه؟ .
إذن هذا هو فعل من فقد البصيرة والذكاء . وحين يأتي القرآن الكريم بقول الله تعالى : " فسينفقونها " أي أن الإنفاق سيكون في المستقبل ، والاستقبال له مرحلتان؛ استقبال قريب ، واستقبال بعيد . فإن كان الاستقبال قريباً فهو يقول : " فسينفقونها " ، وأما إن كان بعيداً فيقول : فسوف ينفقونها مثلما قال القرآن أيضاً : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] .
وقد أعلمنا القرآن صلاة من رسول الله ، وجهرا من الصحابة بالخبر ، وأعلمهم القرآن الكريم أيضا ، ولكنهم لم يلتفتوا إلى التحذير الذي صار من بعد ذلك خبراً يروي دليل افتقادهم لصفاء الفطرة . ؛ لذلك تجيء لهم الحسرة بعد أن أنفقوا المال ، وخسروه فلم يستفيدوا شيئاً ولم يحققوا مرادهم ولا آمالهم . ويتابع سبحانه وتعالى تذييل هذه الآية فيقول :
{ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 36 ] .
وحينما يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن الأمور التي تحدث للكفار من عذاب عظيم في جهنم ، فسبحانه لا يريد بهذا الحديث أن يجعل مأواهم النار ، لكنه يخوفهم ويرهبهم من الكفر ويدعوهم إلى الإيمان ، ويحضهم على ألا يكونوا كافرين حتى لا يحشروا في جهنم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ . . . ]
(1/3270)

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
وهذه الآية الكريمة تكشف لنا أن المعارك التي تنشأ بين الإسلام وأتباعه من جهة ، وبين خصوم الإسلام وأتباعهم من جهة أخرى : هذه المعارك إنما هي أمر مراد من الله تعالى : لأن الزلزلة التي تحدث ، حتى لمن آمن ، إنما هي تصفية لعنصر الإيمان ، ومثال ذلك ما حدث في الإسراء ، حيث وجدنا من كان إيمانه ضعيفاً يتساءل : أمعقول أن يذهب محمد إلى بيت المقدس في ليلة؟! بينما نجد ثابت الإيمان مثل الصديق أبي بكر يقول : إن كان قد قال فقد صدق . إن الثابت والقوي إيمانه يصدق ، أما من لم يثبت إيمانه فهو يكذب . وهكذا كانت أحداث الإسلام ، فقد جاءت كلها لتميز الخبيث من الطيب ، وتجمع الخبيث بعضه إلى بعض ليصير ركاماً ثم يضعهم الله في النار .
لقد جاءت أحداث الإسلام للتمحيص ، مثلما تضع الحديد في النار لتستخرج منه الخبث ويصير صافياً ، وهكذا جاء الإسلام لتصفو به قلوب المؤمنين ، ويقوي إيمانهم؛ لأنهم يحملون رسالة الله تعالى إلى الأرض كلها ، بعد أن مروا بالتصفيات الكثيرة .
ومثل هذه التصفيات تحدث في المجال الرياضي ، فحملة الأثقال - على سبيل المثال - يدخلون في مباريات أولية ، ومن يستطيع حمل الوزن الأثقل هو الذي يكون مؤهلا لأن يدخل المباريات الدولية ، ليبقى الأقوى .
{ لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أولئك هُمُ الخاسرون } [ الأنفال : 37 ] .
والحق سبحانه وتعالى أعطانا أمثالاً لأحداث تميز الخبيث من الطيب ، فالناس في الأحوال العادية الرتيبة لا تظهر معادن نفوسهم؛ لأن الناس إذا كانوا آمنين لا يواجهون؛ خطراً ، ادعوا الشجاعة والكرم والشهامة ، وادَّعوا الإيمان القوي المستعد لأي تضحية في سبيل الله ، فإذا جاءت الأحداث فهي الاختبار الحقيقي لما في القلوب . فقد يقول إنسان لصديقه : أنا ومالي لك . وإذا ما أصابت هذا الصديق كارثة ، يتهرب منه . فما الذي يحدد - إذن - صدق الحديث عن النفس؟ إنها الأحداث . وهكذا أراد الله تعالى أن يميز الخبيث من الطيب فعركت المؤمنين الحوادث ، وزال الطلاء عن ذوي العقيدة الهشة؛ ليكون الناس شهداء على أنفسهم ، ويبقى المؤمنون أصحاب صفاء القلب والعقيدة . وحين يميز الله الخبيث من الطيب ، فهو سبحانه وتعالى : يريد تمييز الطيب حتى لا يختلط بالخبيث . والخبيث إنما يكون على ألوان مختلفة وأنواع متعددة ، فهذا حبيث في ناحية ، وذلك خبيث في ناحية أخرى ، وثالث خبيث في ناحية ثالثة ، وغيرهم في ناحية رابعة ، وخامسة إلى ما شاء الله ، ويجمع الله كل الخبيث فيركمه في النار جميعاً .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ . . . }
(1/3271)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
و " قل " أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وما دام قد وجد أمر ، فلا بد من وجود المبلغ للأمر ، أي أن هناك مخاطِباً ومخاطَباً ، والمخاطِب هنا هو الله سبحانه ، والمخاطَب هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ لأن الله تعالى قال له : " قل " ، والبلاغ المطلوب منه إبلاغه للناس هو ما يتضمنه قول المولى سبحانه :
{ قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] .
أي إن انتهوا عن الكفر غفرت لهم ذنوبهم التي ارتكبوها أيام كفرهم ، ونلاحظ هنا اختلافاً في أسلوب الكلام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يخاطب الكافرين كان الذي يفرضه السياق أن يقول لهم : إن تنتهوا يغفر لكم؛ لأن الخطاب لا بد أن ينسجم مع المخاطب ، وعادة عندما توجه الخطاب لشخص تكون هناك " لام التوجيه " ، تقول : وجهت الخطاب لفلان ، وتخاطبه بشكل مباشر ، ولكن الله يقول هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم :
{ قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ } [ الأنفال : 38 ] .
وكان سياق الكلام يقتضي القول : إن تنتهوا يغفر لكم ، ولكن الله سبحانه وتعالى عدل عن إن تنتهوا إلى " إن ينتهوا " ، والكلام مخاطب به الكفار ، والكفار حاضرون فكيف يخاطبهم بصيغة الغائب؟
لقد أراد الله تعالى أن يأتي الخطاب ليعم كل متكلم يقال له هذا الكلام من أي مؤمن ، فكأنه قد عمم الخطاب ليقطع المعاذير . ومثل ذلك مثل قول الحق تبارك وتعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] .
وإذا أخذنا ذات المقياس لكان الكلام يقتضي أن يقال : لو كان خيراً ما سبقتمونا إليه ، ولأن هذه العبارة قيلت من أكثر من كافر في أماكن متعددة للمؤمنين ، وأراد الله سبحانه وتعالى : أن يلفتنا لذلك ، فعمم الخطاب حتى يشمل جميع الحالات ولا ينطبق على حالة واحدة فقط ، بل ينطبق على كل حالة مماثلة؛ لذلك قال سبحانه :
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ]
وهذا يدلنا على أنهم إن انتهوا عن مقاومة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنادهم معه فهو سبحانه وتعالى يغفر لهم ، لأن العناد والمقاومة ناشئان عن الكفر ، فإن انتهوا عنهما ، صاروا مؤمنين . والإسلام يَجُبُّ ما قبله .
ولذلك عندما أعلن محارب عن إيمانه واعتنق الإسلام وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم دخل المعركة فاستشهد صار شهيدا؛ لأنه قد غُفر له بشهادة الإسلام كل ذنوبه التي حدثت منه أثناء الكفر ، وهي الذنوب التي تتعلق بحقوق الله تعالى ، أما ما يتعلق بحقوق الناس ، فعلى ورثته أن يؤدوها عنه .
(1/3272)

ثم يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } [ الأنفال : 38 ] .
وقوله هنا : { وَإِنْ يَعُودُواْ } أراد الله أن يعلمنا أن تجري هذه الكلمة على اللسان ، فإن عادوا مرة أخرى إلى الكفر والعناد ، يطردوا من رحمة الله ومغفرته ، إذن فشرط الغفران لهم أن يستمروا في إيمانهم وألا يعودوا للكفر مرة أخرى ، وقوله تعالى : { مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } .
والسنة هي الطريقة أو الكيفية أو الحالة التي يكونون عليها ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] .
أي الطريقة التي اختارها الله لمعالجة الأمور بالحق والعدل ، ومعنى قوله تعالى : { مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } :
أي الطريقة التي عرفتموها وعالج بها الله عز وجل أمر من عاند الرسل ووقف منهم موقف المنازعة والمعارضة . ومثل ذلك حدث للكفار في بدر ، فكأن من يقف أمام دعوة الله ومنهجه لا بد أن يتعرض للهلاك كما حدث مع كل من قاوم الأنبياء ، فأنتم تعرفون ما صنعه الله بقوم هود وقوم عاد وقوم ثمود وقوم فرعون . ومر كل ذلك عليكم ، كسنة عامة تشمل كل من قاوم الأنبياء ووقف في طريق دعوتهم إلى الله .
والخطاب هنا إما أن يكون خطاباً لهم على حالهم في وطنهم وما حدث للمخالفين في بدر وقد رأوا مصارعهم ، وإما أن يكون الخطاب مبيناً لسنة الله تعالى وقد شاءت سنته سبحانه إبادة كل مخالف لسنته .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله }
(1/3273)

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
وهذا أمر من الله عز وجل بالقتال ، والقتال مفاعلة تحدث بين اثنين أو أكثر ، أي اشتباك بين مقاتل ومقاتل . ولذلك عندما تسمع كلمة " قتال " يتبادر إلى ذهنك وجود طرفين اثنين وليس طرفاً واحدا ، أو بين فريق وفريق آخر .
وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ } نفهم أن هذا أمر للمؤمنين ليقاتلوا الكفار ، ولا بد أن يكون الكفار قد فعلوا شيئا يستحق أن يقُاتلوا عليه ، أو أنهم يبيتون للمؤمنين القتال وعلى المؤمنين أن يواجهوهم ويقاتلوهم . ولم يقل الله سبحانه وتعالى : اقتلوهم بل قال : " قاتلوهم "؛ أي مواجهة فيها مفاعلة القتال . والتفاعل معناه أن الحدث لا يأتي من طرف واحد بل لا بد من مقابل معه . فأنت تقول : " قابلت " أي أنك قابلت شخصاً ، وهو قابلك أيضاً ، وهذه مفاعلة . أو تقول : " شاركت " أي أنك اشتركت أنت وآخر في عمل ما . وهنا قال الحق سبحانه وتعالى :
{ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 39 ] .
ومعنى ذلك أن هناك قتالاً يؤدي للقتال . وجاء القتال ليحسم الأمر؛ لأن ترك هؤلاء الكفار يعتدون على المسلمين ، ويأخذون أموالهم بالباطل ، فيرى الناس المؤمنين أذلة مستضعفين ، والكفار عالين أقوياء فتحدث فتنة في الدين ، أي يفتن الناس في دينهم وهم يرون الذل دون أي محاولة أو تحرك لدفعه .
ويريد الله سبحانه وتعالى أن تنتهي الفتنة . والفتنة هي الاختبار . وكما قلنا : إن الاختبار ليس مذموماً لذاته ، ولكنه يُذم بنتيجته . فإن رسب الطالب في الاختيار تكون نتيجة الاختيار مذمومة . وإن نجح تكون محمودة . ولقد كان كفار قريش يفتنون الناس في دينهم بتعذيبهم تعذيباً شديداً حتى تخور قواهم ويخضعوا لأحكامهم . وأراد الله سبحانه وتعالى أن يضع نهاية لهذا الظلم . فإذن بقتالهم؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستوجب قتالهم .
ونجد قوله سبحانه وتعالى :
{ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } [ الأنفال : 39 ] .
بينما نجد أنه قد ذكر في سورة البقرة بدون " كله " ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى فيها : { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } [ البقرة : 193 ] .
دون أن تذكر كلمة " كله " ولكل آية لقطة ومعنى؛ لأن كل لفظ في القرآن له معنى ، فقوله تعالى : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله }
يعني أنه لا يجب أن يجتمع دينان في جزيرة العرب وقد حدث . وأما قوله تعالى : { الدين للَّهِ }
فقد أعطتنا لقطة أخرى ، فالأولى تخص العرب والجزيرة العربية ، والثانية تعني أن الإسلام للعالم كله ، ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصددها :
{ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الأنفال : 39 ] .
وقوله تعالى : { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } أي استجابوا وأطاعوا ، وقوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي فليحذروا أن يتم هذا خداعاً لأن الله بصير بهم ، ومطلع عليهم ، وما داموا قد انتقلوا من حظيرة الكفر إلى حظيرة الإيمان فالله يمحو سيئاتهم ويبدلها حسنات؛ لأن قوما عاشوا على الكفر وألفوا خصاله ثم تركوا ذلك إلى الإيمان فهذا أمر صعب يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس ، ويثيبهم الله تعالى بقدر مجاهدتهم لأنفسهم ، ويثيبهم المولى سبحانه وتعالى بسخاء .
(1/3274)

وهناك معنى ثان في قوله تعالى :
{ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الأنفال : 39 ] .
أي : فيا من وقفتم موقف العداء من الإيمان ، وتعرضتم للكافرين التعرض الذي أعاد لهم التهذيب وحسن التعامل مع المؤمنين ، اعلموا أنه سبحانه وتعالى بصير بما عملتم ليكون الدين كله لله .
وهكذا نرى أن كلا من المعنيين يكمل الآخر .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ . . . }
(1/3275)

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
والله سبحانه وتعالى يرغب الناس حتى يؤمنوا ، ولكنه في ذات الوقت يبين لهم أن كثرة عدد المؤمنين ليست هي التي تعلي راية الإسلام وتصنع النصر للإيمان ، فيقول سبحانه : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } .
وهنا شبهة في أن الله تعالى يحنن هؤلاء على أن يؤمنوا ، وأن يسلموا ، وأن يعودوا إلى حظيرة الحق ، وربما ظن ظان أن الإسلام يريد أن يقوى بهم ، ولذلك قال الحق : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي إياكم أن يفت ذلك في عضدكم ، أو أن يقلل هذا الأمر من همتكم وشجاعتكم؛ لأنكم إنما تنتصرون بمدد من الله العلي القدير ، فهم إن لم يؤمنوا ، فاعلموا أن الإسلام لا ينتصر بهم ، وانتشاره ليس بكثرة المسلمين أو قلتهم؛ لأن النصر من عند الله ، وسبحانه ليس محتاجاً لخلقه ، وكثرة جنود الإسلام لا تصنع النصر؛ لأن نصر الله للمسلمين إن اتبعوا منهجه يتحقق سواء قلوا أم كثروا . ولذلك يلفت نظرهم وينبههم إلى أنه إن تولى هؤلاء ولم يؤمنوا ، فإياكم أن يؤثر ذلك على شجاعتكم؛ لأنكم لا تنتصرون بمدد من هؤلاء الذين رفضوا الإيمان ، ولكن بمدد من الله سبحانه وتعالى ، فالله هو مولاكم . وإذا كان الله مولى لكم أي ناصراً ومؤيداً فهو سبحانه وتعالى :
{ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } [ الأنفال : 40 ] .
لماذا؟ .
لأن المولى إذا كان غير الله فهو من الأغيار ، قد يكون اليوم قويّاً قادراً على أن يأخذ بيدنا وينصرنا ، ولكنه قد يموت غداً؛ لذلك فهو لا يصلح مولى . وقد يسقط عنه سلطانه وقوته ويصبح ضعيفاً محتاجاً لمن ينصره فلا ينفع وليا ولا معيناً لأحد . والمولى الحق الذي يجب أن نتمسك به هو الذي لا تصيبه الأغيار لأنه دائم الوجود لا ينتهي بالموت وهو دائم القوة والقدرة لا يضعف أبداً ، هذا هو المولى الذي تضع فيه ثقتك وتتوكل عليه . ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أننا يجب ألا نضع ثقتنا وأملنا إلا فيه وتوكلنا إلا عليه سبحانه وتعالى فيقول : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] .
أي إذا أردت فعلاً أن تتوكل ، فتوكل على من هو موجود دائما قوي دائماً ، فتوكل على الله . وقوله تعالى : { نِعْمَ المولى } يؤكد أن الله قوي قادر دائم الوجود ، وقوله تعالى : { وَنِعْمَ النصير } .
يؤكد أنه سبحانه وتعالى محيط بكل ما يدبره لك أعداؤك ، فلا يغيب عنه شيء . أنت تحاربهم بما تعرفه من الحيل وفنون القتال وهم يفعلون ذلك . ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم حيلهم فيبطلها ، ويحقق لكم النصر بأن يلهمكم من الحيل ما لا يستطيعون مواجهته . ، يعطيكم مددا من السماء وهذا المدد هو الذي يحقق لكم النصر .
ويتحدث الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك عن الغنائم فيقول : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ . . . }
(1/3276)

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
ما سبب ذكر الغنيمة هنا؟ . وما المناسبة؟ . ونقول : إن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن القتال . ونهاية كل معركة ينتصر فيها المسلمون يكون فيها غنائم .
وهذه مناسبة الحديث عن الغنائم ، وبما أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن مدده للمؤمنين . وأنه ناصرهم ، وأنه نعم النصير ، ولكن الغنائم لا تجيء إلا نتيجة للنصر ، فكأن الله يريد من المؤمنين أن يتأكدوا أن النصر سيكون من نصيبهم؛ بدليل أن الحديث انتقل إلى الغنائم . والغنيمة هي كل منقول يأخذه المسلم المقاتل من الكافر ، والثابت أن الغنائم لم تكن تحل لأحد من الأنبياء قبل رسول الله صلى عليه وسلم .
ويقول الحق :
{ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] .
إذن فلله الخمس وتبقى أربعة أخماس توزع على المقاتلين . والخمس الذي هو لله كيف نقسمه؟
لقد ذكر القرآن أسلوب توزيع هذا الخمس بطريقة اختلف فيها العلماء؛ فالآية تقول :
{ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] .
ثم تزيد :
{ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الأنفال : 41 ] .
وقد قال بعض العلماء تمسكاً بظاهر الآية الكريمة : إن خمس الغنائم يوزع على من سماهم الله تعالى في كتابه العزيز وهم ستة : ( الله ، الرسول ، ذو القربى ، اليتامى ، المساكين ، ابن السبيل ) فتكون الأسهم ستة ، وجمهور العلماء على أنّ خمس الغنائم يقسم خمسة أسهم فيكون لله وللرسول سهم واحد لأنه لا يوجد فصل بين الله ورسوله ، والأسهم الأربعة الباقية من هذا الخمس توزع على الأنواع الأربعة ( ذي القربى - اليتامى - المساكين - ابن السبيل ) لكل نوع منهم سهم .
واختلفوا أيضاً في معنى { وَلِذِي القربى } هل هم القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ممن؟
ثم بعد ذلك جاء نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل فلم يحدث خلاف فيه - والخلاصة : أن الغنائم كلها تقسم خمسة أقسام خمسها لهؤلاء الخمسة وأربعة أخماسها الباقية للجيش المقاتل؛ لأن الله تعالى بين حكم الخمس وسكت عن الباقي فدل ذلك على أنه للغانمين ثم يقول الحق :
{ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } [ الأنفال : 41 ] .
وهم بطبيعة الحال الحال مؤمنون بالله ، وكأن هذا القول جاء ليراجعوا إيمانهم إذا اعترضوا على هذا التقسيم . فإن طمع أحد منهم في الخمس الذي هو لله ورسوله ولم يقنع بأربعة الأخماس المقسمة - كما قال الله تعالى - يكون قد خدش إيمانه بمن أصدر هذا الأمر ، وسبحانه هو الذي أنزل هذا التقسيم . فمن زاغ وتطلعت عينه إلى شيء فليرد هذا الزيغ؛ لأن الذي قسم هو الله الذي نصر المقاتلين . وإذا كان النصر هو الذي جاء بالغنائم ، فالذي أعطى النصر هو الله سبحانه وتعالى ، والنصر سبب من الله ، وما يوهب للإنسان من الحق ، على العبد أن يقبل فيه قسمة الله .
(1/3277)

ومثال ذلك ما أراده الله للإنسان المسلم من حسن التصرف في ماله ، فهو في حياته حر ويملك حق التصرف في هذا المال ، واحتراماً لمشاعرك الاجتماعية والإنسانية والعاطفية في البيئة التي تحيا فيها ، جعل الله لك الحق في الوصية بأن تخصص ثلث مالك لما تريد ومن تريد ، فقد ترى أن هناك إنساناً من غير أقربائك وهو بطبيعة الحال لن يرثك ، ولكنه خدمك في حياتك أو في مرضك أو في شيخوختك ، وأنت تريد أن تترك شيئاً من ثروتك له ، اعترافاً بجميله ، أو لعل هناك أناساً من معارفك تعرف أنهم أحوج من أبنائك ، فتخصص لهم بعضاً من المال ، شرط ألا يتعدى الثلث ، فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يضع للعواطف الإيمانية الإنسانية في الناس مجالاً ، فترك لك الحرية في أن تتصرف في ثلث التركة ثم قسم سبحانه الثلثين على الورثة .
إذن فقول الحق تبارك وتعالى :
{ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } [ الأنفال : 41 ] .
أي أنه سبحانه قد جعل من الإيمان أن يتم توزيع الغنائم بالشكل الذي حدده الله عز وجل ، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] .
والفرقان هو الشيء الذي يفرق بين الحق والباطل؛ فرقاً واضحاً بشدة بحيث يكون ظاهراً للجميع . وقد أطلق الله الفرقان على القرآن الكريم في سورة آل عمران فيقول تبارك وتعالى : { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان } [ آل عمران : 3 - 4 ] .
فحينما أنزل الله تعالى التوراة والإنجيل جاءت التوراة لتفرق بين الحق والباطل ، وأيضاً جاء الإنجيل ليفرق بين الحق والباطل ، وشاء الله سبحانه وتعالى ألا تطلق كلمة " الفرقان " إلا على القرآن الكريم؛ لأن القرآن هو الفارق النهائي الذي لن يأتي فارق من بعده ، فلن ينزل كتاب سماوي آخر .
{ وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] .
الله سبحانه وتعالى يقصد هنا بيوم الفرقان يوم بدر الذي كان فرقاً بين حق وباطل؛ فرقاً لافتا للأنظار ، وقد أخذت كلمة الفرقان المعنى العام وهو أن يفرق بين الحق والباطل ، فالمسلمون كانوا قلة والكفار كانوا كثرة ، والمسلمون كانوا خارجين للاستيلاء على القافلة والعير ولم يكن لديهم أي عدة أو عتاد للحرب ، بينما استعد الكفار للحرب والقتال بالعدد والعتاد والفرسان ، وكان المسلمون يتمنون أن تكون قافلة قريش لهم ، وهي قافلة لا يحرسها إلا عدد قليل من الرجال ، لا شوكة لهم ، وأراد الحق تبارك وتعالى أن يواجه المسلمون وهم قلة جيشاً له شوكة أي له عدة وعتاد؛ لأن المسلمين ظنوا أن الاستيلاء على القافلة لن يستغرق منهم وقتا طويلا أو جهداً كبيراً ، فحراس القافلة عدد محدود وبلا سلاح قوي . لكن شاء الله عز وجل أن يخوض المؤمنون المعركة وهم قلة وأن ينتصروا ، حتى يعلم الجميع أن هذه القلة المؤمنة انتصرت بلا عددٍ ولا عُدَّة على من يملكون العدد والعدة ، وبذلك يظهر الفرق بين الإيمان والكفر ، وبين نصر الله وزيف الشيطان ، ولو استولى المسلمون على قافلة قريش لقيل : إن أية مجموعة من المسلحين كانت تستطيع أن تنهب هذه القافلة ، ولذلك لم يعطهم الله العير بل ابتلاهم بالنفير وهو الجيش الخارج من مكة بقصد الحرب وهو مستعد لها ليلفت النظر إلى هؤلاء المؤمنين الذين خرجوا بغير قصد الحرب وقد انتصروا على الكفار الذين خرجوا للحرب واستعدوا لها .
(1/3278)

وكان المؤمنون ثلاثمائة وجيش الكفار ألفاً ، فإذا جاء النصر ، تأكد الكل أن كفة المؤمنين قد رجحت ، وإذا تعجب أحد كيف ينتصر هذا العدد القليل غير المسلح على هذا العدد الكثير والمسلح ، يمكن أن يرددوا قول الله تعالى :
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنفال : 41 ] .
وهذه المشيئة الإلهية هي التي قلبت الموازين .
وفي أول سورة البقرة يحكي الحق سبحانه وتعالى لنا قصة طالوت وجالوت ، ويروي كيف طلب بنو إسرائيل من نبي لهم أن تحدد السماء شخصاً يكون ملكاً عليهم ، ليقودهم في معركة ضد طاغية اسمه جالوت؛ أخرجهم من ديارهم وشردهم ، فلما جاء الأمر بأن يكون طالوت هو الملك ، جادل بنو إسرائيل في قيادته لهم . { قالوا أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال } [ البقرة : 247 ] .
كانوا هم الذين طلبوا أن يكون لهم ملك ، فلما جاء طالوت باختيار الله اعترضوا عليه . ثم خرج طالوت مع الذين اتبعوه وابتلاهم الله بنهر وهو عطاش ، ويقول الحق سبحانه وتعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] .
وابتلاهم الله سبحانه وتعالى بأن مروا على نهر وهم عطاش ، وطلب منهم ألا يشربوا إلا أن يأخذ كل منهم قليلاً من الماء في كف يده ليرطب به فمه ، فلما وصلوا إلى النهر ، اندفعت أغلبيتهم ليعبوا ويشربوا ما شاء لهم ، والأقلية فقط هي التي امتثلت لأمر الله تعالى ولم تشرب ، وهؤلاء هم الذين بقوا مع طالوت وعبروا النهر ، لكنهم حين رأوا جيش الأعداء ، قالت أغلبيتهم ما جاء في القرآن الكريم وحكاه لنا : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } [ البقرة : 249 ] .
أي أنهم خافوا من مواجهة جيش جالوت ورفضوا القتال ، إلا الأقلية منهم ، وهكذا حدثت لهم التصفية مرتين بالاختيار والابتلاء؛ الأولى بالصبر على العطش ، والثانية بمواجهة جيش العدو ، وهذه هي الأقلية الصافية التي رسخ إيمانها ، وقالوا ما جاء بالقرآن الكريم : { قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين }
(1/3279)

[ البقرة : 249 ] .
أي أن هذه الفئة المؤمنة التي بقيت والتي تخشى حساب الله في الآخرة لم تخفهم قلتهم ولا كثرة جنود جالوت ، بل قالوا : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وانتصروا بالفعل ، وكان هذا فرقاناً ظاهراً من الله عز وجل .
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :
{ يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] .
أي يوم التقاء جمع المؤمنين وجمع الكفار ، وتحقق نصر المؤمنين ، رغم قلة العدد والعتاد . ولذلك يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية بالقول الكريم :
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنفال : 41 ] .
أي أن الله عز وجل قادر على أن ينصر المؤمنين وهم قلة وغير مستعدين للقتال .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ . . . }
(1/3280)

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
ساعة تسمع " إذ " تعرف أنها ظرفٌ ، ومعناها : اذكر هذا الوقت ، اذكر إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، والعدوة شاطيء الوادي وجانبه . وهي جبل مرتفع؛ لأن الجبال إن كان بينها فضاء نسمي هذا الفضاء وادياً ، فيكون الوادي هو الفضاء بين جبلين ، ويكون المكان العالي الذي على يمين الوادي وعلى شماله عدوة .
وقوله تعالى :
{ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى } [ الأنفال : 42 ] .
توضيح وبيان لجغرافية المعركة ، وأهل الإسلام كانوا من ناحية المدينة ، وقوله تعالى : " دنيا " تأنيث الأدنى أي الأقرب ، فالمسلمون كانوا قريبين من المدينة . وكان الكفار قادمين من مكة ، ونزلوا في المكان الأبعد .
فقوله تعالى : { أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } [ الأنفال : 42 ] .
أي في مكان قريب ، وموقع غزوة بدر - كما نعلم - قريب من المدينة ، أما كفار قريش فقد جاءوا من مكة . وبذلك جاءوا من مكان بعيد عن المدينة لذلك سماه الحق تبارك وتعالى هنا :
{ بالعدوة القصوى } أي في المكان البعيد عن مكة ، ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله : { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ }
والركب هو العير أي الجمال التي تحمل التجارة ، وكان المسلمون قد خرجوا ليأخذوها . ولما عرف أبو سفيان بذلك غيّر سير القافلة واتجه إلى ساحل البحر ، ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن سلوك أبي سفيان حينما أمر أن تسير القوافل بجانب ساحل البحر . وساحل البحر - كما هو معلوم - يكون دائماً أسفل من أي أرض يابسة . ويُتخذ سطح البحر إلى الآن مقياساً للارتفاعات والانخفاضات بالنسبة للمقاييس البشرية ، فيقال : هذا ارتفاعه مائة متر أو مائتا متر أو أكثر أو أقل بالنسبة لمستوى سطح البحر . وساحل البحر بالنسبة لسطح البحر متساو ، أما الأرض والجبال والوديان فهي تختلف في العلو والانخفاض فلا تصلح مقياساً للارتفاعات والانخفاضات ، بينما سطح البحر مستطرق استطراقاً سليماً ، بحيث لا توجد في سطح الماء بقعة عالية وأخرى منخفضة .
وهكذا يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن أسفل ما في الأرض هو ساحل البحر وقد اتخذ الناس سطح البحر مقياساً للارتفاعات .
ويقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [ الأنفال : 42 ] .
أي لو أن المؤمنين اتفقوا مع الكفار على موعد ومكان ، لجاء بعضهم متأخراً عن الموعد أو منحرفاً عن المكان ، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد موعد المعركة ومكانها بدقة تامة فتم اللقاء في الموعد والمكان المحددين ليتم الأمر كما قدره الله سبحانه وتعالى ، والأمر هو معركة بدر ، وليلقى المؤمنون الكافرين ، لينتصروا عليهم .
{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] .
وهل يعني قول الحق { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ } أن الهلاك هنا هو الموت؟ لقد مات أيضاً بعض المؤمنين واستشهدوا .
(1/3281)

وقول الحق : { ويحيى مَنْ حَيَّ } وهل الحياة هنا تعني مجرد البقاء على قيد الدنيا؟ . لقد عاش أيضاً من الكفار كثير رغم أنهم خاضوا معركة بدر . إذن فليس معنى الهلاك هنا الموت ، وليس معنى الحياة النجاة ، ولكن قول الحق { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } تنطبق على الكفار سواء الذين ماتوا أو الذين نجوا؛ لأن الهلاك هنا هلاك معنوي ، فمن قتل من الكفارهلك . ومن نجا هلك أيضاً؛ لأنه بقتاله المؤمنين قد أورد نفسه مورد التهلكة بالعذاب الذي ينتظره في الآخرة ، إلا إذا أدركته رحمة الله وآمن قبل أن يأتي أجله . والذين حيوا هم المؤمنون ، والمراد - إذن - ليكفر من كفر ، ويؤمن من آمن عن يقين .
ولقد قلنا من قبل : إنَّ الحق سبحانه وتعالى أطلق الحياة على معان متعددة ، فهناك الحياة التي فيها الحركة والحس ، وهذه تتحقق ساعة أن تدخل الروح الجسد ليكون للإنسان حياة . وهذه الحياة هي للمؤمن والكافر . ولكن الحياة بهذا الشكل؛ حياة منتهية إلى موت غير موقوت ننتظره في أي لحظة . ولكن الحياة المطلوبة لله هي الحياة التي لا يأتي فيه موت . ولا يكون فيها تعب وشقاء ، تلك هي الحياة الآخرة ، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] .
أي أنها الحياة الحقيقية . إذن فالذي يؤمن إيماناً حقيقيا يعطيه الله تعالى حياة الخلود في الجنة . ولذلك نستمع جميعاً إلى قول الحق تبارك وتعالى :
{ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 42 ] .
ومنا من يتساءل : كيف يخاطب الله الناس وهم أحياء ويقول لهم : إذا دعاكم لما يحييكم؟ ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى يريد لنا بالإيمان حياة خالدة في الجنة . ثم يختم الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :
{ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ومعنى سميع وعليم أنه سبحانه وتعالى مدرك لكل الأشياء والخواطر ، فما بالسمع يسمعه ، وما بالعين يراه ، وما في الصدر يعلمه ، وما هو في أي حس من أحاسيس الإنسان هو عليم به؛ لأنه أحاط بكل شيء علما .
ووسائل الإدراك العلمي في الإنسان هي السمع والبصر والذوق واللمس والشم ، هذه هي الحواس التي تعطي العلم للإنسان الذي لم يكن يعلم شيئاً .
وهو سبحانه وتعالى القائل : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
أي أن هذه الحواس هي التي تعطي الإنسان ما لم يكن قد علمه ، وكلما علم شيئاً ، فليقل : الحمد لله .
ويعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف يتم قدره فيقول : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ . . . }
(1/3282)

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
والحق سبحانه وتعالى إذا أراد معركة فاصلة ، يجعل الخواطر في كل قوم مهيجة على الحرب؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد للفئتين أن يشتبكوا ، ويفصل الحق في المسألة ، وهذا الاشتباك لو حدث بالمقاييس العادية ربما جَبُنَتْ الفئة القليلة عن أن تواجه الفئة الكثيرة . ولكي تتم المعركة لا بد أن يكون كل من الفريقين المتحاربين واثقا من النصر؛ لأنه لو أيقن أحدهما أنه سيهزم لما دخل إلى المعركة .
والله سبحانه وتعالى يُعلم رسوله والمؤمنين كيف أعد الله الإعداد النفسي للمعركة ، فأرى النبي في الرؤيا أن عدد الكفار قليل حتى يؤمن أن المؤمنين سينتصرون عليهم بسهولة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رؤيا توضح أن عدد الكفار قليل في أعين المؤمنين ، وأخبر قومه بذلك وقد قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار ، ليتم اللقاء وتحدث المعركة .
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم }
(1/3283)

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
إذن رأى المؤمنون الكفار قليلاً ، ولو كثَّر الله الكفار في أعين المؤمنين ، أو كثّر المؤمنين في أعين الكفار ما حدثت المعركة . ولكنه سبحانه وتعالى شاء أن يقلل كل فريق في نظر الآخر ليبدأ القتال ، ويحكي سيدنا عبد الله بن مسعود :
لقد قلت لجار لي أظنهم سبعين ، فقال : لا بل مائة .
وهكذا كان عدد الكافرين قليلاً في نظر المؤمنين ، وكان عدد المؤمنين بالفعل قليلاً في عيون الكافرين .
وأيضاً شاء الحق سبحانه أن يجعل في ذلك بلاغاً من إعلامات النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد رأى النبي عدد الكافرين في المنام وهم قليل ، وأخبر صلى الله عليه وسلم قومه بذلك . ودار القتال الذي أراده الله تعالى :
{ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } [ الأنفال : 44 ] .
والأمر الحاسم هو التقاء الفئتين المتقاتلتين في معركة بدر ليفصل الله بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر؛ حتى ترجع الأمور إلى الله ، فلكل واحد من جنود المعركة جزاءٌ من عند الله سبحانه وتعالى؛ المؤمنون لهم جزاء على قدر نياتهم وإخلاصهم في الجهاد ، الكافرون عليهم غضب من الله تعالى . والغضب منازل ، كل منزلة من الغضب حسب أحوال صاحبها .
وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } نجد فيه كلمة " الأمور " وهي جمع أمر ، وفي المعارك ألوان مختلفة من الأوامر؛ فلكل جندي أمر ، وهناك أمر عام تنتهي إليه المعارك وهو انتصار طرف وانهزام طرف آخر . ولكي يتم النصر للمؤمنين فإن الله يطلب منهم أن يثبتوا في المعركة؛ فيقول سبحانه وتعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا . . . }
(1/3284)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
وساعة تسمع كلمة " فئة " فاعلم أن معناها جماعة اختصت بخوض المعارك في ميدان القتال ، فليست مطلق جماعة ، بل هي جماعة مترابطة من المقاتلين؛ لأن كل مقاتل يفيء لغيره من زملائه ، أي جماعة أخرى غير مترابطة تستطيع تفريقهم بصرخة أو عصا ، أما المقاتلون فأنت لا تصرفهم إلا بقوة أكبر منهم ، ويحاول كل منهم أن يحمي زميله ، إذن فكل منهم يفيء إلى الآخرين .
والحق تبارك يقول : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله } [ البقرة : 249 ] .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] .
إذن فالفئة هي جماعة في الحرب .
وقوله تعالى :
{ لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } [ الأنفال : 45 ] .
يُقصد به ساعة حدوث المعركة ونشوب القتال؛ لأن الحرب تقتضي أولاً إعداداً ، ثم تخطيطاً يتم قبل الالتحام ثم ذهاباً إلى مكان المعركة . وقوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ } أي أن المسألة قد وصلت إلى الواجهة مع الكفار ويقول الحق تبارك وتعالى { فاثبتوا } والثبات هنا معناه المواجهة الشجاعة ، لأن الإنسان إذا ما كان ثابتاً في القتال ، فالعدو يخشاه ويهابه ، وإن لم يكن كذلك فسوف يضطر إلى النكوص ، وهذا ما يُجريء الكفار عليكم .
وما دمتم قد جئتم إلى القتال ، فلا بد أن يشهد الأعداء شجاعتكم؛ لأنكم إن فررتم فهذه شهادة ضعف ضدكم .
ولذلك لا بد من التدريب على الثبات والقتال ، وهذا هو الإعداد المسبق للحرب؛ بالتدريب القوي والتخطيط الدقيق ، وألا يتولى أحد منكم ويفر لحظة الزحف لأن هذا العمل هو من أكبر الكبائر ، والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ الأنفال : 16 ] .
{ يُوَلِّهِمْ } أي يعطيهم ، و { دُبُرَهُ } أي ظهره ، وهذا تقبيح لعملية الفرار ، لأن الدبر محل الصيانة ومحل المحافظة . ونعلم أن هناك من قال للإمام عليّ - كرم الله وجهه - : إن درعك له صدار وليس له ظهر ، أي أن الدرع يحمي صدرك إنما وراءك لا يوجد جزء من الدرع ليحمي ظهرك . فقال : ( لا كنت إن مكنت خَصمي من ظهري ) ، أي أنه - كرّم الله وجهه - يفضل الاستشهاد على أن يُمَكِّن خصمه من ظهره ، فلو أنَّ درعه من الأمام ومن الخلف ، ففي هذه الحالة يكون في نيته أن يمَكِّن خصمه من ظهره ، ولذلك جعل الدرع يحمي الصدر فقط ، وهو على يقين أنه لن يدير ظهره لعدوه ، ويسمون تلك الحالة الأخرى " ظاهرة ضبط النفس " أي أنها طريق لمنع الشيء أن يحدث ولو في ساعة الشدة؛ لأن المقاتل حين يدخل المعركة ، وهو يحمي صدره فقط فهو لا يتولى ليفر؛ لأنه يعلم أنه لو تولى فسيكشف لهم ظهره وسيتمكن منه عدوه وسوف يُقتل .
(1/3285)

والحق سبحانه وتعالى حين يقول : { فاثبتوا } لا يطلب هذا الثبات على إطلاقه ، ولكن يريد من المؤمنين الثبات والقوة في القتال . أما غذا كانت الفئة التي يواجهها المؤمنون كبيرة العدد أو كثيرة العتاد فذلك يتطلب الدراسة والاستعداد ، وهنا طلب الحق الثبات ليعلم المؤمنون يقيناً؛ أنهم لا يواجهون عدوهم بقوتهم ولكن بقوة الله الذي يجاهدون من أجله . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { واذكروا الله كَثِيراً } ، أي تذكروا وأنتم تقاتلون أن الله معكم بعونه ونصره ، فإن لم تستطع أسبابكم أن تأتي بالنصر ، فإن خالق الأسباب يستطيع بقدرته أن يأتي بتالنصر .
وكلنا نعلم أن الحق تبارك وتعالى قد وضع في كونه الأسباب ، فإذا استنفدنا أسبابنا ، اتجهنا إلى خالق الأسباب ، ولذلك نجد أن من لا يؤمن بالله إذا خانته الأسباب ينتحر أو ينهار تماماً أو يصاب بالجنون ، ولكن المؤمن يقول : إذا خانتني الأسباب فمعي رب الأسباب وخالقها ، ويأوي إلى ركن شديد .
إن الطفل الصغير إذا اعتدى عليه أحد يقول : إن لي أباً أو أخاً سيرد عني الإيذاء؛ لأن الأسباب لا تعطيه قدرة الرد ، فكيف لمن له رب قدرته فوق قدرة الكون كله ، وقوته موجودة دائماً . ولذلك نجد قوم موسى حين وصلوا إلى شاطيء البحر ووجدوا أمامهم الماء ، ونظروا خلفهم ورأوا جنود فرعون مقبلين من بعيد ، قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }
وكانوا منطقيين فيما قالوه ، فالبحر أمامهم والعدو وراءهم . وليس لهم من طريق للنجاة باستخدام الأسباب العادية في هذا الكون ، ولكن موسى عليه السلام بقوة إيمانه بالله تعالى يقول ما جاء على لسانه في القرآن الكريم : { قَالَ كَلاَّ } [ الشعراء : 62 ] .
أي إن فرعون وجنوده لن يدركونا ، ولم يفهم قوم موسى؛ لأن البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم ، وأضاف سيدنا موسى عليه السلام بملء فيه قوله : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] .
أي أنه رفع الأمر من الأسباب إلى المسبب ، وإذا بالله يأمره أن يضرب بعصاه البحر؛ فينفلق؛ وتظهر الأرض اليابسة . ويعبر بنو إسرائيل البحر ، وعندما وصل موسى وقومه إلى شاطيء البحر بعد أن عبروا ، أراد موسى أن يضرب البحر مرة أخرى حتى يعود الماء إلى الاستطراق . فلا يتمكن جنود فرعون من اللحاق بهم ، ولكن الله سبحانه وتعالى قال لموسى : { واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [ الدخان : 24 ] .
أي لا تتعجل وتضرب البحر ليعود مرة أخرى لاستطراق الماء بل اتركه على حاله ساكناً فما أنجى الله به بني إسرائيل سيغرق به آل فرعون ، وبذلك أنجي وأهلك بالشيء الواحد ، وهذا لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى .
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :
{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [ الأنفال : 45 ] .
وسبحانه وتعالى هو خالق النفس البشرية وهو العليم بها حين تكون أمام قوة لم تحسب حسابها وكيف تعاني النفس من كرب عظيم ، خصوصاً إذا كان ذلك في ميدان القتال ، ولذلك طلب من المؤمنين لأن يتذكروا دائماً أنهم ليسوا وحدهم في المعركة وأنه سبحانه وتعالى معهم ، فليذكروا هذا كثيراً ليوالي نصرهم على عدوهم؛ لأنهم إذا ما داوموا على ذكر الله تعالى فسيقوي هذا الذكر إيمانهم ، ويجعل في قلوبهم الشجاعة اللازمة لتحقيق النصر .
(1/3286)

وذِكْرُ الحق كلمة { كَثِيراً } هنا يعني أن الإنسان قد يذكر الله عند اليأس فقط ، فإن جاءت الحياة بعد ذلك بالرخاء فقد ينسى ذكر الله؛ لذلك يؤكد سبحانه وتعالى هنا أن يكون ذكر الله كثيراً ، ليوالي الله نصر المؤمن على عدوه . ومثال ذلك : أننا نجده سبحانه وتعالى حينما يستحضر الخلق المؤمنين للصلاة في يوم الجمعة يقول : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 9-10 ] .
يطلب الحق سبحانه وتعالى ذلك من المؤمنين وهو العليم بأنهم يداومون الولاء له سبحانه كل يوم خمس مرات .
ثم بعد صلاة الجمعة يطالبهم بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله تعالى ، وينبهنا أن نداوم على ذكره فكأنه يقول؛ إياكم أن تلهيكم أعمالكم ومصالحكم الدنيوية عن ذكر الله ، أو تعتقدوا أن ذكر الله في المسجد أو وقت الصلاة فقط ، بل داوموا على ذكر الله في كل أحداث الحياة . فإن فعلتم ذلك وذكرتم الله كثيراً فستكونون من المفلحين .
وذكر الله كثيراً معناه أنك تشعر في كل لحظة أن الله سبحانه وتعالى معك فتخشاه وتحمده وتستعين به . وهكذا تكون الصلة دائمة بينك وبين الله عز وجل في كل وقت .
مثال ذلك ما حدث في عام 1973 في معركة العاشر من رمضان ، كان ذكر الله يملأ القلوب واستمد الجند من قولهم : { الله أكبر } طاقة هائلة واجهوا بها العدو ، واقتحموا خط " بارليف " . وأعانهم الحق بمدد الإيمان من عنده ، وأوجد في نفس كل منهم طاقة هائلة تحقق بها النصر؛ وذلك بإجادة التدريب ومداومة الذكر لله تعالى .
ثم يقول الحق بعد ذلك : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصبروا . . . }
(1/3287)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
وعرفنا من قبل أن طاعة الله تعالى تتمثل في تنفيذ ما أمر به في المنهج ، وطاعة الرسول هي طاعة تطبيقية في السلوك ، وهي طاعة لله أيضاً؛ لأن الرسول مبلغ عن ربه ، ولا بد للطائع أن يتعبد عن التنازع مع إخوته المؤمنين؛ لأن التنازع هو تعاند القوي ، أي توجد قوة تعاند قوة أخرى ، والقوى المتعاندة تهدر طاقة بعضها البعض ، فالتعاند بين قوتين يهدر طاقة كل منهما فتصبح كل قوة ضعيفة وغير مؤثرة . فكونوا يداً واحدة؛ لأنكم إن تنازعتم فستضيع قوتكم وتقابلون الفشل ، أي لن تحققوا شيئاً مما تريدون لأنكم أهدرتم قوتكم في التنازع ، ولم تعد لكم قوة تحققون بها ما تريدون وستذهب ريحكم في هذه الحالة . والفشل هو إخفاق الإنسان دون المهمة التي كان يرجوها من نفسه .
وانظروا إلى عبارة الحق تبارك وتعالى :
{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] .
نحن نعرف أن الريح يُطلق على الهواء الذي حيزه الفضاء على سطح الأرض ، إذن فمكان الهواء هو أي مكان خال على سطح الأرض ، ولذلك نجد العمود المكون من الأسمنت والحديد مثلاً ، لا يوجد فيه هواء لأنه لا يوجد فيه فراغ ، أما الفواصل التي بين الأعمدة فيوجد فيها هواء لأن فيها فراغاً . ونعلم أن مقومات الحياة طعام وشراب وهواء ، ولكن الهواء هو المقوم الأول للحياة؛ لأنك لا تستطيع أن تصبر على الهواء مقدار شهيق وزفير .
إذن فالهواء هو المقوم الأول لحياتك وحياة كل من في هذا الكون ، وما دام الهواء محيطاً بالشيء بحيث يتساوى الضغط من جميع نواحيه يكون الشيء ثابتاً ، فإذا فرّغت الهواء من ناحية قام ضغط الهواء بتحطيم هذا الشيء . وفي التجارب المدرسية شاهدنا تأثير ضغط الهواء ، وكانوا يأتوننا بصفيحة وضع فيها ماء ويتركونها تغلي على النار ، فيطرد بخار الماء الهواء الموجود في الجزء الفارغ من الصفيحة ليملأ البخار هذا الفراغ ، ثم يغلقون الصفيحة بإحكام ويسكبون عليها من الخارج ماءً بارداً؛ فيتكثف البخار ، ويقل حجمه ، ويصبح جزء من الصفيحة خالياً من الهواء ، فتنهار جدران الصفيحة إلى الداخل بسبب ضغط الهواء خارج الجدران ، وتفريغ الهواء داخل الصفيحة . ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما يعذب قوماً أو ينزل بهم عقاباً ، فهو يرسل عليهم ريحاً . ويقول جل وعلا : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 6-7 ]
وكذلك نجده سبحانه وتعالى يقول : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ الأحقاف : 24-25 ]
وأيضاً يقول الحق سبحانه عن الريح التي تغرق بأمواجها العالية : { إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ }
(1/3288)

[ يونس : 22 ]
إذن فكلمة ريح تعبر عن القوة المدمرة للهواء؛ لأن الريح إذا اتحدت قوتها واتجاهها أصبحت مدمرة . ولكن إن قابلتها ريح ثانية فالتوازن يحدث بين القوتين . ولذلك حين يستخدم الحق كلمة الريح لا يتكلم عنها إلا للتخريب والتدمير . أما إن تكلم عنها للخير فسبحانه يأتي بكلمة " رياح "؛ لأن تعدد اتجاهات الرياح هو الذي يوجد التوازن في الحياة . فإذا أراد الله أن يهلك بالريح جاء بها من جهة واحدة فتصير قوة الريح من ناحية لا تعادلها قوة أخرى للريح من الجهة المقابلة لتتعادل القوتان . { وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الفرقان : 48 ] .
ويقول سبحانه وتعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] .
أي أن الرياح تنقل اللقاح بين النبات ، فيتم التلقيح وتنبت الثمار ويأتي الخير . ولكن هناك آية واحدة جاءت فيها كلمة " ريح " وكانت تحمل الخير في قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا } [ يونس : 22 ] .
وسبحانه وتعالى عندما استخدم كلمة { ريح } في هذه الآية وصفها بأنها { طَيِّبَةٍ } . وهنا في الآية سبحانه وتعالى :
{ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] .
و " ريحكم " أي قوتكم؛ لأن الريح هنا معناها القوة التي تدمر عدوكم . ونعلم أن السفن في الماضي كانت تُبحر بقوة الريح . وعندما تقَّدم العلم وجاء البخار والكهرباء أُلِغي شراع المراكب واستخدم بدلاً منه ماكينات تدفع حركة السفينة .
وتطلق كلمة { الريح } على الرائحة ، فيقال : ( ريح عطرة ) ، وهذه الرائحة تبقى في المكان حتى بعد أن يغادره من استخدم هذه الرائحة ، ولكل إنسان من رائحة خاصة ، تماماً كما أنّ لكل إنسان بصمة خاصة ، ولكننا لا نستطيع أن نميزها ، ولكن الكلاب المدربة تميز الرائحة الخاصة بالإنسان ، فيأتي الكلب ويشم رائحة الإنسان ويتتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه . أو يستطيع أن يخرجه من بين عشرات الأشخاص . ولا تختلط رائحة أحد بأحد رغم وجودهم في مكان واحد ، وإلا لما استطاع الكلب المدرب لأن يميز رائحة شخص معين ضمن عشرات الأشخاص الموجودين .
وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } يعني بأن تنتهوا ولا يكون لكم أثر؛ لأنه ما دام لكم أثر في الأرض فلكم ريح تميزكم . وتلك التي - كما قلنا - أن الكلاب المدربة تميزها ، ولكن الإنسان إذا مات ودفن فلا رائحة له . ويدلنا القرآن الكريم على ذلك حين يتكلم عن قصة يوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته في الجب . وعثرت عليه قافلة ، ثم اشتراه ملك مصر ، ثم دخل السجن وخرج وأصبح هو عزيز مصر . وجاءه إخوته وأعطاهم يوسف عليه السلام قميصه ليلقوه على وجه أبيه يعقوب؛ ليرتد بصيراً ، بعد أن أذهب الحزن بصره ، يقول الحق عن خروج العير من مصر إلى الشام حيث كان يعيش سيدنا يعقوب :
(1/3289)

{ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [ يوسف : 94 ] .
أي أن القافلة حين خرجت من بين المباني التي يمكن أن تكتم الريح بقوة كتلتها؛ لأن المباني لها إشعاعات قد تكتم الريح وتحجبه ، وبعد أن صارت القافلة في الخلاء عرف يعقوب عليه السلام ريح ابنه يوسف من القميص الذي يحملونه : { قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ }
ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
{ واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين } [ الأنفال : 46 ] .
وهذه تتمة الصورة التي يريدنا الله أن نلتفت إليها ، فقد أمرهم الله أن يثبتوا في القتال ، والقتال يحتاج إلى قوة وإلى عدم تنازع وإلى صبر على الشدائد؛ خصوصاً إذا كان عدوك صابراً شديد البأس .
إذن ففي المعركة يريد الله عز وجل من المؤمنين الثبات في القتال وعدم الفرار ، وذكر الله كثيراً ، وعدم التنازع حتى لا تضيع قوة المؤمنين ، ويوصيهم سبحانه بالصبر؛ لأن عدوهم قد يكون عنده صبر وجلد ، فلا بد أن يمتلك المؤمن رصيداً من الجلد والصبر؛ يُمَكّنه من هزيمة عدوه ، وصفة الصبر تدل على المنافسة . وهي مأخوذة عندما كانوا يغطسون في الماء ، فالذي يبقى تحت الماء أكثر من الآخر يكون نفسه أطول . ولذلك فسيدنا عباس وسيدنا عمر - رضي الله عنهما - دخلا في منافسة في الغطس . وقال له : نافسني ، أي لنرى من الذي سيمكث تحت الماء أكثر - ويكون { صابراً } أي يتحمل أكثر في المواقف الصعبة ويصبر صبراً فوق صبر الخصوم . وقوله الحق عز وجل هنا :
{ إِنَّ الله مَعَ الصابرين } [ الأنفال : 46 ] .
يثبت به سبحانه وتعالى أن كل مؤمن عليه أن يشعر أن الله تبارك وتعالى هو الذي انتدبه ليقوم بهذه المهمة القتالية وهو معه ، فلا تخور نفسه؛ لأن الضعيف إذا ما تحصن بالقوي؛ أعطاه الجرأة والقدرة على الاحتمال ، تماماً كالولد الصغير ، إذا مشى في الشارع وحده قد يعتدي عليه الأولاد الآخرون ، ولكن إذا كان يسير مع أبيه لا يقترب منه أحد ، فما بالك بالإنسان الذي هو مع ربه؛ لذلك يوصي الحق كل مقاتل أن يتذكر أنه في معية ربه وأن أي حدث ضار في الكون لا يستطيع أن يناله مهما كان ضعيفاً لأن قوة الله معه .
ولذلك يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : " يابن آدم مرضت فلم تعدني . قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده . . أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده . يابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ، قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه . . أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي . يابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟ قال يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه . أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي "
(1/3290)

فإذا مرض إنسان فقد سُلبت منه العافية فلا يستطيع أن يسير ولا أن يتحرك ، بل يرقد في فراشه ليتألم ، ويوضح لنا الحق سبحانه وتعالى : أنا إن سلبت منه العافية ، وهي نعمة فأنا عنده . ولذلك إياك أن تفزع إذا تركتك النعمة ما دام المنعم معك . والمريض المؤمن يستشعر أن الله معه .
وحين يكون المسلم في معيّة الله فإن مقاييس المادة والبشريات لا تجيء أبداً ، والمثال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ، وقد جاء الكفار عند باب الغار فرآهم أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا . هذا كلام منطقي مع النظرة المادية ، فلو انحنى أحد هؤلاء الكفار ونظر من باب الغار لرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطمئن أبا بكر وينفي عنه ما جاء في باله من خوف أن يراهما الكفار . كان المفروض أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا اطمئن ، إنهم لن ينظروا داخل الغار ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما ظنك باثنين الله ثالثهما وفي ذلك قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : " قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .
وما دام الله ثالثهما تكون المعيّة موجودة ، وإذا كنت في معيّة من لا تدركه الأبصار ، أتدركك الأبصار؟ . طبعاً لا تدركك أبصار الأعداء والخصوم . اللهم اجعلنا في معيّتك دائماً .
ثم يكمل الحق سبحانه وتعالى ما يريد ألا يكون عليه المؤمنون في ساعات الشدة فيقول تبارك وتعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس . . . }
(1/3291)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
والذين خرجوا من ديارهم بطراً هم الكفار عندما علموا أن أبا سفيان قد نجا بالقافلة ولم يتمكن المسلمون من الاستيلاء عليها ، وهم قد خرجوا من مكة ليخلصوا القافلة من أيدي المسلمين ، فلما قيل لهم إنَّ القافلة نجت يقيادة أبي سفيان فارجعوا . قالوا : لا يكفينان هذا ، بل لا بد أن نخرج ونقاتل محمدا ومن معه ، وننتصر عليهم وندق الطبول ونذبح الذبائح ليعلم أهل الجزيرة بخبر هزيمة محمد ومن معه فلا يجرؤ احد أن يتعرض لقافلة من قوافلنا .
إذن فهم لم يكتفوا بأن أموالهم قد رجعت إليهم ، بل أرادوا أكثر مما يقتضي الموقف ، أرادوا أن يخرجوا في مظاهرة ضلالية للمفاخرة والتكبر تُثبت أن لهم قوة .
وكان يكفيهم نجاة القافلة وينتهي الأمر . وكان عليهم أن يرجعوا ، ولكنهم أرادوا أن يقوموا بمظاهرة لا لزوم لها .
إذن فالمسألة شماتة ، وهذا لون من البطر؛ أن تكون عندك نعمة فلا تقدرها حق قدرها ، وتحب أن تعلو عليها . ويقال فلان بطران إذا أحضروا له الإفطار من الفول مثلاً ويقول : إنه يريد المربى والزبد وعسل النحل . وهكذا فعل كفار قريش ، فلم يكتفوا بنجاة القافلة ، بل استخفوا هذه النعمة فلم يكتفوا بها وطلبوا المزيد .
وقوله سبحانه وتعالى : { وَرِئَآءَ الناس }
أي يريدون بالحرب مع رسول الله والذين آمنوا؛ السمعة بين الناس ، وأن يعرف العرب أنهم خرجوا إلى المدينة وقاتلوا محمداً وصحبه لتكون لهم سمعة وهيبة بين الناس في الجزيرة العربية .
وقوله تعالى :
{ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنفال : 47 ] .
لأن الناس حين يرون الكفار المعاندين لمنهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد صارت لهم اليد العليا ، وهم يرقصون ويغنون لانتصارهم ، ويرون المسلمين وهم مختفون خائفون من مواجهة الكفار ، فسوف يغري ذلك الناس باتباع منهج الكفر ، فكأن الكفار برغبتهم في قتال رسول الله وصحبه إنما يصدون عن سبيل الله . ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى ليوضح : لا تحسبوا أنهم بعيدون عن علمي .
{ والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ الأنفال : 47 ] .
أي أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل أعمالهم ، لا يغيب عنه عمل واحد مما يفعلونه ، هو محيط بهم تماماً وهم لا يستطيعون أن يفلتوا منه .
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى دور الشيطان وأعوانه وما يفعله بالكافرين؛ فيقول تبارك وتعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ . . . }
(1/3292)

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه الكفار وهم قليل وذلك من صنع الله تعالى لتتم المعركة ، وبدأ الشيطان يزين للكافرين أعمالهم ويمتدحها ، ويغويهم : أنتم كثيرون ولا أحد مثلكم في فنون القتال وستحصلون على النصر في لمح البصر . لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يثبت المؤمنين ويقويهم ، ولذلك شاء الله سبحانه أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار وهم قليل . والواقع أنهم قليل؛ لأن النصر ليس هنا بالعدد ولكن بتأييد الله تعالى ، ومهما كثر الكفار فهم أمام تأييد الله قليل . ويحاول الشيطان أن يزين للكفار قتال المؤمنين ، أي يجعله محبباً إلى نفوسهم وأنهم سيحققون النصر ، ويصبحون حديث الجزيرة العربية كلها ، وتخافهم الناس وتهابهم ويصبحون هم الكبراء وأصحاب الكلمة . وهكذا صور الشيطان لهم عملية قتال المسلمين في صورة محببة إلى قلوبهم . وهنا نرى بوضوح غباء الشيطان وعجزه عن أن يعلم قضاء الله ، فلو علم ما ستنتهي إليه معركة بدر ما زين للكفار دخول المعركة؛ لأن المعركة انتهت بنصر المسلمين وقتل صناديد قريش ، وعلت صورة المؤمنين في الجزيرة العربية كلها . ولم يكن النصر هو ما يريده الشيطان ، ولكنه لجهله زين للكافرين المعركة .
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ] .
أي أن وسوسة الشيطان للكفار كانت في صورة تضخيم قوتهم وأن أحداً لن يغلبهم في قتالهم ببدر ، وأنه - أي الشيطان - سيناصرهم في المعركة ويجيرهم إن حدث لهم سوء ، ولكن هل للشيطان سلطان على أن يُعين الكفار؟ نحن نعلم أن الشيطان ليس له سلطان إلا التزيين فقط ، فكيف يكون له سلطان على نتيجة المواجهة بين الحق والباطل؟ . إن الشيطان يأتي في الآخرة فيطلب منه الكفار أن يجبرهم من عذاب الله تعالى؛ لأنه هو الذي أغواهم وزين لهم سوء أعمالهم وجرهم إلى طريق النار ، فيتبرأ منهم ويقول لهم : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] .
أي أنه يقول للكافرين : أنا لم أجبركم على المعاصي ، فلم يكن لي عليكم سلطان القهر؛ لأقهركم على أن تفعلوا شيئاً ولا سلطان الحجة لأقنعكم بأن تفعلوا المعاصي ، ولكني بمجرد أن دعوتكم استجبتم لي؛ لأنكم تريدون المعصية واتباع شهواتكم . وقوله : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ }
وأصرخ فلاناً أي سمع صراخه فذهب إليه لينقذه ، والإنسان عندما يواجه قوة أكبر منه يلجأ إلى الصراخ لعل أحداً يسمع صراخه ويأتي لنجدته . والذي يسمع الصراخ إما أن يكون ضعيفاً فلا يستجيب؛ لأنه لا يستطيع أن ينقذ ذلك الذي يواجه الخطر ، وإما أن يكون قوّياً فيذهب لنجدته ، فيقال : ( أصرخه ) أي أنقذه وأزال سبب صراخه ، وقوله تعالى : حاكيا ما يقوله الشيطان { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ }
أي أن الشيطان لا يستطيع أن ينجيهم من العذاب وينقذهم منه ، فيزيل سبب صراخهم : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }
أي أنتم لا تستطيعون دفع العذاب عني .
(1/3293)

وقد أخذ الشيطان يزين لهم أعمالهم ويعدهم كذباً بأنه سيجيرهم ويؤازرهم ويعمل على نصرهم حتى اقترب المؤمنون والكفار من بعضهم البعض وأصبحوا على مدى رؤية العين .
{ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ } [ الأنفال : 48 ] .
أي أنه بمجرد الترائي بين المؤمنين والكفار ، وقبل أن يلتحموا في المعركة ويبدأ القتال هرب الشيطان وتبرأ من الكفار وجرى بعيداً ، وهذا ما يشرحه الله تعالى في قوله : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ الحشر : 16 ] .
وهذا كلام منطقي مع موقف الشيطان حينما طرده الله ولعنه؛ لأنه رفض تنفيذ أمر السجود لآدم؛ فقال له الله عز وجل : { وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين } [ ص : 78 ] .
حينئذ تضرع الشيطان إلى الله تعالى أن يبقيه إلى يوم القيامة : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأعراف : 14 ] .
وهكذا أقر الشيطان بطلاقة القدرة لله تعالى وبأنه عاجز لا يقدر على شيء أمام قوة الله ، فقال الحق تبارك وتعالى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 37-38 ] .
إذن فالشيطان لا قدرة له ولا قوة على فعل شيء ، وكل ما يمكنه هو الخداع والتزيين والكذب ، ولذلك أخذ يخدع الكفار ويكذب عليهم ، وما أن صار المؤمنون والكفار على مدى رؤية العين بعضهم لبعض ، هرب الشيطان وفزع ونكص على عقبيه ، وأعلن خوفه من الله؛ لأنه يعلم أن الله شديد العقاب .
إذن فمصدر خوف الشيطان هنا هو الخوف من العقاب ومن العذاب الذي سيصيبه حتماً ، ولم يفزع الشيطان - إذن - حبّاً لله تعالى .
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى : { إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ . . . }
(1/3294)

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
" المنافق " كلمة مأخوذة من نافقاء اليربوع ، وهو حيوان يشبه الفأر يعيش في الجبال في سراديب ، وحين يتتبعه حيوان آخر ليفترسه ، فهو يسرع إلى جحره الذي يشبه السرداب ، وهو يفتح أكثر من فتحة لهذا الجحر لتكون مخارج له ، ومثل هذه الفتحات كالأبواب الخلفية ، فينجو من الافتراس ، فكأنه فتح لنفسه نفقاً ، ينافق منه غيره فلا يقوى على اللحاق به . ولذلك نجد المنافق متعارضاً مع نفسه؛ ينطق لسانه بما لا يؤمن به ، وبينما المؤمن منسجم النفس؛ ينطق لسانه بما في قلبه ، والكافر أيضا كذلك منسجم ينطق لسانه بما في قلبه من الكفر ، ولكن المنافق متخبط مع نفسه ، لسانه يقول كلمات الإيمان وقلبه يضمر الكفر ، وهكذا تتعاند ملكات المنافق ، وحينما يكون القلب واللسان متعاندين لا توجد راحة نفسية ، وحسبك من المنافق أنه متعاند في الملكات .
ويصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين بقوله : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] .
إذن فالذاتية ضائعة؛ لأن الإنسان لا يفقد ذاته حينما تكون ملكاته منسجمة ولا توجد ملكة تعارض ملكة أخرى ويكون عمله متوازناً ، ولكن الذي تتعاند ملكاته يعيش دائما في قلق نفسي وحيرة . ولذلك يحاول أن يهرب من واقعه ، فيلجأ إلى المخدرات أو غيرها ، وليس الحل بأن يخدر الإنسان نفسه أمام الأحداث ، ولكن لا بد أن يواجه الإنسان الأحداث ويحاول إيجاد حل لها ، والمنافق لا يقدر على ذلك فينهار ، ويقول الله تعالى :
{ إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } [ الأنفال : 49 ] .
وبعد أن ينتصر المؤمنون نجدهم وهم يزدادون إيماناً وثقة في أنفسهم ، وتملؤهم عزة الإيمان ، فينظر إليهم المنافقون بحسد وحقد؛ لأنهم يكرهون المؤمنين؛ ولا يتمنون لهم خيراً ، فهم في نفاقهم كفار ، في قلوبهم غل للمؤمنين يخاطب بعضهم البعض ويقولون : أصاب هؤلاء الغرور بدينهم . ولكن ما أصاب المؤمنين ليس غروراً؛ لأن معنى الغرور أن تغار بخصلة فيك تجعلك متفوقاً على غيرك؛ والمؤمن ساعة النصر لا يغتر بنفسه ولكنه يعتز بالله القوي العزيز ، ويزداد تواضعاً له ويكون مشغولاً بشكر الله على ما حققه له من نصر ، أما المغرور فهو من يعزل النعمة عن المنعم وينسبها لنفسه . والمؤمنون ينسبون كل شيء لله تبارك وتعالى؛ لأنهم يعلمون أن النعمة عطاء من يد الله الممدودة بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وما دامت النعمة لم تبعد الإنسان عن الله ، فإن الله يزيده منها؛ لأنه مأمون على النعمة وينسبها لصاحبها ، والمغرور يستعلي بأي خصلة يتميز بها عكس المؤمن الذي لا يستعلي أبداً بها؛ لأنه يعلم أنه لا ذاتية له ، وأن الفضل لله تعالى ، وذلك يقول الحق تبارك وتعالى وهو يصف المؤمنين :
(1/3295)

{ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] .
والشدة هنا ليست غروراً ، ولكنها طبع وملكة ، ولو كانت غروراً لبقيت كما هي ، ولكن المؤمن شديد على الكفار ذليل على المؤمنين لا يتكبر عليهم أبداً ، ولا يمكن أن يجعله إيمانه في قالب جامد؛ لأن الإيمان يعطي المؤمنين مرونة أمام الأحداث ، لذلك نجد المؤمن لا هو شديد على إطلاقه ، لأن هناك مواقف تتطلب الرحمة في التعامل مع المؤمنين ، ولا هو رحيم على إطلاقه؛ لأن هناك مواقف تتطلب الشدة في مواجهة الكفار .
وكان سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - معروفاً بأنه كان كثير البكاء من خوفه وخشيته لله؛ وقلبه مليء بالرحمة على المؤمنين . ولكن عندما جاءت حرب الردة لمانعي الزكاة ماذا حدث؟ . جلس هو وعمر بن الخطاب ، والمعروف عن عمر أنه كان شديدا ، وجلسا يتشاوران ، وكان رأي عمر ألا يقاتلوا من ارتدوا بإنكارهم ومنعهم الزكاة؛ لأنهم قالوا : لا إله إلا الله ، فقال له أبو بكر : " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه " .
هذا هو أبو بكر الذي عُرف عنه أنه كان كثير البكاء من خشية الله تعالى ، وكان قلبه يمتلىء بالرحمة للمؤمنين . إنه يعلن في قوة وشدة في الحق أنه سوف يقاتل الخارجين على حدود الله والمانعين المنكرين للزكاة . ولو أن هذا الأمر حدث من عمر لقال الناس : شدة ألفناها ، ولكن أن يحدث هذا الأمر من هذا الرجل الطيب الرحيم المطبوع على الرقة وعلى اللين؛ فهو أمر يبين لنا شدة المؤمن في مواجهة الكفر . المؤمن - إذن - لا هو مطبوع على الشدة المطلقة ولا هو مطبوع على الرحمة المطلقة ، لكنه شديد حين تكون الشدة مطلوبة للدين ، ورحيم حينما تكون الرحمة مطلوبة للدين ، وعزيز حين تكون العزة للدين ، وذليل حين تكون الذلة للدين . إذن فقول المنافقين : { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } لا يستند إلى حكم صحيح ، بل هو مما يمليه عليهم نفاقهم ، لماذا؟ .
لأن المؤمنين يتوكلون على الله دائما وينسبون كل الفضل لله تعالى :
{ فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] .
وما دام الله عزيزاً فالذي آمن به عزيز ، وسبحانه وتعالى يقول : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .
وما دام الله حكيماً فهو يعطي الحكمة للمؤمنين ، والتوكل على الله معناه أن تكل كل أمورك إليه سبحانه وتعالى ، وأول هذه الأمور أنه أمرك بالأخذ بالأسباب ، فلا تترك الأسباب أبداً ، بل خذ بها دائما مع التوكل عليه فإذا لم تسعفك فهناك المسبب . فقد قال الحق تبارك وتعالى لعباده المؤمنين : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] .
وأمرنا سبحانه وتعالى : بالسعي فقال عز وجل :
(1/3296)

{ فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } [ الملك : 15 ] .
فهو سبحانه وتعالى كما أمر المؤمنين بأن يقاتلوا ويأخذوا بالأسباب؛ لأنه سبحانه يريد أن يعذب الكفار بأيدي المؤمنين ، أمرهم سبحانه وتعالى كذلك أن يسعوا في سبيل الرزق .
وأنت حين تتواكل تنقل صفة إلى صفة؛ لأن التوكل عمل القلوب ، والعمل تقوم به الجوارح ، فلا تجعل التواكل عمل الجوارح؛ لأن الجوارح تعمل بالأسباب . والقلوب تتوكل على الله ، وهكذا نفهم أن التوكل الحقيقي للجوارح هو أن تعمل ولذلك فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب مع التوكل ، ولا بد لنا أن ننتبه إلى المنافقين في بدر الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى :
{ إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } [ الأنفال : 49 ] .
والمنافقون - كما قلنا - هم القوم الذين تتصارع ملكاتهم ، وما على ألسنتهم يتناقض مع ما في صدورهم ، أما الذين في قلوبهم مرض فهم ضعيفو الإيمان؛ مسلمون ساعة الرخاء؛ فارون من الدين ساعة الشدة . إذن فهناك فريقان ذكرهما الحق سبحانه وتعالى؛ المنافقون وهؤلاء كانوا من الأوس والخزرج ملكاتهم متضاربة؛ لأنهم كانوا يريدون السيادة على المدينة . وواحد منهم كان ينتظر أن يلبس تاج الملك ، وبمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تنتهي منه هذه الفرصة وتضيع فرصة الملك والزعامة ، وقد أوجد ذلك في نفسه حقداً وغيظاً . ولكن ظاهرة الإقبال من أهل المدينة كلهم على الإيمان والدخول في الإسلام؛ جعلت هؤلاء المنافقين لا يستطيعون المقاومة؛ لذلك نطقوا الشهادتين بألسنتهم وبقي في قلوبهم حقد وضغينة على الإسلام ، فالواحد منهم تتجاذبه ناحيتان متعارضتان .
والذين في قلوبهم مرض ليسوا منافقين ولكنهم ضعيفو الإسلام ، وقد دخلوا إلى الدين ليأخذوا وهم لا يعطون ، فإذا أعطاهم الإسلام بعضاً من نعم الدنيا فرحوا بها ، وإذا أصابتهم شدة هربوا . ومن هؤلاء بعض الذين أسلموا في مكة . ولكن إسلامهم لم يصل بهم إلى أن يهاجروا إلى المدينة؛ خوفا من أن يتركوا أموالهم وأولادهم فظلوا في مكة ، ومرضى القلوب هؤلاء لا يعدمون الحياة؛ لأن المرض لا يعدم الحياة ، لكنهم كانوا يعانون من عدم صحة الإيمان ، ولما جاءت عملية القتال في غزوة بدر تشاوروا : أيذهبون مع الكفار أو لا يذهبون؟ ومع أي من الفريقين يقاتلون؟ . وقالوا : نخرج مع الكفار فإن وجدنا أنهم أقوى كنا معهم ، وإن وجدنا المسلمين هم الأقوياء انضممنا إليهم .
ومن هؤلاء قيس بن الوليد المغيرة وعلي بن أمية بن خلف والعاصي ابن منيه بن الحجاج والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وأبو القيس بن الفاكه ابن المغيرة . وتجمع هؤلاء مع بعضهم وذهبوا إلى المعركة لينضموا إلى المنتصر ، مؤمنا كان أو كافرا . وهم أخذوا هذا الموقف؛ لأن صحة الإيمان في قلوب هؤلاء غير موجودة فهم أصحاب قلوب مريضة ومتعلقة بحب الدنيا .
(1/3297)

وما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض يدل على الرغبة في اتقاء الضرر ، مع أن هؤلاء في المدينة وهؤلاء في مكة ولكنهم قالوا شيئاً واحداً ، وهذا دليل على أن إغواء الشيطان للفريقين كان واحداً . ولذلك اتحدت العبارة . وقال هؤلاء وهؤلاء : { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ }
قالها الفريقان ( فريق المنافقين وفريق الذين في قلوبهم مرض ) مع اختلاف المكان ، فبعضهم - كما علمنا - من مكة وبعضهم من المدينة . إذن فلا بد من وجود قاسم مشترك دفعهم أن يقولوا قولاً واحداً ، أي أن الشيطان وسوس إليهم بهذه العبارة . ولذلك كان الوجب أن ينتبهوا إلى أن اتفاق القول دليل إغواء الشيطان لهم .
وما معنى : { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } .
غررت فلاناً أي زينت له الأمر تزييناً بحيث يقبل عليه إقبالاً لا ترشحه قوته له ، وقويت استعداده لكي يقوم به ، فإذا جئت لإنسان محدود الدخل مثلاً وأردت أن تغريه بشراء سيارة . فأنت تقول لتزين له المسألة : اقترض من فلان وفلان وادفع الباقي بالتقسيط ، كأنك تغريه أن يتخذ موقفاً غير موقفه الذي كان ينوي القيام به .
ولكن ما وجه الغرور في الدين؟ .
إن المؤمنين المغترين بدينهم قد أحسوا بكثرتهم رغم أن عددهم قليل . فأقبلوا على الحرب بالرؤيا التي أراها الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن عدد الكفار قليل ، وبوعد الله لهم بالنصر ، أو غرهم بأن أوضح لهم أنَّ الذي يموت مقتولاً في هذه الحرب يصير شهيداً وتكتب له حياة خالدة ، وقد جعل ذلك القوي منهم والضعيف يقاتلان بقوة؛ لأن الشهيد سيذهب إلى الجنة . وهكذا - في رأي المنافقين - اغتر المؤمنون بدينهم .
ويرد الله عز وجل عليهم بقوله تعالى :
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] .
هذا هو الرد عليهم في أن المؤمنين لم يغرهم دينهم ، بل إنهم متوكلون على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه ، وسبحانه عزيز لا يغلب ، وحكيم يضع الهزيمة في موضعها والنصر في موضعه .
إذن فالمسألة أن هؤلاء المؤمنين قد اختاروا الله فأعزهم ونصرهم .
ولكن هل قيلت هذه العبارة من المنافقين علناً؟ . لا ، إنهم لم يجرءوا أن يعلنوها بل قالوها سّراً في أنفسهم ، فأعلم الله سبحانه وتعالى رسوله بما حدث في نفوسهم ، وكانت هذه لفتة من الله سبحانه وتعالى بأن فضح حقيقتهم لعلهم ساعة يسمعون ما يدور في نفوسهم؛ قد يتركون نفاقهم ويعودون إلى حظيرة الإيمان الصحيح ، خصوصاً إذا انتبهوا إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } [ التوبة : 52 ] .
ففي هذه الآية الكريمة يوضح الله سبحانه وتعالى موقف المؤمنين في كل معركة يخوضونها ، فهم إما أن ينتصروا ويهزموا الكفار ويقتلوهم ويأخذوا غنائمهم ، وإما أن يستشهدوا فيدخلوا الجنة ، وكلّ من الأمرين خير . وكشف الحق ما يدور في صدور المنافقين ، وكان ذلك تنبيهاً للمؤمنين بألا يؤثر فيهم كلام المنافقين؛ لأن المؤمنين قد توكلوا على الله والله غالب على أمره .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة . . . }
(1/3298)

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
والذي يُوجه إليه هذا الخطاب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعناه لو كشفنا لك الغيب لترى ، وتلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ترك الجواب ، فلم يقل ماذا يحدث لهذا الكافر الملائكة يضربونه ، وإذا ما حذف الجواب فإنك تترك لخيال كل إنسان أن يتصور ما حدث في أبشع صورة ، ولو أن الحق سبحانه وتعالى جاء بجوابه لحدد لنا ما يحدث ، ولكن ترك الجواب جعل كلا منا يتخيل أمراً عجيباً لا يخطر على البال ، ويكون هذا تفظيعاً لما سوف يحدث .
والصورة هنا تنتقل بنا من عذاب الدنيا للكفار إلى ساعة الموت .
و { يَتَوَفَّى } أي لحظة أن تقبض الملائكة أرواح الكافرين ، والتوفي وهو قبض الأرواح يجيء مرة منسوباً لله سبحانه وتعالى مصداقاً لقوله :
{ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم } ومرة يأتي منسوباً لرسل من الله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } ومرة يأتي منسوباً إلى ملك الموت وهو عزرائيل : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت }
وبذلك يكون التوفي في أسند مرة إلى الله عز وجل ومرة إلى عزرائيل ومرة إلى رسل الموت ، ونقول : لا تعارض في هذه الأقوال؛ لأن الأمر في كل الأحوال يصدر من الله سبحانه وتعالى ، إما أن يقوم عزرائيل بتنفيذه وإما جنوده وهم كثيرون .
الأمر الأصيل - إذن - من الله ، وينسب إلى المتلقي المباشر من الله وهو عزرائيل ، ويُنسب إلى من يطلب منهم ملك الموت أن يقوموا بهذه العمليات .
وهذا العذاب يحدث ساعة الاحتضار وهي اللحظة التي لا يكذب الإنسان فيها على نفسه؛ لأن الإنسان قد يكذب على نفسه في الدنيا ، وقد يكون مريضاً بمرض لا شفاء منه فيقول : سأشفى غداً ، ويعطي لنفسه الأمل في الحياة ، وقد يكون فقيراً لا يملك من وسائل الدنيا شيئاً ويقول : سوف أغتني؛ لأن الإنسان دائما يغلب عليه الأمل إلا ساعة الاحتضار ، فهذه لحظة يوقن فيها كل ميت أنه ميت فعلاً ولا مفَّر له من لقاء الله ، ولذلك تجد أن الذي ظلم إنساناً لحظة يموت يقول لأولاده : أحضروا فلاناً لقد ظلمته فردوا له حقوقه نحوي وما ظلمته فيه ، والإنسان لحظة الاحتضار يرى كل شريط عمله . فإن كان مؤمناً رأى شريطاً منيراً؛ فيبتسم ويستقبل الموت وهو مطمئن . وإن كانت أعماله سيئة فهو يرى ظلاماً ، ويتملكه الذعر والخوف لأنه عرف مصيره .
وحينما زين الشيطان للكفار أن يقاتلوا المؤمنين ووعدهم بالنصر ، وقال : إنني سأجيركم إذا دارت عليكم الدائرة ، فلما أصبح المؤمنون والكفار على مدى الرؤية من بعضهم البعض هرب الشيطان؛ لأنه رأى من بأس الله ما لم يره الكفار ، وهذا هو موقف الشيطان دائماً ، إذا رأى بأس الله أسرع بالفرار ، ويعترف أن كل حديثه لابن آدم إنما هو وعد كاذب سببه الحقد الذي في قلبه؛ لأنه تلقى العقاب من الله عز وجل بعد أن رفض تنفيذ أمر الله له بالسجود لآدم ، وهو الذي أوجب عليه العذاب الذي سيلاقيه .
(1/3299)

ونرى الشيطان مثلاً كما يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] .
أي أنه أقسم بجلال الله وعزته . ومعنى عزة الله أنه غني عن خلقه جميعاً لا يحتاج لأحد منهم ، فهو الله بجلال وجمال صفاته قبل أن يوجد أحد من خلقه قد خلق هذا الكون وأوجده ولم يستعن بأحد ، ولو آمن به الناس جميعاً ما زاد ذلك في ملكه شيئاً . ولو كفر به الناس جميعاً ما نقص ذلك من ملكه شيئاً . وقسم إبليس بعزة الله إقرار منه بها . وقد أقسم بعزة الله أن يطلب الغواية للإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما دام لا يزيد ملكه ولا ينقص بإيمان خلقه؛ لذلك أعطاهم حرية الاختيار ، ولو أراد الله الناس مؤمنين ما استطاع إبليس أن يقترب من أحد منهم ، ويحاول إبليس بحقده على الإنسان وكرهه له أن يصرفه عن طريق الإيمان ، ولكن هل يملك إبليس قوة إغواء على مؤمن؟ . لا ، ولذلك فهناك استثناء : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ ص : 83 ] .
أي أن إبليس لا يستطيع أن يقترب من عبد مؤمن مخلص في إيمانه . ولذلك لا بد أن نلتفت إلى قول الشيطان الذي جاء على لسانه في الآية الكريمة : { إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 48 ] .
إذن فما دام إبليس يخاف الله ، وما دام يعلم أن الله شديد العقاب فما الذي أذهب عنه هذا الخوف حين أمره الله بالسجود لآدم فعصى؟ . خصوصاً وهو يعلم أن الله شديد العقاب ، ولو كان قد عرف أن الله لا يعاقب أو يعاقب عقاباً خفيفاً لقلنا أغرته بساطة العقاب بالمعصية . ولكن علمه بشدة العقاب كان يجب أن يدفعه إلى الطاعة من باب أولى .
ونقول : إنه في ساعة الكبر نسي إبليس كل شيء!!
فأنت في حين يأخذك الكبر تتعالى ولو في مواقع الشدة ، حتى وإن علمت أنه قد يصيبك عقاب شديد ، ولكن يختفي كل هذا من نفسك إذا دخل فيها الكبر .
ولذلك قد تجد إنساناً يُعذب بضرب شديد ولكن الكبر في نفسه يجعله لا يصيح ولا يصرخ . ونجد إنساناً قد يتخذ في لحظة كبر قراراً له عواقب وخيمة ولكنه يتحمله . وإبليس ساعة رفضه تنفيذ أمر السجود كان يمتلىء بالكبر والغرور ، فتكبر على أمر الله وملكه الغرور فقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] .
إذن ففي لحظة الكبر نسي إبليس كل شيء ، واندفع في معصيته يملؤه الزهو وأصر على المعصية رغم علمه أن الله شديد العقاب .
وفي قوله تعالى :
{ وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } [ الأنفال : 50 ] .
نجد أنه قد حذف جواب " لو " والمعنى لو كشف الحجاب لترى الملائكة وهم يتوفون الذين كفروا لرأيت أمرا عظيما فظيعا ، وهل يحدث هذا ساعة القتال عندما يُقتل الكفار في المعركة وتستقبلهم الملائكة بالضرب ، أم يحدث هذا الأمر لحظة الوفاة الطبيعية؟ .
(1/3300)

كلاهما صحيح والعذاب هذا أخذ صفة الإقبال ومحاولة الهرب ، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :
{ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ . . } [ الأنفال : 50 ] .
فالمقبل منهم يضربونه على وجهه ، فإذا أدار ، وجهه ليتقي الضرب ، يضربونه على ظهره ، وكان الكفار يعذبون المؤمنين بهذه الطريقة؛ فالمقبل عليهم من المؤمنين يضربونه على وجهه ، فإذا حاول الفرار ضربوه على ظهره وعلى رأسه .
ويذيق الله الكافرين ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين . ولكن الفارق أن الضارب من الكفار كان يضرب بقوته البشرية المحدودة . أما الضارب من الملائكة فيضرب بقوة الملائكة . ويقال : إن الملائكة معهم مقامع من حديد . أي قطع حديد ضخمة يضربون بها وجوه الكفار وأدبارهم . ومن شدة الضربة واحتكاك الحديد بالجسم تخرج منه شرارة من نار لتحرق أجساد الكفار .
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } [ الأنفال : 50 ] .
إذن فهم يضربون الكفار ساعة الاحتضار ضرباً مؤلماً جدا هذا الضرب رغم قسوته ، والشرر الذي يخرج منه لا ينجيهم في الآخرة من عذاب الحريق .
ولذلك " أقبل صحابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله . . لقد رأيت في ظهر أبي جهل مثل شراك النعل . أي علامة من الضرب الشديد ظاهرة على جسده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك ضرب الملائكة ، وجاء صحابي آخر وقال : يا رسول الله . . لقد هممت بأن أقتل فلانا فتوجهت إليه بسيفي ، وقبل أن يصل سيفي إلى رقبته رأيت رأسه قد طار من فوق جسده . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبقك إليه الملك " وذلك مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] .
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] .
أي أن الضرب فيه إهانة أكثر من العذاب ، ولو أن العذاب قد يكون أكثر إيلاماً . فقد يقوم مجرم بارتكاب جريمة ما فإذا أُخِذَ وعُذب ربما تحمل العذاب بجلد ، ولكنَّه إذا ضُرب أمام الناس كان ذلك أشدَ إهانة له ، فإذا كان الضرب من الذي وقعت عليه الجريمة كانت الإهانة أكبر .
ولكن هذا الضرب والعذاب لا ينجيهم من عذاب النار ، بل يدخلون إلى أشد العذاب يوم القيامة ، وهذه نتيجة منطقية لما يفعله الكفار من عدم الإيمان بالله ومن قيامهم بإيذاء المؤمنين به والإفساد في الأرض .
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ . . . }
(1/3301)

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
نحن نعلم أن معظم أعمال الإنسان يزاولها بيده ، وقد يفعل أشياء بقدميه أو بلسانه؛ لكن معظم الأعمال تتم باليد؛ لأن اليد تحمل القدرة على الفعل . فسبحانه لم يفتئت عليهم .
و " ذلك " إشارة إلى الضرب والعذاب الذي ينالونه جزاء ما قدمت أيديهم . ويقول سبحانه وتعالى :
{ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ الأنفال : 51 ] .
أي أن العذاب الذي يصيب الكفار يكون نتيجة أمرين؛ ما قدمت أيديهم أي بما كسبت من الآثام والمعاصي ، وعدل الله سبحانه وتعالى .
ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ آل عمران : 181-182 ] .
ويقول سبحانه وتعالى في سورة الحج : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [ الحج : 10 ] .
وهكذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد قال : إنه ليس بظلام للعبيد ثلاث مرات في القرآن الكريم ، والذين يحبون أن يستدركوا على كتاب الله يقولون : إنَّه جاء في القرآن أكثر من مرة أنه سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد . فهل هذا يعني أن الله - معاذ الله - ظالم؟ . ونقول : لا ، فسبحانه ينفي الظلم عن نفسه على إطلاقه . والإنسان حين يظلم فهو ظالم ، فإذا اشتد ظلمه وتعدد ، يقال : " ظلاَّم " . إذن فهذه صيغة مبالغة في الظلم ، مثلما تقول : فلان " آكل " وفلان " أكّال " أي كثير الأكل مبالغة في تناول الطعام . وتقول : فلان " ناجر " أي أمسك قطعة خشب بدون خبرة وصنع منها شيئاً . ولكنك إذا قلت : " نجَّار " كانت هذه صيغة مبالغة تبين إاتقانه في صنعته ، كذلك " خائط " و " خيَّاط " ، ونقول : فلان " جازر " أي يستطيع أن يذبح ، فإذا قلت : " جزَّار " أي عمله هو أن يذبح بإتقان .
إذن " فعَّال " صيغة مبالغة في الفعل . وصيغ المبالغة لها حالتان ، حالة إثبات وحالة نفي . فأنت حين تقول : فلان " أكّال " أثبت له صفة المبالغة في الأكل - أي كثرة الأكل ، ومن باب أولى صفة الأكل مطلقاً ، وما دمت قد أثبت له الصفة الأعلى تكون الصفة الأدنى ثابتة ، فإذا قلت : إن فلاناً " خياط " أثبت له أنه يعرف الخياطة ويجيدها . وإن قلت : إنه " نجَّار " أثبت له أنه ناجر متقن للنجارة ، أما من ناحية النفي فإذا قلت : إن فلاناً ليس أكَّالاً تنفي المبالغة ولكنها لا تنفي أنه يأكل ، فإذا قلت : إن فلاناً ليس نجاراً نفيت عنه إتقانه للنجارة ولكنك لا تنفي عنه أنه قد يكون ناجراً ، وإذا قلت : إن فلاناً ليس علاّمة فقد يكون عالماً .
(1/3302)

وأنت عندما تثبت الأعلى تثبت الأدنى ، وعندما تنفي الأعلى لا تنفي الأدنى . وعندما تقول : إن فلاناً ليس ظلاَّماً ، تكون قد نفيت الأعلى . ولكن لا يلزم نفي الأدنى فقد يكون ظالماً فقط وليس ظلاَّما . إذن فكلمة " ليس ظّلاماً " نفت المبالغة فقط ولكنها لم تنف الظلم . وهذا ما قاله المستشرقون : إن آيات القرآن يناقض بعضها بعضاً ، ففي آية مثلاً يقول : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ } فنفي الأعلى ولا يلزم من نفي الأعلى نفي الأدنى . ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] .
فنفي الأدنى والأعلى . وهذا في رأيهم تضارب . نقول : هل إذا نفي الأعلى يلزم أن يثبت الأدنى؟ طبعاً لا ، إن نفي الأعلى لا يمنع أن يوجد الأدنى ولكنه لا يلزم بوجوده .
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى :
نفي مبدأ الظلم ، وقوله تعالى :
{ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ الأنفال : 51 ] .
نفي مبدأ المبالغة ، والقرآن يكمل بعضه بعضاً ، فإذا قيل : إن الله نفى الأعلى وهذا إثبات للأدنى نقول : إن نفي الأعلى لا يلزم منه إثبات الأدنى ولا يمنع من وجود الأدنى ، فإذا جاءت آية أخرى ونفت الأدنى ، إذن فلا هو بظلاَّم ولا هو بظالم . ولا بد أن نلتفت إلى الإعجاز القرآني في الأسلوب ، فالمتكلم هو الله . نقول : هل قال الله سبحانه وتعالى : ليس بظلاَّم للعبد أم ليس بظلاَّم للعبيد؟ لقد قال الحق : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } وهي هنا صيغة مبالغة ، والمبالغة مرة تكون في قوة الحدث وإن لم يتكرر ، ومرة تكون في المبالغة في تكرار الحدث ، والإنسان حين يظلم ظلماً بيّناً مبالغاً فيه يقال عنه : إنه ظلاَّم؛ لأنه بالغ في الظلم ، فإذا لم يبالغ في الظلم وكان ظلماً بسيطاً ولكنه شمل عدداً كبيراً من الناس يكون ظلاَّما نظراً لتعدد المظلومين .
وما دام الحق سبحانه وتعالى قال : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؛ ولم يقل : ليس بظلاَّم للعبد ، وبما أن الظلم يتناسب مع القدرة . نجد مثلاً قدرة الحاكم على الظلم أكبر من قدرة محدود النفوذ؛ وهذه أكبر من قدرة الشخص العادي ، فلو كان الله سبحانه وتعالى مع كل واحد من عباده ظالماً ولو مثقال ذرة لقيل : ظلاَّم . وقد أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يخبرنا أنه لا يظلم أحداً ولو مثقال ذرة ، إذن فهو ليس بظلاَّم للعبيد؛ لأنه لو ظلم كل عبد من عباده ذرة لكانت كمية الظلم هائلة لكثرة العباد . ولكن حتى هذه الذرة من الظلم لا تحدث من الله سبحانه؛ لأن الله ليس بظلاَّم للعبيد .
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى أمثلة قمة الكفر في الحياة الدنيا فيقول تبارك وتعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ . . . }
(1/3303)

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
و { الدأب } هو العادة التي تتكرر مع الإنسان ويقال : دؤوب على كذا؛ أي يفعله باستمرار . ويوضح الله سبحانه وتعالى هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم : دأب هؤلاء الكفار معك يا محمد ، أي عادتهم معك ، كدأب آل فرعون مع رسولهم ، أي أنهم يفعلون معك يا محمد ، أي عادتهم معك ، كدأب آل فرعون مع رسولهم ، أي أنهم يفعلون معك كما فعل آل فرعون مع موسى عليه السلام .
وقوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِهِمْ }
أي قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ، ما الذي حدث لهؤلاء؟؛ هلاك أو اسئصال أو تعذيب أو إغراق أو خسف . إذن فالكفار الذين يعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاربونه ، ويقفون موقف الأذى منه ، هذا الدأب والموقف منهم معه مثل دأب وموقف آل فرعون مع موسى عليه السلام ، وقوم لوط مع لوط عليه السلام ، وكذلك الذين من قبلهم ، ويقول الحق تبارك وتعالى :
{ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } [ الأنفال : 52 ] .
فهل تركهم الله؟ . لا . { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ }
فمنهم من أُغرقوا ، ومنهم من أصابتهم الصاعقة ، ومنهم من خسف الله بهم الأرض ، وما دام الله سبحانه وتعالى قد فعل ذلك مع الكفار السابقين كما هو ثابت . فسبحانه سوف ينزل عقابه على الكفار الذين يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم لن يخرجوا عن قاعدة التعامل مع المكذبين للرسل ، وقد حدثت سوابق مشابهة في الكون وقضايا واقعية . فآل فرعون مثلاً بلغوا قمة التقدم والحضارة في عصرهم وسبحانه وتعالى يقول عن حضارة الفراعنة : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } [ الفجر : 10 ] .
وبالنسبة لثمود إذا ذهبنا إلى مدائن صالح في السعودية نجد آثار ثمود وقد حفروا بيوتهم في صخور الجبال ، ويقول الحق عن حضارة ثمود : { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد } [ الفجر : 9 ] .
وكل الحضارات القديمة قد زالت في غالبيتها ولا أثر لها ، وإن وجد أثر ، فهو أثر قليل وبسيط لا يحمل كل سمات الحضارة ، إلا آثار الفراعنة؛ حيث تحوي مسلات ضخمة وأعمدة عالية وأهرامات كبيرة وهي باقية ، أما حضارة قوم عاد فالحق سبحانه قد طمس آثارها فلم نعثر منها على شيء حتى الآن . لقد انطمست غالبية آثار الحضارات إلا آثار حضارة آل فرعون التي يأتي إليها الناس من أنحاء الدنيا كلها؛ ليتعجبوا من جمال البناء وروعة الفن وقمة التقدم في التصميم الهندسي ، وكيف نُقِلت هذه الأحجار الضخمة إلى الأماكن العليا بدون سقالات ، وكيف ارتبطت الأحجار كلها مع بعضها البعض كل هذه السنوات الطويلة دون استخدام الأسمنت أو غيره من مواد التثبيت للأحجار ، بل تم ذلك بتفريغ الهواء . فكيف استطاعت هذه الهندسة العجيبة أن تفرغ الهواء بين حجرين كبيرين ضخمين؛ ليلتصقا ببعضهما التصاقاً محكماً بغير لاصق ولا يستطيع أحد أن يزحزحه ، فإذا كانت حضارة الفراعنة قد وصلت إلى هذا الفن الهندسي باستخدام تفريغ الهواء بين أثقال ضخمة فهي حضارة راقية جدا .
(1/3304)

هذا إن نظرت إلى فن البناء فقط ، وكذلك إن نظرنا إلى تحنيط الجثث التي لا يعرف أحد سرها حتى الآن ، وكيف أمكن المحافظة على المومياوات آلاف السنين دون أن تتحلل . وكذلك إن نظرت إلى الألوان التي طليت بها المعابد والرسومات وبقيت زاهية كما هي رغم كل ذلك الزمن الطويل ، وإلى الحبوب التي حُنطت وبقيت آلاف السنين دون أن يصيبها أي تلف ، بل وصالحة للطعام ، هذه الحضارة التي احتفظت بأسرار هذه الأشياء فلم تصل إليها البشرية حتى الآن ، لا بد أن تكون حضارة قوية وعالية ، ولكنها رغم قوتها وعلوها لم تستطع أن تحفظ نفسها من الانهيار لتصبح أثراً وتظل آثارا .
أين ذهب صناع هذه الحضارة وقد بلغوا شأواً كبيرا وملكوا زمام الدنيا في عصرهم؟ لا بد - إذن - من وجود قوة أعلى منهم ، قد دكتهم . ولماذا أتى الله بآل فرعون في هذه الآية بالاسم بينما أتى بالحضارات التي كانت قبلهم إجمالاً؟ ، فقال تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ } [ الأنفال : 52 ] .
لأن آثار آل فرعون قد كشف الله عنها ورَغّبَ فيها البشرية كلها؛ ليأتوا ويروا تلك الحضارة الهائلة التي لم تستطع أن تحمي نفسها ، وذلك الفرعون الذي ادعى أنه إله يستطع أن يضمن لنفسه البقاء . وشاء الله سبحانه أن تبقى آثار هذه الحضارة ليشاهدها الناس جميعاً ، ثم يروا أن الله عز وجل قد أهلك أصحابها وأصبحوا أثراً بعد عين؛ ليعرفوا أن القوة لله جميعاً ، وأن الألوهية لله وحده ، وأن كل شيء هالك إلا الله؛ لذلك ذكرت حضارة آل فرعون مخصصة ، وهذا الذكر لآثار قوم فرعون من إعجازات القرآن؛ لأنه ذكر هذه الحضارة تخصيصاً ثم جاء الحق بخير الحضارات الأخرى إجمالاً؛ قوم نوح وعاد وإرم وثمود . وكلهم : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله }
وعرفنا أن الآيات تطلق ثلاث إطلاقات : الآيات الكونية التي تثبت وجود الخالق الأعلى مثل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر } [ فصلت : 37 ] .
وكذلك المعجزات التي يؤتيها الله رسله لإثبات صدق بلاغهم عن الله مثل انشقاق البحر لموسى عليه السلام ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى عليه السلام ، ثم آيات القرآن الكريم التي هي محكم منهج الله في الأرض .
وقول الحق : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } ، نعلم منه أنهم أنكروا وجود الخالق ، والأصل في الكفر هو الستر ، وكفر يعني ستر . ولذلك يسمون الزارع بالمعنى اللغوي : كافر؛ لأنه يحضر الحب ويستره بالتراب ، ويسمون الليل لغويا : كافر؛ لأنه يستر الأشياء . والشاعر يقول :
لي فيك أجر مجاهد ... إن صح أن الليل كافر
ومعنى " كفروا " أي ستروا وجود الله تعالى ، إذن فالله عز وجل موجود ثابت الوجود قبل أن يستروه بالكفر؛ لأن الإيمان أصل في وجود الخلق ، والخلق قد وجدوا على الإيمان ، ثم جاء أناس ستروا هذا الإيمان .
(1/3305)

إذن فكلمة الكفر التي معناها الستر دليل من أدلة الإيمان ، وإلا لو لم يكن الله موجوداً فكيف يسترون ما ليس له وجود؟ ، فإذا قال لك أحد : إنه كفر - والعياذ بالله - تقول : الكفر هو الستر؛ فماذا سترت؟ لا بد أنك سترت ما هو موجود ، وقول الحق سبحانه وتعالى : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله }
أي كفروا بآياته الكونية فلم يؤمنوا رغم الآيات الظاهرة التي تملأ الكون ، وكفروا بآيات الرسل فكذبوا رسلهم رغم أنهم جاءوهم بمعجزات تخرق قوانين الحياة ، ولم يصدقوا آيات الكتاب التي أنزلت من السماء لتبين لهم منهج الله تعالى :
وقوله تعالى :
{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } [ الأنفال : 52 ] .
إيجاز معبر يذكر لك لماذا أخذهم الله بذنوبهم :
{ فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 52 ] .
والأخذ في قوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ } كان بسبب ما ارتكبوه من ذنوب وإفساد في الأرض . والإنسان حين يجد سوءاً يحيط به وعذاباً أليماً يأتيه فهو يحاول أن يفّر منه ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى : { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] .
أي أن قدرة الله تعالى تمسك الكافر مسكة محكمة فلا يستطيع فرارا أو هروبا .
وقوله سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 52 ] .
أي أن الله أقوى من كل ما تصنعون في كونه ، وعقابه تعالى شديد وأليم . ونعلم أن العقاب لا يعم الناس إلا بقدر ذنوبهم ، فليس معنى أن الله شديد العقاب أن تصيب شدة العذاب مَنْ فعل ذنباً بسيطاً ، ولكنْ لكلٍ جزاؤه على قدر ذنبه؛ وهذا العقاب مهما كان بسيطاً فهو شديد أليم ، وقول الحق سبحانه وتعالى : { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ }
هذا القول لا يدخل في الجبرية التي يقول عنها الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
ويخطىء من يظن أن الله قد كتب جبرا على إنسان أن يكون كافراً ثم يلقى به في نار جهنم ، لا؛ لأن مثل هذا الأمر يتنافى مع عدالة الله سبحانه وتعالى ، فأنت أيها الإنسان مخير بين الطاعة وبين المعصية ، بين الإيمان وبين الكفر . وعلى هذا نفهم قول الحق :
{ فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } [ الأنفال : 52 ] .
أي بسبب ذنوبهم ، وما دام الحق تبارك وتعالى قد توعدهم بعقاب شديد فهذا دليل على شدة ظلمهم .
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى الحيثية لذلك فيقول تعالى : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ . . . }
(1/3306)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
و " ذلك " إشارة إلى ما تقدم ، وأنت إن نظرت إلى بداية البشرية تجد أن الله تعالى خلق آدم ليجعله خليفة في الأرض ، وخلق حواء لإبقاء النوع الإنساني . وقبل أن ينزل آدم على الأرض أعطاه الله سبحانه وتعالى المنهج ، ومن آدم وحواء بدأت ذريتهما ، ولو ساروا على المنهج الذي علمه آدم لهذه الذرية ، لصارت البشرية إلى سعادة . ولكن الذرية تغيرت ، وجحدوا النعمة وأنكروا أنَّ للنعمة خالقاً ، فهل يبقي الله عليهم الأمن والسلامة والنعم ما داموا قد تغيروا؛ لا . بل لا بد - إذن - أن يغير الله نعمه عليهم ، وإلا لما أصبح هناك أي منطق للدين؛ لأن الإنسان قد طرأ على النعم ، بمعنى أن الله لم يخلق الإنسان ثم خلق له النعم . بل خلق النعم أولاً ثم جاء الإنسان إلى كون أعد له إعداداً كاملاً؛ وفيه كل مقومات الحياة واستمرار الحياة . وظل الإنسان فترة طويلة في طفولة الحياة يرتع في نعم الله ، فقبل أن يعرف الزراعة؛ وجد الثمار التي يأكلها . وقبل أن يعرف كيف يبحث عن الماء وجد الماء الذي يشربه ، وعلمه الله كيف يعيش . وذلل له من الحيوان ما يعطيه اللبن واللحم ، وكل هذه النعم وغيرها كان لا بد أن يأخذها الإنسان بالشكر واستمرار الولاء لله الخالق المنعم .
ولكن الإنسان جحد نعمة الله تعالى وجحد المنعم ، أتبقى له سعادة وحياة مطمئنة في الأرض؟ طبعاً لا ، وما دام الإنسان قد غير ، لا بد أن يغير الحق النعمة إلى نقمة ، ومن رحمته سبحانه أنه شاء أن يكون الإنسان هو البادىء ، فالحق سبحانه منزّه أن يكون البادىء بالظلم ، بل بدأ الإنسان يظلم نفسه .
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الأنفال : 53 ] .
إذن فذرية آدم بدأت أولاً بتغيير نعمة الإيمان إلى الكفر ، ومن شكر النعمة إلى جحودها ، فجزاهم الله تعالى بالطوفان وبالصواعق وبالهلاك؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم ، ولو أنهم عادوا إلى شكر الله وعبادته؛ لأعاد لهم الله نعَم الأمن والاستقرار والحياة الطيبة .
ويلفتنا المولى سبحانه وتعالى إلى أن اتباع المنهج يزيد النعم ولا ينقصها ، فيقول : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] .
وطبقاً لهذا القانون الإلهي نجد أن تغير الناس من الإيمان إلى الكفر لا بد أن يقابله تغيير من نعمة الله عليهم وإلا لأصبح منهج الله بلا قيمة ، والمثال أن كل طالب يدخل امتحاناً ، ولكن لا ينجح إلا من ذاكر فقط ، وأما من لم يستذكر فإنه يرسب؛ حتى لا تكون الدنيا فوضى . ولو أن الله سبحانه وتعالَى أعطى لمن اتبعوا المنهج نفس العطاء الذي يعطيه لمن لا يتبعون المنهج فما هي قيمة المنهج؟ .
(1/3307)

إذن لا بد أن يدخل الإنسان إلى الإيمان ، وأن يكون هذا الإيمان متغلغلاً في أعماقك وليس أمراً ظاهريا فقط ، فلا تدَّع الإصلاح وأنت تفسد ، ولا تدع الشرف والأمانة وأنت تسرق ، ولا تدع العدل وأنت تظلم الفقير وتحابي الغني؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يعطي نعمه الظاهرة والباطنة إلا لمن يتبعون منهجه . وإذا رأيت قوماً عمّ فيهم الفساد فاعلم أن نفوسهم لم تتغير رغم أنهم يتظاهرون باتباع المنهج الإلهي .
وإن شكونا من سوء حالنا فلنعرف أولاً ماذا فعلنا ثم نغيره إلى ما يرضي الله عز وجل فيغير الله حالنا . ولذلك إذا وجدت كل الناس يشكون فاعلم أن هذا قد حدث بسبب أن الله غير نعمه عليهم؛ لأنهم غيروا ما بأنفسهم . أي أن حالتهم الأولى أنهم كانوا في نعمة ومنسجمين مع منهج الله ، فغيروا انسجامهم وطاعتهم فتغيرت النعمة ، أي أن هناك تغييرين أساسيين ، أن يغير الله نعمة أنعمها على قوم ، وهذا لا يحدث حتى يغيروا ما بأنفسهم .
وقوله تعالى :
{ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأنفال : 53 ] .
أي أن الله تعالى يعلم حقيقة ما يفعلون ويسمع سرّهم وجهرهم ، ولذلك إذا غيروا ، سمع الله سبحانه وعلم؛ لأن التغيير إما أن يكون بالقول وإما أن يكون بالفعل ، فإن كان التغيير بالقول فالحق سبحانه يسمعه ولو كان مجرد خواطر في النفوس ، وإن كان التغيير بالعمل فالحق يراه ويعلمه ولو كان في أقصى الأرض .
يعود الحق سبحانه وتعالى إلى آل فرعون فيقول : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ . . . }
(1/3308)

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
يتساءل البعض : لماذا عاد الحق سبحانه وتعالى إلى آل فرعون ولم يأت بها مع الآية الأولى؟ . نقول : لأن هناك فرقا دقيقا بين كل منهما . فالآية الأولى يقول فيها الحق تبارك وتعالى : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } [ الآنفال : 52 ] في الآية الثانية يقول فيها :
{ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } [ الأنفال : 54 ] .
والآية الأولى تدل على أنهم كفروا بالآيات الكونية المثبتة لوجود الله تعالى وآيات الرسل وآيات الكتب التي أنزلت إليهم ، وفي هذه الآية كذبوا بآيات ربهم أي لم يصونوا النعم التي أعطاها الله لهم ، فنعم الله عطاء ربوبية ، وتكاليفه ومنهجه عطاء ألوهية ، وهم في الآية الأولى كذبوا بعطاء الألوهية ، أي كفروا بالله . وفي الآية الثانية كذبوا بعطاء الربوبية أي بنعم الله ، فعطاء الربوبية هو عطاء رب خلق من عَدم وأمَد من عُدم لتكتمل للإنسان مقومات حياته . والله يساوي في عطاء الربوبية بين المؤمن والكافر وبين العاصي والطائع ، ولا يفرّق بينهم بسبب الإيمان أو الكفر .
وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى :
{ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأنفال : 54 ] .
أي لم يكن بينهم مؤمن وكافر بحيث يكون هنا تفرقة بأن ينجي المؤمنين ويغرق الكافرين ، بل كلهم ظلموا أنفسهم بالكفر؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } ، وذكر سبحانه آل فرعون بالتخصيص؛ لأنهم الأمة الوحيدة التي بقيت حضارتها تدل على مدى تقدمها ، هذا التقدم الذي لم نصل إلى كل أسراره حتى الآن . ولا يمكن أن تنتهي مثل هذه الحضارة إلا بقوة أعلى من قوتها . فكأن الحق قد أراد أن يلفتنا إلى آل فرعون بالذات؛ لأنه قدر للبشرية أن تكتشف آثار آل فرعون ، وآثارهم لافتة للعالم أجمع ، ووضع في قلوب البشر حب أن يأتوا ليروا حضارة آل فرعون ، ويتعجبوا كيف وصلوا إلى هذه المنزلة العالية من الحضارة ، ثم انهارت هذه الحضارة كدليل على وجود قوة أعلى وهي الله سبحانه وتعالى ، وقد أهلكهم الحق لأنهم كفروا بالألوهية واتخذوا فرعون إلها وربا من دون الله ، وكفروا بنعمة الربوبية التي أعطاها الله لهم ، والتي يذكر الله جزءا منها في قوله الكريم : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [ الدخان : 25-27 ] .
إذن فالله تعالى قد أعطاهم الزرع والماء ولم يعطهم بتقتير ، بل أعطاهم بوفرة وسعة؛ لذلك قال تعالى : { جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }
وأعطاهم الثروة والقوة التي تحفظ لهم كرامتهم؛ وتجعلهم أسياد الأرض في عصرهم ، وحققت لهم مقاماً كريماً ولم يجرؤ أحد على أن يهينهم ، ولا أن يعتدي عليهم ، فقد كان عندهم كنوز الأرض؛ وعندهم القوة التي تحفظ لهم الكرامة في قوله تعالى : { وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [ الدخان : 26-27 ]
وأعطاهم من العلم ما يوفر لهم الترف والحياة الطيبة الرغدة المريحة في كل شيء ، ولكنهم كفروا بنعم الربوبية هذه ، كما كفروا بنعمة الألوهية؛ فاستحقوا العقاب ، وبقيت آثارهم تدل عليهم؛ نجد فيها الذهب والكنوز ، وقد دفنت مع موتاهم ، ونجد فيها الحضارة والقوة في المعارك التي صوروها على معابدهم بتوضيح وإتقان . ونرى فيها النعمة الهائلة التي كان يعيش فيها فرعون وقومه ، ولكنهم لم يؤدوا حقها وكفروا بالخلق واهب النعم .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله . . . }
(1/3309)

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
{ الدوآب } جمع دابة ، والدابة هي كل ما يدب على وجه الأرض ، فإذا كان هذا هو المعنى يكون الإنسان داخلاً في هذا التعريف ، ولكن العرف اللغوي حدد الدابة بذوات الأربع ، أي الحيوانات . وشرف الخالق سبحانه وتعالى الإنسان بأن جعله لا يمشي على أربع ، فلا يدخل في هذا التعريف . وقول الحق سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 55 ] .
يبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قد ألحق الكفار بالدواب واستثنى المؤمنين فقط ، فسبحانه خلق الدواب وباقي أجناس الكون مقهورة تؤدي مهمتها في الحياة بالغريزة وبدون اختيار؛ والشيء الذي يحدث بالغرائز لا تختلف فيه العقول ، ولذلك نجد كثيراً من الأشياء نتعلمها نحن أصحاب العقول من الحيوانات والحشرات التي لا عقول لها؛ لأن الحيوانات تتصرف بالغريزة ، والغريزة لا تخطىء أبداً ، فإذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } [ المائدة : 31 ] .
نجد أن الغراب الذي لا اختيار له ، ولا عقل؛ علم الإنسان الذي له عقل واختيار . وقد حدث ذلك لأن الغراب محكوم بالغريزة . إذن فكل ما يقوم به الحيوان من سلوك هو باختيار الله سبحانه وتعالى؛ لأن الحيوان مقهور على التكاليف . ومن رحمة الله تعالى أن المخلوقات باستثناء الإنسان خلقت مقهورة؛ تفعل كل شيء بالغريزة وليس بالعقل ، ولكن الإنسان الذي كرمه الله بالعقل يكفر ويعصي . رغم أن الحق أنعم على الإنسان بنعمة الاختيار .
ومن العجيب أننا نجد الحيوان المحكوم بالغريزة لا يخرج سلوكه عن النظام المجبول عليه ويؤدي مهمته كما رسمت له تماماً ، فالدابة مثلاً تلد ويأخذون وليدها ليذبحوه فلا تنفعل؛ لأن هذه مهمتها في الحياة أن تعطي للإنسان اللحم . والحمامة ترقد على بيضها وعندما يخرج الفرج الصغير تتولاه لفترة بسيطة جداً حتى يعرف كيف يطير وكيف يأكل ثم بعد ذلك تتركه؛ ليؤدي مهمته؛ لأنه محكوم بالغريزة . والغرائز لا تخطىء . ويتصرف بها الحيوان بدون تعليم له .
فإذا جئنا للإنسان نجد أن ألوان السلوك المحكومة بالغريزة فيه لا يتعلمها؛ إذا جاع طلب الطعام دون أن يعلمه أحد كيف يشعر بالجوع ، فهذه غريزة . وإذا عطش طلب الماء دون يعلمه أحد معنى العطش ولا كيف يشرب . وكل واحد منا في الغرائز متساو مع الآخر . ونجد الغني والفقير والحاكم والغفير إذا شعروا بالجوع طلبوا الطعام ، وإذا شعروا بالعطش طلبوا الماء . فكل شيء محكوم بالغرائز لا يوجد فيه تغيير .
ومن العجيب - مثلاً - أن الحمار حين يريد أن يعبر مجرى مائيا ينظر إليه ، وبمجرد النظرة يستطيع أن يعرف هل سيعبره أو لا ، فإن كان قادراً قفز قفزة واحدة ليعبر ، وإن لم يقدر بحث عن طريق آخر .
(1/3310)

ولا تستطيع أن تجبر حماراً على أن يعبر مجرى مائيا لا يقدر على عبوره ، ومهما ضربته فلن يستجيب لك ولن يعبر . أما الإنسان إن طلبت منه أن يعبر قناة مائية فقد يقول لنفسه : سأجمع كل قوتي وأقفز قفزة هائلة ، وإن لم يكن قياسه صحيحاً ، يسقط في الماء ، ذلك لأنه أخطأ وصورت له أداة الاختيار أنه يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه . إذن فالمحكوم بالغريزة هو الأوعى .
وعندما نأتي إلى الأكل ، نجد الحيوان المحكوم بالغريزة أكثر وعياً؛ لأنه يأكل فإذا شبع لا يذوق شيئاً . ولو جئت له بأشهى الأطعمة . فأنت لا تستطيع أن تجعل الحيوان يأكل عود برسيم واحداً ، أو حفنة تبن ، أو حبة فول بعد أن يشبع ، وتجده يدوس على زاد عن حاجته بقدميه . وتعال إلى إنسان ملأ بطنه وشبع وغسل يديه ، ثم قالوا له مثلا : أنت نسيت الفاكهة ، أو نسيت الحلوى ، تجده يعود مرة أخرى ليأكل وهو شبعان؛ فيتلف معدته ويتلف جسده . ولذلك تجد الإنسان مصاباً بأمراض كثيرة لا تصيب الحيوان؛ لأنه يسرف في أشياء كثيرة ، بل تجد أن الأمراض التي تصيب الحيوان معظمها من تلوث بيئة الحيوان مما يفعله الإنسان .
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يخبرنا أن الدابة المحكومة بالغريزة خير من الكافر؛ لأن الدابة تؤدي مهمتها في الحياة تماماً . بينما لا يؤدي الكافر مهمته في الأرض ، بل يفسد فيها ويسفك الدماء ، وبذلك يكون شرا من الدابة . ولقد قلنا : إن الدّابة تحملك من مكان إلى مكان ولا تشكو ، وتَحمل أثقالك ولا تتبرم . وتظل سائرة فترة طويلة وأنت جالس فوقها فلا تضيق بك وتلقيك على الأرض ، لقد خُلِقت لهذه المهمة وهي تؤديها كما خلقت لها دون شكوى أو ضجر؛ لأنها محكومة بنظام دقيق تتبعه وتنفذه . ولكن الإنسان اخترع السيارة وطور فيها ، وقد يجلس أمام مقعد القيادة ويصيبه التعب فينعس ويقع في حادثة فيصاب فيها ويصيب غيره أيضاً .
وكان من المفروض أن يتبع الإنسان في حياته منهج ربه الذي أنزله إليه ، لكن من البشر من كفر وأخذ يعربد في الكون ، وبذلك يكون شراً من الدابة؛ لأن الكافر لا يستخدم عقله في أولويات الوجود ، وهو لو استخدم عقله لعرف أنه أقبل على كون قد أعد إعداداً دقيقاً؛ شمس تضيء نصف الكون لتعطيه النهار ، وتغرب ليطل قمر يضيء بالليل يؤنسه في الظلام؛ ونجوم تهديه الطريق في البر والبحر ، ومطر ينزل لينبت الزرع . وحيوان مسخر له يعطيه اللبن واللحم ويحمل أثقاله . كان لا بد - إذن - للإنسان صاحب العقل أن يفكر : من الذي خلق له كل هذه النعم؟ لأن هذه هي من أولى مهمات العقل الذي يفكر ، ويدلنا على الخالق . وكان لا بد في هذه الحالة أن يعرف الإنسان بعقله أن الذي صنع له كل هذه النعم وسخرها له لا بد أنه يريد به خيراً . ولذلك إذا جاءه المنهج من السماء عليه أن يتبعه؛ لأنه يعلم أن هذا المنهج خير ما يصلح له؛ لأنه جاء من خالقه .
وفي هذه الحالة كان لا بد لأمور الكون أن تستقيم . ولكن بعضاً من بني الإنسان ستروا وجود الله وكفروا به ولذلك يوضح لنا الحق تبارك وتعالى أنهم شرّ من الدواب ، لأنهم لا يؤمنون .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ . . . }
(1/3311)

الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
وبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الكافرين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينتقل هنا للكلام عن الجماعة التي عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكفوا عنه شرهم ، وألا يتعرض لهم الرسول ، وهم اليهود ، فهل ظلوا على وفائهم بالعهد؟ لا . بل نقضوا العهد .
بنو قريظة - مثلا - عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يعينوا عليه أحدا ، ولما جاءت موقعة بدر مدوا الكفار بالسلاح ونقضوا العهد ، ثم عادوا وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً ثانياً ، وعندما جاءت غزوة الخندق اتفقوا على أن يدخل جنود قريش من المنطقة التي يسيطرون عليها ليضربوا جيش المسلمين من الخلف في ظهره ، فأرسل الله ريحاً بددت شمل الكفار ، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى :
{ الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] .
وهم قد فعلوا ذلك؛ لأنهم تركوا منهج الله وخافوا من رسول الله فحاولوا أن يخدعوه بنقض المعاهدات . وقوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ }
إنهم لا يتقون الله - عز وجل - الذي يؤمنون به إلها؛ لأنهم أهل كتاب؛ جاءتهم التوراة ، وجاءهم رسول وهو موسى عليه السلام ، وهم ليسوا جماعة لم يأتها كتاب بل نزل عليهم كتاب سماوي هو التوراة ، ومع ذلك لا يتبعون ما في كتابهم ولا يتقون الله تعالى ، فهم أولاً ينقضون العهد ، والنقض ضد الإبرام ، والإبرام هو أن تقوي الشيء تماماً كما تبرم الخيط أي تقويه ، وعندما تقوي الخيط فأنت تجعله ملفوفاً على بعضه ليصبح متيناً . فالخيط الذي طوله شبران عندما تبرمه يصبح طوله شبراً واحداً ويصبح قويا ، فإذا فككته أي نقضته أصبح ضعيفاً ، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } [ النحل : 92 ] .
ويعطينا الحق سبحانه وتعالى الحكم في هؤلاء؛ أولئك الذين لا يؤمنون ، ولا يتقون وينقضون عهدهم؛ فيأتي فيهم القول الحق : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب . . . }
(1/3312)

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
أي إن وجدتهم في أي حرب فشرد بهم من خلفهم .
ولنا أن نلحظ أن كلمة " إما " هي إن الشرطية المدغمة في " ما " إذا ما حذفنا منها ما ، نجد أنها تصبح إن ، كأنه يقول : " إنْ مَا " ، وأدغمت نون " إن " في " ما " ، مثلها مثل أن نقول : إن جاءك زيد فأكرمه؛ هذه جملة شرطية فيها شرط وجواب وأداة شرط ، ولكنه إذا تم مرة واحدة يكون قد انتهى . ولكن " ما " مع إن الشرطية تدلنا على أنه كلما حدث ذلك فإننا نفعل بهم ما أمر الله تعالى به ، كما نقول : كلما جاءك زيد فأكرمه؛ لأن إما هذه تتضمن ما يفيد الاستمرارية ، مثل " كلما " فكلما جاءك تكرمه ولو جاء مائة مرة ، ولو لم تجيء " ما " لكان يكفي أن تصنعها مرة واحدة .
وقوله تعالى : { تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب } ، ثقف بمعنى وجد ، أي كلما وجدتهم في الحرب : فشرد بهم من خلفهم ، أي اجعلهم أداة لتشريد من خلفهم . وعليك أن تؤدبهم أدباً يجعل الذين وراءهم يخافون منكم ، ويبتعدون عنكم ، وكلما رأوكم أصابهم الخوف والهلع ، وكما يقول المثل العامي : " اضرب الربوط يخاف السايب " . أي أن المطلوب أن نجاهدهم بقوة وبدون شفقة ، حتى لا يفكر في مساندتهم من جاءوا خلفهم لينصروهم أو يؤازروهم بالدخول معهم في القتال ، ولا تحدثهم أنفسهم في أن يستمروا في المعركة ، فشرد بهم ، والتشريد هو التشتيت والتفريق والإبعاد ولكن بقسوة . فحيثما يريدوا أن يذهبوا؛ امنعهم وشتتهم على غير مرادهم . وقول الحق سبحانه وتعالى : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
أي لكي تكون هذه التجربة درساً لهم؛ كيلا يفكروا مرةً أخرى في حربٍ معك؛ لأنهم سوف يتذكرون ما حدث لهم فيبتعدون عن مواجهتك .
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ . . . }
(1/3313)

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
وسبحانه وتعالى يبدأ هذه الآية بقوله : " وإما " ومثلها مثل " فإما " في الآية السابقة وقد تم التوضيح فيها ، وهنا يتحدث عن الآخرين الذين لا يواجهون بالحرب ، بل يدبرون لخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقول : هل هذه الخيانة مقطوع بها؟ أو أنت أخذت بالشبهات؟ . الله سبحانه وتعالى هنا يفرق بعدالته في خلقه بين الخيانة المقطوع بها والخيانة غير المقطوع بها ، فالخيانة المقطوع بها لها حكم ، والخيانة المظنون بها لها حكم آخر . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] .
أي بلغك أنهم سيخونونك ، ماذا تفعل فيهم؟ .
يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] .
أي أنه ما دام هناك عهد والعهد ملك لطرفين ، هذا عاهد وذاك عاهد ، فإياك أن تأخذهم على غرة ، بل انبذ إليهم ، والنبذ هو الطرح والإبعاد ، أي عليك أن تلغي العهد الذي بينك وبينهم ، وتنهيه ، وتبعده بكراهية . فساعة تخاف الخيانة أبعدهم ، ولكن لا تحاربهم قبل أن تعلِمَهُم أنك قد ألغيت العهد بسبب واضح معلوم .
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبيلة خزاعة - كانت من حلفائه بعد صلح الحديبية - وكان الصلح يقضي ألا تهاجم قريش حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يهاجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفاء قريش ، وذهب بعض من أفراد قريش إلى قبيلة خزاعة وضربوهم ، أي أن قريشاً خانت العهد ، ونقضت الميثاق الذي كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بمعاونتها بني بكر في الاعتداء على خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فماذا فعل الناجون من خزاعة؟ . أرسلوا عنهم عمرو بن سالم الخزاعي يصرخ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال : إن قريشاً أخلفتك الوعد ونقضت ميثاقك ، ولما حدث هذا لم يبق رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة سرّاً ، بل أبلغ قريشاً بما حدث . وأنه طرح العهد الذي تم في صلح الحديبية بينه وبين قريش .
وعندما جاء أبو سفيان إلى المدينة ليحاول أن يبرر ما حدث . رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقابله .
إذن فإن وجدت من القوم الذين عاهدتهم بوادر خيانة فانبذ العهد ، أما إن تأكدت أنهم خانوك فعلاً وحدثت الخيانة ففاجئهم بالحرب ، تماماً كما فَعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود بعد أن خانوه في غزوة الخندق ونقضوا العهد والميثاق .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } [ الأنفال : 58 ] .
فكأن الله تعالى بريء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء ، والمسلمون أبرياء أن يخونوا حتى مع الذين كفروا؛ وهذه تؤكد لنا أن الإسلام جاء ليعدل الموازين في الأرض؛ ليس بالنسبة للمؤمنين به فقط بل بالنسبة للناس جميعاً .
(1/3314)

ولذلك إن قرأت قول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله } [ النساء : 105 ] .
تلاحظ أن الآية لم تقل : بين المؤمنين . ، ولكن قالت : { بَيْنَ الناس } ؛ حتى لا تكون هناك تفرقة في العدل بين مؤمن وغير مؤمن ، فغير المؤمن مخلوق لله ، استدعاه الله إلى هذا الوجود ، وسبحانه قد أعد له مكانه في هذا العالم؛ لذلك لا بد أن تراعي العدل معه في كل الأمور ولا تظلمه بل تعطيه حقه؛ لأنك بذلك تكون أنت مددا من إمدادات الله . وقد كان هذا السلوك العادل الذي أمر به الله سبباً في دخول عدد كبير في الإسلام . ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] .
أي لا تناصر - يا محمد - الخائنين حتى وإن كانوا من أتباعك . وقد نزلت هذه الآية عندما سُرق درع من قتادة بن النعمان وهو من الأنصار ، وحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من بيت يقال لهم : بنو أبيرق . فجاء صاحب الدرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فلما علم السارق بما حدث ، وضع الدرع في جوال دقيق وأسرع وألقاه في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين . وقال لعشيرته : إني وضعت الدرع في منزل اليهودي زيد بن السمين ، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله إن صاحبنا بريء . والذي سرق الدرع هو فلان اليهودي . وذهب الصحابة فوجدوا الدرع في جوال دقيق في بيت اليهودي . ولكن اليهودي أنكر أنه سرق الدرع وقال : لقد أتى به طعمة بن أبيرق ولم يلحظ طعمة أثناء نقل جوال الدقيق أن بالجوال ثقباً صغيراً ، تسرب منه الدقيق ليصنع علامة على الأرض ، وذلك من غفلته؛ لأن الله لا بد أن يترك دليلاً للحق يهتدي به القاضي حتى لا يضيع الحق؛ فتتبع المسلمون علامة الدقيق حتى أوصلتهم إلى بيت طعمة بن أبيرق وأصبحت القضية أن السارق مسلم . ولكنه اتهم اليهودي كذباً بالسرقة . وقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن حكمت لليهودي على المسلم يكون المسلمون في خسة ودناءة وحرج ، وإذا بالوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعصمه من تعدي خواطره في هذه المسألة : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] .
أي لا تكن لأجل ولصالح الخائنين مدافعا عن أي واحد منهم ولو كان هذا الخائن مسلماً . وهكذا كان عدل الإسلام في أن حكم الله تعالى لا ينصر مسلماً على باطل ولا يظلم يهوديا ، ألا يرون هذا الدين وما فيه من قوة الحق؟ ألا يدفعهم ذلك إلى أن يتجهوا إلى هذا الدين الإسلامي دين العدالة والإنصاف ليكونوا في أحضانه؟!
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى :
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] .
أي قل لهم إني ألغيت هذا العهد الذي بيني وبينكم وأصبحت في حل منه .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين }
يبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب الخائنين حتى ولو كانوا من المنسوبين للإسلام .
ثم يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا . . . }
(1/3315)

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكفار في حرب ، قُتل فريق من الكفار ، وأُسر فريق آخر منهم ، وفر فريق ثالث ، وأما الذين قتلوا والذين أسروا فقد أخذوا جزاءهم ، والذين فروا نجوا من القتل ومن الأسر ، فكأنهم سبقوا فلم يلحق بهم المسلمون الذين أرادوا أن يقتلوهم أو يأسروهم . والسبق أن يوجد شيء يريد أن يلحق بشيء أمامه فيسبقه؛ ولا يستطيع اللحاق به . فكأن الكفار عندما فروا سبقوا المسلمين الذين لو لحقوا بهم لقتلوهم أو أسروهم .
الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن هذا هو ظاهر ما حدث ، ولكن الحقيقة التي يريدنا الله عز وجل أن نفهمها هي أن هؤلاء الكفار الذين فروا وسبقوا ، ولم تلحقهم أيدي المسلمين ، هؤلاء لا يعجزون الله تعالى ولا يخرجون عن قدرته سبحانه وتعالى وسوف يأتيهم العذاب في وقت لاحق ، إما بانقضاء الأجل وإما في معركة ثانية .
وعادة نجد أن كلاً من السابق والمسبوق يستخدم أقصى قوته ، الأول ليفر والثاني ليلحق به . ولذلك عندما تراهما فقد تتعجب من القوة التي يجري كل منهما بها ، وهذه هي الطبيعة الإنسانية ، فساعة الأحداث العادية يكون للإنسان قوة وقدرة . وساعة الأحداث المفاجئة تكون له أي للإنسان ملكات أخرى . فإذا غرقت سفينة في البحر مثلاً وتعلق واحد من ركابها بقطعة خشب من حطام السفينة ، تجده يسبح لفترة طويلة دون أن يشعر بالتعب . فإذا وصل إلى الشاطيء خارت قواه .
ولقد عرفنا سر ذلك عندما اكتشف علم وظائف الأعضاء أن الإنسان عنده غدة فوق الكلي هي الغدة الكظرية ، إذا وقع في مأزق مفاجيء تفرز مادة " الادرينالين " وهذه مادة يمكن أن تعطيه عشرة أضعاف قوته ، ولكن إذا زال الخطر تتوقف الغدة عن إفراز هذه المادة إلا بالنسبة التي يحتاجها الجسم ، ولذلك تجد الإنسان الذي يضارع الموج في البحر تمده هذه الغدة بالوقود ، فإذا وصل إلى الشاطيء توقفت الغدة عن الإفراز الزائد المناسب للخطر فتخور قواه وربما يظل ثلاثة أيام نائماً من التعب .
وهناك قصة خيالية رمزية تروى عن صائد أرسل كلبه يجري وراء غزال ليأتيه به ، والكلب يجري يريد اللحاق بالغزال ، والغزال يجري طلباً للنجاة ، وفجأة التفت الغزال إلى الكلب وقال له : لن تلحقني؛ لأني أجري لحساب نفسي وأنت تجري لحساب صاحبك .
فمن يفعل شيئاً لينجو بنفسه يكون قوياً . وقول الحق سبحانه وتعالى :
{ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } [ الأنفال : 59 ] .
أي إنهم في قبضة المشيئة لا يخرجون عن قدرة الله الذي سيحضرهم ويحاسبهم .
وبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عمن حارب ، ومن عاهد وغدر ، ومن فر وسبق ، ومن يريد أن يلحق به ، أراد أن ينبهنا إلى حقيقة هامة وهي ألا نقصر في إعدادنا للقوة التي تعيننا على ملاقاة الأعداء وقت الحرب أو حتى تأتينا الحرب؛ لأننا قد نفاجأ بها فلا نستطيع أن نستعد ، ولذلك لا يجب أن يقتصر استعدادنا للقتال إلى أن تأتي ساعة القتال ذاتها ، لا ، بل يجب أن نستعد سلماً وحرباً . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ . . . }
(1/3316)

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
وقوله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ } يعني أن يكون الإعداد لكل من تحدث عنهم ، وهم الذين قاتلوا وقتلو وأصاب أهلهم ضرورة الثأر لمقتلهم ، والذين أسروا ، والذين نقضوا العهد نقضاً أكيداً أو نقضاً محتملاً ، كل هؤلاء لا بد أن تعد لهم ما جاء به قول الحق تبارك وتعالى : { مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل }
وهذا تكليف من الله تعالى لعباده المؤمنين الذين يجاهدون لإعلاء كلمته بضرورة أن يعدوا دائماً قدر إمكانهم ما استطاعوا من قوة .
ولماذا قدر استطاعتهم؟
لأن الإنسان محدود بطاقة ، ووراء قدرة المؤمنين قدرة الله سبحانه . ولذلك أنت تعد قدر ما تستطيع ثم تطلب من الله أن يعينك . وإذا ما صنعت قدر استطاعتك ، إياك أن تقول : إن هذه الاستطاعة لن توصلني إلى مواجهة ما يملكه خصمي من معدات يمكن أن يهاجمني بها ، فخصمك ليس له مدد من السماء إنما أنت لك المدد السماوي ، وما دام لك هذا المدد فقوتك بمدد الله تجعلك الأقوى مهما كان عدوك ، ولذلك عندما يحدث الله تعالى المؤمنين يوضح لهم : إياكم أن تخافوا من كثرة عدد عدوكم ، والمطلوب منكم أن تعدوا له ما استطعتم من قوة وحتى أطمئنكم أني معكم ، تذكروا آية واحدة أنزلتها ، وهي : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } [ آل عمران : 151 ] .
وساعة يلقي الله عز وجل في قلوب الذين كفروا الرعب سيلقون سلاحهم ويفرون من ميدان القتال ولو كانوا يحاربون بأقوى الأسلحة ، وسيتمكن المؤمنون منهم وينتصرون عليهم بأية قوة أعدوها . وقوله تعالى :
{ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ }
هذه القوة قد تكون ذاتية في النفس بحيث لا تخاف شيئاً ، فجسم كل مقاتل قوي ممتليء بالصحة وله عقل يعمل باقتدار وإقبال على القتال في شجاعة ، بالإضافة إلى قوة السلاح بأن يكون سلاحاً حديثاً متطوراً بعيد المدى ، وأن يحرص المؤمنون على امتلاك كل شيء موصول بالقوة . وكان الهدف قديماً وحديثاً أن يمتلك المقاتل قوة تمكنه من عدوه ولا تمكن عدوه منه . وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مدى رمي السهام هو رمز القوة . فأول ما تبدأ الحرب يضربون العدو بالنبال ، فإذا زحف العدو وتقدم يستخدمون له الرماح ، فإذا تم الالتحام كان ذلك بالسيوف . وكانت أحسن قوة في الحرب هي السهام التي ترمي بها خصمك فتناله وهو بعيد عنك ، ولا يستطيع أن ينالك أو يقترب منك . ولذلك عندما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة قال فيما يرويه عنه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } ثم قال : " ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " " .
(1/3317)

لأنك بالرمي تتمكن من عدوك ولا يتمكن هو منك ، فإذا تفوقت في الرمي كنت أنت المنتصر عليه .
ولكن كيف ينطبق ذلك على الحرب في العصر الحديث بعد أن تطورت الأسلحة الفتاكة؟ لقد صارت المدفعية لفترة من الزمن هي السلاح؛ لأنها المحقق للنصر لبعد مداها ، ثم جاءت الطائرات لتصبح هي السلاح الأقوى؛ لأنها تستطيع أن تقطع مسافة طويلة وتلقي بقنابلها وتعود . وصارت قوة الطيران هي التي تحدد المنتصر في الحرب؛ لأنها تلحق بالعدو خسائر جسيمة دون أن يستطيع هو أن يرد عليها ما دام غير متفوق في الطيران ، ثم بعد ذلك جاءت الصواريخ والصواريخ عابرة للقارات ، إلى آخر الأسلحة المتطورة التي تتسابق على اختراعها الدول الآن ، وكلها أسلحة بعيدة المدى ، والهدف أن تنال كل دولة أرض عدوها ولا يستطيع هو أن ينال أرضها . ويضيف الحق تبارك وتعالى :
{ وَمِن رِّبَاطِ الخيل } [ الأنفال : 60 ] .
ورباط الخيل هو القوة التي تحتل الأرض ، فمهما بلغت قدرتك في الرمي فأنت لا تستطيع أن تستولي على أرض عدوك ، ولكنَّ راكبي الخيل كانوا يدخلون المعركة في الماضي بعد الرمي ليحتلوا الأرض . وهذه عملية تقوم بها المدرعات الآن . فالمعركة تبدأ اولاً رمياً بالصواريخ والطائرات حتى إذا حطمت قوة عدوك انطلقت المدرعات لتحتل الأرض ، فالطائرات والصواريخ تهلك العدو وتحطمه ولكنها لا تأخذ الأرض . ولكن الذي يمكننا من الأرض والاستيلاء عليها هو : رباط الخيل ، أو المدرعات ، ورباط الخيل هو عقده للحرب ، أي أن الخيل تُعد وتُعلف وتدرب وتكون مستعدة للحرب في أية لحظة ، تماماً كما تأتي للمدرعات وتعدها إعداداً جيداً بالذخيرة ، وتصلح ماكيناتها وتتدرب عليها لتكون مستعداً للقتال في أي لحظة . ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من خير معاش الناس لهم رجل يمسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعةً أو فَزْعةً طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانَّه ، ورجل في غنيمة في شَعَفَة من هذه الشعفاء وبطن واد من هذه الأودية ، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير " .
أي أنه لا ينتظر بل ينطلق لأي صيحة . ومن الإعجاز في الأداء القرآني أنه أعطانا ترتيباً للحرب ، فالحرب أولاً تبدأ بهجوم يحطم قوى العدو بالرمي ، سواء كان بالصواريخ أم بالطائرات أم بغيرهما ، ثم بعد ذلك يحدث الهجوم البري ، ولا يحدث العكس أبداً . ورتب الحق سبحانه وتعالى وسائل استخدام القوة أثناء القتال ، فهي أولاً الرمي ، وبه نهلك مَكيناً ثم نستولي على المكان ، وكان ذلك يتم برباط الخيل الذي تقوم مقامه المدرعات الآن .
(1/3318)

ونجد أن الحق سبحانه وتعالى جاء في القرآن الكريم بالأداء الذي يعلم ما تأتي به الأيام من اختراعات الخلق ، ونجد في زماننا هذا كل قوة للسيارة أو المدرعة أو الدبابة إنما تقاس منسوبة إلى الخيل ، فيقال قوة خمسة أحصنة أو خمسمائة حصان .
ويقول المولى سبحانه وتعالى :
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] .
فالقصد - إذن - من إعداد هذه القوة هو إرهاب العدو حتى لا يطمع فيكم؛ لأن مجرد الإعداد للقوة ، هو أمر يسبب رهباً للعدو . ولهذا تقام العروض العسكرية ليرى الخصم مدى قوة الدولة ، وحين تبين لخصمك القوة التي تملكها لا يجتريء عليك ، ويتحقق بهذا ما نسميه بلغة العصر " التوازن السلمي " . والذي يحفظ العالم الآن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هو التوازن السلمي بين مجموعات من الدول ، بالإضافة إلى العامل الاقتصادي المكلف للحرب ، فالقوة الآن لا تقتصر على السلاح فقط ، ولكن تعتمد القوة على عناصر كثيرة منها الاقتصاد والإعلام وغيرهما . وصار الخوف من رد الفعل أحد الأسباب القوية المانعة للحرب . وكل دولة تخشى مما تخفيه أو تظهره الدولة الأخرى .
وهكذا صار الإعداد للحرب ينفي قيام الحرب .
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] .
ولا تظنوا أن من يواجهونكم هم أعداء الله فقط وقد سلطكم سبحانه عليهم ، لا بل عليكم أن تعرفوا أت أعداء الله هم أعداؤكم أيضاً؛ لأنهم يفسدون الحياة على المؤمنين . وعدو الله دائماً يحاول أن ينال من المؤمين . وأن ينكل بهم ، وأن يجبرهم إن استطاع على الكفر وأن يغريهم على ذلك . فالحق سبحانه وتعالى لا يغضب؛ لأنهم لم يؤمنوا به ، بل لأنهم لا يطبقون المنهج الذي يسعد الإنسان على الأرض ، فسبحانه وتعالى لا يكرههم ولكن يعاقبهم بسبب الإفساد في الأرض وبغيهم وطغيانهم .
{ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } [ الأنفال : 60 ] .
وهذه لفتة من الحق سبحانه وتعالى إلى أن أعداء المسلمين ليسوا هم فقط الذين ظهروا أثناء الرسالة من كفار قريش واليهود والمنافقين وغيرهم ، ولكنَّ هناك خلقاً كثيراً سيأتون بعد ذلك لا تعلمونهم أنتم الآن ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يعلمهم ، كما يلفتنا سبحانه إلى أن أعداء المسلمين ليسوا هم الذين يظهرون في ميدان القتال فقط ليحاربوا المسلمين ، ولكنَّ هناك كثيراً ممن لا يظهرون في ميدان القتال يحاربون دين الله ويحاربون المسلمين . وقد ظهر معنى هذه الآية الكريمة ، ولا يزال يظهر للمسلمين ، فظهرت عداوة الفرس والروم وحربهم ضد المسلمين ، وظهرت عداوة الصليبيين وغيرهم . ومع الزمن سوف يظهر من يعلمهم الله ولا نعلمهم نحن . وقد جاءت أحداث الحياة لتؤكد دقة تعبير القرآن الكريم .
(1/3319)

ثم يتناول الحق سبحانه وتعالى هواجس النفس البشرية ، وهي تنصت لهذه الآيات من الإعداد العسكري ، فالذي يخطر على البال أولاً أن مثل هذا الإعداد يتطلب مالاً ، ويتطلب جهداً ، ويتطلب زمناً فوق الزمن لقضاء المصالح والحوائج . فإياكم أن تنكصوا عن الاستعداد؛ لأن كل ما تنفقونه في سبيل الله محسوب عند الله . وإياكم أن تقولوا : إنّ الإعداد لقوة المجتمع يحتاج مالاً ويقتر على الأبناء؛ لأن الله يرزقكم . ويقول سبحانه وتعالى :
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ الأنفال : 60 ] .
أي أن ما تنفقونه مما يقال له : شيء سواء أكان قليلاً أم كثيراً يرد إليكم ، ولقد جاء التعبير ب { مِّن شَيْءٍ } في قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أي مما يقال له شيء . ولو جاءت الآية : غنمتم شيئاً ، لما شملت الأشياء البسيطة ، ولكن قوله تعالى : { مِّن شَيْءٍ } أي من بداية ما يقال له شيء ، حتى قالوا : إن الخيط الذي يوجد عند العدو لا بد أن يذهب للغنائم ، وقوله تبارك وتعالى :
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله } [ الأنفال : 60 ] .
يعني أي شيء تنفقونه في سبيل الله تعالى مدخر لكم ما دمتم أنفقتموه وليس في بالكم إلا الله عز وجل . أما الإنفاق الذي ظاهره لله وحقيقته للشهرة أو الحصول على الثناء أو للتفاخر أو لقضاء المصالح . فكل ذلك اللون من الإنفاق خارج عن الإنفاق في سبيل الله ، لكن الإنفاق في سبيل الله سيرده الله لكم مصداقاً لقوله تعالى : { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونََ }
أي أن ما تنفقونه في سبيل الله لا ينقص مما معكم شيئاً .
على أن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نأخذ طريق العدل وليس طريق الافتراء؛ لذلك يطلب منا عز وجل ألا يطغينا هذا الاستعداد للحرب على خلق الله ، فما دام لدينا استطاعة وأعددنا قوتنا وأسلحتنا فليس معنى ذلك أن نصاب بالغرور ونجترىء على خلق الله؛ ولهذا فإن الله عز وجل ينبهنا إلى ذلك بقوله : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله . . . }
(1/3320)

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
أي أن الله لم يطالبنا بأن نكون أقوياء لنفتري على غيرنا ، فهو لا يريد منا إعداد القوة للاعتداء والعدوان ، وإنما يريد القوة لمنع الحرب ليسود السلام ويعم الكون؛ لذلك ينهانا سبحانه وتعالى أن يكون استعدادنا للقتال وسيلة للاعتداء على الناس والافتراء عليهم . ولهذا فإن طلب الخصم السلم والسلام صار لزاماً علينا أن نسالمهم . وإياك أن تقول : إن هذه خديعة وإنهم يريدون أن يخدعونا؛ لأنك لا تحقق شيئاً بقوتك ، ولكن بالتوكل على الله عز وجل والتأكد أنه معك ، والله عز وجل يريد الكون متسانداً لا متعانداً . وهو سبحانه وتعالى يطلب منك القوة لترهب الخصوم . لا لتظلمهم بها فتقاتلهم دون سبب . وقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
أي إن مالوا إلى السلم ودعوك إليه فاتجه أنت أيضاً إلى السلم ، فلا داعي أن تتهمهم بالخداع أو تخشى أن ينقلبوا عليك فجأة؛ لأن الله تعالى معك بالرعاية والنصر ، وأنت من بعد ذلك تأخذ استعدادك دائماً بما أعددته من قوتك .
وقول الحق :
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } [ الأنفال : 61 ] .
أي إياك أن تتوكل أو تعتمد على شيء مما أعددت من قوة؛ لأن قصارى الأمر أن تنتهي فيه إلى التوكل على الله فهو يحميك . ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى حيثية ذلك فيقول :
{ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } [ الأنفال : 61 ] .
أي أنه لا شيء يغيب عن سمعه إن كان كلاماً يقال ، أو عن علمه إن كان فعلاً يتم . وإياك أن تخلط بين التوكل والتواكل ، فالتوكل محله القلب والجوارح تعمل؛ فلا تترك عمل الجوارح وتدعي أنك تتوكل على الله ، وليعلم المسلم أن الانتباه واجب ، وإن رأيت من يفقد يقظته لا بد أن تنبهه إلى ضرورة اليقظة والعمل ، فالكلام له دور هنا ، وكذلك الفعل له دور؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى :
{ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } [ الأنفال : 61 ] .
ولنلحظ أن قول الحق تبارك وتعالى :
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } [ الأنفال : 61 ] .
هذا القول إنما جاء بعد قوله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] .
وهي آية تحض على الاستعداد للقتال بإعداد العدة له .
ويريد الحق تبارك وتعالى أن ينبهنا إلى قوة المؤمنين واستعدادهم الحربي يجب ألا يكونا أداة للطغيان ، ولا للقتال لمجرد القتال . ولذلك ينبهنا سبحانه وتعالى إلى أنهم لو مالوا إلى السلم فلا تخالفهم وتصر على الحرب؛ لأن الدين يريد سلام المجتمع ، والإسلام لا ينتشر بالقوة وإنما ينتشر بالإقناع والحكمة . فلا ضرورة للحرب في نشر الإسلام؛ لأنه هو دين الحق الذي يقنع الناس بقوة حجته ويجذب قلوبهم بسماحته ، وكل ذلك لشحن مدى قوة الإيمان ، لنكون على أهبة الاستعداد لملاقاة الكافرين ، ولكن دون أن تبطرنا القوة أو تدعونا إلى مجاوزة الحد ، فإن مالوا إلى السلم ، علينا أن نميل إلى السلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد سلامة المجتمع الإنساني . وإن كنتم تخافون أن يكون جنوحهم إلى السلم خديعة منهم حتى نستنيم لهم ، ثم يفاجئونا بغدر ، فاعلم أن مكرهم سوف يبور؛ لأنهم يمكرون بفكر البشر ، والمؤمنون يمكرون بفكر من الحق سبحانه وتعالى؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله . . . }
(1/3321)

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
فإذا أحسست أن مبادرة السلم التي يعرضونها عليك هي مجرد خديعة حتى يستعدوا لك ويفاجئوك بغدر ومكر ، فاعلم أن الله تعالى عليم بمكرهم ، وأنه سيكشفه لك ، وما دام الله معك فلن يستطيعوا خداعك ، وإذا أردت أن يطمئن قلبك فاذكر معركة بدر التي جاءك النصر فيها من الله تعالى وتمثلت أسبابه المرئية في استعداد المؤمنين للقتال ودخولهم المعركة . وتمثلت أسبابه غير المرئية في جنود لم يرها أحد ، وفي إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وكان النصر حليفك بمشيئة الله تعالى :
والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ }
والخداع هو إظهار الشيء المحبوب وإبطان الشيء المكروه ، وتقول : " فلان يخادعني " أي يأتي بشيء أحبه ، ويبطن لي ما أكرهه ، ولأن الخداع في إخفاء ما هو مكروه ، وإعلان ما هو محبوب ، فهل أنت يا محمد متروك لهم ، أم أن لك ربا هو سندك ، وهو الركن الركين الذي تأوي إليه؟ . وتأتي الإجابة من الحق سبحانه وتعالى :
{ وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } [ الأنفال : 62 ] .
إذن فالله سبحانه وتعالى حسبك وسندك وهو يكفيك؛ لأنه نصرك وآزرك . وأنت ترى أن هذه قضية دليلها معها ، فقد نصرك ببدر رغم قلة العدد والعُدد .
والتأييد تمكين بقوة من الفعل ليؤدى على أكمل وجه وأحسن حال ، وما دام الله عز وجل هو الذي يؤيد فلا بد أن يأتي الفعل على أقوى توكيد ليؤدي المراد والغاية منه .
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ . . . }
(1/3322)

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
والتأييد هنا عناصره ثلاثة : الله يؤيد بنصره ، والله يؤيد بالمؤمنين ، والله يؤلف بين قلوب المؤمنين . والتأليف بين القلوب جاء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل لقوم لهم عصبية وحمية ، وهم قبائل متفرقة تقوم الحروب بينهم لأتفه الأسباب؛ لأن عناصر التنافر موجودة بينهم أكثر من عناصر الائتلاف .
إن القبيلة مجتمعة تهب للدفاع عن أي فرد فيها مهما كانت الأسباب والظروف ، حتى إنه ليكفي أن يسب واحد من الأوس مثلاً واحداً من الخزرج لتقوم الحرب بين القبيلتين ، ولو أن القلوب ظلت على تنافرها لما استطاعت هذه القبائل أن تواجه أعداء الإسلام ، ولشغلتها حروبها الداخلية عن نصرة الدين والدفاع عنه ومواجهة الكفار . ولكن الله ألف بينهم ، وبعد أن كانوا أعداءً أصبحوا أحباباً . وبعد أن كانوا متنافرين أصبحوا متوادين .
وهكذا ألف الله بين قلوب المسلمين بحيث أصبح الإسلام في قلوبهم وأعمالهم وأسلوب حياتهم هو أقوى رابطة تربط بينهم . فأصبحت أخوة الدين أقوى من أخوة النسب . وحين تتآلف القلوب؛ فهذا أقوى رباط؛ لأن كل عمل يقوم به الإنسان إنما ينشأ عن عقيدة في القلب .
إن القلب هو مصدر النية التي يتبعها السلوك ، فالذي يحرك إنساناً مَوْتوراً منك ويثير جوارحه ضدك ، إنما هو القلب ، فإن وجدت إنساناً يعبس في وجهك فافهم أن في قلبه شيئاً ، وإن لقيته وحاول أن يضربك فافهم أن في قلبه شيئاً أكبر ، وإن حاول أن يقتلك ، يكون في قلبه شعورٌ أعمق بالبغض والكراهية .
إذن فالينبوع لكل المشاعر هو القلب . ولذلك نرى الإنسان يُضَحِّي بكل شيء وربما ضحَّى بحريته وبماله في سبيل ما آمن به واستقر في قلبه ، ونحن نرى العلماء في معاملهم يعيشون سنوات طويلة ويحرمون أنفسهم من متع الحياة الدنيا لأن العلم قد تحول إلى عقيدة في قلوبهم سواء أكانوا مسلمين أم غير ذلك ، فكانما نية القلب وما يستقر فيها هي أقوى ما في الحياة .
ثم يبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا فضل عظيم منه أن ألف بين قلوب المؤمنين؛ فيقول :
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 63 ] .
والتأليف بين القلوب هو جماع التواد والمساندة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير رضي الله عنهما : " ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله " .
والحديث بتمامه : " انّ الحلال بِّين وإن الحرام بَيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
(1/3323)

ولم تكن المسألة في تأليف القلوب مسألة احتياج إلى مال؛ لأن المال لا يمكن أن يعطي الحب الحقيقي ، ولذلك فهناك بين الناس ارتباط مصالح وارتباط قلوب ، وارتباط المصالح ينتهي بمجرد أن تهتز أو تنتهي هذه المصالح ، لكن ارتباط القلوب يتحدى كل الأزمات ، وأنت لا تستطيع أن تجعل إنساناً يحبك حقيقة مهما أعطيته من مال؛ لأن الحب الحقيقي لا يشترى ولا يباع ، إنما يشترى النفاق والتظاهر وغير ذلك من المشاعر السطحية . والعرب الذين ألف الله بين قلوبهم لم يكن يهمهم المال بقدر ما تهمهم الحمية والعصبية ، فغالبيتهم يملكون الثروات ، ولكن الفُرْقة فيما بينهم نابعة من الحمية والعصبية التي تجعل في القلوب غلاً وحسداً وحقداً؛ لذلك تنفعل جوارحهم . يقول الحق تبارك وتعالى :
{ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 63 ] .
وما دام الله سبحانه وتعالى له عزة فهو لا يغلب ، وما دام حكيماً فهو يضع الأمور في مكانها السليم ، والله سبحانه وحده هو القادر على أن يجعل القلوب تتآلف؛ لأن القلوب في يد الرحمن يقلبها كما يشاء ، لذلك ندعو بدعاء رسول الله : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ، فعن شهر بن حوشب قال : قلت لأم سلمة رضي الله عنها يا أم المؤمنين ما أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت : كان أكثر دعائه " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
وسبحانه وتعالى يقول : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] .
ثم يعطينا الله سبحانه وتعالى قضية إيمانية فيقول : { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله . . . }
(1/3324)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
وإياك أن تظن أن الله عز وجل يعاقب الكفار لأنهم لم يؤمنوا برسل الله فقط ، ولكن لأن الكون يفسد بسلوكهم ، وهو سبحانه غير محتاج لأن يؤمن به أحد ، ثم إن دين الحق سينتصر سواء آمن الناس به أم لم يؤمنوا ، وسبحانه يريد بالمنهج الذي أنزله كل الخير والسعادة لعباده؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] .
فإذا دخل أحد في الإسلام فلا يمن على الله أنه أسلم؛ لأن إسلامه لن يزيد في ملك الله شيئاً ، وليعلم أن الله سبحانه وتعالى قد منّ عليه بهدايته للإسلام وهي لصالحه . ويريد الله من رسوله ألا يلتفت إلى عدد الكفار أو قوتهم؛ لأن معه الأقوى ، وهو الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول :
{ حَسْبُكَ الله } [ الأنفال : 64 ] .
أي يكفيك الله .
وقوله تعالى :
{ وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] .
هي داخلة في { حَسْبُكَ الله } . لأن الله هو الذي هدى هؤلاء المؤمنين للإيمان فآمنوا .
ويكون المعنى : حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين ، أي يكفيكم الله ، وعلى ذلك فلا تلتمس العزة إلا من الحق سبحانه وتعالى .
ويمكن أن يكون المعنى يكفيك الله فيما لا تستطيع أن تحققه بالأسباب . ويكفيك المؤمنون فيما توجد في أسباب .
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال :
{ ياأيها النبي } [ الأنفال : 64 ] .
وهذا النداء إنما يأتي في الأحداث؛ أما البلاغ فيقول الله تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [ المائدة : 67 ] .
إذن فالحق سبحانه وتعالى ينادي الرسول ب { ياأيها النبي } حين يكون الأمر متعلقا بالأسوة السلوكية ، أما إذا كان الأمر متعلقا بتنزيل تشريع ، فالحق سبحانه يخاطبه صلى الله عليه وسلم بقوله : { ياأيها الرسول } ذلك أن الرسل جاءوا مبلغين للمنهج عن الله ، ويسيرون وفق هذا المنهج كأسوة سلوكية . على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد ذكر كل رسول باسمه في القرآن الكريم فقال : " يا موسى " ، وقال : " يا عيسى بن مريم " ، وقال : " يا إبراهيم " . إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد خاطبه ب : " يأيها النبي " ، وب " يأيها الرسول " ، وهذه لفتة انتبه إليها أهل المعرفة ، وهذا النداء فيه خصوصية لخطاب الحضرة المحمدية ، فالله سبحانه وتعالى يقول : { يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } [ البقرة : 35 ] .
وينادي سيدنا نوحاً قائلاً سبحانه : { يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ } [ هود : 48 ] .
وينادي سيدنا موسى فيقول : { أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين } [ القصص : 30 ] .
وينادي سيدنا عيسى فيقول : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] .
فكل نبي ناداه الحق تبارك وتعالى ناداه باسمه مجرداً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يقل له قط : يا محمد ، وإنما قال : " يأيها النبي " ، و " يأيها الرسول " . والحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها أراد أن يلفت نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن يعلم أنه يكفيه الله والمؤمنين مهما قل عددهم لينتصروا على الكفار .
ثم يأتي النداء الثاني من المولى تبارك وتعالى في قوله : { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ . . . }
(1/3325)