الكتاب : تفسير الشعراوي
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن ، أما قوله الحق : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى ، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن ، وهو الذي أنبتها نباتا حسنا . إذن ، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله . والدليل على ما حدث عند كفالة مريم . لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك . وساعة تجد قرعة ، أو إسهاما . فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد الله . فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة ، ويخصص سهم لكل مشترك فيها ، ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه ، ويلجأ الناس لهذا الأمر؛ ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الاختيار ، ويصبح الأمر خارجا عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم . ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] .
إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة ، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها ، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث تنازع بينهم ، عن أيهم يكفل مريم ، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجا من " إشاع " " أخت " " حنة " وهي أم مريم ، فهو زوج خالتها .
وكلمة " أقلامهم " قال فيها المفسرون : إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديما ، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة ، فرموها في البحر ، فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم ، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم . إذن فهم قد خرجوا عن مراداتهم إلى مراد الله .
والخروج عن المرادات ، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار - كقداح القرعة - لا يوجد في النفس غضاضة . لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فلا بد أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغصب . ولذلك فقد كان سائدا في ذلك العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد ، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق ، وكان لا بد لإنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر ، وجاء القول الحكيم : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين * فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 139-144 ] .
كان لا بد أن ينزل واحد من تلك السفينة ، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم معركة بين الموجودين على ظهر السفينة ، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء ، ولكن القرعة حمت الناس من ظلم بعضهم بعضا .
(1/944)
قالوا : لنجر قرعة السهام ، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به ، وكان على يونس عليه السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت . ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه . لقد قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له . وهكذا نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله . { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } .
وكلمة " كفلها " أي تولى كل مهمة تربيتها ، هذه هي الكفالة ، ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو الضامن ، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن السداد ، وقوله الحق : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم .
ويتابع الحق الكريم قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } إنه لم يدخل مرة واحدة ، بل دخل عليها المحراب مرات متعددة . وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق ، ولذلك كان لا بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق ، ولا بد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة ، لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا : { أنى لَكِ هذا } .
وساعة أن تسمع { أنى لَكِ هذا؟ } فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد به مريم ، وإلا لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم ، وكما يقولون : فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب . وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق .
والرزق هو ما ينتفع به - بالبناء للمجهول - وعندما يقول زكريا عليه السلام : { أنى لَكِ هذا } . فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله الله على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الداخل ، فلا بد أن يسأل كُلاًّ منهم : من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد : من أين لك هذا؟
إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة ، أو يجد ابنه قد اشترى شيئا ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه ، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي ليسأل : من أين لك هذا؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الإنهيار أو التحلل . فلو فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته - " من أين لك هذا؟ " لعرف كل تفاصيل حركتهم ، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر .
(1/945)
وقول زكريا : " أنّى لك هذا؟ " هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق ، ولننظر إلى إجابتها : { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } ثم لا تدع البديهة الإيمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية ، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، إنه الإله هو القادر على أن يقول : " كن " فيكون .
وهنا ذكر زكريا نفسه ، وكأن نفسه قد حدثته : " إذا كانت للقدرة طلاقة في أن تفعل بلا أسباب ، وتعطي من غير حساب ، فأنا أريد ولدا يخلفني ، رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا ، وامرأتي عاقر . إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب .
ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة ، ولكن لا يستقر في بؤرة الشعور . ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم ، فلما وجد زكريا الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره : { هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . هنا تساءل زكريا : كيف فاتني هذا الأمر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ . . . }
(1/946)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
إنها ساعة أن قالت له : إن الرزق من عند الله ، وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، هنا أيقظت فيه القضية الإيمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور ، فقال زكريا لنفسه : فلنطلب من ربنا أن يرزقنا ما نرجوه لأنفسنا ، وما دام قد قال هذا القول فلا بد أنه قد صدق مريم في قضيتها ، بأن هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند الله ، ودليل آخر في التصديق هو أنه لا بد وقد رأى أن الألوان المتعددة من الرزق التي توجد عند مريم ليست في بيئته ، أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك في المحراب .
ونحن نعرف أن المحراب كلمة يراد بها بيت العبادة . يقول الحق : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] .
أو " المحراب " وهو مكان الإمام في المسجد ، أو هو حجرة يصعد إليها بسلم ، كالمبلغات التي تقام في بعض المساجد . وما دامت مريم قد أخبرت زكريا وهي في المحراب بأن الرزق من عند الله ، وأيقظت بذلك تلك القضية الإيمانية في بؤرة شعوره ، فماذا يكون تصرفه؟ هنا دعا زكريا أثناء وجوده في المحراب . { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } إنه هنا يطلب الولد . ولكن لا بد لنا أن نلاحظ ما يلي :
- هل كان طلبه للولد لما يطلبه الناس العاديون من أن يكون زينة للحياة أو " عزوة " أو ذكرا؟ لا ، إنه يطلب الذرية الطيبة ، وذكر زكريا الذرية الطيبة تفيد معرفته أن هنالك ذرية غير طيبة . وفي قول زكريا الذي أورده الحق : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] .
أي أن يكون دعاء لإرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم ، هكذا طلب زكريا الولد . لقد طلبه لمهام كبيرة ، وقول زكريا : " رب هب " تعني أنه استعطاء شيء بلا مقابل ، إنه يعترف . أنا ليس لي المؤهلات التي تجعل لي ولدا؛ لأني كبير السن وامرأتي عاقر ، إذن فعطاؤك يارب لي هو هبة وليس حقا ، وحتى الذي يملك الاستعداد لا يكون هذا الأمر حقا له ، فلا بد أن يعرف أن عطاء الله له يظل هبة ، فإياك أن تظن أن اكتمال الأسباب والشباب هي التي تعطي الذرية ، إن الحق سبحانه ينبهنا ألاّ نقع في خديعة وغش أنفسنا بالأسباب . { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49-50 ] .
إن في ذلك لفتا واضحا وتحذيراً محدداً ألا نفتتن بالأسباب ، إذن فلكل عطاء من الله هو هبة ، والأسباب لا تعطي أحدا ما يريد .
(1/947)
إن زكريا يقول : { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } وساعة أن تقول من : " لدنك " فهو يعني " هب لي من وراء أسبابك " . لماذا؟ لأن الكل من الله .
ولكن هناك فرقا بين عطاء الله بسبب ، كأن يذهب إنسان ليتعلم العلم ويمكث عشرين عاما ليتعلم ، وهناك إنسان يفيض الله عليه بموهبة ما ، ولذلك يقول أهل الإشراقات : إنه علم لدنى ، أي من غير تعب ، وساعة أن نسمع " من لدن " أي انعزلت الأسباب ، كان دعاء زكريا هو { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } وكلمة " هب " توضح ما جاء في سورة مريم من قول زكريا : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] .
إن " هب " هي التي توضح لنا هذه المعاني؛ هذا كان دعاء زكريا : { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } فهل المراد أن يسمع الله الدعاء؟ أم أن يجيب الله الدعاء؟ إنه يضع كل أمله في الله ، وكأنه يقول : إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلاقة قدرتك . لماذا؟ لأنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلام لا لشيء من أمور كقرة العين ، والذكر ، والعز ، وغيرها ، إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الأرض ، وبعد ذلك يقول الحق : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب . . . }
(1/948)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
هل كل الملائكة اجتمعوا أو نادوا زكريا؟ لا ، لأن جبريل عليه السلام الذي ناداه . ولماذا جاء القول الحق هنا بأن الملائكة هي التي نادته؟ لقد جاء هذا القول الحق لنفطن إلى شيء هو ، أن الصوت في الحدث - كالإنسان - له جهة يأتي منها ، أما الصوت القادم من الملأ الأعلى فلا يعرف الإنسان من أين يأتيه ، إن الإنسان يسمعه وكأنه يأتي من كل الجهات ، وكأن هناك ملكا في كل مكان .
والعصر الحديث الذي نعيشه قد ارتقى في الصوتيات ووصل لدرجة أن الإنسان أصبح قادرا على جعل المؤثر الصوتي يحيط بالإنسان من جهات متعددة ، إذن فقوله الحق : { فَنَادَتْهُ الملائكة } فهذا يعني أن الصوت قد جاء لزكريا من جميع الجهات .
{ فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } [ آل عمران : 39 ]
لقد نادته الملائكة في أورع لقاءاته مع ربه أو هو حينما دعا أخذ ما علمه الله للأنبياء إذا حزبهم أمر قاموا إلى الصلاة . أليس طلبه من الله؟ إذن فليقف بين يدي الله . وليجربها كل واحد منا عندما يصعب عليك أي شيء ، وتتأزم الأمور ، وتمتنع الأسباب ، فليقم ويتوضأ وضوءا جديدا ويبدأه بالنية حتى ولو كان متوضئا . وليقف بين يدي الله ، وليقل -إنه أمر يارب عزّ عليّ في أسبابك ، وليصل بخشوع ، وأنا أجزم بأن الإنسان ما إن يسلم من هذه الصلاة إلاّ ويكون الفرج قد جاء . ألم نتلق عن رسول الله هذا السلوك البديع؟ إنه كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة؟
ومعنى حزبه أمر ، أي أن أسبابه ضاقت ، لذلك يذهب إلى الصلاة لخالق الأسباب ، إنها ذهاب إلى المسبب . وبدلا من أن تلف وتدور حول نفسك ، اذهب إلى الله من أقصر الطرق وهو الصلاة ، لماذا تتعب نفسك أيها العبد ولك رب حكيم؟ وقديما قلنا : إن من له أب لا يحمل هما ، والذي له رب أليس أولى بالإطمئنان؟
إن زكريا قد دعا الله في الأمر الذي حزبه ، وبمجرد أن دعا في الأمر الذي حزبه ، قام إلى الصلاة ، فنادته الملائكة ، وهو قائم يصلي ، إن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته ، { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } .
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت ، فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من لا يقدر؟ فإذا كان الله هو الذي يبشر ، فهو الذي يقدر ، لذلك فالمبشر به قادم لا محالة ، { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } لقد قال له الله : سأعطيك . وزيادة على العطاء سماه الله ب { يحيى } وفوق كل ذلك : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } .
(1/949)
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول : { بيحيى مُصَدِّقاً } . هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج الله وما يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق ، وهو سيأتي بكلمة من الله ، أو هو يأتي ليصدق بكلمة من الله ، لأن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام . وهو موصوف بالقول الحق : { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } . أي ممنوعا عن كل ما حُرم عليه ، أو ممنوعا عن قمة الغرائز وهي الشهوة ، وهو نبيّ ، أي قدوة في اتباع الرسول الذي يجيء في عصره ، لقد دعا زكريا ، وقام ليصلي ، وتلقى البشارة بيحيى ، وهنا ارتجت الأمور على بشرية زكريا ، ويصوره الحق بقوله : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ . . . }
(1/950)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
إن زكريا - وهو الطالب - يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل . كيف يكون ذلك؟ والحق يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين ، وليست في دائرات التمكين ، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في أنه إذا ما حدث له ابتلاء فعليه الرجوع إلى الله ، فيقول زكريا : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } .
إن بلوغ الكبر ليس دليلا على أنه عاجز عن الإنجاب لأنه يكون كبير العمر ، وقادرا على إخصاب امرأة ، ذلك أن الإخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من العمر إن لم يكن عاقرا ، ولكن المرأة هي العنصر المهم ، فإن كانت عاقرا ، فذلك قمة العجز في الأسباب . ولو أن زكريا قال فقط : { وامرأتي عَاقِرٌ } لكان أمرا غير مستحب بالنسبة لزوجته ، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة .
إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولها : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } ولنر دقة القول في : { بَلَغَنِي الكبر } ' إنه لم يقل : " بلغت الكبر " بل يقول : إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى الكبر؛ لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه ، وذكر زكريا { وامرأتي عَاقِرٌ } هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة ، لقد أورد كل الخوالج البشرية ، وبعد ذلك يأتي القول الفصل : { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب . ويقول زكريا : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً . . . }
(1/951)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل . { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً * قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 8 - 9 ] .
لقد كان هذا القول تأكيدا لا شك فيه ، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر . فماذا يريد زكريا من بعد ذلك؟ إنه يطلب آية ، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه ، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض ، ولا بد أنه عرف الآية لأنه يعرف مسبقا أنها عاقر . لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات الله عليه ، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا ، لا تتركني يارب إلى أن أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة ، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار الشكر لك على النعمة ، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لا بد أن أحيا في نطاق الشكر؛ لأن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر .
إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر ، إنه لم يطلب آية لأنه يشك - معاذ الله - في قدرة الله ، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا ومعها الشكر عليها ، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } . لا بد أن معناها أنه يرغب في الكلام فلا يستطيع .
إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم ، وبين ألا يقدر على الكلام . وما دامت الآية هبة من الله . فالحق هو الذي قال له : سأمنعك من أن تتكلم ، فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة ، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا ، أي بالإشارة ، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله ، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها ، فإننا نعلم أن الله سينطقه . . { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } .
لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا ، وجعل كل وقته ذكرا ، فلم ينشغل بالناس أو بكلام الناس ، وذكر الرب كثيرا هو ما علمه - سبحانه - عن زكريا عندما طلب الآية ليصحبها دائما بشكر الله عليها ، إن قوله : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً } تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس ، لذلك لا يريد الله أن يشغله بكلام الناس ، وكأن الله يريد أن يقول له : ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر .
(1/952)
والذكر مطلقا هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له ، والتسبيح هو التنزيه لله ، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه ، فسبحان الله ، معناها تنزيه لله ، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه . . إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب . تلك اللفتة . . التي جاءت من قبل من مريم لزكريا .
وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها ، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد لها بالرزق ، يجيئها من غير زكريا ، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب . وكأن التجربة قد أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها؛ لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة ، فلا بد أن تعلم مسبقا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، وبدون أسباب . فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة فلتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
فلما سمع زكريا منها ذلك قال : ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتيا ، وامرأتي عاقر ، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاما؟ إذن فمقولة مريم : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قد لفتت زكريا ، ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية شعوره ، ولا نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور ، فقال زكريا : ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاما . . وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله . والهبة شيء بدون مقابل .
فلما سأل الله ذلك استجاب الله له ، وقال له سبحانه : سأهبك غلاما بدون أسباب من خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل ، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب وأنا - الخالق - سأتولى الإيجاب ب " كن " ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات - عادة - إنه تسمية المولود ، فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما . . هنا وقفة عند الهبة بالاسم . { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } [ آل عمران : 39 ] .
حين يولد للناس ولد فهم يسمونه ، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس . ولكن من يهمهم أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون أن يتحقق في المسمى ، فيسمونه " سعيدا " أملا في أن يكون سعيدا ، أو يسمونه " فضلا " أو يسمونه " كريما " .
(1/953)
إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته وذلك هو الأمل منهم ولكن أتأتي المقادير على وفق الآمال؟
قد يسمونه سعيدا ، ولا يكون سعيدا . ويسمونه فضلا ، ولا يكون فضلا . ويسمونه عزا ، ولا يكون عزا . ولكن ماذا يحدث حين يسمى الله سبحانه وتعالى؟ لا بد أن يختلف الموقف تماما ، فإذا قال اسمه { يحيى } دل على أنه سيعيش . وقديما قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى :
فسميته يحيا ليحيا ... فلم يكن لرد قضاء الله فيه سبيل
كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا ، ولكن الله لم يرد ذلك ، فمات الابن . لماذا؟ لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي ، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة ، ولكن " المحيى " له طلاقة القدرة ، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلا بد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله : " اسمه يحيى " بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة - لأن الرجل حينما يسمى ابنه " يحيى " يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار ، كما يحيا الناس ستين عاما ، أو سبعين ، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل .
لكن الله حينما يسمى " يحيى " فانه لا يأخذ " يحيى " على قدر ما يأخذه الناس ، بل لا بد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس ، ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا ، وهو بالشهادة يصير حيا ، فكأنه يحيا دائما ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .
وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس ، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة ، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاما ويسميه يحيى ، نجده قد استقبلها بالعجب . كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
ولنا أن نقول : أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا ، لا بد أن يندهش ويتعجب لذلك قال : { رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } . فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة ، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي . إذن ، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به . وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } .
إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله .
(1/954)
فلما جاءته البشارة ، لم يقل الله له : إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه ، أو وأنت على حالتك هذه . فيتشكك ويتردد ويقول : أترى يأتي الغلام الذي اسمه " يحيى " منى وأنا على هذه الحالة ، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر ، أو ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب ، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب .
إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ * وَقد بلغني الكبر وامرأتي عَاقِراً } هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب ، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة . فلما أكد الله ذلك قال : " كذلك " ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما ، أنت قد بلغت من الكبر عتيا ، وامرأتك عاقر . لأن العجيبة تتحقق بذلك ، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه أن يهبهما الولد؟ لا . لذلك قال الحق : { كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } . أي كما أنتما ، وعلى حالتكما .
لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة ، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضا لا ، إنه ليس كذلك ، لأن الحق يقول له : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح ، وغير قادر على الكلام . وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله ، إنه اللسان الواحد ، غير القادر على الكلام ، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع ، ولكن هذا اللسان نفسه - أيضا - يصبح قادرا فقط على التسبيح ، وذكر الله بالعشيّ والإبكار ، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس ، وذلك بيان لطلاقة القدرة .
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم ، لأن مريم هي الأصل في الكلام ، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد ، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد ، ثم عاد إلى قصة مريم : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك . . . }
(1/955)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{ وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } المراد بها جبريل عليه السلام ، والسبب في أن الحق يورد ذلك ب { قَالَتِ الملائكة } لأن كلام المتكلم - أي الإنسان - له - كما قلنا - زاوية انطلاق يأتي من جهتها الصوت . وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما يجيء لك صوت ، فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر الصوت ، فإن جاء الصوت من ناحية أذنك اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك ، وإذا جاءك الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال . لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلام ، ويأتي صوته من كل جهة حتى يصير الأمر عجيبا ، لهذا جاء الكلام منسوبا إلى الملائكة .
فماذا قال جبريل؟ قال جبريل مبلغا عن رب العزة : { يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } وما الاصطفاء؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء ، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي ، أي الشيء الخالص من الكدر . وعادة تؤخذ المعاني من المحسات ، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر ، أو كما يقول الحق : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [ محمد : 15 ] .
وعندما يقول الحق : { إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } نحن هنا أمام اصطفاءين ، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة " على " والإصطفاء الثاني تسبقه كلمة " على " والمقصود بالإصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان ، والصلاح والخلق الطيب ، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن " على " أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الإصطفاء آخرون ، بدليل قول الحق : { إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين } [ آل عمران : 33 ] .
ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها ، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب " على " فقال { واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء ، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين ، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء . لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر ، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد .
وقوله الحق : { واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } هذا القول يجب أن ينبه في نفسها سؤالا هو : ما الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين؟ إن الذهن ينشغل بهذا الأمر ، وينشغل على أمر من وظيفة الأنثى ، ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ونجد أن هذه كلها إيناسات للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك ، وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها ، فلا بد أن يمهد الله له تمهيدا مناسبا حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش الكرامة .
(1/956)
{ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } ولنا أن نسأل : ما نتيجة الاصطفاء؟
لقد عرفنا أن الاصطفاء هو الاجتباء والآختيار ، ويقتضي " مصطفِى " بفتح الفاء . ويقتضي " مصطفِى " بكسر الفاء . والمصطفى هو الله ، لكن ما علة الاصطفاء؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة ، وتكون مهمة صعبة . إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس . كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم ، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه . لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة . إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر ، ولذلك قال الحق عن الكعبة : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] .
وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا ، كاصطفائه لرمضان ، فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه ، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان . إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة ، لماذا؟ لأن أحدا من الخلق ليس ابنا لله ، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله . ولكن الله يصطفي زمانا على زمان ، ومكانا على مكان ، وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفى في كل ما اصطُفِىَ عليه . إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى ، أو لا يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لأنه جاء لمصلحتهم ، والحق سبحانه يقول : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ . . . }
(1/957)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول ، والاصطفاء الثاني ، يستحق منها القنوت ، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة . وقد يقول قائل : ولماذا يصطفى الله واحدا ، ليشيع اصطفاؤه في الناس؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية ، والحق سبحانه يريده نموذجاً لا يقع منه الا الخير ، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر ، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية .
والحق يقول لمريم على لسان الملائكة : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ } إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها ، وكلمة { لِرَبِّكِ } تعني التربية ، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم ، وتستحق منك القنوت { واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } و { واسجدي } أي بَالِغِي في الخشوع ، والخضوع ، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض ، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع .
لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس؟ لا ، إنه الأمر الحق يصدر لمريم { واركعي مَعَ الراكعين } ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود ، بل عليك أن تركعي مع الراكعين ، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي : " لقد أمرني الله بأمر " أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى "
إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } [ المدثر : 42-43 ] .
إنهم كفار ، فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار ، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصل ، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله . وهنا يسأل سائل كريم : لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } ولم يقل الحق : " مع الراكعات "؟ هذا هو السؤال .
وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيدا بسيطا إلى فلسفة الأسماء في وضعها على مسمياتها . إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها . والمسميات مختلفة ، فمنها الجماد ، ومنها النبات ومنها الحيوان ، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب كالجن ، والملائكة ، وكل ما غيب الله . هذه الأسماء تدل على معانيها .
وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء ، فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها؟ إذن لا بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظا واحدا موجزاً يشير إليه .
(1/958)
ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل مثلا؟ . أكان على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه؟ أم يكفي أن يقول له لفظ " جبل " حتى يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى؟
إذن . . ففلسفة تعليم الحق للأسماء لنا أزاحت عنا عبئا كبيرا من صعوبة التفاهم . ولو لا ذلك لما استطعنا أن نتفاهم على شيء إلا إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه . فكلمة " جبل " وكلمة " صخر " وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات . . وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن آخذ السامع إليها وأشير إليه قائلا " إن هذه هي أمريكا " ، لكن كلمة واحدة هي " أمريكا " تعطي السامع معنى للمسمى ، فتلحق الأحكام على مسمياتها . وما دامت المسألة هكذا فلا بد من وجود أسماء لمسميات ، هذه الأسماء علمها الله للإنسان حتى يتفاهم بها والإنسان أصله من آدم .
وكلمة " آدم " حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة ، والمذكر يقابله المؤنث . وقد خلق الحق الأعلى : الذكورة والأنوثة؛ لأن من تزاوجهما سيخرج النسل . إذن فكان لا بد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد . فالذكر والأنثى ، هما بنو آدم ، ومنها ينشأ التكاثر ، لكن العجيب أن الله حين سمى آدم ونطقناه اسما مذكرا وسمى " حواء " ونطقناه اسما مؤنثا ، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وجِدَ منه الخلق هو " نفس " . لقد قال الحق : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس ، وهي مؤنثة ، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير ، ولكن " التذكير " هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث . إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا " نفس " وهي كلمة مؤنثة ، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاما آخر عن الخلق قال : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] .
وكلمة " ناس " تعني مجموع الإنسان . وهكذا نعرف أن كلمة : " إنسان " تُطلق مرة على المذكر ، ومرة أخرى على المؤنث . إذن فالحق قد أورد مرة لفظا مذكرا ، ومرة أخرى أطلق لفظا مؤنثا ، وذلك حتى لا نقول : أن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث ، ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط ، ولذلك يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها . { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] .
ومعنى " لنتعارف " أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين .
(1/959)
وفي حياتنا العادية - ولله المثل الأعلى - نجد رجلا عنده أولاد كثيرون ، لذلك يُطلق على كل ابن اسما ليعرفه المجتمع به ، والعجيب في هذه الآية الكريمة : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا } . أننا نجد كلمة " شعوبا " مذكرة وكلمة " قبائل " مؤنثة . إذن فلا تمايز بالأحسن ، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف . والحق الأعلى يقول : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ] .
إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن { الذين آمَنُواْ } . ولماذا أدخل الله المؤنث في الذكر؟ لأن المذكر هو الأصل ، والمؤنث جاء منه فرعا . إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس . { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] .
وهذا يعني أن " المؤنث " عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله .
والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس . وبنوعية الذكر والأنثى . وفي الأمر الخاص بالمرأة ، ويحدد الله المرأة بذاتيتها . فالحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 36 ] .
لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد : الرجل والمرأة ، زوج وزوجة ، فمثلا نجد زوجا يريد تطليق زوجته ، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك . وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم : { يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 32-33 ] .
إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة " لستن " و " اتقيتن " ، و " لا تخضعن " ، و " قرن " ، و " لا تبرجن " . الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا .
ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملا للرجل والمرأة ويكون مذكرا ، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة ، جاء قول الحق : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 35 ] .
هكذا حسم الحق الأمر .
(1/960)
قال سبحانه تأكيدا لذلك؛ { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [ النساء : 124 ] .
إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إذن فعندما يأتي الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل لأنها مبنية على الستر والحجاب ، مطمورة فيه . داخله معه . . فإذا قال الحق سبحانه لمريم : { واركعي مَعَ الراكعين } فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول " مع الراكعات " ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة ، لذلك جاء الأمر لمريم بأن تركع مع الراكعين ، وبعد ذلك يقول الحق : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ . . . }
(1/961)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
وقد قلنا من قبل : إن كلمة " نبأ " ، لا تأتي إلاّ في الخبر العظيم . والغيب هو ما غاب عن الحس . وهناك " غياب عن الحس " من الممكن أن يدركه مثلك . وهناك غياب عن الحس لا يدركه مثلك . وقلنا من قبل : إن حجب الغيب ثلاثة : مرة يكون الحجاب في الزمن ماضيا ، ومرة مستقبلا ، ومرة ثالثة يكون الحجاب في المكان . لماذا؟ لأن ظروف الأحداث زمان ومكان . فإذا أنبأني منبئ بخبر مضى زمنه فهذا اختراق للحجاب الزمن الماضي ، فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار ماضيا وإذا أخبرني به الآن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي ، وإذا قال لي عن أمر سيحدث بعد سنتين من الآن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل ، وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر لزمنك الآن نقول : هنا يوجد حجاب المكان ، فعندما أكون معكم الآن لا أعرف ما الحادث في مدينة أخرى غير التي نحن بها ، ورغم أن الزمن واحد .
لذلك فعلينا أن نعرف ، أنه مرة يكون الحجاب زمان . . أي قد يكون الزمن ماضيا ، أو يكون الزمن مستقبلا ، وقد يكون حجاب مكان . فإذا كان الله ينبئ رسوله بهذا النبأ فوسائل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث؛ لأن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلاثة أمور : مشاهدة؛ أو سماع؛ أو قراءة .
والوسيلة الأولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ ، والنبأ الذي أخبر الله به رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما لا يقل عن ستة قرون . إذن فالمشاهدة كوسيلة علم بهذا النبأ لا تصلح ، لأن النبأ قد حدث في الماضي . قد يقول قائل : لعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأها ، أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس بقارئ ، فامتنعت هذه الوسيلة أيضا ، وبإقرار خصومة صلى الله عليه وسلم أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم . إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النبأ إلا بالوحي ، لذلك قال الحق سبحانه :
{ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ]
وقلنا قديما إن الوحي ، هو إعلام بخفاء؛ لأن الإعلام العادي هو أن يقول إنسان لإنسان خبراً ما ، أو يقرأ الإنسان الخبر ، أما الإعلام بخفاء فاسمه " وحي " . والوحي يقتضي " موحي " وهو الله ، " وموحى إليه " وهو الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و " موحى به " وهو القرآن الكريم .
وإذا نظرنا إلى الإعلام بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة .
(1/962)
إن الله يوحي . لكن الموحي إليه يختلف . الله سبحانه وتعالى يوحي للأرض : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 1-5 ] .
إنه إعلام بخفاء ، لأن أحدا منا لم يسمع الله وهو يوحي للأرض ، والحق سبحانه يوحي للنحل ، ويوحي للملائكة ، ويوحي للأنبياء ، وهناك وحي من غير الله ، كوحي الشياطين . { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الانعام : 121 ] .
وهناك وحي من البشر للبشر : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 112 ] .
لكن الوحي إذا أُطلق ، ينصرف إلى الوحي من الله إلى من اختاره لرسالة ، وما عدا ذلك من أنواع الوحي يسمونه " وحيا لغويا " إنما الوحي الاصطلاحي وحي من الله لرسول ، إذن فوحى الله للأرض ليس وحيا اصطلاحيا ، ووحى الله للنحل ليس وحيا اصطلاحيا ، ووحي الله لأم موسى ليس وحيا اصطلاحيا ، ووحي الله للحواريين ليس وحيا اصطلاحيا ، إن الحق سبحانه يقول : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] .
إن هذا لون من الوحي غير اصطلاحي ، بل هو وحي لغوي ، أي أعلمهم بخفاء . لكن الوحي الحقيقي أن يُعلم الله من اختاره لرسالة ، وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صلى الله عليه وسلم . يقول الحق : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } .
هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي ، فلم يقرأه ، ولم يشاهده ، ونحن نعرف أن خصوم رسول الله شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم . وهكذا يخبرنا الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن موجودا مع قوم مريم حين ألقوا أقلامهم .
والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به ، أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون بها إذا اختلفوا على شيء . وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحا ، ليعفروا من يظفر بالشيء المختلف عليه ونسميها نحن القرعة ، والقرعة يقومون بإجرائها لإخراج الهوى من قسمة شائعة بين أفراد ، وذلك حتى لا يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضلا له على الآخرين ، ولذلك فنحن أيضا نجري القرعة فنضع لكل واحد ورقة .
إذن فلا هوى لأحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة ، وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى قدر الله لأن الورقة لا هوى لها ، ولما اختلف قوم مريم على كفالتها ، واختصموا حول مَن الذي له الحق في أن يكفلها . هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة ، وأرادوا أن تكون قدرية ، ويكون القول فيها عن طريق قدح لا هوى له .
(1/963)
وهذا القدح سيجري على وفق المقادير . أما " أقلامهم " فقد تكون هي القداح التي يقتسمون بها القرعة ، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة تبركا .
وتساؤل البعض ، ما المقصود بقول الحق : " إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ " وأين تم إلقاء هذه الأقلام؟ قيل : إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت الأقلام في البحر فمن الذي يتميز في ذلك؟ قيل : إنه إذا ما أطل قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز ، أو إذا غرقت كل الأقلام وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو الفائز . ولا بد أنهم اتفقوا على علامة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم . { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } .
وكلمة { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقا إلى كفالة مريم ، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة ، وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى الاقتراع بالأقلام .
وننتقل الآن إلى مرحلة أخرى .
(1/964)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
لقد كانت المرحلة الأولى بالنسبة لإعداد مريم هي قوله الحق على لسانها : { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . وبذاك تعرفت على طلاقة قدرة الله ، والمرحلة الثانية هي سماعها لحكاية زكريا ويحيى وتأكيد الحق لها أنه اصطفاها على نساء العالمين ، وفي ذلك أمر يتعلق بالنساء ، وكان ذلك إيناساً من الحق لها ، وتدخل مريم إلى مرحلة جديدة .
{ إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] .
والبشارة لا تكون إلا بخبر عظيم مفرح ، وقد يتساءل البعض؟ ماذا يقصد الحق بقوله : { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ؟ والإجابة هي : أن الحق سبحانه وتعالى يزاول سلطانه في ملكه بالكلمة ، لا بالعلاج ، فالحق سبحانه علمنا ذلك بقوله : { الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] .
وهذا القول هو مجرد إيضاح لنا وتقريب لأنه لا يوجد عندنا أقصر في الأمر من كلمة " كن " إن قدرته قادرة بطلاقتها أن تسبق نطقنا بالكاف وهي الحرف الأول من " كن " ، ولكن الحق يوضح لنا بأقصر أمر على طريقة البشر ، إن الحق سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يقول له كن فيكون ، وذلك إيضاح أن مجرد الإرادة الإلهية لأمر ما تجعله ينشأ على الفور ، و " كن " هي مجرد إظهار الأمر للخلق ، هكذا نفهم معنى بشارة الحق لمريم ب { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ويقول الحق : { اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } . إنها ثلاثة أسماء ، " المسيح " ، " عيسى " ، " ابن مريم " .
ما معنى المسيح؟ قد يكون المسموح من الذنوب ، أو أن تكون من آياته أن يمسح على المريض فيبرأ ، أو المسيح المبارك . . أما عيسى . فهذا هو الاسم ، والمسيح هو اللقب ، وابن مريم هي الكنية . . ونحن نعرف أن العََلمَ في اللغة العربية يأتي على ثلاثة أنواع : اسم أو لقب أو كنية . وابن مالك يقول : " واسما أتى وكنية ولقبا " إن العَلَم على الشخص له ثلاث حالات . إما اسم وهو ما يطلق على المسمى أولا . والاسم الثاني الذي أطلقناه عليه . إن كان يشعر برفعة صاحبه أو بضِعَته نسميه لقبا . أما ما كان فيه أب أو أم فيقال له : " كنية " وجاءت الثلاثة في عيسى { اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .
" المسيح " هو اللقب ، " عيسى " هو الاسم " و " ابن مريم " وهو الكنية . ومجيء عيسى باللقب والاسم والكنية ستكون لها حكمة تظهر لنا من بعد ذلك . ويقول عنه الحق : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة } .
ونحن في حياتنا نستعمل كلمة فلان وجيه من وجهاء القوم ، والوجيه هو الذي لا يرده مسئول للكرامة في وجهه ، ونحن نسمع في حياتنا اليومية .
(1/965)
فلان لا يصح أن نسبب له الخجل برفض أي طلب له . وكما يقول العامة : ( هو الوجه ده حد يكسفه ) إذن فالوجيه هو الذي يأخذ سمة وتميزا بحيث يستحي الناس أن يردوه إذا كان طالبا ، وهناك إنسان آخر قد يسألك أو يسأل الناس ، فلا يبالي به أحد ، إنه يريق ماء وجهه وتنتهي المسألة .
إذن فقوله الحق في وصف عيسى بن مريم : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة } أي أن أحدا لا يرده إن سأله . لكرم وجهه ، فالإنسان يخجل أن يرد صاحب مثل هذه الكرامة ، لذلك نجد أن السائل قد يقول : أعطني لوجه الله . أي أنه يقول لك : لا تنظر إلى وجهي ، ولكن انظر إلى وجه الله؛ لأن الله هو الذي جاء بي إلى الدنيا وخلقني ، وما دام قد جاء بي الخالق إلى الدنيا فهو المتكفل برزقي ، فأنت حينما تعين على رزق من استدعاه الله إلى الوجود تكون قد أعطيت لوجه الله ، إنه الخالق الذي يرزق كل مخلوق له حتى الكافر .
إذن فعطاء الإنسان للسائل ليس عطاء لوجه السائل ، ولكنه عطاء لوجه الله . والحق يقول عن عيسى بن مريم : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة } وعرفنا كيف يكون الإنسان وجيها في الدنيا ، فلماذا نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة؟ وخصوصا أن كل وجوه المؤمنين ستكون ناضرة ، لقد نص الحق على وجاهة عيسى في الآخرة لأنه سوف يُسأل سؤالا يتعلق بالقمة الإيمانية : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } [ المائدة : 116 ] .
إياك أن تظن أن هذا السؤال هو تقريع من الله لعيسى بن مريم . لا إن الحق يريد أن يقرّع من قالوا هذا الكلام . ولذلك يقول عنه الحق : { والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] .
لأن ميلاده كان له ضجة ، وبعض بني إسرائيل اتهموا والعياذ بالله أمه مريم البتول ، و " يوم الممات " ، كلنا نعرف حكاية الصلب وكان لها ضجة . إنه لم يصلب ولكن صلب من خانه ووشي به فألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه . ويوم البعث حيا يوم يسأله الله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116 ] .
إنه عيسى ابن مريم الذي أنعم الله عليه بالسلام في هذه المواقف الثلاثة . ويتابع الحق فيصف عيسى ابن مريم بقوله : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين } إن كلمة " من المقربين " تدل على تعالى الحق في عظمته ، فحين يفتن بعض البشر في واحد منهم قد يغضب بعضهم من الشخص الذي فتن الآخرون فيه مع أنه ليس له ذنب في ذلك .
والحق سبحانه يعلمنا أن للمغالي جزاءه ولكن المغالَى فيه تنجيه رحمة الغفار .
إن الحق يعلمنا أن فتنة بعض الناس بعيسى ابن مريم عليه السلام لا تؤثر في مكانة عيسى عليه السلام عند الحق ، إنه مقرب من الله ، ولا تؤثر فتنة الآخرين في مكانته عند الله ، ويقول الحق : { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد . . . }
(1/966)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
الكلام : معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع ، وقول الحق : { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد } ، معناه أن المواجه لعيسى عليه السلام في المهد هم الناس و " المهد " هو ما أعد كفراش للوليد . ولقد أورد الحق { المهد وَكَهْلاً } رمزية لشئ ، وهي أن عيسى ابن مريم من الأغيار ، يطرأ عليه مرة أن يكون في المهد ، ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهلا ، وما دام في عالم الأغيار فلا يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه " إله " أو " ابن إله " .
ونفهم أيضا من { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد } سر وجود آية المعجزة التي وهبها له الله وهو طفل في المهد . لأن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها ، فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها . وهذه المسألة لم نجد لها وجودا . مع أنها مسألة كان يجب أن تقال لأنهم يمجدون نبيهم ، وكان من الواجب ألا يغفلوا عن هذه العجيبة ، إن كلام طفل في المهد لما كان أمرا عجيبا كان لا بد أنّه سيكون محل حفظ وتداول بين الناس ، ولن يكتفي الناس برواية واقعة كلامه في المهد فقط ، بل سيحفظون ما قاله ، ويرددون قوله .
والكلمة التي قالها عيسى عليه السلام في المهد لا تسعف من يصف عيسى عليه السلام بوصف يناقض بشريته؛ لأن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق : إني عبد الله ، فأخفوا هم هذه المسألة كلها لأن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون أن يضعوا فيها عيسى عليه السلام ، إن الحق يقول : { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } .
ونعرف أن الكلام في المهد أي وهو طفل و " كهلا " أي بعد الثلاثين من العمر أي في العقد الرابع . والبعض قد قال : إن الكهولة . . بعد الأربعين من العمر . وهو قد حدثت له في روايتهم حكاية الصلب قبل أن يكون كهلا ، فإذا كان قد تكلم في المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل ، وقالوا إن حادثة الصلب أو عدم الصلب ، أو الاختفاء عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهلا ، إذن فلا بد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن مريم عندما يصير كهلا ، وأيضاً قوله الحق : { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } أي انه تكلم في المهد طفلاً ويتكلم كهلا أي ناضج التكوين ، وبذلك نعرف أن عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال ، فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل الألوهية في المهد هي الألوهية في الكهولة؟
إن كانت الألوهية في المهد فقط فهي ناقصة لأنه لم يستمر في المهد ، وحدثت له أغيار ، وما دام قد حدثت له أغيار فهو محدث ، وما دام محدثا فلا يكون إلها ، وبعد ذلك يقول الحق عن عيسى ابن مريم : { وَمِنَ الصالحين } ما حكايتها؟
إن العجيبة التي قال عنها الله : إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره ، وكلامه وهو كهل سيكون بالوحي ، أي ليس له اختيار فيه أيضا ، { وَمِنَ الصالحين } مقصود بها عمله ، أي الحركة السلوكية .
(1/967)
لماذا؟ لأنه لا يكفي أن يكون مبلغا ، ولا يكفي أن يكون حامل آية ، بل لا بد أن يؤدي السلوك الإيماني .
ويقول الحق على لسان مريم البتول : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ . . . }
(1/968)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } فلو أنها سكتت عند قولها : { أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } لكان أمرا معقولا في تساؤلها ، ولكن إضافتها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } تثير سؤالا ، من أين أتت بهذا القول { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ؟ هل قال لها أحد : إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك ، لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس . إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله ، عندما قال لها : " المسيح عيسى ابن مريم " .
قالت لنفسها : إن نسبته بأمر الله هي لي ، فلا أب له ، لقد قال الحق : إنه " ابن مريم " ولذلك جاء قولها : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ذلك أنه لا يمكن أن ينسب الطفل للأم مع وجود الأب . هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول . لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها ، إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب ، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر . وقال الخالق الأكرم : { كَذَلِكَ } أي لن يمسك بشر ، ولم يقل لها : لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت ، ولكن الحق قال : { كَذَلِكَ } تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر . وتتجلى طلاقة القدرة في قوله سبحانه : { الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
إنها طلاقة القدرة ، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للإنسان وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة ، ولو كانت طلاقة القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة ، إنه الحق الأعلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة ، كخلقه لآدم عليه السلام ، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما ، كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام ، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة يمكن أن يُحقق الخلق ، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب ، ها هو ذا القول الحق : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49-50 ] .
هذه هي إرادة الحق ، إذن فلا تقل : إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث الخلق ، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالأسباب . لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد بلا أسباب ، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب .
ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلام : { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة . . . }
(1/969)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
وساعة نسمع { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل ، ولكن ما دام الحق قد أتبع ذلك بقوله : { التوراة والإنجيل } فلا بد لنا أن نسأل . إذن ما المقصود بالكتاب؟ هل كان المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة ، كالزبور ، والصحف الأولى ، كصحف إبراهيم عليه السلام؟ إن ذلك قد يكون صحيحا ، ومعنى { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور داود ، ومن صحف إبراهيم ، وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكملا لها .
وبعض العلماء قد قال : أُثِرَ عن عيسى عليه السلام أن تسعة أعشار جمال الخط كان في يده . وبذلك يمكن أن نفهم { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } أي القدرة على الكتابة . وما المقصود بقوله : إن عيسى عليه السلام تلقى عن الله بالإضافة إلى { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } أنه تعلم أيضا { الحكمة والتوراة والإنجيل } وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد كتاب منزل ، مثال ذلك قوله الحق : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } [ الأحزاب : 34 ] .
كتاب الله المقصود هنا هو القرآن الكريم ، والحكمة هي كلام الرسول عليه الصلاة والسلام . فالرسول له كلام يتلقاه ويبلغه ، ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة ، أما التوراة التي علمها الله لعيسى عليه السلام فقد علمها له الله ، لأننا كما نعلم أن مهمة عيسى عليه السلام جاءت لتكمل التوراة ، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة ، فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع المبعوث إليه فهو بالنص القرآني : { وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ . . . }
(1/970)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
إن كلمة رسول تحتاج إلى علامة ، فليس لأي أحد أن يقول : " أنا رسول من عند الله " بل لا بد أن يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من الله . والأية كما نعرف هي الأمر العجيب الذي خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق الرسول في البلاغ ، وما دامت المعجزة خارجة عن نواميس البشر ، فالمخالف نقول له : أنت حين تكذب أن حامل المعجزة رسول ، فكيف تعلل أنه جاء بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم المنكر الذي يتحدى وتفحمه ، لأنه لا يستطيع أن يأتي بمثلها ، ولذلك قلنا : إن من لزوم التحدي ألا يتحدى الله حين يعطي رسولا معجزة إلا بشيء نبغ فيه القوم المبعوث إليهم ذلك الرسول؛ لأن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه ، فالرد منهم يكون للرسول بقولهم : إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه ، ولو روّضنا أنفسنا عليه لا ستطعنا أن نفعل مثله ، وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه ، لذلك يرسل الحق الرسول - أي رسول - بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم . . مثال ذلك ، موسى عليه السلام ، أرسله الله إلى قوم كانوا نابغين في السحر ، فكانت معجزته تقرب من السحر .
وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لأن موسى عليه السلام لم ينزل بسحر ولكن بمعجزة . كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين ما يكون عليه ما يأتي به الله على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم ، فيقول القرآن : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى * قَالَ أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 17-20 ] .
كأن الحق يقول لموسى عليه السلام : إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك ، أما علمي أنا فهو علم آخر . لذلك يأمره أن يلقى العصا ، فلما ألقاها وجدها حية تسعى ، فأوجس في نفسه خيفة . . إن " أوجس في نفسه خيفة " هي التي فرقت بين سحر القوم ومعجزة موسى عليه السلام " .
لماذا؟ لأن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لأنّ الساحر لو رآها حية لخاف مثل الناس ، لقد خاف موسى عليه السلام لأنها تغيرت وصارت حية فعلا ، ولذلك قال له الله : { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ] .
فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لأنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره حية ، وهذا هو الفارق .
(1/971)
وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب ، إذن فستجيء الآيات من جنس الحكمة والطب ، ثم تتسامى المعجزة ، لأن الذي يطبب جسما ويداويه لا يستطيع أن يعيد الميت إلى الحياة ، لأن الإنسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علاج الطبيب . ولذلك رقّى الله آية عيسى ، إنه يشفي المرضى ، ويحيى الموتى أيضا ، وهذا ترق في الإعجاز . قال عيسى : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } . إن كلمة " أخلق " تحتاج إلى وقفة وكذلك " الطين " و " الهيئة " و " الطير " .
" أخلق " مأخوذة من الخلق ، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير ، فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة . فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا ، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير ، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا . إن الخلق هو المطلوب على تقدير . مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع . هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا ، أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب ، ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟
إذن فالكوب لم تكن موجودة ، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب ، فهي خلق أُوجد على تقدير . فماذا عن خلق الله؟ إنه يخلق على تقدير ، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق ، وبين صنعة الله حين يخلق . إن صنعة البشر حين تخلق ، إنما تخلق من موجود ، وحين يخلق الله فهو يخلق من معدوم ، وهذا هو أول فرق ، إنه سبحانه يخلق من عدم ، أما الإنسان فيضع الأشياء بنظام يحدث فيها تفاعلات أرادها الله فتوجد ، فلا يوجد من يستطيع - على سبيل المثال - من يصنع كوبا من غير المادة التي خلقها الله .
إن هذا أول فرق بين خلق الله ، وخلق الإنسان ، فخلق الله يكون من عدم ، وخلق الإنسان من موجود ، وإن كان الإثنان على تقدير . وأيضا يعطي الله لخلقه سرا لا يستطيع البشر إعطاءه لصنعته ، فالله يعطيه سر الحياة والحياة فيها نمو ، وفيها تكاثر ، لكن البشر يصنعون الكوب مثلا ، فتظل كوبا ، ولا يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى .
إن الإنسان يوجد صنعته فتظل على حالتها ، ولا يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر ، لكن صنعة الله هي صنعة القادر الذي يهب الحياة ، فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل ، وتعطي مثلها . إذن ، فالخلق إيجاد على تقدير ، هذا الإيجاد يوجد معدوما ، والمعدوم موجودة مادته ، هذا في خلق الإنسان ، أما في خلق الله ، فالله يخلق من معدوم لا توجد له مادة .
(1/972)
والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل ، فها هو ذا قول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 12-14 ] .
ولم يمنع الحق خَلْقَه أن يخلقوا أشياء ، ولكن خلق الله أحسن ، لماذا؟ لأنه يخلق من عدم ، والبشر يخلقون من موجود . وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا ، والبشر يخلقون بلا نمو ولا حياة ، إنه الحق أحسن الخالقين ، إذن قول عيسى عليه السلام : { أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ " الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } .
يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثالا كهيئة الطير . لكن الله أوجد معجزة عيسى وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير ، وينفخ فيه ، وقد تسأل ، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير ، أم في الطين ، أم في الهيئة؟ إن قلنا : أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا . يكون النفخ في الطين ، كالنفخ في الطير ، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة . { إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } [ المائدة : 110 ] .
إن " النفخ فيه " ، تكون للطين أو الطير . و " النفخ فيها " تكون للهيئة ، وهناك آية بالنسبة للسيدة مريم البتول : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] .
إن النفخ هنا في الفرج ، وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] .
مرة يقول : " نفخنا فيه " أي في الفرج ، ومرة يقول : " نفخنا فيها " أي فيها هي ، والقولان متساويان ، وهنا في هذه الآية ، نجد أن الإعجاز ليس في أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير ، لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك ، فكأنه حينما قال : { أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } .
كأنه صار طيرا من النفخة ، أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها ، لكن عيسى عليه السلام يفعل ذلك بإذن الله ، ولا بد أن يجيء الأمر مختلفا ، و " بإذن الله " هنا تضم صناعة الطير ، والنفخ فيه .
إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله ، وجاءت كلمة " بإذن الله " من عيسى وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته ، وكأنه يقول لقومه : إن كنتم فتنتم بهذه .
(1/973)
فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى ، حينما قطَّع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن ثم دعاهن . { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 260 ] .
إذن كان من الأولى الفتنة بما أعطاه الله إبراهيم عليه السلام من معجزة ، فإن كانت الفتنة من ناحية الإحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلام أولى بها ، وإن كانت الفتنة من ناحية أنه جاء إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم ، لأن الله خلقه بلا أب أو أم . إذن فالفتنة لا أصل لها ولا منطق يبررها . . ويتابع الحق سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام { وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله } .
لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟ لأنها كانت الأمراض المستعصية في ذلك العصر ، والأكمه هو الذي ولد أعمى أي لم يحدث له العمى من بعد ميلاده . والبرص ، هو ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود . وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في كافة الجسم بلون أبيض ، مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا اللون ، فإن مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص .
وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في الجسم ، واسمها الغدد الملونة ، فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء الألوان ، جاء البرص والعياذ بالله . وهو مرض صعب ، لم يكن باستطاعتهم أن يداووه ، فعندما جاء عيسى ابن مريم أعطاه الله الآية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب . وجاء لهم بآية هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه .
وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس . يقولون : إن هذه المعجزة إنما هي سبق زمني ، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف علاجا لهذه الأمراض ، لكن لهؤلاء نقول : لا ، إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم الساعة . كيف؟
لنأخذ مثالا من طب العيون ، وعندما قالوا إن هناك علاجاً للعمى . " سنقوم بتركيب قرنية " أو أن نأخذ مثالا من طب الجلد لو قالوا : " سنداوي البرص " واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلاج تحاول أن تجعل الجلد على لون واحد ، لكنه لا يستعيد لونه الأصلي . ولذلك قال البعض : " إن معجزة عيسى كانت مجرد سبق زمني " . لهؤلاء نقول : لا ، لنأخذ كل أمر بأدواته .
إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن يستطيع العلم أن يبرئ المرض بالكلمة والدعوة ، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل تلك الأشياء ، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات ، لذلك تظل المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة؛ لأنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة .
(1/974)
ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم : { وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ } . ومسألة إحياء الموتى لم يأخذها عيسى هكذا على إطلاقها فيحيي كل ميت ، إنما قام بها وفي وحدات تثبت صدق الآية ولا تعمم مدلول المعجزة كسام بن نوح مثلا ، و " عازر " إنها أشياء لمجرد إثبات المعجزة ، ولكنها ليست مطلقة ، ذلك أنه نبي ورسول من الله فلا يمكن أن يصادم قدر الله في الآجال . ولذلك قالوا إنه عندما أحيا سام بن نوح ، أحياه حتى نطق بكلمة ، ثم عاد سام إلى الموت من بعد ذلك ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام :
{ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] .
لماذا؟ لأن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة ، يكون هذا العلم خاصا به ، وكل إنسان -مثلا - يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو ، ولا يعرفها الآخرون . إن الأمر الأول كخلق الطير ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، هي أمور عامة للكل . أما الإنباء بألوان الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث ، لأن كل واحد يأكل أكلا معينا فيقول له عيسى ابن مريم ماذا أكل . وليس من المعقول أن يكون عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له أخبار عن كل بيت .
وكذلك أمر الادخار . وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة الإنسان فيعرف لون الطعام الذي يأكله ، لذلك كان الإخبار بما يدخر كل واحد في بيته ، فهذه مسألة توضح بالجلاء التام أنها آية من إخبار من يعلم مغيبات الأمور .
{ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 49 ] .
إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه الأشياء ، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم ، لأن معنى ( رسول ) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه ، فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب - مع إيمانه بالله - من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم ، فالآية واضحة . بالله فلن تفيده الآية في الإيمان . ويقول الحق متابعا على لسان عيسى ابن مريم : { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة . . . }
(1/975)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
وقد قلنا : إن " مصدقا " تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في التوراة . وقلنا : إن " ما بين يدي " الإنسان هو الذي سبقه ، أي الذي جاء من قبله وصار أمامه . وما دام عيسى ابن مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه ، وكانت التوراة موجودة ، فلماذا جاءت رسالته إذن؟
لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى : إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة ، ويتضح ذلك في قوله الحق سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريم : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } إذن فليس المهم هو التصديق فقط ، ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة .
وقد يقول قائل : إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب السماوية؟ والإجابة هي : أن فائدة الكتب السماوية اللاحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة ، هذا في المرتبة الأولى ، وثانيا : تأتي الكتب السماوية بأشياء ، وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي تنزل فيها هذه الكتب . هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزولا من الحق على رسله ، إنها تذكر من عقل وتُعَدلّ في بعض الأحكام .
ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد لا تبديل فيها ، وكذلك الأخبار والقصص ، لكن التبديل يشمل بعضا من الأحكام . ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريم : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل الله عيسى ابن مريم لهم هم بنو إسرائيل ، والتحريم والتحليل يكون بحكمة من الله .
إن لله حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم ، إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه الله يكون ضارا؛ قد يحرم الله أشياء لتأديب الخلق ، فيأمر بالتحريم ، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها ، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم الله . فإن تساءل أحد : لماذا حرم الله ذلك؟ تقول له : من الذي قال لك إن الله حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار ويحرم بعضا مما هو غير ضار ، ولذلك قال الحق : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } [ النساء : 160 ] .
وتفصيل ذلك في آية أخرى : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] .
إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر ، ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريم : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } لقد جاء عيسى ابن مريم ليُحل لهم بأمر من الله ما كان قد حرمه الله عليهم من قبل .
(1/976)
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } ومجموعة هذه الأوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب ، بلغت القوم الذين أرسل الله عيسى إليهم ، إنه كرسول وكبشر لا يستطيع أن يجيء بالآية المعجزة بمفرده بل لا بد أن يكون مبعوثا من الله . فيجب أن يلتفتوا إلى أن الله الذي أرسله ، وله طلاقة القدرة في خرق النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه الأمور ، ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى الله نتيجة لذلك ، ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج الله .
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه . . . }
(1/977)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد ، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم ، وتقتضي إمدادا من عدم ، وتقتضي رعاية قيومية ، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول : وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيدا عليكم ، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله . { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } .
ومعنى { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذ إلتوى؛ انحرف عن الهدف ، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد ، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة ، فستجد أن لها محيطا ، ولها مركزا ، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه " سن الفرجار " حتى نرسم الدائرة ، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار ، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق ، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق .
فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق ، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعا إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد ، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق .
إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة ، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة ، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئا واحدا لا انفصال بينها أبدا . وهكذا الناس إذا التقوا جميعا عند مركز عبوديتهم للإله الواحد ، فإذا ما اختلفوا ، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف .
ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } ذلك هو منطق عيسى . كان منطقه الأول حينما كان في المهد { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] .
إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية ، وهي قضية القمة ، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم ، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله ، فالهدف أن يحمل الناس جميعا على سلوك هذا المنهج ، ويحدد حركة حياتهم ب " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر ب " افعل " فقد يجد في التكليف مشقة ، لماذا؟ لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه ، و " لا تفعل كذا " فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه .
(1/978)
والمرء في الأحداث بين اثنين : عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه ، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه ، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان " افعل " ولا " تفعل " إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف ، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف .
ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة؛ ولا يفهمونها حق الفهم ، فيأتي أنصار الشر؛ ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم . إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني ، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف . ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود .
إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون ، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون ، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني . فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن ، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة ، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة .
إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما ، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه ، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان مجتهدا . فاجتهاده حركة تقرب له الهدف ، وإن كان كسولا ، خاملا فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف . إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا . أو غير صالح .
وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية . وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فلا بد من حدوث اضطراب وضلال ، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف ، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها . أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة ، إنما الحياة مرحلة ، نسأله . . ما الهدف إذن ، فيقول : إنه لقاء الله والآخرة .
هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف . لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار ، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه ، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته .
ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا ، وأن الهدف في مجال آخر ، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف ، وهو الجنة . إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف ، وحين يوجد الهدف ، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف فيفعله ، فهذا هو الخير . أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر .
وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف ، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيبا قد انتقل إلى رحمة الله؟
هذا الإنسان يمكننا أن نسأله ، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف؟ لا بد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له ، ولأنك كنت تأنس به ، أما حزنك من أجله هو ، فلا حزن ، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه .
(1/979)
وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة ، نجد إنسانا ما يذهب إلى الإسكندرية ما شيا ، لأنه لا يجد نقودا أو وسيلة توصله ، وتجد آخر يذهب إليها راكبا حمارا ، وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا ، ورابعا يصل إليها راكبا " أتوبيسا " ، وخامسا يصل إليها بركوب الطائرة ، وسادسا يصل إليها بصاروخ ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له ، وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى الله ماشيا في سبعين عاما ، وآخر يستدعيه الله فورا ، فلماذا تحزن عليه؟
إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف ، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له ، ونقول : إن الله قد قصر عليه المسافة ، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلا " إنه لم ير الدنيا " لهذا الإنسان نقول : يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية ، فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه ، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجا عن الحكمة .
وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام . . قال الحق سبحانه : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله . . . }
(1/980)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أولا حين قال : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ آل عمران : 51 ] .
وأوضح عيسى ابن مريم بما لا يقبل الجدل : " أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد ، وأنا لم أجيء لأعلمّكم لأني تميزت عنكم بشيء . فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء ، فالله رب لي ورب لكم ، والصراط المستقيم هو عبادة الله الحق .
ونحن ساعة نسمع " الصراط المستقيم " فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية ، ونعرف جميعا أنه لا يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق ، إنما الطريق يصنع ليوصل إلى غاية . وساعة تسمع " صراط " فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها . والحق سبحانه يقول : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] .
وما دام هناك طريق لغاية ما فلا بد أن نحدد الغاية أولا ، وتحديد الغاية إنما يهدف إلى إيضاح السبيل أمام الإنسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية . وهكذا يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } .
والعبادة هي إطاعة العابد لأمر المعبود ، وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، إن هذه هي أركان الإسلام ولا يستقيم أن ينفصل الإنسان المسلم عن ربه بين أوقات الأركان التعبدية ، إن الأركان التعبدية لازمة ، لأنها تشحن الطاقة الإيمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا ، ويجب أن نفطن إلى أن العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون .
ويجب أن نعرف أن الأركان التعبدية هي تقسيم اصطلاحي وضعه العلماء في الفقه كباب العبادات وباب المعاملات ، لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به الله اسمه " عبادة " . إذن فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة الإيمانية من خالقه ، خالق الكون ، ومنها ما يتصل بعمارة الكون . ولذلك قلنا : إنك حينما تتقبل من الله أمرا بعبادة ما ، فأنت تتلقاه وأنت موصول بأسباب الله بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة ، والمثل الواضح لذلك هو قول الحق : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] .
إن هذا الأمر بالصلاة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالإنسان من أمر البيع ، وهذا الأمر بالصلاة لم يأخذ الإنسان من فراغ ، إنما أخذ الإنسان من عمل ، هو البيع .
(1/981)
. ولو نظرنا إلى دقة الأداء في البيع لوجدناها قمة الأخذ المباشر للرزق . إن كلام الله يصل في دقته إلى ما لا يصل إليه كلام بشر ، فلم يقل الله مثلا " اتركوا الصنعة " " اتركوا الحرث " ولكن الحق جاء بالبيع هنا لأنه قمة النفعية العاجلة .
إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار ، لكن الذي يبيع شيئا ، فإنه ينال المنفعة فوراً ، لقد جاء الأمر بترك هذه الثمرة العاجلة لأداء صلاة الجمعة ، ويتضمن هذا الأمر ترك كل الأمور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لأداء الصلاة .
إن البيع هو التعبير الدقيق لأن المتكلم هو الله ، والحق لم يتكلم هنا مثلا عن الشراء ، لأن الشاري قد يشتري وهو كاره ، لكن البائع يملأه السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع الأذان فيسرع إلى الصلاة ويقول لأهله من بعد ذلك : لقد ذهبت إلى الشراء ، لكن المؤذن قد أذن لصلاة الجمعة ، ذلك أن الإنسان يجب ألا يدفع نقودا ، لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة . لذلك يخرجنا الحق من قمة " كل الأعمال ونهاية كل الأعمال وهي مبادلة السلع بأثمانها " . لكن ماذا بعد انقضاء الصلاة؟ { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] .
لقد أخرجنا من الصلاة إلى الحياة نبتغي من فضل الله ، ولذلك يكون الإنتشار في الأرض والبحث عن الرزق عبادة .
ولننظر إلى الدقة في قوله الحق : { فانتشروا فِي الأرض } إن الانتشار يعني أن ينساح البشر لينتظموا في كل حركات الحياة ، وبذلك تعمر كل حركة فيها . إن كل حركة في الحياة هي عبادة ، وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ومن بعد ذلك يقول الحق : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } لقد حسم عيسى ابن مريم أمر العقيدة حينما قال : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } إن في ذلك تحذيرا من أن يقول أتباع عيسى أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد الله خاضع لله ، مأمور بالطاعة والعبادة لله . ووضع أمامهم المنهج ، فقال : { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } .
وقول الحق : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } يدل على أن كل صاحب فكرة ، وكل صاحب مهمة ، وكل صاحب هدف لا بد أن يكون يقظ الأحاسيس ، لأن صاحب الفكرة وخاصة الدينية يخرج الناس من الظلمات إلى النور .
وقد يقول قائل : لماذا يعيش الناس في الظلام ولا يتجهون إلى النور من أول الأمر؟ وتكون الإجابة : إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات ، لذلك يكون بينهم أناس ظالمون وأناس مظلومون ، والظالم الذي يأخذ - اغتصابا - خيرَ الآخرين ويعربد في الكون يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم ، ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل ، ومثل هذا الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى الإيمان لا يحب أن تُنطق هذه الكلمة ، إنه يكره الكلمة والقائل لها .
(1/982)
إن الداعية مأمور من الله بأن يكون يقظا لأنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها ، فإنّه يغضب أناساً آخرين ، ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد ، فالداعية عليه أن يعرف يقظة الحس ، ويقظة الحس معناها الالتفاف إلى الأحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان ، ونحن نسمى الأشياء الظاهرة منها الحواس الخمس ، اللمس ، والرؤية ، والسمع ، والتذوق ، والشم .
إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي دعوة الخير ، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير . إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير ، ومن الذي يستبشر ويفرح .
وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق ، وجد أنصار الظلم وأنصار البغي ، وأنصار الظلمات غير معجبين بالمنهج الواضح للإيمان بالله ، لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئا باليقظة والانتباه . إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من الله؛ ليخرج أناساً من مفسدة إلى مصلحة . وعندما أحس منهم الكفر ، أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة . { قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟
إن الدعوة تحتاج إلى معركة ، والمعركة تحتاج إلى تضحية . والتضحية تكون بالنفس والنفيس ، لذلك لا بد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة . وهو لم يناد أفرادا محددين ، إنما طرح الدعوة ليأتي الأنصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء الدعوة ، ولتكون التضحية بإقبال نفس لا استجابة لداع . { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } وكلمة " أنصار " هي جمع " نصير " . والنصير هو المعين لك بقوة على بُغْيَتِك .
وعندما سأل عيسى : { مَنْ أنصاري إِلَى الله؟ } كانت إلى في السؤال تفيد الغاية ، وهي الله ، أي من ينصرني نصرا تصير غايته إلى الله وحده لا إلى هؤلاء البشر؟ إنه لا يسأل عن أناس يدخلون في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه أو غير ذلك إنه يسأل عن أهل العزم ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى نصرة الله وحده .
ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبين رجال من المدينة في أثناء مبايعتهم له في العقبة فقد قال لهم رسول الله " : " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم وأبناءكم " فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال : " نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه أزرنا " فبايعوا رسول الله على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين اليهود حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنَا "؟ فتبسم رسول الله ثم قال : " بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم " .
(1/983)
أقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم ستمتلكون الأرض وستسودون الدنيا ، أو ستنتصرون على أعدائكم؟ لا . بل قال صلى الله عليه وسلم أنا منكم وأنتم مِنِّي . لماذا؟ لأنه لو قال لهم ستنتصرون على أعدائكم ، فقد يدخلون المعركة ، ويموت واحد منهم؛ ولا يرى النصر ، لكن الأمر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول الله منهم وأنهم من رسول الله وما داموا كذلك فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الأصيلة .
وعندما سأل عيسى ابن مريم { مَنْ أنصاري إِلَى الله } فكأنه كان يسأل : من يعينني معونة غايتها الله؟ ولماذا نأخذ هذا المعنى؟ تكون الإجابة : أنا آخذ المعنى على قدر ذهني؛ لأن مرادات الله في كلماته لا تتناهى كمالاً ، وقد يأتي غيري ويأخذ منها معنى آخر . ومعنى " النصير " : هو " من ينصر بجهد وقوة " . وننظر النصر في الإيمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النصر في الإيمان قال : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] .
إذن فالنصر منا لله بأن نُطبق دينه ، وهذا مراد الله ، ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه ، ومرة من الرب لمربوبه ، وقد يكون مراد عيسى - عليه السلام - من الذي ينصرني كي ينضم إلى الله في النصر؟
ونحن هنا أمام معسكرين معسكر الإيمان ، ومعسكر الكفر . لقد سأل عيسى { مَنْ أنصاري إِلَى الله } أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي الله ونتفهم نحن هذا المعنى على ضوء ما قاله الحق : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] .
ونعرف أيضا أن هناك نصراً من المؤمن لله ، وهناك نصر من الله للمؤمن . وهكذا يكون سؤال عيسى ابن مريم { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ فقد أفاد المعنيين معاً . وكانت الإجابة : { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
والحواريون مأخوذة من الحور ، وهو شدة البياض وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء الإيمان فكأنها مشرقة بالنور . ونور الوجه لا يقصد به البشرة البيضاء ، ولكن نور الوجه في المؤمن يكون بإشراقة الإيمان في النفس ، ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود }
(1/984)
[ الفتح : 29 ] .
فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه . كيف ولماذا؟ لأن الإنسان مكون من أجهزة ، ومكون من ذرات ، وكل جهاز في الإنسان له مطلوب محدد وساعة أن تتجه كل الأجهزة إلى ما أراده الله ، فإن الذي يحدث للإنسان هو انسجام كل أجهزته ، وما دامت الأجهزة منسجمة فإن النفس تكون مرتاحة ، ولكن عندما تتضارب مطلوبات الأجهزة ، تكون السحنة مكفهرة .
عندما قال عيسى : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } سمع الاستجابة من الحواريين ، والحواريون قوم لهم إشراقات انسجام النفس مع الإيمان ، أو هم قوم بيض المعاني أي أن معانيهم بيضاء ومشرقة . والنبي صلى الله عليه وسلم سمى بعضا من صحابته حواري رسول الله وهم الذين جعلهم رسول الله معه طوال الوقت .
وحين قال الحواريون : { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم يريد نصرة الله . فينضم إلى الله ناصرا للمنهج وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج . ونحن نعرف مقومات النصرة لله . إنه الإيمان : وما الإيمان؟ إنه اطمئنان القلب إلى قضية ما ، هذا هو الإيمان في عمومه . فلو لم أكن مؤمنا بأن الطريق الذي أسير فيه موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه .
مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا الطريق ، وإن لم اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت . إذن فكل أمر في الدنيا يتم بناؤه على الإيمان ، لكن إذا أطلق الإيمان بالمعنى الخاص ، فهو اطمئنان القلب إلى قمة القضايا ، وهي الإيمان بالله ، لذلك فأسلحة النصر إلى الله هي : إسلام كل جوارح الإنسان إلى الله . ولذلك قال الحواريون : { نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
لماذا يشهد الرسول لهم؟ لأن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن الله ، فيشهد عليهم كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } [ الحج : 78 ] .
ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم - الحواريين - الإيمان أولا ، لأنه أمر غيبي عقدي في القلب ، وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالإسلام؛ لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه . إن قولهم : { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } هو أيضا طلب منهم يسألونه لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات الإسلام قل لنا افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا إنهم قالوا : " آمنا " وما داموا قد أعلنوا الإيمان بالله ، فهم آمنوا بمن بلغهم عن الله ، والمطلوب من عيسى ابن مريم أن يشهد بأنهم مسلمون ، ولا تتم الشهادة إلا بعد أن يبلغهم كل الأحكام وقد بلغهم ذلك وعملوا به وقالوا من بعد ذلك : { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول . . . }
(1/985)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
فهل يكون إعلانهم للإيمان ، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة ، لا ، إن الإيمان هنا مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله ، فوراء مجيء رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس ، ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك الأخبار؛ وكذلك القصص ، ولكن الأحكام هي التي تتغير . فكأن إعلان الحواريين هو إعلان بالإيمان بما جاء سابقا على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات .
وقولهم : { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ } كلمة { بِمَآ أَنزَلَتَ } تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى ، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى . ولذلك قلنا سابقا : إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول : " تعالوا " أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض ، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم ، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان ، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء .
وقولهم : { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول } . إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا ، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من الإرغام قهرا أو قسرا ، فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر على السير معه ، وهنا لا يقال عن المُرغَم : إنه " اتبع " إنما الذي يتبع ، أي الذي يسير في نفس طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره . فلو سار شخص في طريق شخص آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب ، لا بالقلب . ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه ، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف ، لكنه لم يخضع قلبه ، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب . { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ] .
إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد . لا يستعصي على خالقه ، وأنه سبحانه القادر على الإحياء والإماتة ، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل ، لكن الحق لا يريد أعناق الناس ، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار ، وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء . هذه هي العظمة الإيمانية . وقال الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } إنه الطلب الإيماني العالي الواعي ، الفاهم . إنهم يحملون أمانة التبليغ عن الرسول ، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم ، ويطلبون أن يكتبهم الله مع الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام : إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة .
(1/986)
لماذا؟ ها هو ذا القول الحق : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } [ الحج : 78 ] .
ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لقد ائتمن الله أمة محمد؛ بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد ذلك يخبرنا الحق : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين . . . }
(1/987)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
إن الأشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أولا بالحس؛ لأن الحس هو أول مصاحب للإنسان لإدراك الأشياء ، وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق . إن البداية دائما تكون هي الأمور المحسة ، ولذلك يقول الله عن المنهج الإيماني : إنه طريق مستقيم ، أي أن نعرف الغاية والطريق الموصل إليها ، وكلمة " الطريق المستقيم " من الأمور المحسة والتي يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج .
إن كلمة " مكر " ، مأخوذة من الشجر ، فساعة أن ترى الشجرة التي لا تلتف أغصانها على بعضها فإن الإنسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما ، هي من فرع ما ، ولكنْ هناك نوع من الأشجار تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث لا يستطيع الإنسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي ، ومن هذا المعنى أخذنا كلمة " المكر " فالرجل الذي يلف ويدور ، هو الذي يمكر ، فالذي يلف على إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما ، والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة ، فإن كان ذلك بغير قصد الضرر نسميه حيلة ، وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء . ولذلك فالحق يقول : { وَمَكْرَ السيىء وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] .
ومعنى ذلك أن هناك مكراً غير سيء ، أي أن المكر الذي لا يقصد منه إيقاع الضرر بأحد ، فإننا نسميه مكرَ خير ، أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو " المكر السيء " . ولنا أن نسأل : ما الذي يدفع إنسانا ما إلى المكر؟ إن الذي يمكر يداري نواياه ، فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض ، ويريد أن يزين لك عملا ليمكر بك ، فيحاول مثلا أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر ، وقد يكون القتل .
إذن ، فمن أسس المكر التبييت ، والتبييت يحتاج إلى حنكة و خبرة ، لأن الذي يحاول التبييت قد يجد قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين ، وما دام المكر يحتاج إلى التبييت ، فإن ذلك علامة على الضعف في البشر لأن القوي لا يمكر ولا يكيد ولكن يواجه .
إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف ، فمن الممكن أن يطلقه ، لأن القوي مطمئن إلى أن قوته تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف . لكن الضعيف حين يملك قويا ، فإنه يعتبر الأمر فرصة لم تتكرر ، ولذلك فالشاعر يقول :
وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت ... كذلك قدرة الضعفاء
إن الضعيف هو الذي يمكر ويبيت . والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقلا ، وقد ينكل به كثيرا ، لذلك يخفى الماكر أمر مكره أو تبييته .
(1/988)
فإذا ما أراد خصوم المنهج الإيماني أن يمكروا ، فعلى من يمكرون؟ إن الرسول لا يكون في المعركة بمفرده ولكن معه الله . { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 9 ] .
فالله يعلم ما يبيت أي إنسان ، ولذلك فعندما يريد الله أن يبرز شيئا ويوجده فلن يستطيع أحد أن يواجه إرادة الله وأمره ، إذن فمكر الله لا قبل لأحد لمواجهته .
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ]
وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها الله فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء الله الحسنى ، إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين : إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا ، فإن الله قادر على أن يقلب المكر عليكم ، أما أسماء الله وصفاته فهي توقيفية ، نزل بها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن إذا وجد فعل لله لا يصح أن نشتق نحن منه وصفا ونجعله اسما لله ، { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } ، فليس من أسماء الله مخادع ، أو ماكر ، إياك أن تقول ذلك ، لأن أسماء الله وصفاته توقيفية ، وجاء القول هنا بمكر الله كمقابل لفعل من البشر ، ليدلهم على أنهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله ، ولا يستطيعون أن يمكروا بالله ، لأن الله إذا أراد أن يمكر بهم ، فهم لا يستطيعون مواجهة ذلك . إن الحق يقول : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } .
إذن فهناك " مكر خير " . . وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير . ولماذا تأتي هذه الآية هنا؟ لأن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلام ، وعيسى عليه السلام لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة ، إنما جاء واعظا ليدل الناس على العقيدة ، إن النصرة لا تكون بالسيف فقط ، ولكن بالحجة . ونحن نعرف أن السماء كانت لا تطلب من أي رسول أن يحارب في سبيل العقيدة لأن السماء هي التي كانت تتولى التأديب . { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] .
ولم يجيء قتال إلا حينما طلب بنو إسرائيل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } [ البقرة : 246 ] .
ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي أذن الله لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس .
(1/989)
إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة ، إنما ليحمي الاختيار في النفس الإيمانية ، فبدلا من أن يترك الناس مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد الله . وعباد الله لهم أن يختاروا عقيدتهم .
ولذلك فعندما يقول اعداء الإسلام : " أن الإسلام انتشر بالسيف " . نرد عليهم : إن الله قد بدأ الإسلام بضعف حتى يسقط هذا الاتهام ، لقد كان المسلمون الأوائل ضعفاء لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، فيتجه بعضهم إلى الحبشة ، ويهاجرون بحثا عن الحماية ، فلو كان الإسلام قد انتشر بالسيف فلنا أن نسأل : من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟ إن المؤمنين رضوا الإسلام دينا وهم في غاية الضعف ومنتهاه . إن الإسلام قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة الإيمان .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في أمة أمية ، ومن قبيلة لها شوكتها ، وشاء الحق ألا ينصر الله دينه بإسلام أقوياء قريش أولا ، بل آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم الضعفاء وخاض رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الدعوة الإيمانية مدة ثلاثة عشر عاما ، دعوة للإيمان بالله ، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة ، إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية ، وارتفع السيف لا ليفرض العقيدة ، ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة . ولو أن الإسلام انتشر بالسيف . فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلاد المسلمة؟ لقد أتاح الإسلام فرصة اختيار العقيدة لكل إنسان .
إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة ، وواجب كل مسلم أن يعرف أن الإسلام قد انتشر بالأسوة الحسنة ، وأنه كمؤمن بالله وبدين الله ، قد اصطفاه الله ليطبق السلوك الإيماني ، فقد مكن الله للإسلام في الأرض بالسلوك والقدوة .
إن كل مسلم عليه واجب ألا يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام إلى الإسلام ، ذلك أن اختلال توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج الله هو ثغرة ينفذ منها خصوم الإسلام ، ولذلك فالمفكرون في الأديان الأخرى حينما يذهبون إلى الإسلام ، ويقتنعون به ، إنما يقتنعون بالإسلام لأنه منهج حق . إنهم يمحصونه بالعقل ، ويهتدون إليه بالفطرة الإيمانية . أما الذين يريدون الطعن في الإسلام ، فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين ، فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به الإسلام .
إن المفكرين المنصفين يفرقون دائما بين العقيدة ، ومتبع العقيدة ، ولذلك فأغلب المفكرين الذين يتبعون هذا الاتجاه ، يلجأون إلى الإسلام ويؤمنون به . ولكن الذين يذهبون إلى الإسلام من جهة أتباعه ، فإن صادفوا تابعا للإسلام ملتزما دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالإسلام ، ولذلك كانت الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلاد الإسلامية المعاصرة في بلاد لم يدخلها فتح إسلامي ، وإنما دخلتها الأسوة الإسلامية في أفراد تابعين ملتزمين ، فراق الناس ما عليه هؤلاء المسلمون من حياة ورعة ، ومن تصرفات مستقيمة جميلة ، ومن أسلوب تعامل سمح أمين ، نزيه ، نظيف ، كل ذلك لفت جمهرة الناس إلى الإسلام ، وجعلهم يتساءلون : ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟ قالوا : لأننا مسلمون .
(1/990)
وتساءل الناس في تلك المجتمعات : وما معنى الإسلام؟ وبدأ المسلمون يشرحون لهم الإسلام .
إذن ، فالذي لفت إلى الإسلام هو السلوك المنهجي الملتزم ، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين يعرض منهج الدعوة الناجحة يقول : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } [ فصلت : 33 ] .
والدعوة إلى الله تكون باللسان والعمل الصالح ، ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده مفيدا فالتزمه هو ، فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان ، ولا يكتفي المؤمن بذلك ، إنما يعلن ويقول : { إِنَّنِي مِنَ المسلمين } يقول ذلك لمن؟ يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى الطيب . إنها لفتة من ذاته إلى دينه .
إن هذا يفسر لنا كيف انتشر الإسلام بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من البلاد ، وتعاملوا مع الناس بأدب الإسلام ، وبوقار الإسلام ، وبورع الإسلام ، فصار سلوكهم الملتزم لافتا ، وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم ، ويقول الإنسان منهم : أنا لم أجيء بذلك من عندي ولكن من اتباعي لدين الله الإسلام .
ومثال ذلك في السلوك الأسوة : المسلمون الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد كان صحابته رضوان الله عليهم يخافون عليه من خصومه ، فكانوا يتناوبون حراسته ، ومعنى تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا المصد للأخطار يتداولون ذلك فيما بينهم . وأراد الحق سبحانه أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة خفية ، ونام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم . لقد أراد علي - كرم الله وجهه - أن يكون هو المصد ، فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده .
لا شك أنه كان يفعل ذلك لأنه واثق أن بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم خير للإسلام حتى ولو افتداه بروحه . هذا هو التسامى العالي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كان الواحد منهم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الأسوة بالرسول واتباع دين الله إنّما يعود ذلك عليه بالخير العميم . وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله الله رسولا ليبلغ دعوته فقد نال الشهادة في سبيل الله .
هذا هو أبو بكر الصديق رضوان الله عليه مع رسول الله في الغار . ألم يجد الصديق شقوقا فيمزع من ثيابه ليسد الشقوق؟ ألم يضع قدمه في شق لأنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لقد أراد أن يحافظ على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو افتداه ، وهذه شهادة بأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بأن بقاء الرسول خير لهم وللإيمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم .
(1/991)
وهكذا أراد الله نصرة رسوله على الكفار ، عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة ، وهكذا أراد الله نصر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة عندما واجه أعداء الإسلام في القتال ، لقد مكروا ، ولكن الله خير الماكرين .
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من الله : لن تستطيعوا أن تقاوموا محمدا لا بالمواجة ولا بالتبييت . وها هو ذا تابع من أتباعه صلى الله عليه وسلم هو سيدنا عمر رضي الله عنه يهاجر علنا ، ويقول : من أراد أن تثكله أمه ، أو ترمل زوجته ، أو ييتم ولدُه ، فليلقني وراء هذا الوادي . بينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية .
لماذا؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة للضعيف . إن القوى يستطيع حماية نفسه ويخرج إلى الهجرة مجاهرا . أما الضعيف فلا بد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالأسوة للضعيف كانت في رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد مكر أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله مكر بهم . { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } [ إبراهيم : 46 ] .
إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال ، هذا المكر يبور عند مواجهته لمكر الله الذي يحمى رسله وعباده الصالحين . لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه الله قوله الحكيم : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } . لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام . فقال الحق سبحانه : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ . . . }
(1/992)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم ، وذلك دليل على أن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر ، والتبييت ، ومؤامرة للقتل فطمأن الله عيسى إلى نهاية المعركة . { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } . إنها أربعة مواقف ، أرادها الله لعيسى ابن مريم عليه السلام .
ونريد أن نقف الآن عند كلمة قول الحق : { مُتَوَفِّيكَ } . نحن غالبا ما نأخذ معنى بعض الألفاظ من الغالب الشائع ، ثم تموت المعاني الأخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ . إن كلمة " التوفي " نفهمها على أنها الموت ، ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة ، فإنه قد يغلب معنى على لفظ ، وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة ، فيأخذه واحد ليجعله خاصا بواحد من هذه . إن كلمة " التوفي " قد يأخذها واحدا لمعنى " الوفاة " وهو الموت . ولكن ، ألم يكن ربك الذي قال : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } ؟ وهو القائل في القرآن الكريم : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 60 ] .
إذن { يَتَوَفَّاكُم } هنا بأي معنى؟ إنها بمعنى ينيمكم . فالنوم معنى من معاني التوفي . ألم يقل الحق في كتابه أيضا الذي قال فيه : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } . { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الزمر : 42 ] .
لقد سمى الحق النوم موتا أيضا . هذا من ناحية منطق القرآن ، إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن كلمة " التوفي " ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى ، إلا أنه غلب اللفظ عند المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى ، فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلاء لا ينصرف إلا لهذا المعنى ، ولهؤلاء نقول : لا ، لا بد أن ندقق جيدا في اللفظ ولماذا جاء؟
وقد يقول قائل : ولماذا يختار الله اللفظ هكذا؟ والإجابة هي : لأن الأشياء التي قد يقف فيها العقل لا تؤثر في الأحكام المطلوبة ويأتي فيها الله بأسلوب يحتمل هذا ، ويحتمل ذلك ، حتى لا يقف أحد في أمر لا يستأهل وقفة . فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إلى السماء ما الذي زاد عليه نت أحكام دينه؟ والذي لا يعتقد أن عيسى عليه السلام قد رُفع ، ما الذي نقص عليه من أحكام دينه ، إن هذه القضية لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين ، لكن العقل قد يقف فيها؟ فيقول قائل : كيف يصعد إلى السماء؟ ويقول آخر : لقد توفاه الله .
(1/993)
وليعتقدها أي إنسان كما يريد لأنها لا تؤثر في الأحكام المطلوبة للدين .
إذن ، فالأشياء التي لا تؤثر في الحكم المطلوب من الخلق يأتي بها الله بكلام يحتمل الفهم على أكثر من وجه حتى لا يترك العقل في حيرة أمام مسألة لا تضر ولا تنفع . وعرفنا الآن أن " توفى " تأتي من الوفاة بمعنى النوم من قوله سبحانه : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 60 ] .
ومن قوله سبحانه وتعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الزمر : 42 ] .
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتا لأن النوم غيب عن حس الحياة . واللغة العربية توضح ذلك ، فأنت تقول - على سبيل المثال - لمن أقرضته مبلغا من المال ، ويطلب منك أن تتنازل عن بعضه لا ، لا بد أن أستوفي مالي ، وعندما يعطيك كل مالك ، تقول له : استوفيت مالي تماما ، فتوفيته ، أي أنك أخذته بتمامه .
إذن ، فمعنى { مُتَوَفِّيكَ } قد يكون هو أخذك الشيء تاما . أقول ذلك حتى نعرف الفرق بين الموت والقتل ، كلاهما يلتقي في أنه سلب للحياة ، وكلمة " سلب الحياة " قد تكون مرة بنقض البنية ، كضرب واحد لآخر على جمجمته فيقتله ، هذا لون من سلب الحياة ، ولكن بنقض البنية . أما الموت فلا يكون بنقض البنية ، إنما يأخذ الله الروح ، وتبقى البنية كما هي ، ولذلك فرق الله في قرآنه الحكيم بين " موت " و " قتل " وإن اتحدا معا في إزهاق الحياة . { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } [ آل عمران : 144 ] .
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة ، لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية ، ولذلك يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضا . لكن لا أحد يستطيع أن يقول : " أنا أريد أن يموت فلان " ، فالموت هو ما يجريه الله على عباده من سلب للحياة بنزع الروح . إن البشر يقدرون على البينة بالقتل ، والبينة ليست هي التي تنزع الروح ، ولكن الروح تحل في المادة فتحيا ، وعندما ينزعها الله من المادة تموت وترم أي تصير رمة .
إذن ، فالقتل إنما هو إخلال بالمواصفات الخاصة التي أرادها الله لوجود الروح في المادة ، كسلامة المخ أو القلب . فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الأساسية فالروح تقول : " أنا لا أسكن هنا " .
(1/994)
إن الروح إذا ما انتزعت ، فلأنها لا تريد أن تنتزع . . لأي سبب ولكن البنية لا تصلح لسكنها . ونضرب المثل ولله المثل الأعلى .
إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها ، وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه الضوء . إن المصباح لم يأت بالنور ، لأن النور لا يظهر إلا في بنية بهذه المواصفات بدليل أن المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة ، ولكن الضوء يذهب . وكذلك الروح بالنسبة للجسد . إن الروح لا توجد إلا في جسد له مواصفات خاصة . وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون خلايا البنية مناسبة ، فإن توقف القلب ، فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف ، لكن إن فسدت خلايا المخ ، فكل شيء ينتهي لأن المواصفات اختلت .
إذن ، فالروح لا تحل إلا في بنية لها مواصفات خاصة ، والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب الحياة ، لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية ، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى . ولكن خلق الله يقدرون على البينة ، لأنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها .
إذن ، " فمتوفيك " تعني مرة تمام الشيء ، " كاستيفاء المال " وتعني مرة " النوم " . وحين يقول الحق : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } ماذا يعني ذلك؟ إنه سبحانه يريد أن يقول : أريدك تماما ، أي أن خلقي لا يقدرون على هدم بنيتك ، إني طالبك إلى تاما ، لأنك في الأرض عرضة لأغيار البشر من البشر ، لكني سآتي بك في مكان تكون خالصا لي وحدى ، لقد أخذتك من البشر تامّاً ، ومعنى " تاما " ، أي أن الروح في جسدك بكل مواصفاته ، فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لم يتمكنوا منه .
إذن ، فقول الحق : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } هذا القول الحكيم يأتي مستقيما مع قول الحق : { مُتَوَفِّيكَ } . وقد يقول قائل : لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى؟ نقول : إن الحق بجلال قدرته كان قادرا على أن يقول : إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك . ونقول أيضا : من الذي قال : إن " الواو " تقتضي الترتيب في الحدث؟ ألم يقل الحق سبحانه : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 16 ] .
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر . إن " الواو " تفيد الجمع للحدثين فقط . ألم يقل الله في كتابه أيضا : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ الأحزاب : 7 ] .
إن " الواو " لا تقتضي ترتيب الأحداث ، فعلى فرض أنك قد أخذت { مُتَوَفِّيكَ } أي " مميتك " ، فمن الذي قال : إن " الواو " تقتضي الترتيب في الحدث؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه . فإذا قال قائل : ولماذا جاءت { مُتَوَفِّيكَ } أولا؟ نرد على ذلك : لأن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة من الموت .
(1/995)
ولكن عيسى سيموت قطعا ، فالموت ضربة لازب . ومسألة يمر بها كل البشر . هذا الكلام من ناحية النص القرآني . فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن الله فوّض رسوله صلى الله عليه وسلم ليشرح ويبين ، ألم يقل الحق : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] .
فالحديث كما رواه البخاري ومسلم : ( كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ) ؟ .
إي أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى . ولنقف الآن وقفة عقلية لنواجه العقلانيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول : يا عقلانيون أقبلتم في بداية عيسى أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في الإيجاد والميلاد؟ سيقولون نعم . هنا نقول : إذا كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت خارقة للنواميس؟ . إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الأولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية . إن الحق سبحانه يقول :
{ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } [ آل عمران : 55 ] .
إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلاء الكافرين ونجاستهم ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . وكلمة " اتبع " تدل على أن هناك " مُتَّبعاً " يتلو مُتّبعا . أي أن المتبِّع هو الذي يأتي بعد ، فمن الذي جاء من بعد عيسى بمنهج من السماء؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم . ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟ أعلى المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟ إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي قلته لن يكون تبعا لك ، ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك . وقد جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده الله . { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي اتبعت منهج الله الذي جاء به الرسل جميعا ، ونزل به عيسى أيضا ، وأن أمة محمد قد صححت كثيرا من القضايا التي انحرف بها القوم . نقول ليس المراد هنا من " فوق " الغلبة والنصر ، ولكننا نريد من " فوق " الحجة والبرهان . وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام وعقيدة الإسلام .
إذن ، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان . ولذلك قال الحق سبحانه : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون }
(1/996)
[ التوبة : 33 ] .
وفي موقع آخر من القرآن الكريم ، يؤكد الحق ظهور الإسلام على كافة الأديان وهو الشاهد على ذلك : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] .
ومعنى ذلك أن الله قد أراد للإسلام أن يظهر على كل الأديان . وقد يقول قائل : إن في العالم أديانا كثيرة ، ولم يظهر عليها الإسلام ، والموجودون من المسلمين في العالم الآن مليار وأضعاف ذلك من البشر على ديانات أخرى . نقول لمثل هذا القائل : إن الله أراد للإسلام أن يظهره إظهار حجة ، لا من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبلهم هم كذلك ، والناس دائما حين يجتمعون ليشرعوا القوانين وليحددوا مصالح بعضهم بعضا ، يلجأون أخيرا إلى الإسلام . فلننظر إلى من يشرع من جنس تشريع الأرض ولنسأل أرأيت تشريعا ارضيا ظل على حاله؟ لا ، إن التشريع الأرضي يتم تعديله دائما .
لماذا لأن الذي وضع التشريع الأول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات الأمور التي تَجدّ ، فلما جَدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أولا ، احتاج الناس إلى تعديل التشريع . ولنمسك بأي قانون بشرى معدل في أي قضية من قضايا الكون ، ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟ إنه دائما يتجه إلى الإسلام ، وإن لم يلتق مع الإسلام فإنه يقرب من الإسلام . وعندما قامت في أوروبا ضجة على الطلاق في الإسلام ، ما الذي حدث؟ جاء التشريع بالطلاق في إيطاليا تحت سمع وبصر الفاتيكان . هل شرعوا الطلاق لأن الإسلام أباح الطلاق؟ لا . إنما شرعوه لأن أمور الحياة أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلاق ، فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لأمور الحياة على أن ما جاء به الإسلام قبل التجربة كان حقا . بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلاق لا كمسلمين ولكن لأن مصالح حياتهم لا تتأتى إلا به .
وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟ تلك هي الغلبة . لقد وصلوا إلى تشريع الطلاق ، رغم كراهيتهم للإسلام كدليل على صدق ما جاء به الإسلام . وفي الربا ، الذي يريد البعض هنا أن يحلله ، تجد أوربا تحاول التخلص منه ، لأنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي؟أنهم عرفوا أن إلغاء الربا ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة ، والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا ، فأرادوا أن يمنعوا الربا . لقد وصلوا إلى ما بدأ به الإسلام من أربعة عشر قرنا . أتريد غلبة ، وتريد فوقا ، وتريد ظهورا ، أكثر من هذا بالنسبة لدين الله؟
إذن ، ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الأخذ بمبادئ الإسلام ونتابع بالتأمل قول الحق : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } ، أي أن الحق جاعل الذين ساروا على المنهج الأصيل القادم من الله فوق الذين كفروا .
(1/997)
فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما لا يقال من ألوهية ، هل اتبعوك؟ لا . . لم يتبعوك .
إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من الله . إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني إسرائيل . وديانات السماء لا تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الأوطان أو غير ذلك ، ولكن المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض ، ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على هذه المعاني . لقد وعد الله سيدنا نوحا أن ينجي له أهله . وعندما دعا نوح عليه السلام ابنه ليركب معه : ولكن ابن نوح رفض ، فقال نوح عليه السلام لله : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } [ هود : 45 ] .
فهل الأهلية بالنسبة للأنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟ لا ، لأن الحق قال : { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] .
لماذا؟ لأن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند الله ليس من يطلق على نفسه النسب للمسيح ، ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط . إن المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند الله . إن الأنبياء ميراثهم المنهج والعلم . ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سلمان وهو فارسي لا يجتمع مع رسول الله في أرومة عربية :
" سلمان منا آل البيت " .
وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه ، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذن : " وجاعل الذي اتبعوك فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة " ، أي أن الحق سبحانه قد جعل الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند الله . والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول الله هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟ لأن رقعة من الأرض التي تتبع الديانات الأخرى غير الإسلام أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالإسلام؟ لا . . فالفوقية تكون فوقية دليل .
وقد يقول قائل : إن الدليل لا يلزم . نرد قائلين : كيف لا يلزم الدليل؟ ونحن نرى الذين لا يؤمنون به يدللون عليه . كيف يدللون عليه؟ إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه تقنين السماء . وما دام هنا في هذه الآية كلمة " فوق " وكلمة " كفروا " وهناك أتباع إذن ، فهناك قضية وخصومة ، وهناك حق ، وهناك باطل ، وهناك هدى ، وهناك ضلال . فلا بد من الفصل في هذه القضية .
(1/998)
ويأتي الفصل ساعة ألا يوجد للإنسان تصرف إرادى لا على ذات نفسه ولا على سواه .
إن الظالمين يستطيعون التصرف في الأرض ، لكن عندما يكون المرجع إلى الله فالله يقول : أنا ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من الأسباب ، لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للأسباب . إذن . . فالظالم قد يتحكم على الأرض وكذلك الباطل لأن الله أوجد لنا جميعا إرادات ومرادات اختيارية . لكن في يوم القيامة فلا إرادات إلا إرادة الله : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
إذن فالحكم قادم بدون منازع . . والذي يدل على ذلك قوله الحق : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب * وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } [ البقرة : 166-167 ] .
إن الذي اتبع واحدا على ضلال يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلال يتبرأ منه ، فيقول المتبعون سائلين الله : يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا ، هذا من ناحية علاقة البشر بالبشر . أما من ناحية الجسد الواحد نفسه ، فسوف نجد شهادة الجلود والألسنة والأيدي ، بعد أن تسقط عنها إرادة الإنسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة الإنسان ، تقول الجوارح والحواس : لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما لا أحب ، لكن ها هو ذا يوم القيامة ، فلا قهر ولا إرغام ولا تسخير لأن الملك كله لله . . لذلك تشهد الألسنة والجلود ولهذا يقول الحق : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟ هل هناك تكليف بعد ذلك؟ لا . . لكن ثمرة الحكم هي الجزاء . ففي الآخرة لا عمل هنالك ، والحكم فيها للجزاء ، وكما قلنا : مادام هناك متبعون وكافرون ، وجماعة فوق جماعة ، وإلى الله مرجعهم ، فلا بد لنا أن نرى ما هو الحكم الذي سوف يكون؟ ها هو ذا القول الحكيم : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة . . . }
(1/999)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
لماذا لم يأت الله بالحكم على المؤمنين أولا؟ لأن المؤمنين يؤمنون بذلك تماما ، إنهم بإيمانهم يعرفون ذلك ويعونه . ولننتبه هنا إلى أن الحكم لا يشمل العذاب في الآخرة فقط ولكنه يشتمل على العذاب في الدنيا أيضا ، فعذاب الدنيا سيكون قبل الحكم ، وكأن الحق يقول لنا : لا تعتقدون أن تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الآخرة لأن التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب من آمن بي .
أما من كفر بي ، فإني أعذبه في الدنيا وأعذبه في الآخرة إنني لا أؤجل العذاب للكافرين إلى الآخرة فقط ولكن سأضم عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة .
إن الحصيلة بعد كل شيء هي أن يعذب الكافر في الدنيا وفي الآخرة . ويقول الحق عن هذا العذاب : إنه عذاب شديد؛ لأن الحدث حين يقع لا بد أن تلحظ فيه القوة التي تناسب من أحدث . ولنضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى :
إن الطفل قد يكسر شيئا في حدود قوته كطفل ، والشاب قد يكسر شيئا مناسبا لقوته . إذن فالحديث يجب أن نأخذه قياسا بالنسبة لفاعله؛ فإذا كان الفاعل هو الله ، فهل لأحد طاقة على عذاب الله؟ لا أحد يتصور ذلك ، وليس لأحد من هؤلاء من ناصر ، لأن الذي يهزمه الله ويعذبه لا ناصر له ، وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل : { وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ . . . }
(1/1000)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
أي فما دام الذين كفروا سينالون العذاب الشديد من الله ، فالذين آمنوا سينالون النعيم المقيم بإذن الله .
(1/1001)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
يقول الحق تبارك وتعالى :
{ ذلك } إشارة لما سبق من الأحداث ، في شأن امرأة عمران ، ومريم ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وكان لكل واحد من هؤلاء قضية عجيبة يخرق فيها ناموس الكون ، وكلها آيات ، أي عجائب . وقد نقلت إلينا هذه العجائب من واقع ما رآه الذين عاصروا تلك الأحداث ، وجاء الخبر اليقين بتلك العجائب في قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الكتاب الحق الموصوف من الله بأنه { الذكر الحكيم } فاطمئنوا - أيها المؤمنين - إلى أن ما وصلكم عن طريق القرآن ، إنما حكى واقعا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فما جاء به من أخبار عن تلك الآيات هو ما يطابق الواقع الذي عاصره الناس وحكوه .
وبعد ذلك يعرض الحق لنا سبحانه قضية سيدنا عيسى عليه السلام ، وهي قضية يجب أن نتنبه إليها تنبها جديدا فنعرض وجهة نظر الذين يضعونه في غير الموضع الذي أراده الله ، كما نعرض وجهة نظر الذين يضعونه في الموضع الذي يريده الله ، فالمسألة ليست انتصارا منا في الدنيا على فريق يقول : كذا ، لأنها مسألة لها عاقبة تأتي في الآخرة ويحاسبنا عليها الحق تعالى ، لذلك كان من المهم جدا أن نصفيها تصفية يتضح فيها الحق ، حتى لا يظلم أحد نفسه .
لقد جاء عيسى عليه السلام على دين اليهودية ، أي طرأ على دين اليهودية ونحن نعلم أن دين اليهودية قد تم تحريفه من اليهود تحريفا جعله ينحاز إلى الأمور المادية الصرفة ، دون أدنى اعتبار للأمور الروحية والإيمان بالغيب ، فهم ماديون ، وتتمثل ماديتهم في أنهم قالوا لموسى عليه السلام ما حكاه القرآن الكريم : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [ البقرة : 55 ] .
إنهم لم يلتفتوا إلى أن بعضا من كمال وجلال الله غيبٌ؛ لأنه لو كان مشهودا محسا ، لحدد - بضم الحاء وكسر الدال - وحُيِّزَ ، وما دام قد حُدِدَ وحُيِّزَ في تصورهم فذلك يعني أنه سبحانه قد يوجد في مكان ولا يوجد في مكان آخر ، والحق سبحانه منزه عن مثل ذلك لأنه موجود في كل الوجود ، ولا نراه بالعين ، لكن نرى آثار أعماله وجميل صنعه في كل الكون .
إذن فكون الله غيبا هو من تمام الجلال والكمال فيه .
لكن اليهود قد صوروا الأشياء كلها على أنها حسية ، حتى أمور اقتيات حياتهم وهي الطعام ، لقد أرادها الله لهم غيبا حتى يريحهم في التيه ، فأرسل عليهم المنّ والسلوى ، كرزق من الغيب الذي يأتي إليهم ، لم يستنبتوه . ولم يستوردوه ، ولم يعرفوا كنهه ، ولم يجتهدوا في استخراجه ، إنه رزق من الغيب ، ومع ذلك تمردوا على هذا الرزق القادم لهم من الغيب وقالوا كما أخبر الله عنهم :
(1/1002)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] .
إنهم يريدون أن يكون طعامهم كما ألفوا ، وأن يروا هذا الطعام كأمر مادي من أمور الحياة؛ لذلك تشككوا في رزق الغيب ، وهو المن والسلوى ، وقالوا : " من يدرينا أن المن قد لا يأتي ، وأن السلوى قد لا تنزل علينا " فلم تكن لهم ثقة في رزق وُهب لهم من الغيب؛ لأنهم تناولوا كل أمورهم بمادية صرفة . وما دامت كل أمورهم مادية فهم في حاجة إلى هزة عنيفة تهز أوصال ماديتهم هذه؛ لتُخرجهم إلى معنى يؤمنون فيه بالغيب .
ونحن نعلم أن الفكر المادي لا يرى الحياة إلا أسبابا ومسببات ، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع منهم ذلك الفكر المادي ، لذلك جاء بعيسى عليه السلام على غير طريق الناموس الذي يأتي عليه البشر ، فجعله من امرأة دون أب ، حتى يزلزل قواعد المادية عند اليهود . لكن الفتنة جاءت في قومه ، فقالوا ببنوته للإله ، وسبحانه منزه عن أن يكون له ولد .
ولنا أن نسأل ما الشبهة التي جعلتهم يقولون بهذه البنوة؟
قالوا : إن الأمومة موجودة والذكورة ممتنعة ، والشبهة إنما جاءت من أن الله نفخ فيه الروح ، فالله هو الأب .
نقول لهم : لو أن الأمر كذلك لوجب أن تفتنوا في آدم أولى من أن تفتنوا في عيسى؛ لأن عيسى عليه السلام كان في خلقه أمومة ، أما آدم فلا أمومة ولا أبوة ، فتكون الفتنة في آدم عليه السلام أكبر ، وإن قلتم : " إن الحق قال : إنه نفخ فيه من روحه " ، فلكم أن تعرفوا قول الله في آدم عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 28-29 ] .
إذن فالنفخ هنا في آدم موجود ، فلماذا سكتم عن هذه الحكاية منذ آدم وحتى مجيء عيسى عليه السلام ، وهكذا يتم دحض تلك الحجة ونهايتها ، وبعد ذلك نأتي إلى قضية أخرى ، وهي توفيه أو وفاته ، إلى القضيتين معا - توفيه ووفاته - حتى نُبَيِّن الرأيين معا : وهنا نتساءل : لماذا فتنتم في ذلك؟ يقولون : لقد أحيا عيسى الموتى ، ونقول لهم : ألم تأخذوا تاريخ إبراهيم عليه السلام حينما قال الله له : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(1/1003)
[ البقرة : 260 ] .
إذن فمجال الفتنة في إبراهيم عليه السلام كبير ، وكذلك ، ألم يجيء موسى عليه السلام بآية هي العصا؟ إنه لم يجيء ميتا كانت فيه حياة ، إنما أجرى الله على يديه خلق الحياة فيما لم تثبت له حياة ، فأصبحت العصا - وهي جماد - حية تسعى لماذا إذن لم تفتنوا في عصا موسى عليه السلام؟
وهكذا نعرف انه لا يصح أن يفتن أحد في المعجزة التي جاءت بعيسى عليه السلام ، أو في إحيائه الموتى بإذن الله ، وأتباع عيسى عليه السلام يتفقون معنا أن الله سبحانه وتعالى غيب ، ولكنهم يختلفون معنا فيقولون : إن الله أراد أن يؤنس البشر بصورة يتجلى لهم فيها بشرا فجاء بعيسى عليه السلام ليتحقق لهم ذلك الأنس .
ونقول لهم : سنبحث هذه المسألة بدون حساسية ، وبدون عصبية ، بل بالعقل ، ونسأل " هل خلق الله عيسى ليعطي صورة للإله؟ إن عيسى كان طفلا ، ثم كبر من بعد ذلك ، فأي صورة من صورة المرحلية كانت تمثل الله؟
إن كانت صورة طفل فهل هي صورة الله؟ وإن كانت صورة كهل فهل هي صورة الله؟ إن لله صورة واحدة لا نراها ولا نعرف كنهها فهو سبحانه " ليس كمثله شيء " ، فأية صورة من الصور التي تقولون : إنها صورة الله؟
وإن كان الله على كل هذه الصور فمعنى ذلك أن لله أغيارا وهو سبحانه منزه عن ذلك ، ولو كان على صورة واحدة لقلنا : إنه الثبات والأمر كذلك فهو - سبحانه - الحق الذي لا يتغير إنهم يقولون : إن الله أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالإله ، فتمثل في عيسى .
ولنا أن نسأل : كم استغرق وجود عيسى على الأرض؟ والإجابة : ثلاثين عاما أو يزيد قليلا . وهكذا تكون فترة معرفة الناس بالصورة الإلهية محدودة بهذه السنوات الثلاثين طبقا لتصوركم . ولا بد ان نسأل " ما عمر الخلق البشرى كله؟ " إن عمر البشرية هو ملايين السنين . فهل ترك الله خلقه السابقين الأولين بدون أن يبدي لهم صورته ، ثم ترك خلقه الآخرين الذين قدموا إلى الحياة بعد وفاة عيسى - أي تمام مهمته - ورفعه ، بدون أن يعطيهم صورة له؟ إن هذا تصور لإله ظالم ، وسبحانه وتعالى منزه عن الشرك والظلم . فلا يعقل أن يضن بصورته فلا يبقيها إلا ثلاثين عاما؟ إن هذا القول لا يقبله عقل يثق في عدالة الله المطلقة .
ثم إنهم يقولون : إن عيسى عليه السلام قد صلب ، وهم معذورون والحق سبحانه وتعالى قد عذرهم في ذلك فأورد التأريخ الحق العادل ، حين يقول :
(1/1004)
{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } [ النساء : 157 ] .
لقد جعل الله لهم عذرا في أن يقولوا : إنه قتل أو صلب؛ لأنه شبه لهم وكان من المعقول أن يلتمسوا من الإسلام حلا لهذه المشكلة ، لأن الإسلام جاء ليقول : " لا ، لقد شبه لكم ، فما قتلوه وما صلبوه؛ لأن هذا الفعل - القتل أو الصلب - ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله . لأن المصلوب لو كان إلها أو ابن إله ، لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب ، فكيف يعقل الإنسان أن ينقلب الإله - أو ابن الإله - مقدورا عليه من مخلوق؟ والإسلام عندما يقول : إن عيسى ابن مريم لم يصلب فقد كرمه الله . وهكذا ترى أن الإسلام قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها المتبعون لتلك الأديان .
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يخرج الناس - مسلمين ونصارى ويهودا - من هذه البلبلة ، وأن يتم ذلك في مودة ، لأنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد . فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لهؤلاء القوم جدل مع اليهود ، ولهم جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان لليهود والنصارى معا جدل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قولا متضاربا في بعضهم بعضا يرويه لنا الحق : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ البقرة : 113 ] .
فاليهود يقولون : " كان إبراهيم يهوديا " والنصارى يقولون لا ، كان " إبراهيم نصرانيا " وأما الجدل بين النصارى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في مسألة عيسى وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى لا تظل معلقة تلوكها الألسنة وتجعلها مثارا للفتن . فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم ، ومن هؤلاء الرؤساء من اسمه السيد ، ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة ، ومعهم قسيس ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا : إنه ابن الله . وقال لهم الرسول : إن عيسى عليه السلام قال : " إني عبد الله " وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك فأخبرنا به .
وهنا نزلت الآية الكريمة : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ . . . }
(1/1005)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
لقد جاء القول الفصل بالحجة الأقوى ، فإذا كان عيسى عليه السلام قد جاء بدون أب ، فإن آدم عليه السلام قد جاء بدون أب ، وبدون أم ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلمون أني رسول الله وأنني نبي هذه الأمة ، فقالوا : أنظرنا غدا نتكلم في هذه المسائل ، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان فقالوا : لا .
وعندما يعرض الحق سبحانه صراع قضية حق مع قضية باطل فهو يقول : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] .
أي إن طرفا واحدا على الهدى ، والطرف الآخر على ضلال مبين ، لماذا؟ لأن القضيتين متناقضتان ، ولا يمكن أن يجتمعا ، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجتمع بهم في مكان ظاهر ، ويدعو الطرفان الأبناء والنساء ، ويبتهل الجميع إلى الله الحق أن تُسْتَنْزلَ لعنة الله على الكاذبين ، وفي هذا جاء القول الكريم : { الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين . . . }
(1/1006)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا مجال للشك أو المراء ، ومن يرد أن يحتكم إلى أحدٍ فليقبل الاحتكام إلى الإله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا ، فهو سبحانه الحق ، ويجيء هذا القول : { تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } . إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لأبنائهم ونسائهم ، فالرسول صلى الله عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه ، ومن له الولاية عليهم ، وبحضوره هو صلى الله عليه وسلم ، وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للابتهال .
وقد يسأل سائل : ولماذا تكون الدعوة للأبناء والنساء؟ والإجابة هي : أن الأبناء والنساء هم القرابة القريبة التي تهم كل إنسان ، وإن لم يكن رسولا ، إنهم بضعة من نفسه وأهله . فكان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم : " هاتوا أحبابكم من الأبناء والنساء لأنهم أعزة الأهل وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة " " والمباهلة " : هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب ، فالبهلة - بضم الباء - هي اللعنة ، وعندما يقول الطرفان : " يارب لتنزل لعنتك على الكذاب منا " فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة ، فالإله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الإله الحق . وهو سينزل اللعنة على من يشركون به ، ولو كانت اللعنة تنزل من الآلهة المتعددة فسوف تنزل اللعنة على أتباع الإله الواحد .
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة - كما قلنا - وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي تتصرف في الأمر لتنهى الخلاف ، ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء ، فنحن نقول : " نبتهل إلى الله " ، أي ندعو الله .
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالأمر المنزل من عند الله الحق بدعوة الأبناء والنساء والأنفس ، لكنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : " أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك " .
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل هو مستعد لهذا الأمر حقيقة ، أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب ، لذلك قالوا : " لا لن نستطيع المباهلة " ، والله ما باهل قوم نبيا إلا أخذوا ، وحاولوا ترضية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : " لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه " لقد ظنوا ان الدعوة إلى المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول ، لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا للمباهلة ، ولن يُقبل على مثل هذا الموقف الا من عنده عميق الإيمان واليقين ، أما الذي لا يملك يقيناً فلن يقبل على المباهلة بل لا بد ان يرجع عنها .
(1/1007)
وقد رجعوا عن المباهلة ، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : لنتفق معا ألا تغزونا أو تخيفنا على أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل الله عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم ، لذلك حتى يخجل الرجل من الفرار ، وحتى لا يترك أولاده ونساءه لكيلا يذلوا من بعد موته ، فإن قُتِلَ قُتلوا معه هم أيضا .
إذن إن أردنا نحن الآن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلام فلنسمع قول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } إنه الحق القادم من الربوبية فلا تكن أيها السامع من الشاكين في هذه المسألة . ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من الله فلنا أن نحسمها بأن نقول : { تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } .
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك . لماذا؟ لأن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولأن الله - سبحانه - يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال - جل شأنه - : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق . . . }
(1/1008)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
وقوله الحق : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } يلفتنا إلى أن ما يرويه الحق لنا هو الحق المطلق ، وليس مجرد حكاية أو قصة ، أو مزج خيال بواقع ، كما يحدث في العصر الحديث ، عندما أُخذت كلمة القصة في العرف الأدبي الحديث - القادم من حضارة الغرب - إن القصة بشكلها الحديث المعروف إنما يلعب فيها الخيال دورا كبيرا ، لكن لو عرفنا ان كلمة " قصة " مشتقة من قص الأثر لبحث أهل الأدب فيما يكتبون من روايات وخيالات عن كلمة أخرى غير " قصة " ، فالقصص هو تتبع ما حدث بالفعل لا تبديل فيه ولا أخيلة .
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } فإذا جاء القصص من الإله الواحد فلنطمئن إلى أنه لا يوجد إله آخر سيأتي بقصص أخرى ، ولأن الله الواحد هو { العزيز الحكيم } أي الغالب على أمره ، ومع أنه غالب على أمره فهو حكيم في تصرفه .
لكن هل اتعظ القوم الذين جادلوا؟ لا ، إن الحق يقول : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين . . . }
(1/1009)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
إن قوله { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يدل على أن الله قد علم أزلا أنهم لن يقبلوا المباهلة ، وهكذا حكموا على أنفسهم بأنهم المفسدون ، فصدق الحق سبحانه في قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } ومع ذلك فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدين الكامل لأنهم مؤمنون بالإله ، وبالسماء ، وبالكتاب ، لذلك يقول الحق : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ . . . }
(1/1010)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
إنها دعوة إلى كلمة مستوية لا التواء فيها { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } وهذا أمر لا جدال فيه ، ثم { وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أي لا ندخل معه من لا يقدر على الارتفاع إلى جلال كماله ، فالعقول السليمة ترفض كلمة " الشرك "؛ لأن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق أشركوه في الألوهية إنما جاء من بعد أن خلق الله الكون . أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟
إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لأن الحق سبحانه قادر على إدارة هذا الكون ، وأنزل منهجا إذا ما اتبعه الإنسان صار الكون منسجما ، إذن فأي شرك لا لزوم له . وإن كان - والعياذ بالله - له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات الإله الثاني . وهذا عجز في قدرة هؤلاء الآلهة ، ولهذا يحسم الحق هذا الأمر بقوله الكريم : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91 ] .
إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة ، وبعد ذلك يقول الحق : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } . أي ألا نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة ، يضع الواحد منهم الحلال لنا أو الحرام علينا ، فالتحليل والتحريم إنما يأتي من الله ، وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم . ثم يقول الحق : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ : اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي إن من لا يقبل عبادة الإله الواحد الذي لا شريك له ولا أرباب تحلل أو تحرم ، إنما يريد أربابا وشركاء ، وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية الإيمان؛ لأن قضية الإيمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة ، وهو مصدر الأمر في الحركة وهو الواحد الأحد ، فلا تتضارب الحركات في الكون .
إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج الله ب " افعل " و " لا تفعل " فلو أن هناك إلها قال : " افعل " وإلها آخر قال : " لا تفعل " ، لكان معنى ذلك والعياذ بالله أن هؤلاء الآله أغيار لها أهواء . والحق سبحانه يحسم هذا بقوله : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] .
وهكذا كانت دعوة الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ، إنها آية تحمل دعوة مستوية بلا نتوءات ، فلا عبادة إلا لله ، ونحن لا نأخذ " افعل " و " لا تفعل " إلا من الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم ، فإن رفضوا وتولوا ، فليقل المؤمنون : { اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي أنه لا يوجد إلا إله واحد ، ولا شركاء له ، وبعضنا لا يتخذ بعضا أربابا ، وتلك شهادة بأن الإسلام إنما جاء بالأمرالمستوى الذي لا عوج ولا نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به .
وبعد ذلك يقول الحق : { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ . . . }
(1/1011)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
إن الحق يسألهم : لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل الله؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى موسى ، والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى ، وإبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا كما يدعي اليهود ، فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى لا يمكنهم الادعاء بأن إبراهيم كان نصرانيا ، لأن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلام ، فلم المحاجة إذن؟ لقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والإنجيل؟
وبعد ذلك يقول الحق : { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ . . . }
(1/1012)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح ، تجادلوا في كل شيء ، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علام الغيوب .
ويوضح الحق هذا الأمر فيقول : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً . . . }
(1/1013)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ، لأن اليهودية جاءت من بعده . ولم يكن إبراهيم نصرانيا ، لأن النصرانية جاءت من بعده ، لكنه وهو خليل الرحمن { كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } ونحن نفهم أن كلمة { حَنِيفاً } تعني الدين الصافي القادم من الله ، والكلمة مأخوذة من المحسات ، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل ، أي اعوجاج في الرجلين ، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ .
وهنا يتساءل الإنسان ، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا ، والحنف عوج؟ وهنا نقول : إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة ، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا . وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج ، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم ، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ . والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية . والخلية الإيمانية تستيقظ مرة ، فتلتزم ، وتغفل مرة ، فتنحرف ، ثم يأتي الاستيقاظ بعد الانحراف ، فيكون الانتباه ، وهكذا توجد النفس اللوامة ، تلك النفس التي تهمس للإنسان عند الفعل الخاطئ : أن الله لم يأمر بذلك .
ويعود الإنسان إلى منهج الله تائبا ومستغفرا ، فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة بالسوء ، وهي التي تتجه دائما إلى الانحراف ، وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن تقاوم وتقوّم المعوج ، وهي نفوس من البيئة والمجتمع ، فمرة يكون الاعتدال والاتجاه إلى الصواب بعد الخطأ قادما من ذات الإنسان أي من النفس اللوامة ، ومرة لا توجد النفس اللوامة ، بل توجد النفس الأمارة بالسوء ، لكن المجتمع الذي حول هذا الإنسان لا يخلو من أن يكون فيه خلية من الخير تهديه إلى الصواب ، أما إذا كانت كل الخلايا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن الذي يعدلها ويصوبها؟
هنا لابد أن يأتي الله برسول جديد ، لأن الإنسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلاياها الإيمانية ، ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخلايا الطيبة ، وهكذا يطم الظلام ويعم ، فيرسل الله رسولا ليعيد شعلة الإيمان في النفوس . والله سبحانه وتعالى قد ضمن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يأتي لها نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا فمن الضروري أن يوجد فيها الخير ويبقى ، فالخير يبقى في الذات المسلمة ، فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب ، وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس الأمارة إلى الصواب .
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير ، أما الأمم الأخرى السابقة فأمرها مختلف؛ فإن الله يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس ، ويعم ظلام الفساد فتتدخل السماء ، وحين تتدخل السماء يقال : إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه .
(1/1014)
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا ، أي مائلا عن المائل ، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم ، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة . وهكذا نفهم قول الحق : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء ، ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت ، وكذلك النصرانية لكان من المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لأن الأديان لا تختلف في أصولها ، ولكن قد تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور ، ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم ، أي لا يكون موافقا لهم في عقيدتهم ، وكذلك لا يمكن أن يكون نصرانيا للأسباب نفسها ، لكنه { كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } أي أنه مائل عن طريق الاعوجاج .
قد يقول قائل : ولماذا لم يقل الله : " إن إبراهيم كان مستقيما " ولماذا جاء بكلمة " حنيفا " التي تدل على العوج؟ ونقول : لو قال : " مستقيما " لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد كانوا في عوج وضلال ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه { كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً } وكلمة { مُّسْلِماً } تقتضي " مسلما إليه " وهو الله ، أي أنه أسلم زمامه إلى الله ، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج .
وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب " افعل ولا تفعل " وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما ، ونوحا عليه السلام كان مسلما ، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين .
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌسْلَم إليه؛ وهو الله ، ويطبق المنهج الذي نزل إليه ، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة ، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ب " افعل ولا تفعل " ولم يعد هناك أمر جديد يأتي ، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد اكتملت الغاية من الإسلام ، ونزل المنهج بتمامه من الله . واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة ، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة ، أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم . لذلك قال الحق : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه . . . }
(1/1015)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة ، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل ، وكذلك عيسى عليه السلام ، قال تعالى : { وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ } أي رسولا مسلما في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل ، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة ، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عليه الصلاة والسلام ، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله ، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا . وهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الأمم الإسلامية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " .
وحين يقولون : إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا . إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء . وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم ، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد ، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته ، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتبع إبراهيم عليه السلام ، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله ، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان ، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي ، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماما على أقصى ما يكون من الالتزام ، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية ، إنما كان إتماما بالشكل والمضمون معا .
والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلى خمسة فروض ، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي ، لكن هناك إنسانا آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونا وشكلا ، إنه يتم الأوامر الإلهية إتمام يرضى عنه الله .
ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه .
(1/1016)
ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر ، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء ، فبنى الكعبة بما تطوله يداه ، وبما تطوله الحيلة أيضا ، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه ، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر ، لقد أراد ان يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضا ، فلم يكن معروفا في ذلك الزمان " السقالات " وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع .
ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى تكليف الله ، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية ، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره ، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة ، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام ب " مقام إبراهيم " فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] .
إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماما للناس في دينهم لأنك أديت " افعل ولا تفعل " بتمام وإتقان . ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه ، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط ، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته ، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالبا استمرار الأمانة في ذريته : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } [ البقرة : 124 ] .
إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته ، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
أي أن المسألة ليست وراثة ، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه ، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة . إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة ، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف ، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي : " سلمان منا آل البيت " .
إن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي " أنت من العرب " لا . بل نسبه لآل البيت ، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث من تطبيق المنهج بتمامه ، لقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة ، فليس هذا الإرث بالدم ، إنما بتطبيق المنهج نصا وروحا ، كما تعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام ، لقد وعد الحق نوحا بأن ينجيه وأهله من الطوفان .
(1/1017)
ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفا على الغرق ، فيتساءل " ألم يعدني الله ان ينجي أهلي؟ " فينادي نوح عليه السلام ربَّه ، بما أورده القرآن الكريم حين قال : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } [ هود : 45 ] فيقول الحق ردا على طلب نوح نجاة ابنه : { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] .
ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } ؟ لماذا؟ { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } . إن الحق لم يقل " إنه عامل غير صالح " - الذاتية ممنوعة - لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله؛ فالإيمان ليس نسبا ، ولا انتماء لبلد ما ، أو انتماء لقوم ما ، إنه العمل ، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول ، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي ، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات .
وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر . لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة ، كما جاء في الكتاب الكريم : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ البقرة : 126 ] .
فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ لا ، بل رَزَقَ المؤمن والكافر . وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له : { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } [ البقرة : 126 ] .
إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق ، مؤمنهم وكافرهم ، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا . أما رزق المنهج فإمر مختلف ، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تجريف . وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل ، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة .
ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب ، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضا ، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات ، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام ، والله ولي المؤمنين جميعا من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن ، إيمانا صحيحا كاملا ، ومن آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . . بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ . . . }
(1/1018)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
إن المعنى " ودت " هو " تمنت " و " أحبت " . ولماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لأن المنحرف حين يرى المستقيم ، يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف الإيماني ل " افعل " و " لا تفعل " ، أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه ، وساعة يرى غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما ، فإنه يحتقر نفسه ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن : لماذا وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟
ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب الانحراف ، وعندما لا يستطيع جذب الملتزم إلى الانحراف فهو يسخر منه ، ويهزأ به ، ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب الانحراف . ألم يقل الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 29-33 ] .
وهذا ما يحدث الآن عندما يرى أهل الانحراف إنسانا مؤمنا ذا استقامة ، فيسخرون منه بكلمات كالتي تسمعها " خذنا على جناحك " أو يحاول النيل من إيمانه وعندما يعود أهل الانحراف إلى أهلهم فهم يروون بتندر كيف سخروا من المؤمنين ، وكأنهم يحققون السعادة لهؤلاء الأهل بحكايات السخرية من الإنسان المؤمن ، ويطمئن الحق المؤمنين بأن لهم يوما يضحكون فيه من هؤلاء الكفار : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34-35 ] .
ويسأل الحق أهل الإيمان : { هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 36 ] .
أي قد عرفتم كيف اجازي بالعقاب أهل الكفر .
لذلك فأولى الناس بإبراهيم هم المؤمنين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام . ولا يفتأ بعض من أهل الكفر من محاولة جذب المؤمنين إلى الضلال . إنهم يحبون ذلك ويتمنونه ، ولكن ليس كل ما يوده الإنسان يحدث ، فالتمنى هو أن يطلب الإنسان أمرا مستحيلا أو عسير المنال ، هم يحبون ذلك ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون ، يشير إلى ذلك قوله تعالى : { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
إنهم يتمنون إضلال المؤمنين ، لكن هل يستطيعون الوصول إلى ذلك؟ لا : والمثال على ذلك هو ما يفعله بعض أهل الكتاب من اليهود عندما ذهبوا إلى معاذ بن جبل وإلى حذيفة الصحابيين الجليلين ، وذهبوا أيضا إلى عمار الصحابي الجليل وحاولوا فتنة معاذ وحذيفة وعمار لكنهم لم يستطعوا .
وعلينا أن نعرف أن " الضلال " يأتي على معان متعددة ، فقد يأتي الضلال مرة بمعنى الذهاب والفناء في الشيء ، مثل قوله الحق : { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }
(1/1019)
[ السجدة : 10 ] .
لقد تساءل المشركون " أبعد أن نذوب في الأرض وتتفكك عناصرنا الأولية نعود ثانية ، ونُبعث من جديد؟ " . وقد يأتي الضلال مرة أخرى بمعنى عدم اهتداء الإنسان إلى وجه الحق ، كما قال الحق وصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما رفض عبادة الأصنام وظل يبحث عن المنهج الحق . { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى } [ الضحى : 7 ] .
أي أنك يا محمد لم يعجبك منهج قريش في عبادة الأصنام ، وظللت تبحث عن المنهج الحق ، إلى أن هداك الله فأنزل إليك هذا المنهج القويم . لقد كنت ضالا تبحث عن الهداية ، فجاءتك النعمة الكاملة من الله .
وهناك لون آخر من الضلال ، وهو أن يتعرف الإنسان على المنهج الحق ، لكنه ينحرف عنه ويتجه بعيدا عن هذا المنهج مثل قول الحق : { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } .
ونتساءل : كيف يحدث إضلال النفس؟ وتكون الإجابة هي : أن الضال الذي يعرف المنهج وينكره إنما يرتكب إثما ، ويزداد هذا الإثم جُرماً بمحاولة الضال إضلال غيره ، فهو لم يكتف بضلال ذاته بل يزداد ضلالا بمحاولته إضلال غيره . وهذا القول الكريم قد حل لنا إشكالا في فهم قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } [ فاطر : 18 ] .
وفي فهم قوله - جل شأنه - : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] .
وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلال في الذات والأوزار في سورة النحل هي لإضلال غيرهم فهولاء الضالون لا يكتفون بضلال أنفسهم ، بل يزيدون من ضلال انفسهم اوزاراً بإضلال غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلالا مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملة . { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
إنهم لا يشعرون بالكارثة التي سوف تأتي من هذا الضلال المركب الذي سينالون عليه العقاب . ولو أنهم تعمقوا قليلا في الفهم لتوقفوا عن إضلال غيرهم ، ولو بحثوا عن اليقين الحق لتوقفوا عن ضلال أنفسهم .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله . . . }
(1/1020)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
إن الحق يسألهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لم تكفرون بآيات الله العجيبة وأنتم تشهدون؟ وهنا قد يسأل سائل هل شهد أهل الكتاب الآيات العجيبة في زمن رسول الله؟
والإجابة هي : ألم يستفتح اليهود على من يقاتلونهم بمجيء نبي قادم؟ إنهم كانوا يدعون الله قائلين : إنا نسألك بحق النبي الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم فكانوا يُنصرون على أعدائهم فلما بعث - صلى الله عليه وسلم - كفروا به بغيا وحسداً قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ] .
لقد كفروا من أجل السلطة الزمنية . فقد كانوا يريدون الملك والحكم . وهذا عبد الله بن سلام الذي كان يهوديّاً فأسلم قد قال عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد " .
إذن فمعرفتهم بنعت رسول الله ووصفه موجودة في آيات التوراة ولقد شهدوا الآيات البينات ، لكنهم أنكروا الآيات طمعا في السلطة الزمنية حتى ولو تطلب ذلك أن يُحرِّف بعضهم منهج الله سبحانه وتعالي ويحوّلوا هذا التحريف إلى سلطة زمنية فاسدة كهؤلاء الذين باعوا صكوك الغفران ولذلك قال الحق عن هؤلاء الذين يحرفون منهج الله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ] .
إن العذاب هو مصير هؤلاء الدين يحرفون كلام الله ومنهجه .
ويقول الحق سبحانه : { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل . . . }
(1/1021)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
ومعنى " تلبس " هو إدخال شيء في شيء ، فنحن عندما نرتدي ملابسنا ، إنما ندخل أجسامنا في الملابس ، وبهذا يختلف منظر اللابس والملبوس .
وفي مجال الدعوة إلى الله نجد دائما الحق وهو يواجه الباطل ، إنهم يخلطون الحق بالباطل فهذه الآية تتحدث عن محاولة من بعض أهل الكتاب لإلباس الحق بالباطل ، وقد حدث ذلك عندما حرفوا التوراة والإنجيل وأدخلوا فيها ما لم يأت به موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام ، وكانت هذه هي محاولة ضمن محاولات أخرى لإلباس الحق بالباطل ، ثم جاءت أكبر المحاولات لإلباس الحق بالباطل وهو إنكارهم للبشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، رغم أنها وردت في كتبهم السماوية .
لقد أعلنوا الإيمان بموسى أو عيسى ، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لقد أنكروا بشارة موسى وعيسى برسالة محمد الخاتمة ، وكان ذلك قمة إلباس الحق بالباطل ، لأنهم أعلنوا الإيمان برسولين ثم أنكروا الإيمان بالنبي الخاتم وذلك لأنهم كانوا يعلمون أن الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله هو الدين الحق ، وكانوا إذا ما خلوا إلى أنفسهم عرفوا ذلك ولكنهم يجحدونه . { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .
ومع ذلك فهم يحاولون العثور على حيلة ليبتعد بها الناس عن تلك الرسالة الخاتمة ، تماديا منهم في الكفر ، ونزل قول الحق : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ . . . }
(1/1022)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
لقد أراد بعض من أهل الكتاب أن يشككوا المسلمين في أمر المنهج ، لذلك اصطنعوا تلك الحيلة ، فالمؤمنون من العرب وقريش في ذلك الزمن كانوا أميين وكانوا يعرفون أن أهل الكتاب على علم بمناهج السماء ، ولم يكن القرآن كله قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا ما آمن بعض منهم برسالة رسول الله وجه النهار وكفروا به آخر النهار فهذا خلط للحق بالباطل . وفي هذا خداع للمؤمنين .
ولنا أن نعرف أن { وَجْهَ النهار } مقصود به ساعات الصباح والظهر ، فالوجه هو أول ما يواجه في أي أمر ، ونحن نأخذ ذلك في أمثلة حياتنا اليومية ، فنقول عن بائع الفاكهة : " لقد صنع وجها للفاكهة " ، أي أنه قد وضع أنضج الثمار في واجهة العربة ، وأخفى خلف الثمار الصالحة الناضجة ثمارا أخرى فاسدة . وعندما يفعل التاجر مثل هذا الفعل فمقصده الغش والخداع ، لأن الإنسان إذا ما اشترى أي مقدار من هذه الفاكهة فسيجد ربع ما اشترى هو من واجه الفاكهة ، والباقي من الثمار الفاسدة .
وكذلك حاول بعض من أهل الكتاب أن يخدعوا المؤمنين بإعلان الإيمان أول النهار ثم إعلان الكفر آخر النهار ، والهدف بطبيعة الحال هو إشاعة الشك وزراعة البلبلة في نفوس المؤمنين بخصوص هذا الدين ، فقد يقول بعض من الأميين : " لقد اختبر أهل الكتاب هذا الدين الجديد وهم أهل علم بمناهج السماء ولم يجدوه مطابقا لمناهج السماء " .
أو أن الآية قد نزلت في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة ، فإذا كان الحق سبحانه قد أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، فالكافرون من أهل الكتاب أرادوا نقض ذلك ، وقالوا : " فلنسمع أول النهار كلام محمد ونتوجه في الصلاة إلى الكعبة ثم نصلي آخر النهار ونجعل قبلتنا بيت المقدس " .
وكأن الحق قد أراد بذلك أن يكشف لنا أن كل أساليب الكفر هي من تمام قلة الفطنة وعدم القدرة على حسن التدبر ، لقد أرادوا إشعال الحرب النفسية ضد المسلمين ، لعل بعضا من المسلمين يتشككون في أمر الدين الجديد ، لكنهم دون أن يلحظوا أنهم قد فضحوا أنفسهم ، واعترفوا دون قصد منهم بأن الذين آمنوا بالقرآن هم المؤمنون حقا بينما هم قد أخذوا لأنفسهم موقف الكفر الذي هو نقيض للإيمان ، قال سبحانه حكاية عنهم : { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ } فهم قد ارتضوا لأنفسهم الكفر .
لقد أعلن هؤلاء المشككون التصديق بالإسلام؛ وذلك ليعرف الناس عنهم ذلك ، ولكونهم أهل كتاب فهم قادرون على الحكم عليه ، فإذا ما رجعوا عن الإسلام من بعد معرفته ، فسيقولون : إن رجوعنا ليس بسبب الجهل أو التعصب ، إنما بسبب اختبارنا لهذا الدين ، فلم نجده مناسبا ولا متوافقا مع ما نزل على رسولنا . وهذا من أساليب الحرب النفسية .
والحق سبحانه وتعالى يكشف ذلك المكر والخداع للذين حاولوا أن يكتموا خداعهم ولعبتهم الماكرة ، والتي أرادوا بها التشكيك والخداع . فَيُنزل على رسوله هذا القول الحق : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله . . . }
(1/1023)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
إن الحق سبحانه يكشف للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به من الأميين لعبة إيمان بعض من أهل الكتاب بالإسلام وجه النهار والكفر به آخر النهار ، لقد طالب المتآمرون بعضهم بعضا أن يظل الأمر سرا حتى لا يفقد المكر هدفه وهو بلبلة المسلمين من الأميين ، ولذلك قال هؤلاء المتآمرون بعضهم لبعض : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أي لا تكشفوا سر هذه الخدعة إلا لمن هو على شاكلتكم ، لكن الحق يكشف هذا الأمر كله بنزول هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلاغه إياها للمؤمنين ، وبذلك فسد أمر تلك البلبلة ، وارتدت الحرب النفسية إلى صدور من أشعلوها ، ويستمر القول الكريم في كشف خديعة هؤلاء البعض من أهل الكتاب فيقول سبحانه : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } .
إن الحق سبحانه يكشف فعل الماكرين من أهل الكتاب الذين أرادوا إعلان الإيمان أول النهار كلون من " هدى النفس " لكنه من صميم الضلال والإضلال وذريعة له ، ولم يكن هدى من الله؛ لأن هدى الله إنما يوصل الإنسان إلى الغاية التي يريدها الله ، وهؤلاء البعض من أهل الكتاب أرادوا بالخديعة أن يجعلوا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أتباع يؤمنون بالإسلام؛ لقد تواصي هؤلاء القوم من أهل الكتاب بأن يكتموا اتفاقهم على تمثيل الادعاء بالإيمان وجه النهار والكفر به في آخره ، وألا يعلنوا ذلك إلا لأهل ديانتهم حتى لا يفقد المكر هدفه ، وهو بلبلة المسلمين .
لقد أخذهم الخوف؛ لأن الناس إن أخذوا بدين محمد صلى الله عليه وسلم لأوتوا مثلما أوتي أهل الكتاب من معرفة بالمنهج ، بل إن المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج الخاتم ، وأهل المكر من أهل الكتاب إنما أرادوا أن يحرموا الناس من الإيمان ، أو أنهم خافوا أن يدخل المسلمون معهم في المحاجة في أمر الإيمان ، وكان كل ذلك من قلة الفطنة التي تصل إلى حد الغباء .
لماذا؟ لأنهم توهموا أن الله لا يعرف باطن ما كتموا وظاهر ما فعلوا ، إنهم تناسوا أن الحق يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وتطابق ذلك مع سابق فعلهم عندما خرجوا من مصر ، وذهبوا إلى التيه أثناء عبور الصحراء ، وادعوا أن الله قال لموسى عليه السلام : " علموا بيوتكم أيها الإسرائيليون ، لأني سأنزل وأبطش بالبلاد كلها " . وكأنهم لو لم يضعوا العلامات على البيوت فلن يعرفها الله ، إنه كلام خائب للغاية بل هو منتهى الخيبة والضلال ، ويبلغ الحق رسوله الكريم : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
وما دام الفضل بيد الله فلن تستطيعوا يا أهل المكر بالمسلمين أن تأخذوا أناسا كما تودون ، وبعد ذلك تريدون أن تخدعوهم؛ لأن الفضل حين يؤتيه الله لمن آمن به فلن ينزعه إلا الله .
فالحيلة لن تنزع فضل الإيمان بالله مادام قد أعطاه الله ، والله واسع بمعنى أنه قادر على إعطاء الفضل لكل الخلق ، ولن ينقص ذلك من فضله شيئا ، والحق سبحانه عليم بمن يستحق هذا الفضل لأن قلبه مشغول بربه .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ . . . }
(1/1024)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
إن أحدا ليس له حق على الله؛ فكل لحظة من لحظات الحياة هي فضل من الله ، وهو سبحانه يعطي رحمته بالإيمان بمنهجه لمن يشاء وهو صاحب الفضل المطلق .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ . . . }
(1/1025)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
إنه مطلق الإنصاف الإلهي ، فإذا كان الحق قد كشف للرسول بعضا من مكر أهل الكتاب فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم كلهم أهل سوء ، لا ، بل منهم مَنْ يتميز بالأمانة ، وهذا القول إنما يؤكد إنصاف الإله المنصف العدل .
إن الحق سبحانه يخاطب النفوس التي يعلمها ، فهو يعلم أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، قد نزلت رحمة للناس أجمعين ، ويخاطب بها العالم كله بما فيه من أهل الكتاب ، وهم الذين يعرفون الآيات والعلامات التي تدل على مجيء رسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنهم أناس قد جعلوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في بؤرة شعورهم ليدرسوها ويؤمنوا بها . ولو أن الله قد جعل الحملة على كل أهل الكتاب ، لقال الذين كفروا في الإيمان برسول الله : " كنا نفكر في أن نؤمن ، ونحن نريد أن ننفذ تعاليم الله لنا لكن محمدا يشن حملة على كل أهل الكتاب ونحن منهم " .
فساعة يقول الله إن بعضا من أهل الكتاب يتميزون بالأمانة فإن من تراوده فكرة الإسلام يقولون : إن محمد صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا عن نور من ربه ، لكن لو عمم القرآن الحكم على الكل ، لتساءل الذين ينشغلون برغبة الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم " لماذا يعم الحكم الجميع ونحن نسير في الطريق إلى الإيمان؟ " .
ولهذا يضع الحق القول الفصل في أن منهم أناساً يتجهون إلى الإيمان : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] .
وفي هذا ما يطمئن الذي شغلوا أنفسهم بدراسة هذا الدين والتفكير في أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
لو كان القرآن قد نزل بلعنتهم جميعا لقال الذين يفكرون منهم في الإيمان " نحن لسنا كذلك ولا نستحق اللعنة ، فلماذا يأتي محمد بلعنتنا؟ " .
لذلك نرى القول بأن { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } العدل المطلق في الإنصاف :
وقد قال بعض المفسرين : إن القرآن يقصد هنا من { أَهْلِ الكتاب } النصارى؛ لأن منهم أصحاب ضمير حي ، ونحن نعرف أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وفي هذا التفسير إنصاف للنصارى فصفة الخير لهم لا ينكرها الله ، بل يشيعها في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم الدين ، وذلك ليصدق أيضا أهل الكتاب أيَّ أمر سيء تنزل فيه آيات من القرآن ، لأن القرآن منصف مطلق الإنصاف . فما دام قد قال خصلة الخير فيهم فلا بد أن يكون صادقا عندما يقول الأمور السيئة التي اتصفوا بها .
(1/1026)
وعندما يقول الحق سبحانه : " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك " فالقنطار هنا للمبالغة في القدر الكبير من المال ، وكلمة الأمانة حينما نستعرضها في كتاب الله عز وجل نجد أنها مرة تتعدى بالباء ، كمثل هذه الآية { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } ومرة تتعدى ب " على " : { قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [ يوسف : 11 ] وقوله الحق { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } [ يوسف : 64 ] .
إن مادة الأمانة تأتي متعدية مرة بالباء ، ومرة متعدية ب " على " .
وكل حرف من هذين الحرفين له حكمة ، فالمتكلم هو الله .
إن الأمانة هي شيء يأتمن فيه مؤتمِن على مؤتمَن ولا حجة لصاحب الشيء المؤتَمَن عليه إلا ذمة المؤتمَن فإن كانت العلاقة بينهما محكومة بإيصال أو عقد ، أو شهود فهذه ليست أمانة إنما الأمانة هي ما يعطيها انسان لاخر فيما بينهما ، وبعد ذلك فالمؤتمن بعد ذلك إما أن يُقِرّبها وإمّا لا يقِرّبها .
وقلنا سابقا : إن على المؤمن الحق أن يحتاط للأمانة ، لأن هناك وقتاً تتحمل فيه الأمانة ، وهناك وقت آخر تؤدي فيه الأمانة إن طلبها صاحبها .
ومثال تحمل الأمانة كأن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال ، ويقول : " احفظ هذا المبلغ أمانة عندك " فتقول له : نعم سأفعل . وتأخذ المبلغ ، إن هذا الفعل يسمى " التحمل " ، وعندما يأتي صاحب المال ليطلبه فهذا اسمه " الأداء " والكل يضمنون أنفسهم وقت التحمل ، وقد تكون النية هكذا بالفعل ، ولكن المؤمن الحق لا يأمن ظروف الأغيار ، فمن المتحمل أنه عندما يأتي صاحب المال ليطلبه من المؤتمَن يجد المؤمن نفسه وقد انشغل بالأغيار ، فقد تكون ظروف الحياة قد داهمته مما دفعه ليتصرف في الأمانة أو أن تكون نفسه قد تحركت ، وقالت له : وماذا يحدث لو تصرفت في الأمانة؟ إن المؤمن الحق لا يضمن نفسه وقت الأداء ، وإن ضمن نفسه وقت التحمل .
إذن يجب أن نلحظ في الأمانة ملحوظتين هما " الأداء " و " التحمل " . والذي يأخذون الأمانة وفي نيتهم أن يؤدوها ضمنوا أنفسهم وقت التحمل ، لكنهم لا يضمنون أنفسهم وقت الأداء لذلك فالمؤمن المحتاط يقول لنفسه : ولماذا أعرض نفسي لذلك ، فقد يأتي وقت الأداء فلا أستطيع ردّها لصاحبها .
لذلك يقول لصاحب الأمانة : أرجوك ابتعد عني فأنا لن أحمل هذه الأمانة .
إنه خائف من وقت الأداء وذلك ما حدث في أمانة التكليف والاختيار والتي قال عنها الحق سبحانه : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
إن السماء والأرض والجبال طلبوا ألا يكون لهم اختيار وأن يظلوا مقهورين؛ لأنهم لا يضمنون لحظة الأداء ، أما الإنسان فلأنه ظلوم جهول فقد قال : " لا ، إنني عاقل وسأرتب الأمور " فالإنسان ظلوم لنفسه ، وجهول لأنه لم يعرف ماذا يفعل وقت الأداء .
(1/1027)
لذلك نرى هنا القول الحق : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } ونجد الأمانة متعدية بالباء ، فمعنى الباء - في اللغة - الإلصاق ، أي التصق القنطار بأمانته ، فأصبح هناك ارتباط وامتزاج ، وإياك ساعة الأداء أن تفصل الأمانة عن القنطار ، فساعة يغريك قنطار الذهب ببريقه فعليك أن تلصق الأمانة بالقنطار ، وإياك أن يغريك قنطار فتترك أمانتك لأنك إن نظرت إلى القنطار دون أن تنظر إلى الأمانة فهذه هي الخيبة .
أما استعمال " على " مع الأمانة ، ف " على " في اللغة تأتي للاستعلاء والتمكن ، أي اجعل الأمانة مستعلية على القنطار ، وبذلك تصير أمانتك فوق القنطار ، فساعة تحدثك نفسك بأن تأخذ القنطار لأنه يدير لك حركة حياتك ، ولأنه يخرجك إلى دنيا عريضة مغرية فتذكر عز الأمانة ، ولهذا نجد الفقهاء قد قالوا بقطع يد السارق في ربع دينار ، وجعلوا دية قطع يد إنسان لم يسرق خمسمائة دينار وتساؤل البعض قائلا :
يد بخمس مئين عسجد وديت ... مابالها قطعت في ربع دينار
فقال فقيه ردا على ذلك المعترض :
عز الأمانة أغلاها ، وأرخصها ذل ... الخيانة ، فافهم حكمة الباري
إذن قول الحق سبحانه وتعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } هذا القول جاء بالباء ليلصق الأمانة بما اؤتمن عليه ولا يفصل بينهما أبدا لأنه لو فصل الأمانة وعِزَّها عن القنطار ربما سولت له نفسه أن يأخذ القنطار ويترك الأمانة .
وكذلك عندما تأتي الأمانة متعدية بعلى ، تكون الأمانة فوق الشيء المؤتمن عليه ، فالأمانة يجب أن تكون مستعلية على الشيء مهما غلت قيمته ، ويقول الحق من بعد ذلك : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } أي أن تكون دائم السؤال عن دينارك الذي ائتمنت عليه ذلك الإنسان ، وأن تلح في طلب دينارك .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } وقد قام بعض من بني إسرائيل على عهد رسول الله ، يخديعة الأميين من العرب المؤمنين فأنكروا حقوقهم . والمقصود بالأميين هنا المؤمنون الذين لم يكونوا من أهل الكتاب ، أو هم المنسوبون إلى الأم كما قال الحق : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] .
أو أن يكون المقصود " بالأميين " أهل مكة ، فقد كانوا يسمونهم كذلك لأنهم منسوبون إلى أم القرى " مكة المكرمة " .
من أين جاء أهل الكتاب إذن بهذا الأسلوب المزدوج في معاملة الناس؟ ومن الذي وضع هذا المنهج الذي يقضي بخديعة المؤمنين الأميين؟ وهل الفضائل ومنازل الخلق تختلف في المعاملة من إنسان إلى آخر؟ وهل يقضي الخلق القويم أن يأخذ إنسان الأمانة وينكرها إذا كانت لرجل أمي؟ ويرد الأمانة ويعترف بها إن كانت ليهودي؟ هل يصح أن يقرض إنسان أمواله بالربا لغير اليهود ، ويقرض اليهود دون ربا؟ إذن تكون هذه المعاملات مجحفة ، هنا فضيلة ، وهناك لا فضيلة ، لا ، إن القضية يجب أن تكون مستوية ومكتملة في كل وقت وكل زمان ولكل إنسان ، ولا ينبغي أن تتنوع .
(1/1028)
من أين إذن جاءوا بهذا القول وهم أهل كتاب؟ إن هذا ضد منهج الكتاب الذي أنزله الله عليهم بل هو من التحريف والتحوير لقد خدعوا أنفسهم وألصقوا بالتشريع ما ليس فيه ، فالكتاب السماوي الذي نزل عليهم ليس به تصنيف البشر صنفين : صنف هم أهل الكتاب ولهم معاملة خاصة ، وصنف هم الأميون ولهم معاملة أخرى ، وكان عليهم ان يتعلموا من عدالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملتهم .
لقد أرخ لهم رسول الله بالنص المنزل عليه من الله التأريخ الصادق والعادل ، في هذا القول الكريم الذي نتناوله بالخواطر إنما يسجل تاريخ اليهودية مع الإسلام . وهذا التأريخ لم يصدر فيه الله حكما واحدا يشملهم جميعا ، بل أنصف أصحاب الحق منهم ، وإن كانوا على دين اليهودية ، وبذلك استقر في أذهان المنصفين منهم أن الإسلام قد جاء بكل الحق ، فلو كان الإسلام قد أصدر حكما واحدا ضد كل اليهود سواء من وقف منهم ضد دعوة رسول الله أو المنصف منهم الذي تراوده فكرة الإيمان بالإسلام ، لو كان مثل ذلك الحكم العام الشامل قد صدر لقال المنصفون من اليهود : نحن نفكر في أن نؤمن بالإسلام فكيف يهاجمنا الإسلام هذه المهاجمة؟ لكن الإسلام جاء لينصف فيعطي كل ذي حق حقه .
وهؤلاء هم الذين يؤرخ الله لهم بالقول : { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } وتلك شهادة على صدق اليقين من هؤلاء ، أما الذين طغت عليهم المادة فهؤلاء هم الذين جاء فيهم القول الحكيم : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } وهذا هو التأريخ الصادق لمن طغت عليهم المادة فلا يرد الإنسان منهم ما عليه إلا بعد الملاحقة والمطاردة ، وهكذا يبلغنا القرآن التاريخ بصدق .
والعلة في أن الذي يؤتمن على قنطار ويؤديه هو إنسان ملتزم أمامه إله موصوف باسم الحق ، ولا يريد الله من عباده إلا أن يواجهوا حركة حياتهم بالحق .
وأكرر هنا مرة أخرى ، إن كلمة " الأمانة " ترد في القرآن الكريم مرة وهي متعدية ب " على " ، ومرة أخرى وهي متعدية بالباء ، لأن الباء تأتي في اللغة لإلصاق شيء بشيء آخر ، فكأنك إذا اؤتمنت أيها المسلم فلا بد أن تلتصق بالأمانة حتى تؤديها ، وكذلك جاءت الأمانة متعدية ب " على " ، أي أنك أيها المؤمن إذا اؤتمنت فعليك أن تستعلي على الشيء الذي اؤتمنت عليه .
(1/1029)
فإذا ما اؤتمنت على مائة جنيه مثلا فلا تنظر إلى ما يعود عليك من نفع إذا ما تصرفت في هذا المبلغ ، بل يجب أن تستعلي على تلك المنفعة . فإياك أن تغش نفسك أيها المؤمن بفائدة ونفاسة الشيء الذي تختلسه من الأمانة ، بل قارن هذا الشيء بالأمانة فستجد أن كفة الأمانة هي الراجحة .
والذين استباحوا خيانة الأمانة من أهل الكتاب ، إنما عميت بصيرتهم عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نال الشهرة بالأمانة سواء قبل الرسالة أو بعدها . وعميت أبصارهم ، إن الدين الحق لا يفرق في أداء الأمانة بين صنف من البشر ، وصنف آخر؛ فالدين الحق يضم تشريعا من إله خلق الجميع وهكذا نجد أن تشريعهم بالتفرقة في أداء الأمانة هو تشريع من عند أنفسهم ، وليس من الرب المتولي شئون خلقه جميعا ، ويدحض الحق القضية التي حكموا بوساطتها أن يعاملوا الأميين معاملة تختلف عن معاملتهم لأهل الكتاب ، فقال سبحانه : { ويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
يعلمون ماذا؟ يعلمون ان قولهم كذب ، فهم يعرفون الحكم الصحيح وينحرفون عنه ، وياليتهم قالوا : إن ذلك الحكم من عند أنفسهم ، لكنهم ينسبون ذلك إلى تعاليم دينهم ، وتعاليم الدين - كما قلنا - مأخوذة من الله ، وهم بذلك - والعياذ بالله - يفترون على الله كذبا بأنه خلق خلقا ثم صنفهم صنفين : صنفاً تؤدى الأمانة له ، وصنفاً لا تؤدى الأمانة له ، وهكذا كذبوا على الله وعلموا أنهم كاذبون ، وهذا هو الافتراء . وهم أيضا يعلمون العقوبة التي تلحق من يكذب على الله ورغم ذلك كذبوا .
لقد حذف الحق في هذه الآية المفعول به فلم يقل : " يعملون كذا " . الحق حين يحذف " المفعول " فهو يريد أن يعمم الفهم ويريد أن يعمم الحركة ، إنه سبحانه يريد أن يبلغنا بأن هؤلاء يعلمون أن قولهم هذا كذب ، ويعلمون عقوبة ذلك الكذب . . وساعة تأتي قضية منفية ثم يأتي بعدها كلمة " بلى " فإنها تنقض القضية التي سبقتها ومعنى ذلك أنها تُثْبِت ضدها . لقد قالوا :
" ليس علينا في الأميين سبيل " وهذه قضية منفية ب " ليس " ، والحق يقول في الآية التالية : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
(1/1030)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
إن قول الحق في بداية هذه الآية { بلى } إنما جاء لينقض القضية السابقة التي ادعاها أهل الكتاب ، وكأن الحق يقول : أيْ عليكم في الأميين سبيل؛ لأن المشرع هو الله ، والناس بالنسبة له سبحانه سواء .
وبعد ذلك يأتي قول الحق بقضية عامة :
{ مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 76 ]
ما العهد هنا؟ وأي عهد؟
إنه العهد الإيماني الذي ارتضيناه لأنفسنا بأننا آمنا بالله وساعة تؤمن بالإله فمعنى إيمانك به هو حيثية قبولك لكل حكم يصدر منه سبحانه ، وأن تلتزم بما يطلبه منك . وإن لم تلتزم بما يطلبه منك كان إيمانك بلا قيمة؛ لأن فائدة الإيمان هو الالتزام . ولذلك قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد تشريع حكم لمن آمن به ينادي أولا يأيها الذين آمنوا كتب عليكم كذا ، إن الحق سبحانه لا ينادي في التكليف كل الناس ، إنما ينادي من آمن وكأن سبحانه يقول : " يا من آمن بي إلها ، اسمع مني الحكم الذي أريده منك . أنا لا أطلب ممن لم يؤمن بي حكما ، إنما أطلب ممن آمن " .
وهنا يقول الحق : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وقد يفهم البعض هذا القول بأن من أوفى بعهده الإيماني واتقى الله في أن يجعل كل حركاته مطابقة ل " افعل ولا تفعل " فإن الله يحبه . هذا هو المعنى الذي قد يُفهم للوهلة الأولى ، لكن الله لم يقل ذلك ، إن " الحب " لا يرجع إلى الذات بل يرجع إلى العمل ، لقد قال الحق : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
إن الإنسان قد يخطئ ويقول : " لقد أحبني الله ، وسأفعل من بعد ذلك ما يحلو لي " ونحن نذكر صاحب هذا القول بأن الله يحب العمل الصالح الذي يؤديه العبد بنية خالصة لله وليس للذات أي قيمة ، لذلك قال : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
إن الذي أوفى بعهده واتقى سيحب الله فيه التقوى ، وإياك أن تفهم أن الحب من الله للعبد سيصبح حبا ذاتيا ، لكنه حب لوجود الوصف فيه ، فاحرص على أن يكون الوصف لك دائما ، لتظل في محبوبية الله .
ولذلك نقول : إن الحق سبحانه وتعالى أوضح لنا أن الذات تتناسل من ذات ، والذوات عند الله متناسلة من أصل واحد . فالجنس ليس له قيمة ، إنما القيمة للعمل الصالح .
وقد ضربنا المثل قديما ، وقلنا : إن الحق سبحانه وتعالى حينما وعد نوحا عليه السلام بأن ينجيه من الغرق هو وأهله ، ثم فوجئ نوح بأن ابنه من المغرقين ، قال سبحانه حكاية عما حدث : { قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين }
(1/1031)
[ هود : 43 ] .
ماذا فعل نوح عليه السلام؟ لقد نادى ربه طالبا نجاة ابنه : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } [ هود : 45 ] ويعلمنا الله من خلال رده على نوح ، أن أهل الأنبياء ليسوا من جاءوا من نسلهم ، إنما أهل الأنبياء هم من جاءوا على منهجهم ، لذلك قال الحق لنوح عن ابنه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] .
لماذا يكون ابن نوح ليس من أهل نوح؟ ذلك لأن أهل النبوة هم الذين يتبعون منهج النبوة ، ولذلك لم يقل الحق لنوح عن ابنه : " إنه عامل غير صالح " لكن الحق سبحانه قال عن ابن نوح : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } . . لقد نسب الحق الأمر إلى العمل .
إذن فالحكمة هي أن الله سبحانه وتعالى في أسلوبه القرآني يوضح لنا أن الله لا يحب شخصا لذاته ، إنما لعمله وصفاته فلم يقل : " من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحبه " ، لأن " الهاء " هنا ترجع إلى الذات ، إن في ذلك إيضاحاً كامل البيان بأن الله يحب عمل العبد لا ذات العبد ، فإن حرص العبد على محبوبية الله فذلك يتطلب من العبد أن يظل متبعا لمنهج الله ، وبعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة . . . }
(1/1032)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
وساعة نسمع كلمة " شراء وبيع " فلا بد أن نتوقف عندها؛ لنفهم معناها بدقة . ونحن في الريف نرى المقايضات أو المبادلات في الرزق الذي له نفع مباشر ، كأن يبادل طرف طرفا آخر ، قمحا بقماش ، فهذه سلعة يتم مبادلتها بسلعة أخرى ، وعلى ذلك فليس هناك شارٍ وبائع ، لأن كل من الطرفين قد اشترى وباع . وهنا نسأل : متى يصبح الأمر إذن شراء وبيعا؟
إن الشراء والبيع يحدث عندما نستبدل رزقا مباشرا برزق غير مباشر ، ومثال ذلك عندما يشتري الإنسان رغيف خبز بخمسة قروش ، إن هذا هو الشراء والبيع ، لأن الخمسة قروش هي رزق غير مباشر النفعية؛ لأن النقود لا تشبعك ولا ترويك من عطشك ولا تسترك . والرغيف هو رزق مباشر النفعية لأنه يشبعك ويدفع عنك الجوع وعندما يحب الإنسان أن يشتري شيئا فإن الذي يدفعه في الشراء يسمى ثمنا .
إذن فكيف يشتري الثمن؟
إن الحق يوضح لنا أن الأثمان لا تكون مشتراة أبدا ، إنها مُشترى بها ، ولذلك تكون أول خيبة في صفقة الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا ، إنهم اشتروا الثمن ، بينما الثمن لا يُشترى ، فالذي يشتري هو السلعة . ويا ليت الثمن الذي اشتروه ثمن له قيمة ، لكنه ثمن قليل ، ومن هنا جاء تحريم الربا لأن المرابي يعطي الشخص مائة ، ويريد أن يسترده مائة وعشرة ، ويكون المرابي في هذه المسألة قد جعل النقود سلعة ، وهكذا تكون الصفقة خائبة من بدايتها .
إذن فأول خيبة في نفوس الناس الذين يستبدلون الهدى ويأخذون بدلا منه الضلالة ، إنهم خاسرون . { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] .
والحق سبحانه يقول هنا : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } . ونعرف أن " الباء " دائما تدخل على المتروك ، أي أنهم تركوا عهد الله والأيمان التي حلفوا بها على التصديق بالرسول ، وعلى نصرته إذا جاءهم ، أنهم اشتروا ذلك بثمن قليل ، كيف يحدث ذلك؟ لهذه المسألة واقعة حال ، وإن كان المراد عموم الموضوع لا خصوص السبب ، فلا يقولن أحد : إن هذه الآية نزلت في الأمر الفلاني فلا شأن لي بها ، لا فكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا تنطبق عليه هذه الآية .
وواقعة الحال التي نزلت فيها الآية هي أن جماعة في عهد جدب ومجاعة دخلت على كعب بن الأشرف اليهودي يطلبون منه الميرة - أي الطعام والكسوة - فقال لهم : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا نعم ، قال : إنني هممت أن أطعمكم وأن أكسوكم ولكن الله حرمكم خيرا كثيرا وتساءلوا : لماذا حرمنا الله خير الكثير؟ وجاءتهم الإجابة لقد أعلنتم الإيمان بمحمد فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف ، قالوا لكعب بن الأشرف : دعنا فترة لأنه ربما غلبتنا شبهة ، فلنراجع فيها أنفسنا .
(1/1033)
وعندما مرت الفترة ، فضلوا الطعام والكسوة على الإيمان ، وقالوا لكعب بن الأشرف : لقد قرأنا في كتبنا الموجودة لدينا خطأ ، ومحمد ليس رسولا . فأعطاهم كعب القوت والكسوة . وهؤلاء هم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، وهو الطعام والكسوة . وكل من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، فهو يطمس حكما من أحكام الله من أجل أن يتظاهر أمام الناس أنه عصري ، أو أنه مساير لروح الزمان ، أو يزين لأولياء الأمر فعلا من الأفعال لا يرضى عنه الله .
إذن فالذي يفعل مثل ذلك إنما يشتري بآيات الله ثمنا قليلا ، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا قليلا ، وكل من يجعل آية من آيات الله عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا يُعتبر داخلا في هذا النص { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } .
والمقصود هنا بعهد الله ، إما أن يكون عهد الفطرة أو العهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بأنهم إن أدركوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يعلنوا الإيمان به هو العهد الذي جاء به القول الحق : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ] .
إذن فعندما جاءت صفة تكذيبهم لما أعلنوه من إيمان سابق مقابل الميرة والكسوة ، وكان ذلك خيبة كبرى فهم قد اشتروا الثمن ، والثمن مع ذلك قليل ، ولذلك يقول عنهم الحق :
{ أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 77 ]
وكلمة { أولئك } تدل على أن الصلة وهي { يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } تُلِحق بهم كل من يتصف بهذه الصفات وتجعل له المصير نفسه . فهذه الآية وإن نزلت في هؤلاء الأشخاص الذين جرت منهم حادثة شراء الطعام والكسوة مقابل النكوص عن الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها تشمل كل متصف بهذه الصفة وكل من كان على هذا اللون في أي عصر ، وفي أي دين من الأديان ، ويصفهم الحق سبحانه ب { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ } .
وكلمة { خَلاَقَ } وكلمة " خُلق " وكلمة " خليقة " وكلمة " خلق " كلها تدور حول معنى يكاد يكون متقاربا ، فالخلق - بضم الخاء واللام - أن توجد صفة في الإنسان تغلب عليه حتى تصير ملكة . فيقال : " فلان عنده خلق الصدق " أو " فلان خلقه الكرم " ومعناه : أن فلانا الأول صار الصدق عنده ملكة ولا يتعب نفسه في أن يكون صادقا بل صار الصدق أمرا طبيعيا فيه ، وكذلك وصف فلان الثاني بالكرم أي أن الكرم صار ملكة وسجية عنده .
(1/1034)
وهذه الملكة في الأمور المعنوية تساوي الآلية في الأمور الحسية؛ لأننا نعرف أن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى دربة ليكون الإنسان متميزا في أدائه ، وعلى سبيل المثال ، العامل الذي ينسج على آلة يحتاج إلى أن يتدرب على تحريك مكوك الخيط ، وأن يتعلم كيف يحرك المكوك بين خيوط النسيج ، وبعد ذلك يختلف الخيطان معا لتمسك بهما حركة المكوك الثانية في ارتدادها ، وبذلك يتم النسيج ، وحين يتدرب إنسان على هذا العمل فهو يحتاج إلى وقت طويل ، ليصل إلى كفاءة الحركة .
في بداية التدريب يكون الأمر صعبا ، ويستطيع النساج بعد أن يتقن التدريب أن يجلس أمام آلة النسيج ويداه تحرك المكوك بآلية . لقد صارت المسألة بالنسبة إلى النساج المتدرب آلية .
وسبق أن ضربت المثل بالإنسان الذي يتعلم قيادة السيارة ، فالمدرب يعلمه كيف يدير المفتاح ، وكيف ينتظر لتسخين المحرك ، وكيف يفك مكبح السيارة ، ثم كيف يحرك عصا التحكم في اندفاع السيارة ، وكيف يوازن بين الضغط على بدال الوقود والضغط على بدال التحكم الفاصل ، وكيف يوازن بين سير السيارة بتخفيض السرعة بلمسات خفيفة لبدال المكبح .
وقد يخطئ الإنسان في بداية التعلم ويرتبك ، ولكنه بعد تمام التدريب فإنه يعمل بآلية وبدون تفكير ، إنه عمل آلي لا يحتاج إلى تفكير ، وضربت في السابق مثالا بالصبي الذي يتعلم حياكة الملابس ، إنه يأخذ وقتا ليضع الخيط في سم الإبرة ، وتقع منه الأخطاء في قياس المسافات المختلفة بين الغرز ، لكنه من بعد ذلك يتدرب على فعل هذه الأعمال التي كانت صعبة ، ويؤديها بآلية ، والعمل الآلي في الأمور المحسة ، يقابل الملكة في الأمور المعنوية ، فيقال : " إن الصدق عند فلان ملكة " إي أنه إنسان لا يرهُقه أن يكون صادقا .
ونحن أثناء تعليم أبنائنا للنحو - مثلا - نقول لهم : " إن حكم الفاعل الرفع والمفعول به منصوب " وعندما ينطق الابن عبارة ما ، فإنه يحاول تطبيق القاعدة أثناء القراءة ، وقد ينساها ، أو يتلجلج ، وعندما يتذكرها فإنه ينطق الكلمات برسمها الصوتي الصحيح ، وبعد أن يتم التدريب على القاعدة ويقرأ الابن ، فإن أخطاءه تتلاشى ، وبذلك يصير النحو ملكة عنده .
وكذلك الخلق ، إن الخلق صفة ترسخ في النفس ، فتصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة ، فيقال : " الصدق له خلق " ، و " الكرم له خلق " ، و " الشجاعة له خلق " إنها الصفات التي ترسخ في النفس فتصدر عنها الأفعال في يسر وسهولة . والحق سبحانه يقول : { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } وقد فسر البعض حرمان أولئك من الخلق بأن هذا الصنف من الناس لا نصيب لهم من الخلق ، لأن الخلق صفة راسخة في الإنسان ، والحق يحدد الزمن بأنه { فِي الآخرة } .
(1/1035)
والآخرة هي الوقت الذي لا يمكن التدارك فيه ، فالآخرة هي يوم التقييم الصحيح والنهائي .
إن الإنسان قد لا يكون له نصيب السلوك القويم فيعدل سلوكه حتى يكتسب هذا السلوك القويم في الدنيا لكن الإنسان لا يستطيع في الآخرة أن يجد مجالا للاستدراك ، وهذه هي الخيبة القوية .
فالإنسان في الدنيا ، قد يقوم بعمل ما ولا يكون له نصيب من أجره أو قد لا نرى نحن الجزاء والنصيب الذي يعطيه له الله ولكن الله يعوضه في الآخرة عن هذا العمل الذي لم يكن له نصيب منه في الدنيا أما من لا خلاق له في الآخرة فكيف يتم التعويض؟ إنّ ذلك أمر مستحيل؟
ويضيف الحق { ولاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقد يقول قائل : ألم يقل القرآن الكريم في موقع آخر ، إن الله يقول للكافرين : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] .
فلماذا يقول الحق لهم مرة : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } ، ومرة أخرى يقول الحق : { لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } ؟ . ونجيب على مثل هذا القول : إن الحق لا يكلمهم كلاما ينفعهم ، أو أنه سبحانه يكلمهم بواسطة ملائكته ، ولكن كيف لا ينظر إليهم الله؟
وساعة نجد أمرا يوجد في الناس وله نظير منسوب لله سبحانه وتعالى ويقوله سبحانه عن نفسه ، فلا بد أن نأخذ هذا الأمر في إطار : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
إننا في مجالنا البشرى نقول : " فلان لا ينظر إلى فلان " أي أنه لا يوجه عيونه إليه ، ويحول حدقتيه عنه ، لكن لا يمكن قياس ذلك على الله ، لأن الله منزه عن التشبيه ففي الوضع البشرى نجد إنسانا يحب صديقا له فيقبل عليه بالوجه والنظر فيقال : " فتى هو قيد العين " أي أنه شاب عندما تنظر إليه العين فهو يقيد العين فلا تذهب عنه إلى مكان آخر؛ ففي هذا الشاب محاسن تجعل العين لا تذهب بعيدا عنه . وهكذا نأخذ إقبال العين بالنظر على المنظور أو على المرئي كسمة للاهتمام به ، وهذا صحيح في الوضع البشرى .
لكن إذا ما جاء ذلك بالنسبة لله ، هنا نأخذ المسألة في إطار : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وهكذا نفهم عدم نظر الله إلى { الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } بأن الله يهملهم ، ولا يهتم بهم " لا ينالهم الله برحمته " ، فالحق سبحانه منزه عن كل تشبيه ، وهكذا الأمر في عدم نظر الحق إليهم ، نأخذ الأمر أيضا في إطار : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } إن ولي الأمر من البشر عندما يرغب في عقاب أحد رعاياه ، لا ينظر إليه ويهمله ، فما بالنا بإهمال الحق سبحانه وتعالى؟! إنه إبعاد لهم عن رحمة الله ورضوانه .
(1/1036)
ويضيف الحق سبحانه { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } والتزكية تأتي بمعنى التطهير ، أو بمعنى الثناء أو النماء والزيادة فنقول : " فلان زكى فلانا " أي أثنى عليه ويقال أيضا : " فلان زكى فلانا " أي طهره ، ومن هذا تكون " الزكاة " التي هي تطهير ونماء .
وعندما يخبرنا الحق سبحانه أنه لا يكلم ذلك الصنف من البشر ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم من أوزارهم ، فهذا مقدمة لما أعده لهم بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فلا بد أن نأخذ قوة الحدث بفاعل الحدث .
وفي حياتنا العادية عندما يقال : " صفع الطفل فلانا الرجل " نفهم بطبيعة الحال أن صفعة الطفل تختلف في قوتها عن صفعة الشاب ، وكذلك صفعة الشاب تختلف عن صفعة بطل في الملاكمة . إذن فالحدث يختلف باختلاف فاعله قوة وضعفا على المفعول به الذي هو مناط الحدث ، فإذا كان فاعل العذاب هو الله فلا بد أن يكون عذابا أليما؛ ولا حدود لألمه ، أنجانا الله وإياكم منه . ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ . . . }
(1/1037)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
أي أنهم يلوون ألسنتهم بالكلام الصادر من الله ليحرفوه عن معانيه ، أو يَلْوُون ألسنتهم عندما يريدون التعبير عن المعاني . و " اللي " هو الفتل ، فنحن عندما نفتل حبلا ، ونحاول أن نجدل بين فرعين اثنين من الخيوط ، ثم نفتلهم معا لنصنع حبلا ، والهدف من الفتل هو أن نضع قوة من شعيرات الخيوط ، فهذه الشعيرات لها قوة محدودة ، وعندما نفتل هذه الخيوط فإننا نزيد من قوة الخيوط بجدلها معا .
إذن فالفتل المراد به الوصول إلى قوة ، وهكذا نرى أنهم يلوون ألسنتهم بكلام يدعون أنه من المنهج المنزل من عند الله ، وهذا الكلام ليس من المنهج ولم ينزل من عند الله إنّهم يفعلون ذلك لتقوية مركزهم والتنقيص من مكانة الإسلام والطعن في الرسول كما قالوا من قبل : " راعنا " ، لذلك قال الحق مخاطبا المؤمنين : { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 104 ] .
إن الحق يوضح لنا ألا نعطي لهم فرصة لتحريف كلام الله ، فهو سبحانه القائل : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] .
لقد فضحهم - الحق سبحانه - لنا ، وهم يحرفون الكلام عن موضعه ، فقد قال الحق هذا القول بمعنى : أن الذي تسمعه لا يضرك لقد سجل الله عليهم أنهم قالوا سمعنا وعصينا كما قاموا بتحريف الكلمة وقالوا : " اسمع غير مسمع " أي " لا سمعت أبدا " ، تماما كما أخذوا من قبل قول الله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ الأعراف : 161 ] .
وحرفوا هذا القول : " وَقُولُواْ حِنطَّةٌ " ، وهم قد فعلوا ذلك حتى نحسب هذا التحريف من الكتاب ، وما هو من الكتاب ، أي أنهم يفتلون بعضا من المعاني المستنبطة من الكلمات حتى يوهموا المؤمنين بأن هذه المعاني غير المرادة وغير الصحيحة هي معان مرادة لله ، وصحيحة المعنى ، إنهم يدعون على المنهج المنزل من السماء ما ليس فيه ، ولذلك قال سبحانه : { لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } إنهم عندما يلوون ألسنتهم بالكتاب يحرفونه رغبة في التلبيس والتدليس عليكم لتظنوا أنه من الكتاب المنزل من عند الله على رسولهم ، إنهم لو فعلوا ذلك فحسب لجاز أن يتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويندموا على ما فعلوا .
أما قولهم بعد ذلك : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ } فهو دليل على أنهم أحدثوا في الكتاب شيئا وأصروا عليه فجاءوا بقولهم : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ } لينفوا عن أنفسهم شبهة أن يُدعى عليهم أنهم حرفوا الكتاب ، ولو لم يكونوا قد حرفوا الكتاب أكانت تخطر ببالهم ، هذه؟ إن أمرهم جاء من باب ( يكاد المريب أن يقول خذوني ) إنهم بهذا القول يحتالون على إخفاء أمر حدث منهم .
(1/1038)
إن الحق - سبحانه - يؤكد أن الخيانة تلاحقهم فيقول : ( وما هو من عند الله ) ، فهذه الآية الكريمة تفضحهم وتكشف تحريفهم لكتاب الله ، يقول سبحانه : { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إنهم يعرفون أن ما يقولونه هو الكذب ، والكذب كما عرفنا هو أن تكون النسبة الكلامية غير مطابقة للواقع ، فالنسب في الأحداث تأتي على ثلاث حالات :
نسبة واقعة .
نسبة يفكر فيها وهي نسبة ذهنية .
نسبة ينطق بها .
فعندما نعرف إنسانا اسمه محمد ، وهو مجتهد بالفعل فهذه نسبة واقعة وإذا خطر ببالك أن تخبر صديقا لك باجتهاد محمد فهذا الخاطر نسبة ذهنية .
وساعة تنطق بهذا الخبر لصديق لك صارت النسبة كلامية . والصدق هو أن تكون النسبة الكلامية لها واقع متسق معها كأن يقول : " محمد مجتهد " ويكون هناك بالفعل من اسمه محمد وهو مجتهد بالفعل ، وبهذا تكون أنت الناطق بخبر اجتهاد محمدٍ إنسانا صادقا ، أما إن لم يكن هناك من اسمه محمد ومجتهد فالنسبة الكلامية لا تتفق مع النسبة الواقعية ، لذلك يصير الخبر كاذبا . والعلماء يفرقون بين الصدق والكذب بهذا المعيار . فالصدق : هو مطابقة الكلام للواقع ، والكذب : هو عدم مطابقة الكلام للواقع .
وحاول بعض من الذين يحبون التشكيك أن يقفوا عند سورة المنافقين التي يقول فيها الحق : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] .
لقد قال المنافقون : نشهد إنك لرسول الله ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول من عند الله بالفعل ، والحق سبحانه يقول : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } فهل علمهم كعلم الله؟ لا ، لأن الله سبحانه قال : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } ، فكيف يصفهم الحق بأنهم كاذبون مع أنهم شهدوا بما شهد هو به؟
إن الحق لا يكذبهم في أن محمدا رسول الله فهذه قضية صادقة ، ولكنه سبحانه قد كذبهم في قضية قالوها وهي : { نَشْهَدُ } ، لأن قولهم : { نَشْهَدُ } تعني أن يوافق الكلام المنطوق ما يعتقدونه في قلوبهم ، وقولهم : { نَشْهَدُ } هو قول لا يتفق مع ما في قلوبهم ، ولذلك صاروا كذابين ، فلسان كل منهم لا يوافق ما في قلبه .
إذن فقوله الحق : { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، أي إنهم يقولون كلاما ليس له نسبة خارجية تطابقه ، وهم يعلمون أنه كذب ، حتى لا نقول : إنهم نطقوا بذلك غفلة ، لقد تعمدوا الكذب ، وهم يعرفون أنهم يقولون الكذب . والدقة تقتضي أننا يجب أن نفرق بين صدق الخبر ، وصدق المخبر . صدق الخبر هو أن يطابق الواقع لكن أحيانا يكون المخبر صادقا ، والخبر في ذاته كذب ، كأن يقول واحد : " إن فلانا يستذكر طول الليل " لأنه شاهد حجرة فلان مضاءة وأنه يفتح كتابا ، بينما يكون هذا الفلان غارقا في قراءة رواية ما ، إن المخبر الصادق في هذه الحالة ، لكن الخبر كاذب .
ولكن في مجال الآية نحن نجد أنهم كاذبون عن عمد ، فللسان هو وسيلة بيان ما في النفس :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة . . . }
(1/1039)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه ، فهو ينزله في كتاب ، ويقتضي ذلك أن يصطفي سبحانه إنسانا للرسالة ، أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس ، الرسول مصطفى من الله ويختلف في مهمته عن النبي ، فالنبي أيضا مصطفى ليطبق المنهج ، وهكذا حتى لا يسمع الناس المنهج ككلام فقط ولكن يرونه تطبيقا أيضا ، إذن فالرسول واسطة تبليغية ونموذج سلوكي والنبي ليس واسطة تبليغية ، بل هو نموذج سلوكي فقط .
إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول ، ولذلك تأتي الآية : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] .
هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند الله ، الرسول مرسل للبلاغ والأسوة ، والنبي مرسل للأسوة فقط ، لأن هناك بعضا من الأزمنة يكون المنهج موجودا ، ولكن حمل النفس على المنهج ، هو المفتقد ، ومثال ذلك عصرنا الحاضر ان المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلال وما الحرام ، لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج ، لذلك فنحن نحتاج إلى أسوة سلوكية ، هكذا عرفنا الكتاب ، والنبوة ، فما هو الحكم إذن؟
لقد جاء الحق بكلمة : " الحكم " هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة الإيمانية في الرسول أو النبي فقط ، بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية الإيمانية ، وتكون القضية الإيمانية ناضجة في ذهنه ، فيقولها لأن الحكمة تقتضي هذا . ألم يذكر الله لنا وصية لقمان لابنه؟ إن وصية لقمان لابنه هي المنهج الديني ، وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون رسالة أو نبوة ، ولكن المنهج الإيماني ينقدح في ذهنه ، فيعظ به ويطبقه ، وهذا إيذان من الله على أن المنهج يمكن لأي عقل حين يستقبله أن يقتنع به ، فيعمل به ويبلغه .
ولابد لنا أن نؤكد أن من يهبه الله الحكمة في الدعوة لمنهج الله وتطبيق هذا المنهج ، لن يضيف للمنهج شيئا ، وبحكم صدقة مع الله فهو لن يدعي أنه مبعوث من الله للناس ، إنه يكتفي بالدعوة لله وبأن ، يكون أسوة حسنة .
لكن لماذا جاءت هذه الآية؟ لقد جاءت هذه الآية بعد جدال نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
- بماذا تؤمن وتأمر؟ فأبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوامر المنهج ونواهيه ، وأصول العبادة ، ولأن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب ، بعضهم من نصارى نجران والبعض الآخر من يهود المدينة ، وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند الله ، ويريدون من الناس طاعة هذه الأوامر ، لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول الله صلى الله عليه السلام وأوامره ، وبين ما زيفوه هم من أوامر ، فمحمد صلى الله عليه وسلم يطلب من الناس عبادة الله على ضوء المنهج الذي أنزله عليه الحق سبحانه ، أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم .
(1/1040)
والطاعة - كما نعلم - هي لله وحده في أصول كل الأديان ، فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من الله ، وطلب من الناس أن يطيعوه فيه ، فهذا معناه أن ذلك الإنسان يطلب أن يعبده الناس - والعياذ بالله - لأن طاعة البشر في غير أوامر الله هي شرك بالله . ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض من أهل الكتاب ، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منهم طاعتهم لأوامره هو ، كما كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا : أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟
إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول الأمين على منهج الله ، وبين رؤسائهم الذين خالفوا الأحكام واستبدلوها بغيرها ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم طاعته لذاته هو ، ولكنه قد طلب منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسولا وقدوة ، واستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوه .
وأنزل الله سبحانه قوله الحق :
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } [ آل عمران : 79 ]
لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن الله لم يختر رسولا أمينا على المنهج ، وظنوا بالله ظن السوء ، أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم ، فتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة من بعثه الله رسولا ، ولذلك جاء القول الفصل { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } .
وقد ينصرف المعنى أيضا إلى أن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يُجِلُّونَه - صلى الله عليه وسلم - وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعظمه ، ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : أنسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، ألا نسجد لك؟
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب السجود له من أحد ، والحق سبحانه هو الذي كلف عباده المؤمنين بتكريم رسوله فقال : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] .
إن المطلوب هو التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أن نعطي له أشياء لا تكون إلا لله .
(1/1041)
إن تعظيم المسلمين لرسول الله وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفاً عن دعاء بعضنا بعضا .
والحق في هذه الآية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول : { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .
إن " لكن " هنا للاستدراك ، مثلما قلنا من قبل : إن " بلى " تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها قضية مخالفة لها . إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لأحد من البشر أن يقول : " كونوا عبادا لي " بعد أن أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوة ، والقضية التي يتم الاستدراك من أجلها وإثباتها هي : { كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } وكلمة " رباني " ، وكلمة " رب " ، وكلمة " ربيون " ، وكلمة " ربان " ، وكل المادة المكونة من " الراء " و " الباء " تدل على التربية ، والولاية ، وتعهد المربي ، وتدور حول هذا المعنى . أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة؟
وكلمة " الرب " توضح المتولي للتربية ، إذن فما معنى كلمة " رباني "؟ إنك إذا أردت أن تنسب إلى " رب " تقول : " ربّي " . وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفا ونونا فنقول : " رباني " ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمرا إلى العلم فيقولون : " علماني " وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم . والفرق بين " علمي " و " علماني " هو أن العلماني يزعم لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي ، ونجد أن في " علماني " ألفاً ونوناً زائدين لتأكيد النسبة إلى العلم .
وقد يقول قائل : ولماذا نؤكد الانتساب إلى الله بكلمة " رباني "؟
ونقول : لأن الكلمة مأخوذة من كلمة رب ، وتؤدي إلى معان : منها أن كل ما عنده من حصيلة البلاغ لا بد أن يكون صادرا ومنسوبا إلى الرب؛ لأنه لم يأت بشيء من عنده ، أي أنه يأخذ من الله ولا يأخذ من أحد آخر أبدا؛ فهو رباني الأخذ .
وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر : إنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفا بخلق أنزله رب يربي الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم ، فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربيا ، ويدبر الأمر للفلاح والصلاح .
يقول الحق - سبحانه - : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } إن العلم هو تلقي النص المنهجي . والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي .
لذلك فنحن في الريف نقول : " ندرس القمح " أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل حبوب القمح عن " التبن " وتكون نتيجة الدراس هي استخلاص النافع .
(1/1042)
. إذن ففيه فرق بين " تعلمون " أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من الله وذلك خاضع لتلقي النص ، وبين { مَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص .
إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة ، ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء ، ويقال : " دارسه " أي أن واحد قد قام بتبادل التدريس مع آخر ، ويقال أيضا : " تدارسنا " أي أنني قلت ما عندي وأنت قد قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص .
وقد يأتي النص محكما ، وقد يأتي النص محتملا لأكثر من معنى .
وما دمت قد تعلمت ، فلا بد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج . وما دمت قد تدارست ، فلا بد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لأهل الذكر حُسْن استقبال المنهج؛ لذلك يجب أن تكون ربانياً في الأمرين معاً .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً . . . }
(1/1043)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
أي أنه ليس لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يأمر الناس باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا . إن من اختصه الله بعلم و كتاب ونبوة لا يمكن أن يقول : اعبدوني ، أو اعبدوا الملائكة ، أو اعبدوا الأنبياء .
لماذا؟ ويجيب الحق سبحانه : { أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .
وقوله الحق : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } تدل على أن واقعة القضية وما معها كانت مع مسلمين كأنهم عندما جاءوا وأرادوا أن يعظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نحن نريد أن نعطيك وضعا في التعظيم أكثر من أي كائن ونريد أن نسجد لك . فَوَضَّح النبي صلى الله عليه وسلم لهم : أنَّ السجود لا يكون إلا لله .
إذن فالذين تكلموا مسلمون ، وكانوا يقصدون بذلك تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو أن رسول الله وافقهم لكان معنى ذلك انه يخرجهم عن الإسلام ، ولا يتصور أن يصدر هذا عن سيدنا وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أو عن غيره من الأنبياء عليهم السلام .
والحق سبحانه يقول : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ . . . }
(1/1044)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
هذه الآية تجعلنا نتعرف على أسباب بعث الحق لموكب الرسل ، ونعرف جميعا أن المنهج الأول قد أنزله الله على آدم عليه السلام متضمنا كل ما يجعل الحياة تسير إلى انسجام ، وبلّغ آدم أولاده هذا المنهج كما علمهم أمور حياتهم ، تماما مثلما يعلم الأب أبناءه ما يخدم أمور حياتهم ، كما يقوم بإبلاغ الأبناء مطلوب الدين ، والأبناء يبلغون أبناءهم ، وتتواصل البلاغ من جيل إلى جيل كي يكتمل وصول المنهج للذرية ، ولكن مع توالي الزمن وتتابعه نجد أن بعضا من مطلوبات الدين يتم نسيانها .
إن هذا دليل على أن الناس قد غفلت عن المنهج وهكذا نرى أن الغفلة عن المنهج إنما تتم على مراحل ، فبعد بلاغ المنهج نجد إنسانا يغفل عن جزئية ، ما في هذا المنهج ، وتنبهه نفسه وتلومه على تركه لتلك الجزئية ، ونسمي صاحب هذا الموقف بصاحب النفس اللوامة ، إنه يفعل السيئة لكن نفسه تعود إلى اليقظة لمنهج الله؛ لأنه يتمتع بوجود خلية المناعة الإيمانية فيه ، وهناك إنسان آخر يستمرئ المخالفة للمنهج وتلح عليه نفسه بالمخالفة؛ إنه صاحب النفس الأمارة بالسوء ، وتتوالى به دواعي ارتكاب السيئات ، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى غيره من خارج نفسه ليلفته إلى الخير .
وماذا يحدث للمجتمع إذا صار افراده جميعا من أصحاب النفس الأمارة بالسوء؟
إن معنى ذلك أن الفساد قد طم ، ولا بد من مجيء رسول؛ لأن مراد الحق سبحانه هو هداية الناس ، لقد خلقنا سبحانه وله كل صفات الكمال ، ولم يضف خلقُنا إليه شيئا . وها هو ذا الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، ياعبادي ، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي ، كلكم عار ، إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي ، لم أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، قاموا إلى صعيد واحد ، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياه ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
(1/1045)
إن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا وهو من الأزل إلى الأبد ، في تمام صفات الكمال ولم يضف له هذا الخلق شيئا ، وهو القائل : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } [ الذاريات : 57-58 ] .
إذن فعندما يشرع لنا الحق أمراً فهو يشرعه لمصلحتنا؛ إنه سبحانه يحب لصنعته أن تظفر بسعادة المنهج؛ لذلك أنزل المنهج " بافعل ولا تفعل " وحين يقول المنهج : " افعل ولا تفعل " فهو لا يريد أن يحدد حرية الحركة على الخلق الا بما يحميهم ، إنه يحدد حرية هنا ليحمي حرية هناك . فعندما حرم الله السرقة -على سبيل المثال - فالأمر شامل لكل البشر ، فلا يسرق أحدا أحدا .
إن الحق سبحانه حين منع يدَ واحدٍ من السرقة ، كان في ذلك منع لملايين الأيدي أن تسرق من هذا الإنسان ، وفي هذا حماية لكل البشر من أن يسرق إنسان إنسانا آخر ، وفي ذلك كسب لكل إنسان ، فساعة تأخذ التشريع لا تأخذه على أنه مطلوب منك ، ولكن خذه على أنه مطلوب منك ومطلوب لك أيضا .
ومثال آخر ، لقد حرم المنهج على العبد المؤمن أن يمد عينيه إلى محارم غيره ، ولم يكن هذا التحريم لعبد واحد ، إنما لكل إنسان مؤمن ، وبذلك لا تمتد أي عين إلى محارم هذا العبد ، لقد جاء الأمر لك بغض البصر عن محارم غيرك وأنت واحد ، وكففنا من أجلك ملايين الأبصار كيلا تمتد إلى محارمك .
إذن فكل عبد مؤمن يكسب حياة مطمئنة من وجود التشريع ، وكل التشريعات إنما جاءت لصالحنا جميعا ، ولذلك كان الحق رحيما بنا لأن رَكْبَ الرسل قد تواصل واستمر في الكون منذ آدم ، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، والمنهج الذي جاء به كل هؤلاء الرسل لا تناقض فيه أبدا ، لأن في هذا المنهج مصلحة للخلق ، لذلك فلا يمكن أن يكون موكب رسول قد أتى ، ليناقض موكب رسول آخر .
لكن ما الذي يأتي بالتناقض بين الأديان والمشرع واحد؟ وكل الناس عيال له؟
إننا نبرئ الرسل من التناقض ، وإن حاول البعض أن يصوروا الأمر كذلك فلنعلم أن أتباع الرسل هم الذين يريدون لأنفسهم سلطة زمنية يتحكمون بها في الدنيا ، فالذين كانت لهم سلطة زمنية في دين كاليهودية أو النصرانية فعلوا ذلك .
وعندما جاءت النصرانية على اليهودية قال أحبار اليهود : نحن لا نريد النصرانية لماذا؟ لأن السلطة الزمنية كانت في أيديهم ، ولو أن هؤلاء الأحبار ظلوا باقين على ما أنزله الله عليهم من منهج لقَبَّلُوا يدي أي رسول قادم شاكرين له مقدَمَة ومجيئه وقالوا له : ساعدنا على أن نعمق فهمنا لمنهج الله .
(1/1046)
. إذن فالخلاف لا يحدث إلا حين توجد أهواء لها سلطات زمنية ، وموكب الرسالات من يوم أن خلق الله الإنسان هو منهج متساند لا متعاند .
وحينما يأتي رسول ليجد أناسا غير مؤمنين بإله فالمشكلة تكون سهلة ، لأنه سيلفتهم إلى إله واحد ، وبالمنهج الذي يريده الله ، لكن المشكلة تكون كبيرة مع الجماعة التي لها رسول وهم منسوبون إلى السماء فإذا ما جاء رسول من الله فهو يجيء وهؤلاء الأتباع قد أخذوا من ادعائهم بالانتساب لرسالة رسول سابق سلطة زمنية كما حدث مع اليهود والنصارى ، فتعصبوا للدين الذي كانوا عليه متناسين أن كبارهم قد حرفوا المنهج لحساب السلطة الزمنية .
وقد استمر موكب الرسل إلى الخلق ليحمي الله الخلق من سيادة الانحراف واصطفى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله قد ضمن بقاء الخير في هذه الأمة ، فإذا رأيت أناسا بالغوا في الإلحاد فثق أن هناك أناسا زادهم الله في المدد حتى يحدث التوازن؛ لأن الحق هو القائل : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون } [ آل عمران : 104 ] .
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] .
إذن فإن امتنع الوازع النفسي في النفس اللوامة عند فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فسوف يأتي أناس مسلمون ينبهونه إلى المنهج ، والحق سبحانه وتعالى لا يعصم الناس من أن يخطئوا فهو القائل : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ] .
إن الحق جاء بكلمة " وتواصوا " ، ولم يأتِ بكلمة " وصوا " وذلك لنفهم أن التوصية أمر متبادل بين الجميع ، فساعة يوجد إنسان في لحظة ضعف أمام المنهج توجد لحظة قوة عند غيره فيوصيه .
وترد هذه المسألة أيضا إلى الموصى ، فقد تأتي له لحظة ضعف أمام المنهج؛ فيجد من يوصيه وهكذا نرى أنه لا يوجد أناس مخصوصون ليوصوا ، وآخرون مهمتهم تلقى التوصية ، إنما الأمر متبادل بينهم ، وهذا هو التكافل الإيماني ، والإنسان قد يضعف في مسألة من المسائل فيأتي أخ مؤمن يقول له : ابتعد عن هذا الضعف ، إن هذه المسألة تحدث بالتناوب لمقاومة لحظات الأغيار في النفس البشرية؛ لأن لحظات الأغيار لا تجعل الإنسان يثبت على حال ، فإذا ما رأينا إنسانا قد ضعف أمام التزام ما فعلينا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر ، وأنت أيضا حين تضعف ستجد من أخوتك الإيمانية مَنْ يوصيك .
هذا هو الحال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أما الأمم السابقة عليها فقد كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، ولذلك كان لا بد أن تتدخل السماء وتأتي برسول جديد ومعه معجزة جديدة تلفت العقول لفتا قسريا إلى أن هناك أشياء تأتي بها المعجزة ، وهي خرق ناموس الكون ، وفي ذلك لفت من الله للناس إلى مناطق القدرة .
(1/1047)
وأخذ الله الميثاق على الأنبياء بأن يبلغ كل نبي قومه هذا البلاغ ، انتظروا أن ترسل إليكم السماء رسلا ، وساعة يجيء الرسول المبلغ عن الله منهجه فكونوا معه ، وأيدوه .
كان الرسل عليهم جميعا السلام مأمورين أن يضعوا في المنهج . وصلبه أن السماء حينما تتدخل وتأتي برسول جديد فلا بد أن يتبعه أقوامهم ، وألا يتعصبوا ضد الرسول القادم ، بل يسلمون معه ويرحبون به؛ لأن الرسول إنما يجيء ليعاون الناس على المنهج الصحيح ، لكن الأتباع الذين يعشقون السلطة الزمنية تعمدوا التحريف ، ومن أجل أن يحمي الحقُّ خلقه من هذا المرض أنزل الميثاق الذي أخذه على النبيين ، فقال :
{ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [ آل عمران : 81 ]
قد يقول قائل : إن هذا القول يصلح عندما يأتي رسول معاصر لرسول مثلما عاصر شعيب سيدنا موسى عليه السلام ، وكما عاصر لوط سيدنا إبراهيم عليه السلام ، ونقول : هذا يحدث - أيضا - وإن لم تتعاصر الرسل ، فالحق سبحانه قد أراد لكل رسول أن يعطي لقومه البلاغ الواضح ، وإن لم يتعاصر الرسولان فلا بد أن يعطي الرسول مناعة ضد التعصب ، فما داموا قد آمنوا بالرسول واتبعوه فعليهم حسنَ استقبال الرسول القادم من بعد رسولهم ، وكان على كل رسول أن يبلغ قومه : كونوا في انتظار أن تتدخل السماء في أي وقت ، فإذا تدخلت السماء في أي وقت من الأوقات ، وجاءت برسول مصدق لما معكم فإياكم أن تقفوا منه موقف المضارّة ، وإياكم أن تقفوا منه موقف العداوة ، بل عليكم أن " تنصروه " وهذا قول واضح وجلى ولا لبس فيه . { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ }
ونقول في شرح معنى : { رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } .
إن الدين يأتي بقضايا متفق عليها؛ لأن العقائد واحدة ، والأخبار واحدة ، والقصص واحد ، لكن الذي يختلف هو الحكم التشريعي الذي قد يناسب زمنا ولا يناسب زمنا آخر ، فإذا جاء الرسول بكتاب مصدق لما معكم في الأمور الدائرة في منهج العقائد ، أو منهج القصص فلا بد لكم أن تصدقوه .
لكن اليهود لم يفعلوا ذلك؛ لأن الرسول جاء ليعيد هداية الجماعة التي آمنت بالرسل والتي تؤمن بإله ، وكان مجيء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج الواضح العقيدة والأخبار الصحيحة غير المحرفة والقصص التي تدعم المنهج كما جاء بالتشريع المناسب وكان مجيء النبي الخاتم مزلزلا لمن استمرءوا السلطة الزمنية ، فمنهم من أصر على اتباع رسولهم فقط وبالمنهج الذي تم تحريفه ورفضوا اتباع الرسول الجديد ، ومنهم جماعة أخرى آمنت ، بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت هناك جماعة ثالثة تؤمن برسول آخر ، والخيبة تأتي نتيجة للتعصب ، ولذلك كانت دعوة الإسلام هي لتصفية العقائد ، ودعوة لكل متبع لأي رسالة سابقة أن يدرس ويناقش ، هل الدين الخاتم قد جاء بما يختلف عن الأديان السابقة في العقائد؟ أو جاء مصدقاً لها؟
لقد جاء الدين الخاتم مصدقا لما سبقه في العقائد والأخبار والقصص وإن اختلف في التشريعات التي تناسب زمنا ولا تناسب زمنا آخر ، فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعصم البشرية من العصبية الهوجاء ، والعصبية العمياء التي تنشأ من اتباع رسول لتقف سدا حائلا أمام رسول آخر؛ فالله حين أرسل كل رسول قد أعطاه الأخبار والحقائق وأنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي أرسله بأن يكون على استعداد هو والمؤمنون معه لتصديق كل رسول يأتي معاصرا ومصدقا لما معهم ، وأن يؤمنوا به ، وأن يبلغ كل رسول أمته بضرورة هذا الإيمان .
(1/1048)
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد من الركب الإيماني المتمثل في مواكب الرسل ألا يكون بعضهم لبعض عدوّا ، بل عليهم أن يواجهوا أعداء قضية الدين كلها . فالذي يجعل الإلحاد متفشيا في هذا العصر هو أن المنسوبين إلى الأديان السماوية مختلفون ، وربما كانت العداوة بينهم وبين بعضهم أقوى من العداوة بينهم وبين الملحدين والمنكرين لله ، وهذا الاختلاف يعطي المجال للملحدين فيقولون : لو كانت هذه الأديان حقا لا تفقوا وما اختلفوا ، فما معنى أن يقول أتباع كل رسول إنهم يتبعون رسولا قادما من السماء؟
إن الملحدين يجدون من اختلاف أتباع الديانات السماوية فرصة ليبذروا في الناس بذور الإلحاد ، ولا يجدون تكتلا ولا قوة إيمانية لمن يؤمن بالسماء أو بمنهج السماء لكن الحق سبحانه يقول : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } وهذا يعني أنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي ساعة أرسله أنه قد آتاه الكتاب والحكمة ، وإنه إذا جاءكم رسول مصدق لهذا الكتاب وتلك الحكمة فعليكم الإيمان به ، ولا يكفي إعلان الإيمان فقط ، بل لا بد أن يكون النبي ومن معه في نصرة الرسول الجديد نقول : ولو عمل أتباع كل نبيّ بهذا العهد والميثاق لما كان لهؤلاء الملحدين حجة ويضيف سبحانه : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا } والإقرار سيد الأدلة كما يقولون؛ والإصر هو العهد الشديد ، ولذلك يقال : " آصره المودة " أي الرابطة الشديدة المعقودة . قال الموكب الإيماني للأنبياء موجهين إقرارهم لله تعالى { أَقْرَرْنَا } ، فقال الحق سبحانه : { فاشهدوا } . والشهادة دائما تقتضي شاهدا ومشهودا عليه ومشهودا به .
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول للنبيين الذين أخذوا منه العهد والميثاق الحق : { فاشهدوا } ، إذن فهم في موقف الشاهد ، وما المشهود عليه؟ وما المشهود به؟ هل يشهدون على أنفسهم؟
أو يشهد كل نبي على الأنبياء الآخرين؟
أو يشهد أنه قد بلغ أمته هذا القرار الإلهي؟
إن الرسول يشهد على أمته ، وأن الأنبياء يشهد بعضهم لبعض .
(1/1049)
إذن قد يكون الشاهد نبيا ، والمشهود له نبي آخر ، والمشهود به أن يؤمنوا بالرسول القادم وينصروه .
وقد يكون الشاهد النبي ، والمشهود عليه هي أمته بأنه قد بلغها ضرورة الإيمان بالرسول القادم بمنهج السماء؛ لأن الأمة ما دامت قد آمنت برسول فعليهم مؤازرة هذا الرسول ، ومؤازرة مَنْ يأتي من بعده ، وذلك حتى لا يتبدد ركب الإيمان ؤمام باطل الإلحاد :
{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ]
ولنرتب الشهادات التي وردت في هذه الآية الكريمة : الأنبياء يشهد بعضهم على بعض ، أو الأنبياء يشهدون على أممهم ، ثم شهادة الله على الأنبياء .
وما دام الأمر قد جاء بهذا التوثيق فعلينا أن ننبه أنه إذا ما وجدنا دينا سابقا يتعصب أمام دين لاحق ، بعد أن يأتي هذا الدين بالمعجزة الدالة على صدق بلاغ ذلك الرسول عن الله فلنعلم أنهم خانوا هذه القضية . وسبب ذلك يرجع إلى أن الله يريد أن يحتفظ للدعوة إلى الإيمان ، بانسجام تام ، فلا يتعصب رسول لنفسه ولا لقوميته ولا لبيئته ، ولا يتعصب أهل رسول لملتهم أو نحلتهم؛ لأنهم جميعا مبلغون عن إله واحد لمنهج واحد ، فيجب أن يظل المنهج مترابطا فلا يتعصب كل قوم لنبيهم أو دينهم ، وهذا ليكون موكب الرسالات موكبا متلاحما متساندا متعاضدا ، فلا حجة من بعد ذلك لنبي ، ولا لتابع نبي أن يصادم دعوة أي رسول يأتي ، ما دام مصدقا لما بين يديه .
لقد أعلمنا الحق أنه قد عرض شهادة الأنبياء على بعضهم ، وشهادة الأنبياء على أممهم ، وشهادة الله سبحانه على الجميع ، وذلك أوثق العهود وآكدها . ولذلك يزداد موكب الإيمان تآزرا وتلاحما ، فلا يأتي مؤمن برسالة من السماء ليصادم مؤمنا آخر برسالة من السماء . . ولندع المصادمة لمن لا يؤمنون برسالة السماء ، وحين يتكاتف المؤمنون برسالة السماء يستطيعون الوقوف أمام هؤلاء الملاحدة ، وبعد هذا البيان الواضح يقول الحق : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون }
(1/1050)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
معنى " تولى " هي مقابل " أقبل " . و " أقبل " تعني أنه جاء بوجه عليك . و " تولى " أعرض كما نقول نحن في تعبيراتنا الشائعة : " أعطاني ظهره " . ومعنى هذا أنه لم يأبه لي ، ولم يقبل علي . إذن فالمراد مِنْ أَخْذ العهدِ أن يُقْبَل الناسُ على ذلك الدين ، فالذي يُعرض ويعطي الإيمان الجديد ظهره يتوعده الله ويصفه بقوله : { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون } بعد ماذا؟ إنه التولي بعد أخذ العهد والميثاق على النبيين ، وشهادة الأمم بعضها على بعضها ، وشهادة الله على الجميع ، إذن فلا عذر لأحد . فمن أعطى ظهره للنبي الجديد ، فماذا يكون وعيد الله له؟
إن الحق يصفهم بقوله : { فأولئك هُمُ الفاسقون } أي أن الوعيد هو أن الله يحاسبه حساب الفاسقين ، والفسق - كما نعلم - هو الخروج عن منهج الطاعة . والمعاني - كما تعرف - أخذت وضعها من المحسوسات . لأن الأصل في الوعي البشرى هو الشيء المحس أولا ، ثم تأتي المعنويات لتأخذ من ألفاظ المحسوسات . والفسق في أصل اللغة هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلح حين يرطب ، يكون حجم كل ثمرة قد تناقص عن قشرتها . وحينما يتناقص الحجم الطبيعي عن القشرة تصبح القشرة فضفاضة عليه ، وتصبح أي حركة عليه هي فرصة لانفلات الرطبة من قشرتها .
ويقال : " فسقت الرطبة " أي خرجت عن قشرتها . وأَخَذَ الدينُ هذا التعبير وجعله وصفاً لمن يخرج عن منهج الله ، فكأن منهج الله يحيط بالإنسان في كل تصرفاته ، فإذا ما خرج الإنسان عن منهج الله ، كان مثل الرطبة التي خرجت عن قشرتها .
ونحن أمام فسق من نوع أكبر ، فهناك فسق صغير ، وهناك فسق كبير . وهنا نسأل أيكون الفسق هنا مجرد خروج عن منهج طاعة الرسول؟ لكن هذا الخروج يوصف به كل عاصٍ ، أي أن صاحبه مؤمن بمنهج وفسق جزئيا ، إننا نقول عن كل عاصٍ : " إنه فسق " أي أنه مؤمن بمنهج وخرج عن جزئية من هذا المنهج ، أما الفسق الذي يتحدث عنه الحق هنا فهو فسق القمة؛ لأنه فسق عن ركب الإيمان كله ، فإذا كان الله قد أخذ العهد ، وشهد الأنبياء على أممهم ، وشهدت الأمم بعضها على بعض ، وشهد الله على الجميع ، أبعد ذلك تكون هناك فرصة لأن يتولى الإنسان ويعرض؟
ثم لماذا يتولى ويعرض؟ إنه يفعل ذلك لأنه يريد منهجا غير هذا المنهج الذي أنزله الله ، فلو كان قد اقتنع بمنهج الله لأقبل على هذا المنهج ، أما الذي لم يقتنع فإنه يعرض عن المنهج ويطلب منهجا غيره فأي منهج تريد يا من لا ترضى هذه الشهادة ولا هذا التوثيق؟ خصوصا وأنت تعلم أنه لا يوجد منهج صحيح إلا هذا المنهج ، فليس هناك إله آخر يرسل مناهج أخرى .
(1/1051)
وهكذا نعرف أنه لا يأتي منهج غير منهج الله ، إلا منهج من البشر لبعضهم بعضا ، ولنا أن نقول لمن يتبع منهجا غير منهج الله : من الذي جعل إنسانا أولى بأن يتبعه إنسان؟ إن التابع لا بد أن يبحث عمن يتبعه ، ولا بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه ، لكن أن يتبع إنسان إنسانا آخر في منهج من عنده ، فهذا لا يليق ، وهو فسق عن منهج الله؛ لأن المساوي لا يتبع مساوياً له أبدا ، ومن فضل الله سبحانه أنه جعل المنهج من عنده للناس جميعا حتى لا يتبع إنسان إنسانا آخر . لماذا؟ حتى لا يكون هوى إنسان مسيطرا على مقدرات إنسان آخر ، والحق سبحانه لا هوى له . إن كل إنسان يجب أن يكون هواه تابعا لله الذي خلق كل البشر .
وما دام ليس هناك إله آخر فما المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه؟
إن المنهج الذي يرتضيه الإنسان لنفسه لو لم يتبع منهج الله هو منهج من وضع البشر ، والمنهج الذي يضعه البشر ينبع دائما من الهوى ، وما دامت الأهواء قد وجدت ، فكل مشرِّع من البشر له هوى ، وهذا يؤدي إلى فساد الكون . قال تعالى : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] .
فإذا كانوا لا يرضون منهج الله ، فأي فسق هم فيه؟ إنه فسق عظيم؛ لأن الله قد أخذ عليهم العهد وعلى أنبيائهم ووثق هذا العهد ، أفغير الله يبغون؟ نعم ، إنهم يبغون غير الله ومن هو ذلك الغير؟ أهو إله آخر؟ لا ، فليس مع الله إله آخر ، بل هم قد جعلوا الخلق مقابل الخالق ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
(1/1052)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله نبيا ورسولا فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج الله ، وليس أمامهم إذن إلا مناهج البشر النابعة من الأهواء ، والتي تقود حتما إلى الضلال ، إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم ، إنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه ، وقال لنا هذا المنهج : أنتم مستخلفون في الكون ، وأنتم أيها الخلفاء في الأرض سادة هذا الكون ، سادة يخدمكم الكون كله ، وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم ، الحيوان أقل منكم بالفكر . والنبات أقل من الحيوان بالحس . والجماد أقل من النبات .
إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لإرادتك أيها الإنسان ، فالنبات يخدم الحيوان والحيوان يخدمك أيها الإنسان ، والجماد يخدم الجميع ، والعناصر التي نأخذها نحن البشر من الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان . إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم الأجناس التي تعلوه .
والجماد يخدم النبات .
والجماد والنبات يخدمان الحيوان .
والجماد والنبات والحيوان في خدمة الإنسان وأنت أيها الإنسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك أيها الإنسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الأجناس الأخرى كان لا بد أن تبحث عمن اعطاك السيادة على الأجناس الأخرى .
هل أنت أيها الإنسان قد سخرت هذه الأجناس بقدرتك وقوتك؟
لا؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت لك ما لا تقدر عليه ، فخدمتك حين لا توجد لك قدرة ، وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ إنك أيها الإنسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك ، وأن تبحث لك عن سيد يناسب سيادتك على غيرك . والكون لا يوجد فيه سيد عليك؛ لأن الكون محس ، فإن جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الإله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول : " إن هذا كلامي منطقي بالنسبة لوضعي في الكون " وبعد ذلك انظر إلى الكون ، فأنت في الكون لست وحدك بل هناك أجناس أخرى ، وكل جنس من الأجناس له قانونه وله مهمته ، للحيوان مهمة ، وللنبات مهمة ، وللجماد مهمة . فهل وجدت جنسا من الأجناس تمرد على مهمته؟ لا .
إن الحصان مثلا ، تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه ، وتجد هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الأرض من روث الحيوان وما تأبت ، لقد أدت الخدمة لك راكبا ، وأدت الخدمة لك ناقلا ، وما تمردت عليك أبدا . كل الأجناس - إذن - تؤدي مهمتها كما ينبغي ، فاستقام الأمر فيها ، وما دام الأمر قد استقام فيها ، فبأي شيء استقام؟ إن الله هو الذي خلقها ذللها ، قال لها : " كوني في خدمة الإنسان مؤمنا كان أو كافرا " وفي هذا الأمر عدالة الربوبية ، فلا تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة الإنسان .
(1/1053)
أرأى أحدكم الشمس مرة قالت : لم يعد الخلق يعجبونني ، ولن أشرق عليهم وسأحتجب اليوم؟! أتمرد الهواء وقال : لا ، إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء ، لذلك لن أمكنهم من الانتفاع بي .
أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت الإنسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ لا . . فكل شيء في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليلا .
لذلك يقول الحق : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 72-73 ] .
والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فلا يذلل ، ولا يستأنس ، وذلك حتى تعلم أيها الإنسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض ثعابين هذا العالم أو استأنس الأسد . وأنت أيها الإنسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة . بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا الذي يخدمك لو لم يذلله الله لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذلله ، إنه تذليل وتسخير وخضوع لهذه المخلوقات منحه الله تعالى لك أيها الإنسان تفضلا منه - سبحانه - مع عجزك وضعفك .
ولم نجد شيئا نافعا قد عصى الإنسان في الكون ، لأن كل الخلق مسخر من الله لخدمة الإنسان كافرا كان أو مؤمنا ، وهذا هو عطاء الربوبية ، لأن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا ، فالخالق الأكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا ، ولذلك تستجيب الأجناس من غير الإنسان للإنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا . فإن أحسن الكافر استخدام الأسباب فإن الأسباب تعطيه ولا تعطي المؤمن الذي لا يستخدم الأسباب ، أو لا يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية ، والربوبية للجميع . أما عطاء الألوهية فهو " افعل ولا تفعل " وهو عطاء للمؤمنين فقط .
فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بلا شذوذ فيه ، ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا فلنا أن نسأل " من أين جاء الخلل في الكون؟ " إن الخلل قد جاء منك أيها الإنسان . ولهذا فنحن لا نجد فسادا في الكون إلا وللإنسان مدخل فيه ، أما مالا مدخل للإنسان فيه فلا فساد فيه أبدا .
أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ لا .
لماذا لأن أحدا لا دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا ، صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم والفضلات ، وصحيح أيضا أن الحق يٌكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن ، فحين يتدخل الإنسان فإن الشيء قد يفسد .
(1/1054)
لكن هل معنى ذلك ألا نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي الأيدي؟ لا ، بل يجب أن نتدخل في الكون ، ولكن بمنهج الله .
إنك إن تدخلت في الكون بمنهج الله ، فكل شيء يسير الكون الذي لا منهج له إلا الخضوع والتسخير ، فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته ، والحيوان مهمته ، وأنت أيها الإنسان مطلوب منك أن تؤدي مهمتك ، وهي أن تطيع الله ، تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في : " افعل كذا ولا تفعل كذا " فإن انتظمت مع المنهج ب " افعل " و " لا تفعل " تكن قد انسجمت مع الكون .
إن الله سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين :
{ أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ]
إن كل شيء في السماوات وفي الأرض قد أسلم لله طوعا أو كرها . وإذا ما تساءلنا ، وما معنى " طوعا؟ " فالإجابة هي طاعة التسخير ، كما قالت السماوات والأرض في النص القرآني الحكيم : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
فكل ما لا تكليف له جاء طائعا مسخرا ، وما معنى : " كرها "؟ إن بعضا من العلماء قد قال : إن " طوعا " تشمل أجناس الملائكة ، والجماد ، والنبات ، والحيوان ، فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ولا يعترض أحد منهم ولا يملك أحدهم قدرة على العصيان ، وأما عن " كرها " فقد فهم بعض العلماء أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثلا ، ولهؤلاء نقول : لا يصح ولا يستقيم أن نعطي خصوم الإسلام فرصة ليقولوا إن الإسلام قد أكره أحداً من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لأن الحق سبحانه قال : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 256 ] .
فما دام الله لم يكره أحداً على الإيمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن نفهم كرها على وضعها الحقيقي ، والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له ، لأنه سبحانه هو الذي خلقه ولا إله غيره وهذه مسألة مسلم بها ، فالكون كله لله ، وهو المدبر والقاهر له ، قال الحق : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91 ] .
و مادام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده ، وكان يجب أن يفهم الإنسان مهمته على أنه هو الوحيد الذي كلفه الله؛ لأن بقية الأجناس لا اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف الله الإنسان ب " افعل " و " لا تفعل " إذن فالتكليف فرع الإختيار؛ فالمنهج يقول لك : " افعل كذا ولا تفعل كذا " لأن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لأن تفعل ما يأمرك به ، وصالحا لأن تفعل ما لا يأمرك به .
(1/1055)
إن اليد - مثلا - مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها ، بدليل أن الإرادة إن شُلت وانقطع الخيط الموصل للإرادة الآمرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول الإنسان المصاب بذلك - والعياذ بالله - أن يرفع يده فلا يستطيع ، فاليد مسخرة لإرادة الإنسان ، وإرادتك أيها الإنسان عندما تسير في ضوء منهج الله فإنك توجهها في ضوء " افعل " و " لا تفعل " .
وعندما يقال لك مثلا : " لا تضرب بها أحداً " فمعنى ذلك أن اليد صالحة لأن تضرب ، وعندما يقال لك : " خذ بيد العاثر " فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر ، فأنت مخلوق على هيئة الطواعية من جوارحك لإرادتك . ويأتي المنهج ليقول لك : " نفذ الإرادة في كذا ولا تنفذ الإرادة في كذا " . .
إذن فالإنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الأشياء المسخرة تمام الاتفاق ، ويؤدي كل شيء على خير أداء ، لكن متى يختلف الإنسان عن الانسجام عندما لا يطبق المنهج ، فيشذ عن الركب في الكون كله ، ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] .
إنها الأجناس كلها ساجدة ، الشمس ساجدة ، القمر ساجد ، والنجوم ، والجبال ، كل هذه الجمادات ساجدة ، وكذلك الشجر والنبات ساجد لله ، والحيوان والدواب ساجدة لله ، وكثير من الناس سجود ، لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر ، هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب ، ولو أن الإنسان قد أخذ منهج الله فنفذه لصار كبقية الأجناس ، لكن الإنسان اختلف ، وقال : " أنا سوف آخذ اختيار تحمل الأمانة ، لأني عالم وعاقل " كما جاء في القول الحق :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] .
فلو أخذ الإنسان منهج الله في " افعل " و " لا تفعل " ، لانسجم الإنسان مع الوجود كله وحين ينسجم الإنسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما لا تأتي مخالفة في الوجود من غير الإنسان ، وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في الانسجام . ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير ، ولكنها تعلم شيئا ، ويغيب عنها شيء آخر ، ولو أخذوا عن الله العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها .
(1/1056)
إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على الإنسانية ، ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون ، ودليل ذلك ان العلماء الآن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة . وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن هناك تلوث للبيئة ، لماذا؟ لأن كل عنصر كان يؤدي مهمته ، فجزء من احتراق الحطب كان يتحول إلى كربون ، وجزء آخر يتحول إلى غازات ، وتنصرف كل الأشياء إلى مساراتها .
إن هذا يدلنا على أن الإنسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم . لقد قدّر الإنسان انه يريد تخفيف الحركة ، وينقل الأثقال ويختصر المسافات ، لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها ، فنشأ عادم يفسد البيئة ، لكن لو كان عند الإنسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم .
ولننظر إلى عظمة الحق ، إنه يترك للعقل البشري أن يتقدم ، ولكن العقل البشري قاصر وينسى من الأشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا . إن الذين اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا بفتح جديد في الكون ، وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين اخترعوها؛ لأنهم وجدوا منها الضرر ، لذلك يقول الحق سبحانه : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 103-105 ] .
إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج الله ، والحق سبحانه يضرب لنا المثل الواضح . إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها ، لكن عادم خلق الله في الحيوان نافع ، فالإنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة الأرض ، والعجيب أن فضلات الحيوان التي تعطي خصوبة للأرض لا نجد فيها شيئا يقزز ، ولا نجد لها الرائحة التي توجد في فضلات الإنسان ، لماذا؟
لأن الحيوان يأكل على قدر حاجته ، إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة ، مثل الحشيش اليابس ، وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام ، ولذلك لا يُخرج فضلات كريهة الرائحة ، لكن الإنسان ينوع ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على الانطلاق والانفلات ، إن الحيوان لا اختيار له ، ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي لا يؤكل فيختار بغريزته المناسب له ، وإذا امتلأت البطن لا يأكل؛ لأنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق ، لكن الإنسان يتمتع بالاختيار ، فأفسد عليه هذا الاختيار وأبعده عن منهج الله وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الاكتفاء بحدود الشبع .
وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم لله طوعا في المسخرات .
(1/1057)
وإياك أن تفهم أن هناك إسلاما بالقهر والإكراه . وبعض العلماء قد فاتهم ذلك وهم يعطون لخصوم الإسلام حجة الإسلام حجة فيقولون : " إن دينكم انتشر بإكراه السيف " ولذلك نقول لهم : لا ، إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لأن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الاختيار . إن السيف قد رُفع ليمنع الإكراه ، وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال لهم السيف : " قفوا عند حدكم ، ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون " ، ودليل ذلك أن البلاد التي فتحها الإسلام تجد فيها غير المسلمين ، ولو كان الأمر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى . غير الإسلام ، نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون " إنكم تفرضون جزية " .
ونقول لهم : أنتم تردون على أنفسكم ، نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على كفره ، والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلاد مكروه .
إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟
نحن نفهمها كالآتي : إن الإنسان هو الذي انقسمت عنده المسائل ، وفيه أمور تدخل في فعله ومراداته ، وفيه أمور تجدث قهرا عنه ، وتحدث له بلا إرادة ولا اختيار ، فالإنسان يكون مختارا في الفعل الذي يقع منه ، أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فلا دخل له فيه بالاختيار؛ إن أحدا منا لا يختار يوم ميلاده ، أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض ، والإنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك ونقول للإنسان الذي لا يعرف أو يتجاهل ذلك : أيها الإنسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما لله كرها إنك تسلم لله دون إرادتك في كثير من الأمور التي تقع عليك ، ولا تستطيع لها دفعا ، فلماذا تقف في الإسلام عند زاوية الاختيار؟
إن المسخرات كلها مسلمة لله ، والإنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور لا يستطيع دفعها . هو تسليم لله كرها من الإنسان ، وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها الإنسان هي مسلمة لله ، مثلك في ذلك مثل كل الكائنات ، أفلا يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر ألا يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟
ولنر ما سيحدث له لا بد أن يتوقف عن التنفس؛ لأن التنفس يحدث رغما عنه ، لا بد أن يوقف دقات قلبه؛ لأنها تدق رغما عنه . وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه كافرا ، ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ولا تأتي له ، ويكره أمورا وتنزل به ، ولم يفلت أحد من الإسلام لله ، لأن الله قد اختار لكل إنسان يوم الميلاد ويوم الموت ، واختار الله للإنسان أن تجري الأحداث فوقه ولا يستطيع دفعها ، ويصبح خاضعا رغم أنفه ، لذلك قال الحق : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .
(1/1058)
إذن ولنأخذ " طوعا " لغير الإنسان ، وللمؤمن الذين نفذ تعاليم المنهج ، ولنأخذ " كرها " في المسائل التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها وتقع عليه وهو يكرهها ، ولا يستطيع دفعها ، لأن الذي يجريها عليه هو الخالق الفعال لما يريد ، وما دامت هناك زاوية من حياتك أيها الإنسان أنت مكره فيها فلماذا تمردت في المسألة الاختيارية؟
كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر : " لا " ، ويتجه إلى الإيمان؛ لأن المؤمن يأخذ هذه النقطة ويقول : أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى لا تطغى ملكة على ملكة ، ولا تطغى إرادة على إرادة أخرى ، وهذه رحمة من الله بالخلق .
وحين يسلم الإنسان منهجه لله فإنه يفعل ما يطلبه المنهج ولا يفعل ما يحرمه المنهج ومن يريد أن يقف في " افعل " و " لا تفعل " ، ونقول له : إذا فعلت ما الذي يستفيده الله منك؟ وإذا لم تفعل ما الذي يضر الله منك؟
لا شيء ، إن عليك أن تفكر جيدا فالأمر إنما يُرَدّ أو يتمرد عليه إن كان للآمر فيه مصلحة ، وحيث إنه لا مصلحة للحق سبحانه وتعالى في مراداته من الخلق إلا إصلاح الخلق ذاته ، إذن فمنهج الحق هو لمصلحة الإنسان ، وأول ما يصاب به من يقف في منهج الله أنه يصبح ضد نفسه ، ولا ينسجم مع الكون ، فإن كان هناك من يريد ألا يسلم ، فليجرب نفسه بألا يسلم في المقهورات التي هو مقهور عليها ، وهذا أمر مستحيل .
ولنقرأ الموقف القرآني بدقة ، لنرى أنه الحق بعد القسم وبعد العهد وبعد الإشهاد عليه ، قال لنا : { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . إن من يبغي غير دين الله ليس منطقيا مع نفسه أو مع الكون؛ لأن الكون كله لله بما فيه ومن فيه من السماوات والأرض ، وكذلك الإنسان الذي ارتضى منهج الله ، وأيضا أسلم الكافر لله فيما ليس له فيه اختيار .
" وأسلم " في هذا السياق القرآني الكريم تعني أنه خضع وسُخر ، وقُهر على أن ينفذ ، ولكن الحق سبحانه أورد عن السماء والأرض قال : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . إن المألوف أن ترضخ السماء والأرض لأمر الله ، وعندما " قالتا أتينا طائعين " فقد كسبت السماء والأرض الإسلام لله ، فإلى الله كل مرجع فالإنسان - مؤمنا كان أو كافرا - سيعود إلى الله حتما .
وكلمة " يرجعون " التي تأتي في تذييل الآية يمكننا أن نراها في مواقع أخرى من القرآن مرة تأتي مبنية للمفعول وننطقها " يُرجعون " بمعنى أنهم مقهورون على الرجوع إلى الله ، ونجدها في مواقع أخرى في القرآن كفعل مبنى للفاعل فننطقها { يُرْجَعُونَ } ، أي أنهم يريدون الإسراع في العودة إلى الله ، وفي هذه الآية نفهم أن الذين يبغون غير دين الله لا يرغبون أن يعودوا إلى الله لذلك يتم إرجاعهم بالقهر ، فسبحانه وتعالى يقول :
(1/1059)
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك : { قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط . . . }
(1/1060)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
عندما ننظر إلى هذه الآية بخواطرنا فإننا نجد أن الحق يمزج الرسول والمؤمنين به والمرسل إليهم في الإيمان به ، ويتحدث إلى الرسول والمؤمنين كوحدة إيمانية ، إن قول الحق : " قل " هو خطاب لمفرد هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والمقول : { آمَنَّا } دليل على انسجام الرسول مع الأمة المؤمنة به ، فكأن الأمة الإسلامية قد انصهرت في " قل " ، وكأن الرسول موجود في { آمَنَّا } ، وبذلك يتحقق الامتزاج والانسجام بين الرسول وبين المؤمنين به ، ويصير خطاب الحق إليهم هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة لا انفصام فيها .
وقد جاء الحق بهذا الأسلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته ، بل جاء ليحمل أعْباءَ هذه الأمة ، ولذلك قلنا من قبل : إن للرسول صلى الله عليه وسلم إيمانين ، لقد آمن بالله ، وأمن للمؤمنين ، وهو صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا ، لأنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها ، لقد أتم البلاغ وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها ، ولذلك يقول الحق : { قُلْ آمَنَّا } ، كان القياس أن يقول : " قل آمنت " ، أو أن يقول : { قولوا آمَنَّا } . لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها ، فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها ، ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته ، وقد قال الحق هنا : { قُلْ آمَنَّا } ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته ، وأمة الإسلام في طواعية لرسولها ، والأمر يأتي لرسول الله من الحق سبحانه ، والتنفيذ لهذا الأمر يكون من الجميع ، وفي هذا إشعار للخصوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون ذا عصبية إيمانية قوية ، فلو قال : " قل آمنت " لكان معنى ذلك أن الرسول لن يملك إلا إيمانه فقط ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به قومه ، وكثير غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً } [ النصر : 1-2 ] .
وعندما نقرأ قوله الحق : { قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة في مسألة الإنزال ، فمرة يقول الحق : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] .
ومرة أخرى يقول الحق : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 64 ] .
وهكذا نجد أن " الإنزال " يأتي مرة متعديا ب " إلى " ، ويأتي مرة مرة أخرى متعديا " بعلى " . وقال بعض من العلماء : إن الكلام حينما يكون موجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحق يقول : " أنزل عليك " ، وكأن هؤلاء العلماء - دون قصد منهم - يفصلون بين بلاغ الله للرسول عن البلاغ إلى أمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يلتفتوا إلى أن الغاية من إنزال المنهج على الرسول هو هداية الأمة .
(1/1061)
ونحن نقول : إن علينا ألا نأخذ الأمر بسطحية من أسلوب ظهر لنا؛ ذلك أن هناك أسلوبا خفيَّا ، وهو أن " إلى " و " على " إنما تفيدان أن المنهج نزل للأمة والرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فمرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب " إلى " والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله الحق : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ المائدة : 83 ] .
ومرة يأتي الحق بالنزول متعديا ب " على " والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله الحق : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 64 ] .
ومرة ثالثة يأتي الحق بالإنزال في حديث إلى المؤمنين : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } [ النساء : 140 ] .
إنه كتاب منزل من السماء وملحوظ فيه العلو ، والغاية من النزول هو مصلحة الأمة ، فالإتيان ب ( على ) يْفيد العلو ، ولمصلحة الأمة ، " العلية " هنا لتزيد مقام المنهج بالنسبة للمؤمنين فهو قد نزل لمصلحتهم . إذن فالنزول يقتضي " علِّية " ، وهو من حيث العلو يأتي ب " على " ، ومن حيث الغاية يأتي ب " إلى " ، فهو منهج نزل من الحق الأعلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه إلى المؤمنين لمصلحتهم . ولذلك قلنا : إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فلا يصح أن نفهم أن الله قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته ، إنما جاء مثل هذا القيد لقيد الملايين من أجل حرية الفرد ، مثال ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على الإنسان ، فهو أمر لكل إنسان من الملايين وهو لمصلحة كل إنسان ، فالقرآن قد نزل لمصلحتك ، ومصلحة المؤمنين جميعا .
وعندما نقرأ قوله الحق : { قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . فهذا القول يوضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بمنهج يضم صحيح العقائد والقصص والأخبار ، وهو يوافق ما جاء في موكب الرسالات من يوم أن خلق الله الأرض وأرسل الرسل . وقد أخذ الله العهد على الأمم والأنبياء من قبل ، بأنه إذا جاء رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ، وكذلك أخذ الله على رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بالرسل السابقين ، فهو صلى الله عليه وسلم لم يأت ليهدم أديانا ، ولكن ليكمل أديانا ، وهكذا نرى النص القرآني الجليل :
(1/1062)
{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] .
كأن الأديان السابقة بكل ما جاء فيها من صحيح العقائد ، والقصص ، والأخبار موجودة في الإسلام ، وفوق كل ذلك جاء الإسلام بشرائع تناسب كل زمان ومكان ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف : " إنما مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا أحسن من هذا لولا موضع هذه اللبنة فكنت أنا اللبنة " .
إذن فزمام كل الأمر انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخذ الله العهد على غيره أن يصدقوه عندما يجيء ، وهو صلى الله عليه وسلم آمن وصدق بمن سبق من الرسل ، ولم يجيء من بعده شيء يطلب من رسول الله ولا من أمته أن يصدقوه ، وقال الحق تذييلا لهذه الآية الكريمة : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
أي أنه لا يوجد لأتباع أي رسول من الرسل السابقين ما يعطيهم سلطة زمنية ، بل المسألة كلها تبدأ من الله ، وتنتهي إلى الله . وتلك هي القضية النهائية في موكب الرسالات . وما دام الإسلام هو ذلك الانقياد الذي يختاره الإنسان لنفسه ليكون منسجما مع نفسه في الإسلام لله ، ويكّون انسجاما مع الكون الآخر وما يحتويه من حيوان ونبات وجماد وغيرها في أنه أسلم خضوعا لله ، وبذلك يصبح الكون بما فيه الإنسان المؤمن المسلم لله كله مسخَّراً لله سبحانه وتعالى . وما دام الكون بالإنسان قد صار مسخرا لله فلا تضاد في حركة لِتعاند حركة أخرى؛ لأن الذي يهيمن هذه الهيمْنة هو الذي وضع لكل إنسان في مجال حركته في الحياة قانونا يعصمه من أن يصطدم بغيره ، وإذا كان البشر قد استطاعوا أن يضعوا لأنفسهم معايير تمنع التصادم في الحركة ، ذلك التصادم الذي يؤدي إلى كوارث ومصائب .
مثال ذلك ، للنظر إلى السكك الحديدية ، ألا يوجد موظف اسمه " المحولجي "؟ ومعنى هذه الوظيفة هو أن القائم بها يقوم بتحويل القاطرة القادمة من طريق معين إلى مسار محدد حتى لا تدهم قاطرة أخرى جاءت من الطريق نفسه . إن ذلك من فعل الإنسان فيما صنع من قطارات ومواصلات ، لقد صنع أيضا وسائل تمنع تصادمها ، فما بالنا بالحق - وله المثل الأعلى - وهو الذي خلق الإنسان؟ إنه سبحانه قد وضع المنهج حتى لا تصطدم حركة في الوجود بحركة أخرى .
ولننظر إلى الأشياء التي جاءت بقانون التسخير ، والأشياء التي دخلت في ظل الاختيار . أسمعنا أن جملين سارا في طريقين متعارضين واصطدم الجمل بجمل؟ لم يحدث ذلك أبدا ، فالجمل يفادي نفسه وما يحمل من الجمل الآخر وما يحمله ، لكننا نسمع عن تصادم سيارة مع سيارة ، ذلك أن السيارة لا تسير بذاتها بل تسير بقيادة إنسان مختار ، وهو الذي يصدم وهو الذي قد تأتي منه في غفلته الكوارث .
(1/1063)
إذن فتصادم حركة بحركة إنما ينشأ في الأمور الاختيارية ، أو غفلة إنسان عن مهمته ، كغفلة " المحولجي " عن عمله في تنظيم مرور القطارات ، لكن تصادم حركة في الوجود بحركة أخرى في الوجود هو أمر مستحيل ، ولا يحدث أبدا ، لأن الأمر الذي ما زال في يد المهيمن الأعلى ، مهيمن الأرض والسماء ، وهو الله الذي يسير الكون منسجما ويعرفنا بصفاته فيقول : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }
ومعناه : أني أنا القائم بأسبابكم ومدبر أمركم ولا أنام أو تأخذنا سنة أو غفلةاي فناموا أنتم فقد سخرت الوجود كله من أجلكم .
وما دام الأمر في الإسلام هكذا ، والوجود ينسجم مع نفسه ، فلماذا تشذ أنت أيها الإنسان عن الوجود؟ ولماذا تشِّذُ عن ملكات نفسك؟
لماذا لا تكون منسجما مع الكون؟ إنك إن انسجمت مع نفسك ومع الكون صرت الإنسان السعيد .
وفي عصرنا الحديث نرى ارتقاء العالم ماديا بصورة عالية ، بحيث يقع الحدث في أمريكا مثلا فنراه على شاشة التلفزيون فورا ، ويركب الإنسان مركبا صاروخيا إلى الفضاء ولكن هل استراح العالم؟ لا ، لقد ازداد العالم عناء ، وكأنه يكد ذهنه ويرهق العلماء في معاملهم لابتكار أشياء تعطي للعالم مزيدا من القلق والاضطراب وتتصادم وتتعارض . وبذلك صار الكون لا يفرغ أبدا من حرب باردة أو ساخنة .
كل ذلك إنما ينشأ من إدارة أمور العالم بأهواء البشر ، فلسنا جميعا مردودون إلى منهج واحد يأمرنا فنأتمر ، وينهانا فننتهي ، بل كل إنسان يتبع في عمله هواه ، لذلك نرى القلق والاضطراب ، ونرى الصرخات تملأ الدنيا من أهوال ومصائب ، منها مثلا المخدرات هو إنسان غير راضٍ عن واقع حياته ، فلا يريد مواجهة حياته ، إنما يحاول الهرب منها بالإدمان ، ونقول لمثل هذا الإنسان : ليس هذا حلا للمشكلة؛ لأن الإنسان عندما تأتيه مشكلة فهو يحتاج عقلا على عقله ليواجه هذه المشكلة ، وأنت بهذا الإدمان إنما تُضَيِّع عقلك ، رغم أنك مطالب بأن تأتي بعقل آخر بجانب عقلك لتحل مشكلتك ، فالهرب من المشكلة لا يحلها ، إنما الهروب غباء وقلة فطنة فالمشكلة زادت تعقيدا ونقول للمجتمعات التي تشكو من مثل هذه البلايا لو أخذتم شرائعكم من منهج الله لكان ذلك حماية لكم من مثل تلك الكوارث .
وهكذا نرى أن كل الابتكارات تُوجه دائما إلى الشر أولا ، فإذا لم يوجد لها ميدان شر فإننا نوجهها إلى الخير ، ويا ليته خير خالص لوجه الله ، لا ، إنه خير مجنح ومنحرف عن الخير لأن الذي لا يملك هذا اللون من الاختراعات كالشعوب النامية والعالم الثالث قد جعله المخترعون بوساطة هذه الاكتشافات والاختراعات مستعبدا ومقهورا لهم؛ إنهم جعلوا تقدمهم استعبادا وإذلالا لغيرهم وإن تظاهروا بغير ذلك .
(1/1064)
لماذا يحدث كل ذلك؟ لأننا لم نكن منطقيين - كما يجب - مع أنفسنا ولا مع واقع الأمور النهوضية التي نحن فيها فالطموحات العلمية التي لا حد لها لا يصح أن تسبب لنا كل هذا التعب ، بل كان المفروض بعد الوصول إلى تحقيق هذه الطموحات ان نستريح ، ولكن لِمَ لم يحدث هذا؟ لأن زمامنا نحن البشر بيد أهوائنا ، والأهواء ليست هي اليد الأمينة ، إن اليد الأمينة هي شرع الله الذي لم يشرع إلا لمصلحة من خلق ، وما دام الإسلام يرسم طريق الأمان مع الخالق والنفس والكون الذي نحياه ، بما فيه من الأجناس الأخرى ، إذن فالدين عند الله هو الإسلام ، وهذه هي النتيجة الحتمية لذلك يقول الحق سبحانه : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ويتبعها الحق سبحانه بقوله : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ . . . }
(1/1065)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين الإسلام ، ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله الله منه . فإن كان هناك من لا يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا : إن في هذا التقنين قسوة؛ إنك تُقطع يد إنسان وتشوهه نرد على مثل هذا القائل : إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل السيارتين ، أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر .
ونحن عندما نبحث عن عدد الأيدي التي تم قطعها في تاريخ الإسلام كله ، فلن نجدها إلا أقل كثيرا من عدد المشوهين بالحوادث ، وأي ادعاء بالمحافظة على جمال الإنسان مسألة تثير السخرية؛ لأن تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة ، بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات والآلاف ، إن مثل هذا القول سفسطة ، هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ لا ، إن تشريع العقوبة يعني تحذير الإنسان من أن يرتكب الذنب .
وعندما نقول لإنسان : " إن قتلت نفسا فسيتولى ولي الأمر قتلك " أليس في ذلك حفاظ على حياته وحياة الآخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة كل إنسان ، يقول الله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ] .
وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلامة ، إذن فقول الحق سبحانه : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه الله فكأنه خطأ الله فيما شرع ، وكأنه قد قال لله : أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الإله؛ لأنه قد فاتتك هذه المسألة .
وفي هذا القول فسق عن شرع الله ، وعلى الإنسان أن يلتزم الأدب مع خالقه . وليرد كل شيء إلى الله المربي ، وحين ترد أيها الإنسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح ، اللهم إلا أن يكون لك مصلحة في الانحراف . فإن كان لك مصلحة في الانحراف فأنت تريد غير ما أراد الله ، أما إذا أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحق : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .
وقد يقول قائل في قوله تعالى : { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } إن هذه العبارة لا تكفي في منحى اطمئنانا إلى جزاء العمل الذي أتقرب به إلى الله ، فالله قد يقبل وقد لا يقبل فهو - سبحانه - لا أحد يكرهه على شيء ، ونقول له : إنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت تستطيع ، فكن عاقلا ولا تتمرد على أمر ربك ، ويقول الحق : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } . والخاسر : مأخوذة من " الخسر " ، و " الخسر " هو ذهاب رأس المال وضياعه ، والآخرة حياة ليس بعدها حياة ، ومن الغباء أن يقول قائل : " سوف أتعذب قليلا ثم تنتهي المسألة " لا ، إن المسألة لا تنتهي؛ لأن الآخرة حياة دائمة ولا حياة بعدها . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَق . . . }
(1/1066)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
إننا نرى هنا الأسلوب البديع؛ إن الحق سبحانه يدعونا أن نتعجب من قوم كفروا بعد الإيمان ، إنهم لو لم يعلنوا الإيمان من قبل لقلنا : إنهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان ، لكن الذي آمن وذاق حلاوة الإيمان كيف يقبل على نفسه أن يذهب إلى الكفر؟ إنه التمرد المركب .
وقد يتساءل إنسان قائلا : مادام الله لم يهدهم ، فما ذنبهم؟ نقول له : يجب أن تتذكر ما نكرره دائما ، لتتضح القضية في الذهن لأنها قضية شائعة وخاصة عند غير الملتزمين ، الذين يقول الواحد منهم : إن الله لم يرد هدايتي ، فماذا أفعل أنا؟ إن ذلك استدلال لتبرير الانحراف ومثل هذا القول لا يصدر إلا من المسرف على نفسه ، ولا يأتي هذا القول أبدا من طائع لله ، إن الذي يقول : " إن المعصية إنما أرادها الله مني ، فما ذنبي؟ " يجب أن يعرف أن الطاعة من الله ، فلماذا لم يقل : " إن الطاعة من الله فلماذا يثيبنا عليها؟ لماذا تغفل أيها العاصي عن ذكر ثواب الطاعة ، وتقف عند المعصية وتقول : " إن الله قد كتب على المعصية فلماذا يعذبني؟ " كان يجب أن نقول أيضا : " ما دام قد كتب علي الطاعة فلماذا يعطيني عليها ثوابا؟ " .
إننا نقول لمن يبرر لنفسه الانحراف : إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها ، وتريد أن تهرب من عقاب المعصية . وأنت تحتاج إلى أن تفهم الأمر على حقيقته ، لقد قلت من قبل : إن " الهداية " تأتي بمعنيين " هَدَى " أي دل على الطريق الموصلة للغاية المرجوة ولم يصنع شيئا أكثر من ذلك والمثال هو إشارات المرور الصماء؛ إن كل إشارة توضح طريقا معينا وتهدي إليه ، وإشارة أخرى توضح طريقا آخر وتهدي إليه . ولا يوجد أحد عند هذه الإشارة يأخذ بيد إنسان ويقول له : أنا سآخذ بيدك وأصلح العربة عندما تقف منك ، أو أركب معك لأوصلك إلى غايتك .
إن هذه الإشارة هي هداية فقط ، إي أنها دلالة على الطريق الموصلة إلى الغاية المرجوة والله سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعا المؤمن منهم والكافر أيضا ، أي دلّهم سبحانه على الطريق الموصل للغاية . وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين : قسم قبِل هذا المنهج وارتضاه وسار كما يريد الله ، وساعة أن راح هذا المؤمن إلى جناب الله وآمن به ، فكأن الحق يقول له : إنك آمنت بي وبمنهجي ، لذلك ستكون لك جائزة أخرى ، وهي أن أعينك وأخفف عليك الأمور ، وهذه هي الهداية الثانية التي يعطيها الله جائزة لمن آمن به وارتضى منهجه وتعني " المعونة " ، إن الله يعطي عبده المؤمن حلاوة الطاعة ، ويجعله مقبلا عليها بنشاط .
(1/1067)
إذن فالهداية تكون مرة " دلالة " وتكون مرة ثانية " معونة " إنني أكرر هذا القول حتى يتضح الأمر في أذهاننا جميعا ، ولنذكره دائما ، ونقول : مَن يعين الإنسان؟ إن الذي يعينه هو من آمن به ، أما من كفر بالله ، فلا يعينه الله .
وسبق أن قلت مثلا - وما زلت أضربه - : إن إنسانا ما يسير في طريق ثم التبس عليه الطريق الموصل للغاية كالمسافر إلى الإسكندرية مثلا ، وبعد ذلك وجد شرطيا واقفا فسأله : أين الطريق إلى الإسكندرية؟
فيشير الشرطي إلى الطريق الموصل إلى الإسكندرية قائلا للسائل : هذا هو الطريق الصحيح إلى الإسكندرية .
إن الشرطي هنا قد دل هذا الإنسان ، لكن عندما يقول السائل للشرطي : " الحمد لله أنني وجدتك هنا لأنك يسرت لي السبيل " فهذا القول يأسر قلب الشرطي ، فيزيد من إرشاداته للسائل ويوضح له بالتفصيل الدقيق كيف يصل إلى الطريق ، وينبهه إلى أي عقبة قد تعترضه ، وإن زاد السائل في شكره للشرطي ، فإن ذلك يأسر وجدان الشرطي أكثر ، ويتطوع ليركب مع السائل ليوصله إلى الطريق ، شارحا له ما يجب أن يتجنبه من عقبات ، وبذلك يكون الشرطي قد قدم كل المعونة لمن شكره .
لكن لنفترض أن رجلا آخر سأل الشرطي عن الطريق ، فكذب الرجل الشرطي ، وفي مثل هذا الموقف يتجاهل الشرطي مثل هذا الرجل ، وقد ضربت هذا المثل للتقريب لا للتشبيه . إن الحق يدل أولا بهداية الدلالة ، وقد هدى الله الناس جميعا ، أي دلهم على المنهج ، فمن ذهب إلى رحابه وآمن به ، أعطاه الله هداية ثانية ، وهي هداية المعونة والتيسير . { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
إن الحق يعطيهم حلاوة الهداية وهي التقوى ، كأن الحق يقول للعبد المؤمن : ما دمت قد أقبلت عليَِّ بالإيمان فلك حلاوة الإيمان ، أما الذي يكفر ، والذي يظلم نفسه بالشرك ، فالحق يمنع عنه هداية المعونة؛ لأنه قد رأى هداية الدلالة ولم يؤمن بها . إذن فالاستفهام في قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } هو تساؤل يراد به الإنكار والاستبعاد لا عن الهداية الأولى وهي هداية الدلالة ، ولكنه عن هداية المعونة ، أي : كيف أعين من كفر بي؟
والمقصود بهذا القول هو بعض من أهل الكتاب الذي جاءهم نعت الرسول صلى الله عليه وسلم في كتبهم حتى إن عبد الله بن سلام وهو منهم ، يقول : لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشد ، ومصداق ذلك ما يقوله الحق سبحانه وتعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون }
(1/1068)
[ الأعراف : 157 ] .
والتعبير القرآني الدقيق لم يقل : يجدون وصفة مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إنما يقول الحق : { الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] .
كأن الذي يقرأ التوراة والإنجيل يمكنه أن يرى صورة النبي عليه الصلاة والسلام من دقة الوصف ، لقد عرفته التوراة وعرفه الإنجيل معرفة مفصلة وشاملة ، مع نطق وقول يؤكد ذلك وهناك فرق بين أن " تعرف " وبين أن " تقول "؛ فقد يعرف الإنسان ويكتم ما عرف ، ولكنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم واعترفوا بذلك ، فقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا ، قال الحق سبحانه : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ] .
لقد أخذوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه نصرة على الكافرين ، فقالوا : سيأتي نبي ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فماذا فعلوا؟ إن الحق يجيب : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ] .
إذن هم آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من قبل مجيئه ، فلما جاء كفروا به . انظر إلى العدالة من الحق سبحانه وتعالى ، حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة الإيمانية . { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] .
إن الذين عندهم علم الكتاب هم اليهود والنصارى ، هؤلاء يشهدون أن محمدا رسول الله ، وإن القرآن بعدالته ينصف التوراة والإنجيل وهي الكتب التي بين أيديهم ، { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ } لقد آمنوا به رسولا من منطوق كتبهم ، ثم أعلنوها حينما قالوا : " يأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم " .
فإذا كانوا قد صنعوا ذلك ، فكيف يهديهم الله؟ إنهم ليس لديهم الاستعداد للهداية ، ولم يقبلوا على الله بشيء من الحب ، لذلك فهو سبحانه لا يعينهم على الهداية ولو أقبلوا على الله لأعانهم قال تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .
وهؤلاء لم يهتدوا ، فلذلك تركهم الله بدون هداية المعونة ، وهذا يوضح لنا معنى القول الحق : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [ النساء : 88 ] .
إن الذين لم يهتدوا بهداية الدلالة فلم يؤمنوا يضلهم الله أي يتركهم في غيهم وكفرهم ، أي أنه ما دام هناك من لم يؤمن بالله فهل يمسك الله بيده ليهديه هداية المعونة؟ لا؛ لأنه إذا لم يؤمن بالأصل وهو هداية الدلالة ، فكيف يمنحه الله هداية المعونة؟ وما دام لم يؤمن بالله أكان يصدق التيسيرات التي يمنحها الله له؟ لا . إنه لا يصدقها ، ويجب أن تعلم أن هداية الدلالة هداية عامة لكل مخاطب خطابا تكليفيا ، وهو الإنسان على إطلاقه ، أما هداية المعونة فهي لمن أقبل مؤمنا بالله وكأن الحق يقول له : " أنت آمنت بدلالتي فخذ معونتي " أو " أنت أهل لمعونتي " أو " ستجد التيسير في كل الأمور " ، أما الذي كفر فلا يهديه الله .
(1/1069)
.
إن الحق سبحانه لا يعين الكافر؛ لأن المعونة تقتضي ابتداء فعلاً من المُعان ، والكافر لم يفعل ما يمكن أن ينال به هذه المعونة ، فهو لم يؤمن ، لذلك يكون القول الفصل : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } ويكون القول الحق { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } ويكون القول الحق { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } . إن هؤلاء هم الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الأصيل وهو الشرك بالله كما قال الحق : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
والحق عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلالا ، ويختم على قلوبهم ، فلا يعرفون طريقا إلى الإيمان :
{ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ آل عمران : 86 ] .
لقد جاءهم الرسول بالآيات الدالة على صدق رسالته ، ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم ، وهو الشرك بالله ، ولكن هل هذه الآية قد نزلت في أهل الكتاب الذين كان عندهم نعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارات وبشارات به؟ أو نزلت من أجل شيء آخر هو أن أناسا آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به؟
إن القول الحق يتناول الفئتين ، وينطبق عليهم ، سواء أكانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل من قبل ولم يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام ، أم من الذين آمنوا برسالة رسول الله ثم كفروا به ، كما حدث من بعضهم في عهد الرسول ، مثال ذلك طعمة بن أبيرق ، وابن الأسلت والحارث بن سويد ، هؤلاء أعلنوا الإيمان واتجهوا إلى مكة ومكثوا فيها ، تاب منهم واحد وأخذ له أخوه ضمانا عند رسول الله ، والباقون لم يتوبوا .
إن القول الحق يتناول الفئتين ، وينطبق عليهم جميعا قوله تعالى :
{ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البينات والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ آل عمران : 86 ]
ويفصل لنا الحق سبحانه جزاء هؤلاء بقوله الحكيم : { أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ }
(1/1070)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
واللعنة هي الطرد من الرحمة ، والله يعلم كل ملعون منهم ، وما داموا قد طُرِدوا من رحمة الله فالملائكة وهم المؤمنون بالله إيمان المشهد يرددون اللعنة ، والمؤمنون من خلق الله يرددون اللعنة ، وكذلك يلعنهم جميع الناس ، وكيف يلعنهم كل الناس سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا؟ كيف يلعنهم الكافرون؟ إن الكافر عندما يرى إنسانا يرتكب معصية ما فإنه ينزله من نظره ويحتقره وإن لم يكن مؤمنا .
وهَب أن كافرا وجد إنسانا يخرج على المنهج ويفعل معصية ويرتكب جُرماً ألا يلعن الكافر مثل ذلك الإنسان؟ إنه يلعنه لأن الفطرة المركوزة التي فطر الله الناس عليها ترفض ذلك ولا ترتضيه .
وهكذا شاء الحق أن يجعلهم ككفار يتلاعنون فيما بينهم ، ونجد أن جميع الناس يلعنونهم كذلك؛ لأنهم قد خرجوا عن منهج الله بالكفر بعد الإيمان ، وجرهم ذلك إلى اقتراف الآثام ، وهكذا تصبح الملاعنة من الجميع ، وهم مع ذلك خالدون في اللعنة قال تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
(1/1071)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
ومعنى { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } أي أن العذاب يظل دائما أبدا وقد يظن بعض الناس أن الكافر ما دام سيدخل النار ويحترق فسوف ينتهي أمره . لا إنه يغفل قضية ويذكر قضية ، إنه يتناسى قول الحق : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] .
إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائما وأبدا ، وقد يقول بعضهم : إن العلم قد توصل إلى أن الإنسان تقل حساسيته للألم الناتج من الضرب بالسوط بعد العشرين سوطا الأولى ، وهو بذلك ينسى أن العذاب في الآخرة على نمط آخر ، إن الله يخلق للمعذب إحساسا جديدا ليظل مستشعرا دائما العذاب ، قال الحق : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي أن عذابهم مؤكد ولا يتركهم الحق ليستريحوا من عذابهم . وبعد ذلك يقول تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(1/1072)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
والحق سبحانه وتعالى هو الخالق للخلق كلهم ، يحب أن يكونوا على ما يود ويحب؛ لأنهم صنعة الله فهو سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين
وقد أمر عباده أن يتوبوا إليه توبة نصوحاً أي توبة صادقة خالصة لا رجوع فيها هذه التوبة تتسم بالاقلاع عن الذنب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة للذنب مرة أخرى ورد المظالم لأصحابها إن كانت هناك مظالم .
وقد قال صلى الله عليه وسلم " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " .
وهكذا أوجد الحق تشريع التوبة بهدف إصلاح الكون؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة لمن أذنب فإن من غفل عن منهج الله ولو مرة واحدة قد يصير في نظر نفسه ضائعا فاسداً مرتكبا لكل الحماقات ، فكأن الله بتشريع التوبة قد ضمن لصاحب الإسراف على نفسه في ذنب أن يعود إلى الله ، كما يرحم المجتمع من شرور إنسان فاسد ، إذن فتشريع التوبة إنما جاء لصالح الكون ، ولصالح الإنسان لينعم بمحبة الله ، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 89 ] .
فبرغم كفرهم السابق إلا أن الله برحمته لا يدخلهم في الوعيد؛ لأنهم مطالبون بالتوبة والإصلاح ، ومعنى كلمة " أصلح " أنه زاد شيئا صالحا على صلاحه . والكون ليس فيه شيء فاسد . اللهم إلا ما ينشأ عن فعل اختياري من الإنسان وعلى التائب أن يزيد الصلاح في الكون ، وهكذا نضمن ألا يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لأن من يريد أن يزيد الصالح صلاحا ، لن يفسد الشيء الصالح .
وربما كان هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم الإيماني ساعة يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم ، يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمر صالح حتى يَجْبُر الله كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللاحقة .
ولذلك تجد كثيرا من الناس الذين يتحمسون للإصلاح وللخير ، هم أناس قد تكون فيهم زاوية من زوايا الإسراف على نفوسهم في شيء ، وبعد ذلك يتجهون لعمل الخيرات في مجالات كثيرة جدا ، كأن الله يقول لكل منهم : أنت اختلست من محارمي شيئا وأنا سآخذك إلى حلائلي ، إنه الحق يجعل من معصية الفرد السابقة سياطا دائمة تلهب ضميره فيتجه إلى الخير ، فيتصدق على الفقراء ، وربما كان أهل الطاعة الرتيبة ليس في حياتهم مثل هذه السياط .
ولكن الذين أسرفوا على أنفسهم هم الذين تلهبهم تلك السياط ، فساعة يرى الواحد منكم إنسانا قد أسرف على نفسه فليدع الله له بالهداية ، واعلم تمام العلم أن الله سيُسَخِّر منه ما يفعل به الخير؛ لأن أحدا لن يسرق الكون من خالقه أبدا . وهذا ينطبق على من قال عنهم الله : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } ( وأصلحوا ) أي عملوا صلاحات كثيرة لأن حرارة إسرافهم على نفوسهم تلهب ظهورهم دائما ، فهم يريدون أن يصنعوا دائما أشياء لاحقة تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها .
وبعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ . . . }
(1/1073)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
هذه الآية تحدث عن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم ، وازدادوا كفرا ، هؤلاء لا تقبل توبتهم وهم الضالون ، وقد جاءت مقابلة للآية السابقة ، أناس تابوا وأناس لم يتوبوا . لكن كيف يزداد الكفر؟ إنه قد كفر في ذاته ، وبعد ذلك كان عائقا لغيره عن أن يؤمن ، وهو لا يكتفي بخيبته ، بل يحاول أن ينشر خيبته على الآخرين ، وفي ذلك ازدياد في الكفر والعياذ بالله ، وهذا القول قد نزل في بعض من اليهود الذين آمنوا بالبشارات التي تنبأت بمقدم عيسى عليه السلام ، فلما جاء عيسى كفروا به ، ولما جاء محمد ازدادوا كفرا .
لقد كفروا بعيسى أولا ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد وادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه ، وهؤلاء ليسوا من الذين تابوا . أو أنهم أعلنوا التوبة باللسان ، ولم يتوبوا التوبة النصوح ، " والراجع في توبته كالمستهزئ بربه " . وقانا الله وإياكم هذا المنقلب .
وبعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ . . . }
(1/1074)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
لقد كفروا ، ولقد يقدر الله لهم أن يتوبوا ، فماتوا على الكفر ، ويريد الله أن يعطينا حكما خاصا بعملهم في الدنيا ، وحكما خاصا بما يتلقونه من عذاب في الآخرة ، والحكم الخاص بعملهم في الدنيا سببه أن لهم اختيارا ، والحكم الخاص بما يتلقونه في الآخرة من عقاب لأنه لا خيار لهم ، وهنا للعلماء وقفة ، فهل ملء الأرض ذهبا أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الأرض ذهبا؟ نقول له : لا ينفعك هذا الإنفاق في أعمال الخير لأن أعمالك حابطة .
هب أن كافرا مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الأرض ذهبا ، نقول له : هذا الإنفاق لا ينفع ، مع الخيانة العظمى وهي الكفر ، فما دام غير مؤمن بإله ، فهو قد أنفق هذا المال من أجل الناس ، وصار منفقا على من لا يقدر على أن يجازيه بالخير في الآخرة ، لذلك فليس له عند الله شيء ، فالذي يعمل عملا ، عليه ان يطلب أجرا ممن عمل له ، فهل كان الله في بال ذلك الكافر؟ لا؛ لأنه مات على الكفر ، لذلك لو أنفق ملء الأرض ذهبا فلن يقبل منه . لقد صنع ذلك الخير وفي باله الناس ، والناس يعطونه حقه من الثناء ، سواء كان مخترعا أو محسنا أو غير ذلك ، إنه ينال أجره من الإنسانية ، وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " وفعلت ليقال وقد قيل " .
كأن الله يقول له : لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجرا في الآخرة ، لم يكن في بالك أن الملك لي ، قال سبحانه : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وبعض الناس يقول : كيف لا ينال ثواب الآخرة من ملئوا الدنيا بالاكتشافات والابتكارات وخففوا بها آلام الإنسانية؟ ونقول : لقد أعطتهم الإنسانية وخلدت ذكراهم ، وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات والأعياد والجوائز ، لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس ، فلا بخس في حقوقهم ، ذلك أنهم لم يعملوا وفي بالهم الله ، وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [ النور : 39 ] .
إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة انعكاسات الضوء ، فيظل السائر متجها إلى وهم الماء ، إنه يصنع الأمل لنفسه ، فإذا جاءه لم يجده شيئا ، ويفاجأ بوجود الله ، فيندم ويتلقى العذاب ، وكذلك لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو أنفقه في أي خير في الدنيا ، وبعد ذلك لن يقبل الله منه ملء الأرض ذهبا ، لو افتدى به نفسه في الآخرة ، إن كان سيجد ملء الأرض ذهباً وعلى فرض أنه قد وجد ملء الأرض ذهبا ، فهل يجد من يقبل ذلك منه؟ لا ، إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لأنه في الآخرة لم يعد يملك شيئا : يقول الحق :
(1/1075)
{ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
ويقول سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] .
{ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي إن لهؤلاء عذابا أليما؛ لأن كل حدث من الأحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله ، فإذا كان الحدث التعذيبي منسوبا إلى الله وله مطلق القوة والقدرة ، لذلك فالعذاب لن يطاق . ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب . لأنه لن يجد ناصرا له ، ولن يجد شفيعا فلن يأتي أحد ويقول : إن فلانا يتعذب فهيا بنا ننصره ، لا يأتي أحد لينصره .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ . . . }
(1/1076)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
وتؤدي كل مادة الباء والراء المضعفة إلى معنى " السعة " ، ف " البَرّ " أي الواسع والبَرّ أي الأرض المتسعة ومقابله " البحر " وإن قال قائل : " إن البحر أوسع من البر ، لأن حجم القارات ليس في حجم البحار والمحيطات التي تفصل بينها : " نقول لمثل هذا القائل " لا ، إن حركتك في البر - الأرض - موسعة ، وحركتك في البحر مضيقة؛ لأنك لا تتحرك في البحر إلا على شكل خاص ، إما أن تتحرك بسفينة أو حتى على لوح من الخشب ، أما حركتك في البر -الأرض- فأنت تمشي أو تركب ، تذهب أو تجيء ، فمجالك في البر متسع عن مجالك في البحر .
و " البِرّ " هو التقوى ، والطاعة ، أو هو " الجنة " وكلها معان ملتقية ، لأنها تؤدي إلى السعة ، فالطاعة تؤدي إلى السعة ، وكذلك التقوى ، وكذلك الجنة ، كلها ملتقية؛ لأن كلها سعة ، فأحدهم أخذ معنى الكلمة من مرحلتها الأولى أي بالسبب وهو الطاعة ، وبعضهم أخذها من المرحلة الأخيرة أي بالمسبب وهو الجنة ، وقد يسأل سائل ، لماذا أراد الله أن يجيء بحديث عن النفقة بعد الحديث عن تعذيب الكفار؟ ونقول : إن الحق حين يتكلم عمن يصيبه العذاب الأليم لأنه كفر ومات كافرا ، وماله من ناصرين فإن المقابل يأتي إلى الذهن ، وهو من آمن وعمل صالحاً ، ومات على إيمانه ، فله عكس العذاب الأليم وهو النعيم ، وسيجد من يأخذ بيده ، بينما الكافر لن يجد ناصرين له . إن المؤمن سيجد جزاء الله على الطاعة وهي البر؛ لأن البر هو كل خير ، وإن جاء اطلاقه فإنه ينصرف إلى الجزاء من الله وقمته هو الجنة .
وهكذا نرى المقابل لمعاملة الحق للكفار وهو معاملة الحق للمؤمنين ، لقد جاء هذا القول في القرآن وهو كلام الله المعجز ، وحين يخاطب سبحانه المكلفين بالمنهج . فهو يخاطب بكلامه ملكات إنسانية خلقها هو ، إذن فلا بد أن يغذي هذا الكلام كل الملكات المخلوقة لله ، فلو كان الخالق للملكات غير المتكلم لكان من الممكن ألا ينسجم الكلام مع الملكات ، ولكن الكلام هنا لله الذي خلق ، لذلك لا بد أن تنسجم الملكات مع كلام الله .
وفي النفس الإنسانية ملكات متعددة ، وهذه الملكات المتعددة متشابكة تشابكا دقيقا فتستطيع حين تخاطب ملكة سمعية أن تحرك مواجيد وجدانية ، فإن لم يكن العالم بالملكات عليما بها لما أمكن أن يجيء المنطق موافقا لملكة سمعية ، وموافقا لملكات وجدانية قد تتأتى بها طبيعة تداعى المعاني .
و " تداعى المعاني " هو الخاصية الموجودة في الإنسان ، ومعنى " تداعى المعاني " أن الإنسان يستقبل معنى من المعاني فيشير ذلك المعنى إلى معان خبيئة يستدعيها لتحضر في الذهن ، فمثلا حين ترى إنسانا تعرفه .
(1/1077)
فإن تداعى المعاني يعطيك تاريخك معه وتاريخه معك ، ويصور بخاطرك أيضا صورا عن أهله وأصدقائه ، ومعارفه ، ويأتي لك تداعى المعاني بالأحداث التي كانت بينك وبينه أو شاهدتها أنت وهذا هو ما نسميه " تداعى المعاني " أي أن المعنى يدعو المعنى .
وحين يخاطب الله سبحانه وتعالى الإنسان ، فإنه يخاطب كل ملكة فيه في آن واحد ، حتى لا تأخذ ملكة غذاءها ، دون ملكة أخرى لا تجد لها غذاء إن كلام الله جاء مستوفيا وكافيا لكل الملكات ، ومثال ذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يمنع المشركين من أن يطوفوا بالبيت ، وكان المشركون قبل تحريم الله لطوافهم ، يطوفون بالبيت ، ويأتون من أماكن سحيقة بعيدة ليطوفوا في موسم الحج ، وكانوا يأتون بأموالهم لينفقوها على أهل مكة ، ويشتروا كل شيء يلزمهم منها ، فموسم الحج كان موسما اقتصاديا . وحين يريد الله أن يمنع المشركين من الحج فهو يخاطب المسلمين المقيمين بمكة حتى يحولوا بين المشركين وبين الطواف ، وهو سبحانه قد علم - وهو العليم -بما خلق من ملكات ، يعلم سبحانه أن ملكة أخرى ستتدخل في هذا الوقت ، فيقول : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] .
وعندما ينزل هذا الحكم فلا بد أن تتحرك ملكات في النفس الإنسانية ، والحق قد علم أزلا أن ملكة النفعية الاقتصادية عند أهل مكة ستتحرك عند سماع هذا الحكم ، بمعنى أن بعضا من المسلمين المقيمين بمكة وقت نزول هذا الحكم قد يقولون : " وإذا كنا نمنع المشركين الذين يفدون علينا بالأموال ليشتروا بضائعنا وموسمهم الاقتصادي هو الذي يعولنا طيلة العام فماذا نصنع إذن؟ إن الله يعلم أنه عند نزول حكم بتحريم البيت على المشركين أن يقربوه فلا بد أن تتحرك في النفس الإنسانية تلك الملكية النفعية ، فيقول - سبحانه - عقب ذلك مباشرة : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 28 ] .
الخوف من العيلة ، أي الخوف من الفقر ، وتلك هي عظيمة الكلام الإلهي لأن رَبّاً يتكلم إن الإنسان حينما يتكلم قد تفوته معان كثيرة ، وبعد ذلك قد تحدث ضجة وبلبلة وثورة بين الناس ، لكن الحق الأعلى عندما يقول : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } ويتبع ذلك فورا بقوله المطمئن : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وقد فعل وجبي الحق وجلب إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء ، وكأنه يقول لنا : لا تعتقدوا أن هذه الثمرات قادمة عن طريق التطوع ولكنها رزق من لدنا ، كما جاء في قوله الحق : { وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
(1/1078)
[ القصص : 57 ] .
أي أنه ليست هناك حرية لأحد أن يعطي أهل البيت الحرام أو لا يعطي ، إنها جباية ، لطمأنة الملكية التفعية في النفس ، وهو سبحانه يعطي الأمان الاقتصادي الذي يترتب عليه قوام الحياة ، وعندما نمعن النظر في آيات القرآن نجد أن هناك آية قد تتقدم وآية قد تتأخر ، وآية قد تأتي في الوسط ، ونجد أن الآية الوسطى ، مرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي قبلها ، ومرتبطة بتداعي المعاني بالآية التي بعدها ، ولذلك لترتوي وتتغذى كل ملكات الإنسان فلا يأتي أمر يوحي بأن هناك ما ينقص النفس البشرية ، لنتأمل مثالا لذلك وهو قول الحق : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } [ المجادلة : 8 ] .
إن المشركين لم يقولوا لأحد : " إنما قالوا لأنفسهم " ، ويكشفهم الحق سبحانه العليم في أخفى خباياهم ، ويُظهر ما في أنفسهم ، وهو العليم بكل خفايا عباده والكاشف لكل الملكات النفسية في خلقه . وحين يقول الحق سبحانه : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } . فإن الآية تحريض على الإنفاق ، وجاءت بعد آية تفيد أن هناك إنفاقا لا يقبله الله في قوله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ آل عمران : 91 ] .
إذن فهناك لون من النفقة يرفضه الله ، وتداعى المعاني في النفس الإنسانية قد يجعل الإنسان يسأل " ما هي إذن النفقة المقبولة؟ " لذلك كان لا بد وأن يأتي قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فإذا كانت هناك نفقة مردودة فهناك أيضا نفقة مقبولة ، وهكذا نرى الآية التي تحرص على الإنفاق منسجمة مع ما قبلها . { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } ، قد يسأل سائل ، ولماذا لا ينال الإنسان البر إلا بعد ان ينفق مما يحب؟ وله أن يعرف أن طبيعة النفس الإنسانية هي " الشح " ولهذا جاء في القرآن الكريم : { فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } [ التغابن : 16 ] .
وشح النفس يأتي لأن الإنسان لا يأمن أبدا أن يأتيه العجز من بعد القدرة ، لذلك فإنه يحاول إن كان يملك شيئا أن يؤمن العجز المتوهم ، فيحافظ على ما عنده من حاجات ، ومن هنا جاءت الحيازة والملكية ولم تنشأ هذه الأشياء من أول الخلق ، وإنما نشأت من يوم أن ضاقت الأمكنة المُعْطية دون الحاجات ، فحين تكون الأمكنة المعطية تسع الحاجات فلا داعي لهذا العجز المتوهم .
لنفترض أن رجلا اشترى صندوقا من البرتقال ، ودخل منزله وعندما يحتاج ابن هذا الرجل لبرتقالة أو اثنتين فإنه يأخذ ما يريد ، لكن لو أحضر الرجل قليلا من البرتقال فإن زوج الرجل تكون حريصة على أن تقسم البرتقال بين الأولاد حتى لا تترك كل ابن على سجيته بما قد يحرم الآخرين .
(1/1079)
وهكذا كان الأمر في بدء استخلاف الله للإنسان في الأرض ، فمن أراد الأرض اخذ ، ومن أراد أكل الثمار فهي أمامه ، وعندما قلت مُعطيات الحاجات وذلك بضيق الأمكنة المعطية بدأت في الظهور الرغبة في الملكية ، وامتياز الأشياء ، والحق سبحانه يلفتنا في هذه المسألة وكأنه يقول لنا : إن النفقة لو نظرت إليها نظرة واقعية حقيقية لوجدت أنك أيها العبد مضارب لله في خير الله . ومعنى " مضارب " أي أنك تعمل عند الله بالعقل الذي خلقه لك ، وتخطط به ، وتعمل عند الله بالطاقة التي خلقها الله ، والمادة التي خلقها الله لك تنفعل معها فماذا لك أنت؟
إن كل شيء لله ، وأنت مجرد مضارب لا تملك شيئا وما دمت مضاربا أيها العبد ، فإعط لله حقه ، وحق الله لا يأخذه هو؛ فهو أغنى الأغنياء ، إن حق الله يأخذه أخوك غير القادر الذي لا يستطيع أن يتفاعل مع المادة ، ولا تظن أيها العبد أن الله حين طلب منك النفقة مما تحب أنه - جل شأنه - قد استكثر عليك ما طلب منك أن تنفقه ، إنه ساعة يأخذ منك لأخيك وأنت قادر ، إنما يطمئنك أنك إن عجزت فسيأخذ لك من القادرين ذلك هو التأمين في يد الله .
إن الحق يريد أن يحببنا في أن ننفق ، لكن الإنسان يحاول أن ينفق مما لا يحب ، فيهدي الإنسان الثوب الذي لم يعد صالحا للاستعمال يعطيه لفقير ، أو يعطي الحذاء المستهلك لواحد محتاج . لكن الله يأمرنا بأن ننفق مما نحب لذلك انفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمعوا هذا النص : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } هذا أبو طلحة حينما يسمعها يقول : يا رسول الله ، إن أحب مالي إليّ هو " بيرحاء " فأنا أخرجه في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعله في أقاربك ، فجعله في أقاربه ، وهذا زيد بن حارثة يسمع الآية الكريمة فينفعل بها كذلك ، وكان عنده فرس اسمه " سَبَل " وكان يحبه ، فيقول : يا رسول الله أنت تعلم حبي لفرسي ، وأنا أجعله في سبيل الله فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء بأسامة بن زيد وأركبه الفرس قال زيد : " فوجدت في نفس " أي أنه حزن ، وقال زيد : يا رسول الله أنا أردت أن أجعل الفرس في سبيل الله وأنت تعطي الفرس لا بني ليركبه . فقال رسول الله لزيد : " أمَا إنّ الله قبله منك " .
(1/1080)
وبعد ذلك ينفعل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه وكان عنده إبل ، والإبل لها فحل يلقح إناث الإبل ، وكان هذا الفحل أحب مال أبي ذر إليه وجاء ضيف إلى أبي ذر فقال له : إني مشغول ، فاخرج إلى إبلي فاختر خيرها لنذبحه لضيافتك . فخرج الضيف ، ثم عاد وفي يده ناقة مهزولة ، فلما رآها أبو ذر قال : خنتني ، قلت لك هات خير الإبل ، قال الضيف : يا أبا ذر لقد رأيت خيرها فحلا لك وقدرت يوم حاجتكم إليه . فقال أبو ذر : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي .
إن الصحابي الجليل أبا ذر يعرف أن يوم أن يوضع في الحفرة هو اليوم الجليل الذي يستحق من المرء أن يستعد له .
وسيدنا ابن عمر كان عنده جارية جميلة من فارس ، وكان يحبها ، فلما سمع الآية ، قال : ليس عندي أحب إليّ من هذه الجارية ، وأعتقها ، وكان من الممكن أن يتزوجها بعد أن أعتقها لكنه قال : لولا أن ذلك يقدح في عتقها لتزوجتها . وسيدنا أبو ذر رضي الله عنه يعطينا في مسألة الإنفاق درسا من أروع الدروس المستوعبة للملكة النفسية ، فيقول : في المال شركاء ثلاثة : القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيره وشره من هلك أو موت . أي أن القدر لا يستأذن عبدا في أن يذهب بالمال حيث يريد ، فتأتي أي مصيبة فتأخذ المال إلى هلك أو موت . هذا هو الشريك الأول في المال ، إنه القَدَر .
والشريك الثاني في المال يوضحه لنا أبو ذر فيقول : إنّه الوارث ، ينتظرك إلى أن تضع رأسك ، ثم يستاقها وأنت قد سلبت بالموت كل ما تملك في الدنيا وأصبحت من غير أهلها . إن الوارث يقول لنفسه : " فلأستمتع بما ترك لي " ، وهذا هو الشريك الثاني في المال .
ويوضح لنا أبو ذر رضي الله عنه الشريك الثالث في المال فيقول : والثالث أنت ، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن أعجزها ، أي إياك أن يغلبك على المال القدر أو الوارث ، ينبغي عليك أن تغلب بإنفاق المال في سبيل الله وإلا أخذه منك باقي الشركاء .
إذن لقد انفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية حينما نزلت حتى عدا الخير المحبوب منهم إلى غيرهم ، وكان جزاء ذلك الجنة . لقد عرفوا قول الحق : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } أي الجنة المترتبة على الطاعة أو التقوى ، أو سعة البركة أو سعة القوة ، وكلها معان ملتقية ، ولذلك يقول الله في الحديث القدسي : " قد كان العباد يكافِئون في الدنيا بالمعروف وأنا اليوم أكافئ بالجنة " .
إن الحق سبحانه الذي يعطي البر ثمنا لنفقة مما تحب يعلم هل أنفقت مما تحب فعلا أو تيممت الخبيث لتنفق منه ، فإياك أيها المؤمن أن تخدع نفسك في هذا الأمر ، لأن الذي البر ثمنا لنفقه مما تحب يعلم خبايا النفس ، لذلك يقول سبحانه : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .
(1/1081)
وعلم الله شامل ، إنه يعلم ما في نيتك ، وكيف أنفقت .
ولقد بين الحق سبحانه النفقة المرفوضة حتى ولو كانت ملء الأرض ذهبا ، ثم أوضح لنا أن هناك نفقة مقبولة وجزاؤها الجنة ، وبذلك نرى التقابل بين النفقتين ولماذا جاء هذا الحديث؟ لقد كذب بعض أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مستهل أمر الدعوة وكذبوا البشارة به ، والنعت والبشارة جاءا في التوراة والإنجيل ، وأنكروا الأوصاف التي ذُكِرت في كتبهم . حدث ذلك مع أنهم قد تورطوا من قبل في إعلان البشارة به { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } .
لقد أراد الله أن يفضحهم في التوراة التي يعتقدون أنها كتابهم وقد حرفوا بعض أحكام الله ، وظنوا أن هذه التحريفات ستظل مستورة ، لذلك جاء لهم بأحداث ولم ينتبهوا إليها لتقوم الحجة على أنهم قاموا بتحريف التوراة مثلما قلنا من قبل عن الخيبرية التي ارتكبت فاحشة الزنا ، وأراد رؤساء اليهود أن يخففوا العقوبة عنها ، لأن العقوبة الواردة في التوراة على جريمة الزني هي الرجم وقال هؤلاء الرؤساء : " نذهب إلى محمد ، لعل لديه حكما مخففا " فلما ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضح لهم أنه الرجم . فقالوا : لا ، إنك لم تنصف في حكمك . فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم إنه يرضى بحكم التوراة التي عندكم وجيء بالتوراة وأمرهم الرسول أن يقرأوا فلما جاءوا إلى آية الرجم أرادوا أن يغفلوها فقال ابن سلام : إنهم يا رسول الله قد وثبوا وأغفلوا الآية .
وهكذا انتبه الجميع إلى أن رؤساء اليهود أرادوا ان يتخطوا حكما لله موجودا عندهم وأرادوا أن ينكروه ، كما فعلوا وأحدثوا في وصف النبي عليه الصلاة والسلام ومحوا هذا الوصف ، ولم يتركوا له أثرا ، لكن الله انساهم بعض الأشياء لتكون بينة وآية على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعندما أحل الرسول صلى الله عليه وسلم الإبل وألبانها ، قالوا : هذه محرمة من أيام إبراهيم ومن قبله من أيام نوح ، ولا يمكن أن نقبل تحليلها ، فوضح النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنها ليست محرمة ، الله أحلها .
وكان يجب أن يفهموا أن الإبل وألبانها حتى وإن كانت محرمة من قبل إلا أن رسولا قد جاء من عند الله بتشريع له أن ينسخ ما قبله مع أنّ الإبل وألبانها لم تكن محرمة ، لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحتكم إلى التوراة . وهذه هي العظمة النورانية المحمدية ، فلا يمكن أن يقول صلى الله عليه وسلم : " نحتكم إلى التوراة " إلا وهو واثق أن التوراة إنما تأتي بالحكم الذي يؤيد ما يقول ، مع أنه لا يقرأ ولا يكتب . ويحضرون التوراة ، فيجدون الكلام مطابقا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك قال الله : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ . . . }
(1/1082)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
وحين يحرم نبي الله يعقوب - إسرائيل - طعاما ما ، فهو حر؛ فقد يحرم على نفسه طعاما كنذر ، أو كوسيلة علاج أو زهادة ، لكن الله لم يحرم عليه شيئا ، وما تحتجون به أيها اليهود إنما هو خصوصية لسيدنا يعقوب { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } فلماذا تقولون : إن الإبل وألبانها كانت محرمة؟
لقد فعلوا ذلك لأنهم أرادوا أن يستروا على أنفسهم نقيصة لا يحبون أن يُفضحوا بها ، وتلك هي النقيصة التي كشفها القرآن بالقول الكريم : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ]
إذن فهناك أشياء قد حُرمت على اليهود لأنهم ظلموا ، وهذه الآية الكريمة هي التي أوضحت أن الحق قد حرم عليهم هذه الأطعمة لظلمهم . ومعنى : { كُلَّ ذِي ظُفُر } أي القدم التي تكون اصابعها مندمجة ومتصلة ، فليست الأصابع منفصلة ، ونجدها في الإبل والنعام والأوز ، والبط ، وهذه كلها تسمى ذوات الظفر { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني الشحم الذي على الظهر . أما " الحوايا " فهي الدهون التي في الأمعاء الغليظة { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } . أي الشحم الذي يختلط بالعظم إن التحريم هنا لم يكن لأن هذه الأشياء ضارة ، ولكن التحريم إنما كان عقابا لهم على ظلمهم لأنفسهم وبغيهم على غيرهم .
وأقول ذلك حتى لا يقول كل راغب في الانفلات من حكم الله ما الضرر في تحريم الأمر الفلاني؟ إن محاولة البحث عن الضرر فيما حرمه الله هي رغبة في الانفلات عن حكم الله . فالتحريم قد يأتي أدبا وتأديبا ، ونحن على المستوى البشرى - ولله المثل الأعلى - يمنع الإنسان منا " المصروف " عن ابنه تأديبا ، أو يمنع عنه الحلوى ، لأن الابن خرج عن طاعة أمه ، إذن كان التحريم جزاءً لهم وعقابا قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 160-161 ]
وذلك هو الجزاء الذي أراده الله عليهم .
إن التشريع السماوي حينما يأتي لظالم يخرج عن منهج الله فكأنه يقول له ما هو القصد من خروجه عن منهج الله؟ لماذا يظلم؟ لماذا يأخذ الربا؟ لماذا يصد عن سبيل الله؟ لماذا يأكل أموال الناس بالباطل؟ إن الظالم يفعل ذلك حتى يمتع نفسه بشيء أكثر من حقه ، لذلك يأتي التشريع السماوي ليفوت عليه حظ المتعة ، وكان هذا الحظ من المتعة حقا وحلاًّ له ، لكن التشريع يحرمه .
(1/1083)
ومثال ذلك القاتل يحرم من ميراث من يقتله؟ لأن القاتل استعجل ما أخره الله وأراد أن يجعل لنفسه المتعة بالميراث ، فارتكب جريمة قتل ، لذلك يأتي التشريع ليحرمة من الميراث .
كأن التشريع يقول له : " ما دامت نيتك هكذا فأنت محروم من الميراث " والتشريع حين وضع ذلك إنما حمى كل مورث وإلا لكان كل مورث عرضة لتعدى ورثته عليه بالقتل لينتقل إليهم ما يملك ، فقال : لا . نحرمة من الميراث وكذلك هنا نجد الظلم بأنواعه المختلفة ، الظلم بإنكار الحق والصد عن سبيل الله ، وأخذ الربا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وما دام اليهود قد أدخلوا على أنفسهم أشياء ليست لهم فالتشريع يسلب منهم أشياء كانت حقا لهم .
وكان اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبون ألا يُشاع عنهم هذا الأمر فقالوا : إن هذا الطعام محرم على بني إسرائيل . وبعد ذلك وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا اللون من الطعام حلال في التوراة ، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي فضحهم .
ولماذا تجيء هذه الآية بعد قوله الحق في الآية السابقة : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } ؟ ونحن نعرف أن آية { لَن تَنَالُواْ البر } قد جاءت بعد آية توضح النفقة غير المقبولة من الله . ولنذكر ما قلناه أولا ، عن تداعي المعاني في الملكات الإنسانية : إن في النفس الإنسانية ملكة تستقبل ، فتتحرك ملكة أخرى ، وحين يقول الحق : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } فالذين يسمعون هذا سينفعلون انفعالات مختلفة ، فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه بالغ ، ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام ، أما من ليس عنده طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلال من الطعام والحرام منه .
إذن فقبل أن يأتي الله بالحكم الذي يحلل ويحرم ، هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الافتقار وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه ، إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه ، فإنه يحرك معطيا على موجود معه ، لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام ، وقبل أن يُقلب الأمر على النفس الإنسانية التي لا تجد طعاما ، نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه الحق { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } . فبتداعي المعاني في النفس الإنسانية يكون - سبحانه - قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة . وهكذا يكون التوازن الذي أراده الله في الكون المخلوق له .
إنه رب يحكم كونه ، فلا ينسى شيئا ويذكر شيئا . { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ، } إن كل شيء في علمه كما قَدّره وهو الخلاق القدير العليم ، وهو لا يذكر بعضا من الخلق ، وينسى بعضا آخر ، فهو قد كتب العدم لحكمة ، وأعطى النعمة لحكمة .
(1/1084)
لقد جعل الفقير عبرة ، ولكنه لم يتركه ، وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إلا عرضا زائلا ، فمن الممكن أن يصبح القادر الآن عاجزا بعد دقائق أو ساعات ، ومن الممكن أن يصبح القوي ضعيفا ، فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الآخرين؛ حتى يضمن لنفسه التأمين الإلهي لو صار ضعيفا ، فيعطيه الأقوياء ، فعندما يأمر الله الأقوياء بأن يعطوا وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لأن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ .
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } هذا القول قد خدم قضية سبقتها ، وهي أنه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ، ما دام كافرا ، إنها نفقة مرفوضة لا اعتبار لها ، إنها هدر . ويأتي من بعد ذلك بتحديد النفقة التي ليست هدرا ، ثم يفضح اليهود بقضية توجد عندهم في التوراة ولكنهم كذبوها ، وهي قضية تتعرض للطعام ، وما دامت القضية تتعرض للطعام فهناك الكثير من الملكات التي يمكن أن تتحرك ، فملكات الواجد حين تتحرك فحركتها تكون بأسلوب غير الأسلوب الذي تتحرك به ملكات المعدم . فقيل أن يُحَرِك وجدان المعدم إلى أنه معدم ، حتى لا يتلقى ذلك بحسرة ، فإنه سبحانه يكون قد عمل رصيدا لهذا المعدم ، فيرقق قلب الواجد أولا { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } وبعد ذلك يأتي قوله الحق سبحانه :
{ كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ]
ومعنى كلمة " حل " هو " حلال " ، ويقابلها " حرام " وحل هي مصدر ، وما دامت مصدرا فلا نقول " هذان حلالان " بل نقول : " هذان حل " ، ونقول : " هؤلاء حل " وإن شئت فاقرأ قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ]
" لا هن " هذه لجماعة النساء ، والحل مفرد ، وعندما يقول الحق سبحانه : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } فهذا يعني أنه قد حرم بعضا من الطعام على نفسه فهو حر في أن يأخذ أو يترك ، أوأنه قد حرمه على نفسه فوافقة الله؛ لأن الناذر حين ينذر شيئا لم يفرضه الله عليه فهو قد ألزم نفسه بالنذر أمام الله .
إن الزمن الذي حرم فيه إسرائيل على نفسه بعضا من الأطعمة هو { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } أي أن هذا التحريم لم يحرمه الله ، ويأتي الأمر لرسوله الكريم أن يخاطب بني إسرائيل : { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } إنه قد كشف سترهم ، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن النص الذي يؤيد صدقه موجود في التوراة ، ولهذا لم يأت اليهود بالتوراة ، وذلك لعلمهم أن فيها نصا صريحا يصدق ما جاء به رسول الله ، ولا يحتمل اللجاجة ، أو المجادلة ، وما داموا لم يحضروا التوراة فهذا يعني أنهم غير صادقين . ويقول الحق : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب . . . }
(1/1085)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
إن في هذا القول التحذير الواضح ألا يختلق أحد على الله شيئا لم ينزل به رسول أو كتاب فمن يفتري الكذب على الله لا يظلم إلا نفسه . ويقول الحق بعد ذلك : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً . . . }
(1/1086)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
يأمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } .
ونعرف أن ملة إبراهيم هي التي سمّت كل المؤمنين بالله المسلمين ، والدعوة إلى الإيمان بملة إبراهيم هي لإيضاح أن جوهر الإيمان لا يحتمل الخلاف ، فركب الإيمان والرسل والأنبياء هو ركب واحد ، وكلمة " اتبعوا " تعني أن هناك مقدما كما أن هناك تابعا . و " الملة " تشمل المعتقدات والتشريعات العامة ، كما أن الشريعة تشمل الأحكام ، والدين يكون لبيان العقائد .
وقد عرفنا من قبل أن كلمة { حَنِيفاً } تعني الذي يسير على خط مستقيم ، ويتبع منهجا قويما ومستويا ونحن نسمى ملتنا " الحنيفية السمحاء " ومع ذلك فالحنف هل ميل في الساقين ، اليمين مقوسة إلى اليمين ، واليسار مقوسة إلى اليسار ، فكيف إذن نقول عن الدين الحق الهادي لمنهج الله وشريعته : إنه حنيف؟
لقد قلنا : إن السماء لا تتدخل بإرسال الرسل إلا حين يعم الفساد ، وما دام الفساد قد عم فإن الذي يميل منحرفا عن الفساد هو الذي اهتدى إلى الصراط المستقيم ، فالحنيف معناه مائل عن الفساد ، فالمائل عن المعوج معتدل ، { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .
{ صَدَقَ الله } نعم؛ لأن الصدق هو أن يطابق القول ما وقع فعلا ، وحين يتكلم الحق وهو العليم أزلا فما الذي يحدث؟ لا بد أن يوافق الواقع ما يقوله سبحانه وتعالى فليس من المعقول أن يتكلم الله كلاما يأتي على لسان رسول ، أو على لسان أتباع الرسول ، وبعد ذلك يأتي واقع الحياة فينقض قول الحق ويخالفه ، إن الحق العليم أزلا يُنزل من الكلام ما هو في صالح الدعوة إلى منهجه .
إذن فحين يطلق الله قضية من قضايا الإيمان فإنه - سبحانه - عليم أزلا أنها سوف تحدث على وفق ما قال ، إن كان الظرف الذي قيلت فيه لا يشجع على استيعابها وفهمها . إن المؤمنين كانوا في أول الأمر مضطهدين ، ومرهقين وإن لم يكن للواحد منهم عشيرة تحميه فإنه يهاجر عن البلاد ، وإن لم يستطع الهجرة فإنه يُعَذب ويضطهد . وفي هذه الفترة الشديدة القاسية وفي قمة اضطهاد المؤمنين ينزل القول الحق : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ]
وعندما يسمع سيدنا عمر عليه رضوان الله هذا القول يتساءل : أي جمع هذا؟ إن الواقع لا يساعد على هذا ، ثم جاءت بدر ، وهزم المؤمنون الجمعَ وولوا الدبر وهذا دليل على أن الله قد أطلق قضية وضمن أنها ستحدث كما قال وكما أخبر ، وهذا مطلق الصدق . إن الإنسان يمكنه أن يستبعد الصدق لو أن الذي قال غير الذي خلق ، لكن الذي قال ذلك هو الذي خلق ويخلق ويعلم ، فمن أين يأتي التناقض؟ وهذا معنى القول الكريم :
(1/1087)
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ]
إنه قول حق جاء من عند العليم أزلا ، ومن العجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى يتمسحون في سيدنا إبراهيم ، فقال بعضهم : إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا ، وبعضهم قال : إن إبراهيم كان نصرانيا . وكان يجب أن يفهموا أن اليهودية والنصرانية إنما جاءتا من بعد إبراهيم ، فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وهذه الملل قد جاءت من بعده؟ لذلك جاء القرآن الكريم قائلا : { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 65 ]
وقد أوضح الحق بعد ذلك دين إبراهيم عليه السلام : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ آل عمران : 67 ]
فكيف يمكن أن يختلقوا على إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ إنه كلام لا يصدر إلا عن قلة فطنة وغفلة بالغة . وعندما يقول الحق عن إبراهيم : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } فهل أهل الكتاب مشركون؟ نعم؛ لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير ، ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بالله ، وأيضا كان العرب عبدة الأصنام يقولون : إنهم على ملة إبراهيم؛ لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام ، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك ، ويقول : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به موافقة لملة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }
(1/1088)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
لقد عرفنا من قبل كيف كان تداعى المعاني سببا في إرواء الحق لكل ملكات الإنسانية ، وقبل هذه الآية التي تتحدث عن بناء البيت الحرام بمكة المكرمة كان هناك حديث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال الحق : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ آل عمران : 95 ]
وإبراهيم عليه السلام هو أول الأنبياء صلة بالبيت الحرام ، وكان رفع قواعد البيت الحرام على يده بعد أن طمر وستر بالطوفان في عهد نوح عليه السلام ، فحين يأتي الكلام في رسالة سيدنا إبراهيم عليه السلام فلا بد أن تأتي أكبر حادثة في تاريخ سيدنا إبراهيم ، وهي حادثة بناء البيت الحرام ، كما أن الحق سبحانه حينما تكلم عن المحاجاة بين المسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده القرآن ، وبين أهل الكتاب وفي أيديهم التوراة المحرفة والإنجيل المحرف أراد سبحانه أن يردنا إلى شيء واحد هو ملة إبراهيم الذي سمانا مسلمين . ومعنى ذلك أن الله يريد منا أن تسيطر قيم السماء على حركة أهل الأرض؛ لأن حركة أهل الأرض إن اتبعت الأهواء تصادمت الحركات ، وما دامت الحركات قد تصادمت فإن ما ينتج عنها هو ضياع مجهود الحركة الإنسانية ، ويصير هذا المجهود مبددا .
ولكن الإنسان الذي يحمل القيم التي تتركز عقيدة في قلبه - بعد أن يبحثها بفكره - هذا الإنسان له قالب تنفذ به تشريعات الله ، ولولا وجود القالب هذا لما استطاع الإنسان أن يطبق تشريعات الله ، ولَمَا استطاع أن يؤدي هذه التشريعات ، ولما استطاع أن يطيع الله بجوارحه؛ فالإنسان بغير قالب لا يستطيع أن يؤدي الحركة المطلوبة .
إذن فلا بد للقالب الإنساني - البدن - في التشريع من عملية أخرى وهي أن ينصب القالب ويكون له عمل حين يتوجه إلى بيت واحد لله ، وبذلك يصبح للقالب نصيب في العبادة أيضا .
ولهذا كان لا بد أن يوجد للقالب - أيضا - مُتّجَهٌ وهذا المُتجه يحكم القالب نفسه ، فكان المؤمن المسلم محكوماً قلبا وقالبا ، فحين نأتي للصلاة لنكون في حضرة الله نتحرى أن يكون قالبنا متجها إلى المكان الذي أمرنا الله أن نتوجه إليه ، لماذا؟
لأن الحق سبحان وتعالى ساعة يعطي رحمته وبركته وتنزلاته وإشراقاته يريد أن يكون الجسم في وضع مؤهل لاستقبال هذه التجليات؛ ولذلك كان لا بد أن يكون لله بيت يتجه إليه الجميع حتى يعطي للتدين وحدة ، فكما أعطى الحق لموكب الرسالات وحدة ، فإنه يعطي أيضا وحدة في القالب الإنساني والمتجَه ، وكل مكان يعبد الله فيه بالنسبة للإسلام يُعتبر مسجدا ، وقد يسر الله الأمر على أمة سيدنا محمد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - :
(1/1089)
" جعلت لي أرض مسجداً وطهورا " .
وكان لقاء الله وعبادته في الديانات السابقة يقتضي مكانا محددا ولكن قد وسع رحمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
إن تراب الأرض طهور ، إننا عندما نفتقد الماء الطهور فإن التراب الذي قد يبدو للوهلة السطحية أنه سبب في عدم النظافة قد جعله الله لنا طهورا .
إن الإنسان يمكنه أن يتيمم ويتطهر بالتراب ، وكأن الله قد أراد أن يكون لقاء كل فرد من أمة محمد به ميسرا تيسيرا كبيرا . وكل مكان نعبد فيه الله ويسجد فيه المسلم لله يصير مسجدا .
لكن هناك فارقا بين أي مكان نعبد الله فيه والمسجد ، فنحن نرى العامل يعبد الله في المصنع والتلميذ يعبد الله في الفصل ، والفلاح يعبد الله ويؤدي الفروض في الحقل ، ويمكن للسائر في الشارع أن يؤدي صلاته في أي مكان ، وأن يزاول عمله بعد ذلك ، ولكن حين يُحَيِّز الإنسان مكانا ليكون بيتا لله ، فمحظور أن يزاول فيه نشاطا آخر من نشاطات الحياة؛ إنه مكان مُحيز .
إن العبادة كلها مقبولة ، ولكن هناك فارقا بين مكان تعمل فيه ومكان تخصصه ليصير مسجدا . فالمسجد هو مكان لا يزاول فيه إلا لقاء الله ، لذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نستغل هذا الحيز في أي أمر يتعلق بدنيانا ، وقد أوضح لنا - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يعقد صفقة في المسجد لم يبارك الله فيها ، والذي ينشد فيه شيئا ضالا له لن يجده . فقد دعا الرسول ألا يرد الله عليه ضالته .
إن أمور الدنيا يكفيها أن تأخذ من الإنسان كل يوم ثلاثا وعشرين ساعة ، فليخصص الإنسان المؤمن ساعة لله وحده ، وليخلع كل أغراض الحياة الدنيا كما يخلع النعال على باب المسجد . فليس من حسن الأدب واللياقة أن ينشغل الإنسان بأي شيء غير لقاء الله في الوقت المخصص للقاء الله ، وفي المكان المخصص لهذا اللقاء .
فساعة تدخل المسجد ينبغي أن تمنع نفسك من أن يتكلم معك أحد في فضول الكلام ولغوه ، وأن تنوي الاعتكاف لتستفيد من وجودك في المسجد . وساعة أن نخصص حيزا ما ليكون مسجدا ، فكيف يكون الاتجاه داخل المسجد؟ أيترك الأمر لكل واحد أن يختار له متجها؟
لا ، إن المؤمن ملتزم بالاتجاه إلى مكان واحد ، هذا المكان الواحد هو بيت لله باختيار الله بينما المساجد الأخرى هي بيوت لله باختيار خلق الله ، فبيوت الله باختيار خلق الله متجهها جميعا هو بيت الله الحرام .
وحين تنظر هذه النظرة ستجد العالم متواجها؛ لأن كل عابد سيكون اتجاهه إلى بيت الله مع بقية العابدين لله ، فيلتف المؤمنون كلهم حول بيت الله ، ويتواجهون ، إن وجوهنا كلها تُقابل بعضها بعضا ، ولكن ما ضرورة الاتجاه للكعبة؟ والحق سبحانه يقول :
(1/1090)
{ وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 115 ]
نقول : إن هذه الآية تؤيد ما نقوله ، فما دام لله المشرق والمغرب ، فهذا هو المعنى العام ، فالناس أول ما عرفوا الكون تعرفوا على المشرق والمغرب ثم الشمال والجنوب أيضا ، وبعد أن توصل العلم إلى تحديد الجهات الفرعية بجانب الجهات الأصلية الأربع المعروفة عرفنا " الشمال الشرقي " و " الشمال الغربي " و " الجنوب الشرقي " و " الجنوب الغربي " . إذن فكل المتجهات لله ، والاتجاه للكعبة يحقق هذا القول الكريم .
وعندما يتجه إنسان إلى الكعبة فقد يكون الشرق خلفه ، ويكون الغرب أمامه ، ويتجه إليها إنسان آخر إلى الكعبة ، فيتقابل وجهه مع وجه المتجه للكعبة ، وثالث يتجه إلى الكعبة ، فيكون في زاوية أخرى ناظرا إليها ، وهكذا يلتف البشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب وكل الجهات الفرعية حول الكعبة .
إذن فقول الحق : { وَللَّهِ المشرق والمغرب } أي جميع الخلق متجه إلى الكعبة ، وبذلك لا تكون هناك جهة أولى بالله من جهة أخرى . وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة أنّ الكعبة مركز الأرض وأن الأرض خلقت منها؛ لأن الشيء إذا كان مكورا فأي نقطة فيه تكون مركزا للجميع ، لذلك فلنترك مثل هذا الكلام ، لكن ألا يكفي أن يرجحها أن الله قد اختارها؟ إن ذلك يكفي وزيادة ، وبذلك ينتهي الأمر ، إنها كذلك؛ لأنها بيت الله باختيار الله ، وهذا يكفي .
لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأشياء التي تقف فيها العقول وليست من صلب العقائد أو الدين لا يصح أن تكون محل خلاف أو جدل . ويقول سيدنا علي كرم الله وجهه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : سأله رجل ، " أذلك أول بيت لله؟ " فوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبله بيوتا ، ولكن هو أول بيت وُضِع للناس . هذا إيضاح ان الله قد جعل الكعبة هي أول بيت له يتعبد فيه جنس البشر ، وذلك لقول الله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } . ولكن إن كانت هناك اجناس سابقة على الجنس البشري فمن المؤكد انه كانت هناك لله بيوت لا نعرفها .
وما آدم في منطق العقل واحد ... ولكنه عند القياس أوادم
ولذلك فوجود البيت الحرام كبيت لله لا يصطدم مع منطق الناس الذين لا يملكون إلا الثقافة الدينية الضحلة ، فساعة أن يسمع الواحد منهم ، أن هناك اكتشافا لحفريات من كذا مليون سنة فهو يتساءل قائلا : كيف وآدم لم يمر عليه ملايين السنين؟ لنفترض أن هناك خمسة أجيال لإدريس عليه السلام وثلاثة اجيال لنوح عليه السلام ، وأحد عشر جيلاً لابراهيم عليه السلام وثلاثين جيلا لمحمد عليه السلام ، وهكذا يكون الوجود البشري محددا بآلاف السنوات لا ملايينها .
(1/1091)
لهذا الإنسان نقول : وهل قال لك أحد : إن آدم أول من عَمَرَ الأرض؟ إن الدين لم يقل ذلك ، لكن الدين قال : إن آدم هو أول هذا الجنس البشري ، ولكنه ليس أول من سكن الأرض ، لذلك فليقل العلماء : إن عمر هذه الأرض ملايين السنين ولنسمع جميعا قول الحق تبارك وتعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ]
إذن فلا مجال لهذا البحث ، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : " لا ، بل قبله بيوت " .
والحق سبحانه وتعالى يقول ما يوضح أن الجن قد سكنوا الأرض قبلنا : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ]
ألم يقل الحق سبحانه إن الإنسان خليفة ، وردّت عليه الملائكة : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ]
إن الذين قالوا ذلك ليسوا من البشر ، إذن فكلام الله يؤكد أن الكعبة هي أول بيت وُضع للناس ، أي للجنس البشري ، ولذلك فلا داعي أن نتكلم في الأشياء التي يقف فيها العقل حتى لا ندخل في متاهة . ولو كان الله قد أراد أن يعلمنا أن الكعبة هي أول بيت في الأرض لقال لنا : " إن أول بيت وضع في الأرض " ، ولم يكن قد حدد الجنس الذي وضع البيت من أجله ، لكن الحق سبحانه قال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } ، ولذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبله بيوتا ، ولكنه أول بيت وضع للناس . إنه جواب يتسع لكل ما يأتي به العلم .
وحين ننظر إلى القول الحق : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } ما معنى " أول "؟ إنه الابتداء ، وهل كل ابتداء له انتهاء؟ لا ، إن هناك أمورا لها " أول " وليس لها " آخر " ومثال ذلك العدد " واحد " وما بعده ليس له آخر ، فآخر ما بعد العدد واحد هو ما يمكن الإنسان أن يحسبه عجزا في التقديرات الدشليونية ، ولكن ما بعد الدشليون هناك أعداد أخرى ، وكان الإنسان قديما يقف عند الألف ، ثم يقول عن المليون " ألف ألف " ، وكذلك الجنة لها أول وليس لها آخر .
إذن فأول بيت وضعه الله للناس هو الكعبة . وعندما نرى كلمة " وُضع " نجدها فعلا ، ونرى انه قد وُضِع للناس . وما دام هذا البيت قد وضع للناس لذلك فمن اللازم حين تأتي كلمة " ناس " أن يكون هناك " بيت " و " آدم " من الناس ، ووالد كل الناس ، وكان له بيت وضع له .
(1/1092)
وحين يقال : إن البيت قد تم بناؤه قبل آدم فإننا نقول : نعم ، لأن آدم من الناس ، والله يقول : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس } فلماذا نحرم آدم من أن يكون له بيت عند الله؟ إذن فالبيت موجو من قبل آدم . وبعض الناس تظن أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت ، ولأصحاب هذا الظن نقول : لنفهم القرآن معا ، إن مثل هذا القول يناقض القرآن؛ لأن القرآن قد قال : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس } وذلك إيضاح أن إبراهيم كان من قبله أناس سابقون له ، فكيف لا يكون للناس من قبل إبراهيم بيت؟ ولا يكون للناس من بعد إبراهيم بيت؟
إن الذين كانوا يعيشون قبل مجيء إبراهيم عليه السلام لهم الحقوق نفسها عند الله التي وضعها الله لمن بعد إبراهيم ، فلا بد أن الله قد جعل بيته لهم ، والنص القرآني { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس } مؤكد ذلك ، وما دام قد جاء الفعل مَبْنِيَاَ للمفعول فواضعه غير الناس ، ف " وُضِع " هو فعل مبني على مالم يسم فاعله ، فمن الذي وضعه؟ هل هم الملائكة؟
قد يصح ذلك وهو أن يكون الملائكة قد تلقوا الأمر من الله بمزاولة هذا البناء ولكن الحق يقول عن هذا البيت إنه : " هدى للعالمين " وهذا يعني أن البيت هدى للملائكة؛ لأنهم عالم ، وهذا يعني أن البيت قد وضعه الله من قبل ذلك ، إن أحداَ لا يقدر أن يجعل الكون على قدر العقل البشرى ، إن على العقل البشري أن يكون في ركاب الكون ، وإياك أن تجعل الكون في ركاب عقلك . أما مسألة أن إبراهيم قد بني الكعبة أولاً فهذا عدم فهم للنص القرآني القائل : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } [ البقرة : 127 ]
فما هو الرفع؟ إنه إيجاد البُعد الثالث وهو الارتفاع ، فالطول والعرض موجودان إذن فهذا دليل على وجود البيت قبل أن يقيم إبراهيم عليه السلام ارتفاع البيت . وهكذا نستنتج أن الذي كان مطموسا هو القاعدة والارتفاع ، مع وجود الطول والعرض اللذين يحددان المكان ، أما البناء فهو الذي يحدد " المكين " وعندما انهدم البيت الحرام كان الناس يتجهون إلى المكان نفسه . ونحن عندما نصلي في الدور الثالث في الحرم ، فإننا نتجه إلى الهواء الموجود من فوق الكعبة ، ولو حفرنا نفقا تحت الأرض بألف متر ، وأردنا أن نصلي فإننا سنتجه إلى جذر الكعبة ، وهكذا نعرف أن جو الكعبة كعبة .
إذن فعمل إبراهيم عليه السلام كان في إيجاد المكين لا المكان ، ولنقرأ بالفهم الإيماني ما حدث لإبراهيم عليه السلام . لقد أخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل ، وخرج بهما ليضعهما في هذا المكان . " وهاجر " تعرف أن مكونات الحياة هي المياه والهواء والقوت ، وهذا المكان لا توجد به حتى المياه ، لذلك قالت هاجر سائلة إبراهيم عليه السلام : كيف تتركنا هنا؟ هل أنزلتنا هنا برأيك أم بتوجيه من الله؟فقال لها إبراهيم عليه السلام : إنه توجيه من الله ، لذلك قالت : " لقد اطمأننت ، والله لا يضيعنا أبدا " .
(1/1093)
لم تقلق هاجر لأن إبراهيم اتجه إلى ما أمره الله ، وهذا هو الإيمان في قمته ، ولو لم يكن الإيمان على هذه الدرجة الرفيعة فأي قلب لأم تترك أب الطفل يذهب بعيدا عنها وتعيش مع ابنها في هذا المكان الذي لا يوجد به طعام أو فيه ماء ، فهي لا تؤمن بإبراهيم ، ولكنها تؤمن برب إبراهيم وعندما تقرأ القرآن الكريم تجد القول الحق على لسان إبراهيم : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ]
هكذا نعرف أنه ساعة إسكان إبراهيم لذريته كان هناك بيت وأن هذا البيت محرم ، وعندما نقرأ عن رفع البيت الحرام نجد أن إبراهيم عليه السلام لم يرفع قواعد البيت بمفرده بل شاركه ابنه إسماعيل عليه السلام . { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } [ البقرة : 127 ]
هكذا نعلم أن إسماعيل عليه السلام كان قد نضج بصورة تسمح له أن يساعد والده خليل الرحمن في إقامة قواعد البيت الحرام ، وهذا يدلنا على أن إسماعيل نشأ طفلا في هذا المكان عندما أسكنه والده إبراهيم عند البيت المحرم ، هكذا نتيقن أن البيت المحرم كان موجودا من قبل إبراهيم عليه السلام ، وعندما ندقق النظر في معنى كلمة " بكة " التي وردت في هذا القول الكريم : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } فإننا نعرف أن هناك اسما لمكان البيت الحرام هو " بكة " وهناك اسم آخر هو مكة ، وبعض العلماء يقول : إن " الميم " و " الباء " يتعاونان ، ونلحظ ذلك في الإنسان " الأخنف " أو المصاب بزكام ، إنه ينطق " الميم " كأنها " باء " . والميم و " الباء " حرفان قريبان في النطق ، والألفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها .
ولننظر إلى اشتقاق " مكة " واشتقاق " بكة " . إننا نقرأ " بكّ المكان " أي ازدحم المكان ، وهكذا نعرف من قوله الحق : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } أي أنه مكان الازدحام الذي يأتي إليه كل الناس وكل الوفود لتزور بيت الله الحرام ، ولا أدل على ازدحام البيت الحرام من أن الرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض ، والإنسان يطوف بالبيت الحرام ، ولا يدري أنه يسير وقد يلمس امرأة أثناء الطواف .
(1/1094)
و " بكة " هي المكان الذي فيه الطواف والكعبة ، أي هي اسم مكان البيت الحرام ، " ومكة " اسم البلد كلها الذي يوجد به البيت الحرام . و " مكة " مأخوذة من ماذا؟ إن " مكة " مأخوذة من " مك الفصيل الضرع " أو " امتك الفصيل الضرع " ، أي امتص كل ما فيه من لبن ، والفصيل كما نعرف هو صغير الإبل أو صغير البقر . وما دام الفصيل قد امتص كل ما في الضرع من لبن فمعنى هذا أنه جائع ، ومكة كما نعرف ليس فيها مياه ، والناس تجهد وتبالغ في أن تمتص المياه القليلة عندما تجدها في مكة .
وفي كلمة " مباركا " نجد أنها مأخوذة من " الباء والراء والكاف " والمادة كلها تدور حول شيء اسمه الثبات ، فهل هو الثبات الجامد ، أم الثبات المعطي النامي الذي مهما أخذت منه فإنه ينمو أيضا؟ إننا في حياتنا اليومية نقول : " إن هذا المال فيه بركة مهما صرفت منه فإنه لا ينتهي " ، أي أنه ثابت لا يضيع ، ويعطي ولا ينفد . وكلمة " بِرْكة " في حياتنا تعني أنها تَجَمعُ الماء تأخذ منها مهما تأخذ فيأتي إليها ماء آخر .
وكلمة " تبارك الله " تعني " ثبت الحق " ولم يزل أزلا ولا يزال هو واحداً أحداً ، إنه الثبوت المطلق . وهكذا نجد أن الثبات يأتي في معنى البيت الحرام . إن البيت الحرام مبارك أبدا " كيف "؟ أليست تضاعف فيه الحسنة؟ وهل هناك بركة أحسن من هذه؟ وهل هناك بركة أفضل من أنه بيت تُجبى إليه ثمرات كل شيء ولا تنقطع؟ فقديما كان الذاهب إلى البيت الحرام يأخذ معه حتى الكفن ، ويأخذ الإبرة والخيط ، والملح ، والآن فإن الزائر لبيت الله الحرام يذهب ليأتي بكماليات الحياة من هناك . ويقول سبحانه عن هذا البيت الحرام المبارك : إنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } . ما هو الهدى؟ قلنا : إن الهدى هو الدلالة الموصلة للغاية ، ومن يَزُرْ البيت الحرام يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، فهل اهتدى للجنة أم لا؟ إنه يعرف بزيارة البيت الحرام الطريق إلى الجنة . وحينما ننظر إلى هذه المسألة نجد أن الحق سبحانه وتعالى عندما تكلم عن البيت لم يتكلم إلا عن آية واحدة فيه هي مقام إبراهيم مع أن فيه آيات كثيرة .
قال الحق : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً . . . }
(1/1095)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
إننا نجد أن صيغة الجمع موجودة في قوله الحق : { فِيهِ آيَاتٌ } و { بَيِّنَاتٌ } وهي وصف الجميع . وبعد ذلك قال الحق : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } إنه سبحانه لم يذكر إلا مقام إبراهيم بعد الآيات ، والمقام آية واحدة ، وهذا يدل على أن مقام إبراهيم فيه الآيات البينات ، ونحن نقرأ { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } بفتح الميم الأولى في كلمة " مقام " ولا ننطقها " مقام " بضم الميم الأولى لأن المقام بضم الميم تعني مكان إقامة إبراهيم ، أما مقام بفتح الميم فمكان القيام ، لماذا كان قيام إبراهيم عليه السلام؟
لقد كان إبراهيم يقوم ليرفع قواعد البيت الحرام ، وكان إبراهيم يقوم على " حجر " . وعندما ننظر إلى مقام إبراهيم فإنك تجد فيه كل الآيات البينات؛ لأن الله طلب من إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعد البيت ، وكان يكفيه حين يرفع قواعد البيت أن يعطيه الارتفاع الذي يؤديه طول يديه ، وبذلك يكون إبراهيم عليه السلام قد أدى مطلوب الله - كما قلنا من قبل - لكن إبراهيم عليه السلام تعود مع الله أن يؤدي كل تكليفات الله بعشق وحب وإكمال وإتمام ، فقال إبراهيم في نفسه : " ولماذا لا أرفع البيت أكثر مما تطول يداي؟ " ولم تكن هناك في ذلك الزمن القديم فكرة " السقالات " ، ولم يكن مع إبراهيم عليه السلام إلا ابنه إسماعيل . وأحضر إبراهيم عليه السلام حجرا ، ووقف عليه؛ ليرفع القواعد قدر الحجر .
إذن فإبراهيم خليل الرحمن أراد أن ينفذ أمر الله بالرفع للقواعد لا بقدر الاستطالة البدنية فقط ، ولكن بقدر الاحتيال على أن يرفع القواعد فوق ما يطلبه الله ، وهذا معنى قول الله عن إبراهيم عليه السلام : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ]
أي أنه أدى مطلوب الله أداء كاملا ، ولا أدل على هذا الأداء الكامل من أنه أتى بحجر ليقف عليه ليزيد من ارتفاع البيت قدر هذا الحجر . ونعرف أن الذي ساعده وشاركه في رفع القواعد هو ابنه إسماعيل . ومن أكرمه الله برؤية مقام إبراهيم يجد أن الحجر يسع وقوف إنسان واحد ، وهكذا نفهم أن إسماعيل كان يساعد ويناول والده الأحجار ، أما مكان الأقدام الموجودة في هذا الحجر ، فهذا يعني أن إبراهيم عندما كان يقف ويحمل حجرا من المفروض أن يحمله اثنان فإن هذا يتطلب ثبات القدمين في مكان آمن حتى لا يقع .
فهل يا ترى أن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته ساعة رأى إبراهيم يحتال هذه الحيلة قال لخليله : سأكفيك مؤنة ذلك . وجعل الحق القدمين تغوصان في الحجر غوصا يسندهما حتى لا تقعا .
(1/1096)
والذي لا يتسع ذهنه إلى أن الله ألاَنَ لإبراهيم الحجر ، نقول له : إن إبراهيم قد احتال ، وخاف أن تزل قدمه ، فنحت مكانا في الحجر على قدر قدمه حتى تثبت قدمه حين يحمل ويرفع الحجر ، وهذه آيات بينات . فخذ ما يتسع ذهنك وفهمك له ، إن الله أعان إبراهيم لأنه فكر أن يبني القواعد ويرفعها أكثر مما تطول يداه ، وقد مكّن الله له في ذلك وأعانه عليه ، ونحن نعلم أن الهداية تكون هداية الدلالة وهداية المعونة . { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ]
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، والآيات هي الأمور العجيبة ، وعندما تراها فإنك لا تستطيع أن تنكرها . ودخول البيت يعني الأمن للإنسان الذي يدخله ، ونحن نعلم أن البيت قد تم بناؤه في هذا المكان . وهذا المكان تجتمع فيه القبائل ، وبين بعض هذه القبائل ثارات ودماء وحروب ، لذلك يبيّن الله الوضع الذي بمقتضاه تحقن الدماء { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } لماذا؟ لأنه بيت الرب ولا يصح أن يدخل واحد بيت الرب ويُعاقب حتى ولو كان قد أجرم جرما يوجب الله عليه الحد فيه . ولذلك قال سيدنا عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب - والده لم أتعرض له .
ولكن يُضَيّق الخناق على المجرم حتى يخرج . وهذا الأمن محدد بأي أمر اقترفه في دنياه ، أما من دخله كان آمنا يوم القيامة فالحكم فيه شيء آخر ، إنها درجة عالية من فضل الله ، والآيات البينات الواضحة في البيت الحرام يراها من زار البيت الحرام ، وليحقق الله أمل كل راغب في زيارة البيت الحرام ، وأن يكرر الزيارة لمن ذهب وأراد أن يعود للزيارة مرة أخرى . فساعة تدخل البيت الحرام فأنت هنا تتجه إلى مكان في البيت والمقابل لك في الكرة الأرضية يتجه إلى المكان المقابل ، إلى أن تصير الاتجاهات مشتملة على الكعبة كلها . ونحن عندما نكون في الكعبة فإننا نوجه وجوهنا إلى المبنى لأننا نراها ، ونحن نوجه الوجوه إلى المبنى المقطوع بأنه منها ، والحطيم ، وهو القوس المبنى حول حجر إسماعيل ، هو من الكعبة أيضا ، ولكن النفقة قصرت ، فجعلوه ليحدد مكان الكعبة ، فظل هكذا ، فإذا غاب الإنسان عن الكعبة واتجه إليها فإنه يكفي أن يتجه إلى جهتها .
ولذلك نجد الصفوف في الصلاة حول الكعبة تتخذ شكل الدائرة؛ لأن الذين يصلون في داخل الحرم يشاهدونها ، أما الذين يصلون خارجها فيكفي أن يتجهوا إلى جهتها ولو طال الصف إلى ألف متر ، لذلك فالصف للمصلين خارج الحرم يكون معتدلا ، أما في داخل الحرم فالصفوف تأخذ شكل الدائرة لأن أقضى بُعد في الكعبة هو اثنا عشر مترا وربع المتر ، ونجد من الآيات العجيبة أنك إذا ما نظرت إلى الحجر الأسود تجد الناس تتهافت على تقبيله ، والحجر يمثل أدنى أجناس الكون ، ونعلم جميعا أن الإنسان مستخلف كسيد في الكون ، ومن بعده الحيوان أقل منه في الفكر ومسخر ، ومن بعد الحيوان يكون جنس النبات ، ومن بعد ذلك يأتي جنس الجماد ومنه الحجر .
(1/1097)
إننا نرى هذا الإنسان السيد في الكون لا يقبل الله منه النسك القبول التام الحسن إلا إذا قبل الحجر ، أو حياه ، وهكذا ينقل الحق أعلى الأجناس إلى أدناها . والناس تزدحم حول الحجر ، ومن لم يقبل الحجر يحس أنه افتقد شيئا كثيرا ، وهكذا ترى استطراقا وسلوكا من الخلق إلى باب الله ، فالإنسان المتكبر الذي يتوهم أنه سيد على غيره ، يأتي إليه أمر في النسك بتقبيل الحجر أو تحيته بالسلام ، وهذا الإنسان برغم أن الحق - سبحانه - يقبل منه أن يحيي الحجر الأسود بالسلام ولم يفرض عليه أن يقبّله ولكنه مع ذلك يحاول أن يقبل الحجر ، وهو أدنى الأجناس ، لأن الله قد عظمه ، وهذا أول كسر لأنف غرور الإنسان ، وحتى لا يظن ظان أنها حجرية أو وثنية ، يأتي الأمر من الحق برجم حجر آخر .
إذن فالحجرية لا ملحظ لها هنا ، فنحن نجد حجرا يُقدس ، وحجرا آخر يُرجم . نجد حجرا يقبله الإنسان ويعظمه وحجرا آخر يزدريه ويحقره . وذلك يدل على رضوخنا لإرادة الآمر سبحانه وتعالى فقط ، فعندما يأمرنا بأن نعظم حجرا فالمؤمن يؤدي حق التعظيم بالسمع والطاعة ، وعندما يأمرنا سبحانه برجم حجر آخر ، فالمؤمن يرجم هذا الحجر بالسمع والطاعة لله أيضا ، فالذاتية الحجرية لا دخل لها على الإطلاق . وبعض من أصحاب الظن السيء قالوا : إن الإسلام قد استبقى بعض الوثنية .
ولهؤلاء نقول : ولماذا تذكرون تعظيم الحجر الأسود ، ولم تذكروا رجم إبليس وهو ثلاثة أحجار؟ لقد عظم المؤمن المؤدي للنسك حجرا واحدا ورجم ثلاثة أحجار ، إن المؤمن إنما يطيع أمر الله ، فليست للحجر أي ذاتية في النسك أو العبادة . لقد رفعنا الحق من حضيض عبادة الأصنام التي هي عين الكفر ، لكنه قال لنا : " قبلوا الحجر الأسود " فقد قبلنا الحجر احتراما لأمر الآمر ، وذلك هو منتهى اليقين . لقد نقلنا الحق من مساو إلى مساو ، من عبادة الحجر إلى تعظيم وتقديس حجر مثله ، لكن الأصنام كانت منتهى الشرك ، وتقبيل الحجر الأسود منتهى اليقين . أليست هذه آيات بينات؟
وزمزم التي توجد في حضن الكعبة ، أليست آيات بينات؟ إن " هاجر " تترك الكعبة وتروح إلى " الصفا " وتصعد إلى " المروة " بعد أن تضع " إسماعيل " بجانب الكعبة ، وتدور بحثا عن المياه . وسعت هاجر سبعة أشواط لعلها ترى طيرا أو تجد إنسانا يعرف طريق المياه لان ابنها يحتاج إلى الشرب ، ولو أنها وجدت على الصفا أو المروة مياها في أول سعيها أكانت تجد تصديقا لقولها لإبراهيم عندما جاء بها للإقامة في هذا المكان " إن الله لا يضيعنا " إنها سعت .
(1/1098)
وكأن الله يقول لها ولكل إنسان : عليك بالسعي ، ولكن لن أعطيك من السعي ، إنما أعطيك الماء تحت رجل إسماعيل . إذن فصدقت في قولها : لن يضيعنا الله ، لقد جعلها الحق سبحانه تسعى سبعة أشواط ، ولا يمكن لامرأة في مثل عمرها أن تقدر على أكثر من ذلك ، وهذا يعلمنا أن الإنسان عليه أن يباشر الأسباب ، ولكن القلب عليه أن يتعلق بمسبب الأسباب ، وهو الله سبحانه ، وفي هذا ما يعدل سلوك الناس جميعا . فساعة يرى الإنسان أن البئر مكان قدم إسماعيل وعلى البعد تكون الصفا والمروة ، وتسعى بينهما ، وبعد ذلك تجد زمزم مكان ضربة قدم إسماعيل ، أليس في هذا آيات بينات تهدى الإنسان أن يباشر الأسباب ويأخذ بها ، ويتعلق القلب بمسبب الأسباب؟
إن هذا يعطي المؤمن إيمانية التوكل ، وهي تختلف عن الكسل و " بلادة التواكل " فإيمانية التوكل هي أن الجوارح تعمل ، والقلوب تتوكل ، أما الكسل عن الأخذ بالأسباب مع الادعاء بالتوكل فهذه بلادة ، ومثل هذا الكسول المتواكل عندما يأتي الأكل أمامه يأكل بنهم وشره ، ولو كان صادقا لترك اللقمة تقفز إلى فمه ، ولماذا يمضغها إذن؟ لماذا يختار التواكل والكسل ، وعدم العمل ، ثم يمد يده ليأكل؟ إن هذه هي " صفات التواكل " .
إننا نأخذ من سعي " هاجر " وتفجر الماء عبرة ، هي الأخذ بأسباب الله ، وبعد ذلك فإننا نجد كل إنسان في البيت الحرام مشغولا بنفسه مع ربه ، ومن فرط انشغاله يكون غافلا عمّن يكون معه ، ولو كان أحب إنسان له فإنه لا يدري به . وساعة تدخل وتنظر إلى الكعبة ينفض من عقلك كل فكر في أي شيء من الأشياء ، لا تذكر أولادك أو مالك ، لكنك بعد أن تفرغ من المناسك تعود للتفكير في أولادك وعملك ، وإلا لو ظل حبك وشوقك وتعلقك ومواجيدك بهذه البقعة لضاق المكان بالناس جميعا . بعد ذلك يقول الحق سبحانه عن البيت الحرام : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } . وهنا يجب أن نفهم أن هناك فارقا بين أن يكون " الخبر " تاريخا للواقع ، وبين أن يكون " الخبر " خبرا تكليفيا فلو كان { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } تاريخا للواقع لتم نقض ذلك بأشياء كثيرة ، فقد وجد فيه قوم ولم يأّمَنوا .
ونحن نعرف حادث الاعتداء الأخير الذي حاوله جهيمان منذ سنوات قال الناس : إن جهيمان عندما اعتدى على الناس ، لم يستطع حجيج بيت الرحمن أن يكونوا آمنين في البيت وتساءل بعضهم ، فكيف قال الحق : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ؟ بل قال بعض أهل الانحراف : إذن مسألة دخول جهيمان إلى البيت الحرام تجعل { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ليست صادقة! ولهؤلاء نقول :
إن هناك فرقا بين إخبار الحق بواقع قد حدث ، وبين إخبار بتكليف .
(1/1099)
إن الإخبار بالواقع كان معناه ألا يدخل أحد البيت الحرام ويهيجه أو يهاجمه أحد أبدا ، ولكن الإخبار التكليفي معناه : أن يخبر الله بخبر ويقصد به تكليف خلقه به ، والتكليف كما نعرف عرضة لأن يطاع ، وعرضة لأن يعصى ، فإذا قال الله سبحانه : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فهذا معناه : يأيها المؤمنون ، من دخل البيت الحرام فأمنوه . ونضرب المثل - ولله المثل الأعلى - تقول أنت لولدك : يا بني هذا بيت يفتح للضيوف من دخله يكرم . أهذا يدل على إنجاز الإكرام لكل من دخل هذا البيت وحصوله له بالفعل وأن هذا لا يتخلف أبداً أم أنك قلت الخبر وتريد لولدك أن ينفذه؟
إن هذا خبر يحمل أمرا لابنك هو ضرورة إكرام من يدخل هذا البيت ، وتلك الوصية عرضة لتطاع وعرضة لأن تخالف ، لذلك فنحن نفهم من قول الحق : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } على أساس أنها أمر تكليفي ، عرضة للطاعة وللعصيان ، ومثال آخر على ذلك هو قول الله تعالى : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ النور : 26 ]
بعض الناس يقول : نجد واقع الحياة غير ذلك ، حيث نجد امرأة طيبة تقع في عصمة رجل غير طيب وتتزوجه . ونجد رجلا طيبا يقع مع امرأة غير طيبة ويتزوجها ، فكيف يقول الله ذلك؟ ونحن نرد على أصحاب هذا القول : إن الله لم يقل ذلك تأريخا للواقع . ولكنه أمر تكليفي . أَيْ افعلوا ذلك ، وحكمي وتكليفي أن يكون الطيبات للطيبين والطيبون يكونون للطيبات . فإذا امتثل الخلق أمر الحق فعليهم أن يفعلوا ذلك ، وإن لم يمتثل بعض الخلق لأمر الحق فإن الواقع بنبيء بحدوث وجود طيبين لغير طيبات أو العكس .
إذن فقول الحق : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } هو خبر يراد به أمر تكليفي ، فمن أراد أن يكون صادقا فيما كلفه الله به فليُؤَمن مَن دخل البيت الحرام . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
{ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ]
وحين تسمع " ل " و " على " ، فافهم أن الفائدة تقع على ما دخلت عليه " اللام " ، والتبعة تقع على ما دخلت عليه " على " . فحين نقول : : " لفلان عَلَى فلان كذا " فالنفعية لِفلان الأول والتبعة على فلان الثاني . وحين يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } . فعلى هذا فالنفعية هنا تكون لله ، والتبعة هنا تكون على الناس ، لكن لو فطنا إلى سر العبارة لوجدنا أن الله لا ينتفع بشيء من تكليفه لنا ، فالحج لله ، ولكنه يعود إليك ، فما لله عاد إليك ، وما عليك عاد لك .
(1/1100)
وكل تكليف عليك فأثره لك ، فإياك أن تفهم من ذلك القول الكريم : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } أن اللام الأولى للنفعية ، وإياك أن تفهم أن " على " هي للتبعة ، نعم إن الحج لله ، ولكن الفائدة لا تعود إلا عليك ، وهو تكليف عليك ، وفائدته تعود عليك ، فالحق سبحانه وتعالى منزه عن أن يُفيد من حكم من أحكامه ، وهو سبحانه حين ينزل حكما تكليفيا فعلى العبد المؤمن أن يعرف أن فائدة الحكم عائدة عليه وعلى حياته ، ولله يكون القصد والحج ، لا لشيء سواه .
ولماذا يقول الحق : إن على العبد المؤمن أن يحج البيت الحرام؟ لأنه الخالق وهو خبير وعليم بأن التكليف شاق على النفس ، ولكن على المؤمن المكلف حين يجد تكليفا شاقا عليه أن ينظر إلى الفائدة العائدة من هذا الحكم ، فإن نظر إلى الفائدة من الحكم وجد أنها تعود عليه ، ولذلك يسهل على العبد المؤمن أمر الطاعة . والذي لا يقبل على الطاعة ويهمل الجزاء عليها ويغفل عنه . تكون الطاعة شاقة عليه . والذي يقبل على المعصية ويهمل الجزاء عليها تكون المعصية هينة عليه . ولكن الطائع لو استحضر غاية الطاعة لعلم أنها له لا عليه .
ولو أن العاصي استحضر العذاب على المعصية لعلم أنها عليه لا له؛ فالعاصي قد يحقق لنفسه شهوة ، لكنها شهوة عاجلة ، أمدها قصير ، ولو استحضر العاصي العقوبة على المعصية وقت عملها ما أقدم على معصيته أبدا . ولكن الذين يرتكبون المعصية ينظرون إلى الشهوة الطارئة ، ويعزلون جزاء المعصية عنها ، ولو أنصفوا أنفسهم ، لا يستحضروا العقاب على المعصية في وقت الرغبة في ارتكابها . وحين يستحضرون جزاء المعصية مع المعصية فإن شهوة المعصية تنتهي منهم ، وأضرب هذا المثل دائما عن أعنف غرائز الإنسان وهي غريزة الجنس .
هب أن هناك واحدا رأى فتاة جميلة ثم أراد أن ينالها نقول لهذا المتشرد جنسيا : استحضر العذاب على هذا العمل ، وإن أخذت هذه الفتاة فتعال لنريك بعينيك ما أعده الله لك حين تتمتع بهذه الفتاة خارجا عن شرع الله ، وأوقد له فرنا مسجوراً ومحمّياً ، وقُل له : في مثل هذا ستدخل بل وأشد منه إن نلت من الفتاة .
أيقبل هذا المتشرد على ارتكاب تلك المعصية؟ لا؛ فشهوة المعصية تضيع عندما يستحضر العذاب عليها . إن الحق سبحانه يقول : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } والسبيل هو الطريق الموصل للغاية ، والطريق الموصل للغاية عادة ما يكون مطروقا ، وعندما يتجه الإنسان لأداء فريضة الحج فهو طارق للطريق ، أي سيسير عليه ، هكذا تعرف أن هناك ثلاثة أشياء :
طارق ، وهو من كتب الله عليه الحج وهو المكلف .
وسبيل مطروق .
وغاية ، وهي حج البيت .
وما دام الطارق سيسلك طريقا فلا بد أن يكون عنده قدرة على أن يسلك هذا الطريق فكيف تتأتى هذه القدرة؟ إن أول شيء في القدرة هو الزاد ، وثاني شيء في القدرة هو المطية التي يركبها ، وهكذا نتبين أننا نحتاج إلى زاد وراحلة لطارق الحج .
(1/1101)
والسبيل الذي يطرقه ، أيكون محفوفا بالمخاطر؟ لا ، بل يُفترض أن يكون السبيل آمنا . إذن فالاستطاعة تلزمها ثلاث حاجات ، هي : الزاد ، والراحلة ، وأمن الطريق . والزاد عادة يخص الإنسان نفسه ، ولكن ماذا يكون الحال إن كان الإنسان يعول أسرة وصغارا؟
إذا كان الإنسان على هذا الحال فمن الاستطاعة أن يكون قد ترك زادا لمن يعولهم إلى أن يعود . وعلينا أن ننتبه إلى أن الله قال في كل تكليف : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ } . ولكنه سبحانه جاء في فريضة الحج بالقول الواضح ، بأن الحج لله على الناس وليس لمن أسلموا فقط ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل الكتاب الذين كانوا يتمحكون في إبراهيم عليه السلام أن يحجوا البيت الحرام ، فامتنعوا عن الحج ، ولو كان الحج للمسلمين المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى أن يحجوا ليكون ذلك جمعاً لهم على أن يتجه الخلق جميعا إلى بيت الله ويعبدوا إلها واحداً هو ربّ هذا البيت ، ولكنهم امتنعوا عن الحج . ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن لم يحج بدون مرض حابس ، أو سلطان جائر ، أو فقر وعوز ، يقول في الحديث الشريف :
عن علي رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ، وذلك أن الله تعالى يقول : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } " .
ولذلك نجد التكليف بالحج قد اتبع مباشرة بقول الحق : { وَمَن كَفَرَ } فهل يقع من لا يحج بدون مانع قاهر في الكفر؟ هنا يقف العلماء وقفة . العلماء يقولون : نعم إنه يدخل في الكفر ، لماذا؟ لأن الكفر عند العلماء نوعان كفر بالله ، أو كفر بنعمة الله ، ومثال ذلك قوله - جل شأنه - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ]
أو هو الكفر ، كأن يموت الإنسان يهوديا أو نصرانيا ، وهنا نقول : انتبه ، لا تأخذ الحكم من زاوية وتترك الزاوية الأخرى . إن المسألة التكليفية يوضحها الحق بقوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } . فهل تعارضون في هذا التكليف؟ أو تؤمنون به ولكن لا تنفذونه؟
إن القضية التكليفية الإيمانية هي { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } فهل أنت مؤمن بها أو لا؟ سنجد الإجابة من كل المؤمنين ب " نعم " .
(1/1102)
ولكن الموقف يختلف مِنْ مؤمن إلى آخر؛ فنحن نجد مؤمنا يحرص على أداء الحكم من الله ، وهو الطائع ، ونجد مؤمنا آخر قد لا يحرص على أداء الحكم فيصبح عاصيا .
ونجد في هذا الموقف أن الكفر نوعان ، هناك من يكفر بحكم الحج ، أي من كفر في الاعتقاد بأن لله على الناس حج البيت ، وهذا كافر حقا ، لكنْ هناك نوع آخر وهو الذي يرتكب معصية الكفران بالنعمة؛ لأن الله أعطاه الاستطاعة من زاد ، ومن راحلة ، ومن أمن طريق ، ومن قدرة على زاد يكفي من يعولهم إلى أن يعود ، وهنا كان يجب على مثل هذا الإنسان أن يسعى إلى الحج . لذلك قال بعض العارفين لو أن أحدهم أُخْبِر بأن له ميراثا بمكة لذهب إليه حبواً .
إذن فقوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } هي قضية إيمانية ، فمن اعتقدها يبرأ من الكفر ، ومن خالفها وأنكرها فهو في الكفر . ومن قام بالحج فهو طائع ، ومن لم يفعل وهو مؤمن بالحج فهو عاصٍ .
ولننظر إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } . قد يقول قائل : ولماذا لم يقل الله : ومن كفر فإن الله غني عنه؟ وقال : { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } ؟ ونقول : إنّ الله غنيٌّ عن كل مخلوقاته ، وإيّاك أن تفهم أن الذي لم يكفر وآمن ، وأدى ما عليه من تكليف ، أنه عمل منفعة لله؛ إن الله غني عن الذي أَدّى وعن الذي لم يؤد ، إياك أن تظن أن من أدّى قد صنع لله معروفا ، أو قدم لله يدا؛ { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } عمن لا يفعل ، وعمن يفعل . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله . . . }
(1/1103)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
وحين تسمع " قل " فهي أمر من الله لرسوله كما قلنا من قبل؛ إنك إذا كلفت إنسانا أن يقول جملة لمن ترسله إليه فهل هذا الإنسان يأتي بالأمر " قل " أو يؤدي الجملة؟ إنه يؤدي الجملة ، ومثال ذلك حين تقول لابنك مثلا : " قل لعمك : إن أبي سيأتيك غدا " فابنك يذهب إلى عمه قائلا : " أبي يأتيك غدا " .
وقد يقول قائل : ألم يكن يكفي أن يقول الله للرسول : " قل يا محمد " فيبلغنا رسول الله يا أهل الكتاب لم تكفرون؟ كان ذلك يكفي ، ولكن الرسول مبلغ الأمر نفسه من الله ، فكأنه قال ما تلقاه من الله ، والذي تلقاه الرسول من الله هو : { قُلْ ياأهل الكتاب } وهذا يدل على أن الرسول يبلغ حرفيا ما سمعه عن الله وهناك آيات كثيرة في القرآن تبدأ بقول الحق : { ياأهل الكتاب } ولا يأتي فيها قول الحق : " قل " . وهناك آيات تأتي مسبوقة ب " قل " " ما الفرق بين الاثنين "؟
نحن نجد أن الحق مرة يتلطف مع خلقه ، فيجعلهم أهلا لخطابه ، فيقول : { ياأهل الكتاب } إنه خطاب من الله لهم مباشرة . ومرة يقول لرسوله : قل لهم يا محمد لأنهم لم يتساموا إلى مرتبة أن يُخاطبوا من الله مباشرة : فإذا ما وجدنا خطابا من الحق للخلق ، مرة مسبوقا ب " قل " ومرة أخرى غير مسبوق فلْتعلم أن الحق سبحانه حين يخاطب خلقه الذين خلقهم يتلطف معهم مرة ، ويجعلهم أهلا لأن يخاطبهم ، ومرة حين يجد منهم اللجاج فإنه يبلغ رسول صلى الله عليه وسلم : قل لهم .
والمثال على ذلك - ولله المثل الأعلى - في حياتنا ، نجد الواحد منا يقول لمن بجانبه : قل لصاحب الصوت العالي أن يصمت . إن هذا القائل قد تَعَالَى عن أن يخاطب هذا الإنسان صاحب الصوت المرتفع فيطلب ممن يجلس بجانبه أن يأمر صاحب الصوت العالي بالسكوت . وحين يجيء الخطاب لأهل الكتاب فنحن نعرف أنهم اليهود أصحاب التوراة ، والنصارى أصحاب الإنجيل ، وهؤلاء هم من يقول عنهم الحق : { ياأهل الكتاب } .
ولم يقل أحد لنا : " يا أهل القرآن " لماذا؟ لأن الحق حين يقول لهم : { ياأهل الكتاب } فنحن نعرف أن الكتاب يُطلق على كل مكتوب ، وكفرهم يعارض ما علم الله أنه موجود في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لأنه هو الذي أنزل الكتاب ، ويعلم أن ما في الكتاب يدعو إلى الإيمان ، ولا يدعو إلى الكفر . وما دام هو الحق الذي نَزَّل الكتاب ، وهو الشاهد ، فيصبح من الحمق من أهل الكتاب أن يوقعوا أنفسهم في فخ الكفر؛ لأنهم بذلك يكذبون على الله : والله - سبحانه - يسجل عليهم أنهم خالفوا ما هو مكتوب ومنزل عليهم في كتابهم .
(1/1104)
إنهم - أهل الكتاب - إن استطاعوا تعمية أهل الأرض فلن يستطيعوا ذلك بالنسبة لخالق الأرض والسماء .
والحق حين يقول : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } فهل نفهم من ذلك أن كفرهم بآيات الله هو سترهم آيات الله سترا أوليا أو أنهم آمنوا بها ، ثم كفروا بها؟ لنرى ماذا حدث منهم ، لقد كانت البشارات به صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة ، ومكتوبة في الإنجيل وهم قد آمنوا بها قبل أن يجيء سيدنا رسول الله ، فلما جاء رسول الله بالفعل كفروا بها . وفي هذا جاء القول الحكيم : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ]
لماذا كفروا به صلى الله عليه وسلم ؟ لأنه زحزح عنهم السلطة الزمنية ، فلم تعد لهم السلطة الزمنية التي كانوا يبيعون فيها الجنة ويبيعون فيها رضوان الله ويعملون ما يحقق لهم مصالحهم دون التفات لأحكام الله . وسبق أن قلت : إن قريشا قد امتنعت عن قول : " لا إله إلا الله " وهذا الامتناع دليل على أنها فهمت المراد من " لا إله إلا الله " ، فلو كانت مجرد كلمة تقال لقالوها ، لكنهم عرفوا وفهموا أنه لا معبود ولا مطاع ولا مشرع ، ولا مكلف إلا الله .
إن الحق يقول لأهل الكتاب : { قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً . . . }
(1/1105)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
هب أنكم خبتم في ذواتكم ، وحملتم وزر ضلالكم؛ فلماذا تحملون وزر إضلالكم للناس؟ . كان يكفي أن تحملوا وزر ضلالكم أنتم ، لا أن تحملوا أيضا وزر إضلالكم للناس؟
إن الحق - سبحانه - قال : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ]
إنه سبحانه قال ذلك مع أنه قد قال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ]
إن الذي لا يحمل وزرا مع وزره هو الضال الذي لم يُضِل غيره ، فهذا يتحمل إثمه فقط . أما الذي يحمل وزر نفسه ، ووزر غيره فهو الضال المضل لغيره ، وهنا يسألهم الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله : { لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ } .
كأنه يقول لهم ماذا تريدون من الدين الذي يربط العبد بربه؟ . إنكم لا تريدونه دينا قيما إنكم تريدون دينا معوجا ، والمعوج عن الاستقامة إنما يكون معوجا لِغرض؛ لأن المعوج يطيل المسافة . إنّ الذي يسير في طريق مستقيم ما الذي يدعوه إلى أن ينحرف عن الطريق المستقيم ليطيل على نفسه السبيل؟ . إن كان يريد الغاية مباشرة فإنه يفضل الطريق المستقيم . أما الذي ينحرف عن الطريق المستقيم فهو لا ينبغي الغاية المنشودة ، بل يطيل على نفسه المسافة ، وقد لا يصل إلى الغاية .
والحق يقول : { لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً } وساعة تسمع " عوجا " فإننا قد نسمعها مرة " عوج " بفتح العين . ومرة نسمعها " عوج " بكسر العين . حين نسمعها " عوج " بفتح العين ، فالعَوَج هو للشيء الذي له قيام ، كالحائط أو الرمح ، أما " العِوج " بكسر العين فهو في المعاني والقيم ، لذلك يقول لهم الحق عن انحرافهم في المعاني والقيم : { تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } .
إن الحق يبلغهم : أنتم تبغون الدين عوجا برغم أنكم شهداء على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ، إنه جاء مبلغا بالصدق ، وكنتم تبشرون برسالة محمد ، وكنتم تستفتحون على الذين أشركوا من أهل مكة وتقولون : سيأتي نبي نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم . وأنتم - يا أهل الكتاب - شهود على صدق هذا الرسول .
لقد ارتكبوا سلسلة من المعاصي؛ هم ضلوا وجهدوا أن يُضلوا غيرهم . ويا ليت ذلك يتم عن جهل ، ولكنه أمر كان يتم بقصد وعن علم . وبلغت المسألة منهم مبلغ أنهم شهود على الحق . وبرغم ذلك أصروا على الضلال والإضلال . ومعنى " الشهود " ، أنهم عرفوا ما قالوا ورأوه رأي العين ، فالشهود هو رؤية لشيء تشهده ، وليس شيئا سمعته ، لذلك يذكرهم الحق سبحانه بقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
إنَّ الرسالة التي جاء بها محمد مبلغا واضحة ، وهذا مذكور في كتبكم السماوية . فما الذي يجعلكم - يا أهل الكتاب - لا تلتزمون طريق الحق وأنتم شهود؟ لا بد أنكم قد مستكم شبهة إن الله يغفل عن ذلك ، فقال لهم لا : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
وبعد ذلك يأتي قول الحق سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }
(1/1106)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
معنى ذلك أن الله نبّه الفئة المؤمنة إلى أن الذين يكفرون بآيات الله لن يهدأ بالهم ما دمتم أنتم - أيها المؤمنون - على الجادة ، وما دمتم مستقيمين ، ولن يهدأ للكافرين بآيات الله بال إلا أن يشككوا المؤمنين في دينهم ، وأن يبغوها عوجا ، وأن يكفروهم من بعد إسلامهم .
وهذه قضية يجب أن ينتبه لها الذين آمنوا؛ لأن الذين يبغون الأمر عوجا قد ضلوا وأضلوا ، وهم يشهدون على هذا ، ويعلمون أنّ الله غير غافل عما يعملون ، فماذا يكون موقف الطائفة المؤمنة؟ إن الحق سبحانه يوضحه بقوله : { ياأيها الذين آمنوا } .
إن أهل الكتاب يحاولون أن يصدوا المؤمنين عن سبيل الله ، وليس المقصود بالصد ، أن هناك من يمنع المؤمنين من الإيمان ، لا ، بل هي محاولة من أهل الكتاب لإقناع المؤمنين بالرجوع والارتداد عن الإيمان الذي اعتنقوه؛ فالمؤمنون هم الطائفة التي تلتزم بالتكليف من الله ، لذلك يحذرهم الحق سبحانه بقوله :
{ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ، يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } الحق يحدد قسما من الذين أوتوا الكتاب ، وذلك تأريخ بنزاهة وصدق وحق ودون تحامل . كأن الحق سبحانه يبلغنا أن هناك فريقا من أهل الكتاب سيسلكون الطريق السوي ، ويجيئون إلى المسلمين أرسالا وجماعات وأفرادا مع الإسلام؛ فالحق لا يتكلم عن كل الذين أوتوا الكتاب . لذلك يقول الحق { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إن الحق يؤرخ وهو يحمى الحقيقة ، ويقول سبحانه بعد ذلك : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ . . . }
(1/1107)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
إنه استعظام وتعجيب من أن يأتي الكفر مرة أخرى من المؤمنين وهم في نعيم المعرفة بالله ، فآيات الله تُتلى عليهم ، ورسول الله حق ومعهم وفيهم .
ويقول الحق سبحانه للمؤمنين : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إنّ لذلك قصة؛ فقد كان اليهود في المدينة يملكون السلطة الاقتصادية؛ لأنهم يجيدون التعامل في المال ، وكل من يريد مالا يذهب إليهم ليقترض منهم بالربا . وكان لليهود أيضا التفوق والتميز العلمي؛ لأنهم يعلمون الكتاب ، بينما كان غالبية أهل مكة والمدينة من الأميين الذين لا يعرفون كتابا سماويا . وكذلك كان هناك تميز آخر لليهود هو خبرتهم بالحرب؛ فلهم قلاع وحصون . هكذا كان لليهود ثلاثة أسباب للتميز :
المال يحقق الزعامة الاقتصادية ، والعلم . . بالكتاب وهو تفوق علمي ، ثم خبرتهم بفنون الحرب ، وكانوا فوق ذلك يحاولون إيجاد الخلاف بين الناس وتعميقه . مثل محاولتهم إثارة العداوات بين الأوس والخزرج . والمتاجرة بذلك حتى تظل الحروب قائمة ، وبذلك يضمنون رواج تجارة الأسلحة التي يصنعونها ويمدون بها كل فريق من المتحاربين .
ولما جاء الاسلام وحّد الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج وبذلك ضاع منهم التفوق الاقتصادي . وجاء الاسلام بدين وكتاب مهيمن على الكتب ، فضاعت من اليهود المنزلة العلمية . وكذلك ضاعت من اليهود المنزلة الحربية؛ فقد رأوا قلة من المؤمنين هزموا الكفار وأنزلوا بهم هزيمة نكراء في بدر ، وهكذا ضاع كل سلطان لليهود في المدينة ، لذلك أرادوا أن يعيدوا الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يجيء الإسلام ، فقالوا فلنؤجج ونشعل ما بين الأوس والخزرج من العداوات ونهيجها ، وقال شخص اسمه " شأس بن قيس " وقد رأى نور الإيمان يعلو وجوه الأوس والخزرج ويشملهم الانسجام الإيماني . وتوجد بينهم المودة وابتسامات الصفاء ، هيَّج ذلك شأس بن قيس وقال : " والله لا بد أن نعيدها جذعة ونرجعهم إلى ما كانوا عليه من أحقاد وعداوات ، فلا استقرار لنا ما دامو قد اجتمعوا " .
فأرسل فتى من اليهود وجلس بين الأوس والخزرج ، ثم تطرق الحديث منه إلى يوم يسمى يوم " بعاث " ، وهو اسم يوم من أيام العرب قبل الإسلام ، وكان بين الأوس والخزرج ، وكان النصر فيه للأوس على الخزرج ، وجلس الفتى اليهودي يذكر ويأتي بالشعر الذي قيل في هذا اليوم فهيّج حمية الأوس والخزرج وحدث النزاع ، وحصل التفاخر واستيقظ التباغض ، وقالوا : " السلاح . . السلاح " وهكذا نجحت المكيدة ، ونمى الخبر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام صلى الله عليه وسلم ومعه صحابته ، حتى انتهَوْا إلى اجتماع الأوس والخزرج ، فوجدوا الحال على أشد درجات الهياج ، نزاع ، وتباغض ، وسلاح محمول ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أبِدَعْوى الجاهلية وأنا بين أظهركم!!
أي كان من الواجب أن تخجلوا من أنفسكم؛ لأن رسول الله بينكم ، وأضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، وألف بين قلوبكم ، فماذا كانت مواقع كلمات الرسول في نفوس القوم؟ لقد دفعتهم كلماته صلى الله عليه وسلم إلى إلقاء السلاح ، وبكوا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم .
(1/1108)
وعندما نتأمل ما فعله هؤلاء القوم من اليهود لإشعال الفتنة بين الأوس والخزرج نجد أنهم قد أدركوا طبيعة النزاع القديم بين الأوس والخزرج فأرادوا أن يهيجوا تلك العداوات والأحقاد القديمة ، وكذلك نجد أن تهييج المشاعر بين الأوس والخزرج جعل للانفلات بابا فكاد القتال يشتعل ، وعندما تكلم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هدأت المواجيد ، وألقوا السلاح ، وندموا على ما فعلوا .
وإذا أردنا أن نرى الأمر بعمق التصور لِمَا حدث فإننا نجد أن إدراك العداوة بين الأوس والخزرج من اليهود هو الذي دفع اليهود لتحريك هذا الإدراك الخاطئ وإحياء الثارات القديمة ، ثم كان انفعال الأوس والخزرج بتلك الثارات القديمة قد فتح الباب لحمل السلاح للاقتتال .
وهكذا نجد أن الإدراك للشيء ، يمر بثلاث مراتب : أولا : الإحساس بالشيء ، ثانيا : انفعال النفس له ، ثالثا؛ النزوع السلوكي ، وعندما تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم ، أدرك الأوس والخزرج الأمر بطريقة عكسية فألقوا السلاح ، وهدأت مواجيد البغضاء ، وتركوا الإدراكات الخاطئة .
لقد ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء هي : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية . وألف بين قلوبكم " . وقد استقبلوا ذلك بإلقاء السلاح أولا ، ثم البكاء ثانيا ، وهو أمر حركته المواجيد فيهم ثم تعانقوا أي صححوا الإدراكات ثالثا ، وهكذا حدث النزوع بالعكس . ولما حدث ذلك أصاب اليهود الغيظ والخيبة والنكد . وقال المؤرخ لهذه القصة : فما كان يوم في الإسلام أسوأ أولا وأحسن آخراً إلاّ ذلك اليوم .
لقد بدأ اليوم بعبوس ، وانتهى بإشراق الطمأنينة ، وبعد ذلك وُجدت الخلية التي تكوّن المناعة في نفوس المؤمنين ، بعد أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك القول : " أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذا أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم " .
لقد صار هذا القول الكريم مستحضرا عند كل نزع لشيطان ، أو كيد لعدو . لقد جعل الحق المناعة ضد فعل الكيد ، ونزغ الشيطان عند المؤمنين من الأوس والخزرج ، وهكذا نرى أن الله يسخر الكافر حتى في رفعة شأن الإيمان ، فلو لم تحدث هذه المسألة ويأتي الرسول صلى الله عليه بمنطقه المؤثر وهو بين القوم ليقول ذلك القول لما أصبح لدى المسلمين هذه المناعة من الارتفاع عن البغضاء فيما بينهم ، ولو كان أحد من أتباع الرسول قد قال مثل هذه الكلمة فقد كان من المحتمل أن يحدث هذا الأثر ، لكن عندما قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أوجدت المناعة لغيرها من الأحداث التي يأتي وقد لا يكون الرسول موجودا .
(1/1109)
ولذلك فأنت أيها المؤمن إن نظرت إلى الكافرين . فإنك تجد عقولهم خائبة . لقد نشروا الإسلام - دون إرادتهم - بمواقفهم الحمقاء ، فمثلا حين قالوا : سيأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فما الذي حدث؟
إن الأنصار ساعة أن سمعوا بالدين الجديد قال بعضهم لبعض : اسمعوا يا قوم ، إنه الدين الذي بشرتكم به يهود ، فقبل أن يسبقونا إليه هيا بنا نسبق نحن اليهود إليه .
لقد كان استعلاء اليهود وتفاخرهم على الأوس والخزرج دافعا للأوس والخزرج على الدخول في الإسلام ، وهكذا يجعل الحق سبحانه وتعالى كفر الكافر مؤثرا في تثبيت إيمان المؤمن .
وحين يقول الحق سبحانه : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } نفهم انه استعظام وتعجيب يأتي من الحق . فساعة تسمع : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } فذلك أمر عجيب ، لأنه من المستبعد أن يكفر المؤمنون وكتاب الله يتلى عليهم ، ورسول الله فيهم .
ويجيء من بعد ذلك الدعوة إلى الاعتصام بالله ، ومعنى الاعتصام : التمسك ، ولا يتأتي إلا في علو ، فيقال : " اعتصمت بحبل الإيمان " لأن للإنسان ثقلا ذاتيا ، هذا الثقل الذاتي إن لم يرفعه سواه ، فإنه يقع بالإنسان . وهذا لا ينشأ إلا إذا كان الإنسان معلقا في الجو ويمسك بحبل ولا يوجد من يدفعه إلى أسفل ، بل الإنسان بثقله الخاص يهبط إلى الأرض . فمن يعتصم بالله ويمسك بحبل الإيمان فإنه يمنع نفسه من الهُوِيِّ والسقوط .
وهنا نشعر أن الاعتصام بالله هو أن نتبع ما تُلِيَ علينا من الآيات ، وما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذن فباب الاعتصام هو كتاب الله وسنة رسوله ، وكذلك كان وجود الرسول بين أظهرهم هو الأمر الضروري ، لأنهم كانوا منغمسين في حمأة الجاهلية ، فلا بد أن توجد إشراقة الرسول بينهم حتى تضيء لهم ، فيروا أن الله قد أخرجهم من الظلمات إلى النور . ولم يقبض الحق رسوله إلا بعد أن أكمل لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا . قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي " .
هكذا نرى أن وجود آيات الله ، وسنة رسول الله هي العاصم الذي يهدي إلى صراط مستقيم . والهدى كما نعرف هو ما يوصل إلى الغاية المرجوة ، فهب أن غايتك أن تذهب إلى مكان معين فالذي يوصلك إلى ذلك المكان هو هدى ، وكل ما يدل إنسانا على الموصل للغاية اسمه هدى .
(1/1110)
والحق سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعا ، وجعل بعض الخلق مقهورا ، وبعض الخلق مخيرا .
والمقهور من خلق الله هو كافة المخلوقات في الكون ما عدا الإنسان إلا في بعض أموره فإنه مقهور فيها أيضا ولذلك قلنا : إن كل ما عدا الإنسان من خلق الله يؤدي مهمته كما طُلبت منه ، فما امتنعت الشمس أن تشرق على الناس يوما ، ولا امتنعت الريح أن تهب ، ولا امتنعت السماء عن أن تمطر ، ولم تقل الأرض للإنسان إنك تعصي الله فلا أنبت لك ، ولا جاء إنسان ليركب الدابة المسخرة فقالت : لا؛ إنك عاصٍ ، ولذلك سأحرن فلا أمكنك من ركوب ظهري .
هكذا نرى أن كل شيء ما عدا الإنسان مسخر مقهور للغاية المرجوة منه ، وهو خدمة ذلك الإنسان . والإنسان وحده هو الذي له اختيار . . ولذلك يجب أن نتنبه دائما إلى أن الله قد جعل للخلق تسخيرا وتسييرا ، وجعل الإجماع في كل الأجناس ، ولكن الانقسام جاء عند الإنسان فقال الحق سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ]
إن الجمادات الساجدة المسخرة هي : " الشمس والقمر والنجوم " ، والنبات الساجد المسخر هو " الشجر " وكذلك " الدواب " فهي ضمن الكائنات التي عليها حكم الحق بالإجماع ، بأنها كلها تسجد خاضعة مسخرة . أما الأنسان فقد قال الحق عنه : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } .
إذن فالانقسام جاء عند من؟ لقد جاء الانقسام عند الإنسان . لماذا؟ لأن الله خلق الإنسان مختارا . ألم يكن من الممكن أن يخلق الإنسان مسخرا كبقية الكائنات؟ أليس التسخير دليلاً على قدرة المسخر ، وأن شيئا من خلقه لن يخرج من قدرته هذا صحيح ، لكن الحق سبحانه كما أراد أن يثبت القدرة والقهر بالتسخير ، أراد أن يثبت المحبوبية بالاختيار . فمن كان مختارا أن يؤمن أو يعصي ، ثم اختار أن يؤمن ، فهذا الاختيار إنما يثبت به الإنسان المحبوبية لله .
هكذا صنف الله الخلق بين قسم قهري يثبت القدرة ، وقسم اختياري يثبت المحبوبية ، ولهذا أراد الله للإنسان أن يكون مختارا أن يفعل أو لا يفعل . فلماذا - إذن - لا يفعل الإنسان كل أفعاله وهي منسجمة مع الإيمان؟ لأن للشهوة بريقا سطحيا ، وهذا البريق السطحي يجذب الإنسان كما تجذب النارُ الفَرَاش .
عندما يوقد الإنسان ناراً ما في الخلاء فضوؤها يجذب الفَرَاش ، ويحترق الفَراش بنيران الضوء؛ فقد جذبه النور وأغراه ، ولكنه لم يعرف أن مصرعه في تلك النار .
(1/1111)
والحكمة العربية تقول : " رب نفس عشقت مصرعها " كذلك في الشهوات ، تتزين الشهوة للإنسان ، فتجذبه إليها فيكون فيها مصرع الإنسان .
لكن ما الحماية للإنسان من ذلك؟
إن الحماية هي في منهج الله " افعل " . و " لا تفعل " فمن يرد أن ينقذ نفسه من كيد الشيطان وكيد النفس فعليه أن يخضع لمنهج الله في " افعل " و " لا تفعل " . وقد قلت قديما : إنه من الحمق أن يصنع صانع صنعةً ما ، ثم ينسى أن يضع لها قانون الصيانة . والإنسان في حدود صناعته لا ينسى ذلك ، فما بالنا بالحق سبحانه بطلاقة قدرته؟
إن الخالق سبحانه وتعالى قد صنع الإنسان ، ووضع الحق سبحانه وتعالى قانون صيانة صنعته في الإنسان فقال جل وعلا : افعل كذا ولا تفعل كذا ، فمن أراد أن يعتصم بالحبل المتين فلا يأتي له نزغ شيطان أو كيد عدو ولا هوى نفس . فليعتصم بمنهج الله؛ لأن الله هو الذي خلقه وهو الذي وضع منهجه كقانون لصيانة صنعته ، وهو قانون الموجز في " افعل ولا تفعل " .
ويقول الحق : { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وكلمة الاعتصام أروع ما تكون عندما يكون الإنسان في الهواء معلقا في الفراغ ، وهو في أثناء وجوده في الفراغ فإن ثقله الذاتي هو الذين يوقعه ويسقطه ، لكن عندما يتمسك الإنسان بمنهج الله فإنه ينقذ نفسه من السقوط والهوى ( بضم الهاء وكسر الواو ) ومهمة الشيطان أن يزيّن المعصية بالبريق ، فتندفع شهوات النفس هائجة إلى المعصية ولذلك يأتي الشيطان يوم القيامة ويأخذ الحجة علينا . يقول الحق : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ]
والسلطان كما نعرف نوعان : النوع الأول هو أن يقهر الشيطانُ الإنسانَ ، والشيطان لا قدرة له على ذلك . والنوع الثاني هو أن يقنع الشيطان الإنسان بأن يفعل ذلك الخطأ .
ما الفرق بين الإقناع والقهر في هذا المجال؟
إن القهر هو أن يجبر الشيطان الإنسان على أن يفعل شيئا لا يريده الإنسان . أما الإقناع فهو أن يزين الشيطان الأمر للإنسان فيفعله الإنسان بالاختيار ويعلن الشيطان يوم القيامة : لم يكن لي سلطان أقهرك به أيها الإنسان حتى تعصي الله ، لقد زينت لك المعصية أيها الإنسان فاستجبت لي .
إن الشيطان يوم القيامة يقول : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } ما معنى " مصرخكم "؟ إنها مشتقة من " أصرخ " ، أي سمع صراخك فأغاثك وأنجدك ، فمصرخ : مغيث ومنجد ، والشيطان يعلن أنه لن يستطيع نجدة الإنسان ، ولا الإنسان بمستطيع أن ينجد الشيطان .
إذن ، فثقل النفس البشرية هو ما يوقع الإنسان في الهاوية دون أن يلقيه أحد فيها ، ولا إنقاذ للإنسان من الهاوية إلا بالاعتصام بحبل الله . كأن منهج الله هو الحبل الممدود إلينا ، فمن يعتصم به ينجو من الهاوية .
وما دمنا نعتصم بحبل الله وهو القرآن المنزل من خالقنا والسنة النبوية المطهرة ، وسبحانه يعلم كيد النفس لصاحبها - فلا بد أن يهدينا الله إلى الصراط المستقيم . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ . . . }
(1/1112)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
إن الله قد أعطى المؤمنين المناعة أولا بألا يسمعوا كلام أعداء الدين . وحين نسمع كلمة " اتقوا " فلنفهم أن هناك أشياء تسبب لك التعب والأذى ، فعليك أن تجعل بينك وبينها وقاية ، ولذلك قال الحق : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ]
إنه الحق يطلب من الإنسان أن يجعل بينه وبين النار وقاية وحجابا يقيه منها . والحق سبحانه وتعالى حين يقول على سبيل المثال : { واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } [ المائدة : 4 ]
إي اجعل بينك وبين الله حجابا يقيك من غضبه . وقد يقول قائل : كيف يكون ذلك وأنا كمؤمن أريد أن إعيش في معية الله؟
نقول : إنك تجعل الوقاية لنفسك من صفات جلال الله ، وأنت تستظل بصفات الجمال ، فالمؤمن الحق هو من يجعل لنفسه وقاية من صفات جلال الله ، وهي القهر والجبروت وغيرها ، وكذلك النار إنّها من جنود صفات الجلال . فحين يقول الحق : { اتقوا النار } أو { اتقوا الله } فالمعنى واحد . وعندما يسمع إنسان قول الحق سبحانه : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } ماذا تعني ( حق تقاته ) ؟ إن كلمة " حق " - كما نعرف - تعني الشيء الثابت الذي لا يزول ولا يتزحزح ، أي لا ينتهي ولا يتذبذب ، هذا هو الحق .
إذن ما حق التقي؟ هو أن يكون إيمانك أيها المؤمن إيمانا راسخا لا يغادرك ولا تتذبذب معه ، واتقاء الله حق تقاته هو اتباع منهجه ، فيطاع الله باتباع المنهج فلا يعصي ، ويُذكر فلا ينسى ، ويُشكر ولا يُكفر . وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج ب " افعل " و " لا تفعل " ويذكر ولا ينسى؛ لأن العبد قد يطيع الله ، وينفذ منهج الله ، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله ، والمنهج يدعوك أن تتذكر في كل نعمة من أنعم بها ، وإياك أن تنسيك النعمة المنعم .
ويشكر العبد الله ولا يكفر بالنعم التي وهبها له الله . وما دمت أيها العبد تستقبل كل نعمة وتردها إلى الله وتقول : " ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله " ولا تكفر بالنعم أي أنك تؤدي حق النعمة ، وكل نعمة يؤدي العبد حقها تعني أنها نعمة شكر العبد ربه عليها ، ولم يكفر بها .
وقيل في معنى : { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي أَنه لا تأخذك في الله لومة لائم ، أو أن تقول الحق ولو على نفسك . هذا ما يقال عنه " حق التقى " ، أي التقى الحق الذي يعتبر تقى بحق وصدق . وقال العلماء : إن هذه الآية عندما نزلت وسمعها الصحابة ، استضعف الصحابة نفوسهم أمام مطلوبها ، فقال بعضهم : من يقدر على حق التقى؟ ويقال : إن الله أنزل بعد ذلك : { فاتقوا الله مَا استطعتم }
(1/1113)
[ التغابن : 16 ]
فهل معنى هذا أن الله كلف الناس أولا ما لا يستطيعون ، ثم قال من بعد ذلك : { فاتقوا الله مَا استطعتم } ؟ لا ، إنه الحق سبحانه لا يكلف إلا بما في الوسع ، والناس قد تخطئ الفهم لقوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } فيقول العبد : أنا غير مستطيع أن أقوم بذلك التكليف ، ويظن هذا العبد أن التكليف يسقط عنه . لا ، إن هذا فهم خاطئ؛ إن قوله الحق : { فاتقوا الله مَا استطعتم } أي إنك تتقي الله بما كان في استطاعتك من الوسع ، فما باستطاعتك أن تقوم به عليك أن تقوم به . فلا يهرب أحد إلى المعنى المناقض ويقول : أنا غير مستطيع؛ لأن الله يعلم حدود استطاعتك .
وساعة تكون غير مستطيع فهو - سبحانه - الذي يخفف . . إنك لا تخفف أنت على نفسك أيها العبد ، فالخالق الحق هو الذي يعلم إذا كان الأمر خارجا عن استطاعتك أو لا ، وساعة يكون الأمر خارجاً عن استطاعتك فالله هو الذي يخفف عنك . ولذلك فعلى الإنسان ألا يستخدم القول الحق : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ]
في غير موضعه؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يقدر الوسع ، ثم يبني التكليف على الوسع . بل عليك أن تفهم أيها الإنسان أن الله هو الذي خلق النفس ، وهو الذي أنزل التكليف لوسع النفس ، وما دام الخالق للنفس هو الله فهو العليم بوسع النفس حينما قرر لها المنهج . إنه سبحانه الذي كلف ، وهو العليم بأن النفس قد وسعت ، ولذلك فهو لا يكلف نفسا إلا وسعها . فإن كان سبحانه قد كلف فأعلم أيها العبد أنه سبحانه قد كلف بما في وسعك ، وعندما يحدث للإنسان ما يشق عليه أو يمنعه من أداء ما كلف به تامّاً فهو - سبحانه - يضع لنا التخفيف وينزل لنا الرخص . مثال ذلك : المريض أو الذي على سفر ، له رخصة الإفطار في رمضان ، والمسافر له أن يقصر الصلاة .
إذن فالله سبحانه هو الذي علم حدود وسع النفس التي خلقها ، ولذلك لا تقدر وسعك أولا ثم تقدر التكليف عليه ، ولكن قدّر التكليف أولا ، وقل : ما دام الحق قد كلف فذلك في الوسع . وفي تذييل الآية الكريمة بقوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } نجد أنفسنا أمام نهي عن فعل وهو : عدم الموت إلا والإنسان مسلم .
كيف ذلك؟ أيقول لك أحد : لا تمت؟ إن ذلك الأمر ليس لك فيه اختيار؛ لأنه أمر نازل عليك . فإذا قيل لك : لا تمت ، فإنك تتعجب؛ لأن أحدا لا يملك ذلك ، ولكن إذا قيل لك : لا تمت إلا وأنت مسلم ، فأنت تفكر ، وتصل بالتفكير إلى أن الفعل المنهي عنه : لا تمت ليس في قدرة الإنسان؛ ولكن الحال الذي يقع عليه الفعل وهو : إلا وأنت مسلم ، في قدرة الإنسان؛ لذلك تقول لنفسك : إن الموت يأتي بغير عمل مني ، ولكن كلمة : إلا وأنت مسلم ، فهي باستطاعتي ، لأن الإسلام يكون باختياري .
(1/1114)
صحيح أنك لا تعرف متى يقع عليك الموت؟ ولذلك تحتاط والاحتياط يكون بأن تظل مسلما حتى يصادفك الموت في أي لحظة وأنت مسلم .
إذن . . فقول الله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } هو نهي عن الفعل الأول وهو ليس باختيارنا . والحال الذي لنا فيه اختيار هو { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } فكيف نوفق بين الأمرين؟ إن الموت لا اختيار لأحد منا متى يقع عليه ، ولذلك نأتي إلى الأمر الذي لنا فيه اختيار ، وهو أن نحرص على أن نكون مسلمين ، ويظل كل منا متمسكا بأهداب الإسلام ، فإن صادف الموت في أي لحظة يكون مسلما وكأن الحق سبحانه يقول لنا : تمسكوا بإسلامكم؛ لأنكم لا تدرون متى يقع عليكم الموت .
وإخفاء الموت عن الإنسان ليس إبهاما كما يظن البعض ، لا؛ إنه منتهي البيان الواسع؛ لأن إخفاء الموت ، وميعاده عن الإنسان زمنا وحالا ، وسنا وسببا ، كل ذلك يوضح الموت أوضح بيان . لماذا؟ لأن الله حين استأثر بعلم الموت فالإنسان منا يترقب الموت في أي لحظة وما دام الإنسان مترقبا للموت في أي لحظة فهذا بيان واسع بل هو أوسع بيان . ويقول الحق بعد ذلك : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ . . . }
(1/1115)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
جاء هذا القول الكريم لينبه كل المؤمنين ، من خلال التنبيه للأوس والخزرج ، وكأنه يقول : اعلموا أن التفاخر قبل الإسلام كان وبأشياء ليست من الإسلام في شيء . لكن حين يجيء الإسلام فالتفاخر يكون بالإسلام وحده فإذا ما تغاضى إنسان بما قبل الإسلام بقوله : منا كذا . . ومنا كذا . فهنا يأتي الردّ : لا؛ إن ذلك قبل الإسلام .
وقد حدث أن قال الأوس من بعد الإسلام : " منا خزيمة " فقال واحد من الخزرج : ومنا أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت فقال واحد من الأوس : منا حنظلة ابن الراهب وحنظلة هذا هو غسيل الملائكة ، وخزيمة بن ثابت صحابي جليل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين؛ لأن خزيمة صاحب إيمان نوراني . ونورانية اليقين هدته إلى الحكم الصواب؛ " فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أعرابي وذهب ليحضر له الثمن ، ولكن الأعرابي أنكر البيع لأن بعض الناس زاده في ثمن الفرس دون علم أن الرسول قد اشتراه فنادى الأعرابي الرسول وقال له إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته .
فقال النبي للرجل : " ألست قد ابتعته منك " . فقال الرجل هات شاهدا يشهد بذلك . لقد انتهز الرجل فرصة أن النبي ابتاع منه دون وجود أحد في هذا الوقت ، وكان سيدنا خزيمة جالسا لحظة مطالبته للنبي بشاهد . فقال سيدنا خزيمة : أنا أشهد يا رسول الله أنك قد بايعته .
ولأن الرجل كاذب ، قال لنفسه : لعل خزيمة رآنا وأنا أبيع الفرس للنبّي فسكت الرجل وانصرف ، وبعد أن انصرف الرجل نادى الرسول خزيمة . وقال له : " يا خزيمة بم تشهد ولم تكن معنا؟ " فقال : أنا أصدقك في خبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟ أعلم أنك لا تقول إلا حقاً قد آمناك على أفضل من ذلك ، على ديننا . فعلم الرسول أن لخزيمة نورانية التصديق وحسن الاستنباط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد له خزيمة فحسبه " " .
فالأمر الذي يحتاج شاهدين تكفي فيه شهادة خزيمة ، وبذلك أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الوسام لخزيمة وجعل شهادته شهادة رجلين ، ولنر كيف جمع الله بين الأوس والخزرج في جمع القرآن ، قال زيد بن ثابت : فآليت على نفسي ألاّ أكتب آية إلاّ إذا وجدتها مكتوبة وشهد عليها اثنان ، إلاّ آخر التوبة فوجدتها مكتوبة ولم يشهد عليها إلاّ خزيمة ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في خزيمة : " من شهد له خزيمة فحسبه " ولنا أن نعرف أن زيد بن ثابت من الخزرج وأن خزيمة من الأوس . لقد جمعهما الله في جمع القرآن ، فنفع الأوسي الخزرجي ، وذلك ليدلنا الحق سبحانه دلالة جديدة ، وهي أن التفاخر قبل الإسلام كان بغير الإسلام ، لكن ساعة يجيء الإسلام فأي واحد من أي جنس ما دام قد أحسن الإسلام ، فله أن يفخر به ، فإياك يا أوسيّ أن تقول : " منا خزيمة "؛ فالخزرجي له الفخر بخزيمة أيضا ، وليس للخزرجي أن يقول : " منا زيد بن ثابت " فللأوسي أيضا أن يفخر به ، لأن كُلاًّ منهما قد جمعه الله بالآخر في القرآن ، والإسلام ، وهكذا يكون الاعتصام بحبل الله .
(1/1116)
يقول الحق سبحانه وتعالى : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } إنّ الحرب ظلت مستعرة بين الأوس والخزرج مائة وعشرين عاما مع أن أصل القبيلتين واحد ، هما أخوان لأب وأم وعندما جاء الإسلام ألف الله بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا .
وهذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح لا بد أن يكون وراءها هبة قلب وثورته وهياجه ، فاليد لا تصفع أحدا من فراغ ، ولكن الصفعة توجد في القلب أولا { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } ، إن الحق سبحانه يقول : { وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } والشفا هي الحافة . ومرة يقال : " شفا " ومرة يقال : " شفة " . لقد كانوا على حافة النار ، ومن كان على الحافة فهو يوشك أن يقع ، فكأن الله يقول : لقد تداركتم بالإسلام ، ولولا الإسلام لهويتم في النار .
ويقول سبحانه : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وهكذا نرى نعمة الإسلام في الدنيا ، فقدرة الإيمان على إنقاذ الإنسان من النار لا تحتاج إلى انتظار بل يستطيع المؤمن أن يراها في الدنيا . ولقد كان العرب قبل الإسلام مؤرقين بالاختلافات ، وموزعين بالعصبية ، وكل يوم في شقاق . ولما جاء الإسلام صاروا إخوانا ، وهذه نعمة عاجلة في الدنيا والدنيا كما نعرف ليست دار جزاء ، فما بالك بما يكون في الآخرة وهي دار الجزاء والبقاء .
وقوله الحق : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } المقصود به أن تظلوا على هدايتكم . لقد خاطبهم الحق : { إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } وساعة يطلب التشريع منك ما أنت عليه ، فاعلم أن التشريع يريد منك استدامته ، فعندما يقول الحق ( يا أيها الذين آمنوا ) أي مع الإيمان الذي معكم قبل كلامي ، جددوا إيمانا بعد كلامي ليستمر لكم الإيمان دائما . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر . . . }
(1/1117)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وكلمة " أمة " تطلق مرة ، ويراد بها الجماعة التي تنتسب إلى جنس ، كأمة العرب ، أو أمة الفرس ، أو أمة الروم ، ومرة تطلق كلمة " أمة " ويراد بها الملة أي الدين ، ومرة ثالثة تطلق كلمة " أمة " ويراد بها الفترة الزمنية كقول الحق : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ]
إن الرجل الذي فسر له سيدنا يوسف الرؤيا تذكر سيدَنا يوسف بعد أمة أي بعد فترة من الزمن ، ومرة تطلق كلمة " أمة " على الرجل الجامع لصفات الخير . { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ]
لأن خصال الخير ليس من الضروري أن تجتمع في واحد ، ولكنها قد تجتمع في عدد من الأفراد فيكون هناك فلان المتميز بالصفة الطيبة ، وغيره متصف بصفة أخرى طيبة ، وثالث فيه صفة طيبة ثالثة ، ومن مجموع الأمة تظهر صورة الكمال ، لكن إبراهيم عليه السلام اجتمعت فيه كل خصال الخير المكتمل .
وساعة أن تأتي لإنسان ونَقول له : ليكن منك شجاع فما ذلك؟ إن معناه ، أن يجرد الإنسان من نفسه ويخرج منها شخصا شجاعا ، وذلك بتدريبها وتعويدها على ذلك حتى يكون الإنسان شجاعا ، أو تقول لآخر : ليكن منك كريم ، أي أخرج من نفسك رجلا كريما .
وقوله الحق سبحانه : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } .
هذا القول يعني ان يكون منكم أيها المخاطبون أمة تدعو إلى الخير ، ومعناه أيضا أن تكونوا جميعا أمة تدعو إلى الخير ، وبعض العلماء يرى أن هذا القول يعني : أن تكون منكم جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . ولكنّ هناك فهما أعمق من هذا ، وهو أن هذه الآية تأمر بأن تكون كل جماعة المسلمين أمة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، إي أن هذه الآية تطالب كُلَّ أمة المسلمين بذلك ، فلا تختص جماعة منها فقط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الواجب أن تكون أمة المسلمين كلها آمرة بالمعروف ، وناهية عن المنكر ، فمن يعرف حكما من الأحكام عليه أن يأمر به .
وهناك من العلماء من قال : إن الذي يأتي المنكر له حكم آخر أيضا وهو أن ينهي غيره عن المنكر ، أي أن الإنسان المؤمن مطالب بأمرين : الأول : ألاّ يصنع المنكر ، والثاني : أن ينهي عن المنكر . ولذلك إن جاء نصح من إنسان ينهاك عن المنكر ، وهو قد فعله ، فلا تقل له : أصلح نفسك واتبع أنت ما تنصح به أولا ، لا تقل له ذلك حتى لا يقول لك ما قاله الشاعر :
خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي ... واجن الثمار وخل العود للنار
لكن الأجدر بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون أول العاملين بقوله حتى لا يدخل في زمرة من قال الله فيهم :
(1/1118)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2-3 ]
إذن فقوله الحق : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } أي جردوا من أنفسكم أمة مجتمعة على أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، واستمعوا إلى قوله تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ]
إن السورة الكريمة توضح العقيدة ومطلوبها وهو الإيمان والعمل الصالح . وبعد ذلك قال الحق : " وتواصوا " ولم يقل " ووصوا " ما معنى " وتواصوا "؟ أي أن يعرف كل مؤمن انه من الأغيار ، وكذلك أخوه المؤمن ، وقد يضعف أحَدهما أمام معصية فيصنعها ، لكن الآخر غير ضعيف أمام تلك المعصية ، لذلك يكون على غير الضعيف توصية الضعيف ، وعلى الضعيف أيضا ضرورة الانتباه حتى يتواصى مع غيره . فالإسلام لم يجعل جماعة يوصون غيرهم ، وجماعة أخرى تتلقى الوصاية ، بل كلنا موص - بكسر الصاد - حينما نجد مَنْ من يضعف أمام معصية . وكلنا موصىً ، - بفتح الصاد - حين يكون ضعيفا أمام المعصية؛ فالتواصي يقتضي التفاعل بين جانبين . . فمرة تكون موصيا ، ومرة تكون موصىً ، وكذلك التواصي بالصبر .
فساعة تحدث كارثة لواحد من المسلمين يأتي أخوه ليصبره ، وكذلك إن حدثت كارثة للأخ المسلم يصبره أخوه المسلم ، فعندما يحتاج مسلم في وقت ما إلى أن يُصَبَّر ، يجد من إخوته من يصبره فالأمة كلها مطالبة : { وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } .
هكذا نفهم معنى قول الحق : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون } . والدعوة إلى الخير يفسرها الحق بأن يأمر الإنسان بالمعروف ، وأن ينهى عن المنكر .
ويقول الحق : { وأولئك هُمُ المفلحون } أن كلمة { المفلحون } هي كلمة معها دليلها ، فالمفلح هو الذي أخذ الصفقة الرابحة . والكلمة مأخوذة ، من فلح الأرض . فالذي يفلح الأرض ويحرثها ثم يزرعها يجد الثمرة تجيئه في النهاية ، وقد جاء الحق بالمسألة المعنوية من أمر محس . وبعد ذلك يريد الحق أن يعطينا شيئا آخر فيقول : إياك أن تظن أن المشقة التي تصيبك حين تفعل خيرا لا تعود عليك بالراحة ، أو أن النقص الذي تفعل به الخير لا يعود عليك بالكمال ، فمثلا الإنسان الذي فلح الأرض وأخرج " كيلة " من القمح وبذرها فيها . هذا الإنسان قد تكون له زوجة حمقاء تقول له : إننا لا نملك إلا أربع " كيلات " من القمح فكيف تأخذ " كيلة " لترميها في الأرض ، إن هذه المرأة لا تعرف أن " الكيلة " التي أخذها الزوج هي التي ستأتي بعدد من الأرادب من القمح .
(1/1119)
فإياك أن تفهم أن الإسلام يأخذ منك شيئا إلا وهو يريد أن يعطيك أشياء .
إن الفلاح الذي يشقى بالحرث وبالري ، وتراه وقد علا جبهته العرق وتراب الأرض وتغوص أقدامه في الطين والمياه ، إنك تراه يوم الحصاد وهو فرح مسرور بغلته . أما غيره الذي لم يشُّقَ بالحرث ولم تعل جبهته حبات العرق ، فيأتي في هذا اليوم وهو حزين ونادم . فإياك أن تنظر إلى تكاليف الدين على أنها أمور تحرمك النفع ، إنّها أمور تربّب لك النفع أي تكثر لك النفع . وإياك أن تظن أن حكما من أحكام الله قد جاء ليجور على حريتك بل جاء ليمنع عنك اعتداء الآخرين .
وقلنا من قبل : إن الشرع حين كلف كل إنسان ألا يسرق مال أحد ، فهو تقييد من أجل حفظ أموال الملايين ، وهو أمر ضمني لكل الناس ألاَّ يسرقوا شيئا من هذا الإنسان ، وهنا نجد الأمان ينتشر بالإيمان بين الجميع .
ولو نظرت إلى ما منع الدين الناس أن يمارسوه معك لعرفت قيمة التكاليف الإيمانية . إن التكليف حين يأمر ألا يمد أحد عيونه إلى محارم جاره ، هذا التكليف صادر للناس جميعا حتى يحمي الله لك محارمك من عيون الناس ، لقد قََيَّد التكليف حرية الآخرين من أجلك وهم كثيرون ، وقيد حريتك من أجل الآخرين وأنت واحد .
إذن فيجب أن نذكر أن كل تكليف يعطي صلاحا وفلاحا ، فالأرض تأخذ الحبة وتعطيك سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فلا تنظر إلى ما أخذه التكليف من حريتك ، لأنه أخذ لك من حريات الآخرين أيضا . ولا تقل : إن التكليف قد نقص حركتي لنفسي ، لأنه سيعطيك ثمرات أكثر مما أفقدك .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات . . . }
(1/1120)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
وهذا القول الحكيم ينهي عن اتباع الهوى الذي يؤدي إلى الفرقة . برغم وضوح آيات الحق سبحانه لهم ، لأن لهؤلاء الذين يتبعون الهوى من بعد وضوح قضية الحق سيصليهم الله النار ، ولهم عظيم العذاب . وبعد ذلك يقول الحق : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ . . . }
(1/1121)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
وهنا يجب أن نعلم أن الاسوداد والابيضاض هما من آثار اختلاف البيئات في الدنيا ، فالشخص الأسود يزيد الله في تكوينه عن الشخص الأبيض بما يناسب البيئة ، لأن المادة الملونة للبشرة في جسده موجودة بقوة ، لتعطيه اللون المناسب لمعايشة ظروف البيئة ، أما أبيض البشرة فلا يملك جسده القدر الكافي من المادة الملونة ، لأن بيئته لا تحتاج مثل هذه المادة الملونة .
إذن فالسواد في الدنيا لصالح المسود ، أما في هذه الآية ، فهي تتحدث عما سوف نراه في الآخرة حيث يكون السواد والبياض مختلفين ، تماما كما تتبدل الأرض غير الأرض والسموات ، غير السموات وكذلك يتبدل أمر السواد والبياض ، إنه لن يكون سواداً أو بياضا من أجل البيئات . ولذلك ستتعجب يوم القيامة؛ لأنك قد ترى إنسان كان أسود في الدنيا ، وتجده أبيض في الآخرة ، وتجد إنسانا آخر كان لونه أبيض في الدنيا ثم صار أسود في الآخرة .
فلا يظن ظان أن الإنسان الأسود في الدنيا مكروه من الله ، لا ، إن الله يعطي كل واحد ما يناسبه ، بدليل أن الله قد أمده باللون الذي يقويه على البيئة التي يحيا فيها . وفي مجالنا البشرى ، نحن نعطي المصل لأي إنسان مسافر إلى مكان ما ، حتى نحميه من شر مرض في المكان الذي يذهب إليه ، كذلك خَلْقُ الله في الأرض فقد أعطى سبحانه لكل إنسان في تكوينه المناعة التي تحفظه؛ فالله لا يكره السواد لأنه حماية للإنسان من البيئة . وهذه المسألة ستتبدل يوم القيامة كما تتبدل الأرض غير الأرض ، وتبيض الوجوه المؤمنة ، وتسود الوجوه الكافرة .
أو أن البياض والسواد كليهما ، أمر اعتباري ، بدليل أنك ترى واحدا أبيض ولكن وجهه عليه غبرة ترهقه قترة ، وترى واحداً آخر أسود اللون ، ولكن نور اليقين يملأ وجهه ، وبريق الصلاح يشع منه ، وأنت لا تقدر أن تمنع عينيك من أن تديم النظر إليه ، ولذلك قال الحق : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ]
أي أن ما في داخل النفس إنما ينضح على قالب الإنسان؛ وتظهره ملامحه ، فقد يكون الأسود مضئ الوجه بالبشر والإشراق والتجلي بالجاذبية الآسرة ، وقد يكون الإنسان أبيض الوجه لكنه مظلم الروح .
وهكذا نفهم ان اسوداد بشرة إنسان في الدنيا ، إنما هو لمساعدة الإنسان على التواؤم مع البيئة ، ومثال ذلك سواد العين وبياضها ، هل يستطيع أحد أن يقول : إن بياض العين أحسن من سوادها ، أو العكس؟ . لا؛ لأن كل شيء معد لمهمته .
ومثال آخر : عندما يأتي عامل البناء ليثني عمود الحديد المستقيم؛ ويلويه ، فهل يقال : إن هذا الإنسان قد عوج الحديد؟ . لا؛ إنه يريد أن يشكل عود الحديد ليكون صالحا لمهمة معينة . وكذلك الاسوداد أو الابيضاض في الدنيا ، إنما أراده الله ليتناسب مع ظروف الحياة في البيئة ، أما في الآخرة فالدنيا قد زالت وفنيت ، والأرض لن تكون هي الأرض والسماء لن تكون هي السماء؛ فالحق يقول :
(1/1122)
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ]
فالمؤمن حين يرى ما أعده الله له من النعيم المقيم يقابل عطاء الله باستشراف نفس وسرور وانبساط ، أما الذي يرى مقعده من النار فلا بد أن يكون مظلم الوجه . والحق سبحانه يوجه سؤالا لهؤلاء : { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أو كأن هذا أمر يُفاجئ من كان يعرف هؤلاء الناس في الدنيا؛ فقد رأوهم في الدنيا بيض الوجوه ، ولكن يرونهم يوم القيامة وعلى وجوههم غبرة سوداء وترهقهم قترة ، فيقولون لهم : { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ؟ . وكأن ذلك هو سمة من يكفر بعد الإيمان . هذه هي سمتهم وعلامتهم في الآخرة أي ما الذي صيركم إلى هذا اللون؟ إنه الكفر بعد الإيمان .
فمن هم الذين كفروا بعد الإيمان؟
هذا يعني أن الإيمان قد سبق ثم طرأ على الإيمان كفر ، وماتوا على ذلك الكفر ، وهذا قول ينطبق على الذين ارتدوا عن الإسلام مثل ابن الأسلت وغيره ، وهؤلاء كفروا بعد الإيمان . أو يكون { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يجعلنا نقول : البعدية هنا لا بد أن يكون لها قبلية : ألم يأخذ الله على خلقه عهدا في عالم الذر حين استخرجهم من ظهر آدم؟ وقال سبحانه : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } إنه إقرار إيماني موجود في عالم الذّر ، فمن جاء في الواقع لينقض هذه المسألة فقد كفر بعد إيمان . أو أكفرتم بعد إيمانكم بمحمد ، بعد أن جاءتكم به البشارات التي عرفتموها ، وقرأتموها في التوراة والإنجيل ، وقد تأكدتم أنه قادم لا محالة ، وأنه رسول هذه الأمة وخاتم الرسل ، وانطبق عليكم قول الحق : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } [ البقرة : 89 ]
إذن فهذا القول ، إما أن يكون في المرتدين ، وإما أن يكون الكفر في واقع الدنيا بعد الإيمان في عالم الذر عندما أخذ الله العهد على الناس جميعا ، أو يكون الكفر بعد الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءت به البشارات في التوراة والإنجيل ، أو يكون ذلك من أهل الأهواء الذين أخذوا الدين وجعلوه شيعا ، كالفرق التي خرجت عن الإسلام ، وهي تدعى الانتساب إليه كالبهائية والقاديانية وغيرها . إن الآية تحتمل كل هذا ، وعندما نمعن النظر إلى النص القرآني نجده يستوعب كل هذه المعاني .
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه أورد فقط : { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وهذا قول يختص بالكفار فقط يذوقون العذاب بسبب الكفر ، وذلك يعني أن المؤمن بإيمانه سينال ثواب عمله . يقول تعالى : { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
(1/1123)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
ولنلاحظ دائما أن الله حين يبين جزاءً لمؤمن على إيمانه وطاعته فسبحانه يقول مرة : { أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ]
ومرة أخرى يقول : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ النساء : 175 ]
ما الفرق بين الاثنين؟ إن الناس في العبادة صنفان : منهم من يعبد الله ويريد نعيم الجنة ، فيعطيه الله الجنة جزاء لعبادته ولعمله الصالح . وآخر يعبد الله؛ لأن الله يستحق العبادة ولا تمر الجنة على باله ، وهذا ينال ذات الرحمة ، إنه ينال لقاء وجه الله .
وما الفرق بين الجنة والرحمة؟ إن الجنة مخلوقة لله ، فهي باقية بإبقاء الله لها ، ولكن الرحمة باقية ببقاء الله ، وهذا ضمان كاف ، فمن يرى الله فيه حسن العبادة لذاته - سبحانه - يضع الله في الرحمة .
وقلنا من قبل : إن هناك جنة من الجنات اسمها " عليّون " ليس فيها متعة من المتع التي سمعنا عنها في الجنة ، كلحم الطير وغير ذلك ، وليس فيها إلا أن ترى الله . وما دام العبد لا يأكل عن جوع في الآخرة ، فما الأفضل له ، جنة المتع ، أو متعة رؤية وجه الله؟
أتتمتع بالنعمة أم بالمنعم؟ لا جدال أن التمتع برؤية المنعم أرقى وأسمى من التمتع بالمتع الأخرى . والدقة الأدائية في القرآن توضح لنا أن الرحمة تكتنف هؤلاء العباد الصالحين ، وتحيط بهم ، إنهم ظرف للرحمة وداخلون فيها فلا تمسهم الرحمة فقط ، ولكن تحيط بهم ، وهم خالدون فيها ، ويؤكدها الحق بظرفية جديدة بقوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فكأن هناك رحمة يُدخل فيها العباد ، ثم يطمئننا على أنها لا تُنزع منا أبدا . ف " فيها " الثانية للخلود ، " وفي " الأولى للدخول في الرحمة .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق . . . }
(1/1124)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
إن آيات الله هي حججه وبراهينه وجزاءاته ، فمن اسود وجهه يوم القيامة نال العذاب ، ومن ابيض وجهه نال الرحمة وهو فيها خالد { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } ، فما الذي يجعل إنسانا لا يخبر بالحق؟ لا بد أن هناك داعيا عند ذلك الإنسان ، فلأِنّ الحق يُتبعه ، فهو يخبر بغير الحق . لكن هل هناك ما يتعب الخالق؟ لا؛ فسبحانه وتعالى منزه عن ذلك وعن كل نقص أو عيب إذن فلا بد ألاّ يقول إلا الحق ، فلا شيء خارج عن ملكه بعد ذلك . يقول سبحانه : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } . إنه سبحانه ينفي الظلم عن نفسه كما قال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ]
والحق لا يريد الظلم على إطلاقه من نفسه ومنكم أنتم أيها العباد . وكيف يأتي الظلم؟ إن مظاهر الظلم هي - كما نعرف - أن تأخذ إنسانا بغير جرم . . هذا ظلم . أو ألا تعطي إنسانا مستوى إحسانه . . هذا ظلم . وماذا يفعل من يقوم بالظلم؟ إنه يريد أن يعود الأمر بالنفع له ، فإن كان يريد أَخْذَ إنسانٍ بغير جرم فهو يفعل ذلك ليروي حقدا وغلا في نفسه ، وقد يلفق لإنسان جرما؛ لأنه يرى أن هذا الإنسان قد يهدده في أي مصلحة من المصالح ، وهو يعلم انحرافه فيها ، فيعتقله مثلا ، أو يضعه في السجن حتى لا يفضحه .
إذن لا يمكن أن يذهب إنسان عن الحق إلى الظلم إلا وهو يريد أن يحقق منفعة أو يدفع عن نفسه ضررا ، والله لن يحقق لذاته منفعة بظلم ، أو يدفع ضررا يقع من خلقه عليه؛ إنه منزه عن ذلك؛ فهو القاهر فوق عباده . والحديث القدسي يقول : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي . وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " .
والظالم من البشر جاهل . لماذا؟ لأنه قَوَّى الذي ظلمه ، ولم يضعفه ، فالظالم يظلم ليضعف المظلوم أمامه ، فنقول له : أنت غبي ، قليل الذكاء؛ لأنك قويته على نفسك وفعلت عكس ما تريد . ولنوضحْ ذلك - ولله المثل الأعلى - نحن جميعا عيال الله ، سننتقل إلى دائرة حياتنا اليومية ونرى عيالنا ، إن الواحد منا عندما يكون له أولاد ، وجاء ولد من الأولاد وظلم أخاه فَقَلْبُ الوالد يكون مع المظلوم ، ويحاول الوالد أن يترضّى ابنه المظلوم . إذن فالولد الظالم ضر أخاه ضررا يناسب طفولته ، ولكنه أعطاه نفعا يناسب قوة والده ، إنه يجهل حقيقة تقويته لأخيه .
وما دمنا جميعا عيال الله فماذا يفعل الله حين يرى سبحانه واحدا من خلقه يظلم آخر من خلقه؟ لا بد أن الحق سيشمل المظلوم برعايته ، وهكذا يقوى الظالم المظلومَ ، والظالم بذلك يعلن عن غبائه ، فلو كان ذكيا ، لم ظلم ، ولضنّ على عدوه أن يظلمه ، ولقال : إنه لا يستأهل أن أظلمه؛ لأنه عن طريق ظلمى له سيعطيه الله مكافأة كبرى ، وهي أن يجعله في كنفه ورعايته مباشرة .
(1/1125)
وقد نجد واحدا يظلم من أجل نفع عاجل ، وينسى هذا الإنسان أنه لن يشرد أبدا ممن خلقه . ونقول لمثل هذا الإنسان : أنت لن تشرد ممن خلقك ، ولكنك شردت من المخلوق وداريت نفسك ، وحاولت أن تحقق النفع العاجل لنفسك ، لكن الخالق قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم . وكأن الحق سبحانه يطمئننا بأن ننام ملء جفوننا لأنه سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم .
{ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } لأن الظلم لا ينشأ إلا عن إرادة نفعية بغير حق ، أو إرادة الضرر بغير جرم ، والله غني عن ذلك ، ولذلك نجد الحق يؤكد غناه عن الخلق وأنه مالك للكون كله فيقول : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . . }
(1/1126)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
إنه مالك الملك ، كل شيء له وبه وملكه ، وإليه يُرجع كل أمر . ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد نزل من عند الله بقراءات متعددة وقد ورد وفي بعضها ( تَرجِعُ الأمور ) بفتح التاء بالبناء للفاعل ، وفي قراءة أخرى : ( ترجِعُ الأمور ) بضم التاء بالبناء للمفعول ، وكذلك ( ترجعون ) تأتي أيضا بضم التاء وفتحها ، وكلها - كما قلنا - قراءات من عند الله .
وعندما يقول الحق : { وَإِلَيْه ترْجَعُونَ } بفتح التاء فمعنى ذلك أننا نعود إليه مختارين؛ لأن المؤمن يُحبُّ ويرغب أنْ يصل إلى الآخرة ، لأن عمله طيب في الدنيا ، فكأنه يجري ويسارع إلى الآخرة ، ومرة يقول تعالى : { وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ } بضم التاء . وهذا ينطبق على الكافر أو العاصي . إنّ كُلاًّ منهما يحاول ألا يذهب إلى الآخر ، لكن المسألة ليست بإرادته ، إنه مقهور على العودة إلى الآخرة ولذلك نجد التعبير القرآني : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ]
هناك من يدفعهم إلى النار دفعا . وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد الشرطي يمسك بالمجرم من ملابسة ويدفعه إلى السجن . . ذلك هو الدع . وهكذا يكون قول الحق : { وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ } بضم التاء وفتح الجيم ، أي أنه مدفوع بقوة قاهرة إلى النهاية . أما المؤمن الواثق فهو يهرول إلى آخرته مشتاقا لوجه ربه .
وعندما تقرأ { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } . قد يقول قائل : ومتى خرجت الأمور منه حتى ترجع إليه؟ ونقول : حين خلق الله الدنيا ، خلقها بقهر تسخيري لنفع الإنسان ، وجعل فيها أشياء بالأسباب ، فإن فعل الإنسان السبب فإنه يأخذ المسبب - بفتح الباء - المشددة ، فالشمس تشرق علينا جميعا ، والضوء والدفء والحرارة ، هي - بأمر الله - للمؤمن والكافر معا ، ولم يصدر الله لها أمرا أن تختص المؤمن وحده بمزاياها ، والهواء لا يمر على المؤمن وحده ، إنما يمر على المؤمن والكافر ، وكذلك الماء ، والأرض يزرعها الكافر فيأخذ منها الثمار ، ويزرعها المؤمن كذلك .
إذن ففي الكون أشياء تسخيرية ، وهي التي لا تدخل فيها طاقة الإنسان ، وهناك أشياء سببية ، فإن فعلت السبب يأت لك المسبب ، والله قد جعل الأسباب للمؤمن والكافر . وعندما يُمَلِّك الله بعض الخلق أسباب الخلق فهو القيوم فوق الجميع ، لكن في الآخرة ، فلا أسباب ولا مسببات؛ ولذلك يكون الأمر له وحده ، اقرأوا جيدا : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ]
إنّ في الدنيا أناسا - بإرادة الله - تملك أسبابا ، وتملك عبيدا ، وتملك سلطانا؛ لأن الدنيا هي دنيا الأسباب . أما في الآخرة فلا مجال لذلك . لقد بدأت الدنيا بأسبابها مِنَّة منه ، ورجعت مِنْهُ إليه { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } ومن يعتز بالسببية نقول له : كن أسير السببية لو كنت تستطيع . ومن يعتز بالقوة لأنها - ظاهرا - سبب للحركة ، نقول له : احتفظ بقوتك إن كنت قادرا . ومن يعتز بالملك نقول له : لتحتفظ بالملك لو كنت تستطيع . ولا أحد بقادر على أَنْ يحتفظ بأي شيء ، فكل شيء مرده إلى الله ، وإن كان في ظاهر الأمر أن بعض الأشياء لك الآن ، وفي الآخرة لله يكون كل أمر ، ويرجع إليه كل شيء ، لقد بدأت به ، ورجعت إليه . ويقول الحق بعد ذلك : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر . . . }
(1/1127)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
هذه الخيرية لها مواصفات وعناصر : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } . فإن تخلف عنصر من هذه العناصر ، انحلت عنكم الخيرية ، فالخيرية لكم بأشياء هي : أمر بالمعروف . نهى عن المنكر . إيمان بالله .
وساعة تسمع كلمة " معروف " و " منكر " فإنك تجد أن اللفظ موضوع في المعنى الصحيح ، ف " المعروف " هو ما يتعارف الناس عليه ويتفاخرون به ، ويَسُرُّ كل إنسان أن يعرف الآخرون عنه . " والمنكر " هو الذي ينكره الناس ويخجلون منه ، فمظاهر الخير يحب كل إنسان أن يعرفها الآخرون عنه ، ومظاهر الشر ينكرها كل إنسان .
إن مظاهر الخير محبوبة ومحمودة حتى عند المنحرف . فاللص نفسه عندما يوجد في مجلس لا يعرفه فيه أحد ، ويسمع أن فلاناً قد سرق فإنه يعلن استنكاره لفعل اللص ، إنه أمر منكر ، حتى وإن كان هو يفعله . وهكذا تعرف أن " المعروف " و " المنكر " يخضعان لتقدير الفطرة . والفطرة السليمة تأتي للأمور الخيرة ، وتجعلها متعارفا عليها بين الناس ، وتنكر الفطرة السليمة الأمور المنكرة ، حتى ممن يفعلها .
ويورد الله مسألة الإيمان بالله من بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لماذا؟ لأنه من الجائزة أن يوجد إنسان له صفات الأريحية والإنسانية ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويصنع الخير ، ويقدم الصدقات ، ويقيم مؤسسات رعاية للمحتاجين والعاجزين سواء كانت صحية أو اقتصادية ، لكنه يفعل ذلك من زاوية نفسه الإنسانية ، لا من زاوية منهج الله ، فيكون كل ما يفعله حابطا ولا يُعتَرفُ له بشيء لأنه لم يفعل ذلك في إطار الإيمان بالله ، ولذلك فلا تظن أن الذي يصنع الخير دون إيمان بالله؛ فالله يجازي من كان على الإيمان به ، وأن يكون الله في بال العبد ساعة يصنع الخير . فمن صنع خيرا من أجل الشهامة والإنسانية والجاه والمركز والسمعة فإنه ينال جزاءه ممن عمل له ، ومادام قد صنع ذلك من أجل أن يقال عنه ذلك فقد قيل ، وهو ما يبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " إن أول الناس يُقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملتَ فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت . قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب . ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم ، وقرأت القرآن ليقال : قارئ فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها . قال : كذبت ولكنك فعلت ليُقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار " .
(1/1128)
إنه ينال جزاء عمله من قول الناس ، لكن الله يجازي في الآخرة من كان الله في باله ساعة أن عمل . لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } [ فصلت : 33 ]
إن المؤمن يفعل العمل الصالح ، ويعلن أنه يفعل ذلك لأنه من المسلمين ، إنه لا يفعل الخير ، لأنه شيوعي ، أو وجودي ، أو إنساني إلخ ، فمهما صنع إنسان من الخير ، وترك الاعتراف بالله فخيانة الكفر تفسد كل عمل . لأنه جحد وأنكر خالقه وكفر به ، والذي يعمل خيرا من أجل أحدٍ فلينل من هذا الأحد جزاء هذا العمل .
وهنا في هذه الآية أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وإيمان بالله . ولكن ما الذي يجعلهم لا يؤمنون بالله وإن عملوا معروفا؟ إنه حرصهم على الجاه الزائف ، فلمّا جاء الإسلام ، ظن أهل الجاه في الديانات الأخرى أن الإسلام سيسلبهم الجاه والسلطة والمكانة والمنافع التي كانوا يحصلون عليها ، وكان من حماقة بعضهم أن باعوا الجنة على الأرض وخافوا على المركز والجاه والمنافع ، وكان ذلك من قلة الفطنة ، فالحق يقول :
{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ]
فلو آمنوا لظل لهم الجاه والسلطة في ضوء الإيمان بالله ، فلا تجارة بالدين ، وكانوا سيحصلون على أجرهم مرتين ، أجر في الدنيا ، وأجر في الآخرة ، أو أجر على إيمانهم بنبيهم ، وأجر آخر لإيمانهم برسول الله ، ولكن هل معنى هذا القول أن أهل الكتاب لم يؤمنوا؟ لا ، إن بعضهم قد آمن ، فالحق سبحانه وتعالى يؤرخ لهم تأريخا حقيقيا فيقول سبحانه : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } وكان القياس أن يأتي وصف بعضهم بالإيمان ، وأن يكون غيرهم من أبناء ملتهم كافرين ، لأن الإيمان يقابله الكفر ، لكن الحق يحدد المعنى المناسب لفعلهم فيقول : { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } .
إن الحق سبحانه وتعالى الذي يتكلم فيورد كل كلمة بمنتهى الدقة ، فهناك فرق بين أن تكفر وليس عندك مقدمات الإيمان وأدلته ، وأن تكفر وأنت تعرف مقدمات الإيمان كقراءة التوراة والإنجيل .
لقد قرأ أهل الكتاب التوراة والإنجيل ورأوا الآيات البينات وعرفوا البشارات؛ لذلك فهم عندما كفروا برسول الله ، فسقوا أيضا مع الكفر . إن الذي كفروا برسول الله من أهل الكتاب هم فاسقون حتى في كفرهم ، لأن مقتضى معرفتهم للبشارات والآيات أن يعلنوا الإيمان برسالة رسول الله ، فالواحد منهم ليس كافرا عاديا ، بل هو فاسق حتى في الكفر؛ لأنه عرف الحق ، ثم خرج وفسق عنه .
وما دام الحق قد قال : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } إذن ماذا يفعل المؤمن منهم مع الفاسق؟ سيتربص الفاسقون وهم الأكثرية في اليهودية والنصرانية بالأقلية المؤمنة ليوقعوا بهم الأذى والضرر ، ويقول الحق سبحانه : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }
(1/1129)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
لكن الحق سبحانه يطمئن هذه الأقلية من إضرار الأكثرية بهم فيقول : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } . أي يا أيتها الأقلية التي آمنت من أهل الكتاب - مثل عبد الله بن سلام الذي أسلُم وترك اليهودية - إياكم أن تظنوا أن الأكثرية الفاسقة قادرة على إنزال العذاب بكم؛ فالحق - سبحانه - يعلن أن محاولة الأكثرية لإنزال الضرر بالأقلية التي آمنت منهم لن يتجاوز الأذى .
ما هو الضرر؟ وما هو الأذى؟
إن الأذى هو الحدث الذي يؤلم ساعة وقوعه ثم ينتهي ، أما الضرر فهو أذى يؤلم وقت وقوعه ، وتكون له آثار من بعد ذلك ، فعندما يصفع الإنسان إنسانا آخر صفعة بسيطة فالصفعة البسيطة تؤلم ، وألمها يذهب مباشرة ، لكن إذا كانت الصفعة قوية وتتسبب في كدمات وتورم فهذا هو الضرر . إذن فالأذى يؤلم ساعة يُباشر الفعل فقط ، وقد يكون الأذى بالكلمة كالاستهزاء ، فالفاسق قد يستهزئ بالذي آمن ، فينطق بكلمة الكفر أو الفُجْر ، هذه الكلمة ليس لها ضرر في ذات المؤمن ولكنها تؤذي سمعه . إن الحق سبحانه يطمئن المؤمنين على أن أهل الكفر لن يضروا المؤمنين إلا الأذى ، وهذا أقصى ما في استطاعتهم ، وليس لهذا الأذى أثر .
إذن فقول الحق : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } يعني أنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منكم أبدا اللّهم إلا الاستهزاء أو الغمز واللمز ، أو إشارة بحركة تؤذي شعور المؤمن ، أو تمجد الكفر ، وتعظمه أو ينطق كلمة عهر أو فجر لا يوافق عليها الدين ، هذا أقصى ما يستطيعه أهل الفسق ، وهم لا يملكون الضرر لأهل الإيمان . وبعد ذلك نرى أن واقع الأمر قد سار على هذا المنوال مع الدعوة المحمدية ومع جنود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد أطلقها الله كلمة : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } فصارت الكلمة قانونا . فقد وقعت الوقائع بين جند رسول الله وأهل الفسق ، وثبت أن أهل الفسق لم يستطيعوا ضرر أهل الإيمان إلا أذى .
ولننظر إلى ما حدث لبني قينقاع ، ولما حدث لبني قريظة ، ولما حدث لبني النضير ، ولما حدث ليهود خيبر ، هل ضروا المؤمنين إلا أذى؟ لقد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما أغرارا لا علم لهم بالحرب فانتصرت عليهم ، فإذا أنت حاربتنا فستعرف مَن الرجال . وكان ذلك مجرد كلام باللسان .
إن التاريخ يحمل لنا ما حدث لهم جميعا ، لقد هزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد هذا أرادوا أن يرتفعوا عن الأذى إلى الضرر الحقيقي فلم يمكنهم الله؛ لأن الحق يقول : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ، فإن أراد أهل الفسق أن يُصَعِّدوا الأذى للمؤمنين ليوقعوا ضررا حقيقيا ، فإن الكافرين يولون الأدبار أمام المؤمنين ، فهزيمتهم أمر لا مناص منه .
(1/1130)
ونحن نعرف في اللغة أن هناك ما نسميه " الشرط " وما نسميه " الجواب " ف " إنْ " حرف شرط تجزم فعل الشرط وجوابه فإنْ كان الفعل من الأفعال الخمسة فإنّنا نحذف النون ، لذلك نجد القول الحق : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار } .
إن { يُقَاتِلُوكُمْ } فعل شرط محذوفه منه النون . و { يُوَلُّوكُمُ الأدبار } أصلها يولونكم الأدبار . وهي جواب شرط حذفت منه النون ، وعندما يأتي العطف بعد ذلك ، فهل يكون بالرفع أو الجزم؟ إن العادة أن يكون العطف بالجزم!! لكن الحق يعطف بالرفع فيأتي قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } . إنها كسرة إِعْرَابِيّة تجعل الذهن العربي يلتفت إلى أن هناك أمرا جللا ، لأن المتكلم هو الله سبحانه . كيف جاءت " النون "؟
هنا نقف وقفة فَلننطق الآية ككلام البشر : إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصروا . وهذا القول يكون تأريخا لمعركة واحدة ، لكن ما الذي سوف يحدث من بعد ذلك؟ ماذا يحدث عندما يقاتل المؤمنون أهل الكفر والفسق؟ وتكون الإجابة هي : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } إن هذا القول الحكيم يحمل قضية بعيدة عن الشرط والجزاء ، إنها حكم من الله على أهل الفسق بأنهم لا يُنصرون أبدا سواء أقاتلوا أن لم يقاتلوا إنها قضية ثابتة منفصلة ، وليست معطوفة على الشرط ، فعلة عدم النصر ، ليست القتال ، ولكنها الكفر .
وإذا دققنا الفهم في العبارة حروفا - بعد أن دققنا فيها الفهم جملا - لوجدنا معنى جديدا ، فقد يظن إنسان أن القول كان يفترض أن يتأتى على نحو مغاير ، هو " يولوكم الأدبار فلا ينصرون " لأن الذي يأتي بعد ال " فاء " يعطي أنهم لا ينتصرون عليكم في بداية عهدكم ، وهذا ما تفيده الفاء لأنها للترتيب والتعقيب . لكن الحق أورد حرف " ثم " وهو يفيد التراخي ، وهذا يعني أنهم لا ينتصرون عليكم أيها المؤمنون حتى لو استعدوا بعد فترة لمعركة يَرُدُّن بها على توليهم الأدبار . إنه حكم تأبيدي ، لأن " ثم " تأتي للتعقيب مع التراخي ، والفاء تأتي للتعقيب المباشر بدون تراخ . لذلك فعندما نقرأ القرآن نجد وضع الفاء كالآتي : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ عبس : 21 ]
لأن دخول القبر يكون بعد الموت مباشرة ، وبعدها يقول الحق : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ]
فإذا كان هناك تعقيب بعد مدّة زمنية فالحق يأتي ب " ثم " وإذا كان هناك تعقيب فوري بلا مدة يأتي الحق ب " ف " . والتعقيب في الآية التي نتناولها يأتي بعد " ثم " ، وكأن هذا حكم مستمر من الحق بأن أهل الفسق لن ينتصروا على أهل الإيمان ، ولم بعد انتهاء المعركة القائمة الآن بينهم ، إنها هزيمة بحكم نهائي ، هذا هو القول الفصل : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } وهو أشد وقعا مما لو جاء " لاَ ينتصرون " لماذا؟ لأن من الممكن ألاّ ينتصر أهل الكفر بذواتهم ، ولكن الإيضاح يؤكد أنهم - أهل الكفر - لا ينتصرون لا بذواتهم ، ولا يُنصرون بغيرهم أيضا .
(1/1131)
إن { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } قضية دائمة فليست المسألة مقصورة على عهد رسول الله فقط ، ولكنها ستظل إلى أبد الآبدين .
ومن السطحية في الفهم أن نقول : إن الآية كانت تتطلب أن يكون القول " ثُمَّ لاَ يُنصَرُوا " لأن الاعراب يقتضي ذلك . لكن المعنى اللائق بالمتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى الذي يعطي الضمان والاطمئنان للأمة المسلمة أمام خصومها لا بد أن يقول : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } وهي أكثر دقة حتى من " لاَ ينتصرون " لأن " ينتصرون " فيها مدخلية الأسباب منهم ، أما { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } فهي تعني أن لا نصر لهم أبداً ، حتى وإن تعصب لأهل الفسق قوم غيرهم وحاولوا أن ينصروهم فلن يستطيعوا ذلك .
فإن رأيتم - أيها المسلمون - نصرا للكافرين عليكم منهم أو بتعصب قوم لهم فاعلموا أنكم دخلتم معهم على غير منهج الله . وقد يأتي إنسان ويقول : كيف ينتصر علينا اليهود ونحن مسلمون؟ ونقول : هل نحن نتبع الآن منهج وروح الإسلام؟ وماذا عندنا من الإسلام ومن الإيمان؟ هل تحسب نفسك على ربك أثناء هزيمتك؟ وهل دخلت معركتك كمعركة إسلامية؟
لا ، لقد انتبهنا إلى كل شيء إلاّ الإسلام . قدمنا الانتماء لعصبية وقومية وعرقية على الإيمان فكيف نطلب نصرا من الله؟ لا يحق لنا أن نطلب نصرة لله إلا إذا دخلنا المعركة ونحن من جند الله . والهزيمة تحدث عندما لا نكون جنداً لله؛ لأن الله ضمن النصر والغلبة لجنوده فقال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
فإذا لم نغلب فتأكدوا أننا لسنا من جنود الله . . ويقول الحق من بعد ذلك : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا . . . }
(1/1132)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
ونحن نستخدم كلمة " ضرب " في النقود ، عندما نقول : ضرب هذا الجنيه في مصر ، ومعنى ذلك أن الصانع يقوم بصنع قالب من مادة اكثر صلابة ، من المادة التي يصنع منها النقد ويرسم فيها الحفريات التي تبزر الكتاب والصور على وجهي الجنيه ، ثم يصب المادة في ذلك القالَب ، وتخضع للقالب فتبرز الكتابة والصور ، ولا تتأبي المادة على القالب . كأن " ضُرب " معناها " أُلزم " بالبناء للمجهول فيهما ، وكأن المادة المصنوعة تَلْزَمُ القالبَ الذي تصب فيه ولا تتأبى عليه ولا يمكن أن تتشكل إلاّ به .
إذن فالضرب معناه الإلزام والقسر على الفعل . وعندما يقول الحق : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } أي لزمتهم الذلة لا يستطيعون الانفكاك عنها أبدا ، كما لا يستطيع المعدن المضروب نقدا أن ينفك عن القالب الذي صك عليه ، وكأن الذلة قبة ضربت عليهم ، وقالب لهم ، وقول الحق : { أَيْنَ مَا ثقفوا } تفيد أنهم أذلاء أينما وُجدوا في أي مكان . ولكن هناك استثناء لذلك ، ما هو؟
إنه قول الحق : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } إنهم لا يعانون من الذلة في حالة وجود عهدٍ من الله أو عهد من أناس أقوياء أن يقدموا لهم الحماية : فلما كانوا في عهد الله أولاً وعهد رسوله ساعة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأعطاهم العهد ، فكانوا آمنين ، ولما خانوا العهد ، ولم يُوفوا به؛ ماذا حدث؟ ضُربت عليهم الذلة مرة أخرى .
إذن لقد كانوا في عهد الله آمنين لكنهم خانوا العهد ، وانقطع حبل الله عنهم ، فهيجوا الهيجة التي عرفناها ونزل بهم ما نزل ، وهو ما حدث لبني قينقاع ولبني النضير وبني قريظة ويهود خبير .
إذن فهم قبل ذلك كانوا في عهد مع الله . وأنتم تعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما نزل المدينة بني المسجد وعقد العهد بينه وبين اليهود وعاشوا في اطمئنان إلى أن خانوا العهد ، فضربت عليهم الذلة . وطُردوا من المدينة ، كما يقول الحق : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } .
لقد أخذوا العهد من الله من خلال من له الولاية على الناس ، فالرسول في عهده كان قائما على أمر المسلمين ، وكذلك يكون الأمر معهم في ظل القائمين على أمر الإسلام ، ويحدث هذا عندما تسير الأمور بمنهج الإسلام .
أما عن حبل الناس فذلك لأنهم لا يملكون أي عزة ذاتية ، إنهم دائما في ذلة إلا أن يبتغوا العزة من جانب عهد وحبل من الله ، أو من جانب حماية من الناس . ونحن نراهم على هذا الحال في حياتنا المعاصرة ، لا بد لهم من العيش في كنف أحد؛ لذلك فعندما حاربنا " إسرائيل " في حرب أكتوبر ، انتصرنا عليهم إلى أن تدخلت أمريكا بثقلها العسكري .
(1/1133)
فقال رئيس الدولة المصري : " لا جَلْدَ لي أن أحارب أمريكا " .
إذن لو كانت الحرب بيننا وبينهم فقط لا نتهت قوتهم؛ فهم بلا عزة ذاتية ، وتكون لهم عزة لو كانوا في جانب حبل من الله ، أو حبل من الناس . يقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } ولنا أن نلاحظ أن الذلة له استثناء ، فهم ينالون العزة لو كانوا بجانب حبل من الله أو حبل من الناس ، أما المسكنة ، فلا استثناء فيها ، وقد قال الحق عنهم في موضع آخر في القرآن الكريم : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ البقرة : 61 ]
لأن المسكنة أمر ذاتي في النفس ، إنهم مساكين بأمر من الله ، أما الذلة فقد يأتي لهم من نيصرهم ويقف بجانبهم؛ فالذلة أمر من خارج ، أما المسكنة فهي في ذاتيتهم ، وعندما تكون المسكنة ذاتية ، فلا إنقاذ لهم منها؛ لأنه لا حبل من الله يأتيهم فينجيهم منها ، ولا حبل من الناس يعصمهم من آثارها . ويقول الحق : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } وهل رأى أحد منا غضبا أكبر من أن الحق قد قطعهم في الأرض؟ ولنقرأ قول الله : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً } [ الأعراف : 168 ]
المكان الوحيد الذي آواهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الجزيرة العربية في يثرب ، واستقروا قليلا ، وصارت لهم سيادة علمية؛ لأنهم أهل كتاب ، وصارت لهم سيادة اقتصادية ، وكذلك سيادة حربية ، وهذا المكان الذي أواهم من الشتات في الأرض هو المكان نفسه الذي تمردوا عليه . لقد كان السبب الذي من أجله قد جاءوا إلى يثرب هو ما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة؛ ففي التوراة جاء ما يفيد أن نبيا سيأتي في هذا المكان ولا بد أن يتبعوه كالميثاق الذي قلنا عليه من قبل : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ]
وهذا الميثاق يقضي بأن يتولى الرسل بلاغ الأمم التي بُعِثوا إليها ، وأن يُبلغ أهلُ الإيمان القادمين من بعدهم بأن هناك رسولا قادما من عند الله بالمنهج الكامل . - واليهود - لم يأتوا إلى يثرب إلا على أمل أن يتلقفوا النبي المنتظر ليؤمنوا به ، ومن بعد ذلك يكونون حربا على الكافرين بالله ، لكن ما الذي حدث؟ إنه سبحانه يخبرنا بما حدث منهم في قوله : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ]
فماذا بعد أن باءوا بغضب من الله . وبعد أن ختم الله قالبهم بالمسكنة؟ وما السبب؟ تكون الإجابة من الحق سبحانه : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } لقد أرسل الله لهم آيات عجيبة ولكنهم كفروا بها ، تلك الآيات التي جاءنا ذكر منها في قوله الحق :
(1/1134)
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 57 ]
كثير من الآيات أرسلها الحق لبني إسرائيل ، منها ما جاء في قوله الحق : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 63 ]
ولكنهم تولوا عن الإيمان وأمامهم ضرب موسى عليه السلام الحجر بالعصا فانفجرت منه عيون المياه ليشربوا . { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ]
وبرغم ذلك فقد قاموا بقتل الأنبياء بغير حق . وادعوا الكذب على أنبيائهم وقتلوهم ، وفي شأنهم يقول الحق : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } كَاَنَ العصيانُ سبباً لأن تُضرب عليهم الذلة ، وأن يبوءوا بغضب من الله ، وأن تُضرب عليهم المسكنة ، وكل ذلك ناشئ من فعلهم . وهناك فرق بين أن يبدأهم الله بفعل ، وبين أن يعاقبهم الله على فعل ، وحتى نفهم ذلك فلنقرأ قوله الحق : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } [ النساء : 160 ]
لقد حرم الله عليهم الطيبات بظلم منهم لأنفسهم ، لأن معنى تحريم الطيبات أن الله حرمهم متعة في طيب ، وذلك لأنهم استحلوا متعة في غير طيب؛ لأن مرادات الشارع تأتي على عكس مرادات الخارجين عن أمر الشارع . وكما قلنا من قبل : إنّ الحق سبحانه وتعالى يؤرخ للحق وللواقع ولا يشملهم كلهم بحديث يجمعهم جميعا ، فقد كان منهم أناس تراودهم فكرة الإيمان بالرسول ، وفكرة الإيمان بالقرآن ، ومنهم من آمن فعلا؛ لذلك كان من عدل الله أن يفصل بين الذين يفكرون في الإيمان والمصرين على الكفر . لذلك يقول سبحانه : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله . . . . }
(1/1135)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
وهذا ما حدث بالفعل ، لكن أي آيات لله كانوا يتلونها؟ إنها الآيات المهيمنة ، آيات القرآن ولماذا يقول الحق : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وهل هناك قراءة للقرآن ساعة السجود؟ حتى نعرف تفسير ذلك لا بد لنا أن نعرف أن اليهود لا يصلون العتمة ، أي الصلاة في الليل ، وحتى يعطيهم الله السمة الإسلامية قال عنهم : { يَسْجُدُونَ } ويُعَرّفَهم بأنهم يقيمون صلاة العتمة ، - العشاء - وهي صلاة المسلمين ، وما داموا يصلون صلوات المسلمين ويسجدون ، إذن فهم مسلمون أو نفهم من قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أن الصلاة عنوان الخضوع ، والسجود أقوى سمات الخضوع في الصلاة . ما داموا يصلون فلا بد أنهم يتلون آيات الله آناء الليل وهم يؤدون الصلاة بخشوع كامل . ونعرف أن من حسن العبادة في الإسلام ، ومن السنن المعروفة قراءة القرآن ليلا ، وصلاة التهجد ، وهذه في مدارج العملية الإيمانية التي يدخل بها الإنسان إلى مقام الإحسان .
و { آنَآءَ } جمع " إني " مثلها مثلٍ " أمعاء " جمع " معي " . و " آنَآءَ " هي مجموع الأوقات في الليل ، وليست في " إني " واحد . فهناك مؤمن يقرأ القرآن في وقت من الليل ، ومؤمن آخر يقرأ القرآن في وقت آخر ، وكأن المؤمنين يقطعون الليل في قراءة للقرآن ، والذي يدخل مع ربه في مقام الإحسان ، فهو لا يصلي فقط صلاة العتمة وهي ستأخذ " إنِّي " واحدا ، أي وقتا واحدا ، ولكنه عندما يصلي في آناء الليل فذلك دليل على أنه يكرر الصلاة ، وزاد عن المفترض عليه ، وما دام قد زاد عن المفترض ، فهو لا يكتفي بتلاوة القرآن لأنه يريد أن يدخل في مقام الإحسان ، أي أنه وجد ربه أهلا لأن يصلي له أكثر مما افترض عليه ، كأنه قد قال لنفسه : أنت كلفتني يارب بخمس صلوات لكنك يارب تستحق أكثر من ذلك وكأن هذا البعض من أهل الكتاب لم يكتفوا بإعلان الإيمان بالإسلام فقط ، ولكنهم دخلوا بثقلهم ، فصلوا آناء الليل . وأحبوا أن ينطبق عليهم قول الله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [ الذاريات : 15-16 ]
ما معنى " محسن "؟ إنها وصف للإنسان الذي آمن بربه فعبد الله بأكثر مما افترض تعبدنا الله بخمس صلوات فنزيدها لتصل إلى عشرين مَثَلاً ، ونحن تعبدنا الله بصيام شهر في العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من الأيام .
العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من الأيام .
وتعبدنا بالزكاة بالنصاب ، ومنا من يزيد على النصاب ، وتعبدنا سبحانه بالحج مرة ، ومنا من يزيد عدد مرات الحج . فحين يريد العبد أن يدخل في مقام الإحسان فبابه هو أداء عبادات من جنس ما تعبده الله به؛ فالعبد لا يخترع أو يقترح العبادة التي يعبد بها الله ، ولكنه يزيد فيما افترضه الله .
(1/1136)
وهؤلاء الذين آمنوا بالله من أهل الكتاب ويتحدث عنهم القرآن ، لقد دخلوا بثقلهم في الإسلام فصلوا آناء الليل وقرءوا القرآن ، ودخلوا مقام الإحسان ، وأرادوا أن يطبقوا القول الحق : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ]
أي أنهم ما داموا قد صلوا في الليل ، وقليلا ما هجعوا فلا بد أنهم قد أدوا الصلاة في آناء كثيرة من الليل . ونحن حين ندخل في مقام الإحسان ونصلي في الليل ، ونكون بارزين إلى السماء فلا يفصلنا شيء عنها ، وننظر فنجد نجوما لامعة تحت السماء الدنيا ، وأهل السماء ينظرون للأرض فيجدون مثلما نجد من النجوم المتلألئة اللامعة في الأرض ، ويسألون عنها فيقال لهم : إنها البيوت التي يصلي أهلها آناء الليل وهم يسجدون ، وكل بيت فيه هذا يضيء كالنجوم لأهل السماء . ويضيف الحق في صفات هؤلاء : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وهل فرض الله على خلقه بأن يصلوا آناء الليل فلا يهجعون إلا قليلا من الليل؟ لا ، ولكن من يريد أن يدخل في مقام الإحسان ، فهو يفعل ذلك . أما المسلم العادي فيكتفي بصلاة العشاء ، وعندما يأتي الصبح فهو يؤدي الفريضة . لكن من يدخل في مقام الإحسان فقليلا من الليل ما يهجع . وينطبق عليه القول الحق : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 15-19 ]
وهذه دقة البيان القرآني التي توضح مقام الإحسان ، فيكون في ما لهم حق للسائل والمحروم ، وليس هناك قدر معلوم للمال الذي يخرج ، لأن المقام هنا مقام الإحسان الذي يعلو مقام الإيمان ، ومقام الإيمان - كما نعرف - قد جاء ذكره في قوله الحق : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم * والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين } [ المعارج : 24-26 ]
فالإنسان في مقام الإيمان قد يقيد الإخراج من ماله بحدود الزكاة أو فوقها قليلا ، لكن في مقام الإحسان فلا حدود لما يخرج من المال . وهكذا نعرف أن أهل الكتاب ليسوا سواء؛ فمنهم من دخل الإسلام من باب الإحسان ، فقال فيهم الحق : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ، وكأن الحق بهذا الاستثناء الواضح . ويؤكد لنا أننا لا يصح أن نظن أن أهل الكتاب جميعهم هم الذين جاء فيهم قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } لا؛ فأهل الكتاب ليسوا سواء ، ولذلك لا يكون حكم الله منسحبا عليهم جميعا ، فمن أهل الكتاب جماعة قائمة بتلاوة القرآن آناء الليل وهم يسجدون ، إنهم أمة قائمة ، وكلمة " قائم " هي ضد " قاعد " ، والقعود غير الجلوس ، فالجلوس يكون عن الاضطجاع فيقال : كان مضطجعا فجلس .
(1/1137)
لكن عندما نقول : " كان قائما " فإننا نقول فقعد ، فالقعود يكون بعد القيام . والقعود في الصلاة مريح ، أما القيام فهو غير مريح ، ونحن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف في الصلاة حتى تتورم قدماه؛ لأن الثقل كله على القدمين ، ولكن عندما نقعد فنحن نوزع الثقل على جملة أعضاء الجسم . وعندما يصفهم الحق : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } فمعنى ذلك أنهم أخذوا أمانة أداء الفروض بكل إخلاص ، وكانوا يؤدون الصلاة باستدامة وخشوع . ويستمر الحق في وصفهم في الآية التالية : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر . . . }
(1/1138)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
وهم بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، إنما يتصفون بالصفات التي أوردها الله صفة لخير أمة أٌخرجت للناس وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم . لقد دخل هذا البعض من أهل الكتاب بثقلهم - ومن أول الأمر - في مقام الإحسان ، وما داموا قد دخلوا في مقام الإحسان فهم بحق كانوا مستشرفين لظهور النبي الجديد . وبمجرد أن جاء النبي الجديد تلقفوا الخيط وآمنوا برسالته ، وصاروا من خير أمة أخرجت للناس . ويكمل الحق سبحانه صفاتهم بقوله : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } وهذا كمثل قوله سبحانه وتعالى في حق المؤمنين : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ]
ونحن نعرف أن هناك فرقا بين " السرعة " و " العجلة " ف " السرعة " و " العجلة " يلتقيان في تقليل الزمن بالنسبة للحدث ، ومثال ذلك أن يقطع إنسان المسافة من مكان إلى مكان في زمن معين ، والذي يسرع في قطع المسافة هو الذي يستغرق من الزمن أقل وقت ممكن ولكن هناك اختلاف بين السرعة والعجلة ، وأول خلاف بينهما يتضح في المقابل ، فمقابل السرعة الإبطاء ، ويقال : فلان أسرع ، وعلان أبطأ ومقابل " العجلة " هو " الأناة " فيقال : فلان تأنى في اتخاذ القرار . فالسرعة ممدوحة ومقابلها وهو " الإبطاء " مذموم ، " والعجلة " مذمومة ، ومقابلها هو التأني ممدوح؛ لأن السرعة هي التقدم فيما ينبغي التقدم فيه ، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه ، ولذلك قيل في الأمثال : " في العجلة الندامة وفي التأني السلامة " وقال الحق : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ]
وهو سبحانه : هنا يقول { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } أي كلما لمحت لهم بارقة في الخير فهم يسرعون إليها ، أي أنهم يتقدمون فيما ينبغي التقدم فيه ، إنهم يعلمون أن الإسراع إلى الخير حدث ، وكل حدث يقتضي حركة ، والحركة تقتضي متحركا والمتحرك يقتضي حياة ، فما الذي يضمن للإنسان أن تظل له حياة ، لذلك يجب أن تسرع إلى الخيرات ، وسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه كان ينام القيلولة ، وكان حاجبه يمنع الناس من إيقاظ الخليفة ، فجاء ابن عمر بن عبد العزيز وقال للحاجب :
أريد أن أدخل على أمير المؤمنين الساعة ، فمنعه الحاجب قائلا : إنها ساعة يستريح فيها وهو لا يستريح من الليل أو النهار إلاّ فيها ، فدعه ليستريح . وسمع سيدنا عمر بن عبد العزيز الضجة ، فسأل الحاجب . قال الحاجب : إنه ابنك ، ويريد أن يدخل عليك وأنا أطالبه ألا يدخل حتى تستريح . قال عمر بن عبد العزيز للحاجب : دعه يدخل . فلما دخل الابن على أبيه ، قال الابن : يا أبي بلغني أنك ستخرج ضيعة كذا لتقفها في سبيل الله .
(1/1139)
قال عمر بن عبد العزيز؛ أفعل إن شاء الله . غدا نبرمها . قال الابن متسائلا : هل يبقيك الله إلى غد؟ فقال عمر بن عبد العزيز وهو يبكي : الحمد لله الذي جعل من أولادي من يعينني على الخير .
لقد أراد الابن من أبيه أن يسارع إلى الخير ، فما دامت هبة الخير قد هبَّت عليه فعلى الإنسان أن يأخذ بها؛ لأن الإنسان لا يدري أغيار الأحداث في نفسه ، لذلك فعليه أن يسارع إلى اقتناص هبة الخير ، وها هو ذا ابن عمر بن عبد العزيز يعين والده على الخير ، لكننا في زمننا قد نجد من الأبناء من يطلب الحَجْر على أبيه إن فكر الأب في فعل الخير ، متناسين قول الحق : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين } .
وهنا يبرز سؤال هو : لأي عمل هم صالحون؟
والإجابة تقتضي قليلا من التأمل ، إننا نقول في حياتنا : " إن فلانا رجل صالح " ومقابله " رجل طالح " . والإنسان صالح للخلافة ، فقد جعل الله آدم وذريته خلفاء في الأرض ، والرجل الصالح يرى الشيء الصالح في ذاته فيترك هذا الشيء على ما هو عليه أو يزيده صلاحا . أما الرجل الطالح أو المفسد فهو يأتي إلى الشيء الصالح فيفسده ، ولا يفعل صلاحا .
إن الرجل - على سبيل المثال - قد يجد بئرا يأخذ منه الناس الماء ، فإن لم يكن من أهل العزم فإنه يتركه على حاله . وإن كان طالحا فقد يردم البئر بالتراب . أما إن كان الرجل من أهل الصلاح والعزم فهو يحاول أن يبدع في خدمة الناس التي تستقي من البئر ، فيفكر ليبني خزانا عاليا ويسحب الماء من البئر بآلة رافعة ، ويخرج من الخزان أنابيب ويمدها إلى البيوت ، فيأخذ الناس المياه وهم في المنازل ، إن هذا الرجل قد استخدم فكره في زيادة صلاح البئر .
إذن فكلمة " رجل صالح " تعني أنه صالح لأن يكون خليفة في الأرض وصالح لاستعمار الأرض أي أن يجعلها عامرة ، فيترك الصالح في ذاته ، أو يزيده صالحا ، ويحاول أن يصلح أي أمر غير صالح . الرجل الصالح عندما يعمل فهو يحاول أن يجعل عمله عن عمق علم ، فلا يقدم على العمل الذي يعطي سطحية نفع ثم يسبب الضرر من بعد ذلك .
ومثال ذلك حين اخترعوا المبيدات الحشرية ظنوا أنهم تغلبوا على الآفات في الزراعة ، لكنهم لم يعرفوا أنهم قد أضروا بالزراعة وبالبيئة أكثر مما أفادوا ، لذلك عادوا يقولون : لا تستعملوا هذه المبيدات؛ لأنها ذات أضرار جمة ، ولهذا لا بد أن يكون كل عمل قائما على قواعد علمية سليمة ، ولنقرأ قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] وقوله سبحانه : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103-104 ]
إذن فقد كرم الله من آمن من أهل الكتاب فوصفهم الوصف الحقيقي ، فهم يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، ويؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات ، ثم يحكم الحق عليهم حكما عاما بأنهم من الصالحين لعمارة الكون والخلافة في الأرض .
ومن بعد ذلك يضيف الحق : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ والله عَلِيمٌ بالمتقين }
(1/1140)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
إنه سبحانه يعطيهم الجزاء العادل ، وإن شيئا لا يضيع عنده وهو الحق؛ فالخير الذي يفعلونه لن يُجحد لهم أو يستر عن الناس؛ لأنه سبحانه عليم بالمتقين ، فمن الجائز أن يصنع إنسان الأعمال ولا يراها أحد ، أما الحق فهو يرى كل عمل ، وهو الذي يملك حسن الجزاء . وبعد ذلك يعود الحق لتبيان حال الذين كفروا فيقول : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً . . . }
(1/1141)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
يظن الكافرون أن الأموال والأولاد قد تغني من الله ، إنهم لا يحسنون التقدير ، فالأموال والأولاد هما من مظان الفتنة مصداقا لقوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 28 ]
وما دامت الأموال والأولاد فتنة فلا بد أن نفهم الأمر على حقيقته؛ فالفتنة ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن معناها اختبار وامتحان ، وقد يمر الإنسان بالفتنة ، وينجح . كأن يكون عنده الأموال والأولاد ، وهم فتنة بالفعل فلا يغره المال بل إنه استعمله في الخير ، والأولاد لم يصيبوه بالغرور بل علمهم حمل منهج الله وجعلهم ينشأون على النماذج السلوكية في الدين ، لذلك فساعة يسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر سيء بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان ، وعلى الإنسان أن ينجح مع هذه الفتنة؛ فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعف عند مواجهتها . والكافرون لا ينجحون في فتنة الأموال والأولاد ، بل سوف يأتي يوم لا يملكون فيه هذا المال ، ولا أولئك الأولاد ، وحتى إن ملكوا المال فلن يشتروا به في الآخرة شيئا ، وسيكون كل واحد من أولادهم مشغولا بنفسه ، مصداقا لقول الحق : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } [ لقمان : 33 ]
إن كل امرئ له يوم القيامة شأن يلهيه عن الآخرين ، والكافرون في الدنيا مشغولون بأموالهم وأولادهم وعندما نتأمل قوله : { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ } نجد أننا نقول : أغناه عن كذا أي جعله في استغناء فمن هو الغَنيُّ إذن؟ الغني هو من تكون له ذاتية غير محتاجة إلى غيره ، فإن كان جائعا فهو لا يأَكل من يد الغير ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الغني عن كثرة العرض ، ولكن الغني غنى النفس " .
والمقصود بالعَرَض هو متاع الحياة الدنيا قلّ أو كثر ، ومتاع ، وعرض الدنيا كالماء المالح ، كلما شربت منه ازددت ظمأ . إن الكافر من هؤلاء يخدع نفسه ويغشها ، ويغتر بالمال والأولاد وينسى أن الحياة تسير بأمر من يملك الملك كله ، إن الكافر يأخذ مسألة الحياة في غير موقعها ، فالغرور بالمال والأولاد في الحياة أمر خادع ، فالإنسان يستطيع أن يعيش الحياة بلا مال أو أولاد . ومن يغتر بالمال أو الأولاد في الحياة يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولاده حسرة عليه لماذا؟ لأنه كلما تذكر أن المال والأولاد أبعداه عما يؤهله لهذا الموقف فهو يعاني من الأسى ويقع في الحسرة .
ويقول الحق سبحانه عن هذا المغتر بالمال والأولاد وهو كافر بالله : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وهذا مصير يليق بمن يقع في خديعة نفسه بالمال أو الأولاد .
(1/1142)
وكيف يكون الإنسان صاحباً للنار؟ لنعرف أولا معنى كلمة " الصاحب " ، إن الصاحب هو الملازم؛ فنحن نقول : فلان صاحب فلان أي ملازمه ، لكن من أين تبدأ الصحبة؟ . إن الذي يبدأ الصحبة هو " فلان " الأول ، ل " فلان الثاني " الذي يقبل الصحبة أو يرفضها ، وهذا أمر قد نعرفه وقد لا نعرفه ، وعن الصحبة مع النار نرى أن الإنسان يلوم نفسه ويؤنبها على أنه اختار النار وصاحبها .
ألسنا نرى في الحياة إنسانا قد ارتكب ذنبا وأصابه ضرر ، فيضرب نفسه ويقول : أنا الذي استأهل ما نزل بي وأستحقه ، وكذلك الإنسان الكافر يجد نفسه يوم القيامة ، وهو يدخل النار ، ويقول لنفسه : أنا أستحق ما فعلته بنفسي ، وتقول النار لحظتها ردا على سؤال الحق لها : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ]
وفي الآخرة نرى أبعاض الإنسان الكافر وهي تبغض صاحبها ، فإذا كان للإنسان ولاية على أبعاضه في الدنيا ، وهي خاضعة لإرادته إلا أن هذه الأبعاض تأتي يوم القيامة وصاحبها خاضع لإرادتها . إن الظالم يقول ليده في الدنيا ، " اضربي فلانا وشددى الصفعة " فلم تعصه يده في الدنيا؛ لأن الله خلقها خاضعة لإرادته ، والظالم لنفسه بالكفر يأمر لسانه أن ينطق كلمة الكفر ، فلا يعصاه اللسان في الدنيا ، لماذا؟ لأن أبعاضه خاضعة لإرادته في الحياة الدنيا ، لكن ذلك الكافر يأتي يوم القيامة وتنعزل عن إرادته ، فتتحرر أبعاضه ، ولا تكون مرغمة على أن تفعل الأفعال التي لا ترتضيها ، وتتمرد الأبعاض على صاحبها ، وتشهد عليه . قد يقول قائل : ولكن الأبعاض هي التي تتعذب . نعم ، ولكنها تقبل العذاب تكفيرا عما فعلت .
إذن فالصحبة تبدأ من الأبعاض للنار { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فإن رأينا كفارا يعملون خيرا في الدنيا فليحذر كل منا نفسه قائلا : إياك يا نفس أن تنخدعي بذلك الخير . لماذا؟ لأن الكافر يعيش كفر القمة ، وكل عمل مع كفر القمة هو عمل حابط عند الله ، وإن كان غير حابط عند الناس . وبعد ذلك يقول الحق عن هؤلاء الكافرين : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ . . . }
(1/1143)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
إن الحق يصف ما ينفقه هؤلاء الكافرون في أثناء الحياة الدنيا وهم بعيدون عن منهج الله إنه - سبحانه - يشبهه بريح فيها صر ، أي شدة ، فمادة " الصاد والراء " تدل على الشدة والضجة والصخب ، ومثال ذلك ما قاله الحق عن إمرأة إبراهيم : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 29 ]
إنها أتت وجاءت بضجيج؛ لأنها عجوز وعقيم ويستحيل عادة أن تلد . ومثل قوله الحق : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ]
والريح الصرصر هي التي تحمل الصقيع ولها صوت مسموع .
وقوله الحق : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي أن الريح جعلت البرد شائعا وشديدا ، فالبرد قد يكون في منطقة لا ريح فيها ، ويظل باقيا في منطقته تلك ، وعندما تأتي الريح فإنها تنقل هذا البرد من مكان إلى مكان آخر ، فتتسع دائرة الضرر به . وماذا تفعل الريح التي فيها شِدة برد؟ إنها تفعل الكوارث ، ويقول عنها الحق : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } وساعة نسمع كلمة " حرث " فنحن نعرف أنه الزرع ، وقد سماه الله حرثاً ، ليعرف الإنسان إنه إن لم يحرث فلن يحصد ، يقول الحق : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 63-65 ]
كأن الريح العارمة تفسد الحرث ، وهو العملية اللازمة للإنبات؛ فالحرث إثارة للأرض ، أي جعل الأرض هشة لتنمو فيها الجذور البسيطة ، وتقوى على اختراقها ، وأخذ الغذاء منها ، وهذه الجذور تستطيع - أيضا - من خلال هشاشة الأرض المحروثة أن تأخذ الهواء اللازم للإنبات .
إن الحق سبحانه يريد أن يضرب لنا المثل وهو عن جماعة غير مؤمنين أنفقوا أموالهم في الخير ، لكن ذلك لا ينفعهم ولا جدوى منه . مصداقا لقوله تعالى : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وهكذا يكون مصير الإنفاق على نية غير مؤمنة ، كهيئة الحرث الذي هبت عليه ريح فيها صوت شديد مصحوب ببرد ، فال " صر " فيه الشدة والبرودة والعنف ، وحاتم الطائي كريم العرب يقول لعبده :
أوقد؛ فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر
عَلَّ يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
إن هذا الرجل الكريم يطلق سراح العبد إذا ما هدى ضيفاّ إلى منزل حاتم الطائي . " والليل القر " : هو الليل الشديد البرودة . و " الريح الصر " : هي الريح الشديدة المصحوبة بالبرد . ونعرف في قُرَاَنا أن الصقيع ينزل على بعض المزروعات ، فيتلفها . ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه قد جاء بهذه الآية الكريمة بعد أن أوضح لنا في الآية السابقة عليها أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا ومصيرهم النار ، وهو سبحانه يدفع أي شبهة تطرأ على السامع ، وهي أن هذه الأموال التي أنفقها الكافرون لعمل الخير ، لن تغني عنهم شيئا في الآخرة؛ لأنهم لا يملكونها .
(1/1144)
لماذا؟
لأن العمل إنما يراد للثواب عليه ، والنية دائما هي التي تحدد الهدف من كل حركة . . فهل كان في نية الكفار حين أنفقوا أموالهم في الخير الذي يعلمه الناس كالمساعدات ، وتفريج الكرب ، وإنشاء المستشفيات هل كان في بال هؤلاء الكفار رَبُّ هذه النعم ، أو كانوا يعملونها طمعا في جاه الدنيا ، وتقدير التاريخ وذكر الإنسانية؟
لا شك أنهم كانوا يعملونها للجاه ، أو للتاريخ ، أو للإنسانية؛ لأنهم لا يؤمنون بما وراء ذلك ، فهم لا يؤمنون بوجود إله ولا يؤمنون بوجود يوم آخر يًُحَاسبون فيه على ما قدموا . وقلنا من قبل : إن الذي يعمل عملا فليطلب أجره ممن عمل له ، وما داموا قد عملوا للدنيا وذكرها ، وجاهها ، والفخر فيها ، فقد أعطتهم الدنيا كل شيء .
الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلا ، وهو الذي يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومعنى المثل : أن يأتي إلى أمر معنوي قد يغيب عن بعض العقول فهمه ، فيشخصه ويمثله بأمر حسي يعرفه الجميع ، ونحن نعرف أن المحسات هي أصل المعنويات في الفهم . ونعرف أن الطفل أول ما تتفتح إدراكاته يدرك الشيء المحس أولا ، ثم بعد ذلك يكوّن من المحسات المعقولات .
فالطفل - على سبيل المثال - يرى نارا فيمسكها فتحرقه ، فيتكون عند الطفل اقتناع بأن النار محرقة . ويشرب الطفل عسلا ، فيجده حلوا ، فيتكون عنده اقتناع بأن العسل حلو الطعم ، ويأكل الطفل شيئا مرا كالحنظل ، فتتكون عنده قضية معلومة وهي أن هذا الشيء مر الطعم ، فكل المعلومات التي يعرفها الإنسان بوسائل إدراكه المتعددة إنما تأتي من الأمور المحسة أولا .
والأمور المحسة - كما علمنا - وسائلها الحواس الخمس الظاهرة ، وهي : العين لترى ، والأذن لتسمع ، والأنف ليشم ، واللسان ليذوق ، والأنامل لتلمس ، وهكذا نعرف أن كل حاسة ظاهرة لها غاية في الإدراك . والإنسان يتمتع بحواس أخرى ندرك أعمالها ، ولكنا لا ندرك أجهزتها أو آلاتها .
مثال ذلك : حاسة البعد وهي أن يعرف الإنسان هل الشيء الذي يراه قريب منه أو بعيد عنه؟ وكذلك حاسة الثقل فيحمل الإنسان الشيء فيعرف مدى ثقله ، إنه يدرك ذلك الثقل بحاسة غير الحواس الخمس الظاهرة ، هذه الحاسة هي حاسة الثقل يكتشف بها الإنسان أن شيئا أثقل من شيء آخر؛ ذلك أن العضلات التي تحمل الشيء تعرف قدر الجهد المبذول في الحمل . وهناك حاسة أخرى غير ظاهرة هي حاسة " البَين " فيمسك الإنسان القماش بأنامله ليعرف هل سمك هذا القماش أكبر من سمك قماش آخر؟ ولمعرفة سمك الشيء لا بد أن يكون واقعا بين لامسين .
(1/1145)
إذن فهناك حواس كثيرة تربي المعاني عندنا؛ فكل الإدراكات بنت الحس ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ]
هذه هي الوسائل للإدراك ، وقد أورد سبحانه السمع والأبصار أولا لأنهما الوسيلتان الأساسيتان ، وأورد من بعد ذلك " الأفئدة " وهي المختصة بالمعاني والقلبيات وغيرها ، فإذا أراد الله أن يضرب مثلا في أمر معنوي قد تختلف فيه العقول فهو سبحانه يأتي بأمر حسيّ تتفق فيه الحواس . ونعلم أن في اللغة أمرا اسمه " التشبيه " ، فعندما يجهل إنسان شيئا يقول لمعلمه : شبه لي الأمر الذي أجهله بأمر أعرفه . والإنسان منا قد يسأل صاحبه : أتعرف فلانا؟ فيقول الصاحب : لا أعرفه ، فيقول الإنسان منا لصاحبه : إن فلانا الذي لا تعرفه يساوي فلانا في الطول ، ويساوي فلانا في اللون . وهكذا ينتقل الإنسان من أمر لا يعرفه إلى أمر يعرفه . والحق سبحانه يضرب لنا المثل بالأمور الحسية ، لنفهم الأمور المعنوية ، والله يوضح لنا أن الذين كفروا ساعة تكون لهم آلهة متعددة فملكاتهم تصاب بالاضطراب يقول - سبحانه - : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ]
إنه سبحانه يوضح لنا بالمثل الواضح مصير وحال رجل مملوك لعدد من الشركاء ، والشركاء الذين يملكون هذا العبد ليسوا متفقين ، بل بينهم نزاع وشقاق ، وبطبيعة الحال لا بد أن يكون هذا العبد مرهقا ، وهكذا تكون قضية الشرك بالله ، إن العبد في مثل هذه الحالة يكون مُشتّتاً وموزع النفس بين الذين يملكونه وهم متشاكسون ، أما قضية التوحيد فالحق يشبهها بالقول : { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } .
وهكذا ينقلنا الحق سبحانه - رحمة بنا - من المعنى العقدي العالي إلى معنى محس من الجميع ، لنرى أن الرجل المملوك لسيد واحد يتلقى أوامره من واحد فقط ، وكذلك يريد الله في هذه الآية أن يضرب مثلا لمن ينفق شيئا على غير نية إرضاء الله في طاعته ، فمهما أنفق هذا الإنسان فإن إنفاقه حابط . ونحن عندما نقرأ أمثال القرآن الكريم علينا ألا نأخذ جزئية فقط ، لا ، لكن يجب أن نأخذ الجملة كلها لنفهم المثل كله كصورة مؤتلفة مثلما ضرب الله لنا مثلا بالشركاء المتشاكسين الذين يملكون رجلا ، فعلينا إذن ألاّ نأخذ المثل بحرفيته ، ولكن نأخذ الأمر بمجموع المثل . مثال آخر ، يقول الحق سبحانه : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 45 ]
فهل الحياة الدنيا كالماء؟ لا ، ولكن قصة الحياة كلها ، تشبه القصة التي يضربها الحق كمثل ، الماء حين ينزل يختلط بالأرض ، وبعد ذلك تهتز ، فتعطى نباتا ، والنبات ينتج الزهر الجميل ، وبعد ذلك ينتهي إلى هشيم ، هكذا هي الدنيا في زخرفتها؛ فالبداية مزهرة ، فيها نضارة وخضرة وبهجة ، ونهاية مؤلمة ومدمرة .
(1/1146)
إذن فالحق سبحانه ينقل لنا معنى الحياة الدنيا ويشبهها بالأزهار والنبات ونهايته أن يصبح هشيما تذروه الرياح ، وهو ما يقوله في موضع آخر من القرآن الكريم . { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ يونس : 24 ]
وعندما نمعن النظر في قوله الحق :
{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عمران : 117 ]
نجد في هذه الآية " مشبها " و " مشبها به " ، المُشَبَّه هم القوم الذي ينفقون أموالهم بغير نية الله ، أي كافرون بالله ، والمُشَبَّه به : هو الزرع الذي أصابته الريح وفيها الصر ، والنتيجة أنه لا جدوى هنا ، ولا هناك .
ولماذا تصيب الريح حرث قوم ظلموا أنفسهم ، وهل لا تصيب الريح حرث قوم لم يظلموا أنفسهم؟
إن الذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة ، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الجنة الذين يقول فيهم الحق سبحانه : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم } [ القلم : 17-20 ]
لقد جزاهم الله بظلمهم ، ولكن ألا نرى رجلا لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة؟ إننا نرى ذلك في الحياة ، والرجل الذي لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة ، ويصبر على كارثته ، يأخذ الجزاء والثواب من الله ، ولعل الله قد أهلك بها مالا كانت الغفلة قد أدخلته في ماله من طريق غير مشروع .
هكذا تكون الكارثة بالنسبة للمؤمن لها ثواب وجزاء ، أو تكون تطهيرا للمال . أما الذي ينفق على غير نية الله وهو كافر ، فلا ثواب له .
ويذيل الحق الآية بقوله { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } فهو سبحانه لم يظلم الكافرين حين جعل نفقتهم بدون جدوى ولا حصيلة لها عنده ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، لأنهم أنفقوا النفقة على غير هيئة القبول ، وهم الذين صنعوا ذلك عندما ظلموا أنفسهم بالكفر فَحَبطت أعمالهم ، وتلك هي عدالة الحق سبحانه وتعالى :
ويقول الحق من بعد ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ . . . }
(1/1147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
حين يخاطب الله المؤمنين ويناديهم بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ } فلتعلم أن ما يجيء بعد ذلك هو تكليف من الحق سبحانه . فساعة ينادي الحق المؤمنين به ، فإنه ينادي ليكلف ، وهو سبحانه لا يكلف إلا من آمن به ، أما حين يدعو غير المؤمن به إلى رحاب الإيمان ، فإنه يثير فيه القدرة على التفكير ، فيقول له :
فكّر في السماء ، فكّر في الأرض ، فكّر في مظاهر الكون ، حتى تؤمن أن للكون إلها واحدا . فإذا آمن الإنسان بالإله الواحد ، فإن الحق سبحانه وتعالى يقول له ما دمت قد آمنت بالإله الواحد ، فَتَلَقَّ عن الإله الحكم .
إن الحق حين يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ } فهو سبحانه يخاطب بالتكليف المؤمنين به ، وهو لا يكلف ب " افعل " و " لا تفعل " إلا من آمن ، أما من لم يؤمن فيناديه الله ليدخل في حظيرة الإيمان : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } فإذا ما دخل الإنسان في حظيرة الإيمان فالحق سبحانه وتعالى يكرم هذا المؤمن بالتكليف ب " افعل " و " لا تفعل " وما دام العبد قد آمن بالإله القادر الحكيم الخالق ، القيوم ، فليسمع من الإله ما يصلح حياته . ويجيء في بعض الأحيان ما ظاهره أن الله ينادي مؤمنا به ، ثم يأمره بالإيمان كقول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ } .
ويتساءل الإنسان كيف ينادي الله مؤمنا به ، ثم يأمره بالإيمان؟ وهنا نرى أن المطلوب من كل مؤمن أن يؤدي أفعال الإيمان دائما ويضيف لها ليستمر ركب الإيمان قويا ، فالحق حين يطلب من المؤمن أمراً موجودا فيه؛ فلنعلم أن الله يريد من المؤمن الاستدامة على هذا اللون من السلوك الذي يحبه الله ، وكأن الحق حين يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ } إنما يحمل هذا القول الكريم أمراً بالاستدامة على الإيمان ، لأن البشر من الأغيار . ونحن نعرف أن الله أفسح بالاختيار مجالا لقوم آمنوا فارتدوا ، فليس الأمر مجرد إعلان الإيمان ثم تنتهي المسألة ، لا ، إن المطلوب هو استدامة الإيمان .
وحين نقرأ قول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ } فلنفهم أن هناك تكليفا جديدا ، وما دام في الأمر تكليف فعنصر الاختيار موجود ، إذن فحيثية كل حكم تكليفي من الله له مقدمة هي : { ياأيها الذين آمَنُواْ } ولا تبحث أيها المؤمن في علة الحكم ، وتسأل : لماذا كلفتني يارب بهذا الأمر؟ فليس من حقك أيها المؤمن أن تسأل : " لماذا " ما دمت قد آمنت؛ فالحق سبحانه لم يكلف إلا من آمن به ، فإذا كنت - أيها المؤمن - قد آمنت بأنه إله صادق قادر حكيم فأمن الله على نفسك ، ونفذ مطلوب الله ب " افعل " و " لا تفعل " سواء فهمت العلة أم لم تفهمها .
(1/1148)
وسبق أن ضربنا المثل وما زلنا نكرره .
إن المريض الذي يشكو من سوء الهضم بعد تناول الطعام يفكر أن جهازه الهضمي مصاب بعلة ، ويفكر في اختيار الطبيب المعالج ويختار طبيبا متخصصا في الجهاز الهضمي ، ويذهب إلى هذا الطيب . وهنا ينتهي عمل العقل بالنسبة للمريض؛ فقد اختار طبيبا وقرر الذهاب إليه ، والطبيب يجري الفحص الدقيق ، ويطلب التحاليل اللازمة إن احتاج الأمر ، ويشخص الداء ، ثم يكتب الدواء ، وحين يكتب الطبيب الدواء للمريض ، فإن المريض لا يصح أن يقول للطبيب لن آخذ هذا الدواء إلا إذا أقنعتني بحكمته . بل عليه أن ينفذ كلام الطبيب ، وهكذا يطيع المريض الطبيب ، وكلاهما مساوٍ للآخر في البشرية ، فكيف يكون أدب الإنسان مع خالقه؟ إن كل عمل العقل عند المؤمن هو أن يؤمن بالله ، وبعد أن آمنت - أيها المؤمن - بالله حكيما ، فَتَلَقَّ عن الله الحكم؛ لأنه مأمون على أن يوجهك لأنك أنت صنعته .
إن الحق يأمر المؤمن بالصلاة ، وعلى المؤمن أن يؤديها ، ولا يبحث عن علة الصلاة كأنها رياضة مثلا ، لا ، إن الأمر صادر من الحق بالصلاة ، وحين تصلي ، فإنك تلتفت إلى أن نفسك قد انشرحت بالصلاة وشعرت بالراحة ، فتقول لنفسك : ما أحلى راحة الإيمان؛هذه هي علة الحكم الإيماني . إن علة الحكم الإيماني يعرفها المؤمن بعد أن ينفذه ، ولذلك نجد الحق من فضل كرمه ، يقول لنا : { واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 282 ]
فأنت ساعة أن تتقي الله في الحكم ، يعطيك العلة ، ويعطيك راحة الإيمان ، إنك أيها العبد لا تسأل أولا عن الاقتناع بالعلة حتى تنفذ حكما لله ، لأن الحق سبحانه قد يؤجل بعض حيثيات الأحكام لخلقه قرونا طويلة ، ومثال ذلك أننا ظللنا لا نعرف علة حكم من الأحكام لمدة أربعة عشر قرنا من الزمان مثل تحريم أكل لحم الخنزير ، فهل كان على العباد المؤمنين أن يؤجلوا أكل لحم الخنزير أربعة عشر قرنا إلى أن يمتلكوا معامل للتحليل حتى نعرف المضار التي فيه؟ تلك المضار التي ثبتت معمليا . . لا .
إن العباد المؤمنين لم يؤجلوا تنفيذ الحكم ، ولكنهم نفذوه ، واكتشف أحفاد الأحفاد أن فيه ضرراً ، وهذا يدفعنا إلى تنفيذ كل حكم لا نعرف له علة ، إن هذا الحكم له حكمة عند الله قد لا يستطيع عقل الإنسان أن يفهمها ، ولكن ستأتي أشياء توضح بعض الأحكام فيما لم يكن يعرفه الإنسان ، وتعطينا تلك الإيضاحات الثقة في كل حكم لا تعرف له علة ، وتصبح علة كل حكم هي : { ياأيها الذين آمَنُواْ } .
إن الحق بهذا القول ينادي كل عبد من عباده : يا من آمنت بي إلها خذ مني هذا التكليف . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - عندما يقول الطبيب : يا من صدقت أني طبيب لمرضك خذ هذا الدواء وستشفى بإذن الله .
(1/1149)
وعندما يزور الإنسان مريضا ويسأله : لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فالمريض يجيب : لقد كتب الطبيب لي هذا الدواء ، فما بالنا بتنفيذ أحكام الله؟ إنه يجب أن ننفذها لأن الله قالها ، ولذلك فالعاقلون بعمق وجدية يختلفون عن مُدعى العقل بسطحية ، هؤلاء العاقلون الجادون يقولون : إن هذا العقل مطية يوصلك إلى باب السلطان ولكن لا يدخل معك عليه . فكأن العقل يوصلك إلى أن تؤمن بالله ، ولكنه لا يحشر نفسه فيما ليس له قدرة عليه .
إن الحق سبحانه في هذا التكليف القادم : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } أي أنكم ما دمتم قد آمنتم ، فعليكم الحفاظ على هذا الإيمان بأن تبعدوا عنه نزغ الشيطان وكيد الأعداء . إن نزغ الشيطان وكيد الأعداء إنما يأتي من البطانة التي تتداخل مع الإنسان .
ولنفهم كلمة " بطانة " جيدا ، إن بطانة الرجل هم خاصته ، أي الناس الذين يصاحبهم ويجلسون معه ويعرفون أسراره ، وكلمة " بطانة " مأخوذة أيضا من بطانة الثوب؛ فنحن عندما نمسك أي قطعة من ثياب نرى أن الثوب خشن ، ولذلك فالصانع يضع للثوب الخشن بطانة ناعمة ويختارها كذلك؛ لأنها متصلة بالجسم ، والبطانة من الأصدقاء تدخل على الناس بالنعومة وتستميلهم وتستعبدهم . ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الأنصار شعار ، والناس دثار " .
" والشعار " هو الثوب الذي يلامس شعر الجسد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلي من قيمة الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية بمودة وحب . وهكذا نعرف أن كلمة " بطانة " مأخوذة - كما قلنا - من بطانة الثوب ، لأنها التي تلتحم بالجسم حتى تحميه؛ فنحن نرتدي الصوف ليعطينا الدفء ، ونضع بينه وبين الجسم بطانة لنبعد عن الجسم خشونة الصوف ، ويسمون البطانة بالوليجة ، أي التي تدخل في حياة الناس ، وكل شر في الوجود من هذه البطانة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معصوم وموحى إليه وله من الصحابة ما يطمح أي عبد مؤمن أن يتخذه قدوة له ، هذا الرسول الكريم نجد بعضا من وصفه في حوار بين سيدنا الحسين رضوان الله عليه وأبيه سيدنا علي كرم الله وجهه قال الحسين :
يا أبي قل لي عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال علي كرم الله وجهه :
كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر . وفي الحديث : " كان رسول الله يكثر الذكر " .
لماذا؟ لأن الجلوس والقيام هو إبطال حركة بحركة ، فمن كان قائما فقعد فقد أدى حركة هي القعود ، ومن كان جالسا فقام ، فقد أدى حركة هي القيام . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل حركة ، شاكرا نعمة الخالق عز وجل ، والإنسان منا يستطيع أن يسأل نفسه : كم عضلة يحركها الإنسان حتى يقعد أو يقوم؟
إنها أعداد كبيرة من العضلات تتحرك لتوازن ارتفاع الجسم أو جلوسه ، وهي أعداد لا يعرفها الإنسان .
(1/1150)
فما الذي جعل هذه الأجهزة الصماء تفهم مراد الإنسان ، وبمجرد أن يحاول الإنسان القيام ، فإنه يقوم ، وبمجرد أن يحاول الإنسان القعود ، فإنه يقعد؟ إنك إذا رفعت يدك لا تعرف ما هي العضلات التي تتحرك لترفع اليد ، وتلك إدارة عالية يقول عنها الشاعر :
" وفيك انطوى العالم الأكبر " ... كأن العالم الكبير قد انطوى وصار في داخلك أنت . إنك إن أردت أن تنام فإنك تنام ، وتحب أن تقوم فتقوم . ويبين لك الحق أن أوامرك لعضلاتك وتحكمك في مملكة جسدك ، هي من تسخير الله؛ تدرك ذلك حين تنظر حولك فتجد أنه سبحانه قد سلب أحدا غيرك القدرة على رفع الذراع . وإياك أن تظن أن الحركة قد واتتك لمجرد أن لك يدا ، لا ، إن غيرك قد تكون له يد؛ لكنه لا يستطيع أن يأمرها فتتحرك . وهكذا نعرف أن كل الإرادات في النفس إنما تتحرك بتسخير الحق لها لخدمة الإنسان .
قال صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم فليقل : الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي وعافاني في جسدي وأذِن لي بذكره " .
انه يُوجه الإنسان إلى ذكر خالقه عند كل قيام أو قعود ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه عند كل انفعال بكل حركة من الحركات علينا أن نذكر الذي خلقنا وخلق فينا القدرة على الحركة .
وليسأل كل منا نفسه : كم حركة يتطلبها أمر من الإنسان بأن يحك ظهره مثلا؟ إنه عدد غير معروف من الحركات . وهكذا علينا أن نحسن الأدب مع الله بأن نذكره في كل حركة فهو الذي خلق كل إنسان منا صالحا لكل هذه القدرات .
ونعود إلى وصف علي كرم الله وجهه مجلسَ الرسول صلى الله عليه وسلم : كان لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر .
ولنتنبه إلى دقة الرسول في التعامل مع البطانة من البشر ، فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها . ويوطن المكان ، أي أن يخصص مكانا لفلان ليجلس فيه ، لقد كان الرسول يجلس حيث انتهى به المجلس ، وكذلك كان صحابته ، فلا أحد يجلس دائما بجانبه حتى لا يأخذ أحد من مكانته عند الرسول فرصة يتخيل معها الآخرون أنه صاحب حظوة؛ فكلهم سواسية ونحن نرى في عصرنا أن هناك من يتخذ لنفسه مكانا في المسجد ، وهذا منهي عنه . فعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطّن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير ) .
ويضيف علي كرم الله وجهه في وصف مجلس رسول الله : وكان إذا ذهب إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، " وكان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ، يعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك " .
(1/1151)
أهناك أدب أكثر من هذا؟ إنه الرسول الكريم ، يجلس حيث ينتهي به المجلس ، لقد أراد أن يضرب لنا المثل حتى تتنوع اللقاءات؛ فاليوم قد يجلس مؤمن بجانب مؤمن من مكان بعيد ، وغدا يجلس كلاهما بجانب اثنين جاء كل منهما من مكان آخر ، وهكذا تتحقق اندماجية الإيمان بتنوع اللقاءات .
ويقول علي كرم الله وجهه : وكان رسول الله يعطي كل جلسائه نصيبهم من مجلسه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعطي نظرة لواحد ، فهو ينظر كذلك لكل واحد في مجلسه ، وإن تكلم كلمة إلى ناحية فهو يعطي كلمة أخرى إلى الناحية المقابلة؛ لذلك حتى يعرف كل جليس للرسول أن المؤمنين سواسية ، وأنّه صلى الله عليه وسلم رسول إلى الناس كافة؛ وليس رسولا إلى قوم بعينهم ، وحتى يعرف كل واحد من جلسائه أنه يجلس إلى رسوله الذي بعثه الله إليه .
هكذا كان سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعطي القدوة للناس ، وحتى يعرف كل إنسان أن التحام الناس بعضهم ببعض؛ قد يسبب لواحد استغلال الالتحام في غير صالح الإيمان .
لذلك يقول الحق سبحانه : يا أيها المؤمنون تنبهوا إلى أنكم في معسكر من غير المؤمنين يقاتلكم ويعاند إيمانكم ، وهؤلاء لا يمكن أن يتركوكم على إيمانكم ، بل لا بد أن يكيدوا لكم ، وهذا الكيد يتجلى في أنهم يدسون لكم أشياء ، وينفذون إليكم .
ونعرف جميعا أن الإسلام عندما جاء كان كثير ممن آمن له ارتباطات بمن لم يسلم؛ فهناك القرابة ، والصداقة ، والإلف القديم والجوار ، والأخوة من الرضاعة ، لذلك يحذر الحق من هذه المسائل ، فلا يقولن مؤمن هذا قريبي ، أو هذا صديقي ، أو هذا حليفي ، أو هذا أخي من الرضاعة ، فالإسلام يحقق لكم أخوة إيمانية تفوق كل ذلك ، ولهذا فإياكم أن تتخذوا أناسا يتداخلون معكم بالود؛ لأن الشر يأتي من هذا المجال ، وإياكم أن تعتقدوا أن فجوة الإيمان والكفر بينكم ستذهب أو تضيق؛ لأن الكفار لن يتورعوا أن يدخلوا عليكم من باب الكيد لكم ولدينكم بكل لون من الألوان ، وهم - الكفار - لا يقصرون في هذا أبدا ، لذلك يأتي الأمر من الحق :
{ يا أيها الذين آمنوا } ، احموا هذا الإيمان فلا تتداخلوا مع غير المؤمنين تداخلا يفسد عليكم أمور دينكم؛ لأنهم لن يهدأوا ، لماذا؟ لأن حال هذه البطانة معكم سيكون كما يلي : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } أي لا يقصرون أبدا في الكيد لكم ، والخبال : هو الفساد للهيئة المدبرة للجسم وهو العقل ، ونحن نسمى اختلال العقل " خبلا " .
(1/1152)
إن الحق يقول :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [ آل عمران : 118 ]
فالمنهي عنه ليس أن تتخذ بطانة من المؤمنين ، ولكن المنهي عنه هو أن تتخذ بطانة من غير المؤمنين؛ لأن المؤمن له إيمان يحرسه ، أما الكافر فليس له ما يحرسه ، والبطانة من غير المؤمنين لا تقصر في لحظة واحدة في أنها تريد للمؤمنين الخبال والفساد ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إنهم يحبون العنت والمشقة للمؤمنين { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } والحق سبحانه وتعالى لا يريد لنا العنت ، وفي هذا يقول سبحانه : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 220 ]
أي أنه سبحانه لو أراد ، لكلفكم بأمور كثيرة تحمل المشقة ، لكن الحق سبحانه يَسّر لكم أيها المؤمنون ، لكن أهل الكفر لا يودون إلا الخبال للمؤمنين ، ويحبون المشقة لهم .
ومن أين تنشأ المشقة؟ إنك حين تكون مؤمنا فأنت تقوم بما فرضه عليك الدين ، وهم يحاولون أن ينفخوا في المؤمن بغير ما يقتضيه هذا الدين ، فتتوزع نفس المؤمن ، وبهذا النفخ تنقسم ملكات المؤمن على نفسها ، وعندما تنقسم الملكات على نفسها فإن القلق والاضطراب يسيطران على الإنسان ، فالقلق والاضطراب ينشآن عندما لا تعيش الملكات النفسية في سلام وانسجام .
ونحن نرى ذلك في المجتمعات التي وصلت إلى أرقى حياة اقتصادية وأمورهم المادية ميسرة كلها ، فالشيخوخة مُؤَمَّنة ، وكذلك التأمينات الصحية والاجتماعية ، ودخل الإنسان مرتفع ، لكنهم مع ذلك يعيشون في تعب ، وترتفع بينهم نسبة الانتحار ، وينتشر بينهم الشذوذ ، والسبب وراء كل ذلك هو أن ملكاتهم النفسية غير منسجمة ، وسلام الملكات النفسية لا يتحقق إلا عندما يؤمن الإنسان ، ويطبق تعاليم ما يؤمن به . فالرجل - على سبيل المثال - حين ينظر إلى حلاله ، أي زوجته ، ينظر إليها براحة ويشعر باطمئنان؛ لأن ملكاته النفسية منسجمة ، أما عندما تتجه عيناه إلى امرأة ليست زوجته ، فإنه يراقب كل من حوله حتى يعرف هل هناك من يراه أو لا؟ وهل ضبطه أحد أولا؟ وعندما يضبطه أحد فهو يفزع وتتخبط ملكاته .
لذلك يحذر الحق سبحانه المؤمنين : إياكم من البطانة من غير المؤمنين ، لأنهم لايقصرون أبدا ولا يتركون جهدا من الجهود إلا وهم يحاولون فيه أن يدخلوكم في مشقة . والمشقة إنما تنشأ من أن الكافر يحاول أن يجذب المؤمن إلى الانحراف والاضطراب النفسي وتشتت الملكات مستغلا القرابة والصداقة ، مطالبا أن يرضيه المؤمن بما يخالف الدين ، ولا يستطيع المؤمن التوفيق بين ما يطلبه الدين وما يطلبه الكافر؛ لذلك تنقسم ملكات المؤمن ويحس بالمشقة . والكافرون لا يتركون أي فرصة تأتي بالفساد للمؤمنين إلا انتهزوها واغتنموها .
(1/1153)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } .
وما دامت البغضاء قد بدت من أفواههم فكيف نتخذهم بطانة؟ إنك حين تصنع لنفسك جماعة من غير المؤمنين ، فإنها تضم بعضا من المنافقين غير المنسجمين مع أنفسهم . والمنافق له لسان يظهر خلاف ما يبطن . وعندما يذهب المنافق إلى غير المؤمنين فإن لسان المنافق ينقل بالسخرية كلام المؤمن .
هكذا تظهر البغضاء من أفواه المنافقين المذبذبين بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، إنهم لا ينتمون إلى الإيمان ولا ينتمون إلى الكفر ، والذي يصل المؤمنين من بغضاء هؤلاء قليل ، لأن ما تخفي صدورهم أكبر . وحين تبدوا البغضاء من أفواههم ، فإما أن يقولوها أمام منافقين ، وإما أن يقولها بعضهم لبعض ، فيتبادلوا الاستهزاء والسخرية بالمؤمن ، والله أعلم بمن قيل فيه هذا الكلام ، ولذلك فعندما يتحدث الكافرون بكلام فيما بينهم فالله يكشفهم ويفضحهم لنا نحن المؤمنين .
إن الله تعالى يكشف بطلاقة علمه كل الخبايا ، وكان على الكافرين والمنافقين أن يعلموا أن هناك إلها يرقب عملية الإيمان في المؤمن حتى ينبهه إلى أدق الأشياء ، لكنهم كأهل كفر ونفاق في غباء ، لقد كان مجرد نزول قول الحق : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } كان ذلك فرصة أمامهم ليدفعوا عن أنفسهم لو كانت صدورهم خالية من الحقد . لكنهم عرفوا ان الله قد علم ما في صدورهم . إن الغيظ الذي في قلوب هؤلاء الجاحدين الحاقدين قد نضح على ألسنتهم ، ولكن مَن الذي نقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ما في صدور الكافرين مما هو أكثر من ذلك؟
إنه الله - جلت قدرته - قد فضحهم بما أنزل من قوله تعالى : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } إذن لم يعد لمن آمن بالله حجة؛ لأن الله أعطاه المناعات القوية لصيانة ذلك الإيمان ، وأوضح الحق للمؤمنين أن أعداءهم لن يدخروا وسعا أبدا في إفساد انتمائهم لهذا الدين ، فيجب أن ينتبه المؤمنون .
وإذا ما دققنا التأمل في تذييل الآية نجد أن الحق قال : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } إذن ، فالآيات المنزلة من الله تعالى توضح ذلك ، وقد قلنا من قبل : إن الآيات ، إما أن تكون آيات قرآنية ، وإما أن تكون آيات كونية ، فالقرآن له آيات ، والكون له آيات . ولنسمع قول الحق بالنسبة للقرآن : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 101 ]
وفي مجال الكون يقول الحق سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ]
وهكذا نعلم أن الآية هي الشيء العجيب اللافت الذي يجب أنه ننتبه إليه لنأخذ منه دستورا لحياتنا . وعلى ذلك ، فالآيات القرآنية تعطي المنهج ، والآيات الكونية تؤيد صدق الآيات المنهجية . ويجب أن تتفطنوا أيها المؤمنون إلى هذه الآيات . والذي يدل على أن المؤمنين قد عقلوا وتفطنوا ، أن الآية الأولى بينت أنهم قد نهوا عن أن يتخذوا بطانة من دونهم - أي من غير المؤمنين - وها هي ذي الآية التالية تقول : { هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ . . . }
(1/1154)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
وما زال الحديث والكلام عن البطانة ، وهو يدل على أن البطانة لم تستطع أن تلوي المؤمنين عن الإيمان ، بل إن المؤمنين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان حاولوا أن يغيروا من الكافرين . ولم يفلح الكافرون أن يغيروا من المؤمنين ، وكذلك لم يفلح الكافرون أيضا أن يسيطروا على أنفسهم ، ولم يكن أمام هؤلاء الكافرين إلا النفاق ، لذلك قالوا : " آمنا " . إن الآية تدلنا على أن المؤمنون قد عقلوا آيات الحق . ولماذا - إذن - جاء الحق بقوله : " تحبونهم ولا يحبونكم "؟
لقد أحب المؤمنون الكافرين حين شرحوا لهم قضية الحق في منهج الإسلام ، وأرادوا المؤمنون أن يجنبوا الكافرين متاعب الكفر في الدنيا والآخرة ، وهذا هو الحب الحقيقي ، فهل بَادَلَهُم الكافرون الحب؟ لا؛ لأن هؤلاء الكافرون أرادو أخذ المؤمنين إلى الكفر ، وهذا دليل عدم المودة . ولم يستطع الكافرون تحقيق هذا المأرب ، ولذلك قالوا : " آمنا " ومعنى قولهم : " آمنا " يدلنا على أن موقف المسلمين كان موقفا صُلبا قويا؛ لذلك لم يجد الكافرون بداً من نفاقهم { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا } قالوا ذلك على الرغم من ظهور البغضاء في أفواههم ، ولم يكن سلوكهم مطابقا لما يقولون . وهنا بدأ المسلمون في تحجيم وتقليل مودتهم للكافرين؛ ولذلك قال أهل الكفر : لو استمر الأمر هكذا فسوف يتركنا هؤلاء المسلمون . . وحتى يتجنبوا هذا الموقف ادعوا الإيمان في الظاهر ، وينقلب موقفهم إذا خلوا لأنفسهم ، ويصور الحق هذا الموقف في قوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } فما هو العض؟
إن العضَّ لغويا ، هو التقاء الفكين على شيء ليقضماه . وما الأنامل؟ إنها أطراف الأصابع ، والأنامل فيها شيء من الدقة وشيء من خفة الحركة المأخوذة من خلية النمل ، ويسمون الأنامل أيضا البنان ، وعملية عض الأنامل عندما نراها نجدها عملية انفعالية قسرية . أي أن الفكر لا يرتبها؛ فليس هناك من يرضي أن يظل مرتكبا لعملية عض أصابعه ، فعض الأصبع يسبب الألم ، لكن الامتلاء بالغيظ يدفع الإنسان إلى عض الأصابع كمسألة قسرية نتيجة اضطراب وخلل في الانفعال .
ومن أين يجيء الغيظ؟ .
لقد جاء الغيظ إلى الكافرين لأنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا المؤمنين قيد شعرة عن منهج الله ، بل حدث ما هو العكس ، لقد حاول المؤمنون أن يجذبوا الكافرين إلى نور الإيمان ، وكان الكافرون يريدون أن يصنعوا من أنفسهم بطانة يدخلون منها إلى المؤمنين لينشروا مفاسدهم؛ ولذلك وقعوا في الغيظ عندما لم يمكنهم المؤمنون من شيء من مرادهم .
إن الإنسان يقع أحيانا فريسة للغيظ حين لا يتمكن من إعلان غضبه على خصمه؛ ولهذا إذا أراد إنسان من أهل الإيمان أن يواجه حسد واحد من خصومه فعليه أن يزيد في فضله على هذا الإنسان ، وهنا يزداد هذا الخصم غيظا ومرارة ، أيضا نجد أن من تعاليم الإسلام أن الإنسان المؤمن لا يقابل السيئة التي يصنعها فيه آخر بسيئة ، وذلك حتى لا يرتكب الذنب نفسه ، ولكن يتَبع القول المأثور :
" إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه "
إنهم بإحسان المسلمين إليهم يزدادون خصومة ، وغيظا وحقدا على الإسلام وكان المسلمون الأوائل يتصرفون بذلك الأسلوب لقد كانوا جبالا إيمانية راسخة .
(1/1155)
فخصوم الإسلام يعصون الله بسوء معاملتهم للمسلمين ، لكنْ المسلمون يردون على سوء المعاملة بحسن المعاملة ، وساعة يرى خصوم الإسلام أن كيدهم لا يحقق هدفه فإنهم يقعون في بئر وحمأة الغيظ . وعندما يخلون الكافرون لأنفسهم فأول أعمالهم هو عض الأصابع من الغيظ ، وهو كما أوضحت نتيجة الانفعال القسري التابع للغضب والعجز عن تحقيق المأرب؛ ذلك أن كل تأثير إدراكي في النفس البشرية إنما يطرق مجالا وجدانيا فيها .
والمجال الوجداني لا بد أن يعبر عن نفسه بعملية نزوعية تظهر بالحركة؛ فالإنسان عندما يسبب لواحد يعرفه لونا من الغضب فهو ينفعل بسرعة ويثور بالكلمات ، هذا دليل على طيبة الإنسان الغاضب . أمََّا الذي لا يظهر انفعاله فيجب الحذر منه؛ لأنه يخزن انفعالاته ، ويسيطر عليها ، فلا تعرف متى تظهر ولا على أية صورة تبدو؛ ولذلك يقول الأثر : " اتقوا غيظ الحليم " فعندما تتجمع انفعالات جديدة فوق انفعالات قديمة متراكمة في قلب الحليم فلا أحد يعرف متى يفيض به الكيل .
إذن فالإدراك ينشأ عنه وجدان ، فينفعل الإنسان بالنزوع الحركي . والتشريع الإسلامي لا يريد من الإنسان أن يكون حجرا أصم لا ينفعل ، لكنه يطلب من المسلم أن ينفعل انفعالا مهذبا؛ ولذلك يضع الحق للمؤمن منهجا ، فيقول سبحانه : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ]
إن القرآن يعترف بأن هناك من الأحداث ما يستدعي غيظ الإنسان ، والذي لا يغضب على الإطلاق إنما يسلك طريقا لا يتوافق مع طبيعة البشر السوية ، والله يريد من الإنسان أن يكون إنساناً ، له عواطفه وشعوره وانفعالاته ، ولكن الله المربي الحق يهذب انفعالات هذا الإنسان ، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ، فحين مات ولده إبراهيم :
قال عليه الصلاة والسلام : " إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
إن النبي صلى الله عليه وسلم يمزج بين العاطفة والإيمان ، فالعين تدمع ، والقلب يحزن ، والإنسان لا يكون أصمَّ أمام الأحداث ، إنما على الإنسان أن يكون منفعلا انفعالا مهذبا .
وعندما يعبّر القرآن عن الإنسان السويّ فهو لا يضع المؤمن في قالب حديدي بحيث لا يستطيع أن يتغير فيقول سبحانه : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين }
(1/1156)
[ المائدة : 54 ]
إذن فيلس المؤمن مطبوعا على الذلة ، ولا مطبوعا على العزة ، لكنه ينفعل للمواقف المختلفة ، فهذا موقف يتطلب ذلة وتواضعا للمؤمنين فيكون المؤمن ذليلا ، وهناك موقف آخر يتطلب عزة على الكافرين المتكبرين فيكون المؤمن عزيزا ، والحق سبحانه يقول عن المؤمنين : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } [ الفتح : 29 ]
إن الرحمة ليست خلقا ثابتا ، ولا الشدة خلقا ثابتا ولكنَّ المؤمنين ينفعلون للأحداث ، فحين يكون المؤمن مع المؤمنين فهو رحيم ، وحين يكون في مواجهة الكفار فهو قوي وشديد . والله سبحانه لا يريد المؤمن على قالب واحد متجمد ، لذلك يقول الحق : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ]
وهو سبحانه القائل : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ]
إذن فالحق لم يمنع المؤمن من أن يعاقب أحدا على خطأ ، وذلك لأنه خلق الخلق وعليم بهم ، ولا يمكن أن يصادم طباعهم ، وذلك حتى لا يتهدد المؤمن في إيمانه فيما بعد ، فالمؤمن لو ترك حقوقه فإن الكفار سيصولون ويجولون في حقوق المسلمين؛ ولهذا فالمؤمن يتدرب على توقيع العقاب حتى على المؤمن المخطئ ، وذلك ليعرف المؤمن كيف يعاقب أي مجترئ على حق من حقوق الله . والمؤمن أيضا مطالب بأن يرتقي بعقابه ، فهو إما أن يعاقب بمثل ما عوقب به ، وإما أن يرتقي أكثر ، ويستمع لقول الحق : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ]
لقد وضع الحق منهج الارتقاء بعد أن أعطى المؤمن الحق في توقيع العقاب قصاصا ، وهكذا لم يقسر الله طبع الإنسان ولو أراد سبحانه ذلك لما خلق هذا الطبع إنه سبحانه يوضح لنا أن هناك انفعالا بالغيظ ، وأن المؤمن عليه أن يحاول كظم الغيظ أي لا يعبر عن الغيظ نزوعيا ، فإن أخرج المؤمن هذا الأمر من قلبه فمعناه أنه قد برئ وشُفِيَ منه وارتقى .
إذن فكظم الغيظ هو ألا يعبر المؤمن عن الغيظ نزوعيا ، فإن سبّك أحدٌ فأنت لا تسبّه ، وهذا الكظم يعني كتمان الانفعال في القلب ، فإذا ارتقى المؤمن أكثر وتجاهل حتى الانفعال بذلك ، فإنه يُخرج الغيظ من قلبه ، وهو بذلك يرتقي ارتقاء أعلى ، ويصفه الحق بأنه دخول إلى مرتبة الإحسان ، فهو القائل : { والله يُحِبُّ المحسنين } وهكذا يحسن المؤمن إلى المسبب للغيظ بكلمة طيبة .
فماذا يكون موقف الذي تسبب في غيظك أيها المؤمن وأنت قد كظمت الغيظ في المرحلة الأولى وعفوت في المرحلة الثانية وإن أخرجت الانفعال من قلبك ، وصلت إلى المرحلة الثالثة وهي التي تمثل قمة الإيمان إنها الإحسان . . { والله يُحِبُّ المحسنين } لا بد أن يراجع المسبب للغيظ نفسه ويندم على ما فعل .
إن الإسلام لم يتجاهل المشاعر الإنسانية عندما طالب المؤمنين أن يحسنوا لمن أساء إليهم ، فالذي يمعن النظر ويدقق الفهم يعرف أن الإسلام قد أعطى المؤمن الحق في الطبع البشرى حين قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ولكنه ارتقى بالمؤمن .
(1/1157)
وعندما ننظر إلى هذا الأمر كقضية اقتصادية وتحسبها ب " منه " و " له " فسنجد أنّ المؤمن قد كسب . . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - ساعة يجد الأب ابنا من أبنائه قام بظلم أخ له فإن قلب الأب يكون مع المظلوم فهب أن إنسانا أساء لعبد من عباد الله فإن الله كربّ مربٍّ يغار له ونحن نعرف أن واحد قال لعارف بالله :
أتحسن لمن أساء إليك؟ فقال العارف بالله : أفلا أحسن لمن جعل الله في جانبي؟
ولنعد الآن إلى غيظ الكافرين من المؤمنين ، إن غيظ الكافر ناتج من أن خصمه المؤمن يحب له الإيمان وليس في قلبه ضغينة بينما الكافر يغلي من الحقد ، وبسبب هذا الأمر يكاد يفقد صوابه؛ لذلك يقول الحق : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } .
و " خلوا " المقصود بها . أن الكافرين إذا ما أصبحوا في مجتمع كفرى وليس معهم مسلم أعلنوا الغيظ من المؤمنين ، ولقد فعلوا هذا الأمر - عض الأنامل من الغيظ - في غيبة الإيمان والمؤمنين بالله ، لو كان عند هؤلاء الكافرين ذرة من تعقل لفكروا كيف فضحهم القرآن ، وهم الذين ارتكبوا هذا الفعل بعيدا عن المؤمنين؟
ألم يكن لتفكيرهم أن يصل إلى أن هناك ربًّا للمؤمنين يقول الخافيَ من الأمور لرسوله ، ويبلغها الرسول للمؤمنين .
لكنهم مع ذلك لم يفهموا هذا الفضح لهم { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } وهنا ينبغي أنْ نفهم أنَّ هناك أمراً قد يغيظ ، ولكن الإنسان قد يجبن أن ينفث غيظه ، فإذا غاظك أحد فقد تذهب إليه وتنفعل عليه ، أو قد تنفعل على نفسك وذلك هو ما يسمى ب " تحويل النزوع " . فالغاضب يمتلئ بطاقة غضبية ، ومن يغضب عليه قد يكون قويا وصاحب نفوذ ، فيخاف أن ينفعل عليه ، فينفث الغاضب طاقة غضبه على نفسه بأن يعض على أنامله ، وما دامت المسألة هكذا ، فقد قال الحق :
{ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ آل عمران : 119 ]
ومعنى ذلك أن إغاظة المؤمنين لكم أيها الكافرون ستستمر إلى أن تموتوا من الغيظ؛ لذلك فلا طائل من محاولتكم جذب المؤمنين إلى الكفر : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } .
ونحن قد عرفنا أنه ساعة يؤمر الإنسان بشيء ليس في اختياره - لأن الموت ليس في اختيارهم - وأن يختار بينه وبين شيء في اختياره كالغيظ ، فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر إليه ليظل أسير الأمر الذي يقدر عليه وهو الغيظ حتى يدركه الموت .
وعندما يقول الحق : { مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } فهذا يعني أن الكافرين لن يستطيعوا الموت ، ولكن سيظلون في حالة الغيظ إلى أن يموتوا؛ لأنهم لايعرفون متى يموتون ، وهكذا يظلون على حالهم من الغيظ من المؤمنين وما دام الكافرون في حالة غيظ من المؤمنين فهذا دليل على أن المؤمنين يطبقون منهجهم بأسلوب صحيح .
(1/1158)
وفي هذه الآية بشارة طيبة للمؤمنين ونذارة مؤلمة للكافرين { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } إن الحق يعلمنا أنه عليم بذات الصدور ، أي بالأمور التي تطرأ على الفكر ، ولم تخرج بعد إلى مجال القول . وهو سبحانه القائل : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } [ آل عمران : 118 ]
وما دام هو الحق العليم بما تخفي الصدور فهو قادر ليس فقط على الجزاء بما يفعلونه من عمل نزوعي ولكنه قادر على أن يجازيهم أيضا بأن يفضح الأعمال غير النزوعية الكامنة في صدروهم ، وبعد ذلك يقول سبحانه : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً . . . }
(1/1159)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
والقرآن كلام الله وله - سبحانه - الطلاقة التامة والغني الكامل ، والعبارات في المعنى الواحد قد تختلف لأن كل مقام له قوله ، وسبحانه يحدد بدقة متناهية اللفظ المناسب . . إنه هو سبحانه الذي قال : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعارج : 19-23 ]
وهو سبحانه الذي قال : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً } [ النساء : 79 ]
إنه جل وعلا يتكلم عن المس في الشر والخير ، ومرة يتكلم عما يحدث للإنسان كإصابة في الخير أو في الشر ، وفي الآية التي نحن بصدد الخواطر عنها تجد خلافا في الأسلوب فسبحانه يقول : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } إنه لم يورد الأمر كله مَسًّا ، ولم يورده كله " إصابة " إنه كلام رب حكيم وعندما نتمعن في المعنى فإن الواحد منا يقول : هذا كلام لا يقوله إلا رب حكيم .
ولنتعرف الأن على " المس " و " الإصابة " بعض العلماء قال : إن المس والإصابة بمعنى واحد ، بدليل قوله الحق : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } [ المعارج : 19-21 ]
ولكننا نقول إن المس هو إيجاد صلة بين الماس والممسوس فإذا مس الرجل امرأته ، فنحن نأمره بالوضوء فقط لأنه مجرد التقاء الماس بالممسوس والأمر ليس أكثر من التقاء لا تحدث به الجنابة فلا حاجة للغسل ، أما الإصابة فهي التقاء وزيادة؛ فالذي يضرب واحدا صفعة فإنه قد يورم صدغة ، فالكف يلتقي بالخد ، ويصيب الصدغ ، وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين المس والإصابة ، وحين يقول الحق : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } .
فمعنى ذلك أن الحسنة الواقعة بسيطة ، وليست كبيرة إنها مجرد غنيمة أو قليل من الخير . . وفي حياتنا اليومية نجد من يمتلئ غيظا لأن خصمه قد كسب عشرة قروش ، وقد يجد من يقول له : لماذا لا تدخر غيظك إلى أن يكسب مائة جنيه مثلا؟ ومثل هذا الغيظ من الحسنة الصغيرة هو دليل على أن أي خير يأتي للمؤمنين إنما يسبب التعب والكدر للكافرين . فبمجرد مس الخير للمؤمنين يتعب الكافرين فماذا عن أمر السيئة؟
إن الحق يقول : { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } إن الكافرين يفرحون لأي سوء يصيب المؤمنين مع أنه كان مقتضي الإنسانية أن ينقلب الحاسد راحما :
وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا
يعني حسبك من حادث ومصيبة تقع على إنسان أن الذي كان يحسده ينقلب راحما له ويقول : والله أنا حزنت من أجله .
إذن فلمّا تشتد إصابة المؤمنين أكانت تغير من موقف الكافرين؟ لا ، كان أهل الكفر يفرحون في أهل الإيمان ، وإذا جاء خير أي خير للمؤمنين يحزنون فالحق يقول : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } والحسنة هي أي خير يمسهم مساً خفيفاً ، { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } ، فأنت مهما كادوا لك فلن يصيبوك بأذى .
(1/1160)
إن المطلوب منك أن تصبر على عداوتهم ، وتصبر على شرّهم ، وتصبر على فرحهم في المصائب ، وتصبر على حزنهم من النعمة تصيبك أو تمسك ، اصبر فيكون عندك مناعة؛ وكيدهم لن ينال منك اصبر واتق الله : لتضمن أن يكون الله في جانبك ، { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } .
وما الكيد؟ الكيد هو أن تبيت وتحتال على إيقاع الضرر بالغير بحيث يبدو أنه كيدٌ من غيرك ، أي تدبر لغيرك لتضره . وأصل الكيد مأخوذ من الكيد والكبد ، وهما بمعنى واحد ، فما يصيب الكبد يؤلم؛ لأن الكبد هو البضع القوي في الإنسان ، إذا أصابه شيء أعيى الإنسان وأعجزه ، ويقولون : فلان أصاب كبد الحقيقة أي توصل إلى نقطة القوة في الموضع الذي يحكي عنه .
وما معنى يبيتون؟ قالوا : إن التبييت ليس دليل الشجاعة ، وساعة ترى واحداً يبيت ويمكر فاعرف أنه جبان؛ لأن الشجاع لا يكيد ولا يمكر ، إنما يمكر ويكيد الضعيف الذي لا يقدر على المواجهة ، فإن تصبروا على مقتضيات عداواتهم وتتقوا الله لا يضركم كيدهم شيئا؛ لأن الله يكون معكم .
ويذيل الحق الآية بالقول الكريم : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } . وساعة ترى كلمة " محيط " فهذا يدلك على أنه عالم بكل شيء . والإحاطة : تعني ألا تشرد حاجة منه . وها هي ذي تجربة واقعية في تاريخ الإسلام؛ يقول الحق فيها مؤكدا : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وعلى كل منا أن يذكر صدق هذه القضية .
(1/1161)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
إنه في هذه المرة - في غزوة أحد - جاء الكفار بثلاثة آلاف وكان المسلمون قلة ، سبعمائة مقاتل فقط ، وحتى يبين الحق صدق قضاياه في قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } وليس المقصود هنا الكيد التبييتي بل عملهم العلني ، أي واذكر صدق هذه القضية :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } ، والغدوة هي : أول النهار ، والرواح : آخر النهار ، والأهل : تطلق ويراد بها الزوجة ، والمقصود هنا حجرة عائشة؛ لأن الرسول كان فيها في هذا الوقت الذي أراد فيه كفار قريش أن يثأروا لأنفسهم من قتلى بدر وأسراهم ، لقد جمعوا حشودهم ، فكل موتور من معركة بدر كان له فرسان وله رجال ، حتى انهم بعد معركة بدر قال زعيمهم أبو سفيان لأصحابه : قل للنساء لا تبكين قتلاكم فإن البكاء يذهب الحزن ، فالدموع يسمونها غسل الحزن ، أو ذوب المواجيد ، فساعة يبكي إنسان حزين يقول من حوله : دعوه يرتاح .
فلو حزنت النساء وبكين على قتلى بدر لهبطت جذوة الانتقام؛ لذلك قال أبو سفيان : قل لهن لا يبكين . إنه يريد أن يظل الغيظ في مسألة بدر موجوداً إلى أن يأخذوا الثأر . وفعلاً اجتمع معسكر الكفر في ثلاثة آلاف مقاتل عند أحد ، وبعد ذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة أصحابه وأرسل إلى واحد من أكبر المنافقين هو عبد الله بن أبي بن سلول ، وما استدعاه إلا في هذه المعركة ، فقال عبد الله بن أبي بن سلول وأكثر الأنصار :
يا رسول الله نحن لم نخرج إلى عدو خارج المدينة إلا نال منا ، ولم يدخل علينا عدو إلا نلنا منه ، فإنا نرى ألا تخرج إليهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة بالخروج إليهم ، وقالوا :
" يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنا عنهم وضعفنا ، ولم يترك أصحاب هذا الرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وافقهم على ما أرادوا "
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه ، وظن الذي ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما لا يريد فندموا على ما كان منهم ، ولما خرج عليهم قالوا : استكرهناك يا رسول الله ولم يكن لنا ذلك ، فإن شئت فاقعد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ينبغي لنبي لبس لأْمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل " .
وخرجوا إلى الحرب ، وهذا هو الذي يُذَكِّرُ به القرآن صدقا للقضية التي جاءت في الآية السابقة : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
(1/1162)
اذكر يا محمد :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ]
و { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي توطن المؤمنين في أماكن للقتال ، وبوأت فلانا يعني : وطنته في مكان يبوء إليه أي يرجع ، واسمه وطن؛ لأن الوطن يرجع إليه الإنسان .
انظر إلى الدقة الأدائية لقول الحق : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي تجعل لهم مباءة ووطنا . وكلمة " مقاعد " أي أماكن للثبات ، والحرب كرّ وفرّ وقيام ، والذي يحارب يثبته الله في المعركة ، فكأنه مُوَطَّنٌ في الميدان ، فكأن أمر الرسول إلى المقاتلين يتضمن ألا يلتفت أي منهم إلى موطن آخر غير موطنه الذي ثبته وبوَّأته فيه أي إن هذا هو وطنك الآن؛ لأن مصيرك الإيماني سيكون رهناً به .
إذن فقوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ } أي توطن " المؤمنين " وتقول لهم : إن وطنكم هو مقاعدكم التي ثبتكم بها . ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالرماة؛ وأمّر عليهم " عبد الله بن جبير " وهم يومئذ خمسون رجلا وقال رسول الله لهم : " قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " .
لكنهم لم يقدروا على هذه لأن نفوسهم مالت إلى الغنيمة؛ وشاء الله أن يجعل التجربة في محضر من رسوله صلى الله عليه وسلم : حتى يبين للمؤمنين في كل المعارك التي تلك أن اتباع أمر القائد يجب أن يكون هو الأساس في عملية الجندية . وإنكم إن خالفتم الرسول فلا بد أن تنهزموا .
وقد يقول قائل : الإسلام انهزم في أُحد . ونقول : لا ، إن الإسلام انتصر . ولو أن المسلمين انتصروا في " أحد " مع مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أكان يستقيم لرسول الله أمر؟
إذن فقد انهزم المسلمون الذين لم ينفذوا الأمر ، وكان لا بد من أن يعيشوا التجربة وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فحينما هبت ريح النصر على المؤمنين في أول المعركة ، ابتدأ المقاتلون في الانشغال بالأسلاب والغنائم ، فقال الرماة : سيأخذ الأسلاب غيرنا ويتركوننا ونزلوا ليأخذوا الغنائم ، فانتهز خالد بن الوليد وكان على دين قومه انتهز الفرصة وطوقهم وحدث ما حدث وأذيع وفشا في الناس خبر قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكفأوا وانهزموا فجعل رسول الله يدعو ويقول : " إليّ عباد الله " حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين
إن التحقيق التاريخي لمعركة أُحد قد أكد أن المسألة لا تُعتبر هزيمة ولا انتصاراً؛ لأن المعركة كانت لا تزال مائعة .
(1/1163)
وبعدها دعا الرسول من كان معه في غزوة أحد إلى الخروج في طلب العدو ، وأدركهم في حمراء الأسد وفَرَّ الكافرون . إنّ الله أراد أن يعطي المؤمنين درساً في التزام أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال الحق : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } .
إن الحق يذكر بمسئوليات القائد ، الذي يوزع المهام ، فهذا جناح أيمن وذاك جناح أيسر ، وهذا مقدمة وهذا مؤخرة . ويذيل الحق هذا بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } حتى يعرف المؤمنين أنه سبحانه قد شهد أن رسوله قد بوأ المؤمنين مقاعد القتال ، وسبحانه " عليم " بما يكون في النيات؛ لأن المسألة في الحرب دفاع عن الإيمان وليست انقياد قوالب ، ولكنها انقياد قلوب قبل انقياد القوالب .
ويقول الحق من بعد ذلك : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا . . . }
(1/1164)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
والفشل هو الجبن ، والطائفتان هما " بنو حارثة " من الأوس ، " وبنو سلمة " من الخزرج ، وهؤلاء كانوا الجناح اليمين والجناح اليسار ، فجاءوا في الطريق إلى المعركة وسمعوا كلام المنافق ابن سلول ، إذ قال لهم : لن يحدث قتال؛ لأنه بمجرد أن يرانا مقاتلو قريش سيهربون .
وقال ابن سلول المنافق للرسول : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . إلا أن عبد الله ابن حارثة قال : أنشدكم الله وأنشدكم رسول الله وأنشدكم دينكم . فساروا إلى القتال وثبتوا بعد أن همّوا في التراجع .
وما معنى " الهمّ " هنا؟ إن الهم هو تحرك الخاطر نحو عملية ما ، وهذا الخاطر يصير في مرحلة ثانية قصداً وعزماً ، إذن فالذي حدث منهم هو مجرد هَمّ بخاطر الإنسحاب ، لكنهم ثبتوا .
ولماذا ذلك؟ لقد أراد الله بهذا أن يُثبت أن الإسلام منطقي في نظرته إلى الإنسان ، فالإنسان تأتيه خواطر كثيرة . لذلك يورد الحق هذه المسألة ليعطينا العلاج . فقال : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } .
وقد قال واحد من الطائفتين : والله ما يسرني أني لم أهم - أي لقد انشرح قلبي لأني هممت - لأني ضمنت أين من الذين قال الله فيهم : { والله وَلِيُّهُمَا } ، وحسبي ولاية الله . لقد فرح لأنه أخذ الوسام ، وهو ولاية الله .
وهكذا نلتقط العبر الموحية من الآيات الكريمات حول غزوة أحُد ، ونحن نعلم أن هذه الغزوة التالية لغزوة بدر الكبرى . وغزوة بدر الكبرى انتهت بنصر المسلمين وهم قلة في العدد والعُدة ، ففي بدر لم يذهب المسلمون إلى المعركة ليشهدوا حرباً ، وإنما ليصادروا أموال قريش في العِير تعويضاً لأموالهم التي تركوها في مكة . ومع ذلك شاء الله ألاّ يواجهوا العير المحملة ولكن ليواجهوا الفئة ذات الشوكة ، وجاء النصر لهم .
ولكن هذا النصر ، وإن يكن قد ربّى المهابة للمسلمين في قلوب خصومهم ، فإنه قد جمّع همم أعداء الإسلام ليتجمعوا لتسديد ضربة يردون بها اعتبار الكفر؛ ولذلك رأينا رءوس قريش وقد منعت نساءها أن يبكين على قتلاهم؛ لأن البكاء يُريح النفس المتعبة ، وهم يريدون أن يظل الحزن مكبوتاً ليصنع مواجيد حقدية تحرك النفس البشرية للأخذ بثأر هؤلاء ، هذا من ناحية العاطفة التي يحبون أن تظل مؤججة ، ومن ناحية المال فإنهم احتفظوا بمال العير الذي نجا ليكون وسيلة لتدبير معركة يردون فيها اعتبارهم .
وقد حاولوا قبل أحُد أن يفعلوا شيئاً ، ولكنهم كانوا يُرَدّون على أعقابهم . فمثلاً قاد أبو سفيان حملة مكونة من مائة ، وأراد أن يهاجم بها المدينة فلما نمى خبرها إلى سيدنا رسول الله نهض بصحابته إليهم ، فبلغ أبو سفيان خروج رسول الله ، ففرّ هارباً وألقى ما عنده من مؤنة في الطريق ليخفف الحمل على الدواب لتسرع في الحركة ، ولذلك يسمونها " غزوة السويق " لأنهم تركوا طعامهم من السويق .
(1/1165)
كما حاول بعض الكفار أن يُغيروا على المدينة بعد ذلك أكثر من مرة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب إليهم على رأس مقاتلين فمرة عددهم مائة ومرة مائة وخمسون ومرة مائتان ، وفعلاً شتت الرسول صلى الله عليه وسلم شملهم . وكان من خطته صلى الله عليه وسلم حين يذهب إلى قوم كان يبلغه أنهم يُريدون أن يتآمروا لغزو المدينة أن يظل في بلدهم وفي معسكرهم وقتا ليس بالقليل .
كل ذلك سبق غزوة أُحد . وبعد ذلك تجمعوا ليجيئوا لغزوة أُحد ، وكان ما كان ، والآيات التي تعالج هذه الغزوة فيها إيحاءات بما جاء في المعركة ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بوأ للمقاتلين مقاعد للقتال ، وأمرهم بالثبات في تلك المواقع لكن بعضا من المقاتلين ترك مكانه ، والبعض الآخر همّ بالانسحاب ، لكنه ثبت أخيراً ، وفرّ كفار قريش . وقد تجلت في هذه المعركة آيات الله الكبيرة .
فحين نصر الله سبحانه وتعالى المسلمين " ببدر " وهم قلة ، لم يخرجوا لمعركة وإنما خرجوا لمصادرة عير . وربما ظن أناس أنهم بمجرد نسبتهم إلى الله وإلى الإسلام سينصرون على هذه الوتيرة ، ويتركون الأسباب فأراد الله أن يعلمهم أنه لا بد من استنفاد الأسباب ، إعداداً لعدة ولعدد ، وطاعة لتوجيه قائد .
فلما خالفوا كان ولا بد أن يكون ما كان . والمخالفة لم تنشأ إلا بعد استهلالٍ بالنصر ، ولذلك سيجيء فيما بعد ستون آية حول هذه الغزوة؛ لتبين لنا مناط العبرة في كل أطوارها لنستخرج منها العظة والدرس . ونعلم أن المنتصرين عادةً يكون الجو معهم رخاءً . ولكن الكلام هنا عن هزيمة من لا يأخذون بأسباب الله ، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة ، فجاء القرآن هنا ليقص علينا طرفاً من الغزوة لنستخرج منها العبرة والعظة ، العبرة الأولى :
أنهّم حينما خرجوا ، تخلف المنافقون بقيادة ابن أبَيّ ، إذن فالمعركة إنما جاءت لتمحص المؤمنين . والتمحيص يأتي للمؤمن ويعركه عركا ، ويبين منه مقدار ما هو عليه من الثبات ومن اليقين ، والحق إنما يمحص الفئة المؤمنة لأنها ستكون مأمونة في التاريخ كله إلى أن تقوم الساعة على حماية هذه العقيدة ، فلا يمكن أن يتولى هذا الأمر إلا أناس لهم قلوب ثابتة ، وجأش قوي عند الشدائد ، وهمة دونها زخارف الدنيا كلها .
وبعد ذلك يعالج النفس البشرية في أوضاعها البشرية ، فعقائد الإيمان لا تنصب في قلوب المسلمين بمجرد إعلان الإيمان ، ولكن كل مناسبة تعطي دفعة من العقيدة يتكون بعد ذلك الأمر العقدي كله . ولذلك يبين لنا الحق أن طائفتين من المؤمنين قد همت بالتراجع ، فهم نفوس بشرية ، ولكن أنفّذت الطائفتان ذلك الهم أم رجعت وفاءت إلى أمر الله؟ لقد رجعت الطائفتان .
(1/1166)
وهكذا رأينا بين الذين أعلنوا إيمانهم فئة نكصت من أول الأمر وفئة خرجت ثم عادت .
لقد تحدثت النفوس ولكن أفراد تلك الفئة لم يقفوا عند حديث النفس بل ثبتوا إلى نهاية الأمر ، ومنهم من ثبت إلى الغاية السطحية من الأمر كالرماة الذين رأوا النصر أولا ، وهؤلاء من الذين ثبتوا ، ما فرّوا أولاً مع ابن أبيّ ، وما كانوا من الطائفة التي همت ، ولكنهم كانوا من الذين ثبتوا . لكنهم عند بريق النصر الأول اشتاقوا للغنائم ، وخالفوا أمر الرسول ، ولنقرأ قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } [ آل عمران : 152 ]
وبعد ذلك تأتي لقطة أخرى وهي ألا نفتن في أحد من البشر ، فخالد بن الوليد بطل معسكر الكفر في أُحد ، وهو الذي استغل فرصة نزول الرماة عن أماكنهم ، وبعد ذلك طوق جيش المؤمنين ، وكان ما كان ، من خالد قبل أن يسلم ، ألم يكن في غزوة الخندق؟ لقد كان في غزوة الخندق . وكان في غزوات كثيرة غيرها مع جند الشرك ، فأين كانت عبقريته في هذه الغزوات؟ . .
إن عبقرية البشر تتصارع مع عبقرية البشر ولكن لا توجد عبقرية بشرية تستطيع أن تصادر ترتيباً ربانياً ، ولذلك لم يظهر دور خالد في معركة الخندق ، لقد ظهر دوره في معركة أُحد؛ لأن المقابلين لخالد خالفوا أمر القيادة فبقيت عبقرية بشر لعبقرية بشر ، ولكنهم لو ظلوا في حضن المنهج الإلهي في التوجيه لما استطاعت عبقرية خالد أن تطفو على تدبيرات ربه أبدا .
والتحقيق التاريخي لكل العسكريين الذين درسوا معركة أُحد قالوا : لا هزيمة للمسلمين ولا انتصار للكفار؛ لأن النصر يقتضي أن يُجلي فريق فريقاً عن أرض المعركة ، ويظل الفريق الغالب في أرض المعركة . فهل قريش ظلت في أرض المعركة أو فرّت؟ لقد فرّت قريش .
ويُفسر النصر أيضاً بأن يؤسر عدد من الطائفة المقابلة ، فهل أسرت قريش واحداً من المسلمين؟ لا . ولقد علموا أن المدينة خالية من المؤمنين جميعا وليس فيها إلا من تخلف من المنافقين والضعاف من النساء والأطفال ، ولم يؤهلهم فوزهم السطحي لأن يدخلوا المدينة .
إذن فلا أسروا ، ولا أخذوا غنيمة ، ولا دخلوا المدينة ، ولا ظلوا في أرض المعركة ، فكيف تسمي هذا نصراً؟ فلنقل : إن المعركة ماعت . وظل المسلمون في أرض المعركة .
وهنا تتجلّى البطولة الحقة؛ لأننا كما قلنا في حالة النصر يكون الأمر رخاء ، حتى من لم يُبْلِ في المعركة بلاءً حسناً ينتهز فرصة النصر ويصول ويجول ، ولكن المهزومين والذين أصيب قائدهم صلى الله عليه وسلم ، وضعف أن يصعد الجبل ، حتى أن طلحة بن عبيد الله يطأطئ ظهره لرسول الله ليمتطيه فيصعد على الصخرة .
(1/1167)
ورسول الله يسيل منه الدم بعد أن كسرت رباعيته وتأتي حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، بعد هذا ماذا يكون الأمر؟ حتى لقد أرجف المرجفون وقالوا : إن رسول الله قد قُتل .
وكل هذا هو من التمحيص ، فمن يثبت مع هذا ، فهو الذي يؤتمن أن يحمل السلاح لنصرة كلمة الله إلى أن تقوم الساعة . ويتفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاً من أبطال المسلمين كان حوله فلا يجده ، إنه " سعد بن الربيع " .
يقول عليه الصلاة والسلام : " مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ " فقال رجل من الأنصار هو أُبَيُّ بن كعب : فذهبت لأتحسسه ، فرأيته وقد طُعن سبعين طعنة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية قوس . فلما رآه قال له : رسول الله يقرئك السلام ، ويقول لك : كيف تجدك - أي كيف حالك -؟
قال سعد بن الربيع : قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيا عن أمته ، وقل للأنصار ليس لكم عند الله عُذر إن خَلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف . ثم فاضت روحه .
انظروا آخر ما كان منه ، حين أُثخن في المعركة فلم يقو على أن يحارب بنصاله ، انتهز بقية الحياة ليحارب بمقاله ، ولتصير كلماته دوياً في آذان المسلمين . وليعلم أن هؤلاء الذين أثخنوه جراحاً ما صنعوا فيه إلا أن قربوه إلى لقاء ربه ، وأنه ذاهب إلى الجنة . وتلك هي الغاية التي يرجوها كل مؤمن .
ونجد أيضاً أن الذين يعذرهم القرآن في أن يشهدوا معارك الحرب ، يتطوعون للمعارك! فمثلا عمرو بن الجموح ، كان أعرج ، والعرج عذر أقامه الله مع المرض والعمى؛ لأنه سبحانه هو القائل : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } [ النور : 61 ]
وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة مثل الأسْد قد ذهبوا إلى المعركة ، ومع ذلك يطلب من رسول الله أن يذهب إلى المعركة ويقول له : يا رسول الله إن بَنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمّا أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك . وقال لبنيه : ما عليكم ألاّ تمنعوه ، لعل الله أن يرزقه الشهادة ، فخرج معه فقتل .
وهذا مؤمن آخر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن ابني الذي استشهد ببدر رأيته في الرؤيا يقول لي : " يا أبت أقبل علينا " فأرجو أن تأذن لي بالقتال في " أحُد " فأن له فقاتل فقتل فصار شهيداً . وتتجلى الروعة الايمانية والنسب الاسلامي في حذيفة بن اليمان ، لقد كان ابوه شيخاً كبيراً مسلماً فأخذ سيفه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقه الشهادة في سبيل الله ، فدخل في المعركة ولا يعلم به أحد فقتله المسلمون ولا يعرفونه ، فقال ابنه حذيفة ، أبي والله .
(1/1168)
فقالوا والله ما عرفناه ، وصدقوا ، قال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين . وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي ديته ، فقال له حذيفة بن اليمان : وأنا تصدقت بها على المسلمين .
هذه الأحداث التي دارت في المعركة تدلنا على أن غزوة أُحد كان لا بد أن تكون هكذا ، لتمحص المؤمنين تمحيصاً يؤهلهم لأن يحملوا كلمة الله ويعلوها في الأرض .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ . . . }
(1/1169)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
لقد نقلهم من معركة فيها شبه هزيمة أو عدم انتصار إلى نصر ، فكأنه يريد أن يقول : إن الأمر بالنسبة لكم أمر إلهكم الذي يرقبكم ويعينكم ويمدكم ويرعاكم . وإياكم ان تعتمدوا على العدد والعُدة ولكن اعتمدوا على الحق سبحانه وتعالى وعلى ما يريده الحق توجيها لكم ، لأن مدد الله إنما يأتي لُمستَقْبل لمدد الله ، ولا يأتي المدد لغير مستقبل لمدد الله .
ونعرف أن فيه فرقاً بين الفاعل وبين القابل ، فالفاعل شيء والقابل للانفعال بالفعل شيء آخر . وضربنا لذلك مثلاً : بأن الفاعل قد يكون واحداً ، ولكن الانفعال يختلف ، وحتى نقرب المسألة نقول : كوب الشاي تأتي لتشرب منه فتجده ساخناً فتنفخ فيه ليبرد ، وفي الشتاء تصبح لتجد يدك باردة فتنفخ فيها لتدفأ ، إنك تنفخ مرة لتبرد كوب الشاي ، ومرة تنفخ لتدفئ يدك ، إذن فالفاعل واحد وهو النافخ ، ولكن القابل للانفعال شيء آخر ، ففيه فاعل وفيه قابل ، ومثال آخر : إن القرآن كلام الله ولو أنه نزل على الجبال لخرّت خاشعة ، ومع ذلك يسمعه أناس ، لا يستر الله عليهم بل يكشفهم لنا ويفضحهم بعظمة ألوهيته : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ]
إنهم لم ينفعلوا بالقرآن ، وقولهم : " ماذا قال آنفاً " معناه استهتار بما قيل . ونجد الحق يرد على ذلك بقوله تعالى : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ]
إن الفاعل واحد والقابل مختلف . ويتابع الحق بلاغه الحكيم في قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } إذن فمدد الله لكم إنما يتأتى لمستقبلٍ إيماني ، فان لم يوجد المستقبل - بكسر الباء - فلا يوجد المدد . فاذا كنت لا تستطيع ان تستقبل ما ترسله السماء من مدد نقول لك : أصلح جهاز استقبالك؛ لأن جهاز الاستقبال كالمذياع الفاسد ، إن الإرسال من الإذاعات مستمر ، لكن الذياع الفاسد هو الذي لا يستقبل . إذن فإن كنت تريد أن تستقبل عن الله فلا بد أن يكون جهاز استقبالك سليما . ويوضح الحق ذلك بقوله جل جلاله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ }
(1/1170)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
ويبين سبحانه وتعالى كيفية إصلاح جهاز الاستقبال لتلقي مدد الله فيقول : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا . . . }
(1/1171)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر ، وهنا في أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها ، ولم تتقوا أمر الله المبلغ على لسان رسوله في التزام أماكنكم . . فكيف تكونون أهلاً للمدد؟
إذن من الذي يحدد المدد؟ إن الله هو الذي يعطي المدد ، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه القادر على الصبر والتقوى .
إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب . لا تقل عدداً ولا عدة . لذلك قال ربنا لنا : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } ولم يقل : أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم ، لا . أنتم تعدون ما في استطاعتكم ، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت . . فالله هو الذي يكملكم بالنصر .
والبشر في ذواتهم يصنعون هذا ، فمثلا - ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد - لنفترض أنك تاجر كبير . وتأتيك العربات الضخمة محملة بالبضائع ، صناديق وطرود كبيرة ، وأنت جالس بينما يفرغ العمال البضائع ، وجاء عامل لينزل الطرد فغلبه الطرد على عافيته ، وتجد نفسك بلا شعور منك ساعة تجده سيقع تهب وتقوم لنصرته ومعاونته ، لقد استنفد هذا العامل أسبابه ولم يقدر ، فالذي يعنيه الأمر يمد يده إليه ، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى . كأنه يقول ابذل وقدّم أسبابك ، فإذا ما رأيت أسبابك انتهت والموقف أكبر منك ، فاعلم أنه أكبر منك أنت ولكنه ليس أكبر من ربك إنه سبحانه يقول : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ . . . }
(1/1172)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
فإياك أن تظن أن المدد بالثلاثة آلاف أو الخمسة آلاف ، الذين أنزلهم الله وأمدكم بهم أو بالملائكة المدربين على القتال . . إياكم أن تظنوا أن هذا المدد ، هو شرط في نصر الله لك . بذاتك أو بالملائكة؛ إنه قادر على أن ينصرك بدون ملائكة ، ولكنها بشرى لتؤنس المادة البشرية ، فساعة يرى المؤمنين أعداداً كبيرة من المدد ، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد ، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر . إذن فالملائكة مجرد بُشرى ، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يٌغلب . وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً . ويقول الحق من بعد ذلك : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }
(1/1173)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
وقطع الطرف يتحدد بمعرفة ما هو طرف لماذا؟ فإن كان الطرف هو العدد الكثير فقطع الطرف أن يُقتل بعضه . وإن كان الطرف هو أرضا واسعة فقطع الطرف أن يأخذ من أرضهم . ولذلك يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } [ الرعد : 41 ]
لقد كانت الأرض الكُفْرٍيّة تخسر كل يوم جزءاً منها لينضم هذا الجزء إلى الأرض الإيمانية ، هذا بالنسبة لسعة الأرض ، وافرض أن الطرف هو المال ، فقطع الطرف هنا يكون بأن نأخذ بعض المال كغنائم ، ثم هناك المنزلة التي كانت تهابها الجزيرة كلها ، كل الجزيرة تهاب قريشاً ، وقوافلها التجارية للشمال والجنوب لا تستطيع قبيلة أن تتعرض لها؛ لأن كل القبائل تعرف أنها ستذهب إلى البيت في موسم الحج ، فلا توجد قبيلة تتعرض لها لأنها غداً ستذهب إلى قريش ، إذن فالسيادة والعظمة كانت لقريش ، وساعة تعلم القبائل أن رجال قريش قد كسروا وانهزموا ، وأن رحلتهم إلى الشام أصبحت مهددة ، فإنهم يبحثون عن فريق آخر يذهبون إليه .
إن قطع الطرف كان على أشكال متعددة ، فإن كان طرفَ عددٍ فيقتل بعضهم ، وإن كان طرف أرض فبعضها يؤخذ وتذهب إلى أرض إيمانية ، وإن كانت عظمة وقهرا تأتهم الهزيمة ، وإن كان نفوذاً في الجزيرة فهو يتزلزل { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا } .
ولنلحظ أن الحق قد قال : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } - لم يقل ليستأصل - لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار لأن له في الإيمان دوراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتلئا بالعطف والرحمة والحنان على أمته ، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم ، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر . ها هو ذا الحق يقول : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ]
وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ]
والله يقول لرسول صلى الله عليه وسلم : " فإنّما عليك البلاغ " والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته ، فقال الحق : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
(1/1174)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
أي ليس لك يا محمد من الأمر شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم ، إو يعذبهم ، فلا يحزنك ذلك لأنهم ظالمون أي ما عليك يا محمد إلاّ البلاغ فقط . أما هم فقد ظلموا أنفسهم بالكفر . والظلم كما نعرف هو أخذ الحق من ذي الحق وإعطاؤه لغيره . وقمة الظلم هو إضفاء صفة الألوهية على غير الله وهو الشرك . ولذلك يقول الحق : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ]
إن الحق يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [ آل عمران : 128 ]
وهذه مسألة لم تخرج عن ملك الله ، لماذا؟ لأن السماوات والأرض وما فيهن ملك لله : قيل أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن خضّب المشركون وجهه بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم - أراد عليه الصلاة والسلام أن يدعو عليهم فنهاه الله لعلمه - سبحانه - أن فيهم من يؤمن وأنزل قوله تعالى : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(1/1175)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
وبما أننا نتحدث عن ملامح في غزوة أحد أريد أن أقول : " جبل أًُحدٍ رضي الله عنه "؛ لأننا سمعنا بعض العارفين بالله حين تذكر كلمة " أحد " قال : أحد رضي الله عنه - فتعجب القوم لقول الشيخ عبد الله الزيدان الذي قال ذلك ، فما رأى عجبهم قال لهم : ألم يخاطبه رسول الله بقوله : " اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان " ، ألم يقل فيه رسول الله : " أحد جبل يحبنا ونحبه " أتريدون أحسن من ذلك في الصحبة! قل : أحد رضي الله عنه .
وقلنا سابقاً : إنك إذا وقف عقلك في حاجة فلا تأخذها بمقاييسك أنت ، بل خذها بالمقاييس الأعلى . ونحن نقول هذا الكلام لأن العلم الآن يجري ويسعى سعياً حثيثا مسرعاً حول استخراج بعض أسرار الله في الكون ، فبين لنا أن الحيوانات لها لغات تتفاهم بها ويحاولون الآن أن يضعوا قاموسا للغة الأسماك . والحق سبحانه وتعالى ذكر لنا حكاية النملة مع سليمان - عليه السلام - فقال : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ]
هذا القول يدل على أنّ نملة خرجت وقامت بعمل ( وردية ) كي تحافظ على من معها ثم عادت لتتكلم مع أبناء فصيلتها ، وسمعها سيدنا سليمان ، فتبسم من قولها . إذن العلم يتسابق ويجد وَيُسَارع الآن ليثبت أن لكل جنس في الوجود لغة يتفاهم بها ، وكل جنس في الوجود له انفعال ، وكل جنس في الوجود له تكاثر ، ولذلك قال الحق لنا على لسان سيدنا سليمان : { ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } [ النمل : 16 ]
وكانت هذه خصوصية لسيدنا سليمان عليه السلام ، إذن فللطير منطق . وعندما نتسامى ونذهب إلى الجماد نسمع قول الحق سبحانه في آل فرعون وعدم بكاء الجماد عليهم : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } [ الدخان : 25-29 ]
هل تبكي السماء والأرض؟ إنه أمر عجيب؛ فالجماد من سماء وأرض لا تتفاهم فقط ولكن لها عواطف أيضاً؛ لأن البكاء إنما ينشأ عن إنفعال عاطفي وجداني . هذا يعني أن الجمادات لا تتكلم فقط ، ولكنها تحس أيضاً . فالأرض تخرج أثقالها ، وتحدث أخبارها ، كيف؟ { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ]
والسماء والأرض أتيا إلى الله في منتهى الطاعة والخشوع : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ]
إذن فهناك ما هو أكثر من التفاهم ، إن لها عواطف مثلك تماما ، وكما تحزنك حاجة فالأرض أيضاً تبكي ، وما دامت تبكي إذن فلها مقابل بأن يفرح ، ويقول الله تعالى عن أرض فرعون : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض } فلو أنها لم تبك مع بعض الناس؛ لما كان لهذا الكلام ميزة .
(1/1176)
لذلك قال الإمام علي - كرم الله وجهه - : إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع مصلاه؛ لأنه سيحرم من نعمة الإيمان ، ومصعد عمله ، موضع في الأرض وموضع في السماء . إذن فلا بد أن نفهم أن لكل شيء شعوراً . وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات المؤمن استبشرت له بقاع الأرض فليس من بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها " .
لماذا نقول هذا الكلام الآن؟ نقول ذلك حتى إذا ثبت بالعلم أن لكل شيء لغة ، ولكل شيء في أجناس الكون تفاهما ، يقال إن فيه ناساً هبت عليهم نسمات الإيمان فأدركوها وأحسوها من القرآن ، فلا يدعي أحد أنه ابتكر من ذات نفسه لأنها في القرآن وإن كنا لا نعرف كيف تأتي .
وهذه المعركة - معركة أُحد - التي أخذت ستين آية ، نجد أن الحق تكلم عنها هنا فقال : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } و { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } وقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ، وبعد ذلك يترك الغزوة في حرارتها ويأتينا بأشياء يضعها هنا ، ثم يأتي ليكمل الغزوة . لو أن هذه لقطة من الغزوة وتنتهي ثم يأتي موضوع آخر ، لما شغلنا أنفسنا ، إنما الغزوة ستأتي فيها ستون آية ، فكيف ينهي الكلام في الغزوة ولا يعطينا إلا استهلال الغزوة ، وبعد ذلك ينصب القرآن على معانٍ بعيدة عن الغزوة؟ فما الذي يجعله - سبحانه - يترك أمر الغزوة ليقول : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين * والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين * قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين * هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَِ } [ آل عمران : 130-138 ]
لماذا لم يعطنا الحق إلا استهلاك الغزوة وبعد ذلك انصب على قضايا أولها قضية الربا ، ما العلاقة بين هذه القضايا وتلك الغزوة؟ . وأقول : رحم الله صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب فقد استطاع أن يستخلص من هذه النقلة مبادئ إيمانية عقدية لو أن المسلمين في جميع بقاع الأرض جعلوها نصب أعينهم لما كان لأي دولة من دول الكفر غلب علينا .
(1/1177)
ونريد أن نفهم هذه اللقطات ، ولماذا استهلت بمسألة الربا؟ لأن الذي كان سبباً في الهزيمة أو عدم النصر في معركة أُحد أنهم طمعوا في الغنيمة . والغنيمة مال زائد ، والربا فيه طمع في مال زائد .
والقرآن حين يعالج هنا قضية حدثية ، والأحداث أغيار تمر وتنتهي ، فهو سبحانه يريد أن يستبقي عطاء الحدث ليشيع في غير زمان الحدث ، وإلا فالحدث قد يمر بعظاته وعبره وينتهي ولا تكون له فائدة . والنفس حين تمر بالأحداث تكون ملكاتها متفتحة؛ لأن الحدث - كما قال المغفور له الشيخ سيد قطب - يكون ساخناً ، فحين يستغل القرآن الحدث قبل أن يبرد فإن القضية التي تتعرض لها الموعظة تتمكن من النفس البشرية . وهو سبحانه لم يرد أن تمر أحداث أُحد بما فيها من العبر والعظات إلا ويستغلها القرآن الكريم ليثبت بها قضايا إيمانية تشيع في غير أزمنة الحدث من الحروب وغيرها لتنتظم أيضاً وقت السلام . فآية الربا هنا كأنما سقطت وسط النصوص التي تتعرض لغزوة أحد .
والسطحيون قد يقولون : ما الذي جعل القرآن ينتقل من الكلام عن أُحد إلى أن يتكلم في الربا مرة ثانية بعد أن تكلم عنه أولاً؟
ونقول : إن القرآن لا يؤرخ الأحداث ، وإنما يُريد أن يستغل أحداثاً ليبسط ويوضح ما فيها من المعاني التي تجعل الحدث له عرض وله طول وله عمق؛ لأن كل حدث في الكون يأخذ من الزمن قدر الحدث ، والحدث له طول هو قدر من الزمن ، يكون ساعة أو ساعتين أو ليلة مثلا ، هذا هو طول الحدث .
والأحداث التي يجريها الله لها طول يحدده عمر الحدث الزمني ، ولها عرض يعطيها الاتساع ، فبعد أن كانت خطاً مستقيماً صارت مساحة ، ويجعلها الحق شاملة لأشياء كثيرة ، فهو لا يريد للحدث أن يسير كخط مستقيم ، بل يريده طريقا واسعاً له مساحة وله عرض . هذا العرض يعطيه رقعة مساحية تأخذ كثيراً من الأشياء ، وهذا أيضا قد ينتهي مع الحدث ، لذلك يريد الله أن يعطي للحدث بعداً ثالثاً وهو العمق في التاريخ فيعطي عطاءه ، كما نستفيد نحن الآن من عطاء حدث هو غزوة أُحد .
إذن فالحدث له حجم أيضاً ، وهذا ما يجعل الناس تقف لتقول : إن صلة الرحم تطيل العمر ، والعمر له حد زمني محدد وهو الخط المستقيم له ، فهناك واحد يزيد من عرض عمره ، فبدلاً من أن ينفع الناس في مجال صغير فهو يعمل وينفع في مجال أوسع ، إذن فهو يعطي لعمره مساحة .
وهناك إنسان آخر يريد أن يكون أقوى في العمر ، فماذا يعمل؟ إنه يعطي لعمره عمقاً ، فبدلاً من أن يعمل لمجرد حياته وينتهي عمره مهما كانت رقعته واسعة ، فهو يزيد من عمله الصالح ويترك أثراً من علم أو خير يستمر من بعد حياته كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/1178)
" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " .
ولذلك يقول الحق : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء * تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ إبراهيم : 24-25 ]
هي كلمة طيبة قيلت ، لكنّها مثل الشجرة الطيبة؛ لأنها ترسخ في أذن من يسمعها فتصير حركة خاضعة للكلمة ، وكلما فعل السامع لهذه الكلمة فعلاً ناتجاً من تأثير هذه الكلمة فإن بعض الثواب يعود إلى من قال هذه الكلمة حتى ولو كان قد مات .
فكأن قائل هذه الكلمة ما زال يعيش ، وكأن عمره قد طال بكلمته الطيبة إذن فأعمال الخير التي تحدث من الإنسان ليس معناها أنها تطيل العمر؛ لأن العمر محدود بأجل ، ولكنْ هناك إنسان يعطي عمره عرضاً ، وآخر يعطيه عمقاً ويظل العطاء منه موصولاً إلى أن تقوم الساعة ، فكأنه أعطى لنفسه عمراً خالداً . ويقولون : والذكر للإنسان عمر ثان .
والحق سبحانه وتعالى يوضح الدروس المستفادة من غزوة أُحد ، إن أول مخالفة كانت سبباً ليس في الهزيمة ، ولكن دعنا نقل : " في عدم إتمام النصر " ، لأنهم بدأوا منتصرين ، ولم يتم النصر لأنه قد حدثت مخالفة ، ودوافع هذه المخالفة انهم ساعة رأوا الغنائم ، اندفعوا إليها ، إذن فدوافعها هي طلب المال من غير وجه مشروع؛ لأن النبي قال لهم : " انضحوا عنا الخيل ولا نؤتين من قبلكم ، الزموا أماكنكم إن كانت النوبة لنا أو علينا ، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم " وبهذا صارت مبارحة المكان أمراً غير مشروع ، فتطلع النفس إلى شيء في غير ما أمر به رسول الله يعتبر أمراً غير مشروع والتطلع هنا كان للمال ، وهكذا الربا .
وأراد الحق أن تكون سخونة الحدث ، والأثر الذي نشأ من الحدث في أن المسلمين لم يتم نصرهم ، وتعبوا ، وكان مصدر التعب أن قليلاً منهم أحبوا المال الزائد من غير وجهه المشروع . فأراد - سبحانه - أن يكون ذلك مدخلا لبيان الأثر السيء للتعامل بالربا .
إذن فهذه مناسبة في أننا نجد آية الربا هنا وهي توضح الآثار السيئة للطمع في المال الزائد عن طريق غير مشروع ، والقرآن فيه الكثير من المواقف التي توضح آثاراً تبدو في ظاهرها غير مترابطة ، ولكن النظرة العميقة تؤكد الترابط .
وقلنا من قبل في قول الله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 238-239 ]
قد يقول أحد السطحيين : إن الحق سبحانه وتعالى كان يتكلم عن الطلاق قبل هاتين الآيتين فقال سبحانه :
(1/1179)
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 237 ]
ويترك الحق الحديث عن الطلاق ويأمر بالحفاظ على الصلاة بقوله الحكيم : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } .
وبعد ذلك يعود الحق لاستكمال حديث الطلاق والفراق بالموت . { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 240 ]
إنه يتكلم عن الطلاق ، والوفاة ، ثم ينزل بينهما آية الصلاة ، لماذا؟ ليتضح لنا أن المنهج الإسلامي منهج متكامل . إياك أن تقول : إن الطلاق غير الصلاة ، غير الوفاة ، أبداً ، إنه منهج متكامل . ولأنه - سبحانه وتعالى - يريد أن ينبهنا إلى أن الطلاق عملية تأتي والنفس فيها غضب وتأتي والزوج والزوجة وأهل الزوج وأهل الزوجة في كدر ، فيقول لهم المنهج : لو كنتم تحسنون الفهم لفزعتم إلى الصلاة حين تواجهكم هذه الأمور التي فيها كدر .
وساعة تكون في كدر قم وتوضأ وصَلِّ ، لأن النبي علمنا أنه إذا حَزَبه أمر قام إلى الصلاة ، فساعة تجد الجو المشحون بالتوتر بين الزوج والزوجة وأهلهما قل لهم : المسألة صارت أكبر من حيلنا ، فهيا نصل ليساعدنا الله على حل هذه المسائل الصعبة وأنا أتحدى ألا يوجد الله حلاً لمشكلة لجأ فيها المسلم إلى الصلاة قبلها .
وهكذا نفهم أن الحق قال : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } لأن محافظتكم عليها هي التي ستنهي كل الخلافات؛ لأن الله لايكون في بالكم ساعة ضيقكم وفي ساعة شدتكم فتستسلمون للضيق والشدة وتنسون الصلاة ، في الوقت الذي يكون فيه الإنسان أحوج ما يكون إلى الصلاة . إنك في وقت الضيق والشدة عليك أن تذهب إلى ربك ، وأقول هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إن الولد الذي يضربه أصحابه يذهب إلى أبيه ، كذلك زوجتك إذا أغضبتها تذهب إلى أهلها ، فكيف لا تذهب إلى ربك وقت شدتك وكربك؟ .
وهكذا نجد أن قوله الحق : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } جاء في المكان الصحيح ، وهكذا آية الربا ، جاءت في مكانها هنا وخصوصاً أنه تكلم عن الربا أولاً ، فتأتي الحادثة وسخونة الحدث وينزل هذا القرآن الكريم . كي يعرف كل من يريد مالاً زائداً على غير ما شرع الله أنّه سيأتي منه البلاء على نفسه وعلى غيره ، فالبلاء في أُحد شمل الجميع : الرماة وغير الرماة أيضا .
إذن فكل الدنيا تتعب عندما تخالف منهج الله ، والمال الزائد من غير ما شرع الله إن لم يترك فقد آذن الله من يأكله بحرب من الله ومن رسول الله .
(1/1180)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
والربا زيادة في المال ، فهل يؤكل؟ نعم؛ لأن كل المسائل المالية من أجل اللقمة التي تأكلها ، هذا هو الأصل . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من أصبح منكم آمناً في سِرْبِهِ مُعَافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا " .
ونعرف أنه عندما يكون الواحد منا في منطقة ليس فيها رغيف خبز ، فلن تنفعه ملكية جبل من الذهب . { لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } وقوله سبحانه : { أَضْعَافاً } و { مُّضَاعَفَةً } هو كلام اقتصادي على أحدث نظام ، فالأضعاف هي : الشيء الزائد بحيث إذا قارنته بالأصل صار الأصل ضعيفاً ، فعندما يكون أصل المال مائة - على سبيل المثال - وسيؤخذ عليها عشرون بالمائة كفائدة فيصبح المجموع مائة وعشرين . إذن فالمائة والعشرون تجعل المائة ضعيفة ، هذا هو معنى أضعاف .
فماذا عن معنى " مضاعفة "؟ إننا سنجد أن المائة والعشرين ستصبح رأس مال جديداً ، وعندما تمر سنة ستأخذ فائدة على المائة وعلى العشرين أيضا ، إذن فالأضعاف ضوعفت أيضاً ، وهذا ما يسمى بالربح المركب ، وهل معنى هذا أننا نأكله بغير أضعاف مضاعفة؟! لا؛ لأن الواقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هكذا .
وقد يقول لك واحد : أنا أفهم القرآن وأن المنهي هو الأضعاف المضاعفة ، فإذا لم تكن أضعافاً مضاعفة فهل يصح أن تأخذ ربحاً بسيطاً يتمثل في نسبة فائدة على أصل المال فقط؟ ولكن مثل هذا القائل نرده إلى قول الله : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 279 ]
إن هذا القول الحكيم يوضح أن التوبة تقتضي أن يعود الإنسان إلى حدود رأس ماله ولا يشوب ذلك ربح بسيط أو مركب . وعندما نجد كلمة { أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً } فهي قد جاءت فقط لبيان الواقع الذي كان سائداً في أيامها .
وبعد ذلك يقول الحق تذييلاً للآية : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ونقول دائماً ساعة نرى كلمة " اتقوا " يعني اجعلوا بينكم وبين الله وقاية ، وهل تكون الوقاية بينكم وبين الله بكل صفات جماله وجلاله؟ لا ، فالوقاية تكون مما يتعب ومما يؤلم ويؤذي ، إذن فاتقوا الله يعني : اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله من جبروت وقهر وانتقام وقاية ، وعندما يقول الحق : { واتقوا الله } فهي مثل قوله : { واتقوا الله } ، لأن النار جند من جنود صفات الجلال .
وعندما يقول الحق : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } نعرف أن كلمة " الفلاح " هذه تأتي لترغيب المؤمن في منهج الله ، وقد جاء الحق بها من الشيء المحس الذي نراه في كل وقت ، ونراه لأنه متعلق ببقاء حياتنا ، وهو الزرع والفلاحة ، أنت تحرث وتبذر وتروي ، وبعد ذلك تحصد .
إذن فهو يريد أن يوضح لك أن المتاعب التي في الحرث ، والمتاعب التي في البذر ، والمتاعب التي في السقى كلها متى ترى نتيجتها؟ أنت ترى النتيجة ساعة الحصاد ، فالفلاح يأخذ ( كيلتين ) من القمح من مخزنه كي يزرع ربع فدان ، ولا نقول له : أنت أنقصت المخزن؛ لأنه أنقص المخزن للزيادة ، ولذلك فالذي لم ينقص من مخزنه ولم يزرع ، يأتي يوم الحصاد يضع يده على خده نادماً ولا ينفع الندم حينئذ!
إن الحق يريد أن يقول لنا : إن المنهج وإن أتعبك ، وإن أخذ من حركتك شيئاً كثيراً إلا أنه سيعود عليك بالخير حسب نيتك وإقبالك على العمل ، ولقد ضرب لنا الله المثل في قوله :
(1/1181)
{ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ]
هذا أمر واضح ، حبة نأخذها منك فتنقص ما عندك ، لكنها تعطيك سبعمائة ، إذن فساعة تؤخذ منك الحبة لا تقل : إنك نقصت ، إنما قَدِّرْ أنك ستزيد قدر كذا . ويعطينا الله ذلك المثل في خلق من خلقه وهو الأرض ، الأرض الصماء ، أنت تعطيها حبة فتعطيك سبعمائة . فإذا كان خلق من خلق الله وهو الأرض يعطيك أضعاف أضعاف ما أعطيت . أفلا يعطيك رَبّ هذه الأرض أضعافاً مضاعفة؟ إنه قادر على أجزل العطاء ، هذا هو الفَلاحُ على حقيقته ، وبعد ذلك فإنه ساعة يتكلم عن الفلاح يقول لك : إنك لن تأخذ الفلاح فقط ولكنك تتقي النار أيضاً .
فيقول الحق سبحانه : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
(1/1182)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
إذن ففيه مسألتان : سلبٌ لمضرة ، وإيجابُ منفعة ، إنه يوجب لك منفعة الفلاح ويسلب منك مضرّة النار . ولذلك يقول تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ]
لأنه إذا زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ إن هذا هو الفوز الكبير ، وهذا السبب في أن ربنا سبحانه وتعالى ساعة السير على الصراط سيُرينا النار ونمرُّ عليها ، لماذا؟ كي نعرف كيف نجانا الإيمان من هذه ، وما الوسيلة كي نفلح ونتقي النار؟ إن الوسيلة هي اتباع منهج الله الذي جاء به على لسان رسوله : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
(1/1183)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
و " الرحمة " تتجلى في ألا يوقعك في المتعبة ، أما الشفاء فهو أن تقع في المتعبة ثم تزول عنك ، لذلك فنحن إذا ما أخذنا المنهج من البدء فسنأخذ الرحمة . { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ } [ الإسراء : 82 ]
إن الشفاء هو إزالة للذنب الذي تورطنا فيه ويكون القرآن علاجاً ، والرحمة تتجلى إذا ما أخذنا المنهج في البداية فلا تأتي لنا أية متاعب . ويقول الحق من بعد ذلك : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }
(1/1184)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
والسرعة - كما عرفنا - مقابلها العجلة ، إن السرعة هي : التقدم فيما ينبغي ، ومعنى أن تتقدم فيما ينبغي : أنك تجعل الحدث يأخذ زمناً أقل ، والمثال على ذلك عندما يسرع الإنسان بسيارته من القاهرة إلى الإسكندرية فهو يحاول أن يقطع المائتين والعشرة كيلو مترات في زمن أقل ، فبدلاً من أن تأخذ منه ثلاث ساعات في السيارة فهو يسرع كي تأخذ منه ساعتين . إذن فالسرعة هي : التقدم فيما ينبغي ، وهي محمودة ، وضدها : الإبطاء . فالسرعة محمودة ، والإبطاء مذموم .
لكن " العجلة " تقدم فيما لا ينبغي ، وهي مذمومة ، مقابلها " التأني " ، والتأني ممدوح ، إذن فالسرعة محمودة ، ومقابلها الإبطاء مذموم ، والعجلة مذمومة ، ومقابلها التأنّي ممدوح ، والمثل الشعبي يقول : في التأني السلامة وفي العجلة الندامة .
إن الحق يقول : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة ، لأنك لا تعرف كم ستبقى في الدنيا ، إياك أن تؤجل عملاً من أعمال الدين أو عملا من أعمال الخير؛ لأنك لا تعرف أتبقى له أم لا . فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة ، هذا هو المعنى الذي يأتي فيه الأثر الشائع " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً " .
الناس تفهمها فهماً يؤدي مطلوباتهم النفسية بمعنى : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً : يعني اجمع الكثير من الدنيا كي يَكفيك حتى يوم القيامة ، وليس هذا فهماً صحيحاً لكن الصحيح هو أن ما فاتك من أمر الدنيا اليوم فاعتبر أنك ستعيش طويلاً وتأخذه غداً ، أمَّا أمر الآخرة فعليك أن تعجل به .
{ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } ونحن نعرف أن المساحات لها طولّ وعرض ، لأن الذي طوله كعرضه يكون مربعاً ، إنما الذي عرضه أقل من طوله فنحن نسميه " مستطيلا " ، وحين يقول الحق { عَرْضُهَا السماوات والأرض } نعرف أن العرض هو أقل البعدين ، أي أنها أوسع مما نراه ، فكأنه شبّه البعد الأقل في الجنة بأوسع البعد لما نعرفه وهو السموات والأرض ملتصقة مع بعضها بعضا فأعطانا أوسع مَمَّا نراه . فإذا كان عرضها أوسع ممَّا نعرف فما طولها؟ أنه حد لا نعرفه نحن .
قد يقول قائل لماذا بيَّن عرضها فقال : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } . فأين طولها إذن؟ ونقول : وهل السموات والأرض هي الكون فقط؟ إنّه سبحانه يقول : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } [ البقرة : 255 ]
ويقول صلى الله عليه وسلم : " ما السموات والأرض وما بينهما إلا كحلقة ألقاها ملك في فلاة " . أليست هذه من ملك الله؟
وهكذا نرى أن هذه الجنة قد أُعدت للمتقين ، ومعنى " أُعدت " أي هيئت وصُنعت وانتهت المسألة! يؤكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول :
(1/1185)
" عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت " .
لماذا؟ لأن الإخبار بالحدث قد يعني أن الحدث غير موجود وسيوجد من بعد ذلك ، ولكن الوجود للحدث ينفي أن لا يوجد؛ لأن وجوده صار واقعا ، فعندما يقول : " أُعدت " فمعناها أمر قد انتهى الحق من إعداده ، ولن يأخذ من خامات الدنيا وينتظر إلى أن ترتقي الدنيا عندكم ويأخذ وسائل وموادّ مما ارتقيتم ليعد بها الجنة ، لا .
لقد أخبر سبحانه عنها فقال : " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ، وأعد سبحانه الجنة كلها ب " كن " ، فعندما يقول : " أُعدت " تكون مسألة مفروغاً منها . وما دامت مسألة مفروغاً منها إذن فالمصير إليها أو إلى مقابلها مفروغ منه ، والجنة أُعدت للمتقين ، فمن هم المتقون؟ .
(1/1186)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
هذه بعض من صفات المتقين { والكاظمين الغيظ } لأن المعركة - معركة أُحد - ستعطينا هذه الصورة أيضاً . فحمزة وهو سيد الشهداء وعم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل . وليته يُقتل فقط ولكنه مُثِّل به ، وأُخِذ بضع منه وهو كبد فلاكته " هند " ، وهذا أمر أكثر من القتل . وهذه معناها ضغن دنيء .
وحينما جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مقتل حمزة وقالوا له : إن " هنداً " أخذت كبده ومضغتها ثم لفظتها ، إذ جعلها الله عَصِيَّة عليها ، قال : " ما كان الله ليعذب بعضاً من حمزة في النار " كأنها ستذهب إلى النار ، ولو أكلتها لتمثلت في جسمها خلايا ، وعندما تدخل النار فكأن بعضاً من حمزة دخل النار ، فلا بد أن ربها يجعل نفسها تجيش وتتهيأ للقيء وتلفظ تلك البضعة التي لاكتها من كبد سيد الشهداء .
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة بأنها أفظع ما لقي . إنها مقتل حمزة فقال : " لئن أظفرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم " .
وهنا جاء كظم الغيظ ليأخذ ذروة الحدث وقمته عند رسول الله في واحد من أحب البشر إليه وفي أكبر حادث أغضبه ، وينزل قول الحق : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ]
كي نعرف أن ربنا - جل جلاله - لا ينفعل لأحد؛ لأن الانفعال من الأغيار ، وهذا رسوله فأنزل - سبحانه - عليه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ويأتي هنا الأمر بكظم الغيظ ، وهو سبحانه يأتي بهذا الأمر في مسألة تخص الرسول وفي حدث " أٌحد " . وبعد ذلك يُشيعها قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب . وتكون مع الناس دون رسول الله؛ لأنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ والكاظمين الغيظ } ونعرف أن كل الأمور المعنوية مأخوذة من الحسّيات . وأصل الكظم أن تملأ القِرْبة ، والقِرَب - كما نعرف - كان يحملها " السقا " في الماضي ، وكانت وعاء نقل الماء عند العرب ، وهي من جلد مدبوغ ، فإذا مُلئت القربة بالماء شُدّ على رأسها أي رٌُبط رأسها ربطاً محكماً بحيث لا يخرج شيء مَمّا فيها ، ويقال عن هذا الفعل : " كظم القربة " أي ملأها وربطها ، والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم وتربط بإحكام كي لا يخرج منها شيء .
كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية ، إنه يهيجها ، والله لا يمنع الهياج في النفس لأنه انفعال طبيعي ، والانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنساني .
(1/1187)
إنما هو يريدها لأشياء مثلا : الغريزة الجنسية ، هو يريدها لبقاء النوع ، ويضع من التشريع ما يهذبها فقط ، وكذلك انفعال الغيظ ، إن الإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له ، لا ، هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للأحداث أيضاً ، لكن الانفعال المناسب للحدث ، الانفعال السامي الانفعال المثمر ، ولا يأتي بالانفعال المدمر .
لذلك يقول الحق : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } [ الفتح : 29 ]
فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدة ، ولا على الرحمة ، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان ، فالحق سبحانه يقول : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ]
وهل هناك من هو ذليلٌ عزيزٌ معاً؟ نقول : المنهج الإيماني يجعل المؤمن هكذا ، ذلة على أخيه المؤمن وعزة على الكافر . إذن فالإسلام لا يصب المؤمنين في قالب كي لا ينفعلوا في الأحداث .
ومثال آخر : ألم ينفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم؟ لقد انفعل وبكى وحزن . إن الله لا يريد المؤمن من حجر . بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للأحداث ولكن يجعل الانفعال على قدر الحدث ، ولذلك قال سيدنا رسول الله عند فراق ابنه : " إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
ولا نقول لحظة الانفعال ما يسخط الرب . بل انفعال موجّه ، والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج دفاعاً عن منهج الله ، ولكن على المؤمن أن يكظمه . . أي لا يجعل الانفعال غالبا على حسن السلوك والتدبير . والكظم - كما قلنا - مأخوذ من أمر محس . مثال ذلك : نحن نعرف أن الإبل أو العجماوات التي لها معدتان ، واحدة يُختزن فيها الطعام ، وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلاً ، إنه يجتر .
ومعنى : يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الإضافية ويمضغه ، هذا هو الاجترار . فإذا امتنع الجمل عن الاجترار يقال : إن الجمل قد كظم . والحق سبحانه يقول : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس } .
وقلنا : إن هناك فرقاً بين الانفعال في ذاته ، فقد يبقى في النفس وتكظمه ، ومعنى كظم الانفعال : أن الإنسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع الانفعالي ، ولكنّه يكبح جماح هذا الانفعال . أما العفو فهو أن تخرج الغيظ من قلبك ، وكأن الأمر لم يحدث ، وهذه هي مرتبة ثانية . أما المرتبة الثالثة فهي : أن تنفعل انفعالاً مقابلاً؛ أي أنك لا تقف عند هذا الحد فحسب ، بل إنك تستبدل بالإساءة الإحسان إلى من أساء إليك . إذن فهناك ثلاث مراحل : الأولى : كظم الغيظ . والثانية : العفو . والثالثة : أن يتجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسئ إليه .
وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين؛ لأنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل ، فالمقابل لك أيضاً لن يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك ، ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب ، وقد يظل الغيظ نامياً وربما ورّث أجيالا من أبناء وأحفاد .
(1/1188)
لكن إذا ما كظمت الغيظ ، فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة .
{ والعافين عَنِ الناس } مأخوذة من " عفّى على الأثر " والأثر ما يتركه سير الناس في الصحراء مثلا ، ثم تأتي الريح لتمحو هذا الأثر . ويقول الحق في تذييل الآية : { والله يُحِبُّ المحسنين } .
وقلنا في فلسفة ذلك : إننا جميعاً صنعة الله ، والخلق كلهم عيال الله . وما دمنا كلنا عيال الله فعندما يُسيء واحد لآخر فالله يقف في صف الذي أسيء إليه ، ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه أشياء كثيرة . وهكذا يكون المُساء إليه قد كسب . أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء؟ .
لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب؛ فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوٍّا . لكن على الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل الله في جانبك؛ فالذي نالك من إيذائه هو أكثر مما سلبك هذا الإيذاء . هنا يجب أن تكون حسن الإيمان وتعطي المسيء إليك حسنة .
ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله . . . }
(1/1189)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
والفاحشة هي : الذنب الفظيع . فهل معنى ذلك أن الرماة في غزوة أحد حين تركوا مواقعهم ، قد خرجوا من الإيمان؟ لا ، إنها زلة فقط ، لكنها اعتبرت كبيرة من الكبائر لمن أشار على المؤمنين أن ينزلوا ، واعتبرت صغيرة لمن حُرّض - بالبناء للمفعول - على أن ينزل من موقعه .
إذن فهو قول مناسب : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله } وجاء الحق هنا ب " ذكروا الله " كتنبيه لنا إلى أن من يفعل الفاحشة أو يظلم نفسه هو من نسي الله ، فلحظة فعل الفاحشة أو ظلم النفس لا يكون الله على بال الإنسان الفاعل للفاحشة أو على بال من ظلم نفسه ، والذي يُجرِّئ الإنسان على المعصية ليحقق لنفسه شهوة ، أنَّه لم ير الله ولم ير جزاءه وعقابه في الآخرة ماثلا أمامه ، ولو تصور هذا لا متنع عن الفاحشة .
وكذلك الذي يهمل في الطاعة أيضاً ، لم يذكر الله وعطاءه للمتقين . ولو ذكر الله وعطاءه للمتقين لما تكاسل عن طاعة الله . ولذلك يقول الحق : { ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } فمن يستغفر لذنبه فقد ذكر الله .
وموقف العلماء من الفاحشة فيه اختلاف . بعض العلماء قال : إنها الكبيرة من الكبائر ، وظلم النفس صغيرة من الصغائر . وقال بعض آخر من العلماء : إن الفاحشة هي الزنا؛ لأن القرآن نص عليها ، وما دون ذلك هو الصغيرة .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا كبيرة مع الاستغفار . ولا صغيرة مع الإصرار " .
فلا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول : هذه صغيرة وتلك صغيرة لأن الصغيرة مع الصغيرة تصير كبيرة . وحين ننظر إلى قول الله تعالى : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه أيضا لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة ، وأبقى على نفسه عذاباً خالداً .
ولماذا لم يقل الحق إذن : والذين ظلموا أنفسهم فقط؟ أي يكون العطف ب " الواو " لا ب " أو "؛ لأن الحق يريد أن يوضح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس .
لأن الذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة أو متعة ولو عاجلة ، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ولا يعود عليه شيء من النفع؛ فالذي يشهد الزور - على سبيل المثال - إنه لا يحقق لنفسه النفع ، ولكن النفع يعود للمشهود له زوراً . إن شاهد الزور يظلم نفسه لأنه لبّى حاجة عاجلة لغيره ، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة . أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة فهو قد أخذ متعة في الدنيا ، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة .
لكن الظالم لنفسه لا يفيد نفسه ، بل يضر نفسه؛ فالذي هو شر أن تبيع دينك بدنياك؛ إنك في هذه الحالة قد تأخذ متعة من الدنيا وأمد الدنيا قليل .
(1/1190)
والحق لم ينه عن متاع الدنيا ، ولكنه قال عنه : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } . وهناك من يبيع دينه بدنيا غيره ، وهو لا يأخذ شيئاً ويظلم نفسه .
ويقول الحق : { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } . ومعنى " ذنب " هو مخالفة لتوجيه منهج . فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر . وجاء نهي من المنهج فلم يُلتزم به . ولا يسمى ذَنْباً إلا حين يعرفنا الله الذنوب ، ذلك هو تقنين السماء . وفي مجال التقنين البشري نقول : لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم .
وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة؛ حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها ، ولا تكون هناك جريمة إلا بنص عليها . أي أنه يتم النص على الجريمة قبل أن يٌنص على العقوبة ، فما بالنا بمنهج الله؟ إنه يعرفنا الذنوب أولاً ، وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب .
ولننتبه إلى قول الحق : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إذن فالاستغفار ليس أن تردف الذنب بقولك : أستغفر الله لا . إن على الإنسان أن يردف الذنب بقوله : أستغفر الله وأن يصر على ألا يفعل الذنب أبداً .
وليس معنى هذا ألا يقع الذنب منك مرة أخرى؛ إن الذنب قد يقع منك ، ولكن ساعة أن تستغفر تصر على عدم العودة ، إن الذنب قد يقع ، ولكن بشرط ألا يكون بنيّة مٌسبقة ، وتقول لنفسك : سأرتكب الذنب ، وأستغفر لنفسي بعد ذلك . إنك بهذا تكون كالمستهزئ بربّك ، فضلا على أنك قد تصنع الذنب ولا يمهلك الله لتستغفر . قوله الحق : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يوضح لنا أنه لا عقوبة إلا تجريم إلا بنص .
إن الحق يعلمنا يعرفنا أولاً ما هو الذنب؟ وما هو العقاب؟ وكيفية الاستغفار؟ ويقول الحق بعد ذلك : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين }
(1/1191)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
{ أولئك } إشارة إلى ما تقدم في قوله سبحانه : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ]
مع بيان أوصاف المتقين في قوله : { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 134 ]
إنهم ينفقون في السراء نفقة الشكر . وينفقون في الضراء نفقة الذكر والتضرع ، لأن النعمة حين توجد بسرّاء تحتاج إلى شكر لهذه النعمة ، والنعمة حين تنفق في الضراء تقتضي ضراعة إلى الله ليزحزح عن المنفق آثار النقمة والضراء . إذن فهم ينفقون سواء أكانوا في عسر ، أم كانوا في يسر .
إن كثيراً من الناس ينسيهم اليسر أن الله أنعم عليهم ويظنون أن النعمة قد جاءت عن علم منهم . وبعض الناس تلهيهم النعمة عن أن يحسوا بآلام الغير ويشغلوا بآلام أنفسهم . لكن المؤمنين لا ينسون ربهم أبداً . وأمره بالإنفاق في العسر واليسر . ولذلك قولوا : فلان لا يقبض يده في يوم العرس ولا في يوم الحبس .
وتتتابع أوصاف المتقين : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 135 ]
وفي ذلك لون من تطمين المؤمن على أغيار نفسه ، وعلى أنه عندما يستجيب مرة لنزغات الشيطان ، فهذه لا تخرجه من حظيرة التقوى ، لأن الله جعل ذلك من أوصاف المتقين . فالفاحشة التي تكون من نزغ الشيطان وذكر العباد لله بعدها ، واستغفارهم مع الإصرار على عدم العودة ، لا تخرجهم أبداً عن وصفهم بأنهم متقون . لأن الحق هو الغفور : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } .
إنهم قد أُخبروا بذلك ، فلم يجرم الحق أحداً إلا بنص ، ولم يعاقب إلا بجريمة . وقول الحق سبحانه : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } هو إشارة لكل ما سبق . ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل للعاملين بهذا العمل من التقوى قوسين : القوس الأول الذي ابتدأ به هو قوله الحق : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .
والقوس الثاني هو الذي أنهى الأمر : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
فالجنة الأولى التي ذكرها الله إلهاباً للعواطف النفسية لتقبل على ما يؤدي لهذه الجنة ، وبعد ذلك ذكر الأوصاف والأصناف وجعل الجنة أجراً . { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } .
والأجر عادة هو ما يأخذه العامل نتيجة العمل . والأجر حين يأخذه العامل نتيجة لعمل يتوقف على تقييم العمل عند صاحب العمل نفسه . فزيادة الأجر ونقصه تقدير من صاحب العمل ، وأيضاً تقدير للعامل . فإن طلب أصحاب عمل متعددون عاملاً محدداً فله أن يطلب زيادة وإن لم يطلبه أحد فهو يقبل أول عرض من الأجر نظير أداء العمل .
(1/1192)
إذن فالمسألة مسألة حاجة من صاحب عمل ، أو حاجة من عامل ، وحين ننظر إلى الصفقة في الآخرة نجد أنها بين إله لا يحتاج إلى عملك . ومع أنه لا يحتاج إلى عملك جعل لعملك أجراً .
ما هذه المسألة؟ هو ليس محتاجاً إلى عملك ، ويعطيك أجراً على عملك ويقول لك : إن هذا الأجر هو الحد الأدنى ، لكن لي أنا أن أضاعف هذا الأجر ، ولي أن أتفضل عليك بما فوق الأجر . فكم مرحلة إذن؟ إنها ثلاث مراحل ، مع أنه سبحانه لا يستفيد من هذا العمل إلا أنه وضع ثلاث مراتب للأجر .
إذن فالحاجة من جهة واحدة هي جهتك أنت أيها العبد ، أنت تحتاج إلى خالقك وهو لا يحتاج إليك ، ومع ذلك يعطيك الإله الحق الأجر لا على قدر العمل فقط ، ولكن فوق ذلك بكثير . إن الذي تعمل له يوماً من العباد قد يعطيك - على سبيل المثال - ما يكفيك قوت يوم ، أو قوت يوم ونصف يوم . ولكنك حين تأخذ الأجر من يد الله فإنه يعطيك أجراً لا تنتهي مدة إنفاقه؛ فهو القائل : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } .
هذا هو الأجر الذي يقال فيه : نعم هذا الأجر؛ لأنه أجر لا يتناسب مع مجهودي ، بل يفوق كل ما بذلت من جهد وقادم من جهة لا تحتاج إلى هذا المجهود .
إنه سبحانه متفضل على أولاً . ومتفضل على أخيراً ، ليدل الحق سبحانه وتعالى على أنك - أيها العبد - حين تعمل الطاعة يَعود أثر الطاعة على نفسك ومع ذلك فهو يعطيك أجراً على ما فعلت .
وأوضحنا أن هذه الآيات جاءت بين آيات معركة أُحُد إرشاداً واستثمارا للأحداث التي وقعت في أُحُد ، حتى إذا عاش الإنسان في تصور الأحداث فالأحداث تكون ساخنة ، ويكون التقاط العبرة منها قريباً إلى النفس؛ لأن واقعاً يُحتّمها ويؤكدها . والحق سبحانه وتعالى يقول من بعد ذلك : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا . . . }
(1/1193)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
أي أنتم لستم بدعاً في هذه المسألة . و " خلت " تعني " مضت " ، أي حصلت واقعا في أزمان سبقت هذا الكلام . وعادة فالأخبار التي يتكلم بها الإنسان مرة تكون خبراً يحتمل الصدق والكذب ، لكن هذه المسألة لا تحتاج إلى صدق أو كذب؛ لأن الواقع ليس أمراً مستقبلاً ، ولكنه أمر قد سبق ، فبمجرد أن يجيء الكلام لا ننتظر واقعا يؤكد صدق الكلام ، لأنَّ الواقع قد حدث من قبل ، فيقول سبحانه : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } .
والسنن هي الطرق التي يصرف الله بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للإنسان - السيد في هذا الكون - ما يحقق مصلحته ، ومصلحة الإنسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة الإنسان المختار كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل الإنسان .
وقد قلنا إن في هذا الكون تسخيراً : أي لا إرادة له ، لا إرادة للجماد ولا للنبات . ولا للحيوان في أن يفعل الخير لك أو لا تفعل . فلم يحدث أن جاء إنسان لأرض صالحة للزراعة ، ووضع فيها بذوراً ، فلم تنبت الأرض وقالت له : لن أعطيك ، ولم تقل الأرض يوماً عن إنسان : إنه كافر فلن أعطى له الرزق .
إن الأرض مسخرة لخدمة الإنسان ما دام يأخذ بأسبابها؛ فهي تؤدي له . والحيوانات أيضا مسخرة لخدمتك لا باختيارك ، ولا بقدرة تسخيرك لها ، ولكن بتسخير الله لها أن تفعل .
وقلنا : إن الإنسان قد تكون عنده مطية ، مثل بعض الفلاحين ، فمرة يجعلها صاحبها تحمل أكوام السباخ من روث الحيوان وفضلاته ، وبعد ذلك يلوح له أن يخرجها من عملها هذا ويجعلها ركوبة له ، ويدللها بالأشياء التي تعرفونها من لجام جميل وسرج أجمل ، ويرفهها في حياتها وينظفها .
هل في الحالة الأولى امتنعت المطية عن حمل السباخ أو امتنعت في الحالة الثانية عن حمل الإنسان؟ لا؛ أنت تسيرها مثلما تريد أنت ، فليس لها اختيار . ولا نبات له اختيار ، ولا جماد له اختيار ، ولا الحيوان أيضاً ، إنما الاختيار للإنسان .
وقد حكم الله اختيار الإنسان بمقادير يكون الإنسان مسخراً فيها حتى لا يظن أنه استقل بالسيادة فأصبحت له قدرة ذاتية . والحق يحكم الإنسان بأشياء يجعلها قهرية على الإنسان كي يظل في إطار التسخير . ويترك الحق للإنسان أشياء ليبقى له فيها الاختيار . فإذا ما نظرنا إلى الكون وجدنا أن ما لا اختيار فيه لشيء يسير على أحداث نظام ولا تصادم فيه ، والذي فيه اختيار للإنسان هو الذي يختل ، لماذا؟ .
لأن الإنسان قد يختار على غير منهج الذي خَلَق وهو الله - سبحانه وتعالى - فإذا أردت أن يستقيم لك الأمر أيها المختار فاجعل اختيارك في إطار منهج الله .
(1/1194)
وحين تجعل اختيارك في إطار منهج الله تكون قد أصبحت سويًّا كبقيّة الأجناس وتسير الأمور معك بانتظام .
وعندما تقارن بين شيء للإنسان فيه اختيار وعمل ، وشيء لا اختيار للإنسان فيه ولا عمل ، فأنت تجد أن الشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه مستقيم الأمر ، ولا خلاف فيه أبداً ، أما الشيء الذي فيه اختيار للإنسان ، فأنت تجد فيه الخلاف .
مثال ذلك : لو نظرنا إلى وسيلة مواصلات من الحيوانات كالجمال أو الخيل أو الحمير ، فإننا نجدها تسير في طريق واحد ، وتتقابل جيئة وذهابا فلا يحدث تصادم بين حمار وحمار ، ولا قتل لراكب أحد الحمارين .
إن الحيوانات يتفادى ويتحامى بعضها بعضاً حتى لو كان الراكب نائماً . ومهما كان الطريق مزدحماً فالحيوانات لا تتصادم؛ لأن ذلك من نطاق تسخير الحق للحيوان .
ولننظر إلى الإنسان حين تدخَّل ليصنع وسيلة مواصلات ، صنع الإنسان ألوان السيارات ، يقودها الإنسان ، ومع أن الإنسان هو الذي يقود السيارات ، وبرغم ذلك بدأت تأتي المخالفات والمصادمات والحوادث؛ لأن للإنسان يداً في ذلك .
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يدلك على أن ما خلق مسخراً بأمر الله وتوجيهه لا يتأتى منه فساد أبداً ، إنما يتأتى الفساد مما لك فيه اختيار ، فحاول أن تختار في إطار منهج الله . فعندما يقول الحق لك : " افعل كذا ولا تفعل كذا " فعليك أن تصدق وتطيع؛ لأن الحق سبحانه عندما سخر الأشياء للإنسان سارت بانتظام رائع ، وأنت أيها العبد عندما تطيع الله فإن الأمور في حياتك تمشي بيسر .
ولذلك قلنا : إن الناس لم تشتك قط أزمة شمس ولم يشتكوا أزمة هواء ، لكن لماذا اشتكوا أزمة طعام؟ إن الإنسان له دخل في إنتاج الطعام . فما للإنسان فيه دخل يجب أن يحكمه قانون التكليف من الله : " افعل كذا ولا تفعل كذا " .
الكون مخلوق بحق . ومعنى أنه مخلوق بحق أن كل شيء في الوجود يؤدي مهمته كما أرادها الله ، وكما سُخِّر من أجله إذا ما قام الإنسان بتنفيذ التكليف فكل شيء يسير بحق . وإن ترك الإنسان التكليف وأخذ باختياره فإنه يصير إلى باطل ونتج ما هو باطل ، والكون مبني على الحق . { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الدخان : 39 ] إن الحق جعل للكون قضايا ثابتة ، فلا شيء يعتدي على شيء آخر أبداً . واختيار الإنسان هو الذي يأتي بمقابل الحق وهو الباطل ، ولذلك يصون الله الكون بأن يبين أن الحق يصطدم بالباطل ، والباطل يصطدم بالحق لكن الحق يجيء ويبقى ، والباطل يزهق ويزول ، ويظهر الله لنا ذلك أمام أعيننا يقول تعالى : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء : 81 ]
إذن فقوله سبحانه : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } يعني : اعتبروا بما سبقكم وانظروا إلى اصطدام الباطل بالحق ، أدام وبقى اصطدام الباطل بالحق؟ لا؛ لأن الباطل كان زهوقا .
(1/1195)
ولذلك نحن نرى أمثلة عملية لذلك لا أقول في مواكب الناس بعضهم مع بعض ، ولكن في موكب الباطل مع حق السماء . وحق السماء يمثله الرسل والمناهج التي جاءت من عند الله وكل حق جاء من السماء وجاء من مناهج الله قابلة قوم مبطلون .
لماذا؟ لأن السماء دائماً لا تتدخل إلا حين يشيع الفساد ، وما دام الفساد يشيع فإن هناك طائفة منتفعة بالفساد ، وهذه الطائفة المنتفعة بالفساد وبالباطل تدافع عنه وبعد ذلك يأتي موكب السماء ليصادم هذا الباطل والفئة المنتصرة للباطل ، فتنشأ معركة ، فقال الحق حينئذ : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } . قالها الحق لنعرف أن الباطل زهوق ، وأن كل معارك أهل الأرض مع منهج السماء قد انتصر فيها الحق . ولذلك تأتي سورة العنكبوت لتبين لنا ذلك ، بداية من قوله سبحانه : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ العنكبوت : 36-37 ]
هذه هي الصورة الأولى ، وتأتي الصورة الثانية : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [ العنكبوت : 38 ]
إذن فانظروا إلى مساكنهم الباقية لتدلكم على ما حدث لهم . والصورة الثالثة : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [ العنكبوت : 39 ]
وساعة تسمع { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } . أي كأن هناك حاجة تلاحقهم ، والذي يلاحقه شيء فإنه يحاول أن يسبقه ، لكنهم لا يستطيعون . وتأتي السنن واضحة بعد ذلك : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ]
إذن فصراع الحق والباطل قد تقدم ووقع في أمم قد سبقتكم وبقيت لها مساكن ، فمن شاء أن يذهب إليها ليتأكد فليذهب ، ولا تزال مدائن صالح ، ولا تزال هناك آثار عاد ، وكل مكان فيه أثر من الآثار . ولذلك يوضح الحق : فإن كنتم تريدون التأكد من ذلك فأنا قد أخبرت ، ومن آمن بي فليصدق خبري ، ولغير المؤمن ولمن يريد اطمئنان قلبه يقول سبحانه : { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } [ النحل : 36 ]
إن الحق سبحانه وتعالى يمثل صراع الحق - وهو الشيء الثابت - مع الباطل ، وهذه القضية موجودة حتى فيما لا اختيار له . ويصنعها الحق فيهم ، صراعا بين حق وباطل فيما لا اختيار له لمصلحة الإنسان أيضاً . وقد جعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل في أشياء ليست من الإنسان ولكنها تخدم الإنسان ، وهذه نراها في الأمور المادية . أما في القيم فالحق يقول : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال }
(1/1196)
[ الرعد : 17 ]
إنه سبحانه أنزل من السماء ماء فسال في الأودية ، والأودية كما نعرفها هي المكان المنحصر بين جبلين ، فإذا نزلت الأمطار على الأعالي فإنها تنحدر إلى الأسفل وتسيل في الأودية . والوديان هي محل الخضب؛ لأن الغرين والطمى الذي ينزل من الجبال مع مياه المطر ويترسب ويصير تراباً خصباً يخرج منه الزرع . وكل وادٍ من الوديان يأخذ على قدر سعته ، وباقي المياه يبحث له عن مسلك آخر ، ولو إلى باطن الأرض ، وذلك كان مظهراً مألوفاً في الجزيرة العربية فعندما يأتي السيل فإن الأودية تمتلئ ماءً ، كل وادٍ يأخذ على قدر سعته . { فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } ونحن نراه في الحقول ونسميه " الريم " الذي يطفو على سطح الماء ، ما الذي يحدث لهذا الريم؟ إنه يتجمع ويطفو ثم يركن ويميل جانباً . ألم تر القدْر بها لحم تفور؟ . إننا نجد الريم قد طفا على السطح . وهذا الريم فيه أشياء خارجة عن عنصر الشيء الموجود في القدر ، فإذا ما جاءت حرارة النار أخرجته على السطح ، فإما أن يخرجه الإنسان خارج القدر ، وإما أن يتركه فيتجمد على الجوانب وينتهي .
ومن أين جاء هذا الزبد؟ إنه يأتي من الأرض والأرض فيها أشياء كثيرة ، كجذور النبات وبقايا ما حمله الهواء وتتخلل هذه الأشياء مسام الأرض ، هذه الأشياء عندما توجد في المسام ، وتأتي الجذور الصغيرة لتنمو فتعوقها عن أخذ غذائها؛ لذلك فعندما ينزل الحق الماء من السماء فإن الماء يجعل هذه الأشياء تطفو على السطح؛ ليجعل هناك منفذاً للجذور الصغيرة .
وينزل الله المطر ليغسل التربة كلها ، ويجعل هذه الأشياء تطفو؛ لأنها غثاء ، ويطفو الغثاء . وساعة أن يطفو الغثاء فإياك أن تفهم أن ذلك علو ، إنه علو إلى انتهاء ، كذلك فورة الباطل .
إياك أنن تظن أن الزَبَد له فائدة ، أو أنَّ ارتفاع الريم كان علواً على ما في القدر ، لا . إنه تطهيرٌ لما في القدر أو الإناء ، ولهذا قال الحق : { فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } .
وإن لم تذهب آثار الريم بحركة الماء التموجية فإنها ستذهب بطريقة أو بأخرى . ولننظر إلى الأشياء القذرة التي تلقي في البحر نجد أنها بعد مدة قد خرجت إلى الشاطئ . { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ]
إنها تخرج على الشاطيء ويجمعها المكلفون بتنظيف الشاطئ . وإلا كيف تتم صيانة الماء؟ إنه سبحانه يجعل الماء ينظف نفسه بحركته الذاتية . إذن فالماء عندما ينزل سيلاً ، فإنه ينقي التربة من العوائق التي تعوق غذاء الجذيرات الصغيرة ، وقد لا يكتفي بعضنا بهذا المثل ، فيضرب لنا الله مثلاً آخر : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض }
(1/1197)
[ الرعد : 17 ]
ونحن نرى هذه الحكاية عندما يضعون أي معدن في النار ، فإن المعدن ينصهر ويصير كالعجينة وتخرج منه فقاقيع ونحن نسميها خبث المعدن وعندما نخرج الخبث من المعدن فانه يصير قوياً إذن فالنار قد صهرت المعدن ، وأخرجت منه الخبث الضار فيه ، أو الذي يجعله لا يؤدي مهمته بكفاءة عالية ، فأنا قد أصنع من الحديد درعاً قوية أو أريد أن أستخرج منه الصلب ، وهذه العمليات معناها أننا نصْهر الحديد بالنار لنزيل خبثه ليزداد قوة . وكذلك الذهب والفضة ساعة نريد أن نخلصهما من هذه الآثار فإننا نصهرهما لنخرج منهما الأشياء الخارجة عنهما أي التي تختلط بهما وتشوبهما وهي ليست منهما .
لماذا إذن يا ربيّ هذا التمثيل الحسي في المياه؟ والحلية التي لا تؤدي ضرورة ، والمتاع وهو الذي يؤدي ضرورة؟ إنه سبحانه يقول : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } .
إن الحق كالماء ، والحق كالنار ، والماء يحمل الزبد الرابي بعيداً عن مسام الأرض ، والنار تخرج الزبد والخَبث من المعادن ، وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة لنا ، كذلك يضرب الله الحق والباطل : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً } .
وجفاءً أي مطروحاً مرمياً ، { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض } . ذلك هو صراع الحق والباطل في المبادئ والقيم ويصوره الله في الأمور المادية . ومن العجيب أنه يصوره بمتناقضين ولكنهما متناقضان ويؤديان مهمة واحدة ، ماء ونار ، فإياك حين ترى شيئاً يناقض شيئاً أن تقول : هذا يناقض ذاك ، لا . لأن هذا الشيء مطلوب لمهمة ، وذاك الشيء مطلوب لمهمة أخرى .
إذن فقول الحق سبحانه : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } هو لفت لنا إلى صراع الحق مع الباطل ، وأن الإنسان قد يرى الباطل مرة وله فورة وعلو ، ونقول : هذا إلى جُفاء . وهذه سنة من سنن الحياة . وإن أردتم أن تتأكدوا منهما ، فالتفتوا إلى دقة قول الحق تعالى :
{ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } .
وهنا ملحظ عام ، وملحظ خاص ، الملحظ العام : أننا نفهم أن المقصود بذلك السير على الأرض ، وتلك هي حدود رؤيتنا ، لكن حين يتكلم الله فرؤية الله أشمل فهو الخالق لهذا الكون ، ونحن ما زلنا نجهل جزيئات في هذا الكون ، ولم نعرف بعضها إلا أخيراً ، وخالق الكون هو الذي يعلم كل الخبايا .
نحن نقول : إننا نسير على الأرض؛ لأننا كنا نفهم أن هذه الأرض ليس عليها إلاّ نحن فقط ، ثم تبين لنا - بعد أن أخذ العلم حظه - أنه لو لا وجود الهواء في الأرض لما صلحت للحياة . ولذلك فعندما تدور الأرض . فالهواء الذي حولها يدور معها ويسمونه الغلاف الجوي إذن فالغلاف الجوي جزء من الأرض وله امتداد كبير ، فالإنسان عندما يسير فإنه يسير في الأرض ، أما الذي يسير على الأرض فهو الذي يسير فوق الغلاف الجوي ، أما السائر على اليابسة ، والغلاف الجوي ما زال فوقه فهو يسير في الأرض لا على الأرض .
(1/1198)
وما دامت المسألة هي سنن تقدمت ، ويريد الله منا أن نعتبر بالسنن المتقدمة ، لذلك يقول لنا : { فَسِيرُواْ فِي الأرض } نسير بماذا؟ . إما أن نسير بالانتقال ، أو نسير بالأفكار؛ لأن الإنسان قد لا يملك القدرة على السير ويترك هذه المهمة للرحالة ، والرحالة - مثلاً - هم الذين ذهبوا إلى جنوب الجزيرة ، ورأوا وادي الأحقاف ووجدوا أن عاصفة رمل واحدة تطمر قافلة بتمامها .
إذن ففيه عواصف وارت الكثير من الأشياء ، فعاصفة واحدة تطمر قافلة . فكم من العواصف قد هبت على مرّ هذه القرون؟ والحق سبحانه يخبرنا بإرم ذات العماد فيقول : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [ الفجر : 6-13 ] .
إنه سبحانه يخبرنا أن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد أي متفوقة على حضارة مصر القديمة . وهي عجيبة وفيها أكثر من عجيبة فأين هي الآن؟ .
وما دامت الرمال بعاصفة واحدة - كما قلنا - تطمر قافلة ، فكم عاصفة مرت على هذه البلاد؟ . ولذلك نجد أننا لا نزال جميعاً إلى الآن حين نريد أن ننقب عن الآثار فلا بد أن نحفر تحت الأرض . لماذا هذا الحفر وقد كانت هذه الآثار فوق الأرض؟ لقد غطتها العواصف الرملية .
والمثال على ذلك : أنَّك تغيب عن بيتك شهراً واحداً وتعود لتجد من التراب الناعم ما يغطي أرض البيت على الرغم من إغلاق النوافذ . فماذا تجد من حجم التراب لو غبت عن بيتك عاماً ، أو عامين ، أو ثلاثة أعوام ، رغم إحكام وإغلاق النوافذ والفتحات بالمطاط وخلافه؟ ولكن التراب الناعم يتسرب ويغطي الأثاث والأرض . وإذا كانت هذه الأمور تحدث في منازلنا فما بالك بالمنطقة التي فيها أعاصير وعواصف رملية؟ هل تطمر المدن أو لا؟
إن المدن والحضارات تطمر تحت الرمال؛ لذلك فعندما ننقب عن الآثار فنحن نحفر في الأرض ، وهذا لون من السير في الأرض للرؤية والعظة . وحين يقول الحق : { فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } فماذا يعني بعاقبة المكذبين؟ حين تكون أمة قد تحضرت حضارة كبيرة يقول عنها الحق : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد * وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد * الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد } [ الفجر : 6-12 ] .
إن الذي أقام هذه الحضارات ألا يستطيع أن يجعل لهذه الحضارة ما يصونها؟ كيف يتم القضاء على هذه الحضارات الواسعة واندثارها وذهابها؟ .
لا بد أن ذلك يتم بقوة أعلى منها ، فهذه الحضارات رغم تقدمها الرهيب لم تستطع أن تحفظ نفسها من الفناء . إنها القوة الأعلى منها ، وهكذا نصدق قوله الحق : { فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } . إنه القّيوم الذي يرى كل الخلق ، فمن يطغى ويفسد فليلق النهاية نفسها . إذن فقوله سبحانه يحمل كل الصدق :
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين }
وبعد ذلك يقول الحق : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }
(1/1199)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
انظر إلى الكلمة { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } إن البيانات عندما تتأتى تأخذ قوتها وسطوتها وعظمتها من قوة من أصدر البيان؛ أنت ساعة تجد ثورة في مجتمع ما فإننا نسمع كلمة " بيان رقم واحد " تهتز له الدنيا وهو بيان قادم من بشر فما بالنا بالبيان القادم من الله؟
إنه إيضاح من الله : أنا لن آخذكم على غرة { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } و " الهدى " : كما نعرف هو الطريق الموصل للغاية المرجوة . و " الموعظة " معناها : حمل النفس ترغيباً وترهيباً ، لعمل الخير بالترغيب ، والبعد عن الشر بالترهيب ، تلك هي الموعظة .
وكل هذه الأشياء عندما جاءت في ثنايا آيات أُحُد بعد أن أخذنا منها العبرة والحدث ما زال ساخناً . لذلك فقبل أن يكمل لنا قصة أُحُد استثار النفوس بهذه المسألة ، ووضع لنا الأشياء المادية والقيمية؛ لنأخذ بها في حياتنا ، وحتى لا تنتهي قصة أُحُد وينصرف الناس عن العظات التي كانت فيها .
وما دامت المسألة هكذا ، وكان المقاتلون في سبيل الله هم جنود الحق ، وعرفوا ذلك بتأييد الله لهم ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بينهم . وهو حامل المعجزة الدالة على صدقه؛ لذلك فالذي حدث في معركة أٌحُد لا يصح أن يضعفكم؛ لأنكم تعرفون كيف يسند الله الحق ويقويه . وتعرفون حملة الله على الباطل . وقد أوضحنا لكم السنن والبيان ، ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
(1/1200)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
والمقصود بقوله : { وَلاَ تَهِنُوا } أي لا تضعفوا ، وهي أمر خاص بالمسألة البدنية؛ لأن الجراحات أنهكت الكثيرين في موقعة أُحُد لدرجة أن بعضهم أقعد ، ولدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر أن يصعد الجبل ، وحمله طلحة بن عبيد الله على ظهره ليقوم ، لذلك قال الحق : { وَلاَ تَهِنُوا } ، لأنك عندما تستحضر أنك مؤمن وأن الله لن يخلي بينك وبين جنود الباطل لأنك نصير للحق ، والحق من الله وهو الحق لا يسلم نبيه وقومه لأعدائهم فيوم تأتي لك هذه المعاني إياك أن تضعف . والضعف هو نقصان قوة البدن .
{ وَلاَ تَحْزَنُوا } والحزن مواجيد قلبية ، وهم قد حزنوا فقد مات منهم كثير . مات منهم خمسة وسبعون شهيداً ، خمسة من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار ، وهذه عملية صعبة وشاقة ، وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء ، وغضب لمقتل حمزة - رضي الله عنه - وقال : " لن أُصاب بمثلك أبداً! وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ من هذا " ثم قال : " لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم مكانك " .
فقال الحق : { وَلاَ تَحْزَنُوا } ؛ لماذا؟ لأنك يجب أن تقارن الحدث بالغاية من الحدث .
صحيح أن القتل صعب وإزهاق للنفس ، ولكن انظر إلى أين ذهب . وانظر ماذا خلف من بعده . أما هو فقد ذهب إلى حياة عند ربه وهي ليست كالحياة عندكم . إن الحياة عندنا لها مقاييس ، والحياة عند ربنا لها مقاييس ، فهل مقاييسنا أعلى من مقاييسه؟ لا ، حاشا لله .
إذن فإذا نظرت إليه هو فاعلم أنه ذهب لخير مما ترك ، فلا تحزن عليه بل تفرح له؛ لأنه ما دامت الغاية ستصل إلى هذه المسألة . إذن فقد قصر له مسافة الحياة ، وما دامت الغاية أن يصل إلى رحمة الله وإلى حياة عند الله بكافة معانيها ، فهو سعيد بجوار ربه ، ونحن في الغايات الدنيوية عندما نريد أن نذهب إلى مكان نُسرّ ممن يعجل لنا الزمن لنصل إلى هذا المكان .
فبدلاً من أن أذهب إلى الإسكندرية ماشياً أذهب راكباً حصاناً أو أذهب راكباً سيارة ، والمترفه يذهب راكباً طائرة ، فإذا كانت الغاية مرجوَّة ومحببّة إلى النفس ، وبعد ذلك يجيء لك حدث يقرب لك المسافة من الغاية ، فلماذا تحزن إذن؟ لقد استشهد . إياك أن تقول : إنّ الله حرمني قوته في نصرة الحق ، لا . هو أعطى قوة أخرى لكثير من خلقه نصر بهم الحق ، إنك عندما تعرف أن إنساناً باع نفسه لله ، لا بد أن تعرف أن الغاية عظيمة؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر ، يقدم أهله؛ لأنه يعرف أنه إن قُتل واحد منهم إلى أين سيذهب ، إذن فهو يحب أهله ، لكنه يحبهم الحب الكبير ، والناس تحب أهلها هنا أيضاً لكن الحب الدنيوي .
(1/1201)
{ وَلاَ تَحْزَنُوا } على ما فاتكم من الغنائم أو لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر لماذا؟ وتأتي الإجابة ، { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } . . ولذلك جاء مصداق ذلك حينما نادى أبو سفيان فقال : " اعل هبل " أي أن إلههم صار عالياً ، فقال الرسول لأصحابه : ألا تردون عليهم؟ ، قالوا : بماذا نرد قال : قولوا لهم : الله أعلى وأجلّ فقال أبو سفيان : " لنا العزى ولا عزى لكم " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجيبوه " قالوا : ما نقول؟ قال : " قولوا الله مولانا لا مولى لكم " ثم قال أبو سفيان : إن موعدكم " بدر " العام المقبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه : " قل نعم هو بيننا وبينك موعد "
ف { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فما دمتم على الإيمان فأنتم الأعلون ، وإذا أردتم أن تعرفوا معنى " الأعوان " حقاً ، فقارنوا معركة " أُحُد " بمعركة " بدر " ، هم قتلوا منكم في أُحُد ، وأنتم قتلتم منهم في بدر . ولكنكم أسرتم منهم في بدر ، ولم يأسروا منكم أحداً في " أُحُد " . وأنتم غنمتم في بدر ، ولم يغنموا شيئاً في أُحُد .
وأنتم الأعلون لأن الله حمى مدينتكم مع أنه لا محامية فيها ممن يكون فيه معنى الجندية . كل ذلك وأنتم الأعلون ، هذا إذا نظرنا إلى معركة بمعركة . وإن نظرنا إلى المعركة نفسها " أُحُد " وندع بدراً وحدها ، في ظل قوله تعالى : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } لقد ثبتت تلك القضية لأنكم حينما كنتم مؤمنين - ومن شرط الإيمان اتباع أمر الذي لا ينطق عن الهوى - انتصرتم . وانتصرتم انتصاراً رائعا؛ لأنكم قتلتم في أول جولة للحرب بضعاً وعشرين من صناديدهم وفيهم صاحب الراية . ولكنكم حينما خالفتم أمرالنبي صلى الله عليه وسلم ، تلخلخ الإيمان في قلوبكم .
إذن فالعملية التي حدثت تؤكد صدق { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . فأنتم علوتم في أول الأمر ، وعندما خالفتم الأمر صار لكم ما صار؛ فقد صدقت القضية في قول الله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
وأيضا فإنكم لو نظرتم إلى المعركة نفسها لوجدتم أن عدوّكم لم يبق في أرض المعركة ، بل أنتم الذين بقيتم في موضع المعركة . وأين ذهب هو؟ أذهب إلى موقع آخر ينال فيه غلبة ونصرا؟ لم يكن هناك إلا المدينة ، والمدينة ليس فيها أحد ، ولم يذهب عدوكم إلى هناك ، وإنما ذهب ناحية مكة ، إذن فهو الذي هرب .
وبعد ذلك ماذا حدث؟ ألم يؤذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ويطلب العدوّ مرهباً له ليظنوا به القوة ، وإن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم؟
ولقد خرج رسول الله ، مع من؟ أجاء بحامية لم تشهد المعركة؟ لا .
(1/1202)
بل قال عليه الصلاة والسلام مناديا المسلمين : " إليّ عباد الله " ، فالذين شهدوا المعركة سبعمائة ، جرح منهم الكثير وقتل منهم خمسة وسبعون ، فمنهم حمزة ، ومصعب بن عمير ، وعبد الله بن جحش ، وشماس بن عثمان ، وسعد مولى عتبة ، هؤلاء خمسة من المهاجرين ، والباقي من الأنصار هؤلاء مطروحون من العدد الذي شاهد أول الموقعة ، حتى أن رسول الله لم يأخذ بدلاً منهم من المدينة من القوم الذين عرضوا أنفسهم ليكونوا مع الجيش الذي يطارد قريشاً ، بل آثر الرسول أن يذهب بمن ذهب معه إلى المعركة أنفسهم ، ولم يكن منهم بطبيعة الحال الشهداء أو الجرحى .
لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهد المعركة إلا واحداً . وهو سيدنا جابر بن عبد الله . الذي لم يخرج في معركة أُحُد واعتذر إلى رسول الله بأن أباه عبد الله بن عمرو بن حرام قد خلّفه على بنات له سبع وقال له :
يا بنيّ إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رَجَل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلّفْ على أخواتك فتخلف عليهن فقبل رسول الله عذره وأذن له فخرج معه وطاردهم رسول الله ومن معه إلى حمراء الأسد ، أما والده عبد الله بن عمرو فقد استشهد في أحُد ومع ذلك فقد طلب من رسول الله على الرغم من استشهاد أبيه أن يخرج إلى حمراء الأسد . وذلك لنعلم أن الله يقول : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ]
هذا وإن واحداً من المشركين الذين كانوا موضع سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حلفائه وهو معبد الخزاعي ، مَرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحد وقال له : يا محمد : أما والله لقد عز علينا ما أصابك ، ثم لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال له أبو سفيان : ما وراءك يا معبد؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله ، ولم يزل بهم حتى ثنى أبا سفيان ومن معه فولوا وجوههم إلى مكة خائفين مسرعين ، وقد ذهب رسول الله إلى حمراء الأسد فلم يجد أحداً فعسكر رسول الله ثلاثة أيام هناك ، ومعنى ذلك أنهم هم الذين فروا من المعركة . إذن فأنتم الأعلون ، ولكن لا حظوا الشرط { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . ثم بعد ذلك يُسَلّى الله المؤمنين فيقول : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس . . . }
(1/1203)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وقد تكلمنا - من قبل - عن " المس " وهو : إصابة بدون حس . . أي لمس لكنك لا تحس بحرارة أو نعومة مثلا ، إنما " اللمس " هو أن تحس في الشيء حرارة أو نعومة ويحتاج إلى الالتصاق المؤقت ، إنما " المس " هو ما لا تكاد تدرك به شيئاً ، " والقَرْح " هو : الجراح ، وفي لغة أخرى تقول " القُرح " - بضم القاف - وأقول : القٌرح وهو الألم الناشئ من الجراح ، كي يكون لفظ معنى .
وأنت قد ترى بعض الألفاظ فتظن أن معناها واحد في الجملة ، إلا أن لكل معنى منها ملحظاً ، أنت تسمع مثلاً : رأى ، ونظر ، ولمح ، ورمق ، ورنا . كل هذه تدل على البصر . لكن لكل لفظ له معنى :
رمق : رأى بمؤخر عينيه ، ولمح : أي شاهد من بعد ، ورنا : نظر بإطالة ، وهكذا . ويقال أيضاً : جلس ، وقعد ، فالمعنى العام يكاد يكون واحداً ، لكن المعنى الدقيق يوضح أن الجلوس يكون عن اضطجاع . والقعود عن قيام ، كان قائماً فقعد ، والاثنان ينتهيان إلى وضع واحد ، فكذلك " قَرح " و " قُرح " كل لفظ له معنى دقيق .
ويقولون - مثلاً - : إن للأسد أسماء كثيرة ، فقال : " الأسد " و " الغضنفر " و " الرئبال " و " الوَرْد " و " القسْورة " . وصحيح هذه أسماء للأسد ، ولكن لكل اسم معنى محدد ، ف " الأسد " هو اللفظ العام والعَلَم على هذا الحيوان ، و " الغضنفر " هو الأسد عندما ينفش لبدته ، و " الوَرْد " هو حالة الأسد عندما يكون قد مط صلبه ، فكل موقف للأسد له معنى خاص به .
وقوله الحق : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } لا حظ أن المتكلم هو الله فافطن جيداً إلى مرارات كلامه . ونعرف أنه في الشرط والجواب ، أن الشرط يأتي أولا ثم يأتي الجواب من بعد ذلك مترتبا عليه ونتيجه له ، كقولنا " إن تذاكر تنجح " إن النجاح هو جواب لشرط وهو الاستذكار .
وقوله الحق : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } فهل المعنى المراد من هذه الجملة الشرطية أن مس القرح للكافرين الذي حدث في بدر كان كجزاء لمس القرح للمؤمنين في أحد؟ لا ، إنه لا يكون أبداً جواباً لشرط؛ لأنه لو كان جواب شرط لقال الحق : إن يمسسكم قرح فسيمس القوم قرح مثله . ولكنه لم يقل ذلك لأن القرح الذي أصاب المشركين في بدر كان أسبق من القرح الذي أصاب المؤمنين في أحد .
وكأن الحق يقول : إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا؛ فقد مس القوم قرح مثله ، وليس ذلك جواب الشرط ، ولكنه جاء ليُستدل به على جواب الشرط ، أي أنه تعليل لجواب الشرط ، أقول ذلك حتى لا يتدخل دعيّ من الأدعياء ويتهم القرآن - والعياذ بالله - بما ليس فيه .
(1/1204)
إنه - سبحانه - يثبت المؤمنين ويسلّيهم . ومثال ذلك ما نقوله نحن لواحد إذا أصابته كارثة :
إن كان قد حدث لك كذا ، فقد حدث لخصمك مثله . إذن فنحن نسليه . والمقصود هنا أن الحق يسلّي المؤمنين : إن يمسسكم قرح فلا تبتئسوا ، فليكن عندكم سُلّوٌ ولْتجتازوا هذا الأمر ولترض به نفوسكم؛ لأن القوم قد مسهم قرح مثله .
والأسوة والتسلية ، هل تأتي بما وقع بالفعل أم بما سيقع؟ . إنها تأتي بما وقع بالفعل ، إذن فهي تعلل تعليلاً صحيحاً : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } .
وأطلق الحق سبحانه من بعد ذلك قضية عامة : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } . ما معنى المداولة؟ داول أي نقل الشيء من واحد لآخر . ونحن هنا أمام موقعتين؛ غزوة بدر وغزوة أُحٌد . وكان النصر للمسلمين في غزوة بدر بالإجماع ، أما غزوة أُحٌد فلم يكن فيها هزيمة بالإجماع ولم يكن فيها نصر .
إذن فقوله الحق : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } أي مع التسليم جدلاً بأن الكفار قد انتصروا - رغم أن هذا لم يحدث - فإننا نقلنا النصر منكم أيها المؤمنون إليهم .
وإياك أن تفوتك هذه الملاحظة ، بأن النصر لم ينتقل إليهم إلا بمخالفة منكم أيها المؤمنون . ومعنى مخالفة منكم ، أي أنكم طرحتم المنهج ، أي أنكم أصبحتم مجرد " ناس " مثلهم .
وما دمتم قد صرتم مجرد ناس بدون منهج مثلهم ومتساوين معهم ، فإن النصر لكم يوم ، ولهم يوم . ولنلحظ ان الحق لم يقل : إن المداولة بين الناس هي مداولة بين مؤمنين وكافرين .
فإن ظللتم مؤمنين فلا يمكن أن ينتقل النصر إلى الكفار ، إنما النصر يكون لكم ، انظر ماذا قال : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } ولم يقل بين المؤمنين والكافرين ، أي بينكم وبين قريش .
وليس المقصود بالأيام ما هو معروف لدى الناس من أوقات تضم الليل والنهار ، ولكن المقصود ب " الأيام " هنا هو أوقات النصر أو أوقات الغلبة . ويقال أيضاً : " يوم فلان على فلان " إذن { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } لم تتضمن المداولة بين المؤمنين والكافرين ، ولكنها مداولة بين الذين مالت أبصارهم إلى الغنائم فتخلخل إيمانهم ، ففازت قريش ظاهرياً . فلو ظللتم على إيمانكم لما حدث ذلك أبداً . لكنكم تخليتم عن منهج ربكم ، وبذلك استويتم وتساويتم مع غير المؤمنين ، وبذلك تكون الأيام لذلك مرة ولهذا مرة أخرى ، إنها مطلق عدالة .
علينا أن نتذكر الشرط السابق ، لا لعدم الهزيمة . بل للعلو والنصر :
{ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
إن الحق سبحانه في مسألة مداولة الأيام ينبه المؤمنين الذين تخلخل إيمانهم : ما دمتم اشتركتم معهم في كونكم مجرد " أناس " فيصبح النصر يوماً لهم ويوماً لكم ، والذكي العبقريّ الفطن الذي يحسن التصرف هو من يغلب؛ لأن المعركة هنا تدور بين قوة بشر مقابل قوة البشر .
(1/1205)
ما دام المسلمون قد تخلوا عن منهج الله فقد صاروا مجرد بشر في مواجهة بشر . ولذلك قلنا : إنه عندما تخلى الرماة عن إنفاذ أمر القائد الأعلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهرت عبقرية خالد بن الوليد على عبقرية المقاتلين المسلمين .
ويجب أن نلحظ في قوله الحق : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } أننا لا يمكن أن نقول : إن مداولة الأيام تكون بين المؤمنين والكافرين ، إنما هي بين الناس؛ لأن الناس هم مجموعة الإنسان ، فإن تجردوا عن منهج السماء فهم سواسية ، وصاحب الحيلة يغلب ، أو صاحب القوة يغلب ، أو صاحب العدد أو العُدّة يغلب .
ولكن ما الذي يعوض كل تلك الإمكانات ويحقق النصر؟ إنك إن تأخذ الله في جانبك فلن يجرؤ مخلوق أن يكون في مواجهة الحق في معركة . لقد قلنا قديماً وعلينا أن نعيها جيداً : إن الولد الصغير حينما يضطهده زملاؤه فيلجأ إلى حِضن أبيه ، عندئذ ينصرف كل منهم إلى حاله ، لكن أقرانه يستطيعون أن يهزموه عندما يبتعد عن أبيه . فما بالنا ونحن عيال الله؟ وكذلك شأن الكفار مع المؤمنين .
إن الكفار قادرون على الانفراد بالمؤمنين حينما يتخلى المؤمنون عن منهج الله؛ لأن الله لن ينصر أناساً ليسوا على منهجه ، فلو نصر الله أناساً على غير منهجه فإن ذلك يبطل قضية الإيمان . وعندما نستقرئ القرآن الكريم؛ نجد أن كل خبر عن الإنسان وهو معزول عن المنهج الإلهي هو خبر كله شر .
فسبحانه يقول : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1-2 ]
إن الإنسان على اطلاقه لفي خسر ، ولكن من الذي ينجو من الخسران؟ وتأتي الإجابة من الحق فيقول : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 3 ]
وتتأكد القضية في موضع آخر من القرآن الكريم فيقول - سبحانه - { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين } [ المعارج : 19-22 ]
إذن كل كلام - في القرآن - عن الإنسان على إطلاقه يأتي من ناحية الشر . وما الذي ينجيه من ذلك؟ إنه المنهج الإلهي .
إذن فقول الحق : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } تحمل تأنيبا ولذعة خفيفة لمن أعلنوا الإيمان ولكنهم تخلفوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحُد .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } .
ففي وقت النصر نجد حتى الذي لم يشترك في المعركة يريد أن يُدخل نفسه ضِمن المنتصرين .
(1/1206)
لكن وقت الهزيمة فالحق يَظهر ، والذي يظل في جانب الهزيمة معترفا بأنه شارك في نزولها بالمسلمين وان لم يكن شارك فقد عذر أو لام من كان سببا فيها ، وهو مع ذلك يسهم في حمل أوزارها وآثارها الضارة ، ويتحمل ويشارك في المسئولية ، إنه بذلك يكون صادقا .
وقد يقول قائل : هل الله لا يعلم الذين آمنوا؟ لا ، إنه سبحانه وتعالى يعلم الذين آمنوا سواء حدثت معركة أو لم تحدث . لكن علم الله الأزلي الغيبيّ لا نرى نحن به الحُجَّة ، ولذلك لا تكون الحجَّة ظاهرة بيننا ، ولكن حين يبرزُ علم الله إلى الوجود أمامنا فإنه علم تقوم به الحُجة واضحة على من آمن ، وعلى من لم يحسن الإيمان ، وذلك حتى لا يدِّعي أحد لنفسه أنه كان سيفعل ، لكن الفرصة لم تواته .
وهكذا تأتي المواقف الاختبارية والابتلاءات ليعلم كل منا نفسه وتبرز الحُجة علينا جميعا . إذن : فهناك فرق بين علم الله الأزليّ للأشياء كما سوف تحدث ، ولكن لا تقوم به الحُجّة علينا . فقد يدعى البعض أنه لو قامت معركة شديدة فإنهم سوف يصمدون ، ولكن عندما تقوم المعركة بالفعل فنحن نرى مَنْ الصّامد ومَنْ هو غير ذلك من المتخاذلين الفارين؟ ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى : نحن في حياتنا العادية نجد أن عميد إحدى الكليات يأتي إلى المدرس ويقول له : نحن نريد أن نعقد امتحانا لنتعرف على المتفوقين من الطلاب ، ونمنح كُلا منهم جائزة .
فيرد المدرس : لماذا الامتحان؟ إنني أستطيع أن أقول لك : من هم المتفوقون ، وأن أرتبهم لك من الأول ومن الثاني وهكذا .
لكن عميد الكلية يصر على أن يعقد امتحانا حتى لا يكون لأحد حجة ، ويختار العميد مدرساً آخر ليضع هذا الامتحان . وتظهر النتيجة ويكون توقع المدرس الأول هو الصائب ، وهكذا يكون تفُوق هؤلاء الطلاب تفوقا بحُجة . وإذا كان ذلك يحدث في المستوى البشري فما بالنا بعلم الله الأزلي المطلق؟
إن الحق بعلمه الأزلي يعلم كل شيء ومُحيط بكل شيء ، وهو سبحانه لا يقول لنا : أنا كنت أعلم أنكم لو دخلتم معركة ستفعلون كذا وكذا . .
وكان يمكن أن يجادلوا ويدعوا لأنفسهم أشياء ليست فيهم ، لكن الحق يضع المعركة وتكون النتيجة مطابقة لما يعلمه الله أزلا . إذن فالتغيير هنا لا يكون في علم الله ، لكن التغيير يكون في المعلوم لله ، ليس في العالِم بل في المعلوم بحيث نراه حُجة علينا .
ويقول الحق : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } وساعة تسمع كلمة " يتخذ " هذه؛ اعرف أنها اصطفاء واختيار . وسبحانه يقول : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ]
أي أنه جل وعلى قد آثر إبراهيم واصطفاه ، إذن فالاتخاذ دائما هو أن يَأخذه إلى جانبه لمزية له ورفعة لمكانته .
وحين يقول الحق : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } فنحن نعرف أن " شهداء " هي جمع شهيد ، وكلمة شهيد لها معانٍ متعددة ، فالشهيد في القتال هو الذي يُقتل في المعركة ، وهذا سيكون حيا ويرزق عند ربه .
(1/1207)
وإياك أن تقول : إننا عندما نفتح قبر الشهيد سنجده عظاما وترابا . وهذا يعني أنه سلب الحياة . . لا ، إن الله وضح أن الشهيد حيّ عنده ، وليس حيا عند البشر . وإذا فتح أحد من الناس القبر على الشهيد فسيراه عظاما وترابا؛ فقد جعل الله سبحانه للشهيد حياة عنده لا عندنا . { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ]
إذن فللشهداء عند ربهم حياة لا نعرف كنهها ، ويوم نفتح عليهم قبورهم تصير أمرا مُحسا ، ولكن الله نبهنا أن الشهداء أحياء عند ربهم . وعندما نتأمل كلمة " شهداء " نجد أنها تعني أيضا الشهادة على الحق الذي قامت من أجله المعركة ، وكل إنسان يُحب الخير لنفسه ، فلو لم يعلم هؤلاء أن إقدامهم على ما يؤدي إلى قتلهم خير لهم من بقائهم على حياتهم لما فعلوا .
وبذلك يكون الواحد منهم شاهدا للدعوة وشهيدا عليها . وقد ينصرف المعنى في " شهداء " إلى أنهم بَلَّغوا الدعوة حتى انتهت دماؤهم ويذيل الحق الآية بقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } .
ومعنى هذا التذييل أن المعركة يجب أن تدور في إطار الحق ، ومثلما قلنا : ما دام الناس متخلفين عن المنهج فإن الله لا يظلمهم بل ستدور المعركة صراع بشر لبشر ، والقادر من الطرفين هو الذي يغلب . فالحق سبحانه بالرغم من كراهيته للكفر إلا انه لا يُحابي المسلم الذي لا يتمسك بمطلوب الإيمان؛ لذلك قد يغلب الكافر المسلم الذي لا يمسك بمطلوب الإيمان ، ولكن إن تمسك المؤمنون بمطلوب الإيمان فالنصر مضمون لهم بأمر الله . وبعد ذلك يقول الحق : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ . . . }
(1/1208)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
والتمحيص يختلف عن المحْق ، لأن التمحيص هو تطهير الأشياء وتخليصها من العناصر الضارة ، أما المحق فهو الذهاب بها كلها . ويقول الحق بعد ذلك : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله . . . }
(1/1209)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تقال هكذا ، بل لا بد من تجربة تثبت أنكم فُتِنْتُم ونجحتم في الفتنة ، والفتنة هي الامتحان إذن فلا تحسبوا أن المسألة سوف تمر بسهولة ويكتفي منكم أن تقولوا نحن نحمل دعوة الحق ، لا . إذا كنتم صادقين في قولكم يلزمكم أن تكونوا أسوة حين يكون الحق ضعيفا؛ فالحق حين يكون قويا فهو لا يحتاج إلى أسوة . بل قضية الإيمان الحق تحتاج إلى الأسوة وقت الضعف . ودخول الحنة له اختبار يجب أن يجتازه المؤمن .
والحق يقول : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } وعندما نسمع ذلك فعلينا أن نعرف أن الله يعلم علما أزليا من المجاهد ومن الصابر ، ولكنه علم لا تقوم به الحُجة على الغير ، فإذا حدث له واقع صار حُجة على الغير . وبعد ذلك يقول الحق : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
(1/1210)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
وكان القوم الذي فاتهم شرف الاشتراك في بدر قد أرادوا ان يذهبوا مع الرسول للمشاركة في غزوة أُحُد ، ويوضح لهم الحق : أكنتم تظنون أن تمنى المعارك وحده يحقق النصر ، وهل كنتم تظنون أن كل معركة يدخلها المؤمنون لا بد أن تكون منتصرة؟ وإن كنتم تظنون أن المسألة هي نصر لمجرد التمني ، فمعنى ذلك أنكم دخلتم إلى معسكر الإيمان من أجل الفأل واليُمن والنصر ، ونحن نريد ان نعرف من الذي يدخل معسكر الإيمان وهو بائع روحه وهو مُحتسب حياته في سبيل الله .
فلو أن الأمر يمر رخاء ، لدخل كل واحد إلى معسكر الإيمان ، لذلك يقول الحق : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } . فهل ظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون أن يُخرج الحق على الملأ ما علمه غيبا ، وتترجمه الأحداث التي يجريها سبحانه فيصير واقعا وحُجة عليكم ، ويبرز الله سبحانه من الذين جاهدوا؛ أي دخلوا في زُمرة الحق ، والذين صبروا على الأذى في الحق .
ويقول سبحانه : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أي إن ما كنتم تتمنونه قديما صار أمامكم ، فلو أن التمني كان صحيحا لأقبلتم على الموت كما تقبلون على الحياة . ويقول سبحانه من بعد ذلك : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل . . . }
(1/1211)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
ونحن نعرف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه الأول هو " محمد " ، وله اسم ثانٍ عرفناه من القرآن وجاء في الإنجيل هو " أحمد " : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الصف : 6 ]
وقد ورد اسمه صلى الله عليه وسلم " مُحمد " في القرآن أربع مرات ، و " أحمد " وردت مرة واحدة .
والآية التي نحن بصددها ، وهي آية ذكر فيها اسم محمد : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } . ولنقرأ قول الحق : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب : 40 ]
وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [ محمد : 2 ]
وها هو ذا القول الكريم : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } [ الفتح : 29 ]
والاسم هو ما وُضع عَلَماً على المسَمَّى؛ بحيث إذا ذُكر الاسم جاء إلى الذهن المسمى ، فإذا اشترك اثنان في بيئة واحدة في اسم؛ فلا بد من التمييز بينهما بوصف . فإذا كان في أسرة واحدة ولدان اسم كل واحد منهما مُحمد ، فلا بد أن نميز بين الاثنين بصفة ، وفي الريف نجد من يسمى " مُحمداً الكبير " و " مُحمداً الصغير " .
وكلمة " مُحمد " وكلمة " أحمد " مشتركتان في أصل المادة؛ لأنهما من " الحاء والميم والدال " فالمادة هي الحمد ، إلا أن التوجيه الاشتقاقي في محمد غير التوجيه في أحمد ، لأن الاسم قبل أن يكون علماً إذا خرجت به عن معناه الأصلي ، انحل عن معناه الأصلي ، وصار علما على الشخص .
ولذلك قد نجد رجلا له جارية سوداء فيسميها " قمرا " وقد يكون للرجل عبد شقي فيسميه : " سعيدا " . فإذا صار الاسم علما على شيء فإنه ينتقل من معناه الأصلي ويصير عَلَماً على المسمَّى ، لكن الناس حين تُسمى أبناءها تلمح التفاؤل في أن يصير المعنى الأصلي واقعا .
والدميمة التي يسميها صاحبها " قمرا " افتقدت جمال المسمى ، ولذلك فهو يريد لها أن تأخذ جمال الاسم . . وكلمة " مُحمد " حين ننظر إليها في الاشتقاق نجد انها ذاتٌ يقع عليها الحَمْد من غيرها ، مثلما تقول : فلان مكرَّم أي وقع التكريم من الغير عليه .
وكلمة " أحمد " نجدها ذاتا وقع عليها الحمد لغيرها .
(1/1212)
وعندما نقول : مُكرِّم - بضم الميم وفتح الكاف مع تشديد الراء مكسورة - أي وقع التكريم منه لغيره . ونحن عندنا اسمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، في القرآن وكلاهما من مادة " الحمد " ف " محمد " ملحوظ فيه أن الحمد وقع عليه كثيرا من غيره . لكن لو كان المراد أن الحمد وقع عليه دون الكثرة فيه لكان اسم " محمود " هو الذي يطلق عليه فقط .
أما " أحمد " فقد قلنا إنه ملحوظ فيها أن الحمد وقع منه لغيره . و " أحمد " تتطابق مع أفعل التفضيل فنحن نقول : " فلان كريم وفلان أكرم من فلان " . إذن ف " أحمد " أي وقع منه الحمد لغيره كثيرا ، فلو كان الحمد قد وقع منه بقدر محدود لقلنا " حامد " . إذن ف " أحمد " مبالغة في " حامد " وقع منه الحمد لغيره كثيراً فصار أحمد . و " محمد " مبالغة في " محمود " ، وقع عليه الحمد من غيره كثيرا فصار محمداً .
إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم جمع له الله بين الأمرين؛ فهو محمد من الله وحامد لله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له بين مقامين : مقام الاصطفاء ومقام المجاهدة ، فبالاصطفاء كان " محمدا " و " محمود " ، وبالمجاهدة كان " حامدا " و " أحمد " . إذن نحن هنا أمام مقامين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة " .
وسيكون لذلك كلام ونحن نتناول هنا بالخواطر معركة أحُد ، فبعد أن انحل القوم من الرماة عن أمره ، وحدثت الكرَّة عليهم من المشركين القرسيين ، بعد ذلك يتجه الصحابة هنا وهناك ليفروا ، ويتكتل المشركون على رسول الله لدرجة أن ابن قمئة يمسك حجرا ويضرب به حضرة النبي عليه الصلاة والسلام فيكسر رَبَاعِيَّته . وتنغرز في وجنتي الرسول حلقتا المغفر ، ويسيل منه الدم ، ويحاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصعد على صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها . وكلها مجاهدات بشرية .
أما كان الله بقادر أن يُجنِّب رسوله كل ذلك؟ إنه سبحانه قادر . ولكن كل ذلك كان تكريما من الله ، ولم يرد سبحانه أن يحرم رسوله من لذة المجاهدة ، وحتى يعرِّف الله المؤمنين بمحمد نقول : إن الله لم يأت بمحمد ليدلله على خلقه ، ولكن ليدُلَّ كُلَّ مؤمن على أن رسول الله حينما حدث له ما حدث قد ذاق المجاهدة؛ فقد فر بعض المقاتلين من المعركة في أحد ، وكادت ريح الهزيمة تهب على معسكر الإيمان ، ها هو ذا سيدنا أبو عبيدة رضي الله عنه يذهب إلى رسول الله فيجد حلقتي المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم ، فيحاول سيدنا أبو بكر أن يخلع حلقتي المغفر ، فيتألم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيقول سيدنا أبو عبيدة :
- إليك يا أبا بكر .
(1/1213)
بالله دعني .
ويمسك أبو عبيدة بإحدى الحلقتين وينزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته ، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان أبو عبيدة - رضي الله عنه - ساقط الثنيتين ، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " . وينزف دمه صلى الله عليه وسلم ، وسيدتنا فاطمة يلهمها الله أن تأتي بقطعة من حصير وتحرقها ، وتأخذ التراب الباقي من الحريق وتضمد به الجرح . إن الله لم يشأ أن يحرم رسوله لذة المجاهدة .
ويأتي أنس بن النضر ويجد الصحابة وفيهم عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وقد ألقوا ما بأيديهم ، فيسألهم أنس : ما يجلسكم؟ فيقولون : قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استقبل القوم من المشركين فقاتل حتى قتِل .
هذه كلها مواقف لم تكن تأتي وتظهر إلا بهذه المعركة . { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } أي اسمعوا . هذا محمد وهذه منزلته ، هو رسول من الله جاء بعد عيسى بن مريم ، وكان من الواجب أن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مؤكد على بشريته . { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } .
وهل انقلب أتباع الرسل السابقين على أعقابهم حينما ماتت رسلهم؟ فكيف تكونون أقل شأنا من هذه الأمم؟ هبوا أن ذلك قد حدث ، فلماذا لا يبقى الخير الذي بلغه فيكم رسول الله إلى يوم القيامة؟ الرجل الذي يكون قد صنع خيرا يموت بموته ، أيكون قد صنع شيئا؟ لا؛ فالذي يريد أن يصنع خيرا فعليه أن يصنع خيرا يخلفه .
لذلك فالزعامات الفاشلة هي التي يكون الفرد فيها زعيما ، ثم يموت ونبحث عن زعيم بعده فلا نجد ونتساءل : لماذا خنق الزعيم أصحابه وزملاءه؟ أكان خائفا منهم؟ ونظل نتمنى أن يكون قد ربَّى الزعيم أناسا ، فإذا ما ذهب نجد من يخلفه ، فلا يوجد إنسان يضمن حياته؛ لذلك يقول الحق : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } .
وساعة تسمع القول الكريم : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } فهذا أسلوب اسمه أسلوب القصر . إنه سبحانه وتعالى يقصر محمدا على الرسالة . فإذا قصر محمد صلى الله عليه وسلم على الرسالة فهذا يعني أن بعض المعاصرين له كانوا يعتقدون أن محمدا أكبر من رسول ولا يموت .
(1/1214)
فأوضح الله سبحانه أن محمدا رسول ، وقد خلت من قبله الرسل ، ولن يخلد الله أحدا .
وهل غاب ذلك عن الذهن؟ نعم كان ذلك يغيب عن الذهن بدليل أنه حتى بعد أن نزلت هذه الآية وصارت قرآنا يُتلى ، نجد أن سيدنا عمر رضي الله عنه وكانت له فطرة صافية توافق وحي الله ، إنه محدَّث مُلْهَم .
ها هو ذا عمر بن الخطاب حينما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى رحاب الله يقول : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم . قال عمر بن الخطاب ذلك من هول الفاجعة ونسي الآية فيأتي سيدنا أبو بكر فيقول : من كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لم يمت ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، وتلا قوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } . فقال عمر بن الخطاب : " فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ " .
ثم إن عمر بعد أن بايع المسلمون أبا بكر بالخلافة قال : أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة ، وإنها لم تكن كما قلت ، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ، ولا في عهد عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرنا فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا كما هَدِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه تعطينا أمرين اثنين :
الأمر الأول : هو عِشق الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر الثاني : هو حاجة إيمان؛ فالعشق لا يستقيم ولا يصح أن يخرجنا عن طور التصور الإيماني؛ فعمر بن الخطاب قال : عندما سمعت أبا بكر يتلو هذه الآية عرفت حتى ما تقلني رجلاي ، وحتى هويت على الأرض .
إذن فقوله سبحانه : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } يعني لا ترتفعوا به أنتم أيها المؤمنون برسالته فوق ما رفعته أنا .
ومعنى { يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } أي يَرجع . فهل هذا الرجوع رجوع عن المعركة؟ أو رجوع عن أصل التشريع وأصل الديانة وأصل الرسالة التي جاء بها محمد؟ إن هذا يصح ، وذلك يصح . وقوله الحق : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } قول واضح ، وسبق أن تعرضنا إلى الموت وإلى القتل ، وقلنا : إن الموت والقتل مؤداهما واحد ، وهو الذهاب بالحياة ، إلا أن الذهاب بالحياة مرة يكون بنقض البنية التي لا تسكن الروح فيها إلاّ بمواصفاتها ، فإن نقضت البنية ولم تجد الروح المسكن الملائم لها تتركه ، لكن الموت على إطلاقه : هو أن تذهب الحياة بدون نقض البنية ، فالإنسان يذهب حتف أنفه ، أي نجده قد مات وحده .
(1/1215)
إذن فنقض البنية يؤدي إلى ذهاب الحياة بالقتل؛ لأن الروح لا تسكن في مادة إلا بمواصفات خاصة ، فإذا انتهت هذه المواصفات ذهبت الروح . لكن عندما تذهب الروح بمفردها بدون نقض للبنية فهذا هو الموت لا القتل .
والله سبحانه يقول : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } ذلك أنهم أشاعوا أن النبي قد قتل . وكيف يجوز ذلك على الصحابة والله قد قال : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ]
وهنا نقول : هل أنت علمت أن هذه الآية قد نزلت قبل أُحد أو بعدها؟ وهل أنت حسن الظن بأن كل صحابي يكون مستحضرا لكل آيات القرآن في بؤرة شعوره؟ ألا ترى أنهم عندما سمعوا خبر قتله هربوا ، وإذا كان سيدنا عمر قد نسي هذه الآية : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } كما أنه يحتمل أن يكون المراد من عصمة الله رسوله من الناس أنه - سبحانه - يحفظه من فتنة الناس وإذلالهم .
هكذا أراد الله أن تمثل لنا معركة أُحد كل الطوائف والأصناف التي تُنسب إلى الإيمان تمثيلا يتضح في موقف ابن أُبيّ حيث انخذل وانقطع عن رسول الله بثلث القوم ، ومرحلة أقل منها ، تتمثل في طائفتين هَمَّتا ، ثم شاء الله أن يربط على قلوبهما فيظلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما نشبت المعركة كان للرماة موقف في المعركة الأُحدية .
فحين رأوا النصر أولا ورأوا الغنائم سال لعاب بعضهم على الغنائم ، فحصل انشقاق فيهم ، فعبد الله بن جبير وهو رئيس الرماة ومعه من القلة يُصر على تنفيذ أمر رسول الله فيقاتل حتى استشهد ، واستشهدوا وهؤلاء هم الذين أرادوا الآخرة . بينما كان هناك قوم آخرون أرادوا الغنائم ، وحيما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل فرت البقية الباقية من الرماة وغيرهم من المعركة ، ورسول الله ينادي القوم : " إليَّ عباد الله إليّ عباد الله " .
كل هذه مصاف إيمانية تمثل لنا كيف يُصفى الله مواقف المنسوبين إليه . وتظهر وتوضح موقف كل واحد ، وأنه مفضوح إيمانيا إن وقف موقفا يخالف منهج الله . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذا الوقت - في موقف الإنهاك لقوته البشرية لدرجة أننا قلنا : إنه أراد أن يصعد فلم تَقو مادته البشرية ، فطأطأ طلحة ظهره ليصعد النبي عليه ، وهو في هذه المرحلة من الإنهاك المادي البشري يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطيه من القوة في هذا الضعف وفي هذا الإنهاك ما يقف به أمام جبار من جبابرة قريش .
(1/1216)
كان هذا الجبار يتهدده .
ولو أن الموقف كان موقف قوة لرسول الله أكان من المعقول أن ينتصر رسول الله على جبار قريش؟
ولكن الله يريد أن يُرينا تأييد الله لرسوله ، في موقف إنهاكه وكيف يقف من جبار قريش هذا الموقف ، هذا الجبار هو " أبي بن خلف الجمحي " وكانت عنده رَمَكة فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه الرمكة أنا أعلفها كل يوم فَرَقاً من ذرة لأقتلك عليها . فيقول له رسول الله قولة الواثق من أن ربه لن يخذله : " بل أنا أقتلك إن شاء الله " .
لم يلتق هذا الرجل مع رسول الله وهو في قوته ، ولكنه جاء لرسول الله وهو في هذا الموقف الذي أثخنته فيه الجراح وكسرت رباعيته ودخلت خلقتا المغفر في وجنتيه وسال دمه . وبعد ذلك يأتي إليه هذا الرجل " أبي بن خلف الجمحي " وهو يقول : أين محمد؟ لا نجوت إن نجا ، فقال القوم : يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟
فيشير إليهم رسول الله أن اسكتوا . إنه - رسول الله - لايريد قوة لقوة ، ولكنه علم أن أُبَيّاً قد عرف أن رسول الله منهك فجاء في هذا الوقت ، فأخذ رسول الله الحربة ، وضرب أبي بن خلف بها فنالت منه ، فسقط من على فرسه يخور كما يخور الثور ، فقال له أصحابه : " لا بأس عليك يا أُبيّ ، ما أجزعك : إنما هو خدش " .
وهذا الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي اشتد عليه غضب الله تعالى لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال : " اشتد غضب الله على مَنْ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله واشتد غضب الله على قول دَمَوْا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ولننظر كيف أن الذين عادوا رسول الله صلى عليه وسلم استكبارا وعنادا ، ولم يعادوه عقيدة قلبية ، إنهم يعتقدون صدقة ، ويعتقدون حُسن بلاغه عن الله ، ويتحقق ذلك من قوله سبحانه وتعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } [ النمل : 14 ]
فما هو الاستيقان هنا؟ لقد قال أصحاب أبيّ له : ما أجزعك إنما هو خدش فقال أبيّ : والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا جميعا . لكن أصحاب أبي قالوا له مرة أخرى : لا بأس عليك يا أبي إنه خدش بسيط . لكنْ أبي يقول :
- لا والله لقد علمت أنه يقتلني؛ لأنه قال لي بمكة : " أنا قاتلك إن شاء الله " فوالله لو بصق علي لقتلني . فمات وهم قافلون به إلى مكة .
هذا يحدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقف الضعف والإنهاك ، ويشاء له الله أن يقتل جبارا من جبابرة قريش وهو في هذه الحالة .
(1/1217)
إن كان ذلك لأدلة تثبت لهم أن البشرية المادية لا علاقة لها مطلقا بمدد النصر من الله؛ فالله يمُد رسوله حتى في وقت الضعف . ومدده سبحانه لرسوله وقت ضعف الرسول هو إعلام بقيوميته سبحانه على جنوده؛ لأنهم لو ظلوا أقوياء لقيل في عرف البشر : أقوياء وغلبوا .
لكن ها هو ذا الرسول يصيب الجبار من قريش في مقتل والرسول ضعيف ، وبعد ذلك يعطي الحق سبحانه لرسول الله أشياء إيمانية تزيده ثقه بأنه هو رسول الله ، وتزيد المؤمنين ثقة بانه رسول الله . لقد خرج إلى المعركة وهو يعلم بما سيكون فيها؛ لأنه قال : " إني قد رأيت والله خيرا رأيت بقرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمِّا ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لقد رأيتني يوم أحد وما في الأرض قربى مخلوق غير جبريل عن يميني وطلحة عن يساري " .
إذن فالمعركة بكل أحوالها عُرضت عليه ، ومع ذلك أقبل رسول الله على المعركة ليستدل من ذلك على أن الله أعطاه المناعة قبل أن يخوض المعركة . هذا ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم ، لقد رأى فأول ، وأما الذي يتعلق بالناس ، فيأتي إلى واحد من قتلى المعركة - وقتلى المعركة ، لا يُغسلون؛ لأن الذي يغسل هو من يموت في غير معركة - يأتي الرسول إلى واحد من هؤلاء الشهداء فيقول : " إن صاحبكم لتغسله الملائكة " - يعني حنظلة - المؤمنون يرون أنه صلى الله عليه وسلم قد خرج عن القاعدة في الشهداء . كيف؟ لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبر بعد ذلك . . ولا يُخرج حنظلة عن قانون الشهداء أنه يُغسّل . . ولكن الذي يغسله هم الملائكة . . إن الملائكة تغسل حنظلة .
وبعد أن رجع رسول الله إلى المدينة يسأل أهله ما شأنه . . فيعلم أن حنظلة قد دخل بعروسه . . ثم نودي للمعركة . . فأعجله نداء المعركة . . فذهب إلى المعركة جُنبا . . فذلك غُسْل الملائكة له ، لقد تأكد الخبر من زوجة حنظلة . . إذن فهذه شهادة أخرى أن الله سبحانه وتعالى لم يتخل عنهم في أوقات الضعف ، وأن تلك العملية كانت عملية مقصودة .
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء لتؤكد لنفسه أنه رسول الله . ألم نقل سابقاً : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء له صحابته فقالوا يا رسول الله : إن جابر بن عبد الله عليه دين ليهودي وأجل الدين إلى جَزّ التمر وتمُره خَاسَ هذا العام أي فسد من آفةٍ مثلاً فنحب يا رسول الله أن تطلب من اليهودي أن يُنظر جابرا - أي ينتظر عليه ويؤخره إلى وقت آخر - فذهب رسول الله إلى اليهودي وطلب منه أن يُنظر جابرا ، فلم يرض اليهودي وقال : لا يا أبا القاسم .
(1/1218)
فأعاد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال اليهودي : لا يا أبا القاسم . فأعاد عليه الرسول مرة ثالثة فقال اليهودي : لا يا أبا القاسم . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بثقة الإيمان بالله ما معناه : يا جابر اذهب بي إلى بستانك .
وذهب رسول الله فجاس خلال النخل ، ثم ذهب إلى عريش جابر الذي يجلس فيه ، واضطجع وقال : يا جابر جز واقض . قال جابر : فذهبت فجززت ، فإذا ما جززته يؤدي ما عليّ لليهودي ويبقى لي مالم يبق لي وأنا غير مدين . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أشهد أني رسول الله " . إن الحق سبحانه يعطي رسوله بينات توضح أنه رسول الله ، فاليهودي لم يرض بشفاعة النبي ، فيعطي الله رسوله ما يؤكد أنه رسول الله . وهكذا نرى أن الله يعطي رسوله في وقت الضعف الأدلة التي تؤكد له أنه رسول الله . والذي يدل على ذلك هؤلاء الذين أحبوا أن يؤذوه في اسمه . إنّ اسمه مُحمد كما نعرف ، و " محمد " أي الممدوح من الكل ، وبكثرة ، فيأتي خصومه ويريدون أن يهجوه وأن يلعنوه ، فيصرفهم الله سبحانه وتعالى حتى عن شتم الاسم لا المسمى فقط .
إن الله أراد أن يصعد العصمة ، وأراد - سبحانه - ألا ينالوا بالسباب من اسم رسول الله ، فألهم الله خصوم رسول الله أن يسموا المشتوم عندهم " مذمما بدلا من " محمد " . وعندما يريدون اللعن ، فهم لا يلعنون الاسم محمداً ولكنهم يسبون الاسم الذي اختاروه وهو " مذمم " ، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ عندما سمع ما قالته أم جميل امرأة أبي لهب .
" مذمما عصينا . . وأمره أبينا . . ودينه قلينا " . وهي تقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حدث أن حمالة الحطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها حجر فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر فقالت : يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه أما والله إني لشاعرة وقالت ما قالت .
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تعجبون لَما يصرف الله عني من أذى قريش يشتمون مُذَمَّماً ويلعنون مذمما وأنا محمد " .
هكذا نرى من أفواه الحاقدين على رسول الله أنه معصوم بإرادة الله ، حتى الاسم أبعده الله عن اللعن ، أما المسمى فلن يلعن ولن يشتم .
(1/1219)
إن ما حدث في غزوة أحد كان هو التربية الأولى لصحابة رسول الله ، والتأكيد على صدق بلاغه عن الله . إن هذه المعركة قد صورت ذلك وجسدته ، ولذلك حين نلحظ المعارك التي جاءت بعد هذه المعركة فإننا لا نجد للمؤمنين هزيمة أبدا ، لأنهم صُفوا التصفية وربُوا التربية التي جعلت كل واحد منهم عارفا أن الله يعلم ما يخفيه وإن لم يحسن البلاء والجهاد فسيفضح الله ما في نفسه ، وسيعلن الله عنه؛ لذلك دخل كل مؤمن منهم المعارك وهو مقبل على الجهاد ، كل المعارك بعد أُحد جاءت نصرا وجاءت سلاما .
وهنا يعلمنا الحق أن البقاء على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النجاة وهو النصر ، ويحذرنا سبحانه ألا ينقلب المؤمن على عقبيه ، قال لنا : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } .
{ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } هي صورة حركية مادية مرئية . وقد حدث ذلك من بعض الصحابة في معركة أحُد ، لقد فر البعض وانقلب بعضهم إلى المدينة ، ومعنى " انقلب " أي أعطى ظهره للمعركة بعد أن كان مواجها لعدوه ، وهي مثل قوله : { وَلَّوُاْ الأدبار } .
ولكن في قوله : { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } فيه انقلاب حسي أيضا ، وفيها كذلك انقلاب نفسي ، وهو الانصراف عن أصل الدين ، ولذلك سيعرفنا الحق أن المنافقين بعد حدوث تلك الواقعة وبعد ما فشا وذاع في الناس قتل الرسول كان لهم كلام ، وضعاف الإيمان كان لهم كلام آخر؛ فالمنافقون الذين هم أكثر شرا من الكفار قالوا : لو كان نبيَّا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم .
أما الذي آمنوا إيمانا ضعيفا فقالوا : سنذهب إلى ابن أُبَيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان . فيقف أنس بن النضر قائلا : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - أي المنافقون - وأعتذر إليك مما يقول هؤلاء - أي ضعاف الإيمان - .
لقد وزعها بالحق؛ فهو يبرأ إلى الله من قول المنافقين الذين قالوا : إنهم سيعودون إلى دينهم القديم ، ويعتذر ويستغفر عن ضِعاف الإيمان . ويقول سبحانه : { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } . لماذا؟ لأن الله أزلاً وقبل أن يخلق شيئا من خلقه له كل صفات الكمال ، إذن فأي صفة من صفات الكمال لم تطرأ عليه - سبحانه - من خلقه ، إنه - سبحانه - أوجد الكون بما فيه الخلق لأنه قادر ، وأوجده لأنه حكيم ، وأوجده لأنه عالم ، إذن فخلق الخلق لم يزد الله صفة من صفاته ، فحين خلقكم وصنعكم أعطى لكم المنهج لتكونوا خلقا سويا . إذن فالمصلحة تعود علينا نحن الخلق ، فكان يجب أن تنظروا إلى المناهج التي تأتي من الله على أنه لا نفع فيها لله ، ولكن النفع فيها عائد عليكم . ولذلك جاءت الآية من بعد ذلك لتقول : { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } لأن الشكر إنما يؤديه العبد على نعمة ، نعمة تمحيص وتعليم وبيان مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه . لقد تعلم المؤمنون أن الله يستحق منهم الشكر على هذه النعم .
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى قضية عامة ، القضية العامة للناس جميعا هي : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً . . . }
(1/1220)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
وساعة تسمع " ما كان " أي " ما ينبغي " . فنحن في حياتنا نقول : ما كان لك أن تضرب زيدا ، ونقصد أنه ما ينبغي أن تضرب زيدا . فقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } هذا القول قد يدفع إلى التساؤل : وهل الموت أمر اختياري؟ لا ، ولكن تعبير الحق سبحانه له إيحاء؛ لأنك عندما تقول : ما كان لفلان أن يفعل كذا ، فهذا معناه أن لفلان أن يختار أن يفعل ذلك أو لا يفعله ، وفي قدرة فلان أن يفعل أو لا يفعل . أما عن قدرة الله فلا يمكن أن يقول أحد ذلك .
إننا نفهمه على فرض أن النفس تدفع نفسها إلى موارد التهلكة ، فما لها أن تموت إلا أن بأذن الله . فإذا كانت النفس هي التي تدفع نفسها إلى موارد التهلكة ، ومع ذلك لا تملك أن تموت ، فكيف إذا لم تدفع نفسها إلى موارد التهلكة . إذن فالموت إن أرادته النفس فلن يأتي إلا أن يكون الله قد أذن بذلك . وإننا نجد في واقع الحياة صورا شتى من هذه الصور .
نجد من يضيق ذرعا بهذه الحياة؛ لأن طاقته الإيمانية لا تتسع للبلاء والكد في الدنيا فينتحر ، إنه يريد أن يفر مما لا يقدر على دفع أسبابه . أما الذي يملك الطاقة الإيمانية الرحبة فأي شقاء أو بلاء يقابله يقول : إن لي ربا ، وما أجراه عليّ ربي فهو المربي الحكيم الذي يعرف مصلحتي أكثر مما أعلم ، ولعل هذا البلاء كفارة لي عن ذنب .
وهذا عكس من يفر مما لا يقدر على دفع أسبابه ، فيحاول أن يقتل نفسه ، وكل منا قد رأى أو سمع عن بعض الذين يريدون ذلك لكن يتم إنقاذهم ويدركهم من ينفذ مشيئة الله في إنقاذهم ، كغسيل المعدة لمن ابتلع أقراصا سامة ، أو إطفاء حريق من أشعل في نفسه النار . فالمنتحر يريد لنفسه الموت ولكن الله إذا لم يأذن ، فلا يبلغه الله هذا ، فقد تجد مُنتحرا يريد أن يطلق على نفسه رصاصة من مسدس فلا تنطلق الرصاصة ، أو تجد منتحرا آخر يريد أن يشنق نفسه بحبل معلق في السقف فينقطع الحبل ، لماذا؟ لا يقبض الحياة إلا من وَهَب الحياة .
قد يقول قائل : ولكن هناك المقتول الذي يقتله إنسان آخر . وهنا يرد المثل الشعبي : لو صبر القاتل على المقتول لمات بمفرده ، إن اللحظة التي تفارق الروح مادة الجسد موقوتة بأجل محدود ، فمرة تأتي اللحظة بدون سبب ، فيموت الإنسان حتف أنفه ، ويقول أصدقاؤه : لقد كان معنا منذ قليل . إنهم ينسون أنه مات لأنه يموت بكتاب مؤجل .
ولذلك نجد إنسانا يسعى إلى عافية الحياة ، فيذهب إلى إجراء جراحة ما ، وأثناء إجراء الجراحة يموت .
(1/1221)
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول في ذلك :
في الموت ما أعيا وفي أسبابه ... كل امرئ رهن بطيِّ كتابه
أسد لعمرك من يموت بظفره ... عند اللقاء كمن يموت بنابه
إن نام عنك فكل طب نافع ... أو لم ينم فالطب من أذنابه
إن الكتاب إذا انطوى فقد انتهى الأمر ، حتى عندما يلتقي الإنسان بأسد ، فيستوي الموت بالناب ، كالموت بظفر الأسد . فإن نام الموت عن الإنسان فقد يشفيه من أمراضه قرص دواء أو جرعة ماء . أما إن استيقظ الموت فالطب والعلاج قد يكون ذَنَبَاً أو أداة للموت ، والقاتل كل ما فعله أنه نقض بنْية المقتول ، وهذا هو ما يعاقب عليه .
إذن فقول الحق : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } يطلق قضية عامة . والكتاب المؤجل يطلق مرة على زمن العمر كله ، ومرة يطلق على النهاية النهائية منه ، والنهاية النهائية هي الموت الحقيقي . فالقاتل حين ينقض بنية القتيل إنما يوافق الأجل المكتوب الذي أراده الله . لكن لماذا نعاقب القاتل إذن؟ نحن نعاقبه لأنه نقض بنية إنسان آخر .
والحق يقول : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } . ولنلحظ قوله : { بِإِذْنِ الله } فهي تدلنا على أن الله هو الذي يطلق الإذن . والإذن يكون للملائكة ليقوموا بهذه المسألة ، ولذلك نجد القرآن الكريم حين يتعرض لهذه المسألة يسند مرة هذه العملية لله فيقول سبحانه : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الزمر : 42 ]
ومرة أخرى يسند القرآن هذه العملية لِملَكٍ واحد : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ]
ومرة يسندها الحق سبحانه إلى رسل من المعاونين لملك الموت : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ]
والحق سبحانه وتعالى صادق في كل بلاغ عنه؛ لأن كل أمر يحدد الأجل ليس بمراد الموكَّل بإنهاء الأجل ، إنما هو بإذن من الله تعالى الذي يحدد ذلك . وما دام كل أمر قد صدر منه فهو سبحانه الذي يتوفى الأنفس ، وبعد ذلك فالملك الذي يتوفى الأنفس - عزرائيل - له أعوان؛ فهو عندما يتلقى الأمر من الله فهو ينقل الأوامر إلى أعوانه ليباشر كل واحد مهمته . إذن فصيرورة الأمر بالموت نهائيا إلى الله .
وصيرورة الأمر بالموت إلى الملائكة ببلاغ من الله ، هذا هو الإذن ، والإذن يقتضي مأذونا ، والمأذون هم ملائكة الموت الذين أذن لهم ملك الموت بذلك ، وملك الموت تلقي الإذن من الله سبحانه وتعالى .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } فالذي يريد جزاء الدنيا وهو الذي يطلب جزاء حركته فيها ، يأخذها ، ولو كان كافرا :
(1/1222)
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ]
ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن الكريم : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ]
وهذا ينهي عملية أن تقول : إن الكفار حالتهم أفضل من حالتنا ، الكفار متقدمون؛ ونحن متخلفون . وهل لم تأت فترة كان فيها المؤمنون متقدمين جدا؟ لقد جاءت فترة تقدم فيها المؤمنون ، وكانوا متقدمين لألف سنة ، وهم الدولة الأولى في العالم . وكان الكفار يسمون زمانهم ودولهم بأنها تحيا في عصور الظلمات . لماذا أنكرتم هذه!؟ لان التاريخ جاء لنا من ناحية هؤلاء وقد شوهوه ، ولذلك نقول لهم : نحن كنا متقدمين وأنتم والتاريخ يشهد بذلك .
ولذلك قلنا : يجب على المؤمن بالله أن يكون غيورا على أسباب الله ، فلا يدع أسباب الله للكافر بالله ، أيأخذ الكافر بأسباب الله وأنت يا مؤمن بالله تترك الأسباب ليأخذها هو!؟ لا؛ لأن من يعبد الله أولى بسرِّه في الوجود ، فكوننا نتركهم يأخذون الأسرار العلمية ولا ننافسهم في هذا المجال هذا تقصير منا .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين } ونلحظ أن الحق قد جاء بلفظ { الشاكرين } مرتين ، والقرآن يؤكد هذا المعنى . إنه سبحانه أعطاكم أسبابا فإن كانت الأسباب قد جاءت لكم بمسائل الدنيا فهي تستحق الشكر ، وإن كانت ستعطيكم تكليفا مع الأسباب فهذا التكليف سيعطيكم خير الآخرة ، وهو أمر يستحق الشكر أيضا .
وبعد هذا الكلام النظري { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } . . يقول ما يؤكد وجوده في موكب الإيمان الذي سبقكم؛ لأن فيه فرقا بين الكلام وبين أن يقع مدلول الكلام ، فواقع الكلام سبقكم فيقول : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا . . . }
(1/1223)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{ وَكَأَيِّن } هذه يقولون : إنها للتكثير ، مثل " كم "؛ فعندما يقول لك إنسان مثلا : لماذا تجافيني؟ فتقول له : كم زرتك؟ إن قولك : " كم زُرتك! " في ظاهرها أنها استفهام ، وأنت لا تريد أن تقول له مستفهما كم مرة زرته فيها ، بل تقول له : أنت الذي عليك أن تقول - لأنك بقولك ستعترف أني زُرتك كثيرا ، فيكون الجواب موافقا لما فعلت . وأنت لا تقول " كم زرتك " إلا وأنت واثق أنه إذا أراد أن يجيب فسيقول : " زرتني كثيرا " ولو كنت لا تثق أنه سيقول : زرتني كثيرا ، لَمَا قلتها ، فعندما تقول له : كم زرتك ، كم تفضلت عليك ، كم واسيتك ، كم أكرمتك؟ فإن " كم " تأتي للتكثير ، وتأتي مثلها " كأين " إنها للتكثير أيضا ، عندما تقول مثلا : " ياما حصل كذا " و " ياما " هذه معناها " كأيِّن " .
وقد يسألك صديق : كيف حدثت هذه الحكاية؟ فتقول له : كأي رجل يفعل كذا ويحصل له كذا ، اي ان المسأله ليست غريبة ، إن قولك : كأي رجل معناها أنها شاعت كثيرا ، وعندما تقول : كم مرة زرتك ، وكم من مرة زرتك فهذان الاستعمالان صحيحان والمعنى : كثير من نبي قاتل معه مؤمنون برسالته كما حدث وحصل مع رسول الله . وقوله الحق { رِبِّيُّونَ } أي ناس فقهاء فاهمون سبل الحرب ، و " ربيون " أيضا تعني أتباعا يقاتلون ، و " ربيون " يمكن أن ينصرف معناها إلى أن منهجهم إلهي مثل " الربانيين " .
وقول الحق : { فَمَا وَهَنُواْ } أي ما ضعفوا ، إذن فهو يريد أن يأتي بالأسوة ، وكأنه سبحانه يقول : أنتم لماذا ضعفتم في موقفكم في غزوة أُحُد وأنتم تقاتلون مع رسول الله . لقد كان الأولى بكم أن يكون حماسكم في القتال معه أشد من حماس أي أتباع نبي مع نبيهم؛ لأنه النبي الخاتم الذي سيضع المبدأ الذي ستقوم عليه الساعة ، ولن يأتي أحد بعده ، فكان يجب أن تتحمسوا؛ فأنتم خير أمة أخرجت للناس ، وأنا ادخرتكم لذلك .
إن الحق يعطيهم المثل وفيه تعريض بهم وعتاب لهم ، وفي هذا القول تعليم أيضا ، فيقول : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ } أي وكثير من الأنبياء { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ } ونستوحي من كلمة { وَهَنُواْ } أي ما ضعفوا . فكأنه قد حدث في القتال ما يضعف ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ } أي ما حدثت لهم نكسة مثلما حدثت لكم .
{ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } . وكل من { وَهَنُواْ } و { ضَعُفُواْ } و { استكانوا } هذه جاءت في موقعها الصحيح؛ لأن " الوهن " بداية الضعف ، و " الوهن " محله القلب وهو ينضح على الجوارح ضعفا .
(1/1224)
و { استكانوا } ماذا تعني؟ إنها من " سكن " . والسكون تقابله الحركة .
والحرب تحتاج إلى حركة ، والذي يأتي للحرب فهو يحتاج إلى كرّ وفر . أما الذي لا يتحرك فهذا معناه أنه ليس لديه قدرة على أن يتحرك ، وساعة تسمع - الألف والسين والتاء - وتأتي بعدها كلمة ، نعلم أن ( الألف والسين والتاء ) للطلب ، " فاسْتَفْهَم " أي طلب أن يفهم ، وهي تأتي لطلب المادة التي بعدها . كأن نقول : " استعلم " أي طلب أن يعلم ، أو نقول : " استخبر " أي طلب الخبر ، و " استكان " يعني طلب له كوْناً أي وجوداً ، فكأنهم بلغوا من الوهن ومن الضعف مبلغاً يطلبون فيه أن يكون لهم مجرد وجود؛ لأن الوجود مظهره الحركة ، والحركة انتهت ، هذا هو معنى { استكانوا } .
وما دامت مِن الكون يكون وزنها - مثلما يقول الصرفيون - " استفعل " يعني طلب الكون ، وطلب الوجود ، وقد يكون وزنها ليس كذلك؛ إذا كانت من سكن ، وهي بهذا الاعتبار لا يكون فيها طلب؛ لأن السين ستكون أصلية ، فوزنها ليس " استفعل " بل هو " افتعل " ف " استكانوا " هل تعني أنهم طلبوا السكون؟ لا؛ لأنهم كانوا ساكنين ، إذن فالأولى أن يكون معناها أنهم طلبوا مجرد الوجود ، هذا ما أميل إليه وأرجحه ، وقيل في معناها : فما خضعوا وما ذَلوا من الاستكانة : وهي الذلة والخضوع .
{ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين } فما يصيب العبد ابتلاء من الله ، وفي الحديث : " إذا أحب الله قوما ابتلاهم " . وكل ذلك الوهن والضعف ، لا يشغلهم عن المعركة ، لأنهم لو صبروا على التحمل لأمدهم الله بمدد من عنده؛ لأنه حين تفرغ أسباب الخلق وتنتهي يأتي إمداد الخالق .
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى بتذييل الآية : { والله يُحِبُّ الصابرين } أي وكفى جزاء عن الصبر أن تكون محبوبا لله؛ لأننا قلنا سابقا : قد نحب الله لنعمه التي أنعمها علينا ، ولكن المسألة ليست في أن تحب الله أنت ، وإنما في أن تصير بتطبيق منهجه فيك محبوبا لله . وقد أثر عن بعضهم قوله :
وإلا أَلم تَرَ كثيراً أحَبَّ ولم يُحَبْ؟!!
أنت أحببت للنعم ، ولكنك تريد أن تكون محبوبا من الله؛ لأن حبك للنعم لا يكفي ، فمثل هذه النعم أخذها الكافر أيضاً ، إذن فهناك حاجة أخرى . هناك مقدم وهناك ومؤخر فالمقدم هو نعم الحياة وكل البشر شركاء فيها مؤمنهم وكافرهم ، ولكن المؤخر هو جزاء الله في الآخرة وهو الأصل .
إذن ، فلو أن الناس فطنوا إلى قول الله : { والله يُحِبُّ الصابرين } لقالوا : كفى بالجزاء عن الصبر أن نكون محبوبين لله ، حين أصابهم ما أصابهم . صحيح أن الإصابة لم تصنع فيهم وهناً أو ضعفا أو استكانة ، وهذا معناه أن فيهم مُسكة اليقين بالله .
(1/1225)
ومُسكة اليقين بالله تجعلهم أهلا لإمداد الله . فليس لك إلا أن تصبر على ما أنت فيه لتعرف مدد الله لك . ومدد الله لك لا يتجلى بحق إلا وقت الضعف؛ لأنك وقت قوتك قد تعمل مثل الذي قيل فيهم : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 49 ]
لكن المؤمنين حين أصابهم ما أصابهم { فَمَا وَهَنُواْ } ؛ لأِنَّهم كانوا متيقظين إلى قضية إيمانية : إن الله لا يسلمك لنفسك إلا حين تغيب عنه ، فقالوا : ولماذا حدث لنا هذا؟ لم يقولوا : ربنا انصرنا كي نخرج من الضعف ، لا . بل فكروا في الأسباب التي أدت بهم إلى هذا : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا . . . }
(1/1226)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
فكأن ما حدث نتيجة لذنب تقدم ففطنوا إلى السبب ، كان المفروض أنهم في معركة ، وهذه المعركة أجهدتهم وأنهكتهم ، صحيح أنهم لم يضعفوا ، وكان المفروض أن يقولوا : " يارب انصرنا أولا " لا . بل قالوا : لا بد أن نعرف السبب في النكسة الأولى ، السبب في هذه النكسة أن الله لم يسلمني إلى نفس إلا لأني نسيته .
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا } ، { ربَّنَا } ، وانظر لكلمة النداء في { ربَّنَا } ، كان يمكن أن يقولوا : يا ألله إنما جاءوا بكلمة " ربنا " لماذا؟ لأن علاقة العبد بالربوبية هي قبل علاقته بالألوهية ، فالألوهية مكلفة ، فمعنى " إله " أي : معبود ، وما دام معبودا فله تكليف يطاع فيه ، وهذا التكليف يأتي بعد ذلك ، هو سبحانه له ربوبيته في الخلق . قبل أن يكلفهم ، وما دام الرب هو الذي يتولى التربية ، فالأولى أن يقولوا : يارب ، إذن قولهم : " ربنا " يعني أنت متولي أمورنا ، أنت الذي تربينا .
{ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } فكأنه لا شيء يصيبنا إلا بذنب من الغفلة ارتكبناه . ونعرف من كلمة " ذنب " أن الذي يفطن إلى معناه لا يفعلها أبدا ، لأن كلمة " ذنب " مأخوذة من مادة " الذَنَب " . والذَّنْبُ سيأتي بعده عقوبة . فاللفظ نفسه يوحي بأن شيئا سيأتي ، وعندما تتذكر عقاب الذنب فأنت لا تفعله .
{ اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } لأن كل معصية تكون تجاوزا عما أَحلَّه الله لك ، وزيادة غير مشروعة وإن كانت من نوع ما أحله الله ، ولكنها زيادة عن مقومات حياتك ، فالله شرع لنا الزواج لنأتي بالأولاد ، وعندما نأخذ أكثر من هذا من غير زواج نكون قد أسرفنا ، والله أعطانا مالا بقدر حركتنا ، فإن طمعنا في مال غيرنا فقد أسرفنا . " وأسرفت " يعني أن تأخذ حاجة ليست ضرورية لقوام حياتك ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ]
إنه سبحانه يوضح : أنا حللت لك كذا من النساء فما الذي جعل عينيك تزوغ وتميل إلى غير ما أحله الله لك؟ أنا أحللت لك كسب يدك وإن كنت فقيراً فستأخذ صدقة ، لماذا أسرفت؟ إذن فكل أمر زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة اسمه " إسراف " { وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } . لقد بدأوا يدخلون في الحق ، لكنهم في البداية رَأَوْا الباطل ، والباطل هو من أسباب تخلي الحق عن نصرتنا أولا ، لكن عندما يغفر سبحانه الذنب ويغفر الإسراف في الأمر نكون أهلاً للمدد وأهلاً لتثبيت الله .
{ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } كيف يقول الحق ذلك والمفهوم في المعركة أن الأقدام لا تثبت؟ المعركة تطلب من المقاتل أن يكون صوالاً جوالاً متحركا ، إذن فما معنى { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } ؟ إن قول الحق : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } يعني لا تجعلنا نفر من أرض المعركة ، ولا نترك أرض المعركة أبدا .
(1/1227)
ولذلك قلنا : إن الكفار عندما حدث منهم ما حدث لم يظلوا في ارض المعركة ، بل تركوا أرض المعركة وانصرفوا ، وهؤلاء المؤمنون ولو أنهم انهزموا إلا أنهم مكثوا في أرض المعركة مدة ، وكروا وراء أعدائهم وطاردوهم . وقد اهتدى البشر أخيراً إلى هذا المعنى ، ففي فرنسا نيشان يسمونه " نيشان الذبابة " لماذا الذبابة؟ لأن الذبابة إن طردتها عن مكان لا بد أن تعود إليه ، فكذلك المفروض على القائد - ما دام انسحب من منطقة - أن يوطن نفسه على العودة إليها ، فيعطوه نيشان الذبابة .
فقوله : { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } في أي منطقة؟ وفي أي معركة؟ علينا ألا نبرح أماكننا؛ لأننا ساعة أن نبرحها فهذه أول هزيمة ، وهذا أمر يُجَرِّئ العدو علينا .
{ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } . كلمة { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } هي حيثية ، فما داموا قد قالوا : { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } فهم إذن مؤمنون ومؤمنون بحق؛ ولذلك فإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قولته المشهورة : إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة الله ، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم .
ولذلك فالإيمان يتطلب أن تنتبهوا إلى موطن الضعف فيكم أولا ، والذي استوجب أن يصيبكم ما أصابكم ، حقاً إنكم لم تضعفوا ، ولم تستكينوا وأصابكم من المعركة شيء من التعب والألم . كأن الحق يوضح لنا أنهم قد تنبهوا فأحسنوا البحث في نفوسهم أولا ، لقد تكلموا عن الذنوب وطلبوا المغفرة وتكلموا عن الإسراف على النفس ، وبعد ذلك تكلموا عن المعركة . فماذا كان العطاء من الله؟
ويأتينا الجواب في قوله الحق : { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة . . . }
(1/1228)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
أي أن الذي يريد الدنيا فالله يعطيه من الدنيا غنائم وأشياء ، ولنا أن نلحظ أن الحق عندما يتكلم هنا عن الدنيا فهو لم يصفها بحُسن أو بشيء ، فقط قال : { ثَوَابَ الدنيا } ، لكن عندما تكلم عن الآخرة فهو يقول : { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } وهذا هو الجمال الذي يجب أن يُعشق؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي متاع وغرور وزخرف زائل ، ومهما كنت منعماً فيها فأنت تنتظر حاجة من اثنتين : إما أن تزول عنك النعمة ، وإما أن تزول أنت عن النعمة .
ويختم الحق الآية بقوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } وقد أحسنوا حين ناجوا ربهم بعدما أصابهم . إنهم سألوا المغفرة ، وسألوا أن يغفر لهم إسرافهم في أمرهم ، وأن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين؛ لأنهم رأوا أن قوتهم البشرية حين يتخلى عنهم مدد الله تصبح هباءً لا وزن لها .
{ فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة والله يُحِبُّ المحسنين } ومثلما قلنا في الصبر : { والله يُحِبُّ الصابرين } كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوباً لله ، كذلك كفى بالجزاء على الإحسان أن تكون محبوبا لله . وبعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُوا . . . }
(1/1229)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
وما دمتم مؤمنين وهم كفار فكيف يتأتي منكم أن تطيعوا الكافرين؟ إنكم وهم من أول مرحلة مختلفون؛ أنتم مؤمنون وهم كفار ، والكافر والمنافق سيستغل فرصة الضعف في النفس الإيمانية المسلمة ، ويحاول أن يتسلل إليها ، مثلما قلنا : إن جماعة من المنافقين قالوا : قتل محمد ، ولم يعد فينا رسول فلنلجأ إلى دين آبائنا . والمؤمنون الذين أصابتهم لحظة ضعف قالوا : نذهب إلى ابن أبي - المنافق الأول في المدينة - ونطلب منه أن يتوسط لنا عند أبي سفيان ليأخذ لنا الأمان .
ولذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } ، فإن كان الموقف يحتاج إلى ناصر فلا تطلبوا النصير من الكافرين ، ولكن اطلبوه ممن آمنتم به . وينزل القول الحق : { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين }
(1/1230)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
ألم يقل أبو سفيان : " لنا العُزَّى ، ولا عُزَّى لكم " ، فقال لهم النبي قولوا لهم : الله مولانا ولا مولى لكم ، وعندما قال : يوم بيوم ، أي يوم أٌحد بيوم بدر ، الحرب سجال . فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال : لا سواء ، أي نحن لسنا مثلكم؛ قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، فكيف تكون سواء وكيف تكون سجالاً!؟
{ بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } ونفهم قول الحق : { خَيْرُ الناصرين } أي يجوز ان يوجد الله بشراً كافرين أو غير كافرين وينصروكم نصراً سطحياً ، لا نقول ان هذا نصر انما النصر الحقيقي هو النصر الذي ياتي من الله ، لماذا؟ لأن النصر أول ما يأتي من ناحية الله فاطمئن على أنك خالص ومخلص لله والا ما جاءك نصره ، فساعة يأتيك نصر الله فاطمئن على نفسك الايمانية وانك مع الله . وقول الحق : { خَيْرُ الناصرين } دليل على أنه من الممكن أن يكون هناك ناصر في عرف البشر . وقد قال المؤمنون : يارب نحن ضعاف الآن وإن لم نذهب لأحد ليحمينا ماذا نضع؟ فيوضح لهم الحق : كونوا معسكرا إيمانيا أمام معسكر الكفر ، وإياكم أن تلجأوا إلى الكافرين بربكم؛ لأنهم غير مأمونين عليكم . وإن كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا سأفعل : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } . فإذا ألقى الرعب في قلوب الكافرين فماذا يفيدهم من عَدَدِهم؟! عددهم وأموالهم تصير ملكا لكم وتكون في السَلَب والغنيمة .
(1/1231)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل . فساعة قالوا لأبي سفيان : إن محمداً قادم إليك بجيش كثيف من المدينة ، وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل ، وقادم إليكم في حمراء الأسد . ماذا صنع أبو سفيان وقومه؟ ألقى الله الرعب في قلوبهم وفروا .
وكلمة { سَنُلْقِي } مأخوذة من " الإلقاء " وهو لا يكون إلا لمادة وعين . ويبين لنا القرآن هذا الأمر حين يقول : " فألقى الألواح " ، هذه حاجة مادية . قال تعالى : { وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني } [ الأعراف : 150 ]
إنه أمر مادي . . ونحن نقول : ألقى الحجر . والحق سبحانه يقول : { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ]
إنها حبال ، أي أمر مادي . وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لأم موسى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ]
فالإلقاء أمر مادي ، كأن الله يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا ، فقال : أنا سأجمع الرعب وأضعه في القلب ، ويكون عمله ماديًّا . فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور ، وإذا سكن الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذلا ، فيقول : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } فكأنه مثل لنا الرعب ، والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء ، فأوضح : بأنه سيأتيهم بالرعب ويلقيه في القلب ، فيبقى به ليصنع الخور والخذلان .
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } انظروا إلى التعابير الصادرة عن الله إنه هنا يأتي ب " نون العظمة " ، { سَنُلْقِي } ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل فهو سبحانه يأتي ب " نون العظمة " كقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
ولأن إنزال الذكر عملية عظيمة ، فنأتي ب " نون العظمة " . لأننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة ، وننزله بعلم وننزله ببصر ، وننزله بقيومية ، وننزله بقبض وننزله ببسط ، فقوله : { إِنَّا نَحْنُ } فكأن نون العظمة تأتي هنا ، لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول : " إنني أنا الله " . لم يقل إننا ، ولكن في الإنزال يقول : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ]
لأن هذه عملية عظيمة جليلة؛ ف " نون العظمة " تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة ، ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيُّ عمل تقول : " بسم الله الرحمن الرحيم " لماذا؟ لأن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه ، ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله ، ويحتاج إلى حكمة ، أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة ، فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي يُقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك ، وباسم الحكيم الذي يحكمك .
(1/1232)
وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الاستعانة ، فلا يقول لك : هات الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لأن هناك صفات أنت لا تعرفها ، فيقول لك : هات الاسم الجامع لكل صفات الكمال . قال : " باسم الله " ، وهي تضم كل صفات الكمال .
إذن فأنت تلاحظ انك إذا رأيت " نون العظمة " التي نسميها " نون الجمع " نجد أننا نقول : " نحن " للجماعة . أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه ، ولذلك نلاحظها حتى في قانون البشر ، ألم يقولوا في الملكية : " نحن الملك " ، وهذه النون بالنسبة لله ليست نون الجماعة . إنما هو " نون العظمة " ، العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الأفعال ، لذلك قال سبحانه : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه . إذن فتأتي نون العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟ .
وهو سبحانه لا يتجنى عليهم بالقاء الرعب ، ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب ، لماذا؟ " بما أشركوا " . إن الإشراك بالله هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لأن الله يفعل ، والشركاء لا يفعلون . ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم . فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم الرعب لأنهم ليس لهم مولى ، ولو كان لهم آلهة قادرة - كما يدعون - لقالوا لتلك الآلهة : رب محمد يعمل معنا هكذا فلماذا لا تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بالله ما لا يضر ولا ينفع ، بل ضره أقرب من نفعه .
{ بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة " السين واللام والطاء " ونقول : فلان تسلط على فلان ، أي أرغمه بقدرته عليه . ويقولون : فلان سليط اللسان ، أي قادر أن يسب ، إذن فالسلطة هي : القهر ، والقوة التي ترغم على الفعل ، وفي المعنويات هي الحجة والبرهان ، والمؤمنون دائما ذوو سلطان من الله؛ لأنهم إن انتصروا ماديا فذلك سلطان القهر ، وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا : إن إبليس يأتي يوم القيامة ويقول : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ]
وقلنا إن السلطان نوعان : إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية ، وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل المعصية .
والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير راض عن الفعل . أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك ، فمرة يأتي السلطان بمعنى : قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت مرغم .
(1/1233)
إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل ، فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الآخرة ويقول : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا المعصية ، لا هذا ولا ذاك ، فما الحكاية إذن؟ قال : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } . أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بلا سلطان قوة أقهركم به على شيء ، ولا سلطان دليل أقنعكم به .
ويذيل الحق الآية بقوله : { وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين } أي أن المرجع الذي يأوون إليه هو النار ، والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه . وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه على النار فهو - أي الكافر - مأواه ومثواه الذي يرجع إليه . ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق في بعض الأساليب : " وإليه تَرجَعون " وقوله : " وإليه تُرجعون " . { وَبِئْسَ مثوى الظالمين } . . أي مثوى لا مفر بعده أبدا ، فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه ، لكن المثوى الذي سيبقى خلودا للظالمين هو النار وهو بئس المثوى . وبعد ذلك يقول الحق : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ . . . }
(1/1234)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
ونعرف أن في { صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } نفعولين : الأول هو ضمير المخاطبين في قوله : { صَدَقَكُمُ } ، والثاني هو قوله " وَعْد " المضاف إلى الضمير العائد على لفظ الجلالة " الله " فهو - سبحانه - قد أحدث وعداً ، والواقع جاء على وفق ما وعد . لقد قال الحق : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ]
وقال سبحانه : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ]
والآيتان تؤكدان قضية وعدية ، بعد ذلك جاء التطبيق العملي . . فهل وقع الوعد أو لم يقع؟ لقد وقع ، ومتى؟ فهل يشير الحق في هذه الآية إلى موقعة بدر؟
{ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } . و { تَحُسُّونَهُمْ } أي تُذهبون الحس منهم ، والحس : هو الحواس الخمس ، ومعنى أذهبت حسه يعني أفقدته تلك الحواس . { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } وقد حدث ، وتمكنتم منهم؛ تقتلونهم وتأسرونهم ، أو الحس : هو الصوت الذي يخرج من الإنسان ، وما دام فقد الحس يعني انتهى ، { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } فحينما صدقتم لقاءكم لعدوكم على منهج الله صدق الله وعده؛ هذا في بدر .
أما هنا في أُحد فقد جاء فيكم قوله : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبنتم . { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ } أمر الرسول { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } وهي الغنائم ، { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } . كأنه سبحانه يعطينا العبرة من معركتين : معركة فيها صدق وعد الله ، وفعلا انتصرتم ، وأيضا صدق وعد الله حينما تخليتم عن أمر الرسول فحدث لكم ما حدث . إذن فالمسألة مبسوطة أمامكم بالتجربة الواقعية ، ليس بالكلام النظري وليس بالآيات فقط ، بل بالواقع .
أو أن الأمر كله دائر في أُحد ، نقول فرضا : هو يدور في أُحد ودع بدرا هذه ، حينما دخلتم أيها المسلمون أول الأمر انتصرتم أم لم تنتصروا؟ لقد انتصرتم ، وطلحة بن أبي طلحة الذي كان يحمل الراية للكفر قتل هو وبضعة وعشرون ، الراية الكافرة قد سقطت في أول المعركة ، وحامل الراية يقتل وهذا ما وضحه قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر } فجماعة تقول : لنبق في أرض المعركة ، وجماعة تقول : ننسحب . ورأيتم الغنائم فحدث منكم كذا وكذا . فتأتي النكسة ، ولو لم يحدث ما حدث لكان من حقكم أن تتشككوا في هذا الدين ، إذن فما حدث دليل على صدق هذا الدين ، وأنكم إن تخليتم عن منهج من مناهج الله فلا بد أن يكون مآلكم الفشل والخيبة والهزيمة .
{ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر } ، فجماعة قالوا : نظل كما أمرنا الرسول ، وجماعة قالوا : نذهب إلى الغنائم { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } . . وما دمتم قد تنازعتم وقالت جماعة : لنتمسك بمواقعنا ، وقالت جماعة أخرى : لنذهب إلى الغنائم ، إذن فالذي أراد مواصلة القتال إنما يريد الآخرة ولم تلهه الغنائم ، والقسم الذي أراد الدنيا قال : لنذهب إلى الغنائم .
(1/1235)
وفي هذه المسألة قال ابن مسعود رضي الله عنه : والله ما كنت أعلم أن أحداً من صحابة رسول الله يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أُحد .
أي أنه لم يكن يتصور أن من بين الصحابة من يريد الدنيا ، بل كان يظن أنهم جميعا يريدون الآخرة ، فلما نزل قول الله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } عرف ابن مسعود أن من الصحابة من تتقلب به الأغيار . وذلك لا يقدح فيهم؛ لأنهم رأوا النصر ، فظنوا أن المسألة انتهت؛ لقد سقطت راية الكفر ، وقتل المؤمنون عددا من صناديد قريش . ولقد عفا الله عن المؤمنين وغفر لهم ما بدر منهم من مخالفة لأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } نعم لأنكم كنتم مشغولين بقتالهم قبل أن تنظروا إلى الغنائم ، فلما نظرتم إلى الغنائم اتجه نظركم إلى مطلوب دنياكم ، فانصرفتم عنهم ، ولم تجهزوا عليهم ولم تتم لكم هزيمتهم وقهرهم ، { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } وابتلاؤكم في هذه الغزوة إنما هو رياضة وتدريب على المنهج ، كأنهم غزوة مقصودة للابتلاء ، فترون منها كل ما حدث . وبعد ذلك نجحت التجربة ، فبعد هذه المعركة لم ينهزم المسلمون في معركة قط .
ولذلك يقولون : الدرس الذي يعلم النصر في الكثير لا يعتبر هزيمة في القليل . والمثال على ذلك : لنفرض أن ولداً من الأولاد رسب سنة ، ثم حمل ذلة الرسوب ، نجده ينال بسبب ذلك مرتبة متميزة بعد ذلك بين العشرة الأوائل ، إذن فالرسوب الأول له كان خيرا .
{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } لأنه كان لكم وجهة نظر أيضا عندما تصورتم أن المعركة انتهت بسقوط راية الكفر ومقتل طلحة بن أبي طلحة ومقتل بعض من الصناديد في معسكر الكفر ، فظننتم أن المسألة انتهت ، لكن كان يجب أن تذكروا أن الرسول قال لكم : اثبتوا في مراكزكم وأماكنكم حتى لو رأيتمونا نتبع القوم إلى مكة ، ولو رأيتموهم يدخلون المدينة .
أيوجد تحذير أكثر من ذلك!؟ { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } وسبحانه جل وعلا لم يخرجهم من الحظيرة الإيمانية بهذا القول الحكيم . ويقول الحق من بعد ذلك : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ . . . }
(1/1236)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } هنا جاء لهم بلقطة من المعركة ، حتى إذا سمع كل واحد منهم هذا الكلام يستحضر الصورة المخزية التي ما كان يصح أن تحدث ، { إِذْ تُصْعِدُونَ } ، فيه " تَصْعد " ، وفيه " تُصعِد " وهنا { تُصْعِدُون } من " أَصْعَد " ، و " أًصعد " أي ذهب في الصعيد ، والصعيد الأرض المستوية حتى تعينه على سرعة الفِرار . إنما " صَعِدَ " تحتاج إلى أن يكون هناك مكان عالٍ يصعدون إليه . وهم ساعة أرادوا أن يفروا جَرَوْا إلى الأرض السهلة ومَشَوا ، فكل منهم لا يريد أن يتعثر هنا أو هناك ، إذن فالمناسب لها { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } والفار لا ينظر هنا أو هناك؛ ليس أمامه إلا الأرض السهلة .
{ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } أي لا تعرجون على شيء ، والأهم من ذلك أن هناك تنبيها من القائد الأعظم وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدعوكم " والرسول يدعوكم في أخراكم " أي يناديكم من مؤخرتكم طالبا منكم العودة إلى ميدان القتال " فأثابكم غما بغم " . أنتم غَمَمْتُم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنكم خالفتم أوامره ، فوقفكم الله هذا الموقف .
كلمة { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } كأنه يقول : عاقبكم . ولكنه سبحانه يأتي بها مغلفة بحنان الألوهية { فَأَثَابَكُمْ } . إذن فهي ثواب . . أي أن الحق سبحانه وتعالى بربوبيته وبألوهيته؛ يعلم أن هؤلاء مؤمنون فلم يَقْسُ عليهم ، قال : { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } فكأن ما حدث لكم تخليص حق .
{ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ } ولو لم تحدث مسألة الحزن والخزي والذلة لشغلتكم مسألة أنكم فاتتكم الغنائم والنصر ، ولظل بالكم في الغنائم؛ لأنها هي السبب في هذا . كأن الغم الذي حدث إنما جاء ليخرج من قلبكم لقطة سيل اللعاب على الغنيمة . وما أصابكم من القتل والهزيمة ، { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي أنه سبحانه يقدر ما الذي استولى عليكم ، لأن من الجائز { والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أنهم لم يسمعوا النداء من هول المعركة ، { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وهو سبحانه خبير بكل فعل وإحساس . ويقول الحق من بعد ذلك : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية . . . }
(1/1237)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
وكلمة { أَنزَلَ } تدل على أن هذا عطاء عُلوي ليس له شأن بالأسباب المادية ولا بالقوانين البشرية؛ لأن النوم عرض من الأعراض التي تطرأ على الأحياء ، هذا العرض تستوجبه عمليات كيماوية في نفسك ، وهذه العمليات الكيماوية حتى الآن لا يعرفون ما هي ، وأقصى ما فُهم منه أنه ردع ذاتي لجسم الإنسان . فكأن الجهاز المتحرك المكون من مخ يعمل ، وعين ترى ، وأذن تسمع ، وحواس وحركة هذا الجهاز له طاقة ، ساعة تنتهي منه الطاقة ، لا يقول لك : أنت الذي تترك العمل . لا ، بل يقول لك : أنا لم أعد صالحا للعمل . إنه ردع ذاتي ، مثلما يريدون أن يصلوا إليه الآن في مجال الآلآت بمجرد فصل تيار الكهرباء آليا عن تلك الآلآت فهي تتوقف .
فالردع الذاتي هو في النوم ويأتيك النعاس . وتبين بالبحث العلمي أن هناك أشياء في الجسم لا تخرج كفضلات . بل تحتاج إلى التعادل والتوازن الكيميائي . ونحن نعلم أن هناك بقايا كنتيجة للحركة ، وهناك احتراق للطاقة ، وكل حركة فيها احتراق ، وبقايا هذا الاحتراق تخرج مرة على هيئة بول ومرة يخرج غائطا ومرة يخرج مخاطاً ، وهكذا ، إذن كثير من هذه الفضلات هي نتيجة عمليات الاحتراق ، لكن هناك أشياء لا نريد لها أن تخرج ولكن نريدها أن تتعادل ، فعندما تنام لا يوجد لك حركة وتبتدئ الكيماويات داخل الجسم في التعادل ، وهذا هو ما يفعله لك النوم الذي تستوجبه أسبابك المادية .
وصاحب الهم والغم لا ينام أبدا؛ فهو يسهو عن نفسه ويرهق جسمه أكثر وتكون المصيبة كبيرة عليه ، وهنا ينزل الحق فضله عليكم بالنوم لأن أسبابكم لا تساعد أيا منكم على أن ينام .
وأنتم تذكرون قديما أننا قلنا : إن الإمام عليًّا كرم الله وجهه لما اشْتُهِرَ بالفتيا ، وكلما سألوه عن أمر أفتى فيه ، فقالوا : نأتي له بمسألة معقدة ونرى كيف يأتي بالفتيا ، وكأنهم نسوا أنه يُفتى لأنه تربى في حضن النبوة ، فقد جاءت النبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدنا على مازال صغيرا ، أما الصحابة الآخرون فقد جاءت النبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كبار في السن ، فهناك معلومات دخلت عندهم من أيام الجاهلية ، ولكن سيدنا عليًّا كرم الله وجهه لم تدخل عليه معلومة من معلومات الجاهلية . كل المعلومات التي عنده نبوية ، فكل هذا التفاعل ينشأ عنه فُتيا؛ لذلك كان سريعا في الإفتاء .
على سبيل المثال ، تأتي له امرأة فتقول : يا ابن أبي طالب كيف يعطونني دينارا من ستمائة؟ مورثي خَلَّفَ ستمائة دينار فأعطوني دينارا واحدا . فقال لها : لعله مات عن زوجة ، وعن بنتين ، وعن أم ، الزوجة تأخذ الثُمن ( خمس وسبعين دينارا ) والبنتان تأخذان الثلثين ( أربعمائة دينار ) وللأم السدس وهو مائة دينار ، ولعل له اثنى عشر أخا وأختا واحدة ، أشقاء أو لأب ، وأنت هذه الأخت وقد بقي من التركة خمسة وعشرون دينارا توزع على الاثني عشر أخا والأخت ، فيكون نصيبك دينارا .
(1/1238)
كيف عرف ذلك؟ إنها دقة الحساب عند من تعلم في بيت النبوة .
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد أن الحق قد أنزل عليهم نعاسا ليؤمنهم فلم ينشأ النوم هنا من حركة الاختيار ، ولكن الله أنزله ، ومعنى " أنزله "؛ أنه بعث رحمة جديدة من السماء ليُخرج القوم الذين أصابهم الغم على ما فعلوا مما هم فيه . ولذلك قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه .
إذن فهي عملية قسرية . والنعاس حينما ينزل من الحق سبحانه وتعالى يكون عملية إنقاذ من حركة فاتت فرصتها على النفس البشرية فعوضها الله ، ولكن القوم الذين نافقوا ماذا كان حالهم؟ لا شك أن الذين جاءوا نفاقا لم يصبهم غم على ما حدث . بل بالعكس ، لا بد أن يكون قد أصابهم فرح أو اطمئنان على ما حدث ، وهؤلاء لا يكونون أهلا لأن ينزل الله عليهم أمنة النعاس . بل يتركهم الله لذواتهم؛ لأنهم لم يكونوا في حصن الله باتباع منهج الإسلام أو بالاخلاص - على الأقل - لفكرة الإسلام ، هؤلاء يسلمهم الله لذواتهم .
إذن فلن يُنزل عليهم أمنة النعاس . وما دام لن ينزل عليهم أمنة النعاس ، فقد أصبحوا في قلق ، لماذا؟ لأن نفوسهم قد أهمتهم . والإنسان حين يؤمن ويتقبل الإسلام من ربه يكون قد باع نفسه لربه ، وما دام قد باع نفسه لربه فالصفقة الإيمانية لابد أن تستمر . وإذا استيقظ المسلم مرة لنفسه نقول له : لقد رجعت في عقد الصفقة . وما دمت قد رجعت في عقد الصفقة فالله الذي كان قد اشتراك يتركك لنفسك ، فقوله : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي خرجوا عن صفقة الإيمان؛ لأن الذي يعقد صفقة بالإيمان مع ربه ، هو من قال الله فيه : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } [ التوبة : 111 ]
وما دام الله قد اشترى من المؤمن نفسه فيجب على المؤمن ألا تهمه نفسه ، فيدخل المعركة بالصفقة الإيمانية ، فإذا أهمته نفسه يبدأ القلق ، والبلبلة ، والاضطراب ، وتوهم الأشياء ، والشيء الواحد يتوهمه على ألف لون . إذن فنفسه تكون غير مطمئنة ، وما دام الإنسان قد شغله هم نفسه حتى لو كان النعاس استجابة لأمر طبيعي من ذات النفس فلا يأتي النعاس أبدا .
ولذلك نجد أن الإمام عليًّا - رضوان الله عنه وكرم الله وجهه - حينما سُئل عن أشد جنود الله؟ بسط يديه وقال : أشد جنود الله عشرة : الجبال الرواسي ، والحديد يقطع الجبال ، إذن فالحديد أشد من الجبال ، والنار تذيب الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء ، والريح يقطع السحاب ، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته ، والسُكر يغلب ابن آدم ، والنوم يغلب السُكر ، والهم يغلب النوم ، فأشد جنود الله " الهم " .
(1/1239)
فساعة يدخل الهم على النفس البشرية ، هذا أشد جنود الله؛ لأن الهم يدخل على النفس البشرية بألوان متعددة للخطب الواحد ، فيتصور أموراً معقدة في أمر واحد ، وواقعة على لون واحد ، ولكن الهم يجول به في كل لون؛ فهؤلاء قد أهمتهم أنفسهم وما داموا قد أهمتهم أنفسهم فقد خرجوا عن صفقة الإيمان . وما داموا قد خرجوا عن صفقة الإيمان الذي بوساطته اشترى الله من المؤمنين أنفسهم ، فالله يتخلى عنهم . وما دام الله قد تخلى عنهم فعليهم مواجهة المصير .
إن القلق والاضطراب يستبدان بهم ويصابون بالفزع من كل شيء . لكن حال الصنف الأول والطائفة الأولى يختلف؛ فالله سبحانه وتعالى يعاملهم معاملة من بقي في الصفقة الإيمانية وإن كانت نفوسهم البشرية قد فسرت الأحداث تفسيرا خاطئا ، فظنوا أن المسألة في المعركة انتهت ، فذهبوا لأخذ الغنيمة إن هؤلاء قد احترم الله بقاءهم على الإخلاص للإسلام ، وأدبهم على تفسيرهم للأحداث تفسيرا غير حق ، فأثابهم غما لما خالفوا فيه ، وأنزل عليهم أمنه لإخلاصهم في قضية الإسلام .
{ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } وإذا سمعت كلمة " طائفة " فاعلم أنها جماعة ، لكن هذه الجماعة لها مواصفات خاصة هي التي تجمعها على فكرة واحدة كأنهم يطوفون حولها ، إنها ليست مطلق جماعة لكنها جماعة تدور حول فكرة واحدة ويأتي القول الحكيم هنا ليبين لك ما قالوه في نفوسهم ، وما داموا قد قالوا في نفوسهم ، أسمعهم أحد؟ لا ، ولكن الله أخبر به ، وأخبر بما في نفوسهم جميعا بقول واحد ، مما يدل على أنهم يطوفون حول فكرة واحدة فالنضح الوجداني يجعلهم يقولون جملة واحدة هي : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } وما داموا سيقولون في نفوسهم فمن الذي سمعهم وهم جماعة؟ إنه الله - سبحانه - { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
وأنت إذا قلت " طائفة " تجد أنها في عرف اللفظ " مفرد " ، وعندما تجمعها تقول : " طوائف " ، لكن هي لفظ مفرد يدل على جمع ، فمرة يلحظ المفرد ، ومرة يلحظ ما يؤديه المفرد من الجمع . وهذه لا يتنبه إليها إلا البليغ ، فيفرق بينها كلفظ مفرد وبين ما تدل عليه كجمع ، ولذلك تجد هذا في إعجاز القرآن ، فالحق يقول : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين }
(1/1240)
[ الحجرات : 9 ] وحينما يقول : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين } فهو هنا يأتي بالخبر ، اقتتلتا أو اقتتلوا؟ إنه سبحانه يقول : { اقتتلوا } ، اللفظة طائفتان لكن الدقة البلاغية لاحظت أن كل طائفة مكونة من جماعة . { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } فماذا نفعل؟ { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ، فمرة رجع للجماعة ومرة رجع للاثنتين ، ففي ساعة الاقتتال لا تقف الطائفة بسيف واحد وتضرب ضربة واحدة ، لا ، ففي ساعة القتال كل فرد من الطائفة له عمل ، إذن فالفردية المكونة للطائفة متعددة .
لكن عندما نصلح هل نأتي بكل فرد من هذه الطائفة وبكل فرد من الطائفة الأخرى أو نأخذ هذه الطائفة ممثلة في رؤوسها والطائفة الأخرى ممثلة في رؤسها ونعقد الصلح بين الطائفتين؟ فدقة القرآن تقول : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وبعد ذلك يعود الحق للتثنية فيقول : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } والصُلح يكون بين جماعة ممثلة في قيادة وجماعة أخرى ممثلة في قيادة .
وقوله الحق : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } هذا القول يدل على أنها طائفة تدور حول حركة واحدة ، ويدل على أن النفاق نفاق متفق عليه ، وليس كل واحد منهم ينافق في نفسه ، لا إنها طائفة المنافقين ، وقد كوَّنوا جماعة ، ولهم سياسة مخصوصة ، ولهم كلام مخصوص ولهم وحدة قول ، تعرفهم من قول الحق { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } .
ونعرف أن الحق هو الشيء الثابت ، وما دام ثابتا فهو لا يتغير ، وقضية الحق فيه تكون مطردة ، فالله حق ، خلق السماوات والأرض ، وكل الكون بالحق ، أنزل كتابه بالحق ، كله حق ، فهم يظنون بالله غير الحق مع أنه حق ، ونشأ الكون منه بقانون حق ، واستمرت سنن الله في الكون بالحق ، وهو دائما ينصر الحق ، وهم يظنون بالله غير الحق ، يقولون : ربنا لم ينصرنا على الرغم من أنه وعدنا بالنصر ، وتناسوا العناصر التي جعلها الله أسباباً للنصر ، إنها سُنَّة الله وسُنَّة الله تتحقق ولو على أحبابه ، لقد خالفوا أمر الرسول ، فلا بد أن ينهزموا ، فلا مجاملة لأحد ، فالذي يخالف لا بد أن يأخذ جزاءه؛ لأن هذا هو الحق .
كان يجب أن يقولوا إن الحق واضح لدرجة أن أحبابه ومعهم رسوله حينما خالفوا عن أمر الله الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم طبق الله عليهم سُنته إذن فهي سنة بالحق ، لكنهم ظنوا بالله ظن الجاهلية ، والمقصود به إما ظن أهل الجاهلية؛ وإمَّا أن تكون الجاهلية عَلَماً على السَّفه كله ، وهذا الظن له نضح سلوكي .
(1/1241)
{ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } أي هل انتصرنا أو ظفرنا أو غلبنا أو أخذنا غنائم؟ أو يكون قولهم : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } مقصودا به : أننا خرجنا إلى المعركة بدون رأينا؛ فقد كان من رأينا ألا نخرج وأن نظل في المدينة وعندما يدخلونها علينا نحاربهم . { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } هم لم يمتلكوا البصيرة الإيمانية ولم يعرفوا لماذا لم ينصرهم الله ، هم فهموا أنهم لم ينتصروا؛ لكن في عرف الحق أنه انتصار؛ لماذا؟ لأن المعركة أثبتت أن المبدأ إن خولف فلا نصر ، إذن فالإسلام قد انتصر ، ولكن الذي انهزم هم المتخاذلون عن منهج الإسلام ، وهذا نصر للإسلام في ذاته . ولذلك يجب أن نفرق دائما بين المبدأ الإسلامي والمنسوبين للمبدأ .
إياك أن تأخذ الحكم على المبدأ من المنسوبين للمبدأ ، فلا يكون المنسوبون للمبدأ حُجَّة على الحكم في ذاته إلا إذا كانوا ملتزمين به؛ لأن الله حينما شرع ديناً سمّاه الإسلام ليحكم حركة الحياة في الناس فهو قد قنّن وحرّم فيه أفعالاً ، وما دام قد قنن وحرم فيه أفعالاً فمعناه أن المؤمنين المسلمين الذين انتسبوا له من الممكن أن يخالفوا بأفعالهم تلك الأحكام ، فعندما يقرر الإسلام جلد أو رجم الزاني والزانية ، وحينما يشرع الإسلام قطع يد السارق أو السارقة وحين يشرع الإسلام تلك العقوبات للجرائم ، فمعنى ذلك أنه من الجائز أن تحدث تلك الجرائم ، فإذا ما حدثت فأنت لا تأخذها من واقع مُجَرًَّم لتحكم به على الإسلام ، لا تقل إن الإسلام أباح السرقة بل قل : سرق مسلم ووضع الإسلام عقوبة صارمة عليه وهي قطع يده .
{ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وهذه هي الفضيحة لهم ، فماذا كانوا يريدون أن يكون لهم؟ كانوا يريدون ألا يخرجوا للمعركة فقالوا : لو كان لنا من الأمر شيء واتبعنا منطقنا ، لما جئنا الموقعة هنا وحصل لنا ما حصل ، هذه واحدة ، أو لو كان لنا شيء من الظفر الذي وعد الله به محمداً وأصحابه ما قتلنا ها هنا ، فعلى الرأيين يصح المعنى ، فكأنهم أرادوا أن يعللوا القتل أو الموت بأسباب ، ومن الذي قال : إن القتل أو الموت يتعلق بأسباب؟ إن الموت قضية تطرأ لإعدام الحياة ، وهي مجهولة السبب ومجهولة الزمان ومجهولة المكان ومجهولة العمر .
إذن فما دامت المسألة مجهولة فلماذا ربطتم بين القتل والموقعة؟ وهل لم تروا إنساناً مات وليس في موقعة؟ ألم تروا إنساناً قد قُتل وليس في موقعة؟ لو أن القتل لا ينشأ إلا في مواقع قتال الحرب لكان لكم أن تقولوا هذا ، إنما القتل والموت قضية عامة لها واقع في حياتكم .
(1/1242)
هذا الواقع لم يرتبط بأرض ، ولم يرتبط بزمان ، ولم يرتبط بسن ، ولم يرتبط بسبب ، وإنما الموت يأتي لأنك تموت ، انتهت المسألة .
إذن فهم عندما ربطوا القتل والموت بالموقعة فهم قد خرجوا عن القضية الإيمانية . ولذلك يأتي الرد من الحق بأمر واضح للرسول صلى الله عليه وسلم : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } . فكأنك أيها الميت قد تكون أَحْرَص على لقاء الموت من حِرْص الموت عليك . بدليل أننا قلنا : إن الإنسان يكون مريضاً ، ويلح على أن تُجري له عملية جراحية فيعتذر الطبيب قائلا : عندي عدد كبير من الجراحات فانتظر شهراً ، فيأتي له المريض بوساطة لكي يقبل الطبيب إجراء العملية الجراحية ويلح عليه . ويعلى أجر الطبيب وقد يموت المريض . إذن فهو يلح على الموت أو لا؟ إنه يلح على الموت .
يقول الحق : { لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } وكلمة " بَرَزَ " تدل على اندفاع حركي ، فمعنى : بَرَزَ من الصف؛ يعني أن الصّف له التئام واقعي ، والذي يبرُز إنما يقوم بحركة مخالفة للصف ، هذه حركة .
{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } والذي يبرز إلى المضجع هو من يخرج من مكان الاستقرار ، وإلاّ فكيف يكون الابتلاء لمن يقدر الله سبحانه أن يحملوا معركة الإسلام إلى أن تقوم الساعة إذا لم تكن هذه المسائل؟ لا بد أن يكونوا قوماً قد عركتهم التجربة ، مُمحصين بالأحدث حتى لا يكون مأموناً على حمل السلاح في الإسلام إلا هؤلاء الصفوة المختارة .
فساعة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج ، وينتهي إلى أن يخرج إلى أحُد ، نجد جماعة يتخاذلون بوساطة ابن أبي ، هذه أول تصفية ، وبعد ذلك ينقسم الرُماة ، وهذه تصفية أخرى ، فريق يظل وفريق ينزل للغنائم ، وبعد ذلك يُشَاع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قُتل ، هذه تصفية ثالثة .
{ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } وكلمة " ذات الصدور " معناها صاحبة الصدور . وفي الصدر يحرص الإنسان على إخفاء الأمر الذي يحب أن يحتفظ به لنفسه بِحرْص كحرص الصاحب على صاحبه ، كأن الصدر حريص على ألا يسلم ما فيه ، ولكن الله سبحانه وتعالى يفضحهم أمام الناس ، ويفضحهم أمام نفوسهم؛ فقد يجوز أن يكونوا مغشوشين في نفوسهم .
ويقول الحق من بعد ذلك : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ . . . }
(1/1243)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
وعندما نقرأ كلمة { استزلهم } نعرف أن ( الهمزة والسين والتاء ) للطلب ، تطلب ما بعدها ، مثل : استفهم أي طلب الفهم ، استعلم يعني طلب العلم ، استقوى يعني طلب القوة ، و " اسْتَزَلَّ " يعني طلب الزّلل ، ومعنى " الزَّلل " هو العثرة والهفوة ، أي أن الإنسان يقع في الغلط ، إذن فالشيطان طلب أن يزلوا ، { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } ، كأن الشيطان لا يجترئ على أن يستزل أحداً ممن آمن إلا إذا صادف فيه تحللاً من ناحية ، لكن الذي ليس عنده تحلل لا يقوى عليه الشيطان ، ساعة يأتي الإنسان ويعطي لنفسه شهوة من الشهوات فالشيطان يرقمه ويضع عليه علامة ويقول : هذا ضعيف ، هذا نقدر أن نستزِلّه . لكن الذي يراه لا يطاوع نفسه في شيء من التحلل لا يقترب ناحيته أبداً .
ولذلك فالنفس هي مطية الشيطان إلى الذنوب ، وفي الحديث الشريف : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " وعندما يرى الشيطان واحداً تغلبْه نفسه في حاجة فالشيطان يقول : هذا فيه أمل! وهو الذي يجري منه مجرى الدم كما سبق في الحديث ، أما الملتزم الذي ساعة تُحدثه نفسه بشيء ويأبى فالشيطان يخاف منه ، إذن فالشيطان لا يستزل إلا الضعيف ، ولذلك فالذي يكون ربه على ذِكْر منه دائماً لا يجترئ عليه الشيطان أبداً .
إن الله - سبحانه - قد سمى الشيطان " الوسواسَ الخناس " ، إنه يوسوس للناس ، لكنه خنَّاس فإذا ذُكر اللهُ يخنِس ، أي يتأخر ويختفي ولكنّه ينفرد بك حين يراك مٌنعزلاً عن ربك ، لكن حين تكون مع ربك فهو لا يقدر عليك بل يتوارى ويمتنع عن الوسوسة إذا استعذت عليه بالله .
إذن فقوله : { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } يعني طلب منهم أن يزلوا نتيجة لأنه عرف أنهم فعلوا أشياء أَبْدَوا وأظهروا فيها ضعفهم ، { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } وكلمة { بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } . . كأن قول الله { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } أنه لم يأخذهم بكل ما كسبوا؛ لأن ربنا يعفو عن كثير . { إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
{ عَفَا الله عَنْهُمْ } لماذا؟ عفا عنهم تكريما لمبدأ الإسلام الذي دخلوا فيه بإخلاص ، ولكن نفوسهم ضعُفت في شيء ، فيُعطيهم عقوبة في هذه ولكنه يعفو عنهم فهذا هو حق الإسلام ، { إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
ويقول الحق بعد ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ . . . }
(1/1244)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
والضرب في الأرض هو السعي واستنباط فضل الله في الأرض وفي سبيله لإعلاء كلمته ، فالذين كفروا يرتبون الموت والقتل والعمليات التي يفارق الإنسان فيها الحياة على ماذا؟ على أنه ضرب في الأرض أو خرج ليقاتل في سبيل الله ، وقالوا : لو لم يخرجوا ما حصل لهم هذا! سنرد عليهم ، ونقول لهم : كأنكم لم تروا أبداً ميتاً في فراشه . كأنكم لم تروا مقتولا يسقط عليه جدار ، أو يصول عليه جمل ، أو تصيبه طلقة طائشة ، هل كل من يموت أو يقتل يكون ضارباً في الأرض لشيء أو خارجا للجهاد في سبيل الله؟!
ّإذن فهذا حُمق في استقراء الواقع ، وجاء الحق بذلك ليعطينا صورة من حكمهم على الأشياء ، إنه حكم غير مبني على قواعد استقرائية حقيقية . فإذا عرفنا أنهم كفروا نقول : هذه طبيعتهم ، لأننا نجد أن حكمهم ليس صحيحا في الأشياء الواضحة ، وما دام حكمهم ليس صحيحاً أو حقيقيا في الجزئيات التي تحدث - فإذا عرفتم أنهم كفروا فهذا كلام منطقي بالنسبة لهم - فشأنهم أنهم لا يتثبتون في أحكامهم فلا عجب - إذن - أن كانوا كافرين .
{ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } وغُزى : جمع غازٍ ، مثل : صُوّم وقُوَّم؛ يعني جمع : صائم وقائم . { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } . إذن فالله سبحانه وتعالى يصور لهم ما يقولونه ليعذبهم به ، كيف؟ لأنهم عندما يقولون : لو كانوا عندنا لكنا منعناهم أن يخرجوا أو يُقتلوا ، إذن فنحن السبب .
وهكذا نجد أنهم كلما ذكروا قتلاهم أو موتاهم يعرفون أنهم أخطأوا ، وهذه حسرة في قلوبهم ، ولو أنهم ردوها إلى الحق الأعلى لكان في ذلك راحة لهم ولَما كانوا قد أدخلوا أنفسهم في متاهة ، ويحدُث منهم هذا حتى نعرف غباءهم أيضاً؛ فهم أغبياء في كل حركاتهم وفي استقراء الأحداث الجزئية ، وأغبياء في استخراج القضية الإيمانية الكلية ، أغبياء في أنهم حشروا أنفسهم وأدخلوها في مسألة ليست من شأنهم ، فأراد ربنا سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك حسرة عليهم .
{ لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } إن القضية الإيمانية هي { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي هو الذي يَهَب الحياة وهو الذي يهب الموت ، فلا الضرب في الأرض ولا الخروج في سبيل الله هو السبب في الموت ، ولذلك يقول خالد بن الوليد - رضي الله عنه - : لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة رمح ، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر - أي حتف أنفه - فلا نامت أعين الجبناء .
والشاعر يقول :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلِدِي؟
(1/1245)
أي يا من تمنعني أن أحضر الحرب هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن القتال . ويكمل الشاعر قوله :
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ويختم الحق الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فكأنهم قد بلغوا من الغباء أنهم لم يستتروا حتى في المعصية ، ولكنهم جعلوها حركة تٌُرى ، وهذا القول هنا أقوى من " عليم "؛ لأن " عليم " تؤدي إلى أن نفهم أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء ، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا ، هي صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر . فجاء قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
(1/1246)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
والذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل ، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟ إنه يبتغي الخير بالحياة . وما دام يبتغي الخير بالحياة ، إذن فحركته في الحياة في وهمه ستأتيه بخير ، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير ، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية ، ونقول له : الخير في حياتك على قدر حركتك : قوة وعلما وحكمة ، أما تمتعك حين تلتقي بالله شهيداً فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود ، إذن فأنت ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى الله في كل ذلك ، ولذلك يقول الحق :
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
وبعد ذلك يقول الحق : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }
(1/1247)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
ولنا أن نلحظ أن قول الحق في الآية الأولى جاء بتقديم القتل على الموت قال تعالى : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ } وجاء في هذه الآية بتقديم الموت على القتل قال - جل شأنه - : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } فقدم القتل على الموت في الآية الأولى لأنها جاءت في المقاتلين ، والغالب في شأنهم أن من يلقى الله منهم ويفضي إلى ربه يكون بسبب القتل أكثر مما يكون بسبب الموت حتف أنفه ، أما هذه الآية فقد جاءت لبيان أن مصير جميع العباد -ومرجعهم يوم القيامة يكون إلى الله - تعالى - وأن أكثرهم تزهق نفسه وتخرج روحه من بدنه بسبب الموت ، فلذا قدم الموت هنا على القتل . إذن فكل كلمة وجملة جاءت مناسبة لموقعها . إنه قول الحكيم الخبير .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر . . . }
(1/1248)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
إن الآية كما نرى تبدأ بكلام إخباري هو { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } . فكأنه - سبحانه - يريد أن يقول : إن طبيعتك يا محمد طبيعة تتناسب لما يطلب منك في هذه المسألة ، هم خالفوك وهم لم يستجيبوا لك حينما قلت : إليَّ عباد الله ، إليَّ عباد الله إني رسول الله ، وهذا شيء يٌحْفِظ ويُغضِب . ولكنه لا يُحفِظ طبيعتك ولا يُغضب سجيتك لأنك مفطور مع أُمّتك على الرحمة . فكأنه يريد أن يُحنن رسول الله على أمته التي أصابته بالغم؛ فقال له : إياك أن تجازيها على هذا؛ لأن طبيعتك أنك رحيم ، وطبيعتك أنك لست فظاً ، طبيعتك أنك لست غليظ القلب ، فلا تخرج عن طبيعتك في هذه المسألة ، مثلما تأتي لواحد مثلا وتقول له : أنت طبيعة أخلاقك حسنة ، يعني اجعلها حسنة في هذه .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } أي بأي رحمة أودعت فيك . ساعة تقول : بأي رحمة فأنت تبهم الأمر ، وعندما تُبهم الشيء فكأنه شيء عظيم؛ لأن الشيء يُبهم إما لأنه صغير جدا ، وإما لأنه كبير جدا ، فالشيء إذا كان كبيرا يكون فوق المستوى الإدراكي ، وإذا كان صغيرا جدا يكون دون مستوى الإدراك . ولذلك فالأشياء الضخمة جدا نرى منها جانبا ولا نرى الجانب الآخر ، والشيء الدقيق جدا لا نراه ، ولذلك يقولون : هذا الشيء نكرة ، وذلك يدل مرة على التعظيم ويدل مرة على التحقير ، ومرة يدل على التكثير ، ومرة يدل على التقليل . فإن نظرت إلى أن الإدراك لا يستوعبه لضخامته إذن فهو كثير ، وإن رأيت أن الإدراك لا يستوعبه لِلطفه ودِقَّته ، وأنه ليس في متناول البصر يكون قليلا أو دقيقا .
إذن فقول الحق : { فَبِمَا رَحْمَةٍ } أصلها هو : برحمة من الله طُبعت عليها لِنْتَ لهم ، و " ما " لماذا جاءت هنا؟ إنك إما أن تأخذها إبهامية . . يعني بأي رحمة فوق مستوى الإدراك ، رحمة عظيمة . أو تقول : " فبما رحمة " أي أن " ما " تكون اسما موصولا . وكأن الحق يقول له : فبالرحمة المُودعة من خالقك فيك والتي تُناسب مٌهمتك في الأمة لِنْت لهم ، وما دامت تلك طبيعتك فَلِنْ لهم في هذا الأمر واعفُ عنهم واستغفر لهم .
وهذه الآية جاءت عقب أحداث حدثت في أُحد : الحدث الأول : أنه صلى الله عليه وسلم رأى ألا يخرج إلى قتال قريش خارج المدينة بل يظل في المدينة ، فأشار عليه المحبون للشهادة والمحبون للقتال والمحبون للتعويض عما فاتهم من شرف القتال في " بدر " أن يخرج إليهم ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأيهم ، ولبس لأمته ، فلما أحسوا أنهم أشاروا على رسول الله بما يخالف ما كان قد بدر منه ، تراجعوا وقالوا : يا رسول الله إن رأيت ألا نخرج ، فقال :
(1/1249)
" ما ينبغي لِنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " فما دام قد استعد للحرب انتهى الأمر ، هذه أول مسألة وهي مسألة المشورة .
وبعد ذلك تخلف ابن أُبيّ بثُلثُ الجيش وهذه مسألة ثانية ، أما المسألة الثالثة فهي مُخالفة الرُماة أمره صلى الله عليه وسلم وتَرْكهم مواقعهم على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد حذرهم من ذلك وقال لعبد الله بن جبير الذي أمَّره على الرماة : " أنضح عنا الخيل بالنَّبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتَين من قَبْلك " ، ولكنهم خالفوا عن أمر رسول الله . والمسألة الرابعة هي : فِرارهم حينما قيل : قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسألة الخامسة : أنه حين كان يدعوهم؛ فروا لا يلوون على شيء .
كل تلك أحداث كادت تترك في نفسه صلى الله عليه وسلم آثاراً ، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول : أنا طبعتك على رحمة تتسع لكل هذه الهفوات ، والرحمة مني ، وما دامت الرحمة موهوبة مني فلا بد أني جعلت فيك طاقة تتحمل كل مخالفة من أمتك ومن أتباعك . ولا تظن أنك قد أُرسلت إلى ملائكة ، إنما أُرسلت إلى بشر خطاءون ، البشر من الأغيار ، فلهذا اجعل المسألة درساً ، وأنا فطرتك على الرحمة ، وأنت بذاتك طلبت مني كثيراً من الخير لأمتك ، ومن رحمته أن جبريل نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال : يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك ، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا " .
فأنا أطلب منك الرحمة التي أودعتُها في قلبك فاستعملتها في كل مجال ، وبهذه الرحمة لنت لهم ، وبهذه الرحمة التفُّوا حولك ، التفوا حولك لأدبك الجم ، ولتواضعك الوافر ، لجمال خلقك ، لبسمتك الحانية ، لنظرتك المواسية ، لتقديرك لظرف كل واحد حتى إنك إذا وضع أي واحد منهم يده في يدك لم تسحب يدك أنت حتى يسحبها هو ، خُلق عالٍ ، كل ذلك أنا أجعله حيثية لتتنازل عن كل تلك الهفوات ولْيَسَعها خُلقك وليسعها حلمك ، لأنك في دور التربية والتأديب . والتربية والتأديب لا تقتضي أن تغضب لأي بادرة تبدر منهم ، وإلا ما كنت مُربيا ولا مُؤدبا .
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } لماذا؟ لأنك تُخرجهم عما ألفوا من أمور الجاهلية .
(1/1250)
والذي يخرج واحدا عما ألِف لا يصح أن يَجْمَع عليه إخراجه عما اعتاد بالأسلوب الخشن الفظ؛ لأنه في حاجة إلى التودد وإلى الرحمة ، لا تجمع عليه بين أمرين تقبيح فعله ، وإخراجه عما ألف واعتاد ، ولذلك يقولون للذي ينصح إنسانا ، النصح ثقيل؛ لأن النصح معناه تجريم الفعل في المنصوح ، فعندما تقول لواحد : لا تفعل هذا ، ما معناها؟ معناها أن هذا الفعل سيء ، فما دمت تُجِرّم فعله فلا تجمع عليه أمرين ، إنك قبحت فِعْله وأخرجته مما أَلِف ، وبعد ذلك تنصحه بما يكره لا ، إنه في حاجة إلى ملاطفة وملاينة لتستل منه الخصال القبيحة ، ونحن نستعمل ذلك في ذوات أنفسنا حين نجد مرضا يحتاج إلى علاج مر ، فنغلف العلاج المر في غلاف من السكر بحيث يمر من منطقة الذوق بلا ألم أو نغص ، حتى ينزل في المنطقة التي لا تحس بهذه المرارة؛ لأن الإحساس كله في الفم .
فإذا كنتم تفعلون ذلك في الأمور المادية ، فلا بد إذن أن نطبق ذلك أيضا في الأمور المعنوية ، ولأن النُصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا ، وخِفة البيان تؤدى عنك بدون إثارة أو استثارة ، وبلطف يحمل على التقبل . .
بهذا تصل إلى ما تريد ، ومثال ذلك حكاية الملك الذي رأى في منامه أن أسنانه كلها وقعت ، فجاء للمعبر ليعبر ، فقال له : أهلك جميعا يموتون ، التعبير لم يُسر منه الملك ، فذهب لواحد آخر فقال له : ستكون أطول أهل بيتك عمرا ، إنه التعبير نفسه ، فما دام أطول أهل بيته عمرا ، إذن فسيموتون قبله ، هي هي ، ولذلك قالوا : الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان .
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } إذن فبالرحمة لِنت لهم وبلين القول تبعوك وألفوك وأحبوك . و " الفظُّ " هو : ماء الكرش ، والإبل عندما تجد ماءً فهي تشرب ما يكفيها مدة طويلة ، ثم بعد ذلك عندما لا تجد ماء فهي تجتر من الماء المخزون في كرشها وتشرب منه ، في موقعة من المواقع لم يجدوا ماء فذبحوا الإبل وأخذوا الماء من كرشها ، الماء من كرش الإبل يكون غير مستساغ الطعم ، هذا معنى " الفَظّ " ، ونظرا لأن هذا يورث غضاضة فسموا : " خشونة القول " فظاظة ، والغلظ في القلب هو ما ينشأ عنه الخشونة في الألفاظ .
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } . إنها رحمة طُبِعت عليها يا رسول الله من الحق الذي أرسلك . وبالرحمة لِنت لهم وظهر أثر ذلك في إقبالهم عليك وحُبهم لك؛ لأنك لو كنت على نقيض ذلك لما وجدت أحداً حولك . إذن فالسوابق تثبت أن هذه هي طباعك ، وخلقك ، هو الرحمة واللين .
وبعد ذلك اعفُ عنهم ، وقلنا : إن " العفو " هو : مَحْو الذنب محوا تاماً وهو يختلف عن كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ يعني أن تكون المسألة موجودة في نفسك أيضا إلا أنك لا تعاقب عليها؛ لأنك كففت جوارحك وصنت لسانك ، أما المسألة فما زالت في نفسك ، لكن العفو هو أن تمحو المسألة كلها نهائيا ، وتأكيدا لذلك العفو فأنت قد تقول : أنا من ناحيتي عفوت .
(1/1251)
لا . المسألة لا تتعلق بك وحدك ، لأنك لا بد أن تستغفر الله لهم أيضا ، فمن الممكن أن يعفو صاحب الذنب ، ولكن ربي ورب صاحب الذنب لا يعفو ، فيوضح الحق : أنت عفوت فهذا من عندك؛ لكنه يطلب منك أن تستغفر لأجلهم . كي لا يعذبهم الله عما بدر منهم نحوك .
{ فاعف عَنْهُمْ } هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم . . { واستغفر لَهُمْ } بسبب ما فعلوه ، وترتب عليه ما ترتب من هزيمتكم في " أحُد " ، وشجك وجرحك ، ولا تقل : استشرتهم وطاوعتهم في المشورة ، وبعد ذلك حدث ما حدث ، فتكره أن تشاورهم ، لا تقفل هذا الباب برغم ما حدث نتيجة تلك المشورة وأنَّها لم تكن في صالح المعركة ، فالعبرة في هذه المشقة هي أن تكون " أحدُ " معركة التأديب ، ومعركة التهذيب ، ومعركة التمحيص ، إذن فلا ترتب عليها أن تكره المشورة ، بل عليك أن تشاورهم دائما ، فما دام العفو قد رضيت به نفسك ، وما دمت تستغفر لهم ربك ، واستغفارك ربك قد تستغفره بعيدا عنهم ، وعندما تشاورهم في أي أمر من بعد ذلك فكأن المسألة الأولى انتهت ، وما دامت المسألة الأولى قد انتهت ، فقد استأنفنا صفحة جديدة ، وأخذنا الدرس والعظة التي ستنفعنا في أشياء كثيرة بعد ذلك .
ولذلك تجد بعد هذه المعركة أن الأمور سارت سيرها المنتصر دائما؛ لأن التجربة والتعليم والتدريب قد أثر وأثمر ، لدرجة أن سيدنا أبا بكر - رضي الله عنه - عندما جاءت حروب الردة ، ماذا صنع؟ شاور أصحابه ، فقال له بعضهم : لا تفعل . فهل سمع مشورتهم؟ لا . لم يسمع مشورتهم ، إنما شاورهم . فلإنقاد المشورة حُكم ، ولرد المشورة حكْم ، المهم أن تحدث المشورة؛ ونعمل بأفضل الآراء فالمشورة : تلقيح الرأي بآراء متعددة ، ولذلك يقول الشاعر :
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوما وإن كنت من أهل المشورات
لقد اهتدى الشاعر إلى كيفية تقريب المعنى لنا ، فعلى الرغم من أن الإنسان قد يكون من أهل المشورة والناس تأخذ برأيه ، فعليه أن يسأل الناس الرأي والمشورة ، لماذا؟ ها هو ذا الشاعر يكمل النصيحة :
فالعين تنظر منها مادنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
إن العين ترى الشيء القريب والشيء البعيد ، لكن هذه العين نفسها تعجز عن رؤية نفسها إلا بمرآة ، وكذلك شأن المسألة الخاصة بغيرك والتي تعرض عليك ، إن عقلك ينظر فيها باستواء ودون انفعال؛ لأنه لا هوى لك ، والحق هو الذي يجذبك . لكن مسائلك الخاصة قد يدخل فيها هواك ويُحليها لك ويُحسنها .
(1/1252)
إذن فالمشورة في أحُد كانت نتيجتها كما علمتم ، وكأن الله يقول لرسوله : إياك أن تأخذ من سابقة المشورة أن المشورة لا تنفع ، فتقاطعهم ولا تشاورهم؛ لأنك لن تظل حيا فيهم ، وسيأتي وقت يحكمهم بشر مثلهم ، وما دام يحكمهم بشر مثلهم فلا تحرمه أن يأخذ آراء غيره ، وعندما يأخذ الآراء وتكون أمامه آراء متعددة فهو يستطيع أن يتوصل إلى الحكم الصحيح بحكم الولاية وبحكم أنه الإمام ، ويستطيع أن يفاضل ويقول : هذه كذا وهذه كذا ، إلا أن يُفوض غيره .
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } وقد عزم رسول الله أيضا على الحرب ولبس لأمته ، أكان يلبس اللأمة - وهي عُدة الحرب - وبعد ذلك يقولون له : لا تخرج فيدعها؟ لا؛ فالمسألة لا تحتمل التردد . { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } وهذه فائدة الإيمان ، وفائدة الإيمان : أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل ، معادلة جميلة! الجوارح تقول : نزرع ، نحرث ، نأتي بالبذر الجيد ، نروي ، نضع سماداً ونفترض أن الصقيع قد يأتي ونخشى على النبات منه فنأتي بقش ونحوه ونُغطيه ، كل هذه عمل الجوارح . وبعد ذلك القلوب تتوكل .
فإياك أن تقول : المحصول آتٍ آتٍ لأنني أحسنت أسبابي ، لا . لأن فوق الأسباب مُسَبِّبَها . فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل ، هذه فائدة الإيمان لأنني مؤمن بإله له طلاقة القدرة ، يخلق بأسباب ويخلق بغير أسباب . الأسباب لك يا بشر ، أما الذي فوق الأسباب فهو الله ، فأنت حين تعمل أخذت بالأسباب ، وحين تتوكل ضمنت المسبب وهو الله - سبحانه - .
إذن فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل . إياك أن تظن أن التوكل يعني أن تترك الجوارح بلا عمل ، لا ، فهذا هو التواكل أو الكسل ، إنه التوكل الكاذب ، والدليل على كذب من يقول ذلك أنه يحب أن يتوكل فيما فيه مشقة ، والسهل لا يتوكل فيه ، ونقول للرجل الذي يدعي أنه يتوكل ولا يعمل : أنت لست متوكلا ، ولو كنت صادقا في التوكل إياك أن تمد يدك إلى لقمة وتضعها في فمك . كن متوكلا كما تدعي ، ودع التوكل يضع لك اللقمة في فمك واترك التوكل ليمضغها لك!
وطبعا لن يفعل ذلك ، ولهذا نقول له أيضا : إن ادعاءك التوكل هو بلادة حس إيماني وليس توكلا .
إن الحق سبحانه وتعالى يقول : { واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } و { عَزَمْتَ } تقتضي عزيمة ، والتوكل يقتضي إظهار عجز ، فمعنى أني أتوكل على الله أنني استنفدت أسبابي ، ولذلك أرجع إلى من عنده قدرة وليس عنده عجز ، وهذا هو التوكل المطلق .
وفي حياتنا اليومية نسمع من يقول : أنا وكلت فلانا ، أي أنني لا أقدر على هذا الأمر فوكلت فلانا . ومعنى توكيله لفلان انه قد أظهر عجزه عن هذا الأمر . ولهذا ذهب إلى غير عاجز . كذلك التوكل الإيماني ، فالتوكل معناه : تسليمك زمام أمورك إلى الحق ثقة بحسن تدبيره ، ومن تدبيره أن أعطاك الأسباب فلا ترد يد الله الممدودة بالأسباب ثم تقول له اعمل لي يارب؛ لأننا قلنا في سورة الفاتحة : إن الإنسان يدعو قائلا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ]
ومعنى " نستعين " أي نطلب منك المعونة التي نتقن بها العمل . وبعد ذلك يقول الحق : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ . . . }
(1/1253)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
الحق يقول هنا : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } ، المؤمنون بمن؟ بالله . وما داموا مؤمنين به فمن إيمانهم به أنه إله قادر حكيم عالم بالمصلحة ، ولا يوجد أحسن من أنك توكله .
وعندما نقرأ { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فقد نسأل : وما هو المقابل؟ المقابل هو { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } . إذن فأنت دخلت بالأسباب التي قالها الحق سبحانه وتعالى مُؤتمرا بأمر القيادة السماوية التي مُثلت في الرسول المبلغ عن الله ، وقد أخذت عُدتك على قدر استطاعتك ، إياك أن تقارن عَدَدَك بعدد خصمك أو تقارن عُدتك بعُدة خصمك؛ فالله لا يكفيك أن تقابل العدد بالعدد ولا العُدة بالعُدة ، وإنما قال : أنت تُعد ما استطعته ، لماذا؟ لأن الله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن به؛ لأنه لو كانت المسائل قدر بعضها ، لكانت قوة لقوة . لكن الله يريد أن يكون العدد قليلا وتكون العدة أقل وأن نعترف ونقول : هذا ما قدرنا عليه يارب . ونثق بأنك يارب ستضع مع العدد القليل مدداً من عندك ، فأنت المعين الأعلى ، فسبحانك القائل : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] والحق هنا يقول : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فأنت تضمن نصر الله لك إن كنت قد دخلت على أن تنصره .
كيف نعرف أننا ننصر الله؟ نعرف ذلك عندما تأتي النتيجة بنصرنا ، لأنه سبحانه لا يعطي قضية في الكون وبعد ذلك يأتي بالواقع ليكذبها ، وإلا فالمسلمون يكونون قد انخدعوا - معاذ الله - لأنه لو جاء الدين بقضية ثم يأتي الواقع ليكذبها ، فلا بد أن يقولوا : إن الواقع كذب تلك القضية . لكن الحق قال : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } ويجيء الواقع مؤكدا لهذه القضية ، عندئذ نحن لا نصدق في هذه القضية فقط ، بل نصدق كل ما غاب عنا ، فعندما تظهر جزئية ماديَّة واقعة محسوسة لتثبت لي صدق القرآن في قضية؛ فأنا لا أكتفي بهذه القضية ، بل أقول : وكل ما لا أعلمه داخل في إطار هذه القضية .
ولذلك قلنا : إن الحق سبحانه وتعالى ترك بعض أسراره في كونه ، وهذه الأسرار التي تركها في كونه هي أسرار لا تؤدي ضرورات؛ إن عرفناها فنحن ننتفع بها قليلا في الكماليات ، ويترك الحق بعض الأسرار في الكون إلى العقول لتستنبطها ، فالشيء الذي كان العقل يقف فيه قديما يصبح باكتشاف أسرار الله مقبولا ومعقولا ، كأن الشيء الذي وقف فيه العقل سابقا أثبتت الأيام أنه حق إذن فما لا يُعرف من الأشياء يُؤخذ بهذه القضية أو بما أُخِذَ من الغير .
يقولون - مثلا- اكتشف الميكروب على يد " باستير " ، لكن ألم يكن الميكروب موجودا قبل " باستير "؟ كان الميكروب موجودا ، ولم يكن أحد يراه؛ لأن الشيء إذا دق ولطف لا نقدر أن ندركه؛ فليس عندنا الآلة التي تدركه ، ولم نكن قد اخترعنا المجهر الذي يكبِّر الأشياء الدقيقة آلاف المرات .
(1/1254)
وكذلك اخترع الناس التلسكوب ، فبعد أن كان الشيء لا يرى لبعده ، أصبح يرى بوساطة التلسكوب ، وإن كان الشيء ضئيلا جدا ولا نراه . فقد استطعنا أن نراه بوساطة المجهر المسمى " الميكروسكوب " .
و " التلسكوب " يقرب البعيد و " الميكروسكوب " يكبر الصغير فنرى له حركة وحياة ، ونجد له مجالا يسبح فيه ، وهذا جعلني إذا حدثني القرآن أن لله خلقا غاب عن الحس لا يدرك من جن وملائكة ، فلا أُكذب ذلك ، لأن هناك أشياء كانت موجودة ولم تدخل تحت حسى ولا إدراكي مع أنها من مادتي ، فإذا كانت الأشياء الأخرى من مادة أخرى مثل الملائكة من نور ، أو الجن من النار ، ويقول لي سبحانه إنهم مخلوقون وموجودون فأنا لا أكذب ما جاء عن الحق؛ لأن هناك أشياء من جنسي كانت موجودة ولم أستطع أن أراها .
إذن فهذه قربت لي المسألة ، فعندما يقول الحق : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فنحن نعرف أن نصر الله مترتب على أن تدخل المعركة وأنت تريد أن تنصر الله ، وتنصره بماذا؟ بأنك تحقق كلمته وتجعلها هي العليا ، وليس هذا فقط هو المطلوب ، بل لتجعل - أيضا - كلمة الذين كفروا السفلى .
{ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } إنه في ظاهر الأمر يكون معنا ، لكننا نشعر أنه تخلى عنا ، لماذا؟ لأننا نترك بعضا من تعاليم الله ، إذن فهو في المظهر العام معكم كمسلمين ، ومن معيته لكم أن يؤدبكم على المخالفة فيخذلكم عندما تخالفون عن أمره .
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وفي الآية السابقة قال سبحانه : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } ، والذي لا يتوكل على الله عليه أن يراجع إيمانه .
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة . . . }
(1/1255)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
ما معنى " يغٌل "؟ أولا : " الغلول " هو الأخذ في الخفاء . وهو مأمخوذ من " أغل الجازر " - أي الجزار - أي عندما يسلخ الجلد يأخذ بعض اللحم مع الجلد ، ثم يطوي الجلد مخفيا ما أخذه من اللحم ، هذا هو الأصل ، وأطلق شرعا على الخيانة في الغنائم ، ففي هول المعارك قد يجد المقاتل شيئا ثمينا فيأخذ هذا الشيء خفية ، وهذا اسمه " الغلول " ، وأيضا كلمة " الغِّل في الصدور " أي إخفاء الكراهية ، وكل المادة إخفاء .
والحق يقول : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } لماذا؟ لأن من الجائز أن الرماة - في غزوة أحد - ساعة رأوا الغنائم أقبلوا عليها؛ لأن غنائم بدر لم تكن قد قسمت بين كل من اشتركوا في القتال ، فالذي كان يعثر على غنيمة كان يأخذها ، وكانت بدر أول معركة ، وكان الهدف من ذلك تشجيع المقاتلين . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم : قد قال : " من قتل قتيلا فله سلبه " .
وظن المقاتلون في أحُد أن المسألة ستكون مثل بدر ، وظن البعض أن الرسول لن يعطيهم غنائم ، فيوضح الحق سبحانه وتعالى : بأن هذه مسألة وتلك مسألة أخرى ، فمن يفعل مثل هذا يكون قد غَل . وساعة تسمع : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي أن من طبعه صلى الله عليه وسلم ومن فطرته وسجيته ألاَّ يتأتى ذلك منه أبدا ، لكن من الجائز أن يحدث مثل ذلك من واحد من أمته ، إذن فهناك فرق بين امتناع المؤمن أن يكون غالاً ، أي يأخذ لنفسه شيئا من الغنيمة ، وامتناع الرسول أن يكون غالاًّ ، لأن طبعه وسجيته لا تستقيم مع هذه ، لكن الأمر يختلف مع المقاتلين؛ فمن الممكن أن يكون أحدهم كذلك ، فسيدنا عمر في معركة الفرس ، حينما جاء جماعة بتاج كسرى ، والتاج فيه كل النفائس وتلك سمة عظمة الملوك ، فقال الفاروق عمر : إن قوما أدوا إلى أميرهم هذا لأمناء . فقد كان من الممكن أنهم يخفونه .
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } وساعة تسمع { وَمَا كَانَ } أي : وما ينبغي ولا يصح أن يكون ذلك الأمر ، وبعد ذلك يأتي بالحكم العام فيمكن أن يحدث غلول من أحَدٍ فيقول : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } فالذي غل في حاجة وخان فيها يأتي بها يوم القيامة كما صورها الرسول صلى الله عليه وسلم :
" والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حلّه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة ، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رُغاء أو بقرة لها خُوار ، أو شاة تَيعَر ، ثم رفع يديه حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول : اللهم قد بلغت " .
(1/1256)
إن من يأخذ حراما في خفية يأتي يوم القيامة وهو يحمل البعير أو البقرة أو الشاة مثلا . وآه لو كان ما أخذه حمارا فله نهيق!!
فإذا كان سيأتي بما غل يوم القيامة - فالذي أخذه سيفضحه - ولذلك تسمى " الفاضحة " ، و " الطامة " . إذن فمن الممكن في الدنيا أن يأخذها خفية ويغُل . لكنه سيأتي في يوم القيامة وهو يحمل ما أخذه على ظهره ، ثم يقول مناديا رسول الله : يا محمد . . يا محمد ، لأن كل مسلم قد علم واطمأن إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوف ورحيم وأنه لن يرضى بهذه الحكاية ، لكن رسول الله أبلغ عن عقاب من يفعل ذلك في حياته ، وعلى كل المؤمنين به ألا يفكروا في الغلول وأخذ الغنيمة خفية .
ولماذا تكون الغنيمة في الحرب شرا؟ لأن المقاتل يعيش أثناء القتال في مهمة أن تكون كلمة الله هي العليا فكيف يرضى لنفسه بهذه المهانة وهي إخفاء الغنيمة؟ إنه يحارب من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويجب أن يكون في مستوى ذلك .
وبعد ذلك يأتي الحق بالقضية العامة : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ، وهي تشمل الغلول في الغنيمة والغلول في غير الغنيمة ، ولنتصور هذه بالنسبة لكل من يخون أمانة أؤتمن عليها ، وأنه سيأتي يوم القيامة يحمل عمارة - مثلا - لأنه بناها بغير أمانة أو يحمل أطنانا من سمك لأنه سرقها ، أو يحمل أطنانا من الجبن الفاسد التي استوردها . فكل من سرق شيئا سيأتي يوم القيامة وهو يحمله ، وإذا كنا نشهد أن الناس لا تطيق أن تفضح بين الخلق ، والخلق محدودون لأنهم المعاصرون ، فما بالك بالفضيحة التي ستكون لعموم الخلق من أول آدم إلى أن تقوم الساعة . إذن فعلى كل إنسان أن يحرس نفسه لأن المسألة ستنفضح .
{ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وما دام سبحانه سيوفى كل نفس ما كسبت فكل سيأخذ قدر ما فعل ، فلا ظلم ، فلو ترك الأمر بلا حساب لكان هذا هو الظلم وحاشا لله أن يظلم أحدا ، وبعد تلك التهيئة والإيضاح يقول سبحانه : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير }
(1/1257)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
والحق سبحانه وتعالى حين يطرح بعض القضايا طرح الاستفهام ، فهو يطرحها لا ليعلم هو فهو عالم ، ولكن ليستنطق السامع ، ونطق السامع حجة فوق خبر المخبر ، فلو قال : إن الذي يتبع رضوان الله لا يساوي من ذهب إلى سخط الله لكان ذلك إخبارا منه وهو صادق فيما يقول ، لكنه سبحانه يريد أن يستنطق عباده بالقضية ، { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ } { بَآءَ } أي : رجع { بِسَخَطٍ مِّنَ الله } .
لا شك أن كل من يسمع عن الفاروق بين اتباع الرضوان ، أو الرجوع بالسخط يقول : إن اتباع الرضوان يرفع درجة الإنسان ، والذي يبوء بالسخط يهبط إلى درك الخسران ، فالقضية قالها السامع . . فكأن الحق يستنطقنا بالقضية لتكون حجة علينا ، والذي يتبع رضوان الله بالطاعة ، أيساويه من يرجع إلى سخط الله بالمعصية؟!
أفمن يتبع رضوان الله فلا يغُل في الغنيمة ولا يختان في الأمانة كمن غل في الغنيمة وخان في الأمانة؟
أفمن اتبع رضوان الله بأن استمع لأوامر الله حين استنفره لجهاد العدو ، كمن لم يذهب لنداء الله ليكون في جند الله مقاتلا لعدو الله ، لا؛ فالذي لا يستجيب لنداء الله هو من يبوء بسخط الله .
و " السخط " هو : إظهار التقبيح ، لكن إظهار التقبيح قد لا يؤثر في أناس غليظى الإحساس ، لا تنفع فيهم اللعنة أو الشتائم؛ لذلك جاء سبحانه بالحكم : { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } { وَمَأْوَاهُ } أي المكان الذي يأوي ويرجع إليه هو جهنم وبئس المصير . وبعد ذلك يقول الحق : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله . . . }
(1/1258)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{ هُمْ دَرَجَاتٌ } أي ينزلون في الآخرة منازل على قدر أعمالهم ، فكما ترى الدرجات موصلة إلى المراقي العالية كذلك في الآخرة كل إنسان مُحاسب بعمله ، ويأخذ عليه درجة ، ولنا أن نلحظ أن الحق يستخدم كلمة { دَرَجَاتٌ } بالنسبة للجنة؛ لأن فيها منازل ورتبا ، أما فيما يتعلق بالنار ، فيأتي لفظ " دركات " ، فالدركة تنزل ، والدرجة ترفع .
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله } فالله هو العادل الذي ينظر لخلقه جميعا على أنهم خلقه ، فلا يعادي أحدا ، إنه يحكم القضية في هذه المسألة سواء أكانت لهم أم كانت عليهم ، وبعد ذلك يردفها - سبحانه بقوله : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } ليطمئن هؤلاء على أن الله بصير بما يعملون فلن يضيع عنده عمل حسن ، ولن تهدر عنده سيئة بدرت منهم . { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } . ونحن نسمع كلمة " يعمل " وكلمة " يفعل " وكلمة " يقول " ، والعمل أهم الأحداث ، لأن العمل هو تعلق الجارحة بما نيطت به ، فالقلب جارحة عملها النية ، واللسان جارحة عملها القول ، والأذن جارحة وعملها الاستماع ، والعين جارحة وعملها أن تنظر . إذن فكل جارحة من الجوارح لها حدث تنشئه لتؤدي مهمتها في الكائن الإنساني ، إذن فكل أداءِ مُهِمّة من جارحة يقال له : " عمل " .
لكن " الفعل " هو تعلق كل جارحة غير اللسان بالحدث ، أما تعلق اللسان فيكون قولا ومقابله فعل ، إذن ففيه قول وفيه فعل وكلاهما " عمل " إذن فالعمل يشمل ويضم القول والفعل معا؛ لأن العمل هو شغل الجارحة بالحدث المطلوب منها ، لكن الفعل هو : شغل جارحة غير اللسان بالعمل المطلوب منها ، وشغل اللسان بمهمته يسمى : قولا ولا يسمى فعلاً ، لماذا؟ لأن الإنسان يتكلم كثيرا ، لكن أن يحمل نفسه على أن يعمل ما يتكلمه فهذه عملية أخرى ، ولذلك يقول الحق : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2-3 ]
إذن فالقول مقابله الفعل ، والكل عمل { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } قولا أو فعلاً وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة . . . }
(1/1259)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
والذي يمن على الآخر هو الذي يعطيه عطية يحتاج إليها هذا الآخذ ، فكأن الحق يقول : وهل أنا في حاجة إلى إيمانكم؟ في حاجة إلى إسلامكم؟ أصفة من صفاتي معطلة حتى تأتوا أنتم لتكملوها لي؟ لا ، إذن فحين أبعث لكم رسولا رحيما بكم ، فالمنة تكون لي وحدي .
{ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .
أكان يبعثه مَلَكا؟ لا . بل بعثه من البشرية؛ كي تكون الأسوة فيه معقولة . فعندما يقول لكل مسلم افعل مثلى ، فالمسلم عليه أن يطبق ما يأمره به الرسول ، لكن لو كان مَلَكا أكانت تنفع فيه الأسوة؟ لا ، فقد يقول لك : افعل مثلى ، فتقول له : لا أقدر لأنك مَلَك ، ومن يدعي الألوهية لرسول ، فهو ينفى عنه الأسوة؛ لأنه عندما يقول : كن مثلي ، يمكنك أن تقول : وهل نقدر؟ أنت طبيعتك مختلفة ، فهل نصل لذلك؟! لا نقدر ، ولذلك فالذين يقولون بألوهية رسول ، إنما يفقدون الأسوة فيه ، والمفهوم في الرسول أن يكون أسوة سلوكية ، وأن يكون مبلغا عن الله منهجه ، وأن يعلن بشريته ويقول : أنا بشر وأستطيع أن أمثل وأطبق المنهج . إذن فهو أسوة سلوكية تطبيقية .
والرسول مبعوث للكل ، فلماذا كانت المنة على من آمن فقط!؟ لأنه هو الذي انتفع بهذه الحكاية ، لكنَّ الباقين أهدروا حقهم في الأسوة ولذلك تكون المنة على من آمن .
{ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } وما هي المنة؟ المن : الأصل فيه أنه القطع ، لكن حين نسمعها نجدها تستعمل في أشياء متقابلة ، فمثلا : المن هو العطاء بلا مقابل ، والمن هو : تكدير النعمة بالتحدث بها ، مثل قوله تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 262 ]
إذن فالمن الذي نحن بصدده هو العطاء بلا مقابل ، ولكن المن قد استعمل في تكدير النعمة بكثرة الكلام فيها ، فقد يقول الإنسان لمن يمن عليه : لا أريد النعمة التي تتكلم عنها دائما ، إذن فالمن استعمل في النعمة وفي تكدير النعمة ، تقول : مَنَّ على فلان إذ أنقذني من ضيق كنت فيه ، ويقال : فلان ليس فيه مُنة ، أي ليس فيه قوة ، وكلها تدور في معنى القطع ، فإذا استعمل في النعمة والعطاء نقول : نعم فيها قطع؛ لأن النعمة جاءت لتقطع الحاجة ، ففيه حاجة ثم جاء عطاء ، والعطاء قطع الحاجة . فاستعملت في معناها .
فإذا جاءت نعمة بعد حاجة والحاجة انقطعت بالنعمة فلا بد أن تأتي بفعل بعدها وهو أن تشكر من أنعم عليك ، وخصوصا أنه الله ، فالمن يقطع الشكر لأنك إن مننت بالنعمة وأظهرت تفضلك بها على من أسديتها إليه فقد تسببت في أن الآخذ لا يشكرك بل إنه يتضايق من نعمتك وقد يردها عليك .
(1/1260)
فإذن : هنا قطع للشكر ، فإن قطعت حاجة محتاج فهذا يسمى " نعمة " وإن فخرت بنعمتك عليه حتى كدرتها فقد قطعت ومنعت شكره لك ، وهذا يسمى " مَنَّا " أي أذى لأنه يؤذي مشاعر وإحساس الآخذ . وإن قطعت مطلقا اختصت باسم " المنَّة " ، يقولون : فلان لا مُنة فيه أي لا قوة عنده تقطع في الأمور ، وهنا يقول : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } و " منَّ " هنا بمعنى أعطى نعمة ، والنعمة في الدنيا تعطيك على قدر دنياك ، و " منة " الله برسوله صلى الله عليه وسلم تعطيني عطاء على قدر الدنيا وعلى امتداد الآخرة ، فتكون هذه منة كبيرة .
{ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذَْ } ، و { إِذْ } يعني ساعة أي حين بعث فيهم رسولا منهم فقد عمل فيهم منة وقدم لهم ومنحهم جميلا كبيرا وأنعم عليهم نعمة ، { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً } . فإذا كان مطلق بعث رسول كي يهدي الناس إلى منهج الله يكون نعمة فماذا إذا كان الرسول من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه ما دام من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه مادام من أنفسهم ومن رهطهم ومن جماعتهم ، هو معروف نسباً وحسباً ومعروف أمانة ، فلا يخون ، ومعروف صِدقاً فلا يكذب ، كل هذه " مِنة " ولم يتعب أحداً في أن يبحث وراءه : أكذب قبل ذلك حتى نعتبر ذلك كذبا؟ أخان قبل ذلك حتى نعتبر ذلك خيانة؟ لا . هل هو من الناس المدعين الذين يريدون أن يقيموا ضوضاء من حولهم؟ لا . بل هو في الحسب والنسب معروف ، جده عبد المطلب سيد البطحاء ولا يوجد واحد من أهله تافها .
وعرف الجميع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة منذ صغره ، إذن فالمقدمات تجعل الناس لا تجهد نفسها في أن تتحرى عنه أصادق هو أم غير صادق؟ إذن فهو مِنّة ، ولذلك حينما بعث الله سيد الخلق إلى الخلق؛ كان هناك أناس بمجرد أن قال لهم : إني رسول الله ، آمنوا به ، لم يقدم معجزة ولم يقولوا له : ماذا ستقول أو ماذا تعمل؟ بمجرد أن قال : إنه رسول الله صدقوه ، فعلى أي حيثية استندوا في التصديق؟ لقد استندوا على الماضي .
لقبتموه أمين القوم في صغر ... وما الأمين على قول بُمتهم
هاهو ذا سيدنا أبو بكر رضي لله عنه يقول : إن كان قد قال فقد صدق - إذن فالمقدمات التي يعرفونها عنه كانت هي الحجة في تصديق الرسول ، وخديجة - رضي الله عنها آمنت به ، أقال لها المعجزات والقرآن؟ لا . بل بمجرد أن قال لها : أنا رسول الله . قالت له : صدقت فلا بد أن تكون رسولا ، هو نفسه كان يتشكك وهي مؤمنة به ، هو نفسه يتساءل : لعل ذلك يكون كذا ، وذهبت به خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقة بن نوفل وأوضحت لرسول الله أنّ ما تقوله لا يمكن أن يوقعك في بلية أو خزي أو ذِلةً؛ لأن صفاتك جاءت كمقدمات لهذه النتيجة ، وهي أنك رسول كريم " إنك لتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر ، والله لا يخزيك الله أبداً " ، إنسان بهذه الصفات لا يمكن أن يأتيه شيطان ، وتعال نذهب معا لأهل الكتاب الذين لهم علم بهذه المسألة .
(1/1261)
كأنها آمنت برسالة رسول الله قبل أن يقول لها ورقة بن نوفل شيئاً .
إذن فقوله : { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي معروف لهم ، فلم يأت لهم بواحد سقط عليهم من السماء ، وقال : هذا رسول ، لا . إنه رسول { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، وهذه أول مِنّة ، { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، هذا إذا أخذت المحيط القريب أنه من الرهط ومن القبيلة ومعروف لهم ، { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أو من جنس ونوع العرب ، وهذه أيضاً مِنّة ، فساعة أن يتكلم سيفهمونه ولا يحتاجون إلى وساطة أو ترجمة ، والرسول عندما يأتي ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، يريد أُناسا تفهم عنه ، فأوضح لهم : لم أكلفكم لتقولوا ماذا يريد ، لا ، هو من أنفسكم ، وهو إنسان له مواصفاتكم ، ولكنهم لفرط عنادهم لم يؤمنوا مصداق ذلك قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ]
إنهم يستكثرون كيف يبعث الله بشراً ويجعله رسولاً ، وهذا غباء في الاعتراض ، ويأتي الرد الجميل من الله . { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ]
أنتم من البشر ، فلا بد أن نأتيكم برسول من جنسكم ، حتى إذا قال لكم : افعلوا كذا تقولون : نعم؟ لأنه بشر ويعمل ونحن بشر نستطيع أن نعمل مثله . . لكنه لو كان مَلَكاًَ لقال الواحد منكم : وهل أنا أقدر أن أكون كالَمَلك؟ إذن فلا تنفع هذه الحكاية ، وهكذا منّ الله على المؤمنين . إذ بعث فيهم رسولا . { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، إن أخذتها على أساس أنها قبيلة محدودة ومعروفة فهي منة ، وإن أخذتها على أنه من جنس عربي فيكون اللسان واحداً فهي مِنّة ، وإن أخذتها من الجنس العام وهو الإنسان فهي مِنّة أيضاً .
وهل اعتبار معنى واحد من المعاني ينقض المعاني الأخرى أو تأتي كلها في سلك واحد؟ إنها معانٍ تأتي كلها في سلك واحد؛ لأن المتكلم هو الله ، وما دام المتكلم هو الله فيكون عطاء اللفظ أكثر من عطاء ألفاظ الخلق ، { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، وهناك قراءة - وإن كانت قراءة شاذة - تقول : { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ( بفتح الفاء ) أي من أشرفهم لأنه من بني هاشم وهم أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب .
(1/1262)
وماذا يعمل الرسول؟ يُفهم من قوله : " رسولا " أنه لا يأتي بشيء من عنده ، بل هو - مع هذه المنزلة الحسنة بخُلُقه الجميل وماضيه الناصع - هو مع هذا رسول وليس له في الأمر شيء ، إذن فمرسله خير منه ، فلا تتنبه إلى هذا الرجل العظيم فحسب بل يجب عليك أن تسأل : من أين جاء؟ لا بد أن تلتفت إلى أن الذي بعثه أعظم منه .
{ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } ، وكلمة { يَتْلُواْ } يعني يقرأ لأن الكلمة تتلو الكلمة ، فالذي يقرأ أي ينطق كلمة بعد كلمة ، كلمة تالية بعد أخرى { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } وكلمة " الآيات " - كما نعرف - تستعمل للأمور العجيبة؛ اللافتة للنظر ، تقول مثلا : فلان آية في الحس . أي حسْنُه لافت للنظر ، وتقول : فلان آية في الذكاء ، صحيح أن هناك أذكياء كثيرين ، لكنه آية في الذكاء . . أي أن هذا الإنسان أمره عجيب في الذكاء ، إذن فكلمة " آية " معناها : الأمر العجيب ، وهو الذي يقف الإنسان عنده وقفة طويلة ليتأمل في عجائبه .
والآيات نوعان : آيات منظورة في الكون مثل قول الحق : { وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ]
وكل ظواهر الكون تعتبر أشياء عجيبة . والنوع الثاني : هو آيات القرآن مثل قوله الحق : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 101 ]
إذن فالآيات هي الأمور العجيبة وهي قسمان : منظور ومقروء ، المنظور : كل الكون ، والمقروء : هو القرآن ، فالقرآن يفسر آيات الكون ، وآيات الكون تفسر آيات القرآن ، والرسول جاء يتلو آيات القرآن ، وكانت عجيبة عليهم ، لكن الآيات الأخرى التي في الكون يشاهدونها ويرونها ، لقد جاء الرسول بآيات مقروءة ليلفت الناس إلى الآيات المنظورة ، وبتلك الآيات المنظورة يكون العجب من دقة خلق الكون؛ فينتهي الإنسان إلى الإيمان بِمَن خلق هذا الكون .
إن الحق يقول عن الرسول : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } والمسألة ليست أنه يتلو الآيات ليعجبوا منها فحسب ، لا . فالرسول له مهمة إيمانية تلفت كل سامع للقرآن إلى من خلق ذلك الكون الجميل البديع الذي فيه الآيات العجيبة . ثم يعطي الرسول من بعد ذلك المنهج الذي يناسب جمال الكون ، إذن فالرسول ينقل المؤمنين إلى المنهج الذي يُزكي الإنسان وأنت إذا سمعت كلمة { يُزَكِّيهِمْ } فأنت تعرف أنها من الزكاة . والزكاة أول معانيها : التطهير؛ والتنقية؛ والنماء . والآيات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاءت لتزكيهم .
وهذا التطهير لمصلحة المُطَهِّر أو المُطَهَّر . إنه لمصلحة المطهِّر التنقية والنماء لمصلحتكم أنتم وهذا لا يشكك في التكليف؛ لأن التكليف لم يأت للمُكلِّف ، إنما جاء للمُكلف ، وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فالرجل يكون ميسور الحال وعنده مال وعنده عقارات وأطيان ، وبعد ذلك يحب لأولاده أن ينجحوا في المدارس فيشجعهم قائلا لكل منهم : إن نجحت فسأفعل لك كذا .
(1/1263)
هو لا يريد منهم شيئا لنفسه ، فعنده النعمة الكافية ، هو يريد - فقط - مصلحتهم هم .
إذن فالمكلف لن ينتقع بتكليفنا أبدا ، فالتنقية لصالحنا والتطهير لصالحنا والنَّماء لصالحنا - والتزكية هي : تطهير وتنقية ونماء - ولننظر إلى الحالة التي كانت الجاهلية عليها ، هل كانت طاهرة؟ هل كانت نقية؟ هل كانت نامية؟ لم يكن بها وصف من تلك الأوصاف ، لأنها جاهلية ، فكلهم محكومون بالهوى والجبروت والسلطان والقهر ، ونعرف أن أول ما يهتم به الإنسان هو أن يستبقى حياته وبعد ذلك يستبقى نوعه ، وبعد ذلك يستديم ما حوله ، والتزكية شملت كل أمر من هذه الأمور ، تزكية في الإنسان نفسه ، في ذاته ، بدلا من أن يكذب لسانه طهره عن الكذب ، بدل أن تمتد عينه إلى محارم غيره طهر عينه من النظر للمحرمات ، وبدلا من أن تمتد يده خفية وتسرق فهو لا يفعل ذلك .
والسرقة - كما نعلم حتى عند من يسرق - نقيصة ، بدليل أن اللص يتوارى ويحاول أن يسترها وألا يراه أحد ، لأنها رذيلة ونقيصة . ويأتي المنهج فيقول له : لا تسرق ، ويطهر المنهج حركة جوارح الإنسان في الأرض ، ويطهر قلبه من الحقد كي يعيش مرتاحا ، وتبقى قوته مصونة للعمل الجاد المثمر ، فلِمَ يبدد قوته ، ولم يبدد نظراته ، ولم يبدد علاقاته بالناس؟
إذن فالمنهج ينمي الإنسان ، إنه تطهير وتنقية ونماء له ، وبعد ذلك عندما يصاب الإنسان بالعجز وعدم القدرة ، فلن يستذله الغير لكي يعطيه لقمة . لقد زكاه المنهج من هذه ونقاه من الذلة وجعل له من مال القادر حقا ، والقادر هو الذي يبحث عن الضعيف ليعطيه حقه؛ لأن العاجز عندما يرى كل المؤمنين حوله قادرين يبحثون عنه ليعطوه حقه وليس مجرد صدقة يتصدقون بها عليه حينئذ يقول : أنا لست وحدي في الكون . أنا في الكون بفلان وبفلان ، فتكون تنمية له ، وما دام الكل يعطيه .
أما عن بقاء النوع فماذا يعني؟ إن الحق يريد طهارة الإنسان والذرية التي تأتي وأن يجعل لها وعاءً شريفا عفيفا ، وإطارا لا تشوبه شائبة فجاء المنهج ليزكيكم في كل شيء يزكي حركات جوارحكم فلا تتجه الحركة إلا لتحقق المطلوب منها عند من خلقها ، فالخالق قد أوضح : يا عين حدودك كذا ، يا لسان حدودك كذا ، يا يد حدودك كذا ، يا رِجلُ حدودك كذا ، يا قلب حدودك كذا ، فالذي خلق كل جارحة هو الذي أعطى لكل منها حدودها فلا تجاوز ولا تهاون ولا إفراط ولا تفريط ، فإن خرجت عن غير ما وضع لها في منهج الله فقد خالفت .
(1/1264)
وهكذا نرى أن المنهج قد جاء يزكيكم أي يطهركم وينقيكم وينميكم في كل مجال من مجالات الحياة .
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } وساعة يقول الحق : { الكتاب } فهو يقصد الكتاب المنزل إنه القرآن ، والحكمة هي السنة . والحق يقول : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } [ الأحزاب : 34 ]
وآيات الله معروفة وهي آيات القرآن ، والحكمة هي سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا يقول الحق : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } ، إذن فالكتاب هو القرآن ، سيتلو عليهم آيات القرآن وبعد ذلك يعلمهم ما جاء في هذا الكتاب . بعض المفسرين قال : لا بد أن نحمل " الكتاب " هنا على معنى آخر غير القرآن ، فقالوا : الكتاب يعني الكتابة ، وأول عمل زاولوه في الكتابة كتابة المصحف . إذن فالتقى المعنيان ، ولذلك في غزوة " بدر " كان يتم فداء الأسرى إما بالمال وإما أن كل أسير يجيد القراءة والكتابة إذا أراد أن يفدي نفسه فعليه أن يقوم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة فقد كانت الأمة أمية يقول سبحانه وتعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } [ الجمعة : 2 ]
لذلك نجد أن تفسير الكتاب بالكتابة هو المناسب للأمية ، أو خذ هذه اللقطة على أساس أن هناك فرقا بين التلاوة والتعليم ، التلاوة : يتلو عليهم ، أي أن الرسول هو الذي يتلو ، والتعليم يكون بأن يتلوا هم القرآن . { وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } و " علَّم " أي نقل العلم من مُعَلِم إلى مُعَلَّم .
ويختتم الحق هذه الآية بالقول الكريم : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } وهناك أساليب تأتي في القرآن فيها " إن " وتجد كل " إن " في موضع لها معنى يختلف عن الآخر ، فمثلا تأتي " إن " شرطية ، يعني يأتي بعدها فعل شرط وجواب شرط مثل قوله الحق : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } [ آل عمران : 140 ]
أي إن يمسسكم قرح فلا تيأسوا ولا تبتئسوا . فقد مس القوم قرح مثله ، وقوله الحق : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ } [ البقرة : 271 ]
إننا هنا نجد أنَّ " إن " شرطية ، ففيه شرط وجواب شرط . ومرة تأتي " إن " وبعدها " إلا " : { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ]
وهو سبحانه يتكلم هنا عن الذين يظاهرون من نسائهم ، أي يقول الرجل لامرأته : أنت علىّ كظهر أمي ، إن أمك هي التي ولدتك وامرأتك لم تلدك ، فلو كانت أمك لكانت محرمة عليك ، { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } ، فعندي هنا " إن " وبعدها " إلا " وما دام جاءت " إلا " فالذي بعدها يكون مثبتا ، والذي قبلها يكون منفيا ، مثل قولنا : " ما قام القوم إلا زيداً " إن زيداً مختلف عنهم .
(1/1265)
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } أي : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، إذن ف " إن " هنا ليست شرطية لكنها هنا " إن " النافية وتعرفها بوجود " إلاَّ " .
ومرة ثالثة تأتي " إن " لا هي شرطية ، ولا هي نافية مثل آيتنا هنا { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } . ونقول : هذه " إنْ " التي هي تخفيف " إنَّ " أي " إنْ " هنا مخففة من الثقيلة ويكون المعنى وإنّ الحال والشأن والقصة والواقع أنهم كانوا في ضلال مبين . ويقول النحاة : اسمها ضمير الشأن - أي الحال والقصة - وهو محذوف .
وما هو الضلال؟ يقولون : ضل فلان الطريق أي مشى في مكان لا يوصله للغاية ، أو يوصل إلى ضد الغاية؛ لأن الضلال في الدنيا والأمور المادية قد لا يوصلني لغايتي المرجوة ، وقد لا يوصلني لشر منها أو لمقابلها ، لكن في الأمر القيمى ماذا يفعل؟ إنه لا يوصلك إلى الغاية المرجوة وهي الجنة فحسب ولكنه يوصل للمقابل وهو النار ، هذا هو الضلال المبين ، إنه ضلال واضح؛ بدليل أن النقائص التي جاء الإسلام ليطهر الإنسان منها ، يحبّ مرتكبها ألا تُعلم عنه وسط الناس ، فالسارق يسرق لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه لص ، والكاذب يكذب لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه كذاب ، بدليل أنك عندما تقول له : يا كذاب تكون له صاعقة . إذن فالنقيصة تُفعل وصاحبها لا يريد أن يراها أحد أو يُعرف بها .
{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي ضلال ظاهر وهو ضلال يعرفه صاحبه بدليل أننا قلنا في قصة سيدنا يوسف؛ حيث نجد في القصة اثنين من الفتيان قد دخلا السجن ، وماذا حدث لهما : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } [ يوسف : 36 ]
لقد رأوا في يوسف عليه السلام كأن عنده ميزان الإحسان فهو يعرف الحسن والقبيح ، ولأنهما يعرفان ميزان الإحسان فلا بد أن تكون المسائل بالنسبة لهما واضحة . ولماذا لم يقلها واحد منهما من قبل؟
لقد شهدا هذه الشهادة لسيدنا يوسف لأنهما يطلبان الآن مشورته في تأويل الرؤى . كان يوسف عليه السلام مسجونا ، ولم ينظر إليه أحد إلا كمسجون . ومن سلوكه معهما في السجن عرفا أنه طيب ومحسن . ولذلك التفتا إليه ورأيا فيه أنه قادر على تأويل رؤيا كل منهما . مثلما قلنا : إن المنحرف نفسه يعرف قيمة الفضيلة ، وهكذا نجد أن الفضيلة مسألة ذاتية وليست نسبية ، أي أنه حتى المنحرف عن الفضيلة يرى الفضيلة فضيلة .
وبعد ذلك يعود الحق إلى قضية عجيبة ، فإذا كان الله سبحانه قد من على المؤمنين بالرسول ، ومن أنفسهم ، وجاء يتلو عليهم آيات الله ، وجاء يزكيهم طهارة ونقاء ونماء ، وجاء ليعلمهم الكتاب والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه ، أو البحث عن أسرار الأشياء كان يجب عليكم - إذن - أنه إذا قال قولة لا تخالفوا عنها أبدا ، وعندما يجري على يديه أمر فهو لا يحتاج إلى مناقشة ، إذن فما حكايتكم؟
يقول الحق : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ . . . }
(1/1266)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
لماذا تقولون : كيف يهزمنا الكفار؟ لقد حدث لكم ذلك لأنكم خالفتم الرسول الذي منَّ ربكم به عليكم ، وآتاكم ، وزكاكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ، كان مقتضى ذلك أن كل ما يقوله الرسول الذي هو بهذه المواصفات أن تطيعوه ، ولا يقولن أحدكم : لماذا تحدث هذه الهزيمة؟ ولا يقولن أحد لماذا حكاية أحُد وكيف يهزمنا الكفار؟ إنَّ هذا لا ينسجم مع ما قيل من أن الله مَن عليكم وبعث فيكم رسولا ، ثم إن أحُداً ليست مصيبة بادئة ، بل مصيبة جاءت بعدما أصبتم من أعدائكم مصيبة ، ونلتم منهم ضعف ما نالوا منكم .
فأنتم بدأتم ببدر وأعطاكم الله الخير . أنتم قتلتم سبعين وأسرتم سبعين ، وهم قتلوا سبعين ولم يأسروا أحداً في " أُحد " ، أنتم أخذتم غنائم في بدر ، وهم لم يأخذوا أي غنيمة في أحُد ، ما العجيبة في هذه!! كان يجب أن تبحثوا في ذواتكم وفي نفوسكم ، هل كنتم منطقيين مع إيمانكم ومع قيادة الرسول لكم!؟ أيكون منكم ذلك السؤال وهو " أنى هذا " ، لأن " أنى " معناها استنكار أنَّ هَذَا يحدث أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله وفينا النبي والوحي وهم مشركون ونقول لكم : وهل كنتم على مستوى الإيمان المطلوب؟ إن مستوى الإيمان المطلوب يقتضي منكم أن تنفذوا ما قاله الرسول ، وأنتم لم تكونوا على هذا المستوى ، الذي كنتم عليه في بدر .
وساعة تسمع " أو لما " فهناك همزة الاستفهام ثم " واو عطف " ، " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " ، و " لما " هنا هي الحينية ، فماذا يكون المعنى ، لقد آمنتم بالله إلها وآمنتم بالرسول مبلغا ، أحين تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها تقولون أنى هذا؟
كان المنطق ألا تسألوا هذا السؤال أبدا لأنكم آمنتم بإله عادل له سنن لا تتبدل ولا تتحول . أكان يترك السنن من أجلكم!؟ { سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ]
وفي موقع آخر من القرآن يقول سبحانه : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ]
فلو أنكم استحضرتم الإيمان بالإله الذي أطلق السنن في الكون ليسوس به أمر ملكه بما يحقق أمر المصلحة لما قلتم هذا وما دمتم قد آمنتم بأن الإله هو الذي صنع تلك السنن فكان الواجب عليكم أن تعلموا أن الإله لن يجاملكم بإبطال سننه من أجل أنكم نُسبتم إليه أولا بأنكم مسلمون ، فإنكم إن خالفتم فسنن الله واقعة ، وكان يجب أن تفهموا هذا الأمر ، وكان يجب ألا تسألوا هذا السؤال ، وقد آمنتم بالله إلها له سنن ، وآمنتم بالرسول المبلغ عن الله .
(1/1267)
أحين تصيبكم مصيبة مع هذا الإيمان قد أصبتم مثليها ، وتقولون : أنى هذا؟ أنتم حدث منكم أنكم أصبتم خصومكم ، وياليتكم أصبتموهم بمثل ما أصابوكم به بل أنتم مثليها ، كان يجب أن تعرضوا عملكم على الموازين الإيمانية؛ فإن عرضتموه على الموازين الإيمانية لم سألتم هذا السؤال : " أنى هذا " . .
وساعة تسمع " أنى هذا " فلها معنيان : إما أنها تأتي بمعنى ( كيف يحدث هذا ) ؟ وإما بمعنى ( من أين يحدث هذا ) ؟ فإن كانت لأعيان وتحب أن تعرف ، مثلما أحب سيدنا زكريا أن يعرف : من أين يأتي الرزق لسيدتنا مريم وهي في المحراب : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] أي من أين؟ وتأتي مرة أخرى بمعنى " كيف " : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [ البقرة : 259 ]
أي كيف يحيي؟ إذن فمرة تكون بمعنى " من أين " ، ومرة تكون بمعنى " كيف " ، والذين دخلوا معركة أحُد كانوا ينكرون ويستعجلون لعدم انتصارهم . . فأوضح لهم الحق : لو كنتم مستحضرين قضية الإيمان بإله عادل وضع في كونه سننا وهو لن يغير سننه ولن يحولها من أجلكم أنتم ، إن عليكم أن تعرفوا أن الله لا يتغير من أجل أحد ، ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل الله .
{ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } : و " لما " يعني : حين ، واسمها : " لما الحينية " و " لما " تكون أيضا من أدوات وعوامل الجزم مثل : لَمْ و " لم " تنفي ، و " لمَّا " أيضا تنفي مثل قوله الحق : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ]
أي أن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد . إنما من الجائز أنه قد يدخل بعد ذلك ، هذه اسمها " لَما " الجازمة . وهناك " لما " الشرطية مثل قولنا : لما يقوم زيد يحرث كذا ، وهذه فيها شرط ، وفيها الزمن أي حين يقوم يحدث كذا ، مثل قوله الحق : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } [ الصافات : 103-105 ]
أي حين أسلم وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي ناديناه ، والواو هنا مقحمة مثلما في قوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } أي قال لهم . ومعنى مقحمة . . جيء بها للتوكيد والتقوية أو جاءت الواو هنا لتفيد أن نداء الله لسيدنا إبراهيم جاء مصاحبا لإلقاء ابنه إسماعيل على وجهه ليذبحه .
(1/1268)
ف " لمّا " هذه وفي الآية التي نحن بصددها هي " لما الحينية " ، أحين تصيبكم أي : أوقت تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها " قلتم أنى هذا " كان يجب أن تقارنوا لماذا أصَبْتُم في بدر مِنْ عدوكم ضعف ما أصاب منكم ، ولماذا أصاب عدوكم منكم يوم أُحُدٍ هذا؟ كان يجب أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال؛ لأن الميزان منصوب وموضوع ، وما دمتم تغافلتم عن هذا فسيأتي لكم الرد . . قل يا محمد لهم رداً على هذا : { هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } . لقد خالفتم عن أمر الرسول ، وما دمتم خالفتم عن أمر الرسول ، فلا بد أن يحدث هذا بمقتضى إيمانكم بإله له سنن لا تتحول ولا تتبدل . { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } .
وبعد ذلك تذيل الآية بقوله سبحانه : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . فما موضعها هنا؟ موضعها أنه ما دامت لله سنن ، وسنن الله لا تتبدل ، والله موصوف بالقدرة الفريدة له فلن يأتي إله آخر ويقول : نبطل هذه السنن . وما دام لا يوجد إله آخر يقول ذلك فهو سبحانه قدير على كل شيء ، وهو قدير على أن تظل سننه دائمة ، ولا توجد قوة تزحزح هذه القضية؛ لأن السنن وضعها الله . فمن الذي يغيرها؟ إنها لن تتغير إلا بقوة أعلى ومعاذ الله أن تكون هناك قوة أعلى من قوة الله؛ لذلك يوضح سبحانه : أنا قدير على كل شيء وقدير على أن أصون سنني في الكون ، فلا تتخلف ولا توجد قوة أخرى تُحوِّل هذه السنن أو تبدلها .
ولا تظنوا أن ما أصابكم جاء فقط لأن السنن لا تتغير ، لا ، فهذا قد حدث بإذن من الله ، فالله أوضح للكون : من يخالف أمري أفعل فيه كذا . إذن فالكون لم يحدث فيه شيء دون علم الله وإذنه .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله . . . }
(1/1269)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
أي أنه سبحانه قد جمع المؤمنين وجمع الكافرين في أحُد بإذن منه وبعلمه والنتيجة معروفة عنده ، وأنه سيحدث منكم كذا وكذا ، إذن فهذا أمرٌ معلوم ، أو { بِإِذْنِ الله } أي في السنن التي لا تتخلف ، فالمسألة لم تأت بغير علم الله ، لا . لقد جاءت بإذن الله ولا تتخلف - تطبيقا - عن أَحَدٍ من خلقه أبداً مهما كانت منزلته .
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } ساعة ترى أمراً أجراه الله ليعلم الذين نافقوا ، وليعلم المؤمنين ، نعرف أن الله عالم بهم قبل أن تقع الأحداث ، ولكن علمه لا يكون حجة على الغير إلا إن حدث منه بالفعل؛ لجواز أن يقول : يارب أنت حاسبتني بعلمك أن هذا سيحدث ، لكن ما كنت لأفعله . فيوضح الحق : لا . أنت قد علمته لأنك فعلته وصار واقعاً منك وتقوم به الحجة عليك .
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت كمعلم تقول لواحد من الطلبة : أنت راسب ، فيقول لك : لا ، لا بد أن تمتحنني . تقول له : أنا أعرف أنك راسب . فيقول لك : أنا لا آخذ بعلمك بل لا بد أن تمتحنني . تقول له : تعال أمتحنك . وتعطيه بعض الأسئلة فيرسب . وهنا يصير علمه برسوبه أمراً واقعاً ، وهو كان يعلمه بسبق علم ، لكنه الآن لا يقدر أن يجادل لأنه صار واقعا محسوساً .
ويقول الحق : { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } ومنهم الثابت الإيمان الذي لا يتزعزع ويعلم أنه إذا أصابته مصيبة بما قدم لنفسه ، هذه المصيبة تزيده إيماناً بإلهه .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ . . . }
(1/1270)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } أي يجعلهم يظهرون وينكشفون أمام الناس ، وإلا لو لم تحدث هذه الأحداث فكيف كنت تعرف المنافق؟ سيستر نفسه . لا بد إذن أن تأتي أحداث لتظهره وتفضحه ، فالمنافق يراوغ؛ لذلك يأتيه الحق بأحداث ليظهر على حقيقته ، وقد كان .
{ وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } . . وكانت المدينة مهاجمة ، وإذا انتصر الكفار فسيدخلون ويسْبون ويأخذون المسلمين أسرى ويفعلون كل منكر!! فقال عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري للمنافقين : اخرجوا وقاتلوا معنا ، وإن لم تخرجوا لتقاتلوا معنا . . اخرجوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن أموالكم وعن نسائكم؛ لأنهم إذا انتصروا على المسلمين فسيدخلون ويفعلون كذا وكذا ، إنه دعاهم إلى القتال على طريق إثارة الحمية والأنفة فيهم وذلك بعد أن يئس من أنهم لم يقاتلوا في سبيل الله ، ولما رأى إصرارهم على عدم الخروج قال لهم عبد الله : اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم .
إذن ففيه فرق بين القتال في سبيل الله وبين الدفاع عن النفس فقال { قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا } . . أو ادفعوا عنا ولو بتكثير سوادنا وإظهار كثرتنا حتى يظن المشركون أن معنا أناسا كثيرين . { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } . . وعندما نتابع هذا المنطق في القصة في ذاتها نجد أن " ابن أُبَيّ " كان من رأيه أن يظل رسول الله في المدينة لماذا؟ لأنه قد ثبت بالتجربة أنه إذا جاء قوم ليغيروا على المدينة ودخلوها فأهل المدينة ينتصرون عليهم ، وإذا خرج لهم أهل المدينة فهم ينهزمون .
إذن فالقضية واضحة في ذهن ابن أُبَيّْ ، فهو لم يرض أن يخرج لأن التجارب أثبتت له أنهم إذا خرجوا عن المدينة ليحاربوا العدو فعدوهم ينتصر عليهم ، وإذا ظلوا انتصروا ، إذن فهو واثق من نتيجة الخروج ، ولكن ما دامت المسألة قد صدرت من رأس النفاق عبد الله بن أبيّ فأنت لا تستطيع أن تحكم أين الحق ، فمن الجائز أن آثار يوم هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة هذه الآثار كانت باقية في نفس " ابن أبيّ " ففي ذلك اليوم الذي جاء فيه الرسول إلى المدينة كان هو اليوم الذي كان سيتوج فيه المنافق " ابن أُبَيّْ " ليكون ملكاً على المدينة ، فلما جاء الرسول بهذا الحدث الكبير تغير الوضع وصار التاج من غير رأس تلبسه ، فهذه قد حملها في نفسه .
{ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } لقد ادّعى ابن أبيّ أن الخروج من المدينة هو كإلقائه إلى التهلكة وليس قتالاً؛ لأن القتال تدخله وعندك مظنة أن تنتصر ، إنما هذا إلقاء إلى تهلكة وليس قتالاً ، لكن أقال : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } وهو صادق؟
إن الحق يفضحهم : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } ، فقبل ذلك كانوا في نفاق مستور ، وما دام النفاق مستوراً فاللسان يقول والقلب ينكر ويجحد ، فهم مذبذبون بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، هذه المسألة جعلته قريبا من الكفر الظاهر .
(1/1271)
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } . . إذن فالقلب عمله النية الإيمانية ، واللسان قد يقول ولا يفعل ما يقول ، ولذلك قلنا : إن المنافق موزع النفس ، موزع الملكات ، يقول بلسانه كلاما وقلبه فيه إنكار ، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم غشاشون ، ونفوسهم موزعة .
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } والقول ضروري بالفم؛ لأن القول يُطلق ويراد به البيان عما في النفس ، فتوضيح الإنسان لما في نفسه كتابة ، يعتبر قولاً - لغة - ولذلك فالذي يستحي من واحد أن يقول له كلاما فهو يكتبه له في ورقة ، فساعة يكتب يكون قد قال ، وهؤلاء المنافقون يقولون كلماتهم لا بوساطة كتاب بل بوساطة أفواههم ، وهذا تبجح في النفاق ، فلو كانوا يستحون لهمسوا به : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } إذن فاللسان لم يتفق مع القلب . فالقلب منعقد ومصر على الكفر - والعياذ بالله - واللسان يتبجح ويعلن الإيمان .
ونعرف أن " الصدق " هو أن يوافق القول الواقع ، والواقع في القضية الإيمانية نية في القلب وحركة تُثبت الإيمان ، أما المنافقون فلسانهم لا يوافق قلبهم ، فلما كان ما في القلب مستورا ثم ظهر إلى الجوارح انكشفوا . وهذا هو السبب في أنهم كانوا أقرب إلى الكفر ، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وهذا لون من نقص التصوير الإيماني في القلب ، كأنهم يعاملون الله كما يعاملون البشر مثلهم .
وبعد ذلك يقول الحق : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
(1/1272)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
فعندما أراد ابن أُبَيٍّ أن يخذل الجيش ، وافقه بعض المنافقين ولم يوافقه البعض . هؤلاء الذين خرجوا للقتال والجهاد ولم يوافقوهم ثم قتلوا فرحوا فيهم ، وقالوا : لو كانوا أطاعونا ومكثوا في المدينة ولم يخرجوا لما انهزموا ولما قتلوا ، وكأن الحق يوضح لنا أسلوبهم؛ لذلك سنأخذهم من منطقهم . . هم قعدوا وقالوا عن إخوانهم الذين قُتلوا في المعركة والذين هم من جماعتهم : { لَوْ أَطَاعُونَا } كأن قولا صدر منهم : " أن اقعدوا " ولكن القوم الآخرين الذين هم أقل نفاقا . لم يطاوعوهم وخرجوا ، فحدث لهم ما حدث .
فكيف يرد الله على هذه؟ انظروا إلى الرد الجميل : أنتم تقولون : { لَوْ أَطَاعُونَا } ، فكأن طاعتكم كانت وسيلة لسلامتهم من القتل . إذن فأنتم تعرفون طريق السلامة من القتل . والذي يعرف طريق السلامة من القتل هل يعرف طريق السلامة من الموت؟ ولذلك يقول الحق سخرية بهم : { فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي ذلك رد عليهم من كلامهم { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .
وما دمتم تعرفون وسيلة للسلامة من القتل فاستعملوا هذه الوسيلة في أن تدفعوا عن أنفسكم الموت . وأنتم مع المتقدمين منكم والحاضرين تموتون ولا تستطيعون رد الموت عنكم ، إذن فأنتم لا تعرفون طريق السلامة من الموت؛ فكم من مُحارب عاد من الحرب سليما ، وكم من هَارب من القتال قد مات وانتهى ، وهَبْ أن بعضا من المؤمنين المقاتلين قد قُتل ، إن الذي قُتل في المعركة ليس أهون على الله ممن سلم من المعركة ، هؤلاء أحب إلى الله وقد عجل الله لقاءهم وأنزلهم المنزل المقرب عنده .
ونعرف أن الحدث إنما يُحمد ويُذم بالنسبة للغاية منه ، فكل حدث يُقربك من الغاية يكون محموداً ، وكل حدث يُبعِدك عن الغاية يكون غير محمود ، فإذا كانت الغاية أن تذهب إلى الاسكندرية مثلا؛ فقد تذهب إليها ماشيا فتحتاج إلى عدة أيام ، وقد تذهب إليها راكبا دابة فتحتاج إلى زمن أقل ، أو تذهب إليها راكبا عربة فيقل الزمن لساعات ، أو تذهب إليها راكبا طائرة فتصلها في نصف الساعة ، فكلما كانت الوسيلة قوية كان الزمن قليلا؛ لأننا نعلم أن القوة الفاعلة في النقلة تتناسب مع الزمن تناسبا عكسيا . وكلما زادت القوة قل الزمن ، وما دامت غايتي أن أذهب إلى الاسكندرية . فالذي يُعجل لي الزمن ويقلله لأذهب إليها أفضل أم لا؟ إنها الوسيلة الأفضل .
فما دامت الغاية أن تذهب إلى لقاء الله وأن تعيش في جواره ومعيته ، فحين يُعجل الله ببعضنا فيأخذهم من أقصر طريق فهذا أفضل بالنسبة لهم أم لا؟ هذا أفضل ، وهكذا نرى أن الناس تنظر للموت نظرة حمقاء ، إن موت المؤمن الحق الصادق الإيمان إنما يقربه إلى الغاية ، فما الذي يُحزنني!
(1/1273)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
أنتم تخافون الموت ، ولكن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بميتين ، لأن حياتهم حياة موصولة؛
إن هناك فارقا كبيرا بين الموت والشهادة ، فالذي يقتل شهيدا تكون حياته موصولة ، ولن يمر بفترة موتنا نحن ، ولنفهم أنهم أحياء عند ربهم ، أي بقانونه سبحانه ، فلا تُحَكّم قانونك أنت ، فأنت - كما قلت - لو فتحت القبر ستجد هؤلاء القتلى مجرد أشلاء . هم عندك أشلاء وأموات في قانونك أنت . لكنهم أحياء عند ربهم يرزقون؟
فالحياة تختلف عن الموت في ماذا؟ إن الإنسان إذا زهقت روحه وفارقت جسده انقطعت حياته ، في ظاهر الأمر انتهى ولم يعد ينتفع برزق ولا بأكل؛ لأن الرزق جُعل لاستبقاء الحياة إذن فلا رزق ، لكن الله سبحانه يريد أن يعطينا مواصفات تؤكد أن الشهيد حي . ومن ضروريات الحياة أنه يٌرزق أي ينتفع باستبقاء الحياة ، وعلينا أن نفهم أن العندية عندك غير العندية عند الله . فالشهيد حي عند ربه ويُرزق عند ربه رزقا يناسب الحياة التي أرادها له ربه . ونعلم أن الرزق هو الخاصية التي توجد للأحياء . وعندما نقرأ قول الله : { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } قد يقول قائل : من الجائز أنك تأخذ إنسانا وتُبقيه حيا وتعطيه طعاما وشرابا لكن أهو فرح بموقعه؟ لا . لذلك يجب أن ندرك ونعرف أن حياة الشهيد ليست في قبره ولكنها عند ربه وهو فَرِح بموقعه لذلك يقول الحق : { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
(1/1274)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
والعدل يتحقق بين البشر بأن كلا منهم يموت . ولكن الفضل أن يعجل الله انقضاء الحياة في الدنيا لمن يُحبهم بالاستشهاد وينقلهم إلى رضوانه ونعيمه { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وليس هذا فقط ، بل إننا نجد الأخوة الإيمانية قد بقيت فيهم وليست كخاصية الأحياء بل أنقى وأبقى من خاصية الأحياء ، فالخاصية الإيمانية تقتضي أن يُحب المؤمن لأخيه ما يُحب لنفسه ، والشهداء في حياتهم عند ربهم كذلك ، مما يدل على أن الحياة التي يحياها الشهداء هي حياة نامية فيها رزق ومواجيد وفرح ، وكل شهيد يعتبر أن هذا فضل من الله قد فضله به . ولذلك فالشهيد يستبشر بالذي لم يأت من بعده من إخوانه المؤمنين ويقول : يا ليتهم يأتون ليروا ما نراه .
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } : { وَيَسْتَبْشِرُونَ } من البُشرى ، والبشرى هي الخبر السّار { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } ويلحقوا أي يأتوا بعدهم ، فالشهداء يقولون : إنهم سيأتون لنا وما داموا سيأتون لنا فنحن نٌحب أن يكونوا معنا في النعيم والخير الذي نحيا فيه . وكل منهم يشعر بالمحبة لأخيه ، لأنه يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يكمل إيمان أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه " . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن فضلهم قالوا : ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا من الحرب . فقال الله - عز وجل - : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هذه الآيات : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها .
ونعرف أن " البِشْرَ " عادة هو الفرحة ، وهي تبدو عَلَى بشَرة الإنسان ، فساعة يكون الإنسان فرحا ، فالفرحة تظهر وتُشرق في وجهه ولذلك نُسميها " البشارة " ، لأنها تصنع في وجه المُبشَّر شيئا من الفرح مما يعطيه بريقا ولمعانا وجاذبية .
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ، فهؤلاء الذين لم يستشهدوا بعد قد يخوضون معركة ما ، فيقول الحق على لسان الشهداء لكل منهم : لا تخف لأنك ستذهب لخير في الحياة { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وبعد ذلك يقول الحق : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ . . . }
(1/1275)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
إن الحق سبحانه لا يضيع أجر هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل الله ، وها هو ذا سبحانه وتعالى يقول : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح . . . }
(1/1276)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
انظر إلى المنزلة العالية كي تعلم أن الهزة التي حدثت في أُحُد أعادت ترتيب الذرات الإيمانية في نفوس المؤمنين . ولذلك أراد الله ألا يطول أمد الغم على مَن ندموا بسبب ما وقع منهم ، وألا يطول أمد الكفار الذين فرحوا بما أُلحق بالمؤمنين من الضرر في المعركة الأخيرة ، هؤلاء المشركون فرحون ، وهؤلاء المسلمون في حزن؛ لأننا قلنا : ما داموا مسلمين ومؤمنين فلهم الحق ، وإن قَصَّروا فعليهم عقوبة ، وسبحانه قد أنزل بهم العقوبة لكن بقي لإسلامهم حق على الله؛ لأنه أجرى تلك الأقدار ليُهذب ويُمحص ويُربي ، فلا يطيل أمد الغم على المؤمنين ولا يمد الفرحة للكافرين ، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والحالة كما تعلمون هكذا ، ويؤذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب قريش قائلا : " لا يخرجن معنا إلا من حضر معنا القتال " .
ويخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم بعدد لايزيد على عدد المقاتلين الذين كانوا يواجهونهم حتى لا يقال إنهم جاءوا بمددٍ إضافي ، بل بالعكس ، فالذين خرجوا لمطاردة الكفار هم الذين بقوا مع الرسول في أُحد ، ونقص منهم من قُتل ونقص منهم أيضا كل من أثقلته جراحه . لقد كانوا أقل ممن كانوا في المعركة ، وكأن الله يريد أن يبين لنا أن التمحيص قد أدى مطلوبه .
هم في هذه الحالة استجابوا للرسول ، كأن المسألة جاءت رد اعتبار لمن شهدوا المعركة؛ حتى لا يضعفوا أمام نفوسهم؛ وحتى لا يجعلوها زلة تطاردهم وتلاحقهم في تاريخهم الطويل ، بل يعلمون أن معركة أُحد قد انتهت وعرفوا آثارها .
وبمجرد أذن مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنداء السابق استجابوا جميعا ، ولم يُسمح إلا لجابر بن عبد الله أن يكون إضافة لهم؛ لأنه أبدى العذر في أنه لم يكن مع القوم؛ لأن له أخوات سبعاً من البنات وأمره أبوه أن يمكث مع أخواته لرعايتهن ، فسمح له رسول الله .
- وكما قلنا - فإن الله أراد بكل أحداث أُحُدٍ أن يُعيد ترتيب الذرات الإيمانية ، وما دامت الذرات الإيمانية قد انتظمت فقد تم إصلاح جهاز الاستقبال عن الله ، وفي لحظة واحدة يستجيبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أنهم يلاحقون الكفار ، وذهبوا إلى حمراء الأسد وكان ما كان . وبعد ذلك أرسل الله لهم من جنوده من يُخَذِّلُ هؤلاء القوم الكافرين ، ويقول لهم : إن محمدا قد خرج إليكم بجيش كبير .
ونلحظ أن الحق سبحانه يجيء هنا بقوله : { الذين استجابوا } وهي تقابل " من خالفوا " أمر رسول الله وهم الرماة ، { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح } .
لقد استجابوا وهم مُرهقون ومُتألمون ومثخنون بالجراح؛ فكل واحد منهم قد ناله نصيب من إرهاق القتال ، ومع ذلك استجابوا لله وللرسول ، وكل منهم أصابه القَرح أو القُرح . . يعني الألم أو الجرح ، { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } وهم قد أحسنوا في الاستجابة؛ لذلك فلهم الأجر العظيم ، { أَجْرٌ عَظِيمٌ } لأن ما حدث منهم من أمر المخالفة قد أخذوا عليه العُقوبة .
ويقول الحق بعد ذلك : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً . . . }
(1/1277)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
المسألة ليست ذلك فقط ، المسألة أن المنافقين راحوا يُروجون إشاعات كاذبة بأن المشركين قد اسْتَدعوا عددا جديدا من كفار مكة وذلك ليخيفوا المؤمنين ، فلم يخف مؤمن واحد { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } وساعة ترى كلمة " الناس " فاعرف أن الإيمان بعيد عنها ، وما داموا " أناسا " فهم يقابلون أناسا آخرين ، ومن يغلب فهو يغلب بجهده وشطارته وحسن تصرفه ، لكن المؤمن يقابل الكافر ، والمؤمن يتلقى المدد من ربه .
قيل : إن الشيطان قد يتمثل على هيئة حشد من الناس ليُرهب المؤمنين ، والشيطان من عالم الجن ، وعالم الجن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ، وقد أعطاه الله القدرة على أن يتشكل بما يُحب . فله أن يتشكل في إنسان ، في حيوان ، أو كما يريد ، ولكن إذا تشكل فالصورة تحكمه لأنه ارتضى أن يخرج عن واقعه ليتشكل بهيئة أخرى ، فإذا ما تشكل على هيئة إنسان ، فقانون الإنسان يسري عليه ، بحيث إن كان معك مسدس أو سيف أو خنجر وتمكنت منه وطعنته يموت . وهذا هو ما رحمنا من تخويفهم لنا .
ولذلك تجد أن الشيطان يظهر لمحة خاطفة ثم يختفي ، لأنه يخاف أن يكون الإنسان الذي أمامه واعيا بأن الصورة تحكمه ، فعندما يتمثل لك بأي شكل تخنقه فيُخنق؛ لذلك يخاف من الإنسان ، فلا يظهر إلا في لمحات خاطفة .
ويمكن أن نفهم أيضا قول الحق : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } أن هناك بعضا من الكفار أشاعوا أن أبا سفيان وصحبه قد حشدوا حشودهم ، فكلمة " جمعوا " تعطي إيحاء بأنهم جاءوا بمقاتلين آخرين ، أو أن فلولهم قد تجمعت ، وسواء هذا أو ذاك فهم عندما فروا فروا فلولا ، لأن القوم المنهزمين لا يسيرون سيرا منتظما يجمعهم ، بل يسير كل واحد منهم حسب سرعته ، ويصح أن يتجمعوا ثانية ، أو جاءوا بناس آخرين ، ولنا أن نلحظ أن الأسلوب يحتمل كل ذلك .
{ الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } ومثل هذا القول قد يفت في عضد المؤمنين ، لكن التمحيص الإيماني قد صقل معسكر الإيمان فلم يهتموا بهذا الكلام ، وهكذا أثمر الدرس الأول ، لقد تعلموا أن المخالفة عن أمر الله الممثل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد المخالفة تجعل الضعف يسرى في النفس ، لكن التثبت والتمسك بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعزز الإحساس بالقوة؛ لذلك لم يأبهوا لهذا التهديد بل قالوا : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } فلم يهتموا بالعدد وفهموا أن الإيمان يقتضي أن يقاتلوا الكافرين حتى يُعذبهم الله بأيديهم ، وفي هذا درس لكل مُحارب ، فعندما تحارب ، فأنت إما أن تكون منصورا بإيمانك بالله وإما أن تكون على عكس ذلك :
(1/1278)
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ]
لقد فطنوا إلى أنفسهم ، وتغير الترتيب الإيماني في أعماقهم ، ونلمس ذلك في أن بعضا من الناس جاءوا يصدونهم ويخذلونهم ، فلم يستطيعوا بل زادهم هذا القول إيمانا { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } ، لقد فطنوا إلى أن قوة الله هي التي تنصرهم والله حسبهم وكافيهم عن أي عدد من الأعداد وهو نعم الوكيل ، ومعنى " الوكيل " أنني عندما أعجز عن أمر أُوَكِّلُ أحدا فهو وكيل عني ، وعندما نوكل الله فيما عجزنا عنه فهو نعم الوكيل ، لماذا؟ وتأتينا الإجابة : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله } ، ولقد نصروا بالرعب الذي أنزله الله في قلوب أعدائهم ولم يشتبكوا مع الكفار ، فصدق قول الله : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } [ الأنفال : 12 ]
ويأتي الحق من بعد ذلك بما يصدق القضية : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا . . . }
(1/1279)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وهذه القضية يجب أن يستشعرها كل مؤمن يتعرض لتمحيص الحق له ، وعلى كل مسلم أن يتذكر تلك التجربة ، تجربة أحُد ، فليلة واحدة كانت هي الفارق بين يوم معركة أحُد ويوم الخروج لملاحقة الكفار في حمراء الأسد ، ليلة واحدة كانت في حضانة الله وفي ذكر لتجربة التمحيص التي مر بها المؤمنون إنها قد فعلت العجب؛ لأنهم حينما طاردوا الكفار ، لم يأبهوا لمحاولات الحرب النفسية التي شنها عليهم الأعداء ، بل زادهم ذلك إيمانا وقالوا : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .
إذن فقد تجردوا من نفوسهم ومن حولهم ومن قوتهم ومن عددهم ومن أي شيء إلا أن يقولوا : الله كافينا وهو نعم الوكيل لمن عجز عن إدراك بغيته . لقد عرفوا الأمر المهم ، وهو أن يكون كل منهم دائما في حضانة ربه ، وقد أخذ صحابة رسول الله وآل بيت رسول الله هذه الجرعة الإيمانية واستنبطوا منها الكثير في حل قضاياهم .
وقول الله سبحانه : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } يُذكرنا بالإمام جعفر الصادق ابن سيدي محمد الباقر بن سيدي علي زين العابدين وكان من أفقه الناس بالقرآن ، وكان من أعلمهم في استنباط أسرار الله في القرآن ، إنّه كان يجد في قول الحق : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } استنباطا رائعا ، فهو يتعجب لأي إنسان أدركه الخوف من أي شيء يخيف ، والإنسان لا يخاف إلا أمرا يَنْقُضُ عليه رَتََابَة راحته ، ويقلقه ويهدده في سلامه وأمنه واطمئنانه ، ويكون لهذا الخوف مصدر معلوم ، فإذا ما تعرض المؤمن لمثل هذا الخوف فعليه أن يتذكر قول الحق : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } لأنها قضية نفعت الجيش كله في معركته مع الكفار ، فحين يأخذ الفرد هذه الجرعة فهو يستعيد رباطة الجأش . واشتداد القلب فلا يفر عند الفزع .
وينبهنا سيدنا جعفر الصادق إلى هذه القضية لنفزع إليها عند كل ما يُخيفنا فيقول : عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } إنه بنظرته الإيمانية يتعجب لإنسان أدركه الخوف ثم لا يفزع إلى هذا القول الكريم { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } ، ثم يستنبط بإشراقاته سر هذا فيقول : لأني سمعت الله بعقبها يقول : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } وانظروا إلى قول سيدنا جعفر الصادق : " فإني سمعت الله بعقبها " هو قرأ بنفسية المؤمن الصادق ، فالمؤمن حين يقرأ كلام الله إنما يستحضر أنه يسمع الله يتكلم إنه يقول : فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } ولذلك فالحق يقول : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ]
فأنت حين تستمع إلى القرآن فالله هو الذي يتكلم ، ومن العيب أن يتكلم ربك في أذنك ثم تشغل عنه وهو ربك ، إذن فعلاج الخوف هو أن تقول من قلبك : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } وأن تقولها بحقّها ، فإن قلتها بحقها كفاك الله شرّ ذلك الخوف ، لأن الله يقول بعد { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } انظر إلى النعمة والفضل ، إنهما من الله ، وقد تصيبك النعمة والفضل ولكن تقدر ذلك في أخريات الأمور ، فأوضح الله أن النعمة زادت في أنها غنيمة باردة ، ولم يحدث فيها أن مسّنا سوء ، إن ذلك هو قمة العطاء ورأسه وسنامه ، فإذا قدرته في أخريات الأمور فقد أخطأت التقدير { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } ونتيجة لتلك التجربة النافعة هي أن { اتبعوا رِضْوَانَ الله } ، وقد نجحت التجربة مع المؤمنين .
(1/1280)
ويقول الإمام جعفر الصادق ليكمل العلاج لجوانب النفس البشرية ، ويصف الدواء فالنفس البشرية يفزعها ويقلقها ويجعلها مضطربة أن تخاف شرًّا يقع عليها ، وعلاج هذا : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } ، ويضيف : وعجبت لمن اغتمّ ولم يفزع إلى قول الحق سبحانه : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ]
و " الغمّ " قلق في النفس ، ولكنك لا تدرك أسبابه ، فأسبابه مُعقدّة ، صدر يضيق ، ولذلك تقول : أنا صدري ضيق ، أنا متعب ولا أدري لماذا؟ أي لم يمرّ بك الآن أشياء تستوجب هذا ، إنما قد تكون حصيلة تفاعلات لأحداث وأمور أنت لا تتذكرها الآن ، هذا اسمه " غمّ " ، فإذا ما فزع العبد إلى قول الحق سبحانه : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } فالعبد يقرّ بذنبه ويقول : هذا الغمّ لم يأتني إلا لأنني خرجت عن المنهج ، ويذكرنا سيدنا جعفر الصادق بأنه سمع بعدها قول الله : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ]
والذي قال ذلك هو سيدنا يونس { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم } .
وهذه الاستجابة من الله ليست خاصّية كانت ليونس عليه السلام ، لأنه سبحانه قال : { وكذلك نُنجِي المؤمنين } أي أنه باب واسع أدخل الله فيه كل المؤمنين ، ويضيف سيدنا جعفر الصادق : وعجبت لمن مُكر به ولم يفزع إلى قول الله : { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } [ غافر : 44 ]
فإني سمعت الله بعقبها يقول : { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } .
ومُكر به معناها بيّت له الشر بحيث يخفى ، لأن المكر هو : تبييت من خصمك لشرّ يصيبك ، بينما أنت تقف يجانب الحق ، فيكون هذا المكر شراً يُبيِّت لخير وحق ، وهذا هو المكر السّيء ، ويقابله مكر حَسن ، ولذلك يقول الحق : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ]
إذن فهناك مكرٌ ليس بسيء ، كأن يُبيت صاحب الحق لصاحب الشرّ تبييتا يخفى عليه ، هذا اسمه مكر خير؛ لأنه محاربة لشرٍّ؛ ولذلك يوضح لنا الله هذا الأمر : افطنوا إلى هذه ، فإن كانوا يمكرون ويُبيِّتون ، فهم إن بيّتوا على الخلق جميعاً لا يُبيِّتون على الله لأنه سبحانه العليم ، الخالق ، المُربّي ، وإن يُبيّت الله لهم فلن يستطيعوا كشف هذا التبييت ، إذن فالله خير الماكرين؛ لأن تبييتهم مكشوف أمام الخالق؛ لذلك فهو مكر ضعيف ، أما المكر الحقيقي فهو الذي لا توجد وسيلة تعرفه بها .
(1/1281)
ونواصل مع سيدنا جعفر الصادق قوله في علاج النفس البشرية فيقول : وعجبت لمن طلب الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قول الله : { مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } [ الكهف : 39 ]
فإني سمعت الله يعقبها بقوله : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } [ الكهف : 39-40 ]
واستنبط سيدنا جعفر الصادق ذلك من حكاية صاحب الجنة : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } [ الكهف : 39-40 ]
إنك حين تقول : { مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } فإن الدنيا تأتيك مهرولة ، لأنك جرّدت نفسك من حولك ، ومن قوة حيلتك وأسبابك ، وتركت الأمر لله سبحانه وتعالى القادر على كل عطاء .
إذن فالجوانب البشرية في النفس : هي خوف له علاج ووَصْفَة ، وهمٌّ له علاج ووصفة ، ومكر بك له علاج ووصفة ، وطلب دنيا وسعادة لها علاج ووَصْفَة ، والوصْفة التي نحن بصددها هنا : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل * فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } .
والنعمة أن يعطيك الله على قدر عملك ، والفضل من الله هو أن يزيدك عطاء ، ولم يمسس السوء أحداً من المؤمنين الذين طاردوا المقاتلين من قريش ، وكان من نتيجة ذلك أنهم جمعوا بين كل ما وهبه الله لهم؛ من نعمة وفضل مع اتباعهم رضوان الله؛ فقد صارت المسألة بالنسبة لهم تجربة مُحسّة ومُجرّبة { واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
لقد حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن لقاء كفّار قريش ، فيريد الحق أن يكشفهم ، ويظهر الدافع إلى مثل ذلك الموقف من المنافقين؛ لذلك قالوا للمؤمنين : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم }
ويظهر الله للمؤمنين حقيقة موقف المنافقين : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ . . . }
(1/1282)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
إنها صرخة الشيطان الذي يخوِّف أولياءه ، ويَصحُّ أن يصرخ الشيطان صرخته وهو يتمثل في صورة بشر ، ويصح أن ينزغ الشيطان بصرخته لواحد من البشر فيصرخُ هذا الإنسان بنزغ الشيطان له { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } .
وعندما نقرأ القرآن بدقة صفائية إيمانية فلا بد أن نفهم عن القرآن بعمق ، فمن هم أولياء الشيطان؟ أولياء الشيطان في هذا الموقف ، إما كفّار قريش ، وإما المنافقون أو هما معا . و { أَوْلِيَاءَهُ } هم أحبابه الذين ينصرون فكرته .
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يُبلّغنا : إنما ذلكم الشيطان الذي قال : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، هذا الشيطان إنما يخوف أولياءه .
وللوهلة الأولى نجد أن الشيطان مُفترض فيه أن يخوّف أعداءه . ونحن هنا أمام شيطان ينزغ بعبارة التخويف ، فمن الذي يخاف وممن يخاف؟
المفروض أن يُخيف الشيطانُ أعداءه ، هذا هو المنطق .
فنحن في حياتنا العادية نقول : خوّفت فلاناً من فلان ، أو خوفت فلاناً فلاناً إذن فالشيطان يحاول هنا أن يتسلط على المؤمنين ويخوفهم من أوليائه الكفار والمنافقين ، ونعرف في اللغة أن هناك في بعض المواقف يمكننا أن نحذف حرف الجر ونصل الجملة ، ونُسمّيه " مفعولاً منه " . مثال ذلك قول الحق : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } [ الأعراف : 155 ]
فموسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً .
وعلى ذلك نقرأ قول الحق : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } ونفهم منها؛ أن ذلكم الشيطان يخوِّفكم أنتم من أوليائه ، لأن حرف الجر في الآية الكريمة محذوف ، ويعاضد هذا ويقويه قراءة ابن عباس وابن مسعود : يخوفكم أولياءه ، وينبه الحق المؤمنين ألاّ يخافوا من أولياء الشيطان فيقول : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } .
وهذا يوضح لنا أن الشيطان إنما أراد أن يُخوّف المؤمنين من أوليائه وهم المنافقون والكافرون . وبعض المفسرين قال : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } المقصود بهم أن الشيطان يخوّف أولياءه حتى يَجبنوا من القتال ، فنزغ فيهم أنهم إن خرجوا للقتال فقد يموتون ولكن إن جاز ذلك القول على المنافقين الذين لم يخرجوا مع الرسول لملاقاة المشركين فكيف يجوز ذلك على الصنف الثاني من أوليائه وهم الكفار؟ إن الكفار قد خرجوا فعلا لقتال المؤمنين . ونفهم من قول الحق : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } أن أولياء الشيطان ليسوا هم الخائفين ولكنهم هم المخوِّفون : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
فالحق سبحانه يطلب من المؤمنين أن يصنعوا معادلة ومقارنة ، أيخافون أولياء الشيطان ، أم يخافون الله؟ ولا بد أن يصلوا إلى الخوف من الله القادر على دحر أولياء الشيطان .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً . . . }
(1/1283)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
لقد كان المنافقون في أول المعركة مُختفين ومستورين ، ثم ظهرت منهم بادرة الانخذال في أُحُد فكانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان ، ولكنهم من بعد ذلك سارعوا إلى الكفر ، فكأن هناك من يلاحقهم بسوط ليتسابقوا إلى الكفر .
وها هو ذا الحق سبحانه قد حدّد عناصر المعركة ، أو قوى المعركة ، أو ميدان المعركة أو جنود المعركة فينبه رسوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } ولم يقل : لن يضروكم شيئا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته المؤمنين ليسوا طرفاً في المسألة ، فعداء الذين يسارعون في الكفر هو عداء لله؛ لذلك يقول الحق : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } . كأن المعركة ليست مع المؤمنين . ولكنها معركة الكافرين مع الله ، وما دامت المعركة مع الله فالمؤمنون جند الله؛ وهم الصورة التي أرادها الله لهزيمة الكافرين : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ]
فلو كانت معركة الكفر مع المؤمنين بالله فقط لقال الله : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروكم شيئا ، لكن المسألة ليست هكذا ، لقد أراد معسكر الكفر والنفاق أن يدخل معركة مع الله ، ولا توجد قوة قادرة على ذلك ، ولهذا يطمئن الله المؤمنين أكثر ، ليزدادوا ثباتاً على الإيمان؛ لأن الكل من البشر مؤمنين وكفاراً أغيار ، وقد يتحول بعض من البشر المؤمنين الأغيار عن المنهج قليلاً ، فعندما تكون المعركة بين بشر وبشر فقد يغلب أحد الطرفين بقوته .
ومن أجل المزيد من الاطمئنان الكامل نقل الله المعركة مع الكفر إلى مسألة أخرى ، إنه بجلاله وكماله وجبروته هو الذي يقف ضد معسكر الكفار . والمهم فقط أن يظل المؤمنون في حضانة الله . والرسول كان يحزنه أن يُسارع البعض إلى الكفر . فهل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم أنه إنما جاء مٌبلّغًا فقط؟ . إنه يعلم ولكنه كان يحرص - صلى الله عليه وسلم - على أن يؤمن الناس جميعاً ليذوقوا حلاوة ما جاء به ، هذا الحرص هو الذي يدفع الحُزن إلى قلب الرسول ، وعندما يرى واحداً لا يتذوق حلاوة المنهج ، فالرسول يأمل أن يذوق الناس كلهم حلاوة الإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم بالمؤمنين ، بل وبالناس جميعا { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ودليل ذلك أن جاءه التخيير . " فقد نادى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . قال : فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال : يا محمد ، إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا " " .
(1/1284)
فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبقى على هؤلاء فقط ولكنه يحرص أيضاً على الأجيال القادمة . وقد كان . وخرج من أولاد كفار قريش صناديد وأبطال وجنود دعوة وشهداء . فَكَان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما أخبر الله في آيات القرآن - يحزن عندما لا يذوق أحد حلاوة الإيمان ، ويقول الحق : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ]
وفي موقع آخر يقول الحق : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3-4 ]
والحق سبحانه وتعالى لا يريد أعناقاً ، لكنه يريد قلوباً تأتي له بعامل الاختيار والمحبة ، فباستطاعته وهو الخالق الأكرم أن يخلق البشر على هيئة غير قابلة للمعصية ، كما خلق الملائكة ، إن كل الأجناس تٌسبّح بحمده ، إذن فالقرآن يُبيّن حِرصَه صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن الناس جميعاً وأن يذوقوا حلاوة اللقاء بربهم ، واتّباع منهج الله وحلاوة التشريع الذي يُسعدهم ويُسعد كل ملكاتهم . فإذا ما جاءت المسائل على غير ما يُحبُّ رسول الله . فها هو ذا قول الله سبحانه : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } .
وهذا دليل على أن الله يريد أن يُبلّغ البشر : أيها الناس إن من فَرْط حُبّ الرسول لكم أنه يحزن من أجل عِصيانكم وأنا الذي أقول له : لا تحزن . والرسول صلى الله عليه وسلم رحيم بالأمة كلّها ، كما يقول القرآن : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ]
ويكفيه موقفه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، حين تذهب كل أمة إلى رسولها ليردّها ، فتأتي الأمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُكرمه الله بقبول شفاعته حتى يُعجل الله بالفصل والحساب ، وهذه رحمة للعالمين؛ لأنهم من هول الموقف يتمنون الانصراف ولو إلى النار .
ونحن قلنا سابقا : إن الحق سبحانه وتعالى علم انشغال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وبرحمته بهم ، فقال له الله - ليريح عواطفه ومواجيده - ما ورد هنا في الحديث الشريف :
فعن عبد الله ابن عمر بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } .
وقول عيسى - عليه السلام - { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } . " فرفع يديه وقال : اللهم أمتي أمتي وبكى ، فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل ، اذهب إلى محمد فقل : ( إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ) "
(1/1285)
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - له موقف آخر يدل على كمال رحمته بأمته ، فقد أنزل الله فيما أنزل من القرآن الكريم - بعد فترة الوحي - قوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } .
انظروا إلى ما ورد عن سيدنا علي في هذه الآية ، فقد روِيَ أنه - رضي الله عنه - قال لأهل العراق : إنكم تقولون : إن أرجى آية في كتاب الله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } . قالوا : إنا نقول ذلك قال : ولكنّا - أهل البيت - نقول : إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } . وفي الحديث لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار ) .
كما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة " .
وهكذا نرى شغل رسول الله بأمته كأمر واضح موجود في بؤرة شعوره .
إذن فقول الله : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } هو توضيح من الله لرسوله بأنهم لم يسارعوا في الكفر تقصيراً منك ، فأنت قد أديت واجبك ، ويضيف سبحانه : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } ولم يقل سبحانه : إنهم لن يضروك ، أو لن يضروا المؤمنين ، لا بل لقد جعل سبحانه وتعالى المعركة معه وهو القوى ذو الجبروت إنّه هنا يطمئن المؤمنين .
ويريد الله ألا يجعل للذين يسارعون إلى الكفر حظاً في الآخرة فيقول : { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وما دامت هذه إرادات الله في ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ، أيكون لهم عمل يصادم مرادات ربهم؟ لا .
إنه سبحانه يريد بما شرّع من منهج أن تأتيهم سُنّته ، والله يعذّب من يخالف سُنته التي شرعها . لأنه جلت قدرته يطلب من المكلفين أن يطبقوا سنته التي شرعها لهم .
وفرق بين وجود " لام العاقبة " التي تأتي حين يكون في مُراد العبد شيء ، ولكن القُدرة الأعلى تريد شيئاً آخر ، وهي تختلف عن " لام الإرادة " والتعليل ف " لام الإرادة والتعليل " تتضح في قولنا : ذاكر التلميذ لينجح ، لأن علّة المذاكرة هي الرغبة في النجاح ، أما " لام العاقبة " فتتضح عندما يقول الأب لابنه : أنا دللتك لترسب آخر العام .
أدللّ الأب ابنه حتى يرسب؟ لا ، ولكن الأب يأتي هنا ب " لام العاقبة " أي كان للأب مراد ، ولكن قدرة أعلى جاءت على خلاف المراد .
(1/1286)
ونوضح المسألة أكثر ، فالحق يقول في قصة سيدنا موسى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ]
ونحن لا بد أن نتنبه إلى قول الحق : { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } والإنسان العادي لو قال لامرأة تحمل رضيعها : إن خفت على ابنك فألقيه في البحر . هذه المرأة لن تُصدّق هذا القائل ، لكن أم موسى تلقت هذا الوحي من الله ، والتّلقّي من الله لا يُصادمه فكر شيطان ولا فكر بشر ، فالإلهام من الله يتجلّى في قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } . وما دام الله هو الذي ألهمها ، فإن خاطر الشيطان لا يجيء . ولذلك قامت أم موسى بتنفيذ أمر الله . ويطمئنها الله فقال لها : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } .
ويُنبّه سُبحانه أم موسى أنه لن يردّه إليها لمجرد أنه قرة عين ، ولكن لأن لموسى أيضاً مُهمّة مع الله . وفي لقطة أخرى يقول الحق عن مسألة الوحي لأم موسى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 38-39 ]
والحق هنا في هذه اللقطة يصف وقت تنفيذ العملية التي أوحى بها ، ففيه فرق بين التمهيد للعملية قبل أن تقع كما حدث في اللقطة السابقة حيث قال لها الحق : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } . كان ذلك هو الإعداد ، ثم جاء وقت التنفيذ ، فقال الحق لموسى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى } . إنها سلسلة من الأوامر المتلاحقة التي تدل على أن هذه العملية كانت في وقت أخذ جنود فرعون لأطفال بني إسرائيل ليقتلوهم ، إنه سبحانه يبين لنا أن جنود الله من الجمادات التي لا تعي تلقت الأمر الإلهي بأن تصون موسى ، فكلمة " اقذفيه " تدل على السرعة ، وتلقّي " اليم " الأمر من الله بأن موسى عندما يُلقى في البحر ، فلا بد أن يلقيه إلى الساحل . { إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } إنها أوامر للمُسخّر من المخلوقات التي لا تعصى .
لكن كيف تكون أوامر الحق لعدو لله؟ إن الله يدخلها كخاطر مُلحّ في رأس فرعون ليُنفّذ مُراد الله . إن امرأة فرعون تقول له ما جاء في قوله تعالى : { وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ القصص : 9 ]
لقد دخل أمر الله كخاطر ، والتقطه آل فرعون لا ليكون قرة عين لامرأة فرعون ، ولكن لأمر مختلف أراده الله .
(1/1287)
فهل ساعة الالتقاط كان في بالهم أن يكون موسى عدوّاً أو قرة عين؟ إنها " لام العاقبة " التي تتضح في قوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } . فالإنسان يكون في مُراده شيء ، ولكن القدرة الأعلى من الإنسان - وهو الله - تريد شيئاً آخر .
الإنسان في تخطيطه أن يقوم بالعملية لكذا ، ولكن القوة الأعلى من الإنسان تريد العملية لهدفٍ آخر ، وهي التي أوحت للإنسان أن يقوم بهذه العملية . ويتجلّى ذلك بوضوح في العلة لالتقاط آل فرعون لموسى . كان فرعون يريده قٌرّة عين له ، ولكن الله أراده أن يكون عدوّاً لفرعون . وفي هذا المثال توضيح شامل للفرق بين " لام العاقبة " و " لام الإرادة والتعليل " وعندما نرى أحداثاًَ مثل هذه الأحداث فلا نقول : " هذا مراد الله " ولكن فلنقل : ( العاقبة فيما فعلوا وأحدثوا خلاف ما خططوا ) .
وبعد ذلك يقول الحق : { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان . . . . }
(1/1288)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
إنهم لن يضروا الرسول وصحابته لأنهم في معيّة الله وهم لن يضروا الله ، وفي ذلك طمأنة للمُؤمنين ، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول : أيها المؤمنون بي المصدّقون بمحمد إن المعركة مع الكفر ليست معركة المؤمنين مع الكافرين ، ولكنها معركة ربكم مع هؤلاء الكافرين وفي هذا اطمئنان كبير .
{ إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } ، و " الاشتراء " صفقة ، والصفقة تقتضي " ثمناً " و " مُثمناً " . و " الثمن " هنا هو الإيمان ، لأن الباء تدخل على المتروك ، و " المثمَن " هو الكفر لأنه هو المأخوذ . فهل أخذوا الكفر ودفعوا الإيمان ثمناً له؟ وهل معنى ذلك أن الإيمان كان موجوداً لديهم؟
نعم كان عندهم الإيمان؛ لأن الإيمان القديم هو إيمان الفطرة وإيمان العهد القديم الذي أخذه الله على الذّر قبل أن توجد في الذّر الأغيار والأهواء : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ]
أو على الأقل كان الإيمان والكفر في متناولهم؛ بانضباط قانون الاختيار في النفس البشرية ، لكنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان . والبدلية واضحة ، فقد استبدلوا الكفر بالإيمان ، فالباء - كما قلت - دخلت على المتروك . لقد تركوا الإيمان القديم وهو إيمان الذّر ، أو تركوا إيمان الفطرة فالحديث الشريف يقول : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه " .
لقد انسلوا من الإيمان ، ودفهوه ثمنا للكفر ، فعندما يأخذ واحد الكفر ، فهو قد أخذ الكفر بدلاً من الإيمان وهم { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } لماذا؟ لأننا إن افترضنا أن الدنيا كلها قد آمنت فهذا لن يفيد الله في شيء . والحديث القدسي يقول :
قال الله تعالى : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكُم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخْيَطُ إذا أُدْخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه " .
(1/1289)
إذن ، فلا الإيمان من البشر يزيد الله شيئاً ، ولا الكفر ينقص من الله شيئاً؛ لأن الإنسان قد طرأ على ملك الله ، ولم يأت الإنسان في ملك الله بشيء زائد ، فالإنسان صنعة الله وخلقه من عناصر ملكه - جلت قدرته - ويستمر الحديث في توضيح أنَّ الحق سبحانه لا يعالج شيئاً بيديه فيأخذ منه زمناً . لا ، إنه سبحانه جلّت مشيئته يقول للشيء : كُن؛ فيكون .
وكلمة " كُن " نفسها هي أقصر أمر . إنّ أمره ألطف وأدق من أن يدركه على حقيقته مخلوق . لكن الحق يأتي لنا بالصورة الخفيفة التي تجعل بشريتنا تفهم الأمر . فالذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّو الله شيئاً ولهم عذاب أليم . فهم لن يعيشوا بِنَجْوَةٍ وبُعد عن العذاب ، بل سيكون لهم العذاب الأليم .
ونحن نجد أن الحق يقول مرة في وصف مثوى الكافرين إنه عذاب أليم ، ومرة أخرى لهم عذاب عظيم ومرة عذاب مهين ، لماذا؟
لأن العذاب له جهات متعددة ، فقد يُوجد عذابٌ مؤلم ، ولكن المُعَّذب يتجلد أمام من يُعذبّه ويُظهر أنه ما زال يملك بقيّة من جَلَد ، إنه يتألم لكنه يستكبر على الألم ، ولذلك قال الشاعر :
وتجلّدي للشامتين أُريهمو ... أني لِرَيْب الدهر لا أتضعضعُ
فالتجلّد هو نوع من الكبرياء على الواقع . ولذلك يأتي من بعد ذلك قوله الحق إن لأمثال هؤلاء عذاباً مهيناً ، أي إنهم سيذوقون الذّل والألم ، ولا أحد فيهم يستطيع التجلد . وهذا النوع من العذاب لا يقف فقط عند حدود الألم العادي ، ولكنه عذاب عظيم في كمّيته وقدره ، وأليم في وقعه . ومهين في إذلال ودكّ النفس البشرية وغُرورها؛ لذلك فعندما نجد أن العذاب الذي أعده الله للكافرين موصوف بأنه " عذاب أليم " ومرة " عذاب عظيم " ومرة " عذاب مهين " فلنعرف أن لكل واحدة معنى ، فليست المسألة عبارات تقال هكذا بدون معنى مقصود .
وأريد أن أقف هنا في هذا الحديث عند " لام العاقبة " لأن البعض يحاول أن يخلق منها إشكالات إنّ هؤلاء المتربصين لكلام الله يحاولون النيل منه ، وهم لا يبحثون إلا فيما يتوهّمون - جهلاً - أنه نقاط ضعف ، وهو سبحانه وتعالى يقول عن الكفار والعياذ بالله وهم في النار : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ المؤمنون : 107-110 ]
لقد انشغل الكفار بالسّخرية من أهل الإيمان بإشارات أو لمزٍ وغمزٍ أو اتهام بالرجعية أو الدروشة أو مثل ذلك من ألوان السّخرية ، لدرجة أنهم نسوا مسألة الإيمان ، فما الذي أنساهم ذكر الله؟ لقد أنساهم ذكر الله انشغالهم بالسّخرية من أهل الإيمان .
(1/1290)
لقد قضى الكفار وقتهم كله للسّخرية من أهل الإيمان حتى نسوا ولم يتذكروا أن هناك خالقا للكون . وهذا ما يسمى " غاية العاقبة " وليست غاية وعلة للإرادة ، لأنهم لم يريدوا نسيان ذكر الله ولكن أمرهم انتهى إلى ذلك .
وسيُعذّب الله الكافرين عذاباً أليماً وعظيماً ومُهيناً . ولكل وصف مراده في النص حتى يستوعب كل حالات الإهانة من إيلام ، فالذي لا يألم بشيء صغير ولا يتحمل الألم القوي سيجد الألم الكبير ، وكذلك الذي يتجلد على الألم العظيم ، سيجد الألم المهين .
ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي . . . }
(1/1291)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
وعندما نسمع قول الله : " ولا يحسبن " فهو نهي ، وقد نهى الله الكافرين عن ماذا؟ إن الكافر عندما يجد نفسه قد أفلت في المعركة من سيف المؤمنين وأن عمره قد طال في الكفر ، فهو يظن أن الحق سبحانه وتعالى تركه لخير له؛ لأنه يفهم أن عمره هو أثمن شيء عنده ، فما دام قد حوفظ له على عمره فهو الخير . نقول لمثل هذا الكافر : إن العمر زمن ، والزمن وعاء الأحداث ، إذن فالزمن لذاته لا يُمَجد إلا بالحدث الذي يقع فيه ، فإن كان الحدث الذي يقع في الزمن خيراً؛ فالزمن خير . وإن كان الحدث الذي يقع في الزمن شراً ، فالزمن شر وما دام هؤلاء كافرين ، فلا بد أن كل حركاتهم في الوجود والأحداث التي يقومون بها هي من جنس الشر لا من جنس الخير ، لأنهم يسيرون على غير منهج الله . وربما كانوا على منهج المضادة والمضارة لمنهج الله .
وذلك هو الشر . إذن فالله لا يملي لهم بقصد الخير ، إنما يملي الله لهم لأنهم ما داموا على الكفر فهم يشغلون أوقات أعمارهم بأحداث شرّية تخالف منهج الله . وكل حدث شرّى له عذابه وجزاؤه . إذن فإطالة العمر لهم شر .
والحق سبحانه يقول : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } و " يحسَبَنَّ " هي فعل مضارع ، والماضي بالنسبة له هو " حسِب " - بكسر السين - ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ]
إن الماضي هو " حَسِبَ " - بكسر السين - والمضارع " يحسَب " - بفتح السين - . أما حَسَبَ " يحسِب " - بكسر السين - في المضارع وفتحها في الماضي فهي من الحساب والعدد ، وهو عدد رقمي مضبوط .
أمر " حَسِبَ " و " يحسَب " فتأتي بمعنى الظن ، والظن كما نعرف أمر وهمي ، والحق سبحانه يذكرهم أن ظنونهم بأن بقاء حياتهم هو خير لهم ليست حقاً . بل هي حدس وتخمين لا يرقى إلى اليقين .
صحيح أن العمر محسوب بالسنوات؛ لأن العمر طرف للأحداث ، والعمر بذاته - مجرداً عن الأحداث - لا يقال إن إطالته خير أو شر ، وإنما يقال : إن العمر خير أو شر بالأحداث التي وقعت فيه ، والأحداث التي تقع من الكافر تقع على غير منهج إيماني فلا بد أن تكون شراً ، حتى ولو فعل ما ظاهره أنه خير فإنه يفعله مضارة لمنهج الله . فلو كانت المسألة بالعملية الرقمية؛ لقلنا : " حسَب " و " يحسِب " - بفتح السين في الماضي وكسر السين في المضارع - لكن هي مسألة وهمية ظنية؛ لذلك نقول " يحسَب " - بفتح السين في المضارع - أي يظن .
(1/1292)
وهو سبحانه يقول : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ما الإملاء؟ الإملاء هو تمديد الوقت وإطالته . ولذلك نجد في القرآن : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً } [ مريم : 46 ]
إنه يأمر سيدنا إبراهيم أن يهجره مدة طويلة . هذا هو معنى { واهجرني مَلِيّاً } .
والمقصود هنا أن إطالة أعمارهم بعد أن أفلتوا من سيوف المؤمنين . ليست خيراً لهم ولا يصح أن يظنوا أنها خير لهم ، لأن الله إنما يملي لهم؛ { ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وهنا نجد " لام العاقبة " .
وإياك أن تقول أيها المؤمن : إن الله قد فعل ذلك ليعاقبهم . لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد وضع سننه في الكون ويطبقها على من يخرج على منهجه ، فمن يصنع إثما يعاقبه الله عليه { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } فكل ظرف من الزمن يمر عليهم يصنعون فيه أعمالاً آثمة على غير المنهج .
{ وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } وتأتي كلمة " مهين " وصفاً للعذاب مناسبة تماماً؛ لأن الكافر قد يخرج من المعركة وقد تملكه الزهو والعجب بأن أحداً لم يستطع أن يقطع رقبته بالسيف ، ويتيه بالعزة الآثمة ، لذلك فالإيلام هنا لا يكفي ، لأنه قد يكتم الألم ويتجلد عليه ، ولكن العذاب عندما يكون مهيناً فهو العقاب المناسب لمثل هذا الموقف . والمتكلم هنا هو الله ، وسبحانه العليم بالمناسب لكل حال .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ . . . }
(1/1293)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
وساعة نسمع " ما كان " فلنعرف أن هنا " جحوداً " أي أن هناك من يجحد القضية ويسمونها " لام الجحود " . فقبل حادثة أًحُد ، كان المنافقون متداخلين مع المؤمنين . أكان الله يترك الأمر مختلطاً هكذا ، ولا يُظهر المنافقين بأحداث تبين مواقعهم الحقة من الإيمان؟ لا ، إنه سبحانه وتعالى لا يقبل ذلك؛ حتى لا يظل المنافقون دسيسة في صفوف المؤمنين . وكان لا بد أن تأتي الأحداث لتكشفهم . وجاءت أحداث أُحُد لتهيج الصف المنسوب إلى الإيمان ، وتفرزه ليتميز الخبيث من الطيب ، مصداقاً لقوله الحق : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض } [ الرعد : 17 ]
إذن كانت أحداث أُحُد ضرورية .
وقوله الحق : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } مقصود بها أن الله لم يكن ليدع المؤمنين ويتركهم عرضة لاختلاط المنافقين بهم بدون أن يتميز المنافقون بشيء من الأشياء ، حتى لا تظل المسألة مقصورة على ما يٌعلمه الله لرسوله من أمر المنافقين . فلو علم الله رسوله فقط بأمر المنافقين ، ولو أعلن الرسول ذلك للمؤمنين دون اختبار واقعي للمنافقين لكان ذلك مجرد تشخيص نظري للنفاق يأتي من جهة واحدة ، وأراد الله أن تأتي حادثة واضحة وتجربة معملية واقعية تبين وتظهر الواقع ، وحتى ينكشف المنافقون ، وحتى لا يعترض أحد منهم عندما يوصف بأنه منافق ، وحتى لا يكون هذا الوصف مجرد كلام من الخصم ، بل بفعل ارتكبوه هم عملياً ، وبذلك تكون الحجة قوية للغاية .
لقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى في الصلاة؛ لأن كل منافق منهم أراد أن يَحبك مسألة نفاقه ، ويُواريه ، فيحرص على ما يندفع المؤمنون إليه ، والمنافق كان يعرف أن المؤمنين يتسابقون إلى الصلاة ، فهو يسارع ليكون في الصف الأول من الصلاة . ويخبر الله سبحانه وتعالى رسوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 30 ]
أي لو لا حظت كلامهم لعرفتهم ، مثلهم مثل كل المنافقين في الدنيا ، تلاحظ في كلامهم لقطة من نفاق؛ فالمؤمن حين يجلس مع جماعة من المنافقين ويأتي وقت صلاة الظهر ويدعو الأذان إلى الصلاة ، تجد المؤمن يقول : فلنقم إلى الصلاة وهنا يسخر المنافق ويقول للمؤمن : لتأخذني على جناحك للجنة يوم القيامة . ومثل هذه الكلمة يكون " لحن القول " . أو عندما يدخل مؤمن على جماعة من الناس فيهم منافق ، فيستقبل المنافق المؤمن بلهجة من السخرية في التحية ، " كيف حالك أيها الشيخ ( فلان ) "؟ ومعنى ذلك أنه غير مستريح لوجود المؤمن فيسخر منه .
وذلك من " لحن القول " الذي يظهر به المنافق .
ومثل هذه العمليات عندما يواجهها المؤمن الواعي المستنير الذي يتجلى الله عليه بالإشراقات النورانية ، مثل هذه العمليات تكون وقوداً للمؤمن وتزيد من إيمانه؛ لأن المؤمن على منهج الحق ، وقادر على نفسه؟ والمنافق لا يقدر على نفسه؛ لذلك يريد أن يسحب المؤمن من عقيدته ليكون معه على النفاق والعياذ بالله .
(1/1294)
وعلى المؤمن أن يوطن نفسه على أنه سيواجه منافقين يريدون أن يردوه عن الإيمان ، وسيجد أناساً يسخرون منه ويتغامزون عليه ، مصداقاً لقوله الحق : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 29-33 ]
والمنافق أو الكافر قد يقول لأهله : لقد رأيت اليوم شيخاً أو رجل دين أو متدينا فسخرت منه وأهنته ويتندر المنافق بمثل هذا القول في بيئته الفاسدة ، ويكشفها الحق لنا بقوله الكريم . ليطمئن المؤمنين ، ويعوض كل مؤمن عما يصيبه من أهل النفاق والفساد : { فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 34-36 ]
فالحق سبحانه يسأل المؤمنين يوم القيامة : هل قدرنا أن نجازي الكفار والمنافقين الذين سخروا منكم؟ فيقولون : نعم يارب العالمين قد جوزوا وأثيبوا على فعلهم أوفي الجزاء وأتمه وأكمله .
إن سخرية المنافقين والكافرين من المؤمنين لها أمد دنيوي ينقضي ، ولكن السخرية في الآخرة لا تنقضي أبداً . وعندما نقيسها نحن المؤمنين ، نجد أننا الفائزون الرابحون إن شاء الله . فلو ترك أي منافق ليتداخل في أحضان المؤمنين ، ولا يظهر ذلك للمؤمنين لكانت المسألة صعبة العلاج ، ولهذا يقول الحق للرسول صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 30 ]
والحق لا يكتفي بذلك ، لكنه يكشف لنا واقع المنافقين بتجارب معملية حتى لا يقول واحد منهم : لست منافقاً . وعندما يظهر الله المنافق ويكشفه بحادثة مدوية فعليه ، ومخجلة تبين أنه منافق ، فيكون قد وُصم بالنفاق ، لأن كثيراً من الناس الذين يظلون طوال عمرهم ينافقون اعتماداً على أنهم مسلمون في الظاهر لا يتركهم الله ، بل لا بد أن يأتي الله لهم بخاطر من الخواطر ويقعوا في فخ اكتشاف المؤمنين لهم حتى يعرفهم المؤمنون ويقيّموهم على حقيقتهم ، فسبحانه وتعالى القائل :
{ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } .
وكلمة " يذر " تعني " يترك " أو " يدع " . والدارسون للنحو يعرفون أن هناك فعلين هما " يذر " و " يدع " ، أهملت العرب الفعل الماضي لهما ، فهذان الفعلان ليس لهما فعل ماضٍ . ونستخدمها في صيغة المضارع .
والحق سبحانه لم يكن ليدع المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط واندساس المنافقين بينهم وعدم معرفة المؤمنين للمنافقين؛ لذلك يميز ويظهر الخبيث من الطيب .
(1/1295)
فلا يكتفي بإخبار النبي بأمر الخبثاء فقط ، ولكنه يكشف الخبثاء بفعل واقعي . فيقول : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } ؛ لأن الله لو أطلعكم على الغيب لتعرفوا المنافقين لأنكروا أنفسهم منكم وستروها عنكم ، ولذلك يجري سبحانه الوقائع لتكشف الخبيث من الطيب ، وبعد ذلك يوصم المنافق بالنفاق بإقرار نفسه وإقرار فعله .
{ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } . إنه جل وعلا يختار من رسله من يشاء ليطلعهم على بعض الغيب حتى يزدادوا ثقة في أن الله لا يتخلّى عنهم ، أي يعطي للرسول دلالات على المنافقين ، حتى يزداد الرسول ثقة في أن الله لا يتخلّى عنه .
والله برحمته لا يكشف الغيب لكل المؤمنين ، فلو اطلع المؤمن على الغيب لفسدت أمور كثيرة في الكون . وَهَبْ أن الله أطلع الإنسان على غيب حياته ، فعرف الإنسان ألف حادثة سارة ثم حادثة واحدة مكدرة؛ فإن كدر الإنسان بالحادثة الواحدة المكدرة التي تقع بعد عشرين عاماً يفسد على الإنسان تنعمه بالأحداث السارة .
وإن كان الإنسان يريد أن يطلع على غيب الناس فهل يقبل أن يطلع على غيبه أحد؟ فلماذا تريد أيها الإنسان أن تعرف غيب غيرك؟ أيرضى أي واحد منا أن يعرف الناس غيبه؟ لا . إذن فستر المعلومات عن الناس وجعلها غيباً هي نعمة كبرى .
ومع ذلك فالناس تُلح أن تعرف الغيب . ونرى من يجري على الدجالين والعرافين ومن يدعون كذباً أنهم أولياء لله ، وكل ذلك من أجل أن يعرف الواحد بعضاً من الغيب . وهنا نقول : ليست مهارة العارف في أن يقول لك ماذا سيحدث لك في المستقبل ، لكنها في أن يقول واحد من هؤلاء المدّعين لمعرفة الغيب : إن حادثاً مكروهاً سيقع لك ، وسأمنعه أو أدفعه بعيداً عنك . لا أحد يستطيع دفع قدر الله ولذلك فلنترك المستقبل إلى أن يقع . لماذا؟ حتى لا يحيا الواحد منا في الهم والحزن قبل أن يقع . إذن فقول الحق : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } هو سنة من الله لأن نظام الملك ينتظم بها ويحتاج إليها .
فكل إنسان له هزات مع نفسه ، وقد تأتي له فترة يضعف فيها في شيء من الأشياء ، فإذا ما عرف الغير منطقة الضعف في إنسان ما ، وعرف هذا الإنسان منطقة الضعف في أخيه ، فلسوف يبدو كل الناس في نظر بعضهم بعضا ضعافاً . ومن فضل الله أن أخفى غيب الناس عن الناس . وجعل الله إنساناً ما قوياً فيما لا نعلم ، وذلك قويَّا فيما لا نعلم ، وبذلك تسير حركة الحياة بانتظامها الذي أراده الله .
{ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } والحق يجتبي من الرسل ، أي بعضاً من الرسل - لا كل الرسل - ليطلعهم على الغيب حتى يعطي لهم الأمان بأنهم موصولون بمن أرسلهم ، فهو سبحانه لم يرسلهم ليتخلّى عنهم ، لا ، إنهم موصولون به؛ لذلك يطلعهم على الغيب ، وقلنا : إن الغيب أنواع : فمطلق الغيب : هو ما غاب عنك وعن غيرك .
(1/1296)
ولكنَّ هناك غيباً غائباً عنك وهو معلوم لغيرك ، وهذا ليس غيباً .
مثال ذلك إن ضاعت من أحدكم حافظة نقوده ، وسارقها غيب ، ومكانها غيب عن صاحبها ، لكن الذي سرقها عارف بمكانها ، إذن فهذا غيب على المسروق ، ولكنه ليس غيباً على السارق . لأنه ليس غيباً مطلقاً ، وهذا ما يضحك به الدجالون على السذج من الناس ، فبعض من الدجالين والمشعوذين قد يتصلون بالشيطان أو الجن؛ ويقول للمسروق حكاية ما عن الشيء الذي سُرق منه هؤلاء المشعوذون لا يعرفون الغيب؛ لأن الغيب المطلق هو الذي لا يعلمه أحد ، فقد استأثر به الله لنفسه .
ومثال آخر : الأشياء الابتكارية التي يكتشفها البشر في الكون ، وكانت سراً ولكن الله كشف لهم تلك الأشياء ، وقد يتم اكتشافها على يد كفار أيضاً . فهل قال أحدٌ : إنهم عرفوا غيباً؟ لا؛ لأن لمثل هذا الغيب مقدمات ، وهم بحثوا في أسرار الله ، ووفقهم سبحانه أن يأخذوا بأسبابه ما داموا قد بذلوا جهداً ، والله يعطي الناس - مؤمنهم وكافرهم - أسبابه . وما داموا يأخذون بها فهو يعطيهم المكافأة على ذلك . ولله المثل الأعلى ، وسبحانه منزه عن كل تشبيه ، أقول لكم هذا المثل للتقريب :
المدرس الذي يعطي تمرين هندسة للتلميذ ليقوم بحله ، فهل مجيء الحل غيب . ؟ لا؛ لأن التلميذ يعرف كيف يحل التمرين الهندسي؛ لأن فيه المعطيات التي يتدبر فيها بأسلوب معين فتعطى النتيجة . وما دام التلميذ يخرج بنتيجة لتمرين ما بعد معطيات أخذها ، فذلك ليس غيباً .
ولذلك فعلينا أن نفطن إلى أن الغيب هو ما غاب عن الكل ، وهذا ما استأثر الله بعلمه وهو الغيب المطلق ، وهو سبحانه وتعالى يطلع عليه بعضاً من خلقه من الرسل ، وهو سبحانه القائل : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26-27 ]
وأما الأمر المخفي في الكون ، وكان غيباً على بعض من الخلق ثم يصبح مشهداً لخلق آخرين فلا يقال إنه غيب ، وعرفنا ذلك أثناء تناولنا بالخواطر لآية الكرسي : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العلي العظيم } [ البقرة : 255 ]
إن الحق سبحانه قد نسب هنا الإحاطة للبشر ، ولكن بإذن منه ، فهو يأذن للسر أن يولد ، تماماً كما يوجد للإنسان سلالات ولها أوقات معلومة لميلادها ، كذلك أسرار الكون لها ميلاد .
(1/1297)
وكل سر في الكون له ميلاد ، هذا الميلاد ساعة يأتي ميعاده فإنه يظهر ، ويحيط به البشر . فإن كان العباد قد بحثوا عن السر وهم في طريق المقدمات ليصلوا اليه ووافق وصولهم ميعاد ميلاده ، يكونوا هم المتكشفين له . وإن لم يحن ميعاد ميلاد هذا السر فلن يتم اكتشافه واذا حان ميلاد السر ولم يوجد عالم معملي يأخذ بالأسباب والمقدمات فالله يخرج هذا السر كمصادفة لواحد من البشر . وحينئذ يقال : إن هذا السر قد ولد مصادفة من غير موعد ولا توقع .
وأسرار الله التي جاءت على أساسها الاكتشافات المعاصرة ، كثير منها جاء مصادفة . فالعلماء يكونون بصدد شيء ، ويعطيهم الله ميلاد سر آخر . إذن فليس كل اكتشاف ابناً لبحث العلماء في مقدمات ما ، ولكن العلماء يشتغلون من أجل هدف ما ، فيعطيهم الله اكتشاف أسرار أخرى؛ لأن ميلاد تلك الأسرار قد جاء والناس لم يشتغلوا بها . ويتكرم الله على خلقه ويعطيهم هذه الأسرار من غير توقع ولا مقدمات .
ويستمر سياق الآية { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وهو سبحانه يخاطب المؤمنين . والحق سبحانه وتعالى إذا خاطب قوماً بوصف ، ثم طلب منهم هذا الوصف فما معناه؟ . ومثال ذلك قول الحق سبحانه : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ]
إنهم مؤمنون ، والحق قد ناداهم بهذا الوصف . معنى ذلك أنه يطلب منهم الالتزام بمواصفات الإيمان على مر الأزمان لان الايمان هو يقين بموضوعات الايمان في ظرف زمني والأزمان متعاقبة لأن الزمن ظرف غير قارٍ . و " غير قارٍ " تعني أن الحاضر يصير ماضياً ، والحاضر كان مستقبلاً من قبل . فالماضي كان في البداية مستقبلاً ، ثم صار حاضراً ، ثم صار ماضياً . والزمن " ظرف " ، ولكنه ظرف غير قار . . أي غير ثابت . لكن المكان ظرف ثابت قار . فكأن الله يخاطبك : إن الزمن الذي مر قبل أن أخاطبك شُغِل بإيمانك ، والزمن الذي يجيء أيضاً اشغله بالإيمان .
ّإذن معنى ذلك : يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم . { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ولنا أن نتصور عظمة عطاء الحق ، فالمنهج الإيماني يعود خيره على من يؤديه ، ومع ذلك فالله يعطي أجراً لمن اتبع المنهج . إذن فعندما يضع الحق سبحانه وتعالى منهجاً فإنه قد فعله لصالح البشر وأيضاً يثيبهم عليه ، وهو يقول : { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 123-124 ]
إن المتَّبع للمنهج يأخذ نفعه ساعة تأدية هذا المنهج . ويزيد الله فوق ذلك انه سبحانه يعطي المتبع للمنهج أجراً ، وهذا محض الفضل ، وقلنا من قبل : إن العمر الذي يمده الله للكافرين والمنافقين ليس خيراً . إذن فعلى الناس أن يأخذوا المسائل والأزمنة بتبعات وآثار ونتائج ما يحدث فيها .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة . . . }
(1/1298)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
لقد ظن بعض من المنافقين والكفار أن طول العمر ميزة لهم ، وها نحن أولاء بصدد قوم آخرين ظنوا أن المال الذي يجمعونه هو الخير فكلما زاد فرحوا . فيقول الحق : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } . فالمال قد جاءهم من فضل الله ، ذلك بأنهم دخلوا الدنيا بغير جيوب . ولا أحد فينا قد رأى كفناً له جيوب . ولا أحد فينا قد رأى قماط طفل وليد له جيوب . فالإنسان يدخل الدنيا بلا جيب ، ويخرج بلا جيب . وكل ما يأتي للإنسان هو من فضل الله ، فلا أحد قد ابتكر الأشياء التي يأتي منها الرزق . ويمكن أن تبتكر من رزق موجود . فتطور في الوسائل والأسباب وللإنسان جزء من الحركة التي وهبها الله له ليضرب في الأرض ، ولكن لا أحد يأتي بأرض من عنده ليزرع فيها ، ولا أحد يأتي ببذور من عنده لم تكن موجودة من قبل ويزرعها ، ولا أحد يأتي بماء لم يوجد من قبل ليروي به ، فالأرض من الله ، والبذور عطاء من الله ، والماء من رزق الله ، وحتى الحركة التي يتحرك بها الإنسان هي من فضل الله .
فبالله لو أراد إنسان أن يحمل الفأس ليضرب في الأرض ضربة ، فهل يعرف الإنسان كم عضلة من العضلات تتحرك ليرفع الفأس؟ وكم عضلة تتحرك حين ينزل الفأس؟!!
وعندما يضرب الإنسان الفأس . فهو يضربها في أرض الله . والذي أراد لنفسه فأساً فإنه يذهب إلى الحداد ليصنعها له ، لكن هل سأل الإنسان نفسه من أين أتى الحديد؟ وفي هذه قال الحق : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ]
إذن فماذا تُوجد أنت أيها الإنسان؟
أنت تأخذ المواد الخام الأولية من عند الله ، وتبذل فيها الحركة الممنوحة لك من الله ، وأنت لا توجد شيئاً من معدوم؛ بل إنك توجد من موجود ، فكل شيء من فضل الله . وأنت أيها الإنسان مضارب في كون الله . فعقلك الذي يفكر ، من الذي خلقه؟ إنه الله . وجوارحك التي تنفعل للعقل من الذي خلقها؟ إنه الله .
وجوارحك تنفعل في منفعل هو الأرض ، بآلة هي الفأس ، ثم ترويها بماء هو نازل من السماء . فما الذي هو لك أيها الإنسان؟ إن عليك أن تعرف أنه ليس لك شيء في كل ذلك ، إنما أنت مضارب لله . فلتعطه حق المضاربة .
والحق سبحانه لايطلب إلا قدراً بسيطاً من نتاج وثمرة الأرض . . إن كانت تروي بماء السماء فعليك عشر نتاجها . وإن كانت الأرض تروي بآلة الطنبور أو الساقية فعليك نصف العشر .
والذي يزرع أرضا فإنه يحرثها في يوم ، ويرويها كل أسبوعين .
أما الذي يتاجر في صفقات تجارية فهي تحتاج إلى عمل في كل لحظة ، لذلك فإن الحق قدّر الزكاة عليه بمقدار اثنين ونصف بالمائة .
(1/1299)
إذن فكلما زادت حركة الإنسان قلل الله قدر الزكاة . وهذه العملية على عكس البشر . فكلما زادت حركته . فإنهم يأخذون منه أكثر!!
والله سبحانه يريد أن توجد الحركة في الكون؛ لأنه إن وجدت الحركة في الكون انتفع الناس وإن لم يقصد التحرك . وبعد ذلك فأين يذهب الذي يأخذه الله منك؟ . إنه يعطيه لأخ لك ولغيره . فما دام سبحانه يعطي أخاً لك وزميلاً لك من ثمرة ونتيجة حركتك ، ففي هذا اطمئنان وأمان لك ، لأن الغير سيعطيك لو صرت عاجزاً غير قادر على الكسب . وفي هذا طمأنينة لأغيار الله فيك . فإن جاءت لك الأغيار فستجد أناساً يساعدونك ، وبذلك يتكاتف المجتمع وهذا هو التأمين الاجتماعي في أرقى معانيه . إذن فهذا كله من فضل الله .
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } إن الذين يبخلون بفضل الله يظنون أن البخل خير لمجرد أنه يكدس عندهم الأموال ، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن الحق يقول : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } أي أن ما بخلوا به يصنعه الله طوقاً في رقبة البخيل ، وساعة يرى الناس الطوق في رقبة البخيل يقولون : هذا منع حق الله في ماله .
والرسول صلى الله عليه وسلم يصور هذه المسألة تصويراً دقيقاً حين يبين لنا أن من يُطلب منه حق الله ولم يؤده ، يأتي المال الذي منعه وضن وبخل به يتمثل لصاحبه يوم القيامة " شجاعاً أقرع " وهو ثعبان ضخم ، ويطوق رقبته . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول : " أنا مالُك أنا كنزك " ثم تلا قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } إلى آخر الآية " .
إذن فالذي يدخر بخلاً على الله فهو يزيد من الطوق الذي يلتف حول رقبته يوم القيامة .
{ وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } نعم فلله ميراث السماوات والأرض ، ثم يضعها فيمن يشاء ، فكل ما في الكون نسبته إلى الله ، ويوزعه الله كيفما شاء . إن الإيمان يدعونا ألاّ ننتظر بالصدقة إلى حالة بلوغ الروح الحلقوم ، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال : " إن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم : " لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " لانه عند وصول الروح الى الحلقوم لا يكون له مال .
قول الحق : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } قضية تجعل القلب يرتجف خوفاً ورعباً ، فقد يدلس الإنسان على البشر ، فتجد من يتهرب من الضرائب ويصنع تزويراً دفترين للضرائب ، واحداً للكسب الصحيح وآخر للخسارة الخاطئة ويكون هذا المتهرب من الضرائب يملك المال ثم ينكر ذلك ، هذا الإنسان عليه أن يعرف أن الله خبير بكل ما يعمل . وبعد ذلك يقول الحق : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ . . . }
(1/1300)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
روى - في سبب نزول هذه الآية الكريمة : قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لما نزل قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } قالت اليهود : يا محمد افتقر ربك ، فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } .
والذين عايشوا الإسلام في المدينة كانوا من اليهود . واليهود كما نعرف كانوا يَدِلون ويفخرون على العالم بأنهم أهل كتاب وعلم ومعرفة ، ويدلون على البيئة التي عاشوا فيها أنهم ملوك الاقتصاد كما يقولون الآن عن أنفسهم . كل من يريد شيئاً يأخذه من اليهود . وكانوا يبنون الحصون ويأتون بالأسلحة لتدل على القوة . وجاء الإسلام وأخذ منهم هذه السيادات كلها ، ثم تمتعوا بمزايا الإسلام من محافظة على أموالهم وأمنهم وحياتهم .
أكان الإسلام يتركهم هكذا يتمتعون بما يتمتع به المسلمون أمناً واطمئناناً ، وسلامة أبدان وسلامة أموال ثم لا يأخذ منهم شيئاً؟ لقد أخذ منهم الإسلام الجزية . فلم يكن من المقبول أن يدفع المسلم الزكاة ويجلس اليهود في المجتمع الإيماني دون أن يدفعوا تكلفة حمايتهم . ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر الصديق الى اليهود في المكان الذي يتدارسون فيه فعن ابن عباس قال : دخل ابو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال : أشيع ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص ، اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله من عند الله قد جاء بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، إنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنّا غنيَّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا . فغضب أبو بكر - رضي الله عنه - فضرب وجه فنحاص ضربا شديداً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين .
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال : يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر "؟ فقال يا رسول الله : إن عدوّا الله قال قولا عظيما ، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجَهه فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك .
(1/1301)
فأنزل الله فيما قال فنحاص { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } .
هؤلاء لم يفطنوا إلى سر التعبير الجميل في قوله سبحانه : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ الحديد : 11 ]
فإن هذا القول هو احترام من الحق - سبحانه - لحركة الإنسان في التملك . لماذا احترم الله حق الإنسان في التملك؟ هو سبحانه يريد أن يغري المتحرك بزيادة الحركة ، ويحمل غير المتحرك على أن يتحرك . فإن طلب سبحانه شيئاً من هذا المال فهو لا يقول للإنسان : أعطي ما أعطيت لك . بل كأنه سبحانه يقول : إنني سأحترم عرقك ، وسأحترم حركتك ، وسأحترم فكرك ، وسأحترم جوارحك وطاقاتك وكل ما فيك ، فإن أخذتُ منك شيئاً فلن أقول لك أعطني ما أعطيت لك ، لكن أقول لك : أقرضها لي؛ وإن أقرضتها فسوف تقرضها لا لأنتفع بها ، ولكنها لأخيك . وقد اقترض من القادر فيما بعد وذلك لك أنت إذا أصابتك الحاجة . لماذا لأنني أنا الله الذي استدعيت خلقي إلى الوجود . وما دمت أنا الله الذي استدعيت الخلق إلى الوجود فأرزاقهم مطلوبة مني .
إن الواحد من البشر عندما يدعو اثنين من أصدقائه فهو يصنع طعاماً يكفي خمسة أو عشر أشخاص . وما دام الله هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود فهو الذي يكفل لهم الرزق . وعندما يكفل لهم الرزق فلا بد أن يتحركوا . وعندما يتحركون فهو سبحانه يضمن آثار الحركة ، وذلك حتى ينال كلٌ ما يرضيه ، أو على الأقل ما يكفيه من الضروريات .
ولذلك عندما جاءت آثار الحركة من المال وتدخل البشر فيها تأميماً وغير ذلك من الإجراءات قلّت الحركة . لكن الله سبحانه وتعالى يعلم حرص الإنسان على منفعة نفسه فيغريه بذلك حتى يتحرك وسينتفع المجتمع بحركته ، سواء قصد الإنسان أو لم يقصد . إذن فحين يقترض الحق سبحانه وتعالى من بعض خلقه لبعض خلقه ، فهو سبحانه لا يتراجع فيما وهب . بل يقول جل وعلا : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [ الحديد : 11 ]
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن البشر قد نضطر إلى هذا الموقف؛ فالواحد منا عندما يعطي أبناءه مصروف اليد ، فكل ابن يدخر ما يبقى منه ، وبعد ذلك يأتي ظرف لبعض الأبناء يتطلب مالاً ليس في مُكنْة الوالد ساعة يأتي الحدث . فيقول الوالد لأبنائه : أقرضوني ما في " حصّالاتكم " ، وسأردها لكم مضاعفة ، هو أخذها لأخيهم ، لكن لأنه الذي وهب أولاً فلم يرجع في الهبة ، لكنه طلبها قرضاً . وعندما يأتي أول الشهر فهو يرد القرض مضاعفاً ، فإن كان ذلك ما يحدث في مجال البشر فما بالنا بما يحدث من الخالق الوهاب لعباده؟ .
(1/1302)
هو سبحانه يقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } .
لكن اليهود لم يأخذ المسألة بهذا الفهم ، لكنه أخذها بغباء المادة فقال : إن الله فقير ونحن أغنياء . لذلك قال الحق سبحانه : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } .
ولماذا يكتب الله ذلك وهو العالم بكل شيء؟ . جاء هذا القول ليدل على التوثيق أيضاً ، فعندما يأتي هذا الرجل ليقرأ كتابه يوم القيامة يجدها مكتوبة؛ فالكتابة لتوثيق ما يمكن أن يُنكر - بالبناء للمجهول - فإذا كان العلم من الله فقط فالعبد قد يقول :
إنك يارب الذي تعاقب . فلك أن تقول ما تقول . فإذا ما كان مكتوباً عليهم ليقرأوه . فهذا توثيق لا يمكن إنكاره .
ولم يفهم ذلك اليهودي أن القرض لله هو تلطف من الحق سبحانه وتعالى واستدرار لحنان الإنسان على الإنسان . فقد شاء الحق أن يحترم أثر مجهودك وعرقك أيها الإنسان ، فإن وصلت إلى شيء من المال فهو مالك . ولم يقل الله لك : أعط أخاك ، فسبحانه وتعالى تلطفاً مع خلقه يقول : أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند ملئ . لكن أدب بني إسرائيل مع الله مفقود ، فقد قالوا من قبل : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ]
وسبب ذلك إنه أصابتهم سنة وجدب وذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : " إن الله وسع على اليهود في الدنيا حتى كانوا أكثر الناس مالا ، فلما عصوا الله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيّق الله عليهم في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه من يهود : يد الله مغلولة فأنزل الله هذه الآية . إنهم قالوا : السماء بخلت علينا ويد الله مغلولة ، فلم تعطنا رزقاً . وهكذا كان اجترأوا عليه بكلمة أو على أصحابه باستهزاء ، فسبحانه يوضح لرسوله : أنهم لم يصنعوا ذلك معك ولا مع أتباعك ، إن هذا هو موقفهم مني أنا فإذا كان موقفهم وسوء أدبهم وصل بهم إلى أن يجترئوا على الذات المقدسية العليّة ، ويقولون : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } ويقولون : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } . أفتحزن وتأسى على أن يقولوا لك أو لأتباعك أي شيء يسيء إليكم؟
إنها نعمت المواساة من الله لرسوله ونعمت التسلية . ويضيف الحق : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } . لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا يُنسى؟ { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ]
لقد جاءت كلمة " سنكتب " حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنهم فعلوه ، ولكن بما كتب عليهم وليقرأوه بأنفسهم ، وليكون حجة عليهم ، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط ، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس ، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطوراً :
(1/1303)
{ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ]
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه ، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها؟ { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } وهم قالوا : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } وهذا معصية في القمة ، وتبجح على الذات العلية ، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وعندما يأتي هذا النبأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له من الحق سبحانه . لقد قالوا في ربك يا محمد ما قالوا ، وقتلوا الأنبياء إخوانك ، فإذا صنعوا معك ما صنعوا فلا تحزن فسوف يُجازَوْن على ما كتبناه عليهم بشهادة أنفسهم ، ونقول : ذوقوا عذاب الحريق . والحريق يصنع إيلاماً إحساسياً في النفس .
والإحساس يختلف من حاسة إلى أخرى ، فمرة يكون الإحساس بالبصر ، ومرة بالأذن ، ومرة بالشم أو باللمس أو بالذوق .
والذوق هو سيد الأحاسيس ، فهو لا يضيع من أحد أبداً ، فقد نجد إنساناً أعمى ، وآخر أصم ، أو شخصاً ثالثاً أصيب بالشلل فلا تستطيع يده أن تلمس ، وقد يصاب واحد بزكام مستمر فلا يصبح قادراً على الشم ، أما الذوق فهو حاسة لا تختفي من أي إنسان ، لذلك أن الذوق أمر من داخل الذات؛ لذلك فهو أبلغ في الإيلام . ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ]
انظر إلى التعبير القرآني { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } . جاء التعبير بالإذاقة ، وجاء بشيء لا يذاق وهو اللباس . وهل اللباس يذاق؟ لا ، لكنه سبحانه يريد ان ينبه الإنسان إلى أن كل الحواس التي فيه تحس ، حتى تلك الحاسة المختفية داخل النفس ، إنّ ذلك يَشمل كل جزء في الإنسان .
فالإذاقة تحيط بالإنسان في هذا التصوير البياني القرآني الكريم : { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } . إذن فهي شدة وقع الإيلام؛ واستيعاب العذاب المؤلم لكل أجزاء الجسم حتى صار الذوق في كل مكان . { ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ، والحريق هو النار القوية التي تحرق ومن بعذ ذلك يقول الحق : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ . . . }
(1/1304)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{ ذلك } إشارة إلى عذاب الحريق . والحق سبحانه لم يظلمهم ، لكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم . { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } فهل معنى ذلك أن كل المعاصي من تقديم اليد؟ إن هناك معصية للعين ، ومعصية للسان ، ومعصية للرجل ، ومعصية للقلب ، ولا حصر للمعاصي . فلماذا إذن قال الحق : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ؟
قال الحق ذلك لأن الأعمال الظاهرة تٌمارس عادة باليد؛ فاليد هي الجارحة التي نفعل بها أكثر أمورنا ، وعلى ذلك يكون قول الحق : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } مقصود به : بما قدمتم بأي جارحة من الجوارح .
وبعد ذلك يخبرنا سبحانه : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } لقد أذاقهم عذاب الحريق نتيجة ما كتبه عليهم؛ من قول وفعل . والقول هو الافتراء باللسان حين قالوا : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } . والفعل هو قتلهم الأنبياء . فهم يستحقون ذلك العذاب .
والقضية العامة في الإله وعدالة الإله أنه ليس بظلام للعبيد .
وهنا وقفة لخصوم الإسلام من المستشرقين ، هم يقولون : الله يقول في قرآنهم { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ، وكلمة " ظلام " هي مبالغة في كلمة " ظالم " ، ففيه " ظالم " وفيه " ظلاّم " ، و " الظَّلاّم " هو الذي يظلم ظلماً قوياً ومتكرراً؛ ف " ظلاّم " هي صيغة مبالغة في " ظالم " .
وحين نرد عليهم لا بد لنا أن نعرف أن صيغ المبالغة كثيرة ، فاللغويون يعرفون أنها : فعّال ، فعيل ، مفعال ، فعول ، فَعِل ، فظلاَّم مثلها مثل قولنا : " أكَّال " ، ومثل قولنا : " قتَّال " بدلاً من أن نقول : " قاتل " فالقاتل يكون قد ارتكب جريمة القتل مرة واحدة ، لكن ال " قتَّال " هو من فعل الجريمة مرات كثيرة وصار القتل حرفته . ومثل ذلك " ناهب " ، ويقال لمن صار النهب حرفته : " نَهَّاب " أي أنه إن نهب ينهب كثيراً ، ويعدد النهب في الناس .
وهذه تسمى صيغة المبالغة . وصيغة المبالغة إن وردت في الإثبات أي في الأمر الموجب فهي تثبت الأقل ، فعندما يقال : " فلان ظلاّم " فالثابت أنه ظالم أيضاً ، لأننا ما دمنا قد أثبتنا المبالغة فإننا نثبت الأقل . ومثل ذلك نقول : " فلان علاّم " أو " فلان علاّمة " فمعنى ذلك أن فلاناً هذا عالم . ولكن إذا قلنا : " فلان عالم " فلا يثبت ذلك أنه " علاّمة " . فصيغة المبالغة ليس معناها " اسم فاعل " فحسب ، إنها أيضاً اسم فاعل مبالغ فيه ، لأن الحدث يأتي منه قوياً ، أو لأن الحدث متكرر منه ومتعدد . فإذا ما أثبتنا صفة المبالغة فمن باب أولى تثبت صفة غير المبالغة فإذا ما قال واحد : " فلان أكّال " فإنه يثبت لنا أنه آكل ، هذا في الإثبات .
(1/1305)
والأمر يختلف في النفي . إننا إذا نفينا صفة المبالغة تثبت الصفة التي ليس فيها مبالغة من باب أولى . أما إذا نفيت صفة المبالغة فلا يستلزم ذلك نفي الصفة الأقل .
والتذليل للآية التي نحن بصددها الآن هو { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
يفهم المستشرقون من هذا القول أنه مجرد نفي للمبالغة في الظلم لكنها لم تنف عنه أنه ظالم ولم يفهم المستشرقون لماذا تكون المبالغة هنا : إن الحق قد قال : إنه ليس بظلاَّم للعبيد ، ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد . ومعنى ذلك أنه ليس بظلام للعبيد من أول آدم إلى أن تقوم الساعة ، فلو ظلم كل هؤلاء - والعياذ بالله - لقال إنه ظلام ، حتى ولو ظلم كل واحد أيسر ظلم . لأن الظلم تكرر وذلك بتكرر من ظُلِم وهم العبيد ، فإن أريد تكثير الحديث فليفطن الغبي منهم إلى أن الله قال : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد .
وإذا كان الظالم لا بد أن يكون أقوى من المظلوم ، أذن فكل ظلم يتم تكييفه بقوة الظالم . فلو كان الله قد أباح لنفسه أن يظلم فلن يكون ظالماً؛ لأن عظم قوته لن يجعله ظالماً بل ظَلاَّما .
فإن أراد الحدث فيكون ظلاماً ، وإن أردنا تكراراً للحدث فيكون ظلاماً . وحين يحاول بعض المستشرقين أن يستدركوا على قول الحق : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } فهذا الاستدراك يدل على عجز في فهم مرامي الألفاظ في اللغة أو أنّ هؤلاء يعلمون مرامي الألفاظ ويحاولون غش الناس الذين لا يملكون رصيداً لغوياً يفهمون به مرامي الألفاظ . ولكن الله سبحانه وتعالى يُسخر لكتابه من ينبه إلى إظهار إعجازه في آياته .
وبعد أن انتهى الحق من غزوة أُحُد ، فهو سبحانه يريد أن يقرر مبادئ يبين فيها معسكرات العداء للإسلام : معسكر أهل الكتاب ، ومعسكر مشركي قريش في مكة ، ومعسكر المشركين الذين حول المدينة وكانوا يغيرون على المدينة .
فبعد غزوة أُحٌد التي صفّت ، وربّت ، وامتحنت وابتلت ، وعرّفت الناس قضايا الدين ، أراد الحق بعدها أن يضع المبادئ .
فأوضح القرآن : أن هؤلاء أعداؤكم؛ تذكروهم جيداً ، قالوا في ربكم كذا ، ويقولون في رسولكم كذا ، وقتلوا أنبياءكم .
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار . . . }
(1/1306)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
هم يدّعون ذلك ويقولون : ربنا قال لنا هذا في التوراة؛ إياكم أن تؤمنوا برسول يأتيكم ، حتى يأتيكم بمعجزة مُحسة ، هذه المعجزة المُحسّة هي أن يقدم الرسول قرباناً فتنزل نار من السماء تأكله .
هذا كان صحيحاً ، وكلنا نسمع قصة قابيل وهابيل : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ المائدة : 27-28 ]
ونريد أن نقبل على القرآن ونتدبر : لماذا جاء هذا اللفظ : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } ؟ إن القبول من الله ، وهو مسألة سرية عنده ، فكيف نعرف نحن أن الله تقبل أو لم يتقبل؟ لا بد أنه الله قد جعل للقبول علامة حسية . ونحن نعرف أن الإنسان قد يعمل عملاً فيقبله الله ، ونجد إنساناً آخر قد يعمل عملاً ولا يقبله الله والعياذ بالله ، فمن الذي أعلمنا أن الله قد قبل عمل إنسان وقربانه ، ولم يقبل عمل الآخر وقربانه؟ .
وبما أن القبول سر من أسرار الله إذن فلن نعرف علامة القبول إلا إذا كانت شيئاً مُحساً ، بدليل قوله : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } . وقال الذي لم يتقبل الله قربانه : { لأَقْتُلَنَّكَ } كأن الذي قبل الله قربانه قد عرف ، والذي لم يتقبل الله قربانه قد عرف أيضاً ، إذن فلا بد أن هناك أمراً حسياً قد حدث .
وقلنا : إن الله كان يخاطب خلقه على قدر رشد عقولهم حساً ومعنى؛ ولذلك كانت معجزاته سبحانه وتعالى للأنبياء السابقين لرسول الله هي من الأمور المُحسة . فالمعجزة التي آتاها الله لإبراهيم كانت نارا لا تحرق ، وعصا سيدنا موسى تنقلب حية ، وسيدنا عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله . والمعجزة الحسية لها ميزة أنها تقنع الحواس ، ولكنها تنتهي بعد أن تقع لمرة واحدة . لكن المعجزة العقلية التي تناسب رشد الإنسانية ، هي المعجزة الباقية ، وحتى تظل معجزة باقية فلا يمكن أن تكون حسية .
إذن فعندما تأتي معجزة خالدة لرسول هو خاتم الرسل ، والذي سوف تقوم القيامة على المنهج الذي جاء به هذه المعجزة لا بد أن تكون ذات أمد ممتدّ ، والامتداد يناقض الحسيّة؛ لأن الحسّية تظل محصورة فيمن رآها ، والذي لم يرها لا يقولها ولا يؤمن بها إلا إذا كان على ثقة عظيمة بمن أخبره بها . وابنا آدم ، قابيل وهابيل قرّب كل منهما قربانا .
و " قُربان " مثلها في اللغة مثل " غفران " و " عُدوان " والقُربان هو شيء أو عمل يتقرب به العبد من الله .
(1/1307)
وقبول هذا العمل من البر هو سرّ من أسرار الله . فما الذي أدرى هؤلاء أن قربان هابيل قد تقبّله الله ولم يتقبل الله قربان قابيل؟ لا بد أن تكون المسألة حسيّة . ولا بد أن قابيل وهابيل قد اختلفا ، ولكن القرآن لم يقل لنا على ماذا اختلفا ، إنها دعوى أن واحداً منهما مُقرّب إلى الله أكثر ، ولكن بأي شكل؟ لم يظهر القرآن لنا ذلك ، ولو كانت المسألة مهمة لأظهرها الله لنا في القرآن الكريم ، فلا تقل كان الخلاف على زواج أو غير ذلك . فالذي ظهر لنا من القرآن أن خلافاً قد وقع بينهما أو أنهما قد حكما السماء . ومبدأ تحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه . وكان لكل واحد منهم شُبهة . وعندما قامت الشبهة التي لقابيل ضد الشبهة التي لهابيل ، فلا إقناع من صاحب شبهة ، ولذلك ذهبا إلى التحكيم .
ونحن في عصرنا الحديث عندما نختلف على شيء فإننا نقول : نجري قرعة . وذلك حتى لا يرضخ إنسان لهوى إنسان آخر ، بل يرضخ الاثنان للقدر ، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان ثالثا يجذب إحدى الورقتين . أما هابيل وقابيل فيذكر القرآن الكريم : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر } .
إذن فكل واحد منهما كانت له شبهة ، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني؛ لذلك قال قابيل بعد أن قبل الله قربان هابيل : { لأَقْتُلَنَّكَ } فماذا قال هابيل؟ . قال : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } .
إذن فالذي يتقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل . والذي يملأه الغيظ هو من لم يتقبل الله قربانه ، وهو الذي سوف يَقْتُل . فماذا قال صاحب القربان المقبول : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ المائدة : 28 ]
إذن فهذا أهل لأن يتقبل الله قربانه ، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء ، وهذه حيثية لتقبل القربان .
وحتى لا نظن أن الآخر " قابيل " كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه ، لكن الحق يظهر لنا أن فيه بعض الخير ، ودليل ذلك قول الحق : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 30 ]
وهذا القول يدل على أنه تردد ، فلا يقال : " طوّعت الماء " ، ولكن يقال " طوّعت الحديد " ، فكأن الإيمان كان يعارض النفس ، إلا أن النفس قد غلبت وطوّعت له قتل أخيه . وعندما قتل قابيل أخاه وهدأت شرّة الغضب وسُعار الانتقام ، رأى أخاه مُلقى في العراء : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } [ المائدة : 31 ]
وعلى هذا النسق قال اليهود : إن الله أوصانا ألا نؤمن برسول إلا بعد أن يأتي بمعجزة من المُحسّات .
(1/1308)
لماذا قالوا ذلك؟ . قالوا ذلك لأن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي القرآن الكريم لم تكن من ناحية المحسّات وانتهى عهد الإعجاز بالمحسّات فقط ، فرسولنا له معجزات حسية كثيرة ، ونظرا لأن هذه ينتهي إعجازها بانقضائها فكان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو الذي يناسب الرسالة الخاتمة ، فهم طلبوا أن تكون المعجزة بالمحسّات حتى يصنعوا لأنفسهم شبه عذر في أنهم لم يؤمنوا ، فقالوا ما أورده القرآن :
{ الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا } . . إلخ .
وعلمنا الحق في هذه الآية أن القربان تأكله النار ، ومن هذا نستنبط كيف تقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، لكي نفهم أن القرآن لا يوجد به أمر مكرر . والحق سبحانه يرينا ردوده الإلهية المقنعة الممتعة :
{ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ } . . إلخ الآية .
لقد جائكم رسل قبل رسول الله بالقربان وأكلته النار ومع ذلك كفرتم . فلو كان كلامكم أيها اليهود صحيحاً ، لكنتم آمنتم بالرسل الذين جاءوكم بالقربان الذي أكلته النار . وهكذا يكشف لنا الحق أنهم يكذبون على أنفسهم ويكذبون على رسول الله ، وأنها مجرد " مماحكات " ولجاج وتمادٍ في المنازعة والخصومة .
والحق سبحانه يأمر رسوله أن يسأل : { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؟
هو سبحانه يريد أن يضع لنا قضية توضح أن عهد المعجزات الحسيّة وحدها قد انتهى ، ورُشد الإنسانية وبلوغ العقل مرتبة الكمال قد بدأ؛ لذلك أتى سبحانه يآية عقلية لتظلّ مع المنهج إلى أن تقوم الساعة . ولو كانت الآية حسيّة لاقتصرت على المعاصر الذي شهدها وتركت من يأتي بعده بغير معجزة ولا برهان . أما مجيء المعجزة عقلية فيستطيع أي واحد مؤمن في عصرنا أن يقول : سيدنا محمد رسول الله وتلك معجزته . ولكن لو كانت المعجزة حسيّة وكانت قربانا ً تأكله النار ، فما الذي يصير إليه المؤمن ويستند إليه من بعد ذلك العصر؟
إن الحق يريد أن يعلمنا أن الذي يأتي بالآيات هو سبحانه ، وسبحانه لا يأتي بالآيات على وفق أمزجة البشر ، ولكنه يأتي بالآيات التي تثبت الدليل؛ لذلك فليس للبشر أن يقترحوا الآية . هو سبحانه الذي يأتي بالآية ، وفيها الدليل . لماذا؟ لأن البعض قد قال للرسول : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 90-93 ]
لقد كانت كل هذه آيات حسيّة طلبوها ، والله سبحانه وتعالى يرد على ذلك حين قال لرسوله : إن الذي منعه من إرسال مثل هذه الآيات هو تكذيب الأولين بها :
(1/1309)
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ]
فحتى هؤلاء الذين قالوا : لن نؤمن حتى تأتي بقربان تأكله النار قد جاءهم من قبل من يحمل معجزة القربان الذي تأكله النار ، ومع ذلك كذبوا ، إذن فالمسألة مماحكة ولجاج في الخصومة . ويُسلّي الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية الله لرسوله هنا تسلية بالنظير والمثل في الرسل . كأن الحق يوضح : إن كانوا قد كذبوك فلا تحزن؛ فقد كذبوا من قبلك رسلاً كثيرين ، وأنت لست بِدعاً من الرسل .
(1/1310)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
ويتسامى الحق سبحانه وتعالى بروح سيدنا رسول الله إلى مرتبة العلو الذي لا يرقى إليه بشر سواه ، فيقول : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } [ الأنعام : 33 ]
فالمسألة ليست مسألتك أنت إنهم يعرفون أنك يا محمد صادق لا تكذب أبداً { ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } . أي هذا الأمر ليس خاصا بك بل هو راجع إليّ فلا أحد يقول عنك إنك كذّاب هم يكذبونني ، الظالمون يجحدون وينكرون آياتي فالحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هنا للتسلية ويعطيه الأسوة التي تجعله غير حزين مما يفعله اليهود والمكذبون به فيقول : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } [ آل عمران : 184 ]
ونعرف أن الشرط سبب في وجود جوابه . فإذا كان الجواب قد حصل قبل الشرط فما الحال؟ . الحق يوضح : إن كذبوك يا محمد فقد كذبوا رسلاً من قبلك . أي أن " جواب الشرط " قد حصل هنا قبل الشرط وهذه عندما يتلقفها واحد من السطحيين أدعياء الإسلام ، أو من المستشرقين الذين لا يفهمون مرامي اللغة فمن الممكن أن يقول :
إن الجواب في هذه الآية قد حصل قبل الشرط . وهنا نرد عليه قائلين : أقوله تعالى : { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ . . } هو جواب الشرط . . أم هو دليل الجواب؟ لقد جاء الحق بهذه الآية ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
فإن كذبوك فلا تحزن ، فقد سبقك أن كَذّب قوم رسلَهم ، إنها علة لجواب الشرط ، كأنه يقول :
فإن كذبوك فلا تحزن . إذن فمعنى ذلك أن المذكور ليس هو الجواب ، إنما هو الحيثية للجواب { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات } . . إلخ .
وعندما نقول : " جاءني فلان بكذا " فقد يكون هو الذي أحضره ، وقد يكون هو مجرد مصاحب لمن جاء به .
ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - فلنفترض أن موظفاً أرسله رئيسه بمظروف إلى إنسان آخر ، فالموظف هو المصاحب للمظروف .
إذن فالبينات جاءت من الله ، لكن هؤلاء الرسل جاءوا مصاحبين ومؤيِّدين بالبينات كي تكون حُجة لهم على صدق بلاغهم عن الله ، { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات } . أي جاءوا بالآيات الواضحة الدلالة على المراد . والآيات قد تكون لفتاً للآيات الكونية ، وقد تكون المعجزات .
ونعلم أن كل رسول من رسل الذين سبقوا سيدنا رسول الله كانت معجزتهم منفصلة عن منهجهم ، فالمعجزة شيء وكتاب المنهج شيء آخر . " صحف إبراهيم " فيها المنهج لكنها ليست هي المعجزة؛ فالمعجزة هي الإحراق بالنار والنجاة ، وموسى عليه السلام معجزته العصا وتنقلب حية ، وانفلاق البحر ، لكن كتاب منهجه هو " التوراة " ، وعيسى عليه السلام كتاب منهجه " الإنجيل " ومعجزته العلاج وإحياء الموتى بإذن الله ، إذن فقد كانت المعجزة منفصلة عن المنهج ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن معجزته القرآن ، ومنهجه في القرآن ، لماذا؟
لأنه جاء رسولاً يحمل المنهج المكتمل وهو القرآن الكريم ، ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم ، فلا بد أن تظل المعجزة مع المنهج؛ كي تكون حُجة ، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { جَآءُوا بالبينات } : أي المعجزات الدالات على صدقهم .
(1/1311)
{ والزبر والكتاب المنير } أي الكتب التي جاءت بالمنهج ، فهم يحتاجون إلى أمرين اثنين : منهج ومعجزة .
و " البينات " هي المعجزة أي الأمور البينة من عند الله وليست من عند أي واحد منهم ، ثم جاء " المنهج " في { الزبر والكتاب المنير } . ومعنى " الزِبْر " : الكتاب ، وما دام الشيء قد كُتب فقد " زبره " أي كَتَبَهُ ، وهذا دليل على التوثيق أي مكتوب فلا ينطمس ولا يمحى فالزَّبْر الكتابة ، و " الزَّبْر " تعني أيضا الوعظ؛ لأنه يمنع الموعوظ أن يصنع ما عظم أي يمتنع عن الخطأ وإتيان الانحراف ، و " الزَّبْر " أيضا تعني العقل؛ لأنه يمنع الإنسان من أنْ يرد موارد التهلكة .
والذين يريدون أن يأخذوا العقل فرصة للانطلاق والانفلات ، نقول لهم : افهموا معنى كلمة " العقل " ، معنى العقل هو التقييد ، فالعقل يقيدك أن تفعل أي أمر دون دراسة عواقبه . والعقل من " عَقَلَ " أي ربط ، كي يقال هذا ، ولا يقال هذا ، ويمنع الإنسان أن يفعل الأشياء التي تؤخذ عليه . و " الزبر " أيضاً : تحجير البئر؛ فعندما نحفر البئر ليخرج الماء ، لا نتركه . بل نصنع له حافة من الحجر ونبنيه من الداخل بالحجارة . كي لا يُردم بالتراب وكل معاني الزبر ملتقية ، فهو يعني : المكتوبات ، والمكتوبات لها وصف ، إنّها منيرة ، وهذه الإنارة معناها أنها تبين للسالك عقبات الطريق وعراقيله ، كي لا يتعثر .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويوضح له : لا تحزن إن كذبوك؛ فقد كذب رسل من قبلك ، والرسل جاءوا بالمنهج وبالمعجزة ، وبعد أن يعطي الله للمؤمنين ولرسول الله مناعة ضد ما يذيعه المرجفون من اليهود وضد ما يقولون ، وتربية المناعة الإيمانية في النفس تقتضي أن يخبرنا الله على لسان رسوله بما يمكن أن تواجهه الدعوة؛ حتى لا تفجأنا المواجهات ويكشف لنا سبحانه بما سيقولون . وبما سيفعلونه .
ونحن نفعل ذلك في العالم المادي : إذا خفنا من مرض ما كالكوليرا - مثلاً - ماذا نفعل؟ نأخذ الميكروب نفسه ونُضْعِفُه بصورة معينة ثم نحقن به السليم؛ كي نربّي فيه مناعة حتى يستطيع الجسم مقاومة المرض .
ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بقضية إيمانية يجب أن تظل على بال المؤمن دائماً . هذه القضية : إن هم كذبوك فتكذيبهم لا إلى خلود؛ لأنهم سينتهون بالموت ، فالقضية معركتها موقوتة ، والحساب أخيراً عند الحق سبحانه ، ولذلك يقول : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة . . . }
(1/1312)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
ونلاحظ أن كلمة { ذَآئِقَةُ } جاءت أيضاً هنا ، ونعرف أن هناك " قتلا " وهناك " موتا " ، فالموت معناه أعم وهو : انتهاء الحياة سواء أكان بنقض البنية مثل القتل ، أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف ، ولذلك فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون : هذا المقتول لو لم يُقتل ، أكان يموت؟ نقول : نعم؛ لأن المقتول ميت بأجله ، لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل؟ لا . إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح ، أمّا المقتول فقد كتب الله عليه أن يفارق الحياة بهذا العمل .
إذن فكل نفس ذائقة الموت إما حتف الأنف وإمّا بالقتل . ولأن الغالب في المقتولين أنهم شهداء ، والشهداء أحياء ، لكن الكل سيموت . يقول تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ الزمر : 68 ]
انظروا إلى دقة العبارة : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أي إياكم أن تنتظروا نتيجة إيمانكم في هذه الدنيا ، لأنكم إن كنتم ستأخذون على إيمانكم ثوابا في الدنيا فهذا زمن زائل ينتهي ، فثوابكم على الإيمان لا بد أن يكون في الآخرة لكي يكون ثوابا لاينتهي .
ونعرف ما حدث في بيعة العقبة الثانية؛ حينما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار عهوداً ، قالوا : فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ لم يقل لهم صلى الله عليه وسلم ستنتصرون أو ستملكون الدنيا ، بل قال : " الجنة " قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه ، فلو وعدهم بأي شيء في الدنيا لقال له أي واحد فطن منهم : ما أهونها ، لذلك عندما قال واحد لصاحبه : أنا أُحبك قدر الدنيا؛ فقال له : وهل أنا تافه عندك لهذه الدرجة؟ فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : إياكم أن تفهموا أن جزاء الإيمان يكون في الدنيا ، لأنه لو كان في الدنيا لكان زائلاً ولكان قليلا كجزاء على الإيمان ، لأن الإيمان وصل بغير منتهٍ وهو الله ، فلا بد أن يكون الجزاء غير منتهٍ وهو الجنة ، فقال : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } . . وأخذ أهل اللمح من كلمة " توفون " أن هناك مقدمات؛ لأن معنى " وفيته أجره " أي أعطيته وبقي له حاجة وأكمل له ، نعم هو سبحانه يعطيهم حاجات إيمان ، ويكفي إشراقة الإيمان في نفس المؤمن ، فالجواب لا بد أن يكون متمشياً مع منطق من يسمع هذه الآية؛ فقد يموت من يسمعها بعد قليل في معركة ، وما دام قد مات في المعركة فهو لم ير انتصاراً ، ولم ير غنائم ولا أي شي ، فماذا يكون نصيبه؟ إنه يأخذ نصيبه يوم القيامة " توفون " فمن نال منها شيئاً في الدنيا بالنصر ، بالغنائم ، بالزهو الإيماني على أنه انتصر على الكفر فهذا بعض الأجر ، إنما الوفاء بكامل الأجر سيكون في الآخرة ، لأن كلمة التوفية تفيد أن توفية الأجور وتكميلها يكون في يوم القيامة ، وأن ما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور التي يستحقها العاملون .
(1/1313)
ويقول الحق : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز "
وعندما تقول : زحزحت فلاناً ، معناها أنه كان متوقفا برعب ، فكيف يحدث ذلك عند النار؟ . ونعرف أن النار سببها المعصية ، والمعصية كانت لها جاذبية للعصاة ، ويأتي الإيمان ليشدهم فتأخذهم جاذبية المعصية ، فكذلك يكون الجزاء بالنار . إذن فالنار لها جاذبية لأنها ستكون في حالة غيظ . . ولذلك يقول ربنا : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } [ الملك : 8 ]
النار تتميز من الغيظ على الكافرين . وما معنى تميز من الغيظ؟ أما رأيت قِدْراً يفور؟ ساعة يفور القدر فإن بعض الفقاقيع تخرج منه وتنفصل عما في القدر ، وهذا " تميز " أي تفترق ، والإنسان منا عندما يكون في حالة غيظ تخرج منه أشياء كفقاقيع غليان القدر إنه يرغي ويزبد أي اشتد غضبه ، وهذه الفقاقيع تحرق من يقف أمامها أو يلمسها ، وهي من شدة الفوران تميز بعضها وانفصل عن القدر ، كذلك النار ، ولماذا تميز من الغيظ؟ إنها تميز من الغيظ من الكافرين؛ لأنها أصلها مٌسبحة حامدة شاكرة ، وبعد ذلك يقول لها الحق : { هَلِ امتلأت } [ ق : 30 ] وتقول { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ]
وذلك مما يدل على أن كلمة : { تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } حقيقة؛ ولذلك يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النار لها جاذبية ، فالنار إنما كانت نتيجة المعصية في الدنيا ، والمعصية في الدنيا هي التي تجذب العصاة ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك : " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب يَقعْن فيها وهو يذبّهُنّ عنها ، وأنا آخذ بِحُجُزكم عن النار وأنتم تَفَلّتُون من يدي " انظر إلى التشبيه الجميل - حين توقد ناراً في خلاء فأول مظهر هو أن ترى الفراش والهوامّ والبعوض تأتي على النار ، ولذلك يقولون : رُبّ نفس عشقت مصرعها .
لقد جاءت تلك الحشرات على أساس أنها جاءت للنور ، إننا نرى ذلك عندما نٌشعِل موقداً في الخلاء فأنت تجد حوله الكثير من هذه الحشرات صرعى ، تلك الحشرات عشقت مصرعها ، إنها قد جاءت إلى النور ولكن النار أحرقتها ، كذلك الإنسان العاصي يعشق مصرعه؛ لأنه لا يعرف أن هذه الشهوة ستدخله النار .
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } أي أن النار لها جاذبية مثل جاذبية المعصية عندما تأخذ الإنسان ، ومجرد الزحزحة عن النار ، حتى وإن وقف بينهما لا في النار ولا في الجنة فهذا حسن ، فما بالك إنْ زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ لقد زال منه عطب وأعطى صالحاً .
(1/1314)
وهذه حاجة حسنة ، وهذا هو السبب في أن النار مضروب على متنها الصراط الذي سنمر عليه ، لماذا؟ حتى يرى المؤمن النار . . وهو ماشٍ على الصراط التي لو لم يكن مؤمناً لنزل فيها ، فيقول : الحمد لله الذي نجاني من تلك النار .
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } والفوز هو النجاة مما تكره ، ولقاء ما تحب ، مجرد النجاة مما تكره نعمة ، وأن تذهب بعد النجاة مما تكره إلى نعمة ، فهذا فوز . ونلحظ في { زُحْزِحَ } أن أحداً غيره قد زحزحه . نعم لأنّ الله تكرّم عليه أولاً في حياته بفيض الإيمان وهو الذي زحزحه عن النار أيضا .
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } .
وعندما يصف الحق سبحانه الحياة التي نعرفها بأنها " دنيا " ففي ذلك ما يشير إلى أن هناك حياة توصف بأنها " غير دنيا " وغير الدنيا هي " العليا " ، ولذلك يقول الحق في آية أخرى : { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ]
أي هي الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة؛ لأن الدنيا لا يقاس زمانها ببدايتها إلى قيام الساعة ، لأن تلك الحياة بالنسبة للكون كله ، ولكن لكل فرد في الحياة دنيا ليس عمرها كذلك ، وإنما دنيا كل فرد هي مقدار حياته فيها . ومقدار حياته فيها لا يُعلم أهو لحظة أم يومٍ أم شهر أم قرن . وقصارى الأمر أنها محدودة حداً خاصا لكل عمر ، وحداً عاماً لكل الأعمار .
والمتعة في الدنيا على قدر حظ الإنسان في المتع ، فهي على قدر إمكاناته . فإذا نظرنا إلى الدنيا بهذا المعيار فإن متاعها يعتبر قليلاً ، ولهذا لا يصح ولا يستقيم أن يغتر الإنسان بهذه المتعة متذكراً قول الله : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ]
فالغرور إذن أن تلهيك متعة قصيرة الأجل عن متعة عالية لا أمد لانتهائها ، فحتى لا يغتر عائش في الدنيا فيلهو بقليلها عن كثير عند الله في الآخرة يجب أن يقارن متعة أجلها محدود وإن طال زمانها بمتعة لا أمد لانتهائها ، متعة على قدر إمكاناتك ومتعة على قدر سعة فضل الله؛ لذلك كانت الحياة الدنيا متاع غرور ممن غُرّ بالتافه القليل عن العظيم الجليل .
والله لم يظلم الدنيا فوصفها أنها متاع ، ولكن نبهنا إلى أنها ليست المتاع الذي يُغتَرّ به فيلهي عن متاع أبقى ، إنه الخلود . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله ولأتباع رسوله قضية تُنشئ فيهم وتؤكد لهم أن الإيمان وحده خير جزاء للمؤمن ، وإن لم يتأت له في الدنيا شيء من النعيم ، ولذلك أراد أن يوطنهم على أن الذين يدخلون الإيمان ، لا يوطِّنون أنفسهم على أن الايمان دائماً منتصر ، فلو كان دائماً منتصراً لوطّن كل واحد نفسه عليه ورضيه لأنه يضمن له حياة مطمئنة؛ لذلك كان لا بد أن يوضح لهم : أن هناك ابتلاءات . فالقضية الإيمانية أن تبتلوا ، وموقع البلاء في نفوسكم أو في أموالكم ، فقال : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً . . . }
(1/1315)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله ، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر ، وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج ، فمرة يكون الابتلاء في المال بالإفناء ، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه ، والحق في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل ، أو بالجرح أو بالمرض . فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل ، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله .
{ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } هما إذن معسكران للكفر : معسكر اهل الكتاب ، ومعسكر المشركين . هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام ، والأذى الكثير تمثل في محاولة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين ، وأهل الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون ، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا .
ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ ، لا . إن الإبتلاء مجرد اختبار ، والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب ، فإذا قال الله : " لتبلون " ، أي سأختبركم - ولله المثل الأعلى - كما يقول المدرس للتلميذ : سأمتحنك " فنبتليك " يعني نختبرك في الامتحان ، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟ . إنه شرّ على من لم يتقن التصرف . فالذي ينجح في البلاء في المال يقول : كله فائت ، وقلل الله مسئوليتي ، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية ، فيكون المال عليّ فتنة . فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار ، ولذلك قال في سورة " الفجر " : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15-16 ]
فهنا قضيتان اثنتان : الإنسان يأتيه المال فيقول : ربي أكرمني ، وهذا أفضل ممن جاء فيه قول الحق : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } [ القصص : 78 ]
إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام ، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن انه إهانه ، هذا الإنسان لا يفطن إلى الحقيقة ، والحقيقة يقولها الحق : " كلا " أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة ، ولا الفقر دليل الإهانة ، ولكن متى يكون المال دليل الكرامة؟ يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقاً في أن تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه ، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة ، فقد اكون غنياً لا أعطى الحق ، فالفقر في هذه الحالة أفضل ، ولذلك قال الله للاثنين : " كلا " ، وذلك يعني : لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل الإهانة .
(1/1316)
وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 17-19 ]
{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم } وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون المال دليل الكرامة؟ إن المال هنا وزر ، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم يكون إهانة؟ . . إنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهانا ، فلا تتحمل مسؤلية المال . إذن فلا المال دليل الكرامة ، ولا الفقر دليل الإهانة .
{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين } وحتى إن كنت لا تمتلك ولا تعطي أفلا تحث من عنده أن يُعطي؟ أنت ضنين حتى بالكلمة ، فمعنى تحض على طعام المسكين أي تحث غيرك . . فإذا كنت تضن حتى بالنصح فكيف تقول إن المال كرامة والفقر إهانة؟ . . { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } أي تأكلون الميراث وتجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم دون ان يتحرّى الواحد منكم هل هذا المال حلال أو حرام . . فإذا كانت المسألة هكذا فكيف يكون إيتاء المال تكريماً وكيف يكون الفقر إهانة؟ . . لا هذا ولا ذاك .
{ لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } والذي يقول هذا الكلام : هو الله ، إذن لا بد أن يتحقق - فيارب أنت قلت لنا : إن هذا سيحصل وقولك سيتحقق ، فماذا اعطيتنا لنواجه ذلك؟ - اسمعوا العلاج : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } . . تصبر على الإبتلاء في المال ، وتصبر على الابتلاء في النفس ، وتصبر على أذى المعسكر المخالف من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا ، إن صبرت فإن ذلك من عزم الأمور ، والعزم هو : القوة المجتمعة على الفعل . فأنت تنوي أن تفعل ، وبعد ذلك تعزم يعني تجمع القوة ، فقوله : { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } أي من معزوماتها التي تقتضي الثبات منك ، وقوة التجميع والحشد لكل مواهبك لتفعل .
إذن فالمسألة امتحان فيه ابتلاء في المال ، وابتلاء في النفس وأذى كثير من الذين أشركوا ومن الذين أوتوا الكتاب ، وذلك كله يحتاج إلى صبر ، و " الصبر " - كما قلنا - نوعان : " صبر على " و " صبر عن " ، ويختلف الصبر باختلاف حرف الجر ، صبر عن شهوات نفسه التي تزين للإنسان أن يفعل هذه وهذه ، فيصبر عنها والطاعة تكون شاقة على العبد فيصبر عليها ، إذن ففي الطاعة يصبر المؤمن على المتاعب ، وفي المعصية يصبر عن المغريات .
(1/1317)
و { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } توضح أنه لا يوجد لك غريم واضح في الأمر ، فالآفة تأتي للمال أو الآفة تأتي للجسد فيمرض ، فليس هنا غريم لك قد تحدد ، ولكن قوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } فهذا تحديد لغريم لك . فساعة ترى هذا الغريم فهو يهيج فيك كوامن الانتقام . فأوضح الحق : إياك أن تمكنهم من أن يجعلوك تنفعل ، وأَجِّلْ عملية الغضب ، ولا تجعل كل أمر يَسْتَخِفّك . بل كن هادئا ، وإياك أن تُسْتَخَفَّ إلا وقت أن تتيقن أنك ستنتصر ، ولذلك قال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
واتقوا مثل " اتقوا الله " أي اتقوا صفات الجلال وذلك بأن تضع بينك وبين ما يغضب الله وقاية . " عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أُبَيّ ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تُؤْذنا في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك ، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون ، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد " ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب "؟ يريد عبد الله بن أبي ، قال : كذا وكذا فقال سعد : يا رسول الله اعفُ عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فعل به ما رأيت . فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ويقول الحق من بعد ذلك : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ . . . }
(1/1318)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
ونعرف - من قبل - أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } [ آل عمران : 81 ]
ونأتي هنا إلى عهد وميثاق آخذه الله على أهل الكتاب الذي آمنوا بأنبيائهم ، هذا العهد هو : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } .
فما الذي يبينونه؟ وما الذي يكتمونه؟
وهل هم يكتمون الكتاب؟ نعم لأنهم ينسون بعضا من الكتاب ، وما داموا ينسون بعضاً من الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 14 ]
والذي لم ينسوه من المنهج ، ماذا فعلوا به؟ : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } [ البقرة : 159 ]
لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب ، فالكتم عملية اختيارية ، أما النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه ، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى ، إذ لو كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه . والذي لم ينسوه كتموا بعضه ، والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه .
وهل اقتصروا على ذلك؟ لا . بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا : هو من عند الله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ]
وقولهم : { هذا مِنْ عِنْدِ الله } ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله ، وكلمة { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } لا بد أن توسع مدلولها قليلاً ، ولها معنى عام ، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به ، فكيف تشتري أنت الثمن؟ أنت إذا جعلت الثمن سلعة ، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل في الأثمان أن يُشتري بها ، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه . { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ]
إذن فقوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ } يعني لتبينن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف ، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله . وهكذا نجد أن المعاني تلتقي ، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله ، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه نعت محمد ، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب ، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران ملتقيان .
(1/1319)
{ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } يقال : نبذت الشيء أي طرحته بقوة ، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده ، ومثال ذلك : لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم وجدها جمرة تلسعه ، ماذا يفعل؟ هو بلا شعور يلقيها بعيداً . والنبذ له جهات ، ينبذه يمينه ، ينبذه أمامه ، ينبذه شماله ، أما إذا نبذه خلفه ، فهو دليل على أنه ينبذه نبذة لا التفات إليها أبداً ، انظر التعبير القرآني { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } .
إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه ، إمعان في الكراهية والبغض ، فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره ، لكن إن رماه وراء ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماما ، ولذلك يقولون : لا تجعلن حاجتي بظهر منك ، يعني لا تجعل أمرا أريده منك وراء ظهرك ، والحق يقول : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } أي أنهم جماعة و " ظهور " جمع " ظهر " كأن كل واحد منهم نبذه وراء ظهره . وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية ، وكأنهم اتفقوا على الضلال ، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون . والمشتري هنا هو الثمن ، والثمن يُشترى به ، ولندقق النظر في التعبير القرآني ، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة ، وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس ، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي ، إنما هم يقولون : نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب ، هذا معنى { واشتروا بِهِ ثَمَناً } .
ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً : { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } لماذا؟ لأنك قد تظن أن بالمال - وهو الثمن - تستطيع أن تشتري به كل شيء ، ولكن النقود لا تنفع الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً : هب أن إنساناً في مكان صحراوي ومعه جبل من ذهب وليس معه كوب ماء ، صحيح أن المال يأتي بالأشياء ، إنما قد يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب ، فيكون كوب الماء مثلاً بالدنيا كلها ، ولا يساويه أي مال { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .
وبعد ذلك يقول الحق : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواَ . . . . }
(1/1320)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته ، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء ، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان : نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين ، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية ، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك .
ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول - وهو فرح المنافقين - والفرح الثاني مشروع . ولذلك يقول الحق : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ]
إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله . إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ]
وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح ، وتأمرهم به . إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً ، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح ، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله ، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق ، وهذه دواع مشروعة . ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ وهذا ما يفرح به الكافر ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم ، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة ، وموصول بعد ان تقوم الساعة . ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت ، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائما على فعله فهو في غم وحزن .
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة ، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم . هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم ، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب ، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق .
وماذا صنع الذين جاء فيهم القول : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الآية السابقة تقول : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا ، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال .
إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله ، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر ، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً ، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلا على التوبة ، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به ثم بعد ذلك الأشد؛ فيحب أن يُحمد بما لم يفعل ، فذلك من تمام الحمق ، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم ، ففرح به ، فحب لحمد على شيء لم يفعله .
(1/1321)
أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟ بما لم يفعل لأنه خلع على أمره غير الحق ، وإذا قال قائل : إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب الجهاد لم تنلهم ، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارات كاذبة ولو ندموا لكان خيراً لهم ، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار ، إنهم قد أتوا الذنب ، وفرحوا بأنهم أتوه ، ونجوا من مغارم الحرب ، وبعد ذلك فرحوا أيضاً بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو ، لأن اعتذارهم كان نفاقاً ، سواء كان هذا أو ذاك فالآية على إطلاقها : للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل ، والفرح به ذنب آخر ، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث ، إذن فالذنب مركب ، فهم يسترون الأمر ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم ، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً لمطلق الحياة .
{ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } وهل المنعي عليهم أنهم يحبون أن يحمدوا؟ أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟ إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب أن يُمدح بما فعل فلا مانع ، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات ، فهو يعلم مطلوبات الملكات ، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء ، إن الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير ، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانيا ، ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك ، والناس لا تثني على وجودك ، لكنها تثني على فعلك .
وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه ، وما دام يٌغرى بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر ، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله ، والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية ، وسيفقد المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة ، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يمدح ، فلا مانع من مدحه ليزيد من العمل ، ويُمدح مرة ثانية ، وتستفيد الناس ، والذي ينتظر الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله ، فهو الذي جنى على نفسه في ذلك .
(1/1322)
لكن لا بد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد طاقات العاملين .
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية ، وهي قضية تزكية الصالح وتجريم الطالح الفاسد في قصة " ذي القرنين " يقول تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ الكهف : 83-84 ]
كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ ، فلو كان عنده تفكير إيماني ، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست ذاتية . ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء ، ويهب الملك من يشاء ، نقول له : لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها ، لكن الأسباب هبة من الله { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب أنواع : سبب مباشر للفعل ، وسبب متقدم على السبب المباشر ، فإنت إذا ارتديت ثوباً جميلاً ، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج ، والنساج استطاع إتقان عمله بعد أن قام الغزّال بغزل القطن ، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض بالحرث والرى . فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب ، وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله - جلت قدرته - .
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله مثال ذلك النور الكهربائي الذي تتمتع أنت به . ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح الكهربائية ، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح ، وستنتهي إلى شيء موجود لا يوجد فيه بشر ، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى .
أنت مثلاً جالس على الكرسي . وقد تقول : لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من البائع ، والبائع جاء بالخشب من الغابة ، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟ تقول : لا أعرف ، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول : أوجده الله . وحين تنتهي الأسباب وسلسلتها نجد الله الخالق { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً } فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو بالوسائط فقط ، إذن فالأصل كله من الله .
ويتابع الحق : { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } هذا في عين الناظر فقط ، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند الغروب تغطس في البحر ، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس موجودة؛ لأنها لا تغيب أبدا ، إنما { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي فوجد الشمس في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود .
(1/1323)
ويتابع الحق : { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } .
والناس تفهم أن هذا تخيير ، يعني إما أن تعذبهم ، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم ، لكن الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين ، بقوله : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } فَفَهمَ ذو القرنين عن الله التفويض ، ولم يأخذ التفويض وافترى ، بل قال : { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه ، لا ، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا يستشرى فيها الشرّ . وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } إنه أولاً لم يصف عذابه بنكر ، إنما وصف عذاب الله فقال : { فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } ، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر ، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة الله ، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟ ليس لنا طاقة به ، وماذا عن موقف ذي القرنين من الذي آمن؟ إنه موقف مختلف .
يقول الحق : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت ويكرمه ، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً : لماذا كرّم هذا؟ ويرى أسباب التكريم فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم . ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى يلعب بكرة القدم لماذا؟ لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم ، فيقول : أنا أريد أن أضع هدفاً .
هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيرا أو أسدى معروفا حفزاً للهمم وتشجيعا لبذل الطاقات وفي الأثر : " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " إذن فحب الثناء من طبيعة الإنسان ، ولكي تُغزى الناس بأن يعملوا لا بد أن تأتي لهم بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة ، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون الثناء ، فسنقلل الأيدي التي تفعل ، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله ، فلا يمنح رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم ، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان . وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً فالكل يفعل فعلاً حقيقياً ، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك ، وهكذا تأتي الخيبة .
وهكذا تجد أن قوله الحق : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } .
إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة ، وعلاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله . وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو بالذنوب؛ فإن الإنسان إذا ما أتى ذنباً ، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب الذنب ، لكن بعد ما تهدأ شِرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح .
(1/1324)
هذه أول مرحلة . ولا يتمادى في ارتكاب الذنب ، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب ، ويحشره الله ضمن من قال فيهم : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } .
والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته ، أي أن في هذا المكان فوزاً له ، ويطلقون كلمة " مفازة " على الصحراء إطلاقا تفاؤلياً ، ولا يسمونها " مهلكة " لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها " مفازة " تفاؤلاً بأن الذي يسلكها يفوز ، أو أن الصحراء أرض مكشوفة ، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات ، أو من عدو راصد ، وفي ذلك فوز له ، لأنه تجنب هذه المخاطر ، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى ، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه ينأى ويبتعد عنهم ، وتكون التسمية على حقيقتها ، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف أنها سميت " مفازة " تفاؤلاً ، كما يسمون اللديغ الذي يلدغه الثعبان ب " السليم " .
ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسما ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم ، مثال ذلك : إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً . قهوة مثلاً ، وبعد أن نشرب القهوة يأتي الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه : تعال " خذ المملوء " ولا يقول : " خذ الفارغ " وهذا لون من التفاؤل .
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق ، ولا يؤمنون بسيطرة الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة بعده ، ولكن الحق بعد هذه الآية قال : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات . . . . }
(1/1325)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه ، وما دام لله ملك السماوات والأرض ، فحين يقول : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت منه ، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض : اجعل طاعتك لمن لا تستغنىعنه ، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه .
إذن ف { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } تدل على أن الله حين يوعد فهو - سبحانه - قادر على إنفاذ ما أوعد به ، ولن يفلت أحد منه أبدا . وهذه تؤكد المعنى . فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز ، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وامرأته حَمَّالَةَ الحطب * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [ المسد : 1-5 ] .
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت هذه السورة دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله ، لأن أبا لهب كان كافراً ، وكان هناك كفرة كثيرون سواه ، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفاراً وآمنوا ، فمن الذي كان يدري محمداً صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وامرأته حَمَّالَةَ الحطب * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } من كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين ، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف : إن كان محمد يقول : إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت ، مَن كان يدريه أنه لن يفعل ، مثلما فعل ابن الخطاب ، وكما فعل عمرو بن العاص . إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبداً ، فيسجلها القرآن على نفسه ، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا .
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك : إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا " أحد صمد " ، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] .
فما دام " هو الله أحد " فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر ، وستظل قولته دائمة أبداً .
(1/1326)
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل ، والأرض تُقِل ، فكل منا محصور بين مملوكين لله ، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين لله ، فأين تذهبون؟ { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } وقد يكون هناك المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم ، فيوضح سبحانه؛ لا ، إن لله المُلْكَ وله القدرة .
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة :
(1/1327)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
سبحانه يريد أن يبني التصور الإيماني على جذور ثابتة في النفس البشرية ، لأن الإنسان الذي يفاجأ بهذا الكون ، وفيه سماء بهذا الشكل : بلا عمد ، وتحتها الكواكب ، وأرض مستقرة ، بالله ألا يفكر فيمن صنع هذا؟ والله لو أن واحدا استيقظ من نومه ووجد سرادقا قد نصب في الميدان ليلا لوقف ليسأل : ما الحكاية؟ فما بالنا بواحد فتح عينيه فوجد هذا الكون المنتظم الذي يعطيه أسباب الحياة؟
ولذلك يجيء في سورة أخرى ليشرح هذه القضية شرحا يجلى لنا قضية الإيمان بالفكر الإنساني ، فلا ننتظر الواعظ فقط الذي يأتينا بالرسالة والنبوة ليدل على المنهج المراد لمن خلق ، بل تحتم علينا أن نتنبه بالفطرة إلى من خلق ، لأننا قلنا من قبل : لو أن إنساناً وقعت به طائرة في صحراء ، ولم يجد فيها ماء ولا شجراً ولا أناسا ولأنه مجهد غلبه النوم ، فاستيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام ، بالله قبل أن يمد يده لينتفع بها ، ألا يجول فكره فيمن صنع هذه؟ إن دهشته من الحدث تجعله يفكر فيمن جاء بها قبلما يذوق الطعام ، رغم أنه جوعان ، فكذلك الناس الذين فتحوا عيونهم فوجدوا هذا الكون العجيب ، وبعد ذلك لم يدَّع أحد منهم أنه خلقه ، ولو كان أحد قد ادعى أنه خلقه . . لكانت المسألة تسهل ، لكن أحداً لم يدع صنعه . هذا الكون الذي نراه جميعا بانتظامه الرائعِ ، وقوانينه الثابتة . هل قال أحد : إنني صنعته؟ لا إذن فالذي قال : إنني صنعته تَسْلم له الدعوة ، حتى يأتي واحداً آخر يقول : أنا الذي صنعته . لم يحدث هذا قط برغم وجود الملاحدة والمفترين على الله ، ولذلك جاء قوله تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض } [ النمل : 60 ] .
كأن الحق يقول : إن لم أكن أنا الذي خلقت فمن الذي خلق إذن؟ ولم يجرؤ أحد على أن ينسب الكون لنفسه؛ لأن الكفار والملاحدة لا يستطيعون خلق شيء تافه من عدم . ومثال ذلك كوب الماء الذي تركه الله ولم يخلقه على الصورة التي هو عليها ، كي يصنعوه ليفهموا أن كل شيء تم بخلقه - سبحانه - كوب الماء هذا شيء تافه أترف الحياة ، وقبل أن تتم صناعة الكوب كنا نشرب ولم يكن هناك شجر يطرح ويثمر أكواباً بل صنعه إنسان أراد أن يترف الحياة ، فإذا كان هذا الشيء الصغير له صانع جال في نواحي علوم شتَّى وفي المادة ، ثم نظر إلى الأرض حتى وجد المادة التي عندما تُصهر تعطي هذه الشفافية واللمعان ، فجرب في عناصر الأرض فلم يجد إلا الرمل .
واكتشف هذه المادة ومزجها بمواد أخرى لصهرها وإذابتها واحتاجت صناعة الكوب إلى معامل وعلماء ، كل هذا من أجل الكوب الصغير الذي قد تستغني عنه ، انظر ما يحتاجه لصنعه؟ احتاج طاقات جالت في جميع مواد الأرض ، وإمكانات صناعية وأناساً يضعون معادلات كيماوية ، فما بالنا بالأشياء الأصلية وكم تحتاج؟
إن كل صنعة تحتاج على قدرها ، ولم يقل أحد : إنني صنعتها ، فيقول الحق : من الذي صنع كل هذا؟ وساعة يطرح سؤالاً فهو لا يريد أن يجعل القضية إخبارية منه ، وهو القادر أن يقول : أنا الذي خلق السماء والأرض؟ فماذا يفعل المسئول؟ إنه يتخبط في إجابته ثم في النهاية لا يجد إلا الله .
(1/1328)
وكأن السائل لا يطرح هذا السؤال إلا إذا وثق أن الإجابة لا تكون إلا على وفق ما يريد { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ } وجاء هنا بالحاجة المباشرة . . { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي أنها تسرّ النظر بما فيها من خضرة ونضارة ، وطراوة ، وظل ، وأزهار ، وثمار ، ولم يختصر الأمر فيقول : " لتأكلوا منها " لأن الذي يأكل هو الذي يملك فقط ، لكن جمال المنظر لا يحجزه أحد عن كل من يرى ، ويستمتع بما يراه . وكل منا عندما يرى بستاناً جميلاً يسره منظره ، صحيح أنك لا تمد يدك لتأكل منه لأنه ليس ملكك ، لكن هل يمنعك أحد أن تمتع به نظرك . وأن تمتع أنفك برائحته الجميلة؟ لا .
وهكذا جاء الحق بالنعمة الشائعة لمن يملك ولمن لا يملك فقال : " ذات بهجة " ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يمتن بالأشياء يوضح لك : إياك أن تفهم أن الغرض من هذه المسألة أن تأكلها لتملأ بها بطنك فقط؛ لأن هناك أشياء جميلة لا ننتفع بها أكلاً ، فهناك ألوان من الشجر ليس له ثمرة لكن لابد أن له عملاً؛ فورقه الجميل قد يفيد في الظل وما يشيعه من رائحة تعطر الجو ، وبه خشب نحتاج إليه ، وبجانب هذا نجد أشجاراً لها ثمار جميلة ننتفع بها .
ولذلك يقول الحق : { وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 99 ] .
وسبحانه يستفهم من الإنسان " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " .
بسطحية راح أحد المستشرقين يردد : أيَنْعَى الله على الخلق ويعيب عليهم أن يعدلوا؟ ذلك أنه لم يفهم المعنى الصحيح ، فالعدل هنا بمعنى العدول عن الحق أو الميل عنه . ويقول : { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61 ] .
إنه سبحانه الذي خلق الأرض ومن خلالها الأنهار وجعل فيها الجبال الرواسي ، ويوضح الحق سبب وجود الجبال الرواسي في موقع آخر من القرآن الكريم :
(1/1329)
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 10 ] .
فلماذا باركت يا الله؟ بارك الله في الجبال وقدر فيها أقواتها ، فالقوت هو ما يُنتفع به في استبقاء الحياة . ونعرف أن القوت يؤخذ من الزرع ، والزرع ينمو دائماً في الأرض الخصبة ، وخصوبة الأرض تكون في الوديان ، والوادي هو المكان الذي يكون بين جبلين . ولماذا يكون الوادي خصباً بين جبلين؟ لأن المطر حين ينزل من السماء ، إنما ينزل على الجبال ، والجبال كما تعرف معرضة لعوامل التعرية ، فالحرارة تأتي بعد البرودة ، والحرارة تجعل الأرض تمتد والبرودة ، تقبض المادة ، وما بين القبض والبسط يحدث للجبال التشقق السطحي . وعندما ينزل المطر فهو يجرف هذه التشققات ، فتنزل من قمة الجبل بقوة الدفع لتصير جسيمات ناعمة ، ونسميها نحن الغِرْين أو الطمى ، كالذي كان يأتي لنا من الحبشة ، والذي أحدث خصوبة وادي النيل .
إذن فالجبال هي مخازن الأقوات . ومن فضل الله أن جعل الجبال صلبة ، فلو أنها كانت هشة من أول الأمر ، لكان سيلٌ واحد من المطر كفيلاً بإزالتها كلها ، ولجعل الأرض سطحاً واحداً ، ولا انتفع البشر بنصف متر من الخصوبة . وبعد ذلك يأتي الجدب . ونعلم أن الحق جعل مع التكاثر الإنساني تكاثراً لأسباب القوت ، فكيف يكثر الحق سبحانه من القوت؟
نحن نرى أن للجبال قمة ولها قاعدة ، وبين كل جبل وجبل يوجد الوادي ، ونعرف أن ضيق الوادي يكون في أدناه ، واتساع الوادي في أعلاه ، والجبل عكس الوادي . فضيق الجبل يكون في القمة واتساعه في القاعدة أي أن قمة الجبل أقل اتساعا من قاعدته . وعندما ينزل الغرين بوساطة المطر من الجبل فهو ينزل إلى الوادي ، فيرفع من مستوى سطح الوادي ، وتتسع مساحة الوادي . وكلما نزل المطر على الجبال اتسعت مساحة الوديان التي بين الجبال؛ لأن المطر يحمل معه أجزاء من الجبال وهو ما يسمى بالغرين . وعندما يشاء الحق سبحانه إيذان النهاية ، تتفتت كل الجبال ويقول للساعة : قومي الآن " .
وهو يقول : { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
وفي موقع آخر يقول الحق : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19-20 ] .
الماء له استطراق فسلكه الله ينابيع في الأرض ، فالإنسان يحفر في مكان من الأرض فيجد الماء عذباً ، وفي موقع آخر يدق الإنسان الأرض ويحفرها ليجد الماء ولكنه مالح . لماذا إذن لم يتسرب الماء المالح إلى الماء العذب وكلاهما تحت الأرض؟ إذن لا بد أن للماء المالح مسارب تختلف عن مسارب الماء العذب ولا يطغي أحد على الآخر .
(1/1330)
لماذا؟ لأننا نجد أن الماء العذب يأتي من أعلى . ونجد دائماً منابع الأنهار عالية وتصب في البحر . والحق لم يجعل منسوب الماء المالح أعلى من منسوب الماء العذب ، حتى لا يطغى الماء المالح على الماء العذب ، لأنه سبحانه يريد أن يرتوي الناس من الظمأ بالماء ، ويريد للزرع أن ينمو ، وأن يتجه الفائض من الماء العذب إلى مخزن الماء سواء في بطن الأرض أو في البحار ، وتأتي من بعد ذلك عملية التبخير فيتصاعد الماء بخاراً ليصير سحاباً ، ثم يمطر من بعد ذلك ماء عذباً . والقدر الذي خلقه الله من الماء أزلاً ، هو . هو ، لا يزيد ولا ينقص .
فالإنسان إذا كان قد شرب أطناناً من الماء طَوال حياته ، فهل ظلت تلك الأطنان في جسد الإنسان أو أن تلك الأطنان قد خرجت في فضلات الإنسان؟ إن الإنسان لا يختزن إلا الموجود فيه الآن من الماء . والجسم الإنساني به حوالي تسعين بالمائة من مكوناته من الماء ، وبعد ذلك يموت الإنسان فيتبخر منه الماء وتنزل بقية العناصر للأرض . إذن فكمية المياه . واحدة ، ولكنها تخضع لدورة أرادها الله .
وبعد ذلك يقول الحق : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ النمل : 62 ] .
ومعنى المضطر هو الإنسان الذي استنفد أسباب بشريته ولم يدرك ما يحفظ به حياته ولذلك يقول الحق :
{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ يونس : 12 ] .
وكذلك يقول الحق في موضع آخر بالقرآن الكريم : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } [ الإسراء : 67 ] .
ذلك أنه عندما يصاب الإنسان بحادث جسيم ، فهو لا يكذب على نفسه ، حتى الكافر بالله عندما يجد أن كل الأسباب المادية التي أمامه لا تنفعه فهو يلجأ ويعترف بأنّ هناك إلهاً واحداً خالقاً . فيقول : يا رب .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 62-64 ] .
كل هذه الآيات تؤكد قول الحق سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } [ آل عمران : 190 ]
إنها ظواهر كونية . واختلاف الليل والنهار يعني أن هناك شيئاً آخر أو يأتي بعد شيء آخر . إذن فاختلاف الليل والنهار له معنيان : فمجيء الليل بعد النهار يعني اختلافهما أي كل منهما خليفة للآخر .
(1/1331)
والزمن يمثل ذلك .
واختلاف آخر يتمثل في أن النهار منير ، والليل مظلم ، والنهار محل حركة ، والليل محل سكون . فاختلاف الليل والنهار ليس آية فقط ولكنه آيات لكثيرين .
وكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : أنّ الفرد أعجز من أن يستنبط كل ما في الآيات ، ولكن على كل واحد منكم أنتم البشر أن يستنبط آية ، وكل إنسان يستنبط آية ينتفع بها هو وغيره من الناس وهكذا .
إنها آيات يتوزع استنباطها على الخلق الذين يملكون البصيرة والأخذ بأسباب الله ليشيع الحق الاستنباط من أسرار الله لكل خلق الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة ، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة ، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل بالنعمة عن المنعم بالنعمة؛ لأن لله إمداداً حين خلق من عَدَم ، وإمداداً حين أمدّ من عُدم ، وإمداداً آخر حينما يلقى على نعمته شيئاً من البركة ، فالذي أخذ نعمة الله التي سبقت وجوده ، وبعد ذلك غفل عن الحق سبحانه وتعالى فإن النعمة تعطيه ، لكنها لا تكون مصحوبة بالبركة .
ومعنى البركة أن يكون الشيء الحاصل والمستنبط من حركتك لا يأتي منه لك ولا للناس إلى الخير . فقد يعطيك الله بالأسباب والمسببات . لكن الله لا يعطيك البركة إذا أخذت النعمة وتركت المنعم . فلو أنك عند كل شيء ذكرت الله لأخذت النعمة والبركة . فحين ترى لك شيئاً تحبه عليك أن تقول : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " .
إنَّه ليس من شغلك ولا من عملك . ولكنها مشيئة الله وقوته سبحانه .
ولذلك يقولون : إنك إذا رأيت أي نعمة لك في مال أو ولد أو خُلق أو هندام تقول حين تراها : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " فأنت لا ترى فيها سوءاً أبداً؛ لأنك رددتها إلى مَن خلقها ، فضمنت صيانة الله لها بذلك الرد ، والذي يحرسها هو الكلمة الواضحة " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " .
ولذلك نرى في قوله تبارك وتعالى : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 32-36 ] .
فماذا قال له صاحبه؟ { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لكنا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }
(1/1332)
[ الكهف : 37-40 ] .
فكان يجب ألا يغتر الإنسان بوجود النعمة وأن يعزوها وينسبها ويردها إلى المنعم وهذا يوضح لنا معنى قول الحق :
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] .
فقد تعطيكم الأسباب مسبباتها ، ولكن لا زيادة عن المسببات بالتفضل منه سبحانه بالبركة ، بل ربما كانت فجيعة لصاحبها ، فتعطيه الأسباب ثم ينزع العطاء فتكون حسرة عليك .
إذن فمَنْ هم أولو الألباب؟
تكون إجابة الحق : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً . . . } .
(1/1333)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
إنهم يقولون :
{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } لأنك حق ، وخلقت السماوات والأرض بالحق ، ووضعت لها نواميسها وقوانينها بالحق ، فيجب أن نستقبل النعمة التي خلقتها لنا بالحق . فإن استقبلها بعض الناس بغير الحق ، فإنها تكون وبالاً عليهم . ويقال : إن المؤمن الصادق في بني إسرائيل قبل رسالة عيسى عليه السلام كان إذا عبد الله بإخلاص ثلاثين سنة فإن غمامة تظله حيث سار . فكانوا عندما يرون واحداً من هؤلاء يسير تظلله غمامة ، فهم يعرفون أنه عبد الله بإخلاص ثلاثين عاماً .
وعَبَدَ واحد منهم الله ثلاثين سنة ولم ير السحابة تظلله ، فشكا ذلك لأمه فقالت له : لعل شيئا فَرطَ منك . فقال لها : يا أماه لا أذكر . فقالت له : لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تفكر . فقال لها : لعل ذلك حدث . فقالت : الذي يأتيك من ذاك . وهذه القصة تذكرنا بضرورة التفكير في الله دائماً .
ويروى عن سيدنا الإمام عليّ - رضي الله عنه وكرم الله وجهه - أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا استيقظ في الليل ، استاك ، ثم نظر إلى السماء .
إذن فالنظر إلى السماء هو النظر إلى العلو . والنظر إلى الأرض أيضاً هو تأمل في حكمة الخالق ، لكن النظرة إلى السماء تجعل الإنسان يفطن إلى علو الخالق . ولذلك فالعربي الذي استلقى على ظهره نائماً ، واستيقظ ففطن إلى لون السماء الأزرق البديع ، والنجوم تتلألأ فيها فقال : أشهد أن لَكِ رباً وخالقاً ، اللهم اغفر لي . ولقد عرف الرجل متى يدعو الله وكيف يدعو ، لذلك غفر الله له .
وفيما روت كتب السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ليلة ونام ، وكانت ليلة عائشة رضوان الله عليها . قالت عائشة لعبدالله بن عمر رضوان الله عليه . فنام بجوارى حتى مس جلدي جلده ، ثم قال : " يا عائشة هل تأذنين لي الليلة في عبادة ربي "
لقد استأذن منها رسول الله في حقها لأن الليلة ليلتها . وأضافت عائشة : يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك ، وقد أذِنتُ لَكَ .
لقد احتاطت الاحتياط الجميل ، فهى تحب الرسول ، وتقول : " وأنا أحب قربك " وهذا القول له معنى جميل ، وحدث أن قال بعض المتنطعين على دين الله : إن رسول الله كان كبير السن بفارق كبير بينه وبين عائشة ، وقولها ذلك إنما عن زهد فيه .
لكنها عائشة - رضي الله عنها- ردت على ذلك من قبل أن يقال . فقالت : يا رسول الله أنا أحب قربك وأحب هواك وقد أذنت لك . وهذا درس يعطيه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نتعلم كيف نعامل أهلنا ، حتى ولو كان الأمر الذي يشغلنا عنهم هو العبادة ، وهو لا يريد أن ينشغل المؤمن عن رعاية أهله بعد أداء ما عليه من فروض ، حتى ولو كان عبادة إلا بعد استئذان الأهل .
(1/1334)
لماذا؟ لأن الله طلب من الزوجة في العبادة غير المفروضة ألا تتطوع حتى تستأذن زوجها . فالزوجة إن صلت تطوعاً ، أو صامت تطوعاً لا بد أن تستأذن زوجها ، فإن أذن لها ، فبها ، وإن لم يأذن فليس لها أن تقوم بهذه العبادة غير المفروضة .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم . . خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي "
لأن الزوج حين يقرب زوجته فهو يريد أن يعفها عن التطلعات البشرية؛ لذلك فعندما تريد الزوجة أن تأخذ وقتها وخصوصا إن كان لها ضرائر ، فهذا الوقت حق لها . فإن أراده الزوج للعبادة غير المفروضة فعليه أن يستأذنها . وقد تكون الحالة النفسية للمرأة في عدم وجود ضرائر أكثر قدرة على قبول استئذان الزوج لها ليتفرغ للعبادة . ولذلك فأنت ترى من أهل الفتوى الإيضاح الناجح لمثل هذا الأمر .
لقد ذهبت امرأة تشكو زوجها لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان مضمون الشكوى أن زوجها لا يقربها ، وكان مع عمر صحابي جليل . فقال له عمر ابن الخطاب : افتها . فقال الصحابي للزوج : يا هذا سنفرض أنك تزوجت أربعاً ، فلزوجتك إذن ليلة بعد كل ثلاث ليال . وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استأذن عائشة في عبادة ربه ، فهذا معناه درس للأزواج أن يحسنوا معاملة الأهل إحساناً لا يجعل للمرأة تطلعا .
لكننا نجد أناساًَ لا يستأذنون أهلهم لا في العبادة ، ولا حتى في سهرات المعصية . وهذا ما يفسد البيوت والأسر . إن ما يفسد البيوت أن يكون الزوج مشغولا عن الزوجة ، ويذهب إلى أصحابه في المقهى أو في مكان آخر . ولا يهتم بأفراد أسرته .
لماذا لا يذهب إلى منزلة ليؤانس أهله؟ وليشبع رغبتهم ويجلس مع زوجته وأهله وأولاده وبذلك تطمئن الزوجة أن رجلها معها وليس في مكان آ خر ، وذلك حتى تستقر الأمور . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن عائشة رضي الله عنها فتأذن له . قالت عائشة رضوان الله عليها :
" فقام إلى قربة فتوضأ ثم قام فبكى ثم قرأ فبكى ، ثم أثنى على الله وحمده فبكى ، حتى ابتلت الأرض ، ثم جاء بلال ، فقال : يا رسول الله صلاة الغداة . فرآه يبكي . فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال رسول الله : أفلا أكون عبدا شكورا . . يا بلال لقد نزل علي الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب * الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد * فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب * لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد * لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ * وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب * يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
(1/1335)
[ آل عمران : 190-200 ] .
وأضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ، وويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها " .
هذا ما جاء عن سيدنا رسول الله في أواخر سورة آل عمران ، تلك الأواخر التي تبدأ بقوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } .
إن في تلك الآيات المنهج والاستدلال ، واصطحاب الحق سبحانه وتعالى وذكره على كل حال من القيام والقعود وعلى الجنب . إن الحق يقول : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
ها نحن أولاء نرى أن مطلوب أولى الألباب هو أن يذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم . وقال بعض العلماء في تفسير قول الحق : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } إن المقصود بذلك هو الصلاة ، فمن لا يستطيع الصلاة قائماً يصلي قاعدا . . ومن لا يستطيع الصلاة قاعدا فليصل مضطجعا .
ونقول لهؤلاء العلماء : لقد خصصتهم هذا المعنى حيث المقام للتعميم ، لماذا لأن القرآن لا يتعارض مع بعضه ، بل يفسر بعضه بعضا ، والحق يقول عند صلاة الخوف : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
(1/1336)
[ النساء : 102 ] .
وحتى لا يظن المؤمن أن الفروض الخمسة هي التي يذكر فيها الله فقط قال سبحانه : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] .
أي إنه حصلت الصلاة أولا ، وحصلت الصلاة ثانيا ، كأن ذكر الله أمر متصل واجب في الصلاة ، وفي غيرها ، وبعدها يتفكر المؤمنون في خلق السماوات والأرض ويعترفون أنه سبحانه لم يخلق هذا باطلاً . ويكون المطلوب أن يقولوا :
{ سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] .
لماذا؟ لأن كل هذا الذكر لا يوفي حق ربنا علينا . . لذلك قالوا : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ . . . } .
(1/1337)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
إنها العظمة ، فهم لا يذكرون عذاب من يدخل النار ، ولكنهم يذكرون خزي الله لمن دخل النار . وكأن الخزي مرتبة أشر من عذاب النار ، فمن الذي أعطانا كل هذا الفضل ، إنه - سبحانه - أعطانا توفيقا لذكره ، وتوفيقاً لنتفكر في خلق السماوات والأرض ، فهل يصح أن نقابله بكفران النعمة؟ وما الذي يحدث بهؤلاء الذين يدخلون النار؟
إنه الخزي والعياذ بالله . { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي وليس لهم أنصار يمنعون عنهم عذاب النار .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي . . . }
(1/1338)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون من آيات ، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة ، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه . ما هي؟ إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه : من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق . إن وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة . هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟
لا . إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة . ولذلك قلنا : إن تلك هي الزلة التي وقع فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة . ونحن نعلم أن العلم ينقسم إلى قمسين ، قسم مادي قائم على التجربة ، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء المادة . وهذا العلم متاهة الفلاسفة ، وهو المضلة التي لم تلتق فيها مدرسة بمدرسة ، ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة .
لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة . وما وراء المادة غيب . والغيب لا يدخل المعمل . لكن المادة تدخل المعمل . والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في هذه النتائج . فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه . والذي يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا .
ولذلك نقول دائما : إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي ، وعلم أمريكي رأسمالي ، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية وأخرى أمريكية . إنها كيمياء واحدة ، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة المادية .
ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره ، ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ . وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي .
لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق علم الأهواء المجتمع .
هم يقيمون الحواجز في الأهواء ، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص . فلماذا لا يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في الحكم والاجتماع والاقتصاد . لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب النظرية تتبع الأهواء ، لكن العلم المادي - كما قلنا - يتبع الحقيقة المعملية التي لا تجامل .
إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول : إن وراء خلق الكون قوة خارقة . وقد عرفها العربي بفطرته فقال : البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير ، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!!
إنه دليل فطري ، يدلك على وجود القوة ، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف .
(1/1339)
إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة . فإذا جاء واحد وقال : أنا مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة ، وأنَّ اسمها الله ، كان من المفروض أن تتهافت الناس عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم ، لذلك فالمؤمنون يقولون : { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } [ آل عمران : 193 ] .
كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق . وبعد ذلك . { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ آل عمران : 192 ] .
فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير دائما؛ لذلك قالوا : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } .
وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن " الذنب " شيء ، و " السيئة " شيء آخر . فالذنب يحتاج إلى غفران ، والسيئة تحتاج إلى تكفير ، على سبيل المثال " كفارة اليمين " تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه ، وهذا التكفير هو المقابل للحنث في اليمين ، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه فهي الذنب ، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله . فحين تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله . فأنت لم تسيء إلى الله ، فمن أنت أيها الإنسان من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب ، والذنب تأتي بعده العقوبة . أما مخالفة منهج الله مع عباد الله فهي . سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت .
لذلك فالمؤمنون قالوا : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } .
ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى غفران ، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم حامل الرسالة من الله . وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة . فقد كان جالساً بين أصحابه فأخذته سِنَةٌ من النوم ، ثم استيقظ فضحك .
فعن أنس رضي الله عنه قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي . قال الله : أعط أخاك مظلمته . قال يا رب : لم يبق من حسناتي شيء ، قال : يا رب يحمل عني من أوزاري . وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال : إن ذلك ليوم عظيم ، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم . فقال الله للطالب : ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن . قال : يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال : أنت . قال : بماذا؟ قال : بعفوك عن أخيك . قال : يا رب قد عفوت عنه ، قال : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة " .
(1/1340)
هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا : " اللهم ما كان لك منها فاغفره لي ، وما كان لعبادك فتحمله عني " . أي أن العبد يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده ، وما عنده لا ينفد أبدا .
والعباد المؤمنون يقولون : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع الأبرار . ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا . . . . } .
(1/1341)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
أي ربنا أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك ، ولتسمع قول الحق استجابة لهم : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي . . . . } .
(1/1342)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
ولْنر اللفتة الجميلة في الاستجابة : " فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " لقد كانوا يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ويخشون الدخول إلى النار . ودعوا الله بغفران الذنوب وتكفير السيئات . ودعوا الله أن يأتيهم ويعطيهم ما وعدهم به على ألسنة الرسل .
لم يقل الحق سبحانه : استجبت لكم ، لكنه جعل الاستجابة هي قبول العمل فقال : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } فليست الحكاية كلاما يقال ، إنما يريد الله أن تدخل هذه المسائل في حيز التطبيق والنزوع العملي؛ فالمسألة ليست بالتمني فقط ، فقد وضع سبحانه الشرط الواضح وهو العمل ، فمن يريد استجابة الحق فلابد له من العمل . إن التفكر في بديع صنع الله لا يغني عن العمل؛ لأن الحق سبحانه يريد التفكر فيه وأنت تعمل في أسبابه . فأسباب الحق لا تشغلك عنه { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } [ آل عمران : 195 ] .
فالذين هاجروا من بلادهم ومن أهلهم ومن أوطانهم ومن أحبابهم ، دون إكراه فهجرتهم هذه هي نزع وجودي ، وانتقال من مكان إلى مكان جديد وكان ذلك في سبيل الله أي ، فالذين هاجروا وخرجوا بجزء من إرادتهم ، وكذلك الذين أخرجوا من ديارهم ، وقاتلوا في سبيل الله وتحملوا الإيذاء وقُتلوا - هؤلاء - ينالون التكفير عن السيئات ويدخلون الجنة .
لقد جاء الحق هنا بالعملية التي تتضح فيها الأسوة الإيمانية؛ لأن الإنسان ينشغل بماله وأهله ووطنه وباستبقاء الحياة ، فإذا ما ضحى الإنسان بهذا كله في سبيل الثبات على كلمة الله أولا ، وإعلاء كلمة الله ونشرها ثانيا . فالمؤمن من هؤلاء لم يكتف بنفسه بل جاهد في سبيل الله لتنتقل الحياة بحلاوتها إلى غيره ، وبذلك يكون قد أحب لغيره ما أحبه لنفسه .
نخرج من كل هذا برؤية واضحة هي أن الفكر وحده لا يكفي وإذا قال واحد : إن إيماني حسن فلا تأخذني بالمسائل الشكلية ، نرد عليه قائلين : إن الله ليس في حاجة إلى ذلك ، ولكنه يطلب منك أن تعمر الكون بحركتك ، وأبرك الحركات وأفضلها أن ترسخ منهج الله في الأرض؛ لأنك إن رسخت منهج الله في الأرض ، أدمت للوجود جماله .
ومن بعد ذلك يقول الحق : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ . . . } .
(1/1343)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
وإذا ما سمعنا كلمة { تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } فاعلم أن التقلب يحتاج إلى قدرة على الحركة . والقدرة على الحركة تكون في مكان الإنسان وبلاده ، فإذا اتسعت قدرتك على الحركة وانتقلت إلى بلد آخر ، فعندئذ يقال عن هذا الإنسان : " فلان نشاطه واسع " أي أن البيئة التي تحيا فيها ليست على قدرة قدرته ، بل إن قدرته أكبر من بيئته ، لذلك فإنه يخرج من بلده . وكان ذلك يحدث ، فكفار قريش كانوا يرحلون من بلدهم في رحلات خارجها . لذلك قال الحق :
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] .
والتقلب كما عرفنا ينشأ عن : قدرة وحركة واتساع طموح . وسبحانه يريد أن يبين لنا أن زخارف الحياة قد تأتي لغير المؤمنين . إن كل زخرف هو متاع الحياة الدنيا وهو مرتبط بعمر الإنسان في الوجود . ومهما أخذوا فقد أخذوا زينة الحياة وغرورها؛ فسبحانه هو القائل : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } [ آل عمران : 185 ] .
إنها حياة لها نهاية . أما الذي يريد أن يُصَعِّدَ النعمة ويصعد النفع فهو يفعل العمل من أجل حياة لا تنتهي . والكافرون قد يأخذون العاجلة المنتهية ، ولكن المؤمنين يأخذون الآجلة التي لا تنتهي .
وحين نقارن بين طالب الدنيا وطالب الآخرة ، نرى أن الصفقة تستحق أن نناقشها من نواحيها وهي كما يلي : لا تقس عمر الدنيا بالنسبة لذاتها ، ولكن قس عمرها بالنسبة لعمر الفرد في الحياة؛ لأن عمر الدنيا عند كل فرد هو مدة بقائه فيها ، فهب أن الدنيا دامت لغيري ، فمالي ولها ، إن عمر الدنيا قصير بالنسبة لبقاء الإنسان فيها ، وإياك أن تقارنها بقولك : إن الدنيا سوف تبقي لملايين السنين؛ لأنها ستظل ملايين السنين لملايين الخلق غيرك ، وعمر الدنيا بالنسبة لك هو عمرك فيها ، وعمرك فيها محدود ، وهذا على فرض أن الإنسان سيعيش متوسط الأعمار . فما بالك وعمرك فيها مظنون؛ لأن الموت يأتي بلا سن ولا يرتبط بسبب أو بزمان . ولذلك فالإنسان لا يضمن متوسط الأعمار . وعمر الآخرة متيقن وهو إلى خلود .
إذن فعمر الإنسان في الدنيا مظنون وعمره في الآخرة متيقن ، والدنيا محدودة ، وفي الآخرة خلود ، ونعيمك في الدنيا منوط بقدرتك على تصور النعمة وإمكاناتها . ولكن نعيمك في الآخرة على قدر عظمة رَبّك وعطائه العميم؛ لذلك قال الحق عنها : إنها متاع الغرور . ولم يأت الله لها باسم أقل من اسم الدنيا ، فهل هناك اسم أقل وأحقر من هذا؟ إن الذين يغترون بما يناله الخارجون عن منهج الله من تقلبهم في البلاد عليهم أن يتذكروا أن كل ذلك إلى زوال وضياع . وعلينا أن نقارن التقلب في البلاد بما أعده الله لنا في الآخرة . وساعة تقارن هذه المقارنة تكون المقارنة سليمة . .
ولذلك يتابع الحق قوله عن تقلب الذين كفروا في البلاد : { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ . . . }
(1/1344)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل . ومعنى ذلك أن الحق يقلب فيهم في جهنم كما يريد ، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء ، شأنهم في ذلك شأن الطفل ، يزال ملازما لفراشه ومهده حتى يقلبه ويحركه غيره . ويأتي المقابل لهؤلاء وهم المؤمنون فيقول :
{ لَكِنِ الذين اتقوا . . . } .
(1/1345)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
والنزل هو المكان الذي يعد لنزول الضيف ، والنزل حينما تقيمه قدرات بشرية تتراوح حسب إمكانات البشر وفي إحدى السفريات نزلنا في فندق فاخر فقال لي زملائي وإخواني :
هذا لون من العظمة البشرية .
قلت لهم : هذا ما أعده البشر للبشر ، فكيف بما أعده الله للمؤمنين؟
وعندما ترى تقلب الكفار في البلاد فاعلم أنهم لن يأمنوا أن يأخذهم الله في تقلبهم ، وفي ذلك يقول : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون } [ الأنعام : 47 ] .
ويقول - سبحانه - : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [ الأنعام : 46 ] .
والكافر من هؤلاء يتملكه الغرور ، وهو يتقلب فيأتيه عذاب الله بغتة . والعذاب يأتي مرة بغتة ، ومرة أخرى جهرة . إنه يأتي بغتة حتى يكون الإنسان متوقعا له في أي لحظة ويأتي جهرة حتى يرعب الإنسان ويخيفه قبل أن يقع . ولذلك يقول الحق : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [ البقرة : 55 ] .
فالموت إن جاءهم بغتة فقد لا يشعرون بهوله إلا لحظة وقوعه ، ولكن حينما يأتيهم الموت وهم ينظرون ، فهم يرونه وهم في فزع ورعب .
والحق يقول من بعد ذلك : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن . . . } .
(1/1346)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
والحق سبحانه وتعالى يؤرخ للإيمان تأريخا صادقا أمينا ، فالقرآن لم يتحامل على أهل الكتاب لأنهم عاندوا رسول الله وواجهوا دعوته وصنعوا معه كل ما يمكن أن يحبط الدعوة ويقضي عليها .
إن القرآن يقول : في شأن بعض منهم منصفا لهم : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } وهذا اسمه - كما قلنا - صيانة الاحتمال . فساعة يقول الحق : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } ، ساعة ينزل هذا الكلام ، فيسمعه بعض من أهل الكتاب الذين انشغلوا في أعماقهم بتصديق الرسول ، ويعرضون قضية الإيمان على نفوسهم ، فإذا ما كانوا كذلك ماذا يكون موقفهم وهم الذين يفكرون في أمر الإيمان بما جاء به محمد؟ إنهم عندئذ يقولون لأنفسهم : هذه مسألة في أعماقنا ، فمن الذي أطلع محمداً عليها؟ إن ذلك دليل على أن محمداً لا ينطق عن الهوى ، وأن الله يعلمه بما في نفوسنا مما لم يبرز إلى حيز الوجود ، وما دام الحق يخبره بما لم يخرج إلى حيز الوجود فلابد أنه صادق . فإن كانت الآية قد قيلت بعد أن آمنوا فلن يكون لها هذا الوقع .
إذن فلابد أن هذا القول تبشير بأن كثيراً من أهل الكتاب يفكرون في تصديق الرسول الله في البلاغ من الله ، وهم بصدد أن يؤمنوا . فقول الله ذلك يجعل العملية الإيمانية في نفوسهم مصدقة ، لأنهم يقولون : إنّ الرسول الذي يقول ذلك هو مبلغ عن إله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
ويقول الحق من بعد ذلك : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . } .
(1/1347)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
هذه الآية هي ختام سورة آل عمران . وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة . والسورتان تشتركان معاً في قضية عقدية أولى ، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله خاتما للرسالات ومهيمناً عليها . ولذلك تكلم الحق عن قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب ، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت عن منهج الله إلى أهواء البشر ، فجادل في سورة البقرة اليهود ، وجادل في سورة آل عمران النصارى .
وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في معترك الحياة ، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً ، ثم عرض للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه . وبعد أن ينتهي من هذه ، يقول الحق : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } أي ما من آمنتم بما تقدم إيماناً بالله ، وتصديقاً بكتابه ، وتصديقاً برسالته صلى الله عليه وسلم ، وتمحيصاً للحق مع اليهود ، وتمحيصاً للحق مع أهل الكتاب جميعاً ، تمحيصاً لا جدلياً نظرياً ، ولكن واقعيا في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد ، فيا من آمنتم بالله إيمانا صادقا صافيا ، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي " اصبروا " وهذا أمر ، و " وَصَابِرُواْ " أمر ثان ، و " رَابِطُواْ " أمر ثالث ، و " واتقوا الله " أمر رابع .
إنها رابعة أوامر ، والغاية من هذه الأوامر هي { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إذن فمن عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة : اصبر ، صابر ، رابط ، اتق الله ، لعلك تفلح .
والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعاً ، لم يقل لك : افعل ذلك لتنجح أو لتفوز . إنما جاء بكلمة " الفلاح " . و " الفلاح " كما قلنا : مأخوذ من فلح الأرض . وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء ، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة ، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً مادياً مشهوداً ملحوظا .
إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المحُس الذي يباشره الناس جميعا ، وأي فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ إنه فلاح الدنيا وفلاح الآخرة؛ فلاح الدنيا بأن تنتصروا على خصومكم ، وأن تعيشوا معيشة آمنة مستقرة رغدة ، وفلاح الآخرة أن تأخذوا حظكم من الخلود في النعيم المقيم ، ومادام سبحانه يقول : اصبروا فلابد أن يكون هذا إيذانا بأن فيه مشقة ، فالإيمان يؤدي إلى الجنة ، والجنة محفوفة بالمكاره؛ لذلك لابد أن تكون فيه مشقات .
وإذا نظرت إلى تلك المشقات تجدها في ذات النفس منفصلة عن المجتمع تارة ، وتجدها في ذات النفس مع المجتمع تارة أخرى ، أما في ذات النفس مفصولة عن المجتمع ، فإن الصبر يقتضي أن تصبر على تنفيذ أمر الله في فعل الطاعات وعلى تحمل الألم منه في ترك المعاصي وإن كان ذلك يمنعك عن لذة شهوة تحبها فإنك تصبر عن تلك الشهوة التي تلح عليك ، فمجاهدة المؤمن أن يصبر عن الشهوات التي نهى الله عنها ، والأشياء التي تصيب الإنسان يصبر عليها ، فالمصيبة في النفس يصبر عليها ، والأشياء التي يصبر عنها من النواهي هي الشهوات والمتع التي يحرمها الله .
(1/1348)
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : إنني خلقتك وأعلم منازعة نفسك إلى الشهوة ، لأنك تحبها فاصبر عنها ، والأمور التي في الطاعة إن فعلتها ستورثك مشقة في ذاتك ، اصبر عليها ، إذن ففي الأوامر صبر على تنفيذها ، وفي المناهي صبر عن إيقاعها ، هذه كلها في الذات ، وبعد ذلك إذا تعدت المسألة من الذاتية إلى المحيط الخارجي فالحق يقول : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون } [ البقرة : 177 ] .
يقول : " صابرين في " ، فعندنا " صابر على " ، و " صابر عن " و " صابر في " ، " والصابرين في البأساء " التي تقع عليهم من المجتمع الخارج عنهم ، وكيف تصيبهم البأساء من المجتمع الخارج عنهم؟ نعم ، لأن منهج الحق إنما يجيء ليصوب الخطأ في حركة المجتمع . والخطأ في حركة المجتمع إنما يستفيد منه أناس وهم يحرصون جاهدين أن يصدوا من يريدون تثبيت منهج الله ، إذن فهم لا يقصرون في إيذائهم ، وفي السخرية منهم ، وفي إتعابهم وفي حربهم ، وهذا صبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وإذا كان عدوك الذي جئت لتدحض منهجه الباطل بمنهجك الحق صابرك وصابر أيضاً على إيذائك ، فعليك أن تصابره .
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن " اصبر " غير " صابر " فاصبر هو أمر في نفسك ستصبر عليه ، ولكن هب أن خصمك صبر أيضاً على إيذائك ، وصار عنده جلد ليقف أمامك هنا ،
الحق يأمرك هنا بأن تصابره ، أي إذا كان عدوك يصبر قليلا فعليك أنت أن تقوى على الصبر عليه ، أي أن تجيء بصبر فوق الصبر الذي يعارضك ، وكل مادة " فاعل " هكذا .
مثال ذلك : عندما تقول : فلان نافس فلانا . والمنافسة تكون بين اثنين يحتاجان ويقصدان غاية ، وكل واحد يريد أن يصل إليها ، والذي يريد أن يصل إليها يريد أن يصل بحرص ، فإن كان معاندك يحرص عليها بخطوة فاحرص عليها أنت بخطوتين ، هذه هي المنافسة؛ فالمنافسة مغالبة على الفوز ، والحق يقول : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } [ المطففين : 26 ] والأصل فيها هو : إطالة النفس حين يغطس الإنسان في الماء ، وسيدنا عمر - رضي الله عنه - قال للعباس - رضي الله عنه - : أتنافسني؟ أي عرض عليه أن ينزلا معا تحت الماء ، ويرى مَن منهما أطول نفسا .
(1/1349)
إذن فالفطن الكيّس هو من يتمرس على هذا العمل ولا ينزل إلى الماء في نفس متردد ، بل يأخذ كمية من الهواء بشهيق يتسع له تجويف صدره كله ليكون عنده حصيلة يستطيع بها أن يمكث في الماء أطول مدة من الثاني ، أما الذي يغطس وليس عنده هذه الحصيلة ، فسيأخذ مقدار شهيق وزفير فقط " فنافسني " تعني أن نغطس في الماء معا لنرى من منا أطول نفسا . أي أنه قادر على أن يحتفظ بكمية من الهواء تستطيع أن تؤدي وظيفة حياته مدة طويلة ، ولا يمكن أن يتأتى هذا إلا إذا أخذت شهيقاً يملأ الصدر حتى إنك لا تقدر أن تزيد ، ولذلك فالطبيب عندما يريد أن يفحص حالة الرئة يقول للمريض : خذ نفساً طويلاً ، لأنه يريد أن يرى المريض وقدرته .
إذن فالمصابرة تعني إن كان خصمك يصابرك فأنت تصبر وهو يصبر ، فتصبر أنت أكثر ، ولهذا تحتاج المسألة إلى أن يتكاتف المجتمع كله على المصابرة ، ولذلك جاء قول الحق سبحانه وتعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-3 ] .
أي أنك إذا رأيت أخا من إخوانك المؤمنين يخور ويضعف في مصابرته فتحثه على المصابرة وقل له : إياك أن تخور ، لماذا؟ لأن النفس البشرية من الأغيار ، وقد يأتي لها حدث يقوى عليها ، فالمؤمن الذي ليس عنده هذه الأغيار ينفخ بالعزيمة فيمن يخور فقال الحق : " تواصوا " ، ولم يقل : جماعة يوصون جماعة ، لا . " فالتواصي " أن تكون أنت مرة موصِياً ، ومرة مُوصىً ، فساعة لا يكون عندك ضعف الأغيار فَوصِّ ، وساعة يكون عندك ضعف الأغيار تُوَصىَّ ، فكل واحد موصٍ في وقت ، ومُوصىً في وقت آخر ، ولا نتواصى هذه التوصية على الصبر إلا إذا كنا تواصينا أولا على الحق الذي من أجله نشأت المعركة بين صابر وصابر .
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وعرفنا الصبر ، وعرفنا المصابرة ، فما هو الرباط؟ هو أن تشعر عدوك بأنك مستعد دائما للقائه ، هذا هو معنى الرباط . والحق يقول : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] .
إنها خيل مربوطة للجهاد في سبيل الله مستعدة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خيركم ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها " .
أي أن نكون مستعدين قبل وقوع الهجوم ، وساعة تأتي الأمور الداهمة ننطلق لمواجهتها . ولكن يكون استعدادنا من قبل الأمر الداهم ، ولذلك حين يكون عدوك عالما بأنك مرابط له ومستعد للحركة في أي وقت يرهبك ويخافك ، أما إذا كنت في استرخاء وغفلة؛ فإنه يدهمك ، فإلى أن تستعد يكون قد أخذ منك الجولة الأولى ، إذن فما فائدة الرباط؟
فائدة الرباط أن يُعلم أنك لم تغفل عن عدوك وأنك لن تترك العدة والاستعداد له إلى أن يأتي بالمداهمة ، ولكن تكون أنت مستعدّاً لها في كل وقت ، والرباط لا يكون فقط أن ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوما ماديا ، بل المرابطة تعني : الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل ، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات الإلحاد قبل أن تفد ، لماذا؟
لأن المسألة ليست كلها غزواً بخيل وسلاح وعُدَد ، فقد يكون الغزو بالفكر الذي يتسرب إلى النفوس من حيث لا تشعر ، فإذن لابد أن تكون أيضاً في الرباط الذي يمد المؤمن بقدرة وطاقة المواجهة بحيث إذا جاءت قضية من قضايا الإلحاد التي قد تفد على المؤمنين ، يكون عند كل واحد منهم الحصانة ضدها والقدرة على مواجهتها .
(1/1350)
لقد قلنا : إن آفة المناهج العلمية أنهم أخذوا مناهجهم عن الغرب ، فدرسوا التاريخ كما يدرسه الغرب ، ودرسوا الطبيعة كما يدرسها الغرب ونسوا أن لنا دينا يحمينا من كل هذه الأشياء ، فعندما يأتيني رجل التاريخ بمنهجه من الغرب ، ويقول : إن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان ، هنا يجب أن تكون عندنا مناعة وترابط ، ونقول له : في أي سنة نشأت الثورة الفرنسية؟
لقد نشأت منذ سنوات قليلة ، قد تزيد أو تنقص علىلمائتي سنة ، وأنتم تجهلون أن الدين الإسلامي جاء منذ أربعة عشر قرنا بحقوق الإنسان ، واقرأوا القرآن . فلو أن كل تلميذ حين يسمع أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان ، يقول لهم : لا ، أنت تعلم أن ذلك حدث في القرن السابع عشر لكن لماذا لا تلتفت إلى أنه منذ أربعة عشر قرنا جاء الإسلام بهذا المبدأ والتفت إلى الإساءة في استعمال الحق ، فإذا كنت تجهل تشريع الله فلا يصح أن يؤدي بك هذا الجهل إلى طمس معالم الحق في منهج الله .
وإذا قال دارس للطبيعة : إن الطبيعة أمدت الحيوان الفلاني باللون الذي يناسب البيئة التي يعيش فيها حتى لا يفتك به عدوه وهو بذلك يضلله ، نقول له : إن الطبيعة لا تمد ، الطبيعة ممدة من الله ، لا تقل : إن الطبيعة أمدت . إذن فالرباط لا يكون بقوة عسكرية فحسب بل بالقوة العلمية أيضا ، فخصوم الإسلام قد يئسوا من أن ينتصروا على الإسلام بقوة عسكرية بعد أن كتلوا كل قواهم في الحروب الصليبية ، ولم يبق لهم إلا أن يَدخلوا علينا من خلال مناهجهم ومن خلال المستشرقين هناك ، والمستغربين منا فينقلوا لنا ثقافات أجنبية بعيدة عن منهجنا ، وهم معذورون لأنهم لا يعلمون منهج الله في دين الله ، إذن فالرباط لابد أن يكون أيضاً في رباط الأفكار ، ورباط العلم المادي .
إن خصوم الإسلام يدخلون على الناس من مداخل متعددة فيجب أن ننبه النشء إليها ، يقولون : أوروبا ارتقت حضاريا وأنتم يا مسلمون تخلفتم .
(1/1351)
نقول لهم : هل كان التخلف مقارنا للإسلام؟ لقد كانت الدولة الإسلامية هي الدولة الحضارية الأولى في العالم لمدة ألف سنة ، وأوروبا التي تتشدقون بحضارتها كانت تعيش في العصور المظلمة . إن هؤلاء لم يعرفوا تاريخنا أو هم يتكلمون لأناس لا يعرفون تاريخهم .
إذن فالمرابطة أن توضح أمور دينك توضيحا يقف أمام أي وافدة قبل أن تفد بالعدوان المسلح ، ويجب أن تقف لغزو الأفكار ولهدم المبادئ ، ولذلك قال الحق : " اصبروا " . و " صابروا " . و " رابطوا " ، وجماع كل ذلك " الصبر على " و " الصبر عن " و " الصبر في " ، والمصابرة للعدو والتواصي بالصبر ، والرباط بمعنييه المادي والمعنوي ، أي بالأمور المادية والأمور المعنوية القيمية ، ويختم الحق الآية بقوله : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
ونعرف أنه حين قال لك : " اتق الله " تساوي أن يقول لك : " اتق النار " فمعنى " اتقو الله " : أي اجعلوا بينكم وبين غضب ربكم وقاية . ما هي الوقاية؟ أن تطيع ، وما هي الطاعة؟ أن تنفذ ما أمر ، وأن تنتهي عما نهى . فالذي يفسر التقوى بأنها الطاعة نقول له : نعم لأنها الوسيلة إلى وقايتك من غضب الله وعذابه ، فالذي يفسرها بهذا يفسرها بالوسيلة ، والذي يفسرها بالأخرى يفسرها بالغاية ، فعندما يقال لك : اتق الله ، أي اجعل بينك وبين النار التي هي من جنود الله وقاية ، أي اجعل بينك وبين غضب الله وقاية ، وإذا قال لك : اتَّقِ الله يعني أطعه في أمره وفي نهيه ، فما هي الوسيلة لاتقاء النار واتقاء غضب الله؟ إنها الطاعة ، فمرة تفسر التقوى بالوسيلة ومرة تفسر بالغاية .
وقلنا في قوله : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إن الفلاح إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة في الدنيا : بأن ترتفع كلمة الحق وكلمة الإيمان وتنتصروا ولا أحد يذلكم ولا يجعلكم أحد تابعين له . هذا لون من الفلاح ، ولكن على فرض أنهم فلحوا وضعفتم أنتم ، في فترة من الزمن فثقوا أنكم تعملون لفلاح آخر هو فلاح الآخرة ، وإلا فالذين يخاطبون بهذه الآية قبل أن يدركوا نصرا للإسلام على أعدائه ، يفسرون الفلاح بماذا؟ الذين جاهدوا وتعبوا وعاشوا مضطهدين لا استقرار في حياتهم ، وبعد ذلك ماتوا قبل أن يمكن للإسلام ، كيف يكون فلاحهم؟ إن فلاحهم في الآخرة ، ولذلك تجد الاحتياط في قصة أهل الكهف : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 19-20 ] .
ونلحظ في هذه القصة قوله الحق : { يَرْجُمُوكُمْ } هذه واحدة ، { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } .
إن كانوا يرجمونكم فسينتصرون عليكم في الدنيا ، إنما ستأخذون الآخرة ، وإن ردوكم إلى دينهم ، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة ، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان ، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
(1/1352)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ومعنى { اتقوا رَبَّكُم } أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية ، وماذا أفعل لأتقى ربنا؟
أول التقوى أن تؤمن به إلها ، وتؤمن أنه إله بعقلك ، إنه - سبحانه - يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ } ولم يقل : اتقوا الله ، لأن الله مفهومه العبادة ، فالإله معبود له أوامر وله نواه ، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد ، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية ، والرب هو : المتولى تربية الشىء ، خلقاً من عدم وإمدادا من عدم ، لكن أليس من حق المتولى خلق الشيء ، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة؟
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة . ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو صانع يضع لاختراعه أو للشىء الذي صنعه قانون صيانة ، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم : اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا ، لكى تؤدوا مهمتكم فى الحياة؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } إذن فالمطلوب منهم ان يتقوا ، ومعنى يتقوا ان يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم ، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له؟ هو سبحانه يقول : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } كأن خلقه ربنا لنا مشهود بها ، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له : إنك لم تخلقنا- ولله المثل الأعلى؟
أنت تسمع من يقول لك : أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا ، فأنت مقر بأنه صنع أم لا؟ فإذا أقررت بأنه صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام . إذن فقول الله : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد ، فأراد - سبحانه - أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشىء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه - سبحانه - خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله ، وجاء سبحانه بكلمة " رب " ولم يقل : " اتقوا الله " لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عُدم ، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع ، ولذلك يقول الحق : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ العنكبوت : 61 ] إذن فقضية الخلق قضية مستقرة . ومادامت قضية مستقرة فمعناها : مادمتم آمنتم بأنى خالقكم فلى قدرة إذن ، هذه واحدة ، وربيتكم إذن فلى حكمة ، وإله له قدرة وله حكمة ، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به ، { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } .
(1/1353)
لو لم يقل الحق : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } لما كملت ، لماذا؟ لأنه سيقول فى آيات آخرى عن الإيجاد : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون } [ الذاريات : 49 ] إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا ، والناس تريد أن تدخل فى متاهة . هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أى من نفس آدم؟ أناس قالوا ذلك ، وأناس قالوا : لا ، { مِنْهَا } تعني من جنسها ، ودللوا على ذلك قائلين : حين يقول الله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] أأخذالله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه؟ لا ، إنما هو رسول من جنسنا البشرى ، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه ، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا ، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول ، وبعد ذلك تكون حواء مثله ، فيكون قوله سبحانه : { خَلَقَ مِنْهَا } أي من جنسها ، خلقها من طين ثم صورها إلخ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها فى آدم ، أو المراد من قوله : { مِنْهَا } أى من الضلع ، وهذا شيء لم نشهد أوله ، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده ، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة ، مسألة كيف خُلقنا ، وكيف جئنا؟
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها ، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي؛ ولذلك عندما جاء " دارون " وأراد أن يتكبر ويتكلم ، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه ، قالت النظرية الحديثة لدارون : إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا ، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود؟! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون؛ لذلك نقول : هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل ، والحق سبحانه يقول : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } [ الكهف : 51 ] وما دام لم يشهدهم ، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها ، وبعد ذلك يرد على من يجىء بادعاء علم فيقول : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا } معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق . كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا } فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق ، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق .
(1/1354)
فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم ، ولكن من يقول كذا وكذا ، هم المضللون ، و " المضللون " هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل . { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه عندما يُردّ الشىء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى ، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط ، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة ، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة ، أما عن نظرية " دارون " وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن ، فقام العالم الفرنسي " مونيه " عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل الإنسان كذا وكذا ، وقال : أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير ، هل توجد المصادفة ما نسميه " ذكرا " ثم توجد المصادفة شخصا نسميه " أنثى " ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني؟
كيف تفعل المصادفة هذه العملية؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم ، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه . ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز ، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشىء ذكرا كالأول أو ينشىء أنثى كالثاني؟ أى مصادفة هذه؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة ، سموها مصادفة ونحن نسميها الله .
لقد ظن " مونيه " -هداه الله إلى الإسلام وغفر له - أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون ، نقول له : إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وهذه هى العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى؛ وهى من جنسه ، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما لاجالا ونساء . إذن فهو عملية مقصودة ، وعناية وغاية وحكمة ، إذن فقول الله سبحانه وتعالى : { الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } هذه جاءت بالدليل الذي هُدى إليه العالم الفرنسى " مونيه " أخيرا . { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } وانظروا عظمة الأسلوب في قوله { وَبَثَّ } أى " نشر " وسنقف عند كلمة " نشر " لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض ، كى يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا .
و " النشر " معناه تفريق المنشور في الحيز ، فهناك شىء مطوى وشىء آخر منشور ، والشىء المطوى فيه تجمع ، والشىء المنشور فيه تفريق وتوزيع ، إذن فحيز الشىء المتجمع ضيق ، وحيز الشىء المبثوث واسع ، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول { وَبَثَّ مِنْهُمَا } أى من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } واكتفى بأن يقول { َنِسَآءً } ولم يقل : كثيرات لماذا؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة .
(1/1355)
وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل ، تجد كم ذكرا من النخيل ، وكم أنثى؟ ستجد ذكراً أو اثنين .
إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا ، فإذا قال الله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً } فالذكورة هى العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا ، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة؟ لابد أن يكون أكثر ، والقرآن يأتى لينبهك إلى المعطيات فى الألفاظ لأن المتكلم هو الله ، ولكن إذا نظرت لقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا } أى من آدم وحواء وهما اثنان { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة .
ونريد أن نفهم هذه كى نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق ، فهو { بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } والجمع البشرى الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر . . وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا ، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة ، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن ، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين ، ومن قرنين كان أقل عددا ، ومن عشرة قرون كان أقل ، ومن عشرين قرنا كان أقل ، إذن فكلما امتد بك المستقبل بالتعداد يزيد ، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالاً كثيراً ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر .
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان ، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة ، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم ، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاد وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى احفاد الأحفاد . إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل؛ فالذين كانوا مليوناً من قرن كانوا نصف مليون من قرنين ، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط ، والعشرة كانوا أربعة ، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء .
فعندما يقول الحق : إنه خلق آدم وحواء ، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما ، ومادام التكاثر ينشأ من الاثنين ، فمن أين جاءا؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء . وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كى تحل لنا اللغز في الإحصاء ، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين ، وإياك أن تقول إلى واحد ، لأن واحداً لا يأتي منه تكاثر ، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء الاثنان؟ لابد أن أحداً خلقهما ، وهو قادر على هذا ، ويعلمنا الله ذلك فيقول : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } ونأخذ من { َبَثَّ } " الانتشار " ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول : نسلسل الخلق حتى يصيروا اثنين ، والاثنان هذان كيف جاءا؟ -إذن لابد أ ، نؤمن بأن أحدا قد أوجدهما من غير شىء .
(1/1356)
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً } لأن النشر في الأرض يجب أن يكون خاصا بالرجل ، فالحق يقول : { فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] والحق يقول : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه } [ الملك : 15 ] والأنثى تجلس في بيتها تديره لتكون سكنا يسكن إليها ، والرجل هو المتحرك في هذا الكون ، وهي بذلك تؤدي مهمتها .
وبعدما قال : { اتقوا رَبَّكُمُ } يقول : { اتقوا الله } لقد قدم الدليل أولا على أنه إله قادر ، وخلقكم من عدم وأمدكم وسخر العالم لخدمتكم ، وقدم دليل البث فى الكون المنشور الذى يوضح أنه إله ، فلا بد أن تتلقوا تعليماته ، ويكون معبودا منكم ، أى مطاعا ، والطاعة تتطلب منهجا : افعل ولا تفعل ، وأنزل الحق القرآن كمنهج خاتم ، ويقول : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ } .
انظر إلى " القفشة " ، للخلق الجاحد ، إنه - سبحانه- بعد أن أخذهم بما يتعاملون ويتراحمون ويتعاطفون به أوضح لهم : - أنتم مع أنكم كنتم على فترة من الرسل إلا أن فطرتكم التي تتغافلون عنها تعترف بالله كخالق لكم .
وأنت إذا أردت إنقاذ أمر من الأمور ، وتريد أن تؤثر على من تطلب منه أمراً ، تقول : سألتك بالله أن تفعل ذلك ، لقد أخذ منهم الدليل ، فكونك تقول : سألتك بالله أن تفعل ذلك فلا بد أنك سألته بمعظّم ، إذن فتعظيم الله أمر فطري في البشر ، والمطموس هو المنهج الذي يقول : افعل ولا تفعل . والإنسان من هؤلاء الجاحدين عندما يسهو ، ويطلب حاجة تهمه من آخر ، فهو يقول له : سألتك بالله أن تفعل كذا . ومادام قد قال : سألتك بالله فكأن هناك قضية فطرية مشتركة هي أن الله هو الحق ، وأنه هو الذي يُسأل به ، ومادام قد سئل بالله فلن يخيّب رجاء من سأله .
إنه في الأمور التي تريدون بها تحقيق مسائلكم تسألون بالله وتسألون أيضا بالأرحام وتقولون : بحق الرحم الذي بيني وبينك ، أنا من أهلك ، وأنا قريبك وأمُّنا واحدة ، أرجوك أن تحقق لي هذا الأمر . ولماذا جاءت { الأرحام } هنا؟ لأن الناس حين يتساءلون بالأرحام فهم يجعلون المسئولية من الفرد على الفرد طافية في الفكر ، فمادمت أنا وأنت من رحم واحد ، فيجب أن تقضى لي هذا الشىء . إذن فمرة تسألون بالله الذي خلق ، ومرة تسألون بالأرحام لأن الرحم هو السبب المباشر في الوجود المادي ، ومثال ذلك قول الحق :
(1/1357)
{ واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً } [ النساء : 36 ] لقد جاء لنا بالوالدين اللذين هما السبب في ايجادنا ، والله يريد من كل منا أن يبر والديه ، ولكن قبل ذلك لابد أن ينظر إلى الذي أوجدهما ، وأن يُصعد الأمر قليلا ليعرف أن الذي أوجدهما هو الله سبحانه .
ويختم الحق الآية بقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } لأن كلمة { اتقوا } تعني اجعل بينك وبين غضب ربك وقاية بإنفاذ أوامر الطاعة ، واجتناب ما نهى الله عنه { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ، والرقيب من " رقب " إذا انظر ويقال : " مرقب " ، ونجد مثل هذا المرقب في المنطقة الت تحتاج إلى حراسة ، حيث يوجد " كشك " مبنى فوق السور ليجلس فيه الحارس كى يراقب . ومكان الحراسة يكون أعلى دائما من المنطقة المحروسة ، وكلمة " رقيب " تعني ناظرا عن قصد أن ينظر ، ويقولون : فلان يراقب فلانا أى ينظره ، صحيح أن هناك من يراه ذاهبا وآتيا من غير قصد منهم أن يروه ، لكن إن كان مراقبا ، فمعنى ذلك أن هناك من يرصده وسبحانه يقول : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } فليس الله بصيرا فقط ولكنه رقيب أيضا - ولله - المثل الأعلى .
نحن نجد الإنسان قد يبصر مالا غاية فى إبصاره ، فهو يمر على كثر من الأشياء قيبصرها ، لكنه لا يرقب إلا من كان فى باله . والحق سبحانه رقيب علينا جميعا كما في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] وبعد أن تكلم سبحانه عن خلقنا أبا وأما وأنه بث منهما رجالا كثيرا ونساء ، أراد أن يحمى هذه المسألة وأن يحمى المبثوث . والمبثوث قسمان : قسم اكتملت له القوة وأصبحت له صلاحية فى أن يحقق أموره النفعية بذاته ، وقسم ضعيف ليست له صلاحية فى أن يقوم بأمر ذاته ، ولأنه سبحانه يريد تنظيم المجتمع؛ لذلك لابد أن ينظر القادرون في المجتمع إلى القسم الضعيف فى المجتمع ، ومن القسم الضعيف الذى يتكلم الله عنه هنا؟ إنهم اليتامى ، لماذا؟
لأن الحق سبحانه حينما خلقنا من ذكر وأنثى ، آدم وحواء ، جعل لنا أطوارا طفولية ، فالأب يكدح والأم تحضن ، ويربيان الإنسان التربية التي تنبع من الحنان الذاتى ونعرف أن الحنان الذاتى والعاطفة يوجدان فى قلب الأبوين على مقدار حاجة الابن اليهما ، الصغير عادة يأخذ من حنان الأب والأم أكثر من الكبير ، وهذه عدالة فى التوزيع ، لأنك إذا نظرت إلى الولد الصغير والولد الكبير والولد الأكبر ، تجد الأكبر أحظهم زمنا مع أبيه وأمه والصغير أقلهم زمنا ، فيريد الحق أن يعوض الصغير فيعطى الأب والأم شحنة زائدة من العاطفة تجاهه ، وأيضا فإن الكبير قد يستغنى والصغير مازال في حاجة ، ولذلك قال سبحانه فى أخوة يوسف : { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ }
(1/1358)
[ يوسف : 8 ] أى أنهم أقوياء وظنوا أنه يجب على أبيهم أن يحب الأقوياء . وهذا الظن دليل على أن الأب كان يعلم أنهم عصبة لذلك كان قلبه مغ غير العصبة ، وهذا هو الأمر الطبيعي ، فهم جاءوا بالدليل الذى هو ضدهم .
إذن فحين يوجد الناشىء الذى يحتاج إلى أن يربى التربية التي يعين عليها الحنان والعطف ، فلا بد من أن نأتى لليتيم الذى فقد الحنان الأساسى ونقنن له ، ويأتى الحق سبحانه وتعالى ليوزع المجتمع الإنسانى قطاعات ، ويحمل كل واحد القطاع المباشر له ، فإذا حمل كل واحد منا القطاع المباشر له تتداخل العنايات في القطاعات ، هذا سيذهب لأبيه وأمه ولأولاد أخيه ، وهذا كذلك ، فتتجمع الدوائر . وبعد ذلك يعيش المجتمع كله في تكافل ، وهو سبحانه يريد أن يجعل وسائل الحنان ذاتية فى كل نفس ، ومادام اليتيم يقيم معنا كفرد فلا بد من العناية له .
إن اليتيم فرد فقد العائل له ولذلك يقولون : " درة يتيمة " أى وحيدة فريدة ، وهكذا اليتيم وحيد فريد ، إلا أنهم جاءوا فى الإنسان وفى الأنعام وفى الطير وقالوا : اليتيم فى الإنسان من فقد أباه ، واليتيم فى الأنعام من فقد أمه ، لماذا؟ لأن الأنعام طلوقة تلقح الذكور فيها الإناث وتنتهى . والأم هى التى تربى وترضع؛ فإذا جاء أحد آخر يمسها تنفر منه .
أما اليتيم فى الطير فمن فقدهما معا . فالطير عادة الزوج منها يألف الآخر؛ ولذلك يتخذان عشا ويتناوبان العناية بالبيض ويعملان معا ففيه حياة أسرية ، والحق سبحانه وتعالى جاء فى اليتيم الذى هو مظهر الضعف فى الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له فقال : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ . . . }
(1/1359)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
وكيف نؤتى اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد ، ونخشى أ ، نعطيه المال فيضيعه؟
انظر الى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] وقبل ذلك ماذا نفعل؟ هل ندفع لهم الأموال؟ الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطى هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه كاملا ، فأنت حفيظ على هذا المال ، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه ، أى تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة .
إذن فقوله : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } أى أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة ، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا { وابتلوا اليتامى } فهناك أناس يريدون أن يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم ، لكى ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه : لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره ، لا . أنت تدربه بالتجربة فى بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا؟
إن قول الحق { وابتلوا اليتامى } أى اختبروهم ، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف ، أعطوهم أموالهم بعد التجربة؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمرى ، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه ، فالسفيه لا يعانى من قصور عمرى بل من قصور عقلى ، وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ] فهل هى أموالكم؟ لا . فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه ، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف فى المال تصرفا حكيما ، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف . لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق : { فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] إنه سبحانه يقول مرة فى الوصاية : { أَمْوَالَكُمُ } وفى العطاء يقول : { أَمْوَالَهُمْ } إذن فهو يريد ألا تبدد المال ، ثم يوضح . احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك ، لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك ، والمال ليس ملكا لك . خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم ، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول : { وارزقوهم فِيهَا } [ النساء : 5 ] اجعلوا الزرق مما يخرج منها ، وإياكم أن تبقوها عندكم ، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم؟ إنك تثمر له المال لا أن تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم ، لا .
(1/1360)
{ وارزقوهم فِيهَا } ، و { فى } هنا للسببية ، أي ارزقوهم بسببها ، ارزقوهم رزقا خارجا منها .
{ وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، فقد يكون ضمن مال اليتيم شىء جميل ، فيأخذه الوصى لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح ، مثال ذلك ، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل ، وعند الوصى فرس قبيح فيأخذه ويقول : فرس بفرس ، أو جاموسة مكان جاموسة ، ؟ أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر ، هنا يقول الحق : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } .
وقوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } يعنى إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك ، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا؟ تأتى الاجابة : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } أى إثما فظيعا .
ثم يتنقل الحق إلى قضية آخرى يجتمع فيها ضعف اليتم ، وضعف النوع : ضعف اليتم سواء أكان ذكرا أم أنثى ، وإن كانت أنثى فالبلوى أشد؛ فهى قد اجتمع عليها ضعف اليتم وضعف النوع ، طبعا فاليتيمة عندما تكون تحت وصاية وليها ، يجوز أن يقول : إنها تملك مالا فلماذا لا أتزوجها لكي آخذ المال؟ وهذا يحدث كثيرا .
ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ . . . } .
(1/1361)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى . فاليتيم مظنة أن يظلم لضعفه ، وبخاصة إذا كان أنثى . إن الظلم بعامة محرم فى غير اليتامى ، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير ، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها ، فالبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها . وقوله الحق : { وإن خفتم ألا تقسطوا } من " أقسط " أي عدل ، والقسط من الألفاظ التى تختلط الأذهان فيها ، و " القسط " مرة يطلق ويراد به " العدل " إذا كان مكسور القاف ، ولذلك يأتى الحق سبحانه فيقول : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } وهكذا نعرف أن كلمة " قسط " تأتى مرة للعدل ومرة للجور .
ف " قسط " " يقسط " " قسطا " و " قسوطا " أي ظلم بفتح القاف فى " قسط " وضمها فى " قُسوط " .
والقسط بكسر القاف هو العدل . والقسط بفتح القاف- كما قلنا -هو الظلم وهناك مصدر ثان هو " قسوط " لكن الفعل الواحد ، وعندما يقول الحق : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } من أقسط . أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم . وهناك فى اللغة ما نسميه همزة الإزالة ، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله ، مثال ذلك : فلان عتب على فلان ، أي لامه على تصرف ما ، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد على صاحب العتاب : أعتبه ، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب .
ويقال : محمد عتب على علىّ . فماذا كان موقف علىّ؟ يقال : أعتب محمدا أي طيبب خاطره وأزال العتاب . ويقال أعجم الكتاب . فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما ، لا ، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه . كذلك " أقسط " أي أزال القسط والظلم . إذن " القسط " هو العدل من أول الأمر ، لكن " أقسط . إقساطا " تعنى أنه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه . والأمر ينتهي جميعه إلى العدل . فالعدل إن جاء ابتداء هو : قسط بكسر القاف . وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط . فحين يقال " أقسط " و " تقسطوا " بالضم فمعناها أنه كان هناك جور وظلم تم رفعه ، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ]
والقاسطون هنا من القسط - بالفتح - ومن القسوط بالضم ، أي من الجور والظلم ، ونجد القرآن الكريم يقول أيضاً : { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ المائدة : 42 ] أى أن الله يجب الذين إن رأوا ظلما أزالوه وأحلوا محله العدل .
الحق هنا فى سورة النساء يقول : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } أى إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى ، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل .
(1/1362)
أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها . وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء .
ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا ، فهو لم يقل : اترك واحدة وخذ واحدة ، لكنه أوضح : اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات . إذن فقد ناسب الحال أن تجىء مسألة التعدد هنا ، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن ، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة؛ لأن النساء غيرها كثيرات . { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } .
وقوله الحق : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } أى غير المحرمات فى قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ النساء : 22 ] وفي قوله سبحانه : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 23 ] إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } وهنا يجب أن نفهم لماذا جاء هذا النص؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا؟
إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتى إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها ، فأوضح سبحانه : اترك اليتيمة ، والنساء غيرها كثير ، فأمامك مثنى وثلاث ورباع ، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أن ناظرا في ضعفها أو لأنها لم يعد لها وليّ يقوم على شأنها غيرك .
ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ما معنى مثنى؟ يقال " مثنى " أي اثنين مكررة ، كأن يقال : جاء القوم مثنى ، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين . هذا يدل على الوحدة الجائية .
ويقال : جاء القوم ثلاث ، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة؛ ثلاثة . ويقال : جاء القوم رباع .
(1/1363)
أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى .
ولو قال واحد : إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء . نقول له : لو حسبنا بمثل ما تحسب ، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله ، فالمثنى تعني أربعة ، والثلاث تعني ستة ، والرباع تعني ثمانية ، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر ، ولكنك لم تفهم ، لأن الله لا يخاطب واحدا ، لكن الله يخاطب جماعة ، فيقول : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاع } .
فإذا قال مدرس لتلاميذه : افتحوا كتبكم ، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب؟ إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه ، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا .
وعندما يقول المدرس : أخرجوا أقلامكم . أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه .
وعندما يقال : اركبوا سياراتكم ، أي أن يركب كل واحد سيارته . إذن فمقابله الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا ، وقوله الحق : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } هو قول يخاطب جماعة ، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء ، وثالث ينكح أربع نساء .
والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة ، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل ، ولكنه أباح للرجل ذلك ، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة . والزواج نفسه حتى من واحدة مباح . إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل . وحين يبيح الله لك أن تفعل ما المرجح في فعلك؟ إنه مجرد رغبتك .
ولكن إذا أخذت الحكم ، فخذ الحكم من كل جوانبه ، فلا تأخذ الحكم ، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة ، وإلا سينشأ الفساد في الأرض ، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله . لماذا؟ لأنك إن أخذت التعدد ، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم ، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل ، فالناس تجنح أمام التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة .
والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله ، فلماذا تكره الزوجة التعدد؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة ، لذلك فلا بد للمرأة أن تكره زواج الرجل عليها بإمرأة أخرى .
إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يلزموا أنفسهم بحكم الله أيضا في العدالة ، فإن لم تفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله ، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد ، وسيقال : انظر ، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى ، أو ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة .
(1/1364)
فكيف نأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر ، إن من يفعل ذلك يشكك الناس في حكم الله ، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله - والسطحيون في الفهم يقولون : إنهم معذورون ، وهذا منطق لا يتأتى .
إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها ، والذي يأخذ حكماً عن الله لابد أن يأخذ كل منهج الله .
هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على اخرى ، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس . أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض ، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد . والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار . أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها .
ومن السطحيين من يقول : إن الله قال : اعدلوا ، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل . نقول لهم : بالله أهذا تشريع؟ ، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 129 ] وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه ، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه . فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر . فكل حق لك هو واجب عند غيرك ، فإن أردت أن تأخذك حقك فأدّ واجبك . والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل ، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله ، وتغيير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر .
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان ، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى ، وفي الزمان ، وفي متاع المكان ، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه ، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة ، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى ، يأتي مثلا ببجامة " منامة " صوف ويضعها عند واحدة ، ويأتي بأخرى عند قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة ، لا . لا بد من المساواة ، لا في متاعها فقط ، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها ، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته ، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد ، وذلك حتى لا تدل واحدة منهن على الأخرة قائلة : إن زوجي يكون عندي أحسن هنداما منه عندك .
(1/1365)
والعدالة المطلوبة - أيضا - هي العدالة فيما يدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها ، فأنت عدلت في المكان ، وفي الزمان ، وفي المتاع لكل واحدة ، وفي المتاع لك عند كل واحدة ، ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك وحب نفسك؛ لأن ذلك ليس في مكنتك .
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا هذا فيقول : عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني القلب " .
إذن فهذا معنى قول الحق : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] لأن هناك أشياء لا تدخل في قدرتك ، ولا تدخل في اختيارك ، كأن ترتاح نفسيا عند واحدة ولا ترتاح نفسيا عند أخرى ، أو ترتاح جنسيا عند واحدة ولا ترتاح عند أخرى ، لكن الأمر الظاهر للكل يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية حتى لا تدل واحدة على واحدة . وإذا كان هذا في النساء المتعددات - وهن عوارض - حيث من الممكن أن يخرج الرجل من أي إمرأة - بطلاق أو فراق فما بالك بأولادها منه؟ لا بد أيضا من العدالة .
والذي يفسد جو الحكم المنهجي لله أن أناسا يجدون رجلا عّدد ، فأخذ إباحة الله في التعدد ، ثم لم يعدل ، فوجدوا أبناءه من واحدة مهملين مشردين ، فيأخذون من ذلك حجة على الإسلام . والذين حاولوا أن يفعلوا ما فعلوا في قوانين الأحوال الشخصية إنما نظروا إلى ذلك ، التباين الشديد الذي يحدثه بعض الآباء الحمقى نتيجة تفضيل أبناء واحدة على أخرى في المأكل والملبس والتعليم! إذن فالمسلم هو الذي يهجر دينه ويعرضه للنقد والنيل من أعدائه له . فكل إنسان مسلم على ثغرة من ثغرات دين الله تعالى فعليه أن يصون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته من أي انحراف أو شطط؛ لأن كل مسلم بحركته وبتصرفه يقف على ثغرة من منهج الله ، ولا تظنوا أن الثغرات فقط هي الشيء الذي يدخل منه أعداء الله على الأرض كالثغور ، لا ، الثغرة هي الفجوة حتى في القيم يدخل منها خصم الإسلام لينال من الإسلام .
إنك إذا ما تصرفت تصرفا لا يليق فأنت فتحت ثغرة لخصوم الله . فسدّ كل ثغرة من هذه الثغرات ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد توسع في العدل بين الزوجات توسعا لم يقف به عند قدرته ، وإن وقف به عند اختياره ، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين مرض كان من الممكن أن يعذره المرض فيستقر في بيت واحدة من نسائه ، ولكنه كان يأمر بأن يحمله بعض الصحابة ليطوف على بقية نسائه في أيامهن فأخذ قدرة الغير .
(1/1366)
وكان إذا سافر يقرع بينهن ، هذه هي العدالة .
وحين توجد مثل هذه العدالة يشيع في الناس أن الله لا يشرع إلا حقا ، ولا يشرع إلا صدقا ، ولا يشرع إلا خيرا . ويسد الباب على كل خصم من خصوم دين الله ، حتى لا يجد ثغرة ينفذ منها إلى ما حرم دين الله ، وإن لم يستطع المسلم هذه الاستطاعة فليلزم نفسه بواحدة . ومع ذلك حين يلزم المسلم نفسه بزوجة واحدة ، هل انتفت العدالة مع النفس الواحدة؟ لا ، فلا يصح ولا يستقيم ولا يحل أن يهمل الرجل زوجه . ولذلك حينما شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن زوجها لا يأتي إليها وهي واحدة وليس لها ضرائر ، فكان عنده أحد الصحابة ، فقال له : أفتها " أي أعطها الفتوى " .
قال الصحابي : لك عنده أن يبيت عندك الليلة الرابعة بعد كل ثلاث ليال .
ذلك أن الصحابي فرض أن لها شريكات ثلاثا ، فهي تستحق الليلة الرابعة . وسُر عمر - رضي الله عنه - من الصحابي؛ لأنه عرف كيف يفتي حتى في أمر المرأة الواحدة .
إذن قول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } [ النساء : 129 ] أي لا تظنوا أن المطلوب منكم تكليفيا هو العدالة حتى في ميل القلب وحبه ، لا . إنما العدالة في الأمر الاختياري ، ومادام الأمر قد خرج عن طاقة النفس وقدرتها فقد قال - سبحانه - : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } ويأخذ السطحيون الذين يريدون أن يبرروا الخروج عن منهج الله فيقولوا : إن المطلوب هو العدل وقد حكم الله أننا لا نستطيع العدل .
ولهؤلاء نقول : هل يعطي ربنا باليمين ويأخذ بالشمال؟ فكأنه يقول : اعدلوا وأنا أعلم أنكم لن تعدلوا؟ فكيف يتأتى لكم مثل هذا الفهم؟ إن الحق حين قال : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي لا يتعدى العدل ما لا تملكون من الهوى والميل؛ لأن ذلك ليس في إمكانكم ، ولذلك قال : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } .
نقول ذلك للذين يريدون أن يطلقوا الحكم غير واعين ولا فاهمين عن الله ، ونقوله كذلك للفاهمين الذين يريدون أن يدلسوا على منهج الله ، وهذه المسألة من المسائل التي تتعرض للأسرة ، وربها الرجل . فهب أن رجلا ليس له ميل إلى زوجته ، فماذا يكون الموقف؟ أمن الأحسن أن يطلقها ويسرحها ، أم تظل عنده ويأتي بامرأة تستطيع نفسه أن ترتاح معها؟ أو يطلق غرائزه في أعراض الناس؟
إن الحق حينما شرع ، إنما شرع دينا متكاملا ، لا تأخذ حكما منه لتترك حكما آخر .
(1/1367)
والأحداث التي أرهقت المجتمعات غير المسلمة ألجأتهم إلى كثير من قضايا الإسلام . وأنا لا أحب أن أطيل ، هناك بعض الدول تكلمت عن إباحة التعدد لا لأن الإسلام قال به ، ولكن لأن ظروفهم الاجتماعية حكمت عليهم أنه لا يحل مشاكلهم إلا هذا ، حتى ينهو مسألة الخليلات . والخليلات هنّ اللائي يذهب إليهن الرجال ليهتكوا اعراضهن ويأتوا منهن بلقطاء ليس لهم أب .
إن من الخير أن تكون المرأة الثانية ، امرأة واضحة في المجتمع . ومسألة زواج الرجل منها معروفة للجميع ، ويتحمل هو عبء الأسرة كلها . ويمكن لمن يريد أن يستوضح كثيرا من أمر هؤلاء الناس أن يرجع إلى كتاب تفسير في هذا الموضوع للدكتور محمد خفاجة حيث أورد قائمة بالدول وقراراتها في إباحة التعدد عند هذه الآية .
وهنا يجب أن ننتبه إلى حقيقة وهي : أن التعدد لم يأمر به الله ، وإنما أباحه ، فالذي ترهقه هذه الحكاية لا يعدد ، فالله لم يأمر بالتعدد ولكنه أباح للمؤمن أن يعدد . والمباح أمر يكون المؤمن حرا فيه يستخدم رخصة الإباحة أو لا يستعملها ، ثم لنبحث بحثا آخر . إذا كان هناك تعدد في طرف من طرفين فإن كان الطرفان متساويين في العدد ، فإن التعدد في واحد لا يتأتى ، والمثل هو كالآتي :
إذا دخل عشرة أشخاص حجرة وكان بالحجرة عشرة كراسي فكل واحد يجلس على كرسي ، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يأخذ واحد كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليمد عليه ساقيه ، لكن إذا كان هناك أحد عشر كرسيا ، فواحد من الناس يأخذ كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليستند عليه ، إذن فتعدد طرف في طرف لا ينشأ إلا من فائض . فإذا لم يكن هناك فائض ، فالتعدد - واقعا - يمتنع ، لأن كل رجل سيتزوج امرأة واحدة وتنتهي المسألة ، ولو أراد أن يعدد الزواج فلن يجد .
إذن فإباحة التعدد تعطينا أن الله قد أباحه وهو يعلم أنه ممكن لأن هناك فائضا . والفائض كما قلنا معلوم ، لأن عدد ذكور كل نوع من الأنواع أقل من عدد الإناث . وضربنا المثل من قبل في النخل وكذلك البيض عندما يتم تفريخه؛ فإننا نجد عددا قليلا من الديوك والبقية إناث . إذن فالإناث في البنات وفي الحيوان وفي كل شيء أكثر من الذكور .
وإذا كانت الإناث أكثر من الذكور ، ثم أخذ كل ذكر مقابله فما مصير الأعداد التي تفيض وتزيد من الإناث؟ إما أن تعف الزائدة فتكبت غرائزها وتحبط ، وتنفس في كثير من تصرفاتها بالنسبة للرجل وللمحيط بالرجل ، وإما أن تنطلق ، تنطلق مع من؟ إنها تنطلق مع متزوج . وإن حدث ذلك فالعلاقات الاجتماعية تفسد .
ولكن الله حين أباح التعدد أراد أن يجعل منه مندوحة لامتصاص الفائض من النساء؛ ولكن بشرط العدالة .
(1/1368)
وحين يقول الحق : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة } أي إن لم نستطع العدل الاختياري فليلزم الإنسان الواحدة .
وبعد ذلك يقول الحق : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
وهناك من يقف عند { مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ويتجادل ، ونطمئن هؤلاء الذين يقفون عند هذا القول ونقول : لم يعد هناك مصدر الآن لملك اليمين؛ لأن المسلمين الآن في خنوع ، وقد اجترأ عليهم الكفار ، وصاروا يقتطعون دولا من دولهم . وما هبّ المسلمون ليقفوا لحماية أرض إسلامية . ولم تعد هناك حرب بين مسلمين وكفار ، بحيث يكون فيه أسرى ، و " ملك اليمين " .
ولكنا ندافع عنه أيام كان هناك ملك يمين . ولنر المعنى الناضج حين يبيح الله متعة السيد بما ملكت يمينه ، انظر إلى المعنى ، فالإسلام قد جاء ومن بين أهدافه أن يصفي الرقّ ، ولم يأت ليجىء بالرق .
وبعد أن كان لتصفية الرق سبب واحد هو إرادة السيد . عدد الإسلام مصاريف تصفية الرق؛ فارتكاب ذنب ما يقال للمذنب : اعتق رقبة كفارة اليمين . وكفارة ظهار فيؤمر رجل ظاهر من زوجته بأن يعتق رقبة وكفارة فطر في صيام ، وكفارة قتل . . الخ . . إذن فالإسلام يوسع مصارف العتق .
ومن يوسع مصارف العتق أيريد أن يبقى على الرق ، أم يريد أن يصفيه ويمحوه؟
ولنفترض أن مؤمنا لم يذنب ، ولم يفعل ما يستحق أن يعتق من أجله رقبة ، وعنده جوار ، هنا يضع الإسلام القواعد لمعاملة الجواري :
-إن لم يكن عندك ما يستحق التكفير ، فعليك أن تطعم الجارية مما تأكل وتلبسها ما يلبس أهل بيتك ، لا تكلفها ما لا تطيق ، فإن كلفتها فأعنها ، أي فضل هذا ، يدها بيد سيدها وسيدتها ، فما الذي ينقصها؟ إن الذي ينقصها إرواء إلحاح الغريزة ، وخاصة أنها تكون في بيت للرجل فيه امرأة ، وتراها حين تتزين لزوجها ، وتراها تخرج في الصباح لتستحم ، والنساء عندهن حساسية لهذا الأمر ، فتصوروا أن واحدة مما ملكت يمين السيد بهذه المواقف؟ ألا تهاج فيها الغرائز؟
حين يبيح الله للسيد أن يستمتع بها وأن تستمتع به ، فإنه يرحمها من هذه الناحية ويعلمها أنها لا تقل عن سيدتها امرأة الرجل فتتمتع مثلها . ويريد الحق أيضا أن يعمق تصفية الرق ، لأنه إن زوجها من رجل رقيق فإنها تظل جارية أمة ، والذي تلده يكون رقيقا ، لكن عندما تتمتع مع سيدها وتأتي منه بولد ، فإنها تكون قد حررت نفسها وحررت ولدها ، وفي ذلك زيادة في تصفية الرق ، وفي ذلك إكرام لغريزتها . لكن الحمقى يريدون أن يؤاخذوا الإسلام على هذا!!
يقول الحق : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } فالعدل او الاكتفاء بواحدة او ما ملكت اليمين ، ذلك أقرب ألا تجوروا . وبعض الناس يقول : { أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } أي ألا تكثر ذريتهم وعيالهم . ونقول لهم : إن كان كذلك فالحق أباح ما ملكت اليمين ، وبذلك يكون السبب في وجود العيال قد اتسع أكثر ، وقوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } أي أقرب ألا تظلموا وتجوروا ، لأن العول فيه معنى الميل ، والعول في الميراث أن تزيد أسهم الأنصباء على الأصل ، وهذا معنى عالت المسألة ، وإذا ما زاد العدد فإن النصيب في التوزيع ينقص .
وبعد ذلك يقول الحق : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ . . . } .
(1/1369)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
والمقصود ب { صَدُقَاتِهِنَّ } هو المهور ، و { نِحْلَةً } هي العطية ، وهل الصداق عطية؟ لا . إنه حق وأجر بضع . ولكن الله يريد أن يوضح لنا : أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة ، أي وازع دين لا حكم قضاء ، والنحلة هي العطية .
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإليهي للمعاني ، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي :
الرجل يتزوج المرأة ، وللرجل في المرأة متعة ، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك ، وفي رغبة الانجاب ، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا ، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها ، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت ، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة } والأمر في { َآتُواْ } لمن؟ إما أن يكون للزوج فقوله : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ } يدل صارت زوجة الرجل ، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون أن يكون دينا على أن المرأة إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره ، وإمّا أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا ، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها ، والأمر في هذه الآية - إذن - إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء . وحين يُشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل .
لذلك يقول : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } .
لقد عرّف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع . ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر ، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية وأن يؤدم بينهما . والمراد هنا هو طيب النفس ، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحت ولايتك بسبب الحياء ، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس . { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك . لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية . إنه هنيء لكنه غير مريء . والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة . وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج .
إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا . وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا .
والإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - جاء له رجل يشتكي وجعا ، والإمام عليّ - كما نعرف - مدينة العلم والفتيا ، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى .
لم يكن الإمام عليّ طبيبا . لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام عليّ وإشراقاته .
(1/1370)
قال الإمام عليّ للرجل : خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا ، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته - أي قريب عهد بالله - واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً } [ ق : 9 ] .
وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } [ النحل : 69 ] وسمعته يقول في مهر الزوجة : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله . لقد أخذ الإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا ، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام عليّ علاجا من آيات القرآن .
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضايا اليتامى والسفهاء والمال والوصاية والقوامة ، فيقول سبحانه : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء . . . } .
(1/1371)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
ومن هو السفيه؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرّف ماله بالحكمة . ومَن الذي يعطي ماله إلى سفيه؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال - ومثال على ذلك يقول الحق : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] .
هل أحد منا يلمز نفسه؟ لا ، ولكن الإنسان يلمز خصمه ، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء . إذن فقول الحق : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } يعني أن الله يريد أن يقول : إن السفيه يملك المال ، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف . وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال ، ويفسده ، وحين يكون سفيهاً فالمال ليس له - تصرفا وإدارة - ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة .
أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أنّ الرجل إذا ما كان له أبناء ، وكبروا قليلا ، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة ، ويعطي لهم حق التصرف في المال . وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة ، فكأنه قال سبحانه : " لا " إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك . وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك ، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك .
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً وارزقوهم فِيهَا } وهل السفيه لا يعيش؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد؟ أيلبس السفيه لبس الرشيد؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه؟ لا؛ لذلك يأمر الحق ويقول : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا } ذلك أمر بحسن معاملة السفيه ، وإياكم أن تعيروهم بسفههم ، ويكفيهم ما هم فيه من سفه .
ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا . . . } .
(1/1372)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
إن الله سبحانه وتعالى يأمر في التعامل مع اليتامى بأن يبدأ الولي في اختبار اليتيم وتدريبه على إدارة أمواله من قبل الرشد ، أي لا تنتظر وقت أن يصل اليتيم إلى حد البلوغ ثم تبتليه بعد ذلك ، فقبل أن يبلغ الرشد ، لا بد أن تجربه في مسائل جزئية فإذا تبين واتضح لك اهتداء منه وحسن تصرف في ماله؛ لحظتها تجد الحكم جاهزا ، فلا تضطر إلى تأخير إيتاء الأموال إلى أن تبتليه في رشده . بل عليك أن تختبره وتدربه وتمتحنه وهو تحت ولايتك حتى يأتي أوان بلوغ الرشد فيستطيع أن يتسلم منك ماله ويديره بنفسه . وحتى لا تمر على المال لحظة من رشد صاحبه وهو عندك .
فسبحانه يقول : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافا } فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال . وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله ، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله ، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا . والإسراف هو الزيادة في الحد؛ لأنه ليس ماله ، إنه مال اليتيم . وعندما قيل لرجل شره : ماذا تريد أيها الشره؟ قال الشره : " أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم " . أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف ، ونجد الحق يقول : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } .
إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد ، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد ، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد . كان الحق قادرا أن يقول : لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم .
لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية .
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى عن الولي : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } فلا يقولن أحد عن أحد آخر : إنه فقير ، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله . لا ، فهذا قول بمقاييس البشر ، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم : إن عليه مسئولية واضحة .
فإن كان غنيا فليستعفف ، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به .
(1/1373)
وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس ، أو أن يأخذ على قدر حاجته . ويقول الحق : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيبا } وانظروا الحماية ، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي ، فالحق بعلم خلقه ، - وخلقه من الأغيار - والولي على اليتيم لا بد أن يلي الأمر بحكمة وحرص ، حتى لا يكرهه اليتيم . وربما قد يراضيه في كل شيء . نقول له : لا ، أعطه بقدر حتى لا تفسده . فإذا ما أعطى الولي لليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته ، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي ، فيقول له : لقد أكلت مالي؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي : كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم .
لذلك يجب عليك - أيها الولي - حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه ، لأنك لا تملك الأغيار النفسية ، فربما وجد عليك وكرهك؛ لأنك كنت حازما معه على ماله ، وكنت تضرب على يده إذا انحرف . وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا وعدولا لحظة تسليمه المال . وهذه الشهادة لتستبرىء بها من المال فحسب ، أما استبراء الّدين فموكل إلى الله { وكفى بالله حَسِيبا } .
هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم ، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم ، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي : من لم يطعن برمح ولم يذد عن حريم أو عن مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة . وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء . وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة . بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال ، ولهذا قال الحق سبحانه : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ . . . } .
(1/1374)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
ومن الذي يفرض هذا النصيب؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض .
هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو : كيف يكون للمتوفي أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم ، فالصغار أولى بالرعاية ، وأيضا إذا كانت قوانين " مندل " في الوراثة توضح أن الأولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة ، أو المرض أو العفة أو الخلقة ، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال؟
وحين نسمع قول الحق : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } فلا بد من أن يوجد فارض ، ويوجد مفروض عليه ، والفارض هنا هو الله الذي ملك ، وفيه فرق دقيق بين " فرض " و " واجب " فالفرض يكون قادما من أعلى ، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه ، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا .
وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض ، فقد بين أن له قدرا معلوما ، ومادام للنصيب قدر معلوم ، فلا بد أن يتم إيضاحه . . ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم ، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين ، ويوضح سبحانه الدعوة إلى إعطاء من لا نصيب له ، إياكم أن يلهيكم هذا النصيب المفروض عمن لا نصيب له في التركة .
لذلك يقول سبحانه وتعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ . . . } .
(1/1375)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
وحين يحضر أولو القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال ، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله ، قد يقول هؤلاء غير الوارثين : إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولي القربى واليتامى والمساكين .
صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين ، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم ، ولكنهم حضروا القسمة؛ لذلك يأتي الأمر الحق : { فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا } فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف . فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث ، أو الضغن على المورث ، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين ، ولكن يأمر أن نقول لهم : قولا معروفا ، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم ، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم ، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد ، ولكن ماذا يكون الموقف لو كان الوارث يتيما؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين : إنه مال يتيم ، وليس لنا ولاية عليه ، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر ، وفي مثل هذا القول تطبيب للخاطر .
{ وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث . إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه ، أنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده . إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد ، وهو أنه يُلزم المؤمن بأشياء ، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء .
إن الحكم التشريعي يعطيك ، ولذلك يأخذ منك . ولهذا قلنا في الزكاة : إياك أن تلحظ يا من تؤدي الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس ، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا . وسوف نأخذ لك من القادرين . إنه تأمين رباني حكيم .
ويقول الحق بعد ذلك : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ . . . . } .
(1/1376)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان . فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها ، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها . واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك . وقلنا ذات مرة : إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في أواخر حياتهما ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : يا أمير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية ، فقال معاوية : أما الطعام فقد مللت أطيبه ، وأما اللباس فقد سئمت ألينه ، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف .
وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا : وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ .
وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال : أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي .
إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير .
وكان هناك خادم يخدمهما ، يقدم لهما المشروبات ، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث .
فقال للخادم : وأنت يا " وردان " ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ أجاب الخادم : بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم . لقد فهم الخادم عن الله قوله : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة .
وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام : { قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ الكهف : 66-71 ] لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة - كما توضح الآيات - فقال العبد الصالح : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } [ الكهف : 72-73 ] ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له :
(1/1377)
{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [ الكهف : 74 ] .
ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام ، وحين يطلب منك ابن السبيل طعاما فاعلم أنها الحاجة الملحة؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال ، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك .
فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما؟
يقول الحق : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] إنها قرية لئيمة ، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه ، واعترض موسى؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما ، وقال سيدنا موسى : إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، لأن أهل القرية لئام ، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا .
لقد غاب عن موسى ما لم يغّيب الله سبحانه عن العبد الصالح ، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم ، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين ، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز . إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام . ويقول الحق سبحانه : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 82 ] إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين ، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص ، لا بد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما؛ ليرى كلاهما الكنز ، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذ الكنز . إنه توقيت إلهي أراده الله؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا ، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين ، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا ، قول الحق : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] لماذا؟ لأن الانسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة . لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده ، ويحرم نفسه ليعطي أولاده ، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا ، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف ، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان : إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة ، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى ، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم .
والقول السديد من الأوصياء : ألاّ يؤذوا اليتامى ، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي .
وحين يتقى المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتفي الله في أولاده .
وما زال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ . . . } .
(1/1378)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا ، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت ، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين ، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع . فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون أن الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع ، ويقول الطفل لنفسه : إن إبي عندما يموت سأصير مضيعا . لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة أما لليتيم لاختلف الأمر ، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم .
{ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } [ النساء : 10 ] إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس ، وهو يختلف عن اللباس ، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه ، لكن الأكل عملية يومية؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل . ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب : " فلان بطنه واسعة " إنها مسألة الأكل .
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم : أنت تحشو في بطنك نارا . ويعني ذلك أنه يأكل في بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة . وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه ، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم ، وعليهم سمات أكل مال اليتيم : فالدخان يخرج من أفواههم . وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط ، وإلا يكون هناك نار أمام العيون . بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا .
ويقول الحق سبحانه وتعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ . . . } .
(1/1379)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
ونعم الرب خالقنا؛ إنه يوصينا في أولادنا ، سبحانه رب العرش العظيم ، كأننا عند ربنا أحب منا عند أبائنا . وقوله الكريم : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } توضح أنه رحيم بنا ويحب لنا . ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد - بالاستقراء - أن مادة الوصية مصحوبة بالباء ، فقال سبحانه : { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] وقال سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] وقال الحق أيضا : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } [ لقمان : 14 ] كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق .
لكن عندما وصّى الآباء على الأبناء قال : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد ، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية . وما هي الوصية؟ إنها { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } وقلنا من قبل : إن الحق قال : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس من أكل مال اليتيم ، لماذا؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم ، وحين تستشرف النفس إلى تفصيل الحكم ، ويأتي بعد طلب النفس له ، فإنه يتمكن منها . والشيء حين تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله ، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب ، فالنفس تقبله مرة وتعرض عنه مرة أخرى . ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث .
فقد قال الحق سبحانه أولا : { لرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين وأولي القُربى ، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه ، وبعد ذلك يقول : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُم } ويأتي البند الأول في الوصية { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } ولماذا لم يقل " للأنثيين مثل حظ الذكر " . أو " للأنثى نصف حظ الذكر " ، هذه معان يمكن أن تعبر عن المطلوب .
لقد أراد الله أن يكون المقياس ، أو المكيال هو حظ الأنثى ، ويكون حظ الرجل هنا منسوبا إلى الأنثى ، لأنه لو قال : " للأنثى نصف حظ الرجل " لكان المقياس هو الرجل ، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } .
والذين يقولون : هذا أول ظلم يصيب المرأة ، نريد المساواة . نقول لهم : انظروا إلى العدالة هنا . فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها ، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها ، إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج ، وإن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى لها ، وسيكون لها زوج يعولها .
إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة؟ إنها الأنثى . ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس حينما قال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } فهل في هذا القول جور أو فيه محاباة للمرأة؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال الذي يُرد إليه الأمر؛ لأن الرجل المطلوب منه أن ينفق على الأنثى ، وهي مطلوب لها زوج ينفق عليها .
(1/1380)
إذن فما تأخذه من نصف الذكر يكون خالصا لها ، وكان يجب أن تقولوا : لماذا حابى الله المرأة؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض ، فصانها ، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه ، وإن تزوجت فهذا فضل من الله ، ثم يقول الحق : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك } .
وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله . فقد كرم الله الإنسان بالعقل ، والعقل لا بد له من رياضة . ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل ، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها بالحل ، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم ، كل هذه من مهام العقل . فيأتي الحق في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين ، والدليل إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن ، فيجعل للعقل مهمة إبداعية .
إنه - سبحانه - لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح ، ولكنه يعطي في مكان ما جزءا من الحكم ، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن بجزئية أخرى ، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل ، وأنه ينقلك من شيء إلى شيء ، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن . وذلك حتى تتعرف على المنهج ككل . وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج ، ولكن هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه ، مثال ذلك : مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث . وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة لماذا؟ لأن الله يريد لك يا صلحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها . وما يهمك أولا هو دينك ، فلتعمل عقلك فيه ، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك النشاط ليعمل في المجال الآخر .
لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل بالتفاصيل عن الهدف العام .
وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم ، فالطفل يلعب مع أقرانه " الاستغماية " ، ويختبىء كل قرين في مكان ، ويبحث الطفل عن أقرانه .
ونحن نلعب أيضا مع أولادنا لعبة إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الإبن يخمن بالحدس في أي يد يكون الشيء ، إنها دربة للعقل على الاستنباط ، فإن كان الولد سريع البديهة قوي الملاحظة ويمتلىء بالذكاء ، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش قليلا ، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها ، وينتصر بذلك ذكاء الولد ، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم ، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دُربة .
(1/1381)
والحق سبحانه أراد أن تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة ، ولننظر إلى قوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي أنه إن لم ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك .
أما لو كان معهن ذكر ، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر ، وإن كانت الوارثة بنتا واحدة ، فالآية تعطيها النصف من الميراث { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } وبقي شيء لم يأت الله له بحكم ، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين . وهنا نجد أن الحق قد ضمن للاثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من التركة ، هكذا قال العلماء ، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح؟ لقد ترك هذه المهمة للعقل ، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة ، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون ذكر ، تأخذ الثلث .
فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث ، ولذلك فمن المنطقي أن تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين . وهناك شيء آخر ، لتعرف أن القرآن يأتي كله كمنهج متماسك ، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر ليترك للعقل فرصة العمل والبحث ، يقول سبحانه : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ النساء : 176 ] لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة إن لم يكن للمورث ولد - ابن أو بنت - فإذا كان للأختين الثلثان ، فأيهما ألصق بالمورث ، البنتان أم الأختان؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه ، ولذلك فللبنتين الثلثان ، فالإبنة إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث ، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف . وإن كانت الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين ، وإن كانتا اثنتين فستأخذ كل منهما الثلث ، لماذا؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له أولاد .
ومن العجيب أنه جاء بالجمع في الآية الأولى الخاصة بتوريث البنات ، وجاء بالمثنى في الآية التي تورث الأخوات ، لنأخذ المثنى هناك- في آية توريث البنات- لينسحب على المثنى هناك .
لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى نأخذ الأحكام بعشق وحسن فهم ، وعندما يقول سبحانه : { يَسْتَفْتُونَكَ } فمعنى يستفتونك أي يطلبون منك الفتوى ، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق التكليف ، فهو يحب أن يعرف حكم الله ، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم .
(1/1382)
وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط بالرأس ، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله . { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ النساء : 176 ] وهذه الآية تكمل الآية الأولى . ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث } .
ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له الأولاد فللأم الثلث ، والأب له الثلثان ، فإن كان للمورث إخوة أشقاء أولأب أولأم السدس حسب النص القرآني { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } ، وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث ، ويؤدي الدّين الذي عليه . والوصية هنا مقدمة على الدين؛ لأن الدين له مُطالب ، فهو يستطيع المطالبة بدينه ، أما الوصية فليس لها مطالب ، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها . ويذيل الحق هذه الآية : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 11 ] فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في الأبناء ، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان : " لقد رباني أبي وهو الذي صنع لي فرص المستقبل " . والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان : إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمى والحياة مقبلة عليهم . فيوضح الحق : إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم؛ فليس لك شأن بهذا الأمر : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } .
وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في الأنصبة كما يجب أن تكون .
ونحن حين نسمع : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أو نسمع : { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيما } فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير ، ومادام كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رحيما فهو لا يزال كذلك إلى الأبد .
فالأغيار لا تأتي إلى الله ، وثبت له العلم والحكمة والخبرة والمغفرة والرحمة أزلا وهو غير متغير ، وهذه صفات ثابتة لا تتغير . لذلك فعندما تقرأ : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أو { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ، فالمسلم منا يقول بينه وبين نفسه : ولا يزال كذلك .
والحق يقول من بعد ذلك : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ . . . } .
(1/1383)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته ، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد .
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة . والكلالة - كما قلنا - أنه ليس للمتوفى والد أو ولد ، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه .
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء بالثلث ، وذلك أيضا من بعد الوصية التي يوصى بها أو دين . ولماذا يتم تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء .
إن الحق يقول فيها : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ النساء : 176 ] في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد ، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث . هذا إذا كانوا إخوة من الأم . أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب ، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة .
وماذا يعني قوله الحق : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيم } ؟
إنه سبحانه يريد إقامة العدل ، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله . فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق ، أو لأب ، أو يريد آخر ألا يُدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب ، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول : إن الغرم على قدر الغنم ، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهنّ عمّ ، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفي الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث . وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم .
وقلنا : إن القرآن الكريم يجب أن يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام ، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
(1/1384)
[ النساء : 176 ] فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين ، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس ، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟
لابد أن نفرق بين كلالة وكلالة . .
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفيي . والمسألة هنا تتعلق بالإخوة .
ونقول : إن الإخوة لها مصادر متعددة . هذه المصادر إما إخوة من أب وأم ، وإما أخوة لأب ، وإما إخوة لأم . فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصلية ، وهما المعنيان في الآية 176 من السورة نفسها .
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم . إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لأم فقط ، وإما أن يكون أخا لأب ، أو أخا لأب وأم . فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر . وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرأ الآية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة ، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال - والعياذ بالله - القرآن متضارب ، فهو مرة يقول : للكلالة السدس ، ومرة يقول : الثلث ، ومرة أخرى النصف ، ومرة أخرى الثلثان ، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد على من يقول ذلك : أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء .
والحق قال : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه " البعدية " أي أن التوريث لا يأتي إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدّين .
ولنا أن نسأل : أيهما ينفذ أولا ، الوصية أم الدين؟
والإجابة : لاشك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة ، والوصية تطوع ، فكيف تقدم الوصية - وهي التطوع - على الدين ، وهو للإلزام في الذمة .
وعندما يقول : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } لابد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا ، وما المقصود بذلك؟ المقصود به الموصي ، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه ، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء ، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه ، فيقر لذلك الإنسان بدين ، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها ، فهو يأخذ الدين وبذلك يترك الورثة بلا ميراث .
وهذا يحدث في الحياة ونراه ، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطيهم الله ولدا ذكرا يعصّبهم ، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه : إن الأعمام ستدخل ، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي ، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط ، فيكتب دينا على نفسه للبنات .
(1/1385)
ونقول لهذا الإنسان : لا تجحف ، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك ، ولكن يجب أن تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن ، فمن المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام ، فالغرم هنا مقابل الغنم . . ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاء ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون أن يترك له ثروة . فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم؟
وهنا بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطي عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب ، فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث ، حتى لا تحدث مضارة للورثة .
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدّعوا كذبا ، أن هناك دينا عليهم ، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا .
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله ، وكل إنسان أمين على نفسه .
لذلك قال الحق سبحانه : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 11 ] والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وآداء دين ، كل ذلك توصية من الله ، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق ، ولكنها من الله؛ ففيها إلزام وفرض ، فسبحانه القائل : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] والوصية هنا افتراض ، ومثل ذلك يقول الحق : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الأنعام : 151 ] وما دامت التوصية تأتي من المالك الأعلى ، فمعنى ذلك أنها افتراض ، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية : { والله عَلِيمٌ حَلِيم } أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء ، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه قد قام على باطل .
مثال ذلك : هناك إنسان يموت وعليه دين ، عندئذ يجب تسديد الدين ، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات . فإن عّميتم أيها البشر على قضاء الأرض ، فلن تعموا على قضاء السماء .
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا ، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر ، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق ، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده ، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف : " إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إليّ ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضى له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .
(1/1386)
إن الرسول يعلمنا أنه بشر ، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل ، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان ، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا ، والآخر قليل الحيلة ، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية ، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر ، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم .
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور ، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة . فالأمور التي تتعلق بالدّين لا يجوز للمؤمن المساس بها ، إياكم أن تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا ، لا . فالحلال بيّن ، والحرام بيّن ، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة .
ومثال على ذلك : هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات ، وأخذ عليك صكا ، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه : " عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك " ثم سبق قضاء الله ، وقال أهل الميت : " إن الصك عندنا " واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدّين . هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى ، لكن حكم الدّين في ذلك يختلف ، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدّين مرة أخرى إذا علموا أن مورثهم حصل على دينه .
وذلك يقول لنا الحق : { والله عَلِيمٌ حَلِيم } حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء . والحق يقول لنا : إنه { حَلِيم } فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك ، ولم ينتقم الله منه في الدنيا ، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا ، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكنّ هناك عقابا في الآخرة .
وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى : { تِلْكَ حُدُودُ الله . . . } .
(1/1387)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله ، وحين يحدّ الله حدودا . . أي يمنع أن يلتبس حق بحق ، أو أن يلتبس حق بباطل؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق .
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة ، ومعنى " حد " أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له من آخر . والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا ينتبه إليها كثير من الناس ، هي نوعان : نوع لا يتعدى بالبناء ، فعندما يريد واحد أن يبني ، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له ، ويكون الجداران ملتصقين بعضهما ببعض . وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد ، وهذا يحدث في النفع .
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا ، وجاره لن يزرع أرزا ، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة ، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره ، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه " حد الجيرة " ليمنع الضرر ، وهو ليس " حد الملكية " فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين ، ويصنع بهما حد الجيرة ، حتى لا تتعدى المياه التي يُروي بها الأرز إلى أرض الجار . إنه حد يمنع الضرر ، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك .
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة : " لا تجعل حقك عند آخر حدك ، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك " ، وهذا في الملكية . وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك . وكذلك يعاملنا الله ، ويقول في الأوامر : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] وفي النواهي يقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] أي أنك إذا ما تلقيت أمرا ، فلا تتعد هذا الأمر ، وهذه هي الملكية ، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه . مثال ذلك النهي عن الخمر ، فالحق لا يقول : " لا تشرب الخمر " ، وإنما يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } . أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل ، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر .
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة : أقال الحق : " لا تأكلا من الشجرة "؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة؟ سبحانه قال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ الأعراف : 19 ] وهذا حد اسمه " حد عدم المضارة " إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة .
(1/1388)
وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك . ففي الأوامر يقول سبحانه " { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } وهذا ما يتعلق بالملكية .
وفي النواهي يقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث : " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ، ألاوإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
لذلك تجنب حدود الله . مثال ذلك قول الحق : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ البقرة : 187 ] إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجة لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد . ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة ، لأن ذلك من حدود الله . وسبحانه يقول : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } .
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق : { تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم } [ النساء : 13 ] وكان يكفي أن يقول الحق - " ومن يطع الله " ولكنه قال : " ومن يطع الله ورسوله " من بعد بيان الحدود - وذلك لبيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع حدودا من عنده لما حل ، وأن يضع حدودا لما حرم . وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يُشرّع؛ لذلك فلا تقل في كل شيء : " أريد الحكم من القرآن " .
ونرى من يقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه ، وما وجدنا فيه حرام حرمناه . هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفوض في التشريع وهو القائل : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] إنه صلى الله عليه وسلم مفوض من الله ، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله ، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله ، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرع .
هم يقولون : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه . وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول ، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا :
يا رسول الله لقد قلت : روي المقدام بن معدي كرب قال : حرم النبي صلى الله عليه وسلم " أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله فما وجدا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " .
(1/1389)
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك ، ولم يقل أحد هذا الكلام؟
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر . ويسخرهم الحق ، فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي . .
والحق يقول : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ } والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة . لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين ، أو هو الجزاء على الدين؟
إنه الجزاء على الدين ، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا ، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة ، فالآخرة ليست موضوع الدين ، لكن موضوع الدين هو الدنيا ، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك : لم تجعل للدين موضوعا ، إياك أن تقول : موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء ، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل : هل الامتحان موضوع المناهج ، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة ، وهي موضوع الامتحان؟
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان ، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدِّين ، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع؛ لذلك فإياكم أن تقولوا : دنيا ودين ، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين . فالدنيا ُتقابلها الآخرة والدين لهما . الدنيا مزرعة والآخرة محصدة . بهذا نرد على من يقول : إن الدنيا منفصلة عن الدين .
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أواثنتين أو جنات ، وهل دلالة " من " للواحد؟ لا ، إن " من " تدل على الواحد ، وتدل على المثنى وتدل على الجمع ، مثال ذلك نقول : جاء من لقيته أمس ونقول أيضا : جاء من لقيتهما أمس ، وتقول ثالثا : جاء من لقيتهم أمس . . إذن ف " من " صالحة للمفرد والمثنى والجمع .
والحق هنا لا يتكلم عن فرد هنا أو جمع . كما قلنا في أول الفاتحة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] على الرغم من أن القياس أن تقول : " إياك أعبد وإياك أستعين " . لكن قال سبحانه : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ليوضح لنا أن المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة .
وهناك من يقول إذا دلت : ( مَن ) على المفرد فقد لحظنا لفظها ، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها .
ولمن يقول ذلك نقول : إن هذا الكلام غير محقق علميا؛ لأن لفظ " من " لم يقل أحد إنه للمفرد .
(1/1390)
بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع . فلا تقل : استعمل لفظ " من " مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى ، لأن لفظ " من " موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع .
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات : لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فقلت له : إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى : { الرحمن * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان } [ الرحمن : 1-3 ] وبعد ذلك قال الحق : { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار * وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 14-15 ] وقال سبحانه : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان } [ الرحمن : 31 ] وقال تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] إذن فمن خاف مقام ربه ، هو من الجن أو من الإنس ، إن كان من الجن فله جنة ، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى . إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان .
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن ، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن ، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع ، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة ، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص ، وأنشأ له مقعدا في النار ، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن .
فإذا دخل صاحب الجنة جنته ، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن؛ لذلك يقول الحق : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا .
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن .
وهنا يقول الحق : { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } ويجب أن نفهم أن النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء ، الحق يقول : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } فأين تجري الأنهار؟
أتجري الأنهار تحت زروعها ، أم تحت بنيانها؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه ، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله؛ لأنها تصميمات ربانية .
فالخلق قد تشق نهرا ، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني ، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار ، ولا يحدث منها نشع ، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه ، فهو - سبحانه - يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } ومرة أخرى يقول : { جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار } فهذا ممكن وذاك ممكن .
فقوله - سبحانه - { جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار } قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات .
(1/1391)
لا . هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } حتى لا يظن أحد أن هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى . إنها أنهار ذاتية . وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل : ألا أستطيع أن آخذ من هذه وأنا مهندس أضع تصميمات مباني الدنيا وآخذ من قول الحق إنه من الممكن أن تقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ وبالفعل أخذ البشر هذا الأمر اللافت .
نحن نقيم القناطر وهي مبان وتجري من تحتها الأنهار ، وعندما تكون المواصفات صحيحة في الطوب والاسمنت إلى آخر المواصفات فلا نشع يحدث ولا خلخلة في المبنى . فالخلل الذي يحدث في المباني عندنا ، إنما يأتي من آثر الخيانة في التناول . ومن الممكن أن تجري الأنهار تحت قصور الجنة . التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
ألا يوحي ذلك للمهندس المسلم أن يحيا في هذه اللفتة الإلهية ويأخذ منها علما ويستطيع أن يقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ لو تنبهت إلى ذلك إيمانية مهندس وأخذ يتعلم عن ربه كيفية أداء العمل . لفعل ذلك بتوفيق الله .
ولنتكلم على مصر التي تعاني من أزمة إسكان ، ونجد أن المساحة المائية تأخذ قدرا كبيرا من الأرض ، سواء أكانت النيل ، أم الفروع التي تأخذ من النيل ، وكذلك الترع الصغيرة وكذلك الطرق فلو أن هناك هندسة إيمانية لاستغلت المساحات والمسطحات المعطلة ، نقيم عليها مباني تسع مرافق الدولة كلها ، ويتم إنجاز المباني فوق الطرق وفوق المياه وفوق المصارف . وليس معنى ذلك أن نبني كل الأماكن حتى تصير مسدودة بالمباني ، ولكن نبني الثلث ، ونترك فراغا مقدار الثلثين حتى لا نفسد المنظر ، ولا نتعدى على أرض خضراء مزروعة ، إنها إيحاءات إيمانية على المهندس المسلم أن يفكر فيها .
إن بلدا كالقاهرة تحتاج إلى مرافق مختلفة متنوعة ، ونستطيع أن نبني على الفراغات سواء أكانت فراغات في مساحات النيل شرط مراعاة الفراغات والزروع اللازمة لجمال البيئة وتنقيتها من التلوث . أم نبني المرافق تحت الأرض ، ولن تكون هناك أزمات للإسكان أو المرافق ، هذا بالإضافة إلى الانتفاع بالصحراء في هذا المجال .
والحق يقول : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } صحيح أن الجنة ستكون نعيما ليس على قدر تصورك ولكن على قدر كمال وجمال قدرة الحق ، فالنعيم الذي يتنعم فيه الإنسان يكون على قدر التصور في معطيات النعيم ، وقلنا قديما : إن عمدة إحدى القرى قال : أريد أن أبني مضيفة وحجرة للتيلفون ، ومصطبة نفرشها . هذا هو النعيم في تصور العمدة . ونحن في الحياة نخاف أن نترك النعيم بالموت أو يتركنا النعيم .
(1/1392)
لكن كيف يكون النعيم عند صانع كل التصورات وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لذلك تكون جنات النعيم دائمة ، فلا أنت تموت ولا هي تذهب .
والخلود هنا له معنى واضح إنه بقاء لا فناء بعده { وذلك الفوز العظيم } وما هو " الفوز "؟
إنه النصر ، إنه الغلبة ، إنه النجاح ، إنه الظفر بالمطلوب .
فإذا كان فوزنا في الدنيا يعطينا جائزة نفرح بها ، فالفرح قد يستمر مدة الدنيا التي يملكها الواحد منا ، فما بالنا بالفوز الذي يأتي في الآخرة وهو فوز الخلود في جنة من صنع ربنا ، أليس ذلك فوزا عظيما؟
إننا إذا كنا نفرح في الدنيا بالفوز في أمور جزئية فما بالنا بالفوز الذي يمنحه الحق ويليق بعظمته سبحانه وتعالى ، ولو قسنا فوز الدنيا بفوز الآخرة لوجدنا فوز الآخرة له مطلق العظمة ، ومهما ضحى المؤمن في سبيل الآخرة ، فهناك فوز يعوض كل التضحيات ، ويسمو على كل هذا .
وإذا قال قائل : ألم يكن من الأفضل أن يقول : ذلك الفوز الأعظم نقول له : إنك سطحي الفهم لأنه لو قال ذلك لكان فوز الدنيا عظيما ، لأن الأعظم يقابله العظيم ، والعظيم يقابله الحقير فحين يقول الحق عن فوز الآخرة : إنه عظيم ، فمعنى ذلك أن فوز الدنيا حقير ، والتعبير عن فوز الآخرة هو تعبير من الحق سبحانه .
وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل : فيقول : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ . . . } .
(1/1393)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
وسبحانه قال من قبل : { تِلْكَ حُدُودُ الله } والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها . فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي .
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم . لكن ماذا عمن يعصي؟ إن له المقابل ، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب . { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } هنا نجد { نَاراً } واحدة ، وهناك نجد { جَنَّاتٍ } . هذا ملحظ أول ، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله ، ونعرف أن المتكلم هو الله ، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات ، أما الكافر فسيدخل النار . ولم يقل الحق نيرانا ، ولم يقل الحق أيضا : " خالدين " لماذا؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين ، ويتزاورون ، وكل واحد يستمتع بكل الجنان ، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان ، فإن الحق - سبحانه - يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له . فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس .
ولكن الموقف يختلف مع الكافر ، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره ، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار ، فالأنس لن يطولوه أيضا ، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة . ولن يأنس واحد منهم بمعذب الآخر . إذن فهناك { جَنَّاتٍ } و { نَار } و { خَالِدِينَ } و { خَالِداً } ، وكل استخدام للكلمة له معنى . والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات ، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
إن العذاب يكون مرة أليما ، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى شماتة الذي يعذبه . ويقول الشاعر :
وتجلدي للشامتين أريهمو ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
فيكتم الألم عن خصمه ، لكن هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فهناك إهانة في النفس ، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة ، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا - إن عذاب الآخرة مهين ومذل للنفس في آن واحد .
وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا ، ووحدته أما ، وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء . وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا ، وأنه سبحانه أراد استبقاء الحياة الكريمة للنفس الإنسانية؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى ، ووضع أسلوب التعامل الإيماني معهم ، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة العفيفة لأموالهم ، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها .
(1/1394)
وأيضا عالجت السورة أمراً آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن النسيج الاجتماعي . ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث ، ويمنعون - كذلك - من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان . فأراد الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيشٍ العنصران في كرامة ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة ، فشرع الحقُ نصيباً محدداً للنساء يختلف عن نصيب الرجال مما قل أو كثر ، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث . وأوضح سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر ، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما حدّ من حدود . ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار .
إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده ، ومن كرمه سبحانه أن أوجد لها - قبل أن يوجدها - ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم ، فوفد الإنسان على الخير ، ولم يفد الخير على الإنسان ، أي أنّ الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولاً ثم صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر . لا ، لقد خلق الله هذه العناصر التي تخدم الإنسان أولاً وأعدها لاستقبال الطارق الجديد - الإنسان - الذي اختاره سبحانه ليكون خليفة في الأرض . فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود الإنسان ، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان . وجعل الله للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع ، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات ، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع فقط .
وأراد - سبحانه وتعالى - أن يكون الإمتاع مصاحباً لوسيلة التكاثر الإنساني ، ذلك أن المشقَّات التي يتطلبها النسل كثيرة ، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة تغري الإنسان .
وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية .
ويوصينا الحق باليتيم من البشر ، وقد يقول قائل :
ما دام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنساناً قوياً وأن نحسن إلى اليتيم ، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم؟ . نقول : جعل الحق هذا الأمر حتى لا تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله ، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له سبحانه ومجهول للإنسان ، فالإنسان قد يموت جنيناً أو طفلاً أو صبياً أو رجلاً أو هرماً ، بل نحن نجد في الحياة إنساناً هرماً مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده ، لماذا؟ .
لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس ، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف يحياه ولا بزمان الموت ، ولا مكان الموت ، حتى يكون الإنسان منا دائماً على استعداد أن يموت في أي لحظة .
(1/1395)
وما دام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة ، فعليه أن يستحي أن يلقي الله على معصية . وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني؛ منهج يجعل المؤمنين جميعاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، فإذا مات رجل وترك طفلاً يتيماً ، ووجد هذا اليتيم آباء من المجتمع الإيماني ، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئناناً ويقيناً . ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء ، بل نكون جميعا موصولين بالله .
وما دام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة ، ووضع لنا أسلوب السعي في الأرض لتستبقي الحياة بالحركة فيها ، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع ، فلم يُغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه ، ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول ، ويوضح الحق للإنسان : أن حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضاً .
ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل واحد غريزة الحنان والحب . ونحن نرى هذه الغريزة كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء . ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو وأولاده . والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته بقية عمره؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير ، وقد يتحرك رجل لمدة عشرين عاماً أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة ، وهناك من يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقاً يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد .
وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم ، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضاً . وتشاء حكمة الله العالية بأن يفتت الثورة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين الأبناء فتشيع في المجتمع ، وهذا اسمه التفتيت الإنسيابي . كأن نجد واحداً يملك مائة فدان وله عدد من الأبناء والبنات . وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته ، وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتاً انسيابياً وليس بالتوزيع القهري الذي يُنشئ الحقد والعداوة ، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك ، وأن تعود له حركة حياته ولمن يعول فقال سبحانه : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [ محمد : 36 ] .
هو سبحانه لا يقول لأي واحد : هات المال الذي وهبته لك . وقلت سابقا : إنه سبحانه وتعالى يحنن عبداً على عبد فيقول : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [ الحديد : 11 ] .
إن الله سبحانه يحترم حركة العبد ، ويحترم ما ملك العبد بعرقه ، ويوصي الحق العبد الغني : إن أخاك العبد الفقير في حاجة ، فأقرضني - أنا الله - بإعطائك الصدقة أو الزكاة لأخيك الفقير . ولم يقل للعبد الغني : أقرض أخاك ، ولكنه قال أقرضني . لماذا لأنه سبحانه هو الذي استدعي الخلق إلى الوجود ، وهو المتكفل برزقهم جميعاً .
(1/1396)
. المؤمن منهم والكافر . ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى للكافر ، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود .
وسبحانه وضع هذا التوريث ، ليصنع التفتيت الإنسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت القسري الذي يجعل بعضاً من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما يريدون ، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري ، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم الأحداث القسرية بالحرمان ، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ . لكن عندما يأتي التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله ، وبذاتية راضية وبقدرة على الحركة ، ولذلك قال الحق : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [ محمد : 36 ] .
إنه سبحانه لا يقول : أنا الذي ملكتك هذا المال ، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق ، مع أنه - سبحانه - هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة ، فيقول بعد ذلك : { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 37 ] .
ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق . ولكن ما الفرق بين إنسان لم يسرف على نفسه ، بل عاش معتدلا ، ثم أبقى شيئاً لأولاده؛ والذي جاء بدخله كله وبدده فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها ، ما الفرق بين هذا وذاك؟
الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة ، لذلك يوضح : أنا لا أسألكم أموالكم ، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون ، لأن مالكم عائد من أعمالكم .
ويقول الحق : { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل للمجتمع كله؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن في المجتمع كله ، وساعة يبرز الضغن في المجتمع ، انتهى كل شيء جميل . ولذلك وضع الحق أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة .
وضع أساس للضعيف بما يحميه ، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل الإسلام ، وجعل الحق - سبحانه وتعالى - لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدوداً { تِلْكَ حُدُودُ الله } وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى هذه الحدود ، فلا بد أن يكون من أهل النار - والعياذ بالله - فقد وضع الله تلك القواعد لاستبقاء حياتك ويحاة من تعول .
وهناك لون آخر من الاستبقاء ، هو استبقاء النوع ، لأن الإنسان عمراً محدوداً في الحياة وسينتهي؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره ، كيف؟ نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات ، وهذا استبقاء للنوع الإنساني .
والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريماً؛ لذلك يأمرنا الحق - سبحانه - أن نستبقي النوع بأن نختار له الوعاء الطاهر ، فإياك أن تستبقي نوعا من وعاءٍ خبيثٍ نجس ، اختلطت فيه مياه أناس متعددين ، فلا يدري أحد لمن ينسب الولد فيصير مضيعاً في الكون ، مجهول النسب فأوضح الله للإنسان أن يختار لنفسه الوعاء النظيف ليستبقي النوع بكرامة .
(1/1397)
والحصول على الأوعية النظيفة يكون بالزواج ، فيختار الرجل أنثى عفيفة ذات دين وترضي به زوجاً أمام أعين الناس جميعاً ، ويصير معروفا للجميع أن هذه امرأة هذا ، وهذا زوجها ، دخوله وخروجه غير ممقوت أو موقوت . وما ينشأ من الذرية بعد ذلك يكون قطعا منسوبا إليه . ويخجل الإنسان أن يكون ابنه مهينا أو عاريا أو جائعا أو غير معترف به؛ لذلك يحاول الأب أن يجعل من ابنه إنساناً مستوفيا لكل حقوقه مرفوع الرأس غير مهين ، لا يقدحه واحد فَيَسُّبُهُ وينال منه قائلا : جئت من أين؟ أو من أبوك؟ فلا يعيش الطفل كسير الجناح ذليلا طوال عمره . فأراد سبحانه استبقاء النوع برابطة تكون على عين الجميع ، وأن تكون هذه الرابطة على الطريق الشرعي .
ومن العجيب أننا نجد هذه المسألة ذات آثار واضحة في الكون ، فالتي تحاول أن تزيل أثر جريمتها يجبرها الحنان الطبيعي كأم ألا تلقي ابنها الوليد في البحر بل أمام مسجد؛ فالطفل مربوط بحنان أمه ولكن الحنان غير شرعي ولذلك ترمي الأم الزانية بطفلها أمام المسجد حتى يلتقطه واحد من الناس الطيبين ، فالزانية نفسها تعرف أنه لا يدخل المسجد إلا إنسان طيب قد يحن على الوليد ويأخذ هذا الطفل ويصير مأمونا عليه .
وهي لا تلقي بوليدها عند خمارة أو دار سينما ، ولكن دائما تضعه عند أبواب المساجد ، فالحنان يدفعها إلى وضع الطفل غير الشرعي في مثل هذا المكان؛ لأنها تخاف عليه ، لذلك تلفه وتضعه في أحلى الملابس ، وإن كانت غنية فإنها تضع معه بعضا من المال؛ لأن الحنان يدفعها إلى ذلك ، والحياء من الذنب هو الذي يجعلها تتخلص من هذا الطفل .
إنها - كما قلنا - تحتاط بأن تضعه في مكان يدخله أناس طيبون فيعثر عليه رجل طيب ، يأخذه ويكون مأمونا عليه . إذن فحتى الفاسق المنحرف عن دين الله يحتمي في دين الله؛ وهذا شيء عجيب .
والله يريد أن يبني بقاء النوع على النظافة والطهر والعفاف ولا يريد لجراثيم المفاسد أن توجد في البيوت؛ لذلك يشرع العلاقة بين الرجل والمرأة لتكون زواجا أمام أعين الناس . ويأخذ الرجل المرأة بكلمة الله .
وأضرب هذا المثل : نحن نجد الرجل الذي يحيا في بيت مطل على الشارع وله ابنة وسيمة والشباب يدورون حولها - ولو عرف الرجل أن شابا يجيء ويتعمد لينظر إلى ابنته فماذا يكون موقف الرجل من الشاب؟ إن الرجل قد يسلط عليه من يضربه أو يبلغ ضده الشرطة ويغلى الرجل بالغيظ والغَيْرة .
وما موقف الرجل نفسه عندما تدق الباب أسرة شاب طيب يطلبون الزواج من ابنته؟ يفرح الرجل ويسأل الابنة عن رأيها ، ويبارك للأم ويأتي بالمشروبات ويوجه الدعوات لحفل عقد القرآن ، فما الفرق بين الموقفين؟
لماذا يغضب الأب من الشاب الذي يتلصص؟ لأن هذا الشاب يريد أن يأخذ البنت بغير حق الله ، أما الشاب الذي جاء ليأخذ الابنة زوجة بحق الله وبكلمة الله فالأب يفرح به وينزل الأمر عليه بردا وسلاما .
(1/1398)
وبعد ذلك يتسامى الأمر ، ويتم الزفاف ويزور الأب ابنته صباح الزفاف ويرغب أن يرى السعادة على وجهها .
إن الفارق بين الموقفين هو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : " الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون ، الله الله في النساء فإنهن عَوانٍ في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " .
وما دام الله هو الذي خلق الرجل والمرأة وشرع أن يجتمعا وتكون كلمة الشاب : " أريد أن أتزوج ابنتك " بردا وسلاما على قلب الأب ، ويكون الفرح والاحتفال الكبير؛ لأن هذه مسألة عفاف وطهر . والله يريد أن يجعل استبقاء النوع الإنساني استبقاءً نظيفا لا يُخجل أن تجيء منه ولادة ، ولا يخجل منه المولود نفسه ، ولا يُذَم في المجتمع أبدا ، إذا استبقينا النوع بهذا الشكل؛ فهذا هو الاستبقاء الجميل للنوع . واستبقاء النوع هو الذي تأتي من أجله العملية الجنسية وأراد الله أن يشرعها حلالا على علم الناس ويعرفها الجميع .
وقد سألني سائل وأنا في الجزائر : لماذا تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على كلمات نحو : " زوجتك موكلتي ، أو تقول هي : زوجتك نفسي " ويقبل الرجل ، وتنكسر العلاقة بكلمة " أنت طالق "؟ وأجبته : لماذا يستبيح الرجل لنفسه أن يمتلك بضع الزوجة بكلمتين؟ ويستكثر أن تخرج من عصمته بكلمتين؟ فكما جاءت بكلمة تذهب بكلمة .
إن الحق سبحانه وتعالى كما استبقى الحياة بالعناصر التي تقدمت ، يريد أن يستبقي النوع بالعناصر التي تأتي ، وأوضح لنا أن كل كائن يتكاثر لا بد له من إخصاب ، والإخصاب يعني أن يأتي الحيوان المنوي من الذكر لبويضة الأنثى كي ينشأ التكاثر ، والتكاثر في غير الإنسان يتم بعملية قسرية .
ففي الحيوانات نرى الأنثى وهي تجأر بالصوت العالي عندما تنزل البويضة في رحمها كالبقرة مثلا ، حتى يقول الناس جميعا : إن البقرة تطلب الإخصاب ، وعندما يذهب بها صاحبها إلى الفحل ليخصبها تهدأ ، ولا تمكن فحلا آخر منها من بعد ذلك ، وهكذا يتم حفظ النوع في الحيوانات .
أما في النباتات؛ فالأنثى يتم تلقيحها ولو على بعد أميال . ونحن نعرف بعضا من ذكور النبات وإناثها مثل ذكر النخل والجميز ، لكننا لا نعرف التفريق بين ذكورة وأنوثة بعض النباتات ، وقد يعرفها المتخصصون فقط ، وبعض النباتات تكون الذكورة والأنوثة في عود واحد كالذرة مثلا؛ فالأنوثة توجد في " الشراشيب " التي توجد في " كوز " الذرة ، وعناصر الذكورة توجد في السنبلة التي يحركها الهواء كي تنزل لتخصب الأنوثة ، وكذلك القمح .
(1/1399)
وهناك أنواع من النباتات لا نعرف ذكورتها! بالله أيوجد أحدٌ عنده ذكر مانجو أو ذكر برتقال؟
إذن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها ، لكن لا بد من أن تتلاقح إخصابا لينشأ التكاثر ، فيوضح ربنا : اطمئنوا أنا جعلت الرياح حاملة لوسائل اللقاح ، يأخذ الريح اللواقح إلى النباتات ، والنبات الذي يكون تحت مستوى الريح يسخر الله له أنواعا من الحشرات غذاؤها في مكانٍ مخصوصٍ من النبات وله لون يجذبها ، حشرة يجذبها اللون الأحمر ، وحشرة يجذبها اللون الأبيض؛ لأن الحشرة تذهب للذكورة فيعلق بها حيوان الذكورة ، فتذهب إلى الأنثى المتبرجة بالزينة ، وهذه العملية تحدث ولا ندري عنها شيئا .
من الذي يلقح؟ من الذي يعلمها؟ إنه الله القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، فاستبقى لنا الأنواع غريزيا وقسريا ، بدون أن نعرف عن الكثير منها شيئا ، حتى المطر لا يمكن أن ينزل إلا إذا حدثت عملية تلقيح . ولذلك يقول الحق : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] .
إذن الحق قد استبقى لك أيها الإنسان أنواع مقومات حياتك بما لا تدريه ، وجعل هذه المسائل قسرية بحيث يؤدي كل كائن وظيفته وتنتهي المسألة ، لكن حين كان لك اختيار ، وتوجد مشقات كثيرة في الإنجاب وحفظ النوع ، فقد قرن - سبحانه - حفظ النوع بالمتعة ، وإياك أن تعزل حفظ النوع عن المتعة ، فإن أخذت المتعة وحدها فقد أخذت الفرع وتركت الأصل ، فلا بد أن تفعلها لحفظ النوع المحسوب عليك .
إذن فإياك أن تلقي حيوانك المنوي إلا في وعاء نظيف ، محسوب لك وحدك كي لا تنشأ أمراض خبيثة تفتك بك وبغيرك ، ولكيلا ينشأ جيل مطموس النسب ، ولكيلا يكون مهينا ولا مدنسا في حياته؛ فإياكم أن تأخذوا قضية حفظ النوع منفصلة عن المتعة فيها .
ولذلك - فسبحانه - سيتكلم عن المرأة عندما تتصل بامرأة بالسحاق ، أو الرجل يكتفي بالرجل باللواط للمتعة ، أو رجل ينتفع بامرأة على غير ما شرع الله . فعندما تنتفع امرأة مع امرأة ، وينتفع الرجل بالرجل للاستمتاع ، نقول لها : أنت أيتها المرأة أخذتِ المتعة وتركتِ حفظ النوع ، وأنت يا رجل أخذت المتعة وتركت حفظ النوع ، والحق يريد لك أن تأخذ المتعة وحفظ النوع معا . فيوضح سبحانه أنه لا بد أن تكون المتعة في ضوء منهج الله .
واسمعوا قول الله : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة . . . } .
(1/1400)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
و { واللاتي } اسم موصول لجماعة الإناث ، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة . وماذا يقصد بقوله : { فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً } ؟ إنه سبحانه يقصد به حماية الأعراض ، فلا يبلغ كل واحد في عرض الآخر ، بل لا بد أن يضع لها الحق احتياطا قويا ، لأن الأعراض ستجرح ، ولماذا " أربعة " في الشهادة؟ لأنهما اثنتان تستمتعان ببعضهما ، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة ، وإذا حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا ، ماذا نفعل؟
قال سبحانه : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت } أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة ، ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } وقد جعل الله .
والذين يقولون : إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة ، نقول له : إن كلمة { واللاتي } هذه اسم موصول لجماعة الإناث ، أما إذا كان هذا بين ذكر وذكر . ففي هذه الحالة يقول الحق : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [ النساء : 16 ] .
الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل ، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع المرأة ، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمرأة طلبا للمتعة هو الإمساك في البيوت حتى يتوفاهن الموت؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر ، فهذا الشر معناه الإفساد التام ، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير من أن تتعود على الفاحشة . ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار ، والعلم مازال قاصرا ، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه من المهر والشهود ، وسبحانه أعد المرأة للاستقبال ، وأعد الرجل للإرسال ، وهذا أمر طبيعي ، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له ، فالتشويش يحدث .
وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر خاطئ ومضر ، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه . أي سالب مع سالب أو موجب مع موجب تشب الحرائق ، ونقول : " حدث ماس كهربائي " ، أي أن التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة . فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الأضرار ، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في العلاقات الجنسية مضرة في البشر؟
إنني أقول هذا الكلام ليُسَجَّل ، لأن العلم سيكشف - إن متأخرا أو متقدما - أن لله سرا ، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله " زوجني . . وتقول له زوجتك " فإن الحق يجعل اللقاء طبيعيا . أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس صاعق ضار ، وهذه هي الحرائق في المجتمع .
(1/1401)
أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة : إن الذين من قبلنا قد اهتدوا إلى نفحة من نفحات الله ، ولم يركنوا إلى الكسل ، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا موصولين بالله ، ففطنوا إلى نفحات الله . والحق هو القائل : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ] .
فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا جميلا . أما إذا حدث خطأ في الاتصال ، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق ، كذلك في العلاقة البشرية ، لأن المسألة ذكورة وأنوثة .
والحق سبحانه القائل : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] .
فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان ، وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا ، فما بالنا بالإنسان؟
وفي بعض رحلاتنا في الخارج ، سألنا بعض الناس :
- لماذا عَدَّدتم للرجل نساءً ، ولم تعددوا رجالاً للمرأة؟
هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله؛ حتى تقول المرأة الساذجة - متمردة على دينها - : " ليس في هذا الدين عدالة "؛ لذلك سألت من سألوني : أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا؟
فكان الجواب : نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن .
قلت : بماذا احتطتم لصحة الناس؟
قالوا : بالكشف الطبي الدوري المفاجئ .
قلت : لماذا؟
قالوا : حتى نعزل المصابة بأي مرض .
قلت : أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين؟
قالوا : لا .
قلت : لماذا؟؟ فسكتوا ولم يجيبوا ، فقلت : لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض ، ولكن المرض ينشأ حين يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا؛ لذلك قال :
{ واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] .
والمقصود ب { نسائكم } هنا المسلمات ، لأننا لا نشرع لغيرنا ، لأنهم غير مؤمنين بالله ، وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين ، لأن المسلم يعرف قيمة العرض والعدالة . وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت .
وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض المعدي . وهناك فرق بين من أُصِبْن ب " مرض معدٍ " ومن أصبن ب " العطب والفضيحة " .
فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة؛ لذلك يقول الحق : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن يأتي لكل منهن ملك الموت . وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين .
(1/1402)
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .
ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد . . والثيب بالثيب رجم . وبعض من الناس يقول : إن الرجم لم يرد بالقرآن .
نرد فنقول : ومن قال : إن التشريع جاء فقط بالقرآن؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا للأصول ، وكما قلنا من قبل : إن الحق قال : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] .
وبعد ذلك نتناول المسألة : حين يوجد نص ملزم بحكم ، قد نفهم الحكم من النص وقد لا نفهمه ، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية .
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه ، فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد؛ لأن الفعل أقوى من النص ، فالنص قد يوجد ولا يطبق لسبب كالنَّسْخ للحكم مثلا ، أما الفعل فإنه تطبيق ، وقد رجم الرسول ماعزا والغامدية ورجم اليهودي واليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجل الوارد بالتوارة . إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضاً .
وقال واحد مرة : إن الرجم لمن تزوج ، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر؟
والحكم هنا : يُرجم الرجل وتجلد الفتاة ، فإن اتفقا في الحالة ، فهما يأخذان حكما واحدا . وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه .
وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء - المملوكات - قال : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] .
ويفهم من ذلك الجلد فقط ، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين ، فالأمة تأخذ في الحد نصف الحرة ، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة ، والأمة تجلد خمسين جلدة .
وما دام للأمة نصف حد المحصنة ، فلا يأتي - إذن - حد إلا فيما ينصَّف ، والرجم لا ينصَّف ، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرع وليس مستنبطا ، وقد رجم رسول الله . ولماذا تأخذ الأمَةُ نصف عقاب الحرة؟ لأن الإماء مهدورات الكرامة ، أما الحرائر فلا . ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت : أو تزني الحرة؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها . أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر ، أما الأمة فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد .
لذلك فعليها نصف عقاب المحصنات ، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت ، والرجم ليس له نصف .
نقول : الرجم فقد للحياة فلا نصف معه ، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب ، والعذاب هو الذي يؤلم . ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء ، والقتل وإزهاق الحياة شيء آخر ، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد :
(1/1403)
{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] .
إذن ، فالعذاب غير الذبح ، وكذلك يكون العذاب غير الرجم . فالذي يحتج به البعض ممن يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات ، والرجم ليس فيه تنصيف نقول له : إن ما تستشهد به باطل؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح ، فقال على لسان سليمان : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح ، والعذاب أيضاً غير إزهاق الروح بالرجم . إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر بالعقل :
حين يعتدي إنسان على بكر ، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر؟ إنها أضيق من دائرة الهجوم على الثيب؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا ، فقصارى ما في البكر أن الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ . أما الثيب فالاعتداء يكون على عرض الزوج أيضاً ، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر ، إنه اعتداء على عرض الأب والأم . والإخوة والأعمام مثل البكر ، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون . فإذا كان الآباء والأمهات طبقة وتنتهي ، فالأبناء طبقة تستديم؛ لذلك يستديم العار . واستدامة العار لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع ، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض .
إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة ، لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون؟ إنها رقعة متسعة ، فهل يساوي الله - وهو العادل- بين ثيب وبكر بجلد فقط؟ إن هذا لا يتأتى أبدا .
إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفّاه رسول الله وهو المشرِّع الثاني الذي امتاز لا بالفهم في النص فقط ، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص! فسنأخذ بما عمله وقد رجم رسول الله فعلا ، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا ، الثيب بالثيب هو الرجم ، والبكر بالبكر هو الجلد ، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه ، ويكون الحكم منطبقا تماما ، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه ، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه ، ونحسن تربيته ونطعمه حلالا ، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة .
والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من غير المؤمنين بمنهج الله ، ويأتينا بالدليل من غير المؤمنين بمنهج الله ، فيثبت لك بأن المنهج سليم . ولقد تعرضنا لذلك من قبل مراراً ونكررها حتى تثبت في أذهان الناس قال الحق :
(1/1404)
{ هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } [ التوبة : 33 ] .
فلا يقولن قائل : إن القرآن أخبر بشيء لم يحدث لأن الإسلام لم يطبق ولم يظهر على الأديان كلها . ونرد عليه : لو فهمت أن الله قال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } وأضاف سبحانه : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ، { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } كما جاء في موقع آخر من القرآن الكريم ، لقد أوضح الحق أن الإسلام يظهر ويتجلى مع وجود كاره له وهو الكافر والمشرك . ولم يقل سبحانه : إن الإسلام سيمنع وجود أي كافر أو مشرك .
وكيف يكره الكفار والمشركون إظهار الله للإسلام؟ إنهم لا يدينون بدين الإسلام؛ لذلك يحزنهم أن يظهر الإسلام على بقية الأديان . وهل يظهر الإسلام على الأديان بأن يسيطر عليها ويبطل تلك الأديان؟ لا . إنه هو سبحانه يوضح بالقرآن والسنة كما يوضح لأهل الأديان الأخرى :
بأنكم ستضطرون وتضغط عليكم أحداث الدنيا وتجارب الحياة فلا تجدون مخلصا لكم مما أنتم فيه إلا أن تطبقوا حكما من حكم الإسلام الذي تكرهونه .
وحين تضغط الحياة على الخصم أن ينفذ رأى خصمة فهذا دليل على قوة الحجة ، وهذا هو الإظهار على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون ، وهذا قد حدث في زماننا ، فقد روعت أمة الحضارة الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1981 بما يثبت صدق الإسلام في أنه حين ضمن ووضع للمخالطات التي تبقي النوع نظاما ، وهو التعاقد العلني والزواج المشروع ، فالحق قد ضمن صحة الخلق . لكن الحضارة الأمريكية لم تنتبه إلى عظمة قانون الحق سبحانه فَرُوِّعت بظهور مرض جديد يسمى " الإيدز " و " إيدز " مأخوذة من بدايات حروف ثلاث كلمات : حرف " صلى الله عليه وسلم " ، وحرف " I " و ، " عز وجل " .
ومعنى اسم المرض بالترجمة العربية الصحيحة " نقص مناعي مكتسب " والوسيلة الأولى للإصابة به هي المخالطة الشاذة ، ونشأت من هذه المخالطات الشاذة فيروسات ، هذه الفيروسات مازال العلماء يدرسون تكوينها ، وهي تفرز سموما وتسبب آلاما لا حصر لها ، وإلى الآن يعيش أهل الحضارة الغربية هول الفزع والهلع من هذا المرض .
ومن العجيب أن هذه الفيروسات تأتي من كل المخالطات الشاذة سواء أكانت بين رجل ورجل ، أو بين رجل وامرأة على غير ما شرع الله .
لقد جعل الحق سبحانه وتعالى عناصر الزواج " إيجابا " و " قبولا " و " علانية " إنه جعل من الزواج علاقة واضحة محسوبة أمام الناس ، هذا هو النظام الرباني للزوج الذي جعل في التركيب الكيميائي للنفس البشرية " استقبالا " و " إرسالا " .
والبشر حين يستخدمون الكهرباء . . فالسلك الموجب والسلك السالب - كما قلنا - يعطيان نورا في حالة استخدامهما بأسلوب طبيعي ، لكن لو حدث خلل في استخدام هذه الأسلاك فالذي يحدث هو ماس كهربائي تنتج منه حرائق .
(1/1405)
وكذلك الذكورة والأنوثة حين يجمعها الله بمنطق الإيجاب والقبول العلني على مبدأ الإسلام ، فإن التكوين الكيميائي الطبيعي للنفس البشرية التي ترسل ، والنفس البشرية التي تستقبل تعطي نورا وهو أمر طبيعي .
وأوضحنا من قبل أن الإنسان حين يجد شابا ينظر إلى إحدى محارمه ، فهو يتغير وينفعل ويتمنى الفتك به ، لكن إن جاء هذا الشاب بطريق الله المشروع وقال والد الشاب لوالد الفتاة : " أنا أريد خطبة ابنتك لابني " فالموقف يتغير وتنفرج الأسارير ويقام الفرح .
إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق والبِشر ، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والأنوار والزينات هو دليل واضح على أن هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال بالطريق النظيف الشريف العفيف .
فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن الآن .
وعلى هذا قول الحق سبحانه : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] .
وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد . ويقول الحق : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ . . . } .
(1/1406)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم ، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية ، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق . وقلت من قبل : إنني عندما أقول : " فلان أكاَّل " قد يختلف المعنى عن قولي : " فلان آكل " ، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة ، فهل هو يأكل كثيرا في الوجبة الواحدة ، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد الوجبات ، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات ، عندئذ يقال له : " أكَّال " ، أي أّنّه أكثر عدد الوجبات ، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد حجمها .
أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة العادية ، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة ، فنقول : إنه " أكول " ، إذن فصيغة المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد ، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث الواحد .
إن قولك : " الله توَّاب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى ملايين الملايين من البشر ، فالتوبة تتكرر . وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه توبة عظيمة؟هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق والإبداع ، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف هذه القوانين ، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة .
والتقنين في ذاته يقطع العذر ، فساعة أن قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول : " لم أكن أعلم "؛ لأن ذلك هو القانون ، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس البشرية قد تضعف ، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج ، فنحن لسنا ملائكة ، وسبحانه حين يقنن يقطع العذر ، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث . وبعد ذلك يعاقب ، وهناك أفعال مجرمة ، ولكن المشرِّع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا ، لا عن تقصير منه ، ولكن التجريم يأتي كفرع .
إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك ، كالسرقة - مثلا - إنه سبحانه وضع حدا للسرقة ، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق ، أو تزني؛ لذلك فالحد موجود ، لكن هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة ، وكأنه سبحانه يريد آن يدلنا من طرف خفي على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون . مثال ذلك اللواط ، لم يذكر له حداً ، لماذا؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله ، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود في الحيوان .
لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب ، لا ، إنه داخل في الحساب بصورة أقوى؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن يحدث ، وحين يترك هذه المسألة بدون تجريم ، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح أن تفعلها ، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما ، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة .
(1/1407)
إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها ، لا . هناك حساب ، فقد تكون العقوبة أفظع ، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل . إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق جبل ، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم . وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أَنَّ هذا الأمر غير مباح ، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها ، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا يصح أن يحدث ، بدليل أنه لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان .
وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية . نقول : يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل ذلك الفعل أبدا ، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى ، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب من ذكر آخر ، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات بالاقتراب منها ، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن نسميها شهوة إنسانية ، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة . ومن يقول عن الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات . والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه الخطايا يوضح لنا : أنه التواب الرحيم ، لماذا؟
انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها ، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن ، لفقد التكليف ضرورته . معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة .
فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعاً للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح ، اسمه " تكليف " وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة . وحين يشرع الله التوبة ، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف ، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية من المعاصي ، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه ، بل هو يقنن العقوبة ، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يُخِرج الذي اختار الإسلام وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف ، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت اللعنة مصير كل من يضعف أمامٍ شهوة ، ولصار العاصي متمرداً لا يأبه ولا يلتفت من بعد ذلك إلى التكليف ، يَلِغُ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور .
(1/1408)
إذن فساعة شرع الله التوبة سدَ على الناس باب " الفاقدين " الذين يفعلون ذنباً ثم يستمرون فيه ، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه القائل : { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ولو قال الحق إنه تواب فقط لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة ، ولكنه أيضاً قال : { تَوَّاباً رَّحِيماً } أي أنه يرحم بعضاً من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من البداية . فالرحمة ألا تقع في المعصية .
وبعد ذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى للتوبة : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ . . . }
(1/1409)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني ، هو سبحانه يقول : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } وقد يقول واحد : ما دام الحق شرع التوبة ، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب . نقول له : إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت ، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية ، وعليك أن تلتفت إلى دقة النص القرآني :
{ إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 17 ] .
وفعل السوء بجهالة ، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب ، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية . بل هو يتجاهل العقوبة؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .
فلو كان إيمانه صحيحاً ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا ، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم ، لما قام بذلك الفعل .
والحق قد قال : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويُزْهَى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية ، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادماً ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك؟
وأضرب مثلاً للتمييز بين الاثنين ، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس ، واحد منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا ، ويحاول أن يحصل على عناوين أماكن اللهو والخلاعة ، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو ، وعندما يعود يظل يفاخر بما فعل من المعاصي .
وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة ، وبيْنما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء وتزيين ، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط ، وبعد أن هدأت شِرَّة الشهوة غرق في الندم ، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية . هكذا نرى الفارق بين المخطط للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية .
والله سبحانه حين قدَّر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعاً بتقنين هذه التوبة ، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها ، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملاً له ، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة ، ثم تاب من قريب . والرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد معنى " من قريب " قال : ( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) .
والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين }
(1/1410)
[ الحجر : 39-40 ] .
إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له ، لكن الله - سبحانه - خيَّب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر ، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد . فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع؟ لن يستفيد المجتمع شيئاً من مثل هذه التوبة؛ لأنه تاب وقت ألاّ شر له؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي . { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } هل يتوب أولا ، ثم يتوب الله عليه؟
أنه سبحانه يقول : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } [ التوبة : 118 ] .
هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا : هل يتوب العبد أولاً وبعد ذلك يقبل الله التوبة؟ أم أن الله يتوب على العبد أولاً ثم يتوب العبد؟ صريح الآية هو : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } ونقول : وهل يتوب واحد ارتجالاً منه ، أو أن الله شرع التوبة للعباد؟ لقد شرع الله التوبة فتاب العبد ، فقبل الله التوبة .
نحن إذن أمام ثلاثة أمور : هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله ، أي أن أحداً لم يبتكر التوبة ، ولكن الذي خلقنا جميعاً قدَّر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة . وهو المقصود بقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله " ليتوبوا " وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب } [ غافر : 3 ] .
تأمل كلمة { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } تجدها في منتهي العطاء ، فإذا كان الواحد فقيراً ومديناً وأحال دائنه إلى غني من العباد فإنّ الدائن يفرح؛ لأن الغنيّ سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن ، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله ، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه ، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها ، ثم قال : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أي أن العبد يرجو التوبة من الله ، وحين قال : { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علماً واسعاً بما يمكن أن يكون وينشأ . والذين يتخبطون في تقنينات البشر ، لماذا يقنون اليوم ثم يعدلون عن التقنين غداً؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن يحدث ، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم .
إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية ، وذلك لأنه لا يستوعبها إلا في بيئته أو في البيئة التي وصله خبرها ، فحتى في الماضي لا يقدر ، ولا في المستقبل يقدر ، وكذلك في الحاضر أيضاً ، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في بيئة أخرى .
(1/1411)
ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة : أي أن ما يجعل الشيء غيباً عن الإنسان هو ثلاثة أمور :
الأمر الأول : هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم يعرفوها؛ لذلك فالماضي قد حُجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي؛ ولذلك يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] .
ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر ، ومع ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّاً لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه . ويقول أيضاً سبحانه : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] .
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن الله ، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم . إذن فالذي اخترق حجاب الزمن وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله .
والأمر الثاني : هو حجاب الحاضر ، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن واحد ، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان ، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني ، ولكني لا أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به ، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يُضمر الشخصُ الشيء في نفسه . فالحق يقول : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] .
هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه . وبالله لو لم يكونوا قد قالوه في أنفسهم ، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباراً عن الله . وقد خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان .
والأمر الثالث : هو حجاب المستقبل ، فيقول القرآن : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
ونلحظ أن كلمة " سيهزم " فيها حرف " السين " التي تُنبئ عن المستقبل ، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم . وعندما يسمعها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينفعل ويقول لرسول الله : أي جمع هذا؟
وجاء الجمع في بدر وولَّى الدبر . حدث ذلك الإخبار في مكة ، ووقعت الأحداث بعد الهجرة . وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلاً بالنسبة لوجود المسلمين في مكة .
أكان من الممكن أن يقول سبحانه : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } لولا أن ذلك سيحدث بالفعل؟
لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به .
(1/1412)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إبلاغاً عن الله وهو واثق ، ويطلقها الله على لسان رسوله حُجة فيمسكها الخصم ، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث ويعلمها .
ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش ، فيقول الحق : { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } [ القلم : 16 ] .
أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه . ويأتي يوم بدر ، فيجدون الضربة على أنف الوليد . لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماضٍ ويأتي بها الزمن المستقبل ، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء . ويأخذون الجزئية البسيطة ويرقُّونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة . ويقولون :
- إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين ، ويأخذون من أحداث الدنيا الواقعة ما يكون دليلاً على صدق الأحداث في الآخرة .
ويذيل الحق الآية : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي عليما بالتقنينات فشَرَّع التوبة لعلمه - جل شأنه - بأنه لو لم يشرِّع التوبة ، لكان المذنب لمرة واحدة سبباً في شقاء العالم؛ لأنه - حينئذ - يكون يائساً من رحمة الله .
إذن فرحمة منه - سبحانه - بالعالم شرّع الله التوبة . وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة ، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا . وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله : " كان " فلا نقول ذلك قياساً على زماننا نحن ، أو على قدراتنا نحن ، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
فقد يقول الكافر : " إن علم الله كان " ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن ، لا ، فعلم الله كان ولا يزال؛ لأن الله لا يتغير ، وما دام الله لا يتغير ، فالثابت له من قبل أزلاً يثبت له أبداً والحكمة هي وضع الشيء في موضعه . وما دام قد قدر سبحانه وضع الشيء ، فالشيء إنما جاء عن علم ، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة .
والحق يقول :
{ إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 17 ] .
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده ، فإذا تابوا قَبِلَ توبتَهم ، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة . وانظروا إلى دقة العبارة في قوله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } ، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال : على مَن ، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال : عل مَن ، بل يقال : ليس بالنفي . إنّ الحق عندما قرر التوبة عليه - سبحانه - وأوجبها على نفسه ، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فوراً ، إنه يدلنا أيضاً على مقابل هؤلاء ، فيقول : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ . . . } .
(1/1413)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
هنا يوضح الحق أن توبة هؤلاء الذين يعملون السيئات لم توجد من قريب . وهم يختلفون عن الذين كتب الله قبول توبتهم ، هؤلاء الذين يعيشون وتستحضر نفوسهم قِيَم المنهج ، إلا أن النفوس تضعف مرة . أما الذين لا يقبل منهم التوبة فهم أصحاب النفوس التي شردت عن المنهج في جهات متعددة ، وهم لم يرتكبوا " سوءاً " واحداً بل ارتكبوا السيئات . فالذي ارتكب سوءاً واحداً فذلك يعني أنه ضعيف في ناحية واحدة ويبالغ ويجتهد في الزوايا والجوانب الأخرى من الطاعات التي لا ضعف له فيها ليحاول ستر ضعفه .
إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير ، فهذه المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها فيأتوا في نواحي خير كثيرة ، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي تركوها وأقلعوا وتابوا عنها .
ومن ذلك نعلم أن أحداً لا يستطيع أن يمكر مع الله؛ فالذي أخذ راحته في ناحية ، يوضح له الله : أنا سآتي بتعبك من نواحٍ أخرى لصالح منهجي ، ويسلط الله عليه الوهم ، ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به ، فيندفع إلى صنع الخير . وكأن الحق يثبت للمسيء : أنت استمتعت بناحية واحدة ، ومنهجي وديني استفادا منك كثيراً ، فأنت تبني المساجد والمدارس وتتصدق على الفقراء ، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة .
إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله ، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة بكلمة " السوء " ، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه يفعل " السيئات " ، فهل ليس صاحب نقطة ضعف واحدة ، لكنه يقترف سيئات متعددة ، ويمعن في الضلال ، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ الأجل ، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملاحدة ، أو الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين .
مثال ذلك مذهب " الماسونية " ، يقال : إن هذا المذهب وضعه اليهود ، والظاهر في سلوك الماسونيين أنهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع ، وما خفي من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية ، وقد ينضم إليهم بعض ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر . ونقول لكل واحد من هؤلاء : انظر إلى دينك ، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير ، فلماذا تنسبه إلى الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي . ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام وتنسبه لغير الإسلام؟
وفي هذا العصر هناك ما يسمّى بأندية " الروتاري " ويأخذ الإنسان غرور الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية ، ويقول : " أنا عضو في الروتاري " وعندما تسأله : لماذا؟ يجيب : إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة ، ونقول له : وهل الإسلام حرم ذلك؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى " الروتاري " ، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام؟ إذن فهذا عداء للمنهج .
(1/1414)
ونجد الشاردين عن المنهج ، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له : ما تريد نفسك الآن؟ وأراد الرجل أن يحاد الله فقال : تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان ، وعلى كأس خمر ، وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق .
إنه يريد فطر رمضان وهو محرّم ، ويفطر على خمر وهي محرمة ، وبثمن خنزير والخنزير حرام على المسلم ، والخنزير مسروق أيضا . وسألوه : ولماذا كل هذا التعقيد؟ فقال : حتى تكون هذه الفعلة حراماً أربع مرات .
إذن فهذه مضارة لله ، وهذا رجل شارد عن المنهج . فهل هذا يتوب الله عليه؟ لا ، { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب ، ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه { إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } لكن التوبة لا تقبل ، ولن ينتفع بها المجتمع ، وشر مثل هذا الإنسان انتهى ، وتوبته تأتي وهو لا يقدر على أي عمل ، إذن فهو يستهزئ بالله؛ فلا تنفعه التوبة .
ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه " لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " .
هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر ، فيأخذ عذاباً على قدر ما فعل من ذنوب ، ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " فيوضح سبحانه : لن نجعلك كالكافر؛ بدليل أنه عطف عليه { وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } ، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من العذاب على قدر ما ارتكب من معاصٍ ، ويحترم الحق إيمان القمة ، فيدخلون الجنة؛ لذلك لم يقل الحق : إنهم خالدون في النار . وإنما قال : { أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } و " أولئك " تعني الصنفين - المؤمن والكافر - فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه .
ويقول الحق من بعد ذلك : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . } .
(1/1415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
وقلنا : ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } ، فمعناها : يا من آمنتم بي بمحض اختياركم ، وآمنتم بي إلهاً له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية ، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا من الإله الأحكامَ التي يطلبها منكم . إذن فهو لم يناد غير مؤمن وإنما نادى من آمن باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } [ البقرة : 256 ] .
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم . لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غَبْن وظلم وحيف عليهن . - وسبحانه - قال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } وكلمة " ورث " تدل على أن واحداً قد توفي وله وارث ، وهناك شيء قد تركه الميت ولا يصح أن يرثه أحدٌ بعده؛ لأنه عندما يقول : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ } ، فقد مات موّرث؛ ويخاطب وارثاً . إذن فالكلام في الموروث ، لكن الموروث مرة يكون حِلاً ، ولذلك شرع الله تقسيمه ، وتناولناه من قبل ، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثاً ، ما هو؟
قال سبحانه : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } ، وهل المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن؟ لا . إن الوارث يرث من مورثه الإماء اللاتي تركهن ، ولكن عندما تنصرف كلمة " النساء " تكون لأشرف مواقعها أي للحرائر ، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين ، { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } ، وهل فيه ميراث للنساء برضى؟ وكيف تورث المرأة؟
ننتبه هنا إلى قوله سبحانه " كرها " ، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات وعنده امرأة جاء وليه ، ويلقي ثوبه على امرأته فتصير ملكا له ، وإن لم تقبل فإنه يرثها كرها ، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها ، أو يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك؛ لذلك جاء القول الفصل :
{ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } ، و " العضل " في الأصل هو المنع ، ويقال : " عضلت المرأة بولدها " ، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط . فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط ، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد ، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة ، فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض ، فتأتي هنا العمليات التي يقومون بها مثل القيصرية .
إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا يخرج الوليد ، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة ، ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب ، لا .
(1/1416)
ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب : قفي فتقف .
إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة القدرة ، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا ، فسوف يقول الناس : إن الميكانيكا دقيقة لا تتخلف . لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه ، فهو لم يزاول السلطان مرة واحدة ، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف ، لا ، هو يوضح لنا : أنا قيوم لا تأخذني سِنَةٌ ولا نوم ، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي ، وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر .
وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون ، حتى لا تَفْتِنَّاً رتابة الأسباب ، ولنذكر الله باستمرار ، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها ، فلا تتولد عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائماً ، ويلفتنا الحق إلى وجوده ، فتختلف الأسباب لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها ، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل ، ولو شاء لعطلها .
قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام ، حيث ألقاه أهله في النار ولم يُحرق ، كان من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى ، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم؟ إن كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه ، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت منهم ، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار ، وكان المطر كفيلا بإطفاء النار ، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار . وبعد ذلك يقول لها الحق : { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] .
بالله أهذا غيظ لهم أم لا؟ هذا غيظ لهم؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار ، وبعد ذلك لم يَنْزِل مطر ليطفئ النار ، والنار موجودة وإبراهيم في النار ، لكن النار لا تحرقه . هذه هي عظمة القدرة .
إذن فما معنى " تعضلوهن "؟ العضل : أخذنا منه كلمة " المنع "؛ فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد ، وأنت ستعضلها كيف؟ بأن تمنعها من حقها الطبيعي حين مات زوجها ، وأن من حقها بعد أن تقضي العدة أَنْ تتزوج من تريد أو من يتقدم لها ، وينهى الحق : " ولا تعضلوهن " أي لا تحبسوهن عندكم وتمنعوهن ، لماذا تفعلون ذلك؟ { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } كأن هذا حكم آخر ، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم ، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثانٍ .
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها : والله لن أطلقك ، أنا سأجعلك موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي وذلك حتى تفتدي نفسها فتُبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك الأفعال .
(1/1417)
ولكن متى تعضلوهن؟ هنا يقول الحق : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } لأنهم سيحبسونهن ، وهذا قبل التشريع بالحد . وقال بعض الفقهاء : للزوج أن يأخذ من زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء عشرة ، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج .
ويتابع الحق : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } وكلمة " المعروف " أوسع دائرة من كلمة المودة؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك لمواددته ، أنك فرح به وبوجوده ، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره ، وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة ، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به أن في القرآن تعارضا فيقولون : قرآنكم يقول : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } [ المجادلة : 22 ] .
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحداً من عشيرته لمجرد كفره . والقرآن في موقع آخر منه يقول؟ { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] .
ونقول : إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف . ف " الود " شيء و " المعروف " شيء آخر . الود يكون عن حُب ، لكن المعروف ليس ضروريا أن يكون عن حُب ، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبي احتياجاته المادية . هذا هو المعروف ، إنما الوُد هو أن أعمل لإرضاء نفسي . وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه الكافر لا يعطف عليه نتيجة للوُد ، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف؛ لأنه حتى لو كان كافراً سيعطيه بالمعروف .
ألم يعاتب الحق - سبحانه - إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه : أنه غير مؤمن لذلك لم يضيّفه؟ فقال له ربنا : أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد أن تغير دينه ، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ جرى فلحق بالرجل . وناداه فقال له الرجل : ما الذي جعلك تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال له إبراهيم : " والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا . فقال له الرجل : أربك عاتبك وأنت رسول فيّ وأنا كفر به ، فنعم الرب ربٌ يعاتب أحبابه في أعدائه ، فأسلم .
هذا هو المعروف ، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة الزوجية ، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يُخربوا البيوت .
(1/1418)
إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت لخُربَ البيت ، نقول لهم : لا . بل { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } حتى لو لم تحبوهن ، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك ، يا هذا أنت لم تفهم عن الله؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك ، ولكن المفروض في المرأة أن تكون مصرفا ، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا . فأنت لا تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إذا رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها " .
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك ، ولذلك عندما جاء رجل لسيدنا عمر - رضي الله عنه - وقال : يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد أن أطلقها ، قال له : أَوَ لَمْ تُبن البيوت إلا على الحب ، فأين القيم؟ لقد ظن الرجل أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه ، ويدخل كل يوم ليقبلها ، فيلفته سيدنا عمر إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة وتربط المرأة بالرجل .
لذلك يقول الحق : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } ، أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها هي التي ستجعلها تحسن في عدة زوايا؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة ، فلا تبن المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا ، لا . فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا ، أما أن ترى في المرأة أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط . وأن تعيش معك من أجل العلاقة الجنسية فقط ، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة ، فلا تأخذ من المرأة زاوية واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي ، وخذ زوايا متعددة .
واعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه ، هذه أعطاها جمالاً ، وهذه أعطاها عقلاً ، وهذه أعطاها حكمة ، وهذه أعطاها أمانة ، وهذه أعطاها وفاء ، وهذه أعطاها فلاحاً ، هناك أسباب كثيرة جدا ، فإن كنت تريد أن تكون منصفاً حكيماً فخُذ كل الزوايا ، أما أن تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة ، هنا نقول لك : ليست هذه هي الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط . { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .
وانظر إلى الدقة في العبارة { فعسى أَن تَكْرَهُواْ } فأنت تكره؛ وقد تكون محقا في الكراهية أو غير محق ، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه : { وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق بدينها ، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزوايا خيراً كثيراً .
(1/1419)
وما دام ربنا هو من يجعل هذا الخير الكثير فاطمئن إلى أنك لو تنبهت لزاوية أنت تكرهها ومع ذلك تصبر عليها ، فأنت تضمن أن ربنا سيجعل لك خيراً في نواحٍ متعددة ، إن أي زاوية تغلبت على كرهك سيجعل الله فيها خيرا كثيرا .
إن الحق يطلق القضية هنا في بناء الأسرة ثم يُعمم ، وكان بإمكانه أن يقول : فعسى أن تكرهوهن ويجعل الله فيهن خيرا ، لا . فقد شاء أن يجعلها سبحانه قضية عامة في كل شيء قد تكرهه ، وتأتي الأحداث لتبين صدق الله في ذلك ، فكم من أشياء كرهها الإنسان ثم تبين له وجه الخير فيها . وكم من أشياء أحبها الإنسان ثم تبين له وجه الشر فيها ، ليدلك على أن حكم الإنسان على الأشياء دائما غير دقيق ، فقد يحكم بكره شيء وهو لا يستحق الكره ، وقد يحكم بحب شيء وهو لا يستحق الحب .
إذن فالحق سبحانه وتعالى يأتي بالأشياء مخالفة لأحكامك { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } فقدر دائما في المقارنة أن الكره منك وجَعْل الخير في المرأة من الله ، فلا تجعل جانب الكره منك يتغلب على جانب جعل الخير من الله ويقول الحق من بعد ذلك : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ . . . } .
(1/1420)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
فإذا ضاقت بك المسائل ، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة الزوجية في إطار يرضى عنه الله ، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله ، ماذا تفعل؟ يقول سبحانه : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله ، وعليك في هذا الاستبدال أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رضي الله عنه على الرجل الذي كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته . قال سيدنا الحسن - رضي الله عنه - : إن جاءك الرجل الصالح فزوجه ، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها ، وإن كرهها لم يظلمها .
والحق يقول : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } فهذا يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا ، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف عن المنهج . وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية الغريزية ، فيطلقها ولا يتزوج ، فما شروط المنهج في هذا الأمر؟
يقول الحق : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } . كلمة " قنطار " وكلمة " قنطرة " مأخوذة من الشيء العظيم . وقنطار تعني " المال " . وقدروه قديما بأنه ملئ مَسْك البقرة ، و " المسك " هو الجلد ، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة ، وملء مَسْكها يسمى قنطارا ، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وَزْنِيّة ، والحق حين يعظم المهر بقنطار يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } فهو يأتي لنا بمثل كبير وينهانا بقوله : { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } . لماذا؟ لأنك يجب أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي حياتكما ، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة ، فلا تحسبها بمقدار ما مكثت معك ، لا ، إنما هو ثمن البضع ، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها ولو مرة واحدة .
إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى ، لحظة تَمكّنِك منها . { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أخطأ عمر وأصابت امرأة ، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور؛ فقالت له المرأة : كيف تقول ذلك والله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } ، فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر .
عن عمر رضي الله عنه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة درهم ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } ؟ فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال : " إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدُقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب "
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر - رضي الله عنه - قال : " لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة ، فمن زاد أوقية جعلتُ الزيادة في بيت المال ، فقالت امرأة : ما ذاك لك ، قال ولَم؟ فقالت : لأن الله تعالى يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } فقال عمر : " امرأة أصابت ورجل أخطأ " .
(1/1421)
ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول : { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } لماذا؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا ، بل هو ثمن تمكنك منها ، وهذا يحدث أَوَّل ما دخلت عليها . وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم ، إلاَّ إذا رضيت بذلك ، والإثم المبين هو الإثم المحيط .
ويأتي الحق من بعد ذلك بمزيد من الاستنكار فيقول : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } . إنه استنكار لعملية أخذ شيء من المهر بحيثية الحكم فيقول : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ . . . } .
(1/1422)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرر لكم الأخذ ، لماذا؟ لأن الحق قال : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } وانظر للتعليل : { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } . إذن فثمن البُضْع هو الإفضاء ، وكلمة { أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } كلمة من إله؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة و " أفضى " مأخوذة من " الفضاء " والفضاء هو المكان الواسع ، { أفضى بَعْضُكُمْ } يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق .
إذن فالإفضاء معناه : أنكم دخلتم معا أوسع مدَاخَلة ، وحسبك من قمة المداخلة أن عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك ، ولا يوجد إفضاء أكثر من هذا ، ودخلت معها في الاتصال الواسع ، أنفاسك ، ملامستك ، مباشرتك ، معاشرتك ، مدخلك ، مخرجك ، في حمامك ، في المطبخ ، في كل شيء حدثت إفضاءات ، وأنت ما دمت قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] .
أي شيء تريد أكثر من هذا!؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها ، قد يغضب ، ونقول له : يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك ، وأعطتك عرضها ، فحين تشتد عليك لا تغضب ، وتذكَّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " .
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } والميثاق هو : العهد يؤخذ بين اثنين ، ساعة سألت وليها : " زوجني " فقال لك : زوجتك ، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة جديدة ، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي ، إلا الميثاق بين الرجل والمرأة التي يتزوجها؛ فهذا هو الميثاق الغليظ ، أي غير اللين ، والله لم يصف به إلاَّ ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ ، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ ، ففي هذه الآية { أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من الزوجين لباسا وسترا للآخر { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } لهذا كان الميثاق غليظا ، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن تتحملها وتعاملها بالمعروف ، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن تستبدلها ، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا ، لماذا؟ لأن ذلك هو ثمن الإفضاء ، وما دام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم ، فلا تأخذ منه شيئا ، فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه ، لا .
والحق يقول : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع فهو يشرع الحقوق ، ولكنه لا يمنع الفضل ، بدليل أنه قال :
(1/1423)
{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] .
إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم ، والأثر يحكي عن القاضي الذي قال لقومه : أنتم اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني؟! أأحكم بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فقالوا له : وهل يوجد خير من العدل؟ قال : نعم ، الفضل . فالعدل : أن كل واحد يأخذ حقه ، والفضل : أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه ، وتنتهي المسألة ، إذن فالفضل أحسن من العدل ، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات ، ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس :
فيقول - جل شأنه - : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 237 ] .
ويقول الحق في آية الدَّين : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } [ البقرة : 282 ] .
ويأمركم الحق أن توثقوا الدَّيْن . . لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون المدين نفسه ، لأنه حين يعلم أن الدّيْن موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره ، لكن لو لم يكن مكتوبا فقد تُحدثه نفسه أن ينكره ، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه قال : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ } ، وقال بعدها : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] .
فقد تقول لمن يستدين منك : لا داعي لكتابة إيصال وصكٍّ بيني وبينك ، وهذه أريحية لا يمنعها الله فما دام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه .
وما دام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك . فما بالنا بالميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة . . وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق ، ولا يوجد ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة؛ لأنه تعرض لمسألة لا تباح من الزوجة لغير زوجها ، ولا من الزوج لغير زوجته . إن على الرجل أن يوفى حق المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي . فقد سبق أن قال الحق : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] .
وما دامت النفس قد طابت ، إذن فالرضا بين الطرفين موجود ، وذلك استطراق أُنسى بين الرجل والمرأة . فالمهر حقها ، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل ، فهو في ذمة الزوج ، إن شاء أعطاه كله أو أخّره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه . ولكن حين تنفصل الزوجة بعد الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها ، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه ، أو تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق . ولكن حين تنتقل ملكية المهر إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } فهو هبة تخرج عن تراضٍ .
(1/1424)
وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين . وبعد ذلك يبقى حكم آخر . هَبْ أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة .
حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدي منه نفسها ببعض المال لأنها كارهة ، وما دامت هي كارهة ، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة ، إذن فلا مانع أن تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } [ البقرة : 229 ] .
والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها ، ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب :
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] .
فكأن " وكيف تأخذونه " هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح لك أن تأخذ منها مهرها ، فساعة يستفهم فيقول : " كيف " فهذا تعجيب من أن تحدث هذه ، وقلنا : إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي إلا حقوقاً دون العرض ، ولكن ميثاق الزواج يعطي حقوقاً في العرض ، ومن هنا جاء غلظ الميثاق ، وكل عهد وميثاق بين اثنين قد ينصب إلى المال ، وقد ينصب إلى الخدمة ، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه الدَيَّة ، وقد ينصب إلى أنك تعطية مثلاً المعونة ، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة العرض ، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين ، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ .
وبعد ذلك يتناول الحق سبحانه وتعالى قضية يستديم بها طهر الأسرة وعفافها وكرامتها وعزتها ، ويبقى لأطراف الأسرة المحبة ، والمودة فلا يدخل شيء يفضي على هذه المحبة والمودة ، ويُدخل نزغ الشيطان فيها . قال الحق سبحانه : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ . . . }
(1/1425)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
فكأن هذه المسألة كانت موجودة ، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه . و " صفوان بن أمية " وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على " فاختة بنت الأسود بن المطلب " كانت تحت أبيه ، فلما مات أبوه تزوجها هو ، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة ، لماذا؟ لأن الأب والابن لهما من العلاقات كالمودَّة والرحمة والحنان والعطف من الأب ، والبر والأدب ، والاستكانة ، وجناح الذل من الابن ، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن ، فذلك دليل على أن الأب كان متزوجاً أمه قبلها ، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة .
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه ، ربما راقته ، ربما أعجبته ، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين نفسه : بعدما يموت أبي أتزوجها ، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده يتزوجها ، ربما يفرح بموت أبيه ، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه ، وأنتم تعلمون سعار الغرائز حين تأتي ، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل الالتقاء ولو بالرجاء والتمني ، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي تحت أبيه نظرته إلى أمه ، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان .
فيقول الحق : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } والنكاح هنا يُطلق فينصرف إلى الوطء والدخول ، وقد ينصرف إلى العقد ، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول - أي العملية الجنسية - هو الشائع والأوْلى ، لأن الله حينما يقول : " الزاني لا ينكح إلا زانية " معناها أنَّه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج .
والحق هنا يقول : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } فما هو السلف هذا؟ إن ما سلف كان موجوداً ، أي جاء الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعاً ، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر . فالزمن الجديد بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام ، ولذلك قال - سبحانه - : { إلا ما قد سلف } فجاء ب ( ما ) وهي راجعة للزمن . كأن الزمن الجديد لا يوجد فيه هذا .
هب أن واحداً قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم . . أيقول سلف أن تزوّجتها قبل الحكم! نقول : لا الزمن انتهى ، إذن فقوله : { مَا قَدْ سَلَفَ } يعني الزمن ، وما دام الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور . لذا جاءت ( ما ) ولو جاءت ( مَن ) بدل ( ما ) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه ، لكنه قال ( إلا ما قد سلف ) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء ألبتة ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج .
(1/1426)
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرِّع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة السليمة . فلم يقل : إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة ، بل إنه برغم وجوده من قديم كان فاحشة وكان فعلاً قبيحاً { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة ، إلا أنّ الناس عندما فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه ، ولذلك إذا استقرأت التاريخ القديم وجدت أن كل رجل تزوج من امرأة أبيه كان يُسمَّى عندهم نكاح " المقت " والولد الذي ينشأ يسمُّونه " المقتي " أي المكروه .
إذن فقوله : { إنه كان } أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم { كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } . فالله يوضح : إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة . والفطرة قد تنطمس في بعض الأمور ، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة والتحريم فيها يتم بالفطرة .
مثال ذلك : أن واحداً ما تزوج أمه قبل ذلك ، أو تزوج ابنته ، أو تزوج أخته . إذن ففيه أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحدٌ عليها . إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة ، فقال سبحانه : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي مضى .
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه { كان فاحشة } أي قبحاً ، و { مقتاً } أي مكروهاً ، { ساء سبيلا } أي في بناء الأسرة .
ثم شرع الحق سبحانه وتعالى يبين لنا المحرمات وإن كانت الجاهلية قد اتفقت فيها ، إلا أن الله حين يشرع حكماً كانت الجاهلية سائرة فيه لا يشرعه لأن الجاهلية فعلته ، لا . هو يشرعه لأن الفطرة تقتضيه ، وكون الجاهلية لم تفعله ، فهذا دليل على أنها فطرة لم تستطع الجاهلية أن تغيرها ، فقال الحق سبحانه وتعالى :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ . . . } .
(1/1427)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
من الذي يحلل ويحرم؟ إنه الله ، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج المحارم؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها . أي أنهم قد حرموا الأم والبنت والأخت . . إلخ ، من أين جاءتهم هذه؟ الحق يوضح : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] .
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله : { قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ طه : 123 ] .
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته ، أنزل لهما المنهج ، مستوفي الأركان ، إذن فبقاء الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب الديانات القديمة ، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة . . أي أن الناس اعتادوه وفطروا عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات سابقة .
والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله ، لأنهم وجدوا أن كل تكاثر سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان أيضاً ، كلما ابتعد النوعان " الذكورة والأنوثة " فالنسل يجيء قوياً في الصفات . أما إذا كان الزوج والزوجة أو الذكر والأنثى من أي شيء : في النبات ، في الحيوان ، في الإنسان قريبين من اتصال البنية الدموية والجنسية فالنسل ينشأ ضعيفاً ، ولذلك يقولون في الزراعة والحيوان : " نهجن " أي نأتي للأنوثة بذكورة من بعيد . والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا :
( اغتربوا لا تضْوُوا ) وقال : " لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا " .
فالرسول يأمرنا حين نريد الزواج ألا نأخذ الأقارب ، بل علينا الابتعاد ، لأننا إن أخذنا الأقارب فالنسل يجيء هزيلاً . وبالاستقراء وجد أن العائلات التي جعلت من سنتها في الحياة ألا تنكح إلا منها ، فبعد فترة ينشأ فيها ضعف عقلي؛ أو ضعف جنسي؛ أو ضعف مناعي ، فقول رسول الله : " اغتربوا لا تضووا " أي إن أردتم الزواج فلا تأخذوا من الأقارب ، لأنكم إن أخذتم من الأقارب تهزلوا ، فإن " ضَوِي " بمعنى " هزل " فإن أردتم ألا تضووا ، أي ألا تهزلوا فابتعدوا ، وقبلما يقول النبي هذا الكلام وجد بالاستقراء في البيئة الجاهلية هذا . ولذلك يقول الشاعر الجاهلي :
أنصح من كان بعيد الهم ... تزويج أبناءٍ بنات العم ... فليس ينجو من ضَوَى وسُقْم ... فقد يضوي سليل الأقارب ، وعندنا في الأحياء الشعبية عندما يمدحون واحداً يقولون : " فتوة " أي فتى لم تلده بنت عم قريبة . وفي النبات يقولون : إن كنت تزرع ذرة في محافظة الغربية لا بد أن تأتي بالتقاوى من محافظة الشرقية مثلا ، وكذلك البطيخ الشيليان . يأتون ببذوره من أمريكا ، فيزرعونها فيخرج البطيخ جميلاً لذيذا ، بعض الناس قد يرفض شراء مثل تلك البذور لغلو ثمنها .
(1/1428)
فيأخذ من بذور ما زرع ويجعل منه التقاوى ، ويخرج المحصول ضعيفاً . لكن لو ظل يأتي به من الخارج وإن وصل ثمن الكيلو مبلغاً كبيراً فهو يأخذ محصولاً طيباً .
وكذلك في الحيوانات وكذلك فينا؛ ولذلك كان العربي يقول : ما دكّ رءوس الأبطال كابن الأعجمية؛ لأنه جاء من جنس آخر . أي أن هذا الرجل البطل أخذ الخصائص الكاملة في جنس آخر . فلقاح الخصائص الكاملة بالخصائص الكاملة يعطي الخصائص الأكمل ، إذن فتحريم الحق سبحانه وتعالى زواج الأم والأخت وكافة المحارم وإن كانت عملية أدبية إلا أنها أيضاً عملية عضوية . { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } لماذا؟ لأن هذه الصلة صلة أصل ، والصلة الأخرى صلى فرع ، الأمهات صلة الأصل ، والبنات صلة الفرع ، { وأخواتكم } وهي صلة الأخ بأخته إنّها بنوة من والد واحد { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } .
إذن فالمسألة مشتبكة في القرابة القريبة . والله يريد قوة النسل ، قوة الإنجاب ، ويريد أمرا آخر هو : أن العلاقة الزوجية دائما عرضة للأغيار النفسية ، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك تأتي أغيار نفسية ويحدث بينهما خلاف مثلما قلنا في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } ؛ ويكره منها كذا وكذا ، فكيف تكون العلاقة بين الأم وابنها إذا ما حدث شيء من هذا؟! والمفروض أن لها صلة تحتم عليه أن يظل على وفاء لها ، وكذلك الأمر بالنسبة للبنت ، أو الأخت ، أو العمة ، أو الخالة ، فيأمر الحق الرجل : ابتعد بهذه المسألة عن مجال الشقاق .
ومن حسن العقل وبعد النظر ألا ندخل المقابلات في الزواج ، أو ما يسمى " بزواج البدل " ، حيث يتبادل رجلان الزواج ، يتزوج كل منهما أخت الآخر مثلا ، فإذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابله وإن كان الوفاق سائداً . فحسن الفطنة يقول لك : إياك أن تزوج أختك لواحد لأنك ستأخذ أخته ، فقد تتفق زوجة مع زوجها ، لكن أخته قد لا تتوافق مع زوجها الذي هو شقيق للأخرى . وتصوروا ماذا يكون إحساس الأم حين ترى الغريبة مرتاحة عند ابنها لكن ابنتها تعاني ولا تجد الراحة في بيت زوجها . ماذا يكون الموقف؟ نكون قد وسعنا دائرة الشقاق والنفاق عند من لا يصح أن يوجد فيه شقاق ولا نفاق .
والحكمة الإلهية ليست في مسألة واحدة ، بل الحكمة الإلهية شاملة ، تأخذ كل هذه المسائل ، { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } والمحرم هنا بطبيعة الحال هن الأمهات وإن علون ، فالتحريم يشمل الجدة سواء كانت جدة من جهة الأب ، أو جدة من جهة الأم . وما ينشأ منها . وكل واحدة تكون زوجة لرجل فأمها محرمة عليه ، " وبناتكم " وبنات الابن وكل ما ينشأ منها ، وكذلك بنات البنت ، { وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } .
(1/1429)