[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
أو قائم والبحر المسجور
6
- أي الموقد نارا
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال : قال علي كرم الله تعالىوجهه لرجل من اليهود : أين موضع النار في كتابكم قال : البحر فقال كرم الله تعالى وجهه : ما أراه إلا صادقا وقرأ والبحر المسجور وإذاالبحار سجرت وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحدمبن كعب والأخفش وقال قتادة : المسجور المملوء يقال : سجره أي ملأه والمراد به عند جمع البحر المحيط وقيل : بحر في السماء تحت العرش وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وفي البحر إنهما قالا فيه ماء غليظ ويقال له : بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به الفضاء الواسع المملوء ملائكة وعن ابن عباس المسجور الذي ذهب ماؤه وروي ذو الرمة الشاعر وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال : خرجت أمة لتستقي فقالت : إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الأضداد وحمل كلامه رضعنه على إرادة البحر المعروف وأن ذهاب مائه يوم القيامة وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عني المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه وقيل : المسجور المختلط وهو نحو قولهم للخليل المخالط : سجير وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودة صاحبه والمراد بهذا الأختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض وعن الربيع اختلاط عذبها بمحلها وقيل : اختلاطها بحيوانات الماء وقيل : المفجور أخذا من قوله تعالى : وإذا البحار فجرت ويحتمله ما أخرجه ابن المنذرعن ابن عباس من تفسيره بالمرسل وإذااعتبر هذا مع ما تقدم عنهآنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الأضداد أيضا وقال منبه بن سعيد : هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموجها والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا وبه أقول وبأن المسجور بمعنى الموقد ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح وهو ههنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز و جل معكونها متعلقة بالمبدأوالمعاد فالطور مكالمة موسى عليه السلام ومهبط آيات البدأوالمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل والبيت المعمور لأنه مطاف الرسل السماوية ومظهر لعظمته تعالى ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا والسقف المرفوع لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات وفيه الجنة : والبحر المسجور لأنه محل النار وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يجعله عليها كثير لزعم أن الرق المنشور لا يناسبها لأنها كانت في الألواح ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في رق وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم وقال الإمام : يحتمل أن تكون الحكمة في القسم بالطور وبالبيت المعمور والبحر المسجور أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز و جل بما خاطب وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قال عنده : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي
(27/28)
ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما البحر فليونس عليه السلام قال فيه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ذكر وجها آخر ولعمري إنه لم أت بشيء فيهما والواو الأولى للقسم وما بعدها على ما قال أبو حيان للعطف والجملة المقسم عليها قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع
7
- أي لكائن على شدة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة و السلام أمان له صلى الله تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما واقع بدون لام وقوله تعالى : ما له من دافع
8
- خبر ثان لأن أو صفة لواقع أو هو جملة معترضة و من دافع إما مبتدأ للظرف أو مرتفع به على الفاعلية و من مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال : قدمت المدينة على رسول الله ص - لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ والطور إلى إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب وهو لا يأبى أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة ومن غريب ما يحكى أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال : تهيأ لما لا يسر فقال له : من أين أخذت هذا فقال : من قوله عز و جل : والطور إلى إن عذاب ربك لواقع فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص وقوله سبحانه : يوم تمور السماء مورا
9
- منصوب على الظرفية وناصبه واقع أو دافع أو معنى النفي وإيهام أنه لا ينتفي دفعه في غير ذلك بناءا على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أمهلهم ومنع مكي أن يعمل فيه واقع ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر ومعنى تمور تضطرب كما قال ابن عباس أي ترجح وهي في مكانها وفي رواية عنه تشقق وقال مجاهد : تدور وأصل المور التردد في المجيء والذهاب وقيل : التحرك في تموج وقيل : الجريان السريع ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل وتسير الجبال سيرا
10
- عن وجه الأرض فتكون هباءا منبثا والإتيان بالمصدرين للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما فويل يومئذ أي إذازقع ذلك أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك للمكذبين
11
- الذين هم في خوض يلعبون
12
- أي في اندفاع عجيب في الأباطيب والأكاذيب يلهون وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع
(27/29)
في كل شيء وغلب في الحوض في الباطل كالأحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الأحضار للعذاب
يوم يدعون إلى نار جهنم دعا
13
- أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها وقرأ زيد بن علي والسلمي ابو رجار يدعون بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون دعا حالا أي ينادون إليها مدعوين و يوم إما بدل من يوم تمور أو ظرف لقولمحكي به قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون
14
- أي فيقال لهم ذلك يوم الخ ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها وقوله تعالى : افسحر هذا توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل : كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحرا أيضا وتقديم الخبر المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ
أم أنتم لا تبصرون
15
- أي أم أنتم عمى عن المخبر كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذاعليه وكانت هذه جملة واردة تقريعا مثل هذه النار الخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتيب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدر كنتم تقولون إلى آخره ودل عليه قوله تعالى : في خوض يلعبون وقوله سبحانه : هذه النار التي كنتم بها تكذبون وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم : هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول : أفباطل هذا ! تعيره بالألزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدرلابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ و أم كما هو الظاهرمنقطعة وفي البحر لما قيل لهم : هذه النار وقفوا على الجهتين اللتينيمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما يكون ثم سحر يلبس ذات المر أي وإما أن يكون في ناظر اختلال والظاهر أنه جعل أم معادلة والأول أبعد مغزى
أصلوها فاصبروا أولا تصبروا أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه
سواء عليكم أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه فسواه خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدرفي الأصل وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك وقوله تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون
16
- تعليل للإستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع
إن المتقين في جنات ونعيم
17
- شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب وجوز أن يكون من جملة المقول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر والتنوين في الموضعين للتعظيم أي جنات عظيمة ونعيم عظيم وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وعوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوى كما لا يخفى
فاكهين متلذذين بما آتاهم ربهم من الإحسان وقريء فاكهين بلا ألف ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر والجار والمجرور أعني الواقع خبرا لأن وقرأ خالد فاكهون بالرفع على أنه
(27/30)
الخبر وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للإهتمام ومن أجاز تعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر ووقاهم ربهم عذاب الجحيم
18
- عطف على في جنات على تقدير كونه خبرا كأنه قيل : استقروا في جنات ووقاهم ربهم الخ أو على أتاهم إنجعلت ما مصدريةأي فاكهين بإتيانهم رهم ووقايتهم عذاب الجحيم ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول وجوزه بعض بتقديرالراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه من المستكن في الخبر أو في الحال وإما من فاعل آتي أو من مفعوله أو منهما وإظهار الرب في موقع الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل وقرأ أبو حيوة وقاهم بتشديد القاف كلوا واشربوا هنيئا أييقال لهم كلوا واشربوا أكلا وشربا هنيئا أو طعاما وشرارا هنيئا فالكلام بتقدير القول و هنيئا نصب على المصدريةلأنه صفة مصدر أو على أنه مفعول به وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة بما كنتم تعملون
19
- أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق بكلوا واشربوا على التنازع وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير : هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت فإنما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدرالمحذوف فعله وجوبا بالكثرة الأستعمال كأنه قيل : هنؤ لعزةالمستحل من أعراضنا وحينئذ كما يجوزأن ما هنا فاعلا على زيادةالباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم الخ وفيه نوع تكلف متكئين نصب على الحال قال أبو البقاء : من الضمير في كلوا أو في وقاهم أو في آتاهم أو في فاكهين أو في الظرف يعني في جنات واستظهر أبو حيان الأخير على سرر جمع سرير معروف ويجمع على أسرة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف
(27/31)
مصفوفة مجعولة على صف وخط مستو وزوجناهم بحور عين
20
- أي قرناهم بهن قاله الراغب ثم قال : ولم يجيء في القرآن زوجناه محورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة وقرأالفراء : تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين وقيل : فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الألصاق واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسبالمقامإذ العقد لا يكونفي الجنةلأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببيةوالتزويج ليس بمعنىالإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين وقرأ عكرمةبحورعين على إضافةالموصوف إلى صفتهبالتأويل المشهور وقوله تعالى : والذين آمنوا الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهلالجنةإثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الأيمان والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم وقوله تعالى : واتبعتهمذريتهم عكفعلى آمنوا وقيل اعتراض للتعليل وقوله تعالى : بإيمان متعلق بالإتباع أي أتبعتهم ذريتهم بأميانفي الجملة قاصرعلى رتبة إيمان الآباءإما بنفسه بناءا على تفاوت مراتب نفس الأيمان وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل الاباء إليه واعتبار هذا القيد للأيذان بثبوت الحكم في الأيمان الكامل أصالةلا إلحاقا قيل : هو حال من الذرية وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم وقيل : منهما وتنوينه للتنكيروالمعول عليه ما قدمنا ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبيحاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى ذريةالمؤمن معه في درجته في الجنةوإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه ثم قرأ الآية وأخرجه البزاز وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي روايةابن مردويه والطبراني عنه أنه قال : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنةسأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهملم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي واهم فيؤمر بإلحاقهم به وقرأ ابن عباس الآية وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكاتهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحيانا ولو للزيارة وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز و جل وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذريةالتابعون لكن لا أظم صحته وما ألتناهم أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من عملهم أي من ثواب عملهم من شيء أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان وقال ابن زيد الضمير عائد علىالأبناء أيوما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الأحتمال قوله تعالى : كل امريء بما كسب رهين وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآيةعلى ما ذهب إليه المعظم في الكبارمن الذرية وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار
وروي عن الحبر والضحام أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الأيمان بآبائهم
(27/32)
المؤمنين وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا بسبب إيمانا لآباءبهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر اتبعتهم ذريتهم بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم وجوز أن يتعلق بإيمان بأتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى وقيل : الموصول معطوف على حور والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوابالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسةالأخوان المؤمنين وقوله تعالى : واتبعتهم عطف على زوجناهم وقوله سبحانه : بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم أو بسبب إيمان ذاني المنزلةوهو إيمان الدرجة الذرية كأنه قيل : بشيء من الأيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره وقيل عليه : إنه تعصب منه والإنصاف أن المتبادر الأستئناف وإن أحسن الأوجه في الآيةوأوفقه للمقام ما تقدم
وقرأ أبو عمرو وأتبعناهم بقطع الهمزة وفتحها وإسكان التاء ونون العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهمفي الأيمان وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا وابن عامر كذلك رفعا وقرأ ذرياتهم بكسر الذال واتبعتهم ذريتهم بتاء الفاعل ونصب ذريتهم على المفعولية وقرأالحسن وابن كثير ألتناهم بكسراللام من ألت يألت كعلم يعلم وعلى قراءةالجمهور من باب ضرب يضرب وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت وابن مسعود وأبي لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش ورويت عن شبل وابن كثير وعن طلحة والأعمش أيضا لتناهم بفتح اللام قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهلا للغة آلت بالمد كما قرأ هرمز وقريء ولتناهم من ولت يلت ومعنىالكل واحد وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أميرالمؤمنين أي لا تغلظ عليه كلامريء بما كسب أي بكسبه وعمله رهين
21
- أيمرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز و جل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ولذا قال جل وعلا : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما اطابوه من كسبهم
ووجه الأتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز و جل وفر عليهما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : هو البر الرحيم ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين المدعوعين والمتقين وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر ما أعد لهم قال في الكشف :
(27/33)
ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الأعتراض تحقيق التوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداءا لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد وقيل : رهين فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امريء بما كسب راهن أي دائم ثابت وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شبء فالجملة تعليل لما قبلها وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الأتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى
وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون
22
- أي وزدناهم على ما كان لهم من مباديء التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء وأصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ثم شاع في الزيادة وغلب الإمداد في المحبوب والمد في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المد نفسه يتنازعون فيها كأسا أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامي بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل : نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وقيل : التنازع مجاز عن التعطي والكأس مؤنث سماعي كالخمر ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الأمتلاء وقد تطلق على الخمر نفسها مجاز العلاقة المجاورة وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر وبعضهم بالخمر والأول أوفق بالتجاذب والثاني بقوله سبحانه : لا لغو فيها أفيشربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام ولا تأثيم ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لوفعله في دار التكليف كما هوديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمو بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لا لغو ولاتأثيم بفتحهماويطوف عليهم أي بالكأس غلمان لهم أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقلغلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذي كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدافي الدنيا أن يكون خادماله في الجنة فيحزم بكونه لا يزال تابعا وقيل : أولادهم الذين سبقوهم فالأختصاص بالولادة لا بالملك وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلا الأولاد لاتناسب الأمتنان كأنهم لؤلؤ مكنون
24
- مصوم في الصدف لم تنله الأيد كما قال ابن جرير ووجه الشبه البياض والصفاء وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزم إلا الحسن الغالي الثمن وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادةقال : بلغني أنه قيل : يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم فقال عليه الصلاة و السلام : والذينفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائرالكواكب وروي أن أدنى أهل الجنةمنزلة من يناديالخادم من خدامه فيجيء ألفببابه لبيك لبيك
وأقبلبعضهمعلى بعض يتساءلون
25
- أي يسأل كل بعض منهمبعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون
(27/34)
كل بعض سائلاومسئولالا أنه بعض معين بعضا آخر معينا ثمهذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر وحكى الطبري عن ابن عباس أنهإذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح لبعده جدا قالوا أي المسئولون وهم كل واحد منهمفي الحقيقة إنا كنا قبل أي قبل هذا الحال فيأهلنا مشفقين
26
- أرقاءالقلوب خائفين من عصيان الله عز و جل معتنين بطاعته سبحانه أووجلين من العاقبة و في أهلنا قيل : يحتمل أنهكناية عن كون ذلك في الدنيا ويحتمل أن يكون بيانالكون إشفاقهم كان فيهموفي أهليهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى : فمن الله علينا أي بالرحمة والتوفيق ووقانا عذاب السموم
27
- أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به وقال الحسن : السموم اسم من أسماء جهنم عاما ولأهلهم فالمراد بيان ما من الله تعالى عليهم من اتباع أهلهم لهم وقيل : ذكر في أهلنا لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوالأ بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولاأرى فيه بأسا نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليس بشيء وقيل : لعلالأولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز و جل : إناكنا من قبل ندعوه إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني للأول ادعاءا للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعدادما كانواعليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية إنه هو البر أي المحسن كماد يدل عليه اشتقاقه منالبر بسائر موادهلأنهاترجع إلى الإحسان كبر في يمينه أي صدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير وأبر الله تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة وأبر فلان على أصحابه أي أعلاهم لأنه غالباينشأ عن الإحسان لهمفتفسير باللطيف كما روي عن ابن عباس أوالعالي في صفاته أوخالق البر أو الصادق فيما وعد أو لياءه كماروي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات أو غايات ذلك البر الرحيم الكثير الرحمة الذي إذاعبد أثاب وإذاسئل أجاب وقرأ أبو حيوة ووقانا بتشديد القاف والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي أنه بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه فذكر فأثبت على ما أنت عليه من التذكيربماأنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما خير فيه من الأباطيل
فما أنت بنعمت ربك بكاهن هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن وخص الراغب الكاهن بمنيخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك والعراف بمن يخبر بالأخبار المستقلة كذلك والمشهور في الكهانة الأستمداد من الجن في الأخبار عن الغيب والباء في بكاهن مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن ولا مجنون
29
- واختلف في باء بنعمة فقالأ أبو البقاء : للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن أو مجنون والتقدير ما أنت كاهنولا مجنونملتبسابنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة و السلام ما زال ملتبسابنعمة ربهD وقيل : للقسم فنعمة ربك مقسم به وجواب القسم ما علم من الكلام وهو ما أنت بكاهن ولا مجنون وهذا كما تقول : ما زيد والله بقائم وهو بعيد والأقرب عندي أن الباء للسببية
(27/35)
وهو متعلق بمضمون الكلام والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنو بسبب نعمة الله تعالى عليك وهذا كماتقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه والمراد الرد على قائل ذلك وإبطال مقالتهم فيه عليهالصلاة والسلام وإلافلا امتنان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس وقيل : الأمتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيته ص - من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وممن قال كاهن : شيبة بن ربيعة وممن قال مجنون : عقبةبن أبي معيط أم يقولون أي بل أيقولون شاعر أي هو شاعر نتربص أي ننتظر به ريب المنون
30
- أي الدهر وهو فعول منالمن بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها ومنه حبل منين أي مقطوع والريب مصدر رابه إذاأقلقه أريد به حوادث الدهر وصرفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أينزل والمراد بنزوله إهلاكه وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر : تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموتحليها وبيت أبي ذؤيب أمن المنون وريبه يتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع قيل : ظاهره ذلك وكذلك قول الأعشى : أأن رأت رجلاأعشى أضر به ريب المنون ودهر متبل خبل ولهذا أنشده الجوهري شاهداله وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بينالمعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا : المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه وقد يراد به المنية فيؤنث وقد روي ريبها وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلاتغفل وهو أيضامن المن بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات ولذا قيل : المنية تقطع الأمنية وريب المنو عليه نزول المنية وجوز أن يكون بمعنى حادث الموت بيانية روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرة آراؤهم فيه عليه الصلاة و السلام حتىقال قائل منهم وهم بنو عبد الدار كما قال الضحاك تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت وقرأزيد بن علي يتربص بالياء مبنياللمفعول وقريء ريب بالرفع على النيابة
قل تربصوا تهكم بهم وتهديد لهم فإني معكم منالمتربصين
31
- أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي وفيه عدة كريمة بإهلاكهم أمتأمرهمأحلامهم أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي وذلك على ما قال الجاحظ لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ! فقال : تلك عقول كادها الله عز و جل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم
(27/36)
ولعلها تدل على ضد ذلك بهذا التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادةوالمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون وأمر الأحلام بذلك مجاز على التأدية بعلاقة السببية كماقيل وقيل : جعلت الأحلام آمرة على الأستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيهامضمرا وتثبت له الأمر عن طريق التخييل أم هم قوم طاغون
32
- مجازون الحدود فيالمكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسدادولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحضة الخارجة عن دائرة العقول وقرأمجاهد بل هم أميقولون تقوله أي اختلقه من تلقاء نفسه
وقال ابن عطية : معناه قالأ : عن الغير أنه قاله فهو عبارة عنكذبمخصوص وضمير المفعول للقرآن بل لا يؤمنون
33
- فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا واحدمن العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافةالأمم من العرب والعجم فليأتوا بحديث مثله مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها منحيث النظم ومن حيث المعنى إن كانوا صادقين
34
- فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم لهعليه الصلاة السلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك فالكلام رد للقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة و السلام والقرآن بالتحدي فإذاتحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدعي وجوز أن يكون ردالزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادامنه ومع ذلك إذاظهر فساد زعمهم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم وقرأالجحدري وأبو السمال بحديث مثله على الإضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في كونه أميالم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده أو مثله في كونه واحدامنهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا أم خلقوا من غي شيء أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالف وقال الطبري : المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات وقيل : المعنى أمخلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون و من عليهللسببية وعلىما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من القوالأ ما قدمنا وسيأتي إن شاءالله تعالى زيادة إيضاح له ويؤيده قوله سبحانه :
أم هم الخالقون
35
-
أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز و جل ولا يلتفتون إللارسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة وإرادةخلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى :
أم خلقوا السماوات والأرض
إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا وقال ابن عطية : المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته
بل لا يوقنون
36
-
أيإذاسئلوا من خلقكم وخلق السماوات
(27/37)
والأرض قالوا : الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لماأعرضوا عن عبادته تعالى فإن منعرف خالقه وأيقن به امتثل أمره وانقاد له أم عندهم خزائن ربك أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ويمسكوها عمن شاءوا وقال الرماني : خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه وقال ابن عطية : المعنى أم عندهم الأستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من ألأشياء من خزائن الله تعالى وقال الزهري : يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان سيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه
أم هم المصيطرون
37
-
الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب وفي معناه قول ابن عباس : المسلط الفاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغراكما يتوهم ولم يأتعلى هذه الزنة إلآ خمسة ألفاظ أربعة من الصفات وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر وواحدمن الأسماء وهو مجيمر اسم جبل وقرأالأكثر المصيطرون بالصاد لمكان حرف الأستعلاء وهو الطاء وأشم خلفعن حمزة وخلاد عنهبخلاف الزاي
أم لهم سلم
وهو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيجري به السلامة ثم جعل اسمالكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء
يستمعون فيه
أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالاوالظرفية على حقيقتها وقيل : هو متعلق بيستمعون على تضمينه معنى الصعود
وقال أبو حيان : أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسدبعض ومفعول يستمعو محذوف أي كلام الله تعالى قيل : ولو نزل منزلة اللازم جاز فليأت مستمعهم بسلطان مبين
38
- أي بحجة واضحة تصدق استماعه أم له البنات ولكم البنون
39
- تسفيه لهم وتركيك لعقولهم وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعد من العقلاء فضلاعن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والألتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ أم تسئلهم أجرا أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم فهم لأجل ذلك من مغرم مصدر ميمي من الغرم والغرامة وهو كما قال الراغب ماينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول مثقلون
40
- أي محملون الثقل فلذلك لايتبعونك أم عندهم الغيب أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب فهم يكتبون
41
- منه ويخبرون به الناس قاله ابن عباس وقال ابن عطية : أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك منسيرهم وقال قتادة : أم عندهم الغيب فهم يعلهم متى يموت محمد ص - الذي يتربصونبه وفسر بعضهم يكتبون بيحكمون أم يريدون كيدا بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير وهذا من الأخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول الرسول قبلها كما تدل عليه الآثار فالذين كفروا هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاةوالسلام
(27/38)
ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولاأوليا هم المكيدون
42
- أي الذينيحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادواأن يكيدوه وكان وباله في حقأولئك قتلهم يومبدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل : ولذا وقعن كلمة أم مكررة هنا خمس عشرة مرة للأشارة لما ذكر ومثله على ما قال الشهاب : لا يستبعدمن المعجزات القرآنية وإن كان الأنتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته أم لهم إله غير الله يعينهم ويحرسهم من عذابه عز و جل
سبحان الله عما يشركون
43
- أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية أو عن شركة الذي يشركونه علىأنه موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف وإن يروا كسفا قطعة فهو مفرد وقد قريء في جميع القرآن كسفاوكسفا وإفراداإلا هنا فإنه على الإفراد وحده وتنويه للتفخيم أي وإن يروا كسفاعظيما
من السماء ساقطا
لتعذيبهم
(27/39)
يقولوا
من فرط طغيانهم وعنادهم
سحاب
أي هو سحاب
(27/0)
مركوم
44
-
متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهمحسبما قالوا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفالقالوا هو سحاب متراكميمطرنا ولم يصدقوا أنهكسف ساقط لعذابهم
فذرهم فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف حتى يلقوا وقرأأبو حيوة يلقوا مضارع لقي يومهم الذي فيه يصعقون
45
- على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد : من صعقته الصاعقة أو من أصعقته وقرأالجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل : يصعقون بفتح الياء والعين والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوميوم بدر وقيل : وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض وتعقب بأنهلا صعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى : يوم لا يغني عنهم كيدهمشيئا أي شيئامن الإغناء بدل من يومهم ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعابالأنتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر وأما النفخة الأولى فليست مما يجري في مدافعته الكيد والحيل وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضايصعقون وهم داخلون في عموم من وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح وعن الثاني بأن الكلام على نهج قوله :
على لا حب لا يهتدي بمناره
فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان وقيل : هو يوم القيامة وعليه الجمهور وفيه بحث وقيل : هو يوم موتهم وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل ولا هم ينصرون
46
- من جهةالغير في دفع العذاب عنهم وأن للذين ظلموا أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولاأوليا عذابا آخر دون ذلك دون ما لا قوه من القتل أي قبله وهو كما قال مجاهد
(27/0)
القحط الذي أصابهم سبع سنين
وعن ابن عباس هوما كان عليهم يوم بدر والفتح وفسر دون ذلك بقبل يوم القيامةبناءا على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك وعنه أيضا وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير وذهب إليه بعضهم بناءا على أن دون ذلك بمعنى وراء ذلك كما في قوله
يريك القذى من دونه وهو دونها
وإذافسراليوم بيوم القيامة ونحوه و دون ذلك بقبله وأريد العموم من الموصول فهذا العذابعذاب القبر أو المصائب الدنيوية وفي مصحف عبد الله دون ذلك قريا ولكن أكثرهم لا يعلمون
47
- إن الأمر كما ذكر وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا أو لا يعلمون شيئا
واصبر لحكم ربك بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم فإنك بأعيننا أي في حفظنا وحراستنا فالعين مجاز عن الحفظ ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في طه لإضافته إلى ضمير الواحد ولوح الزمخشري في سورة المؤمنين إلى أن فائدة الجمع للدلالة علىالمبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظايلكؤونه بأعينهم وقال العلامة الطيبي : إنهأفرد هنالك لأفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام وههنألما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز و جل انتهى ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيبوالكليم عليهمأفضل الصلاة والسلام وأكمل التسليم ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور وقرأأبو السمال بأعينا بنون مشددة وسبح بحمد ربك أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفاتنة الحصر والمراد سبحه تعالى واحمده حين تقوم
48
- من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوبإليك فسئل عن ذلك فقال : كفارة لما يكون في المجلس والآثار في ذلك كثيرة وقيل : حين تقوم إلى الصلاة أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال : حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول : سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : وسبح بحمد ربك حين تقوم وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية : حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وحكاه في البحر عن ابن عباس وأخرج عنه ابنمردويه أنه قالأ : سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة وروي نحوه عن ابن السائب وقال زيد أسلم : حين تقوممن الفائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر وقوله تعالى : ومنالليل فسبحه إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل وإدبارالنجوم أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح وقيل : التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء وإدبار النجوم ركعتا الفجر وعن عمر رضي الله تعالى عنه
(27/40)
وعلي كرمالله تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل و إدبارالنجوم ركعتا الفجر وقرأسالم بن أبي الجعد والمنهالبن عمرو ويعقوب أدبار بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقب أي أعقابها إذا غربت أو خفيت بشعاع الشمس
هذا ونظم الآيات من قوله تعالى : أم يقولون شاعر إلى قوله سبحانه : أم لهم إله غير الله الخ فيه غرابة ولم أر أحداكشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه الله تعالى خيرا ولغاية حسنه وكونه مما لا مزيد عليه أحببت نقلهبحذافيره لكن مع اختصار ما فأقول : أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه والثاني أنه تدرجمنه سبحانه في حكايةما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكي على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة و السلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءالتكذيبهم بالمنبيء والنباوالمنبأب فالمتعين هوالثاني ووجهه والله تعالى أعلم أن قوله : فذكر معناه إذ ثبت كون العذاب واقعاوكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفافي هذه الدار ومنزلة ورفعة في دار القرار ومن قوله تعالى : فما أنت إلى قوله سبحانه : هم المكيدون تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة و السلام منهم وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شد من عضد التسلي وقوله سبحانه : فما أنت بنعمة ربك الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحدهذين وبدأ بقولهم المتناقض ليبينه أولاعلى فساد آرائهم ويجعله دستورا في إغراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأياوأرجحهم عقلاوأبينهم آيامنذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد عن الجنون والكهانة علىأنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون ثم ترقى مضرباإلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدماقيل : أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم وقوله تعالى : قل تربصوا من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد فهذا بابمن إنكارهم هدمه سبحانه أولاتلويحا بقوله : بنعمة ربك وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا أم تأمرهم أحلامهم كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الأضطراب ففيها عبرة ثم قيل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز و جل فقد باء بغضبه ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الأفتراء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لأن الأفتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدقعلى أن كونه افتراءا وعجزهم عن الأتيان بأقصر سورة من هذا المفترى متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر في الأحقاف ولأنالشاعر لا يعتمد الكذب لذاته ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار والتدرج عن الشعر ههنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن الكلام ههنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والصلام ونفي رسالته وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل : إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة وأين هذا من ذاك وللتنبيه على التوغل
(27/41)
جيء بصريح حرف الأضطراب في الرد فقيل : بللا يؤمنون وعقب بقوله تعالى : فليأتوا ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفترى أدخل في الكذب من الشاعر ثم أخذ في أسلوبأبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ثم الشعر ثم الأفتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنهخلق من غير شيء أيمقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ومن حسب أنه مستغن عن الموجدمسب رسوله إلى الجنون والكهانة لابل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهمأفهو ينسبه إلى الإفتراء حيث لم يرسله ثم اضرب صريحا عنه بقوله تعالى : بل لايوقنون ومن لا إيقان له بمثل هذأ البديهي لا يبعدأن يزنك بما وزن فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد ثم بولغ فيه فجيء بما يدل علىأن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم فالأول لما لم تعدد الآلهة إنما يدل علىافترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا ألبتة وأدمج فيه إنكارهم للمعاد ونسبتهم إياه ص - في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن أم عندهم الغيب إشارة إلى خزائن العلم ولما كانالمقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : أم هم المسيطرون من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوأعليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم وقيل : بل لهم سلم يستمعون وذيل بقوله تعالى : أم له البنات إشعارابأن من جعل خالقه أدون حالامنه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ثم قيل : أم تسألهم أجرا أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرامالاأو جاها أو ذكرا وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لايبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لاموقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعيمهم إحدى الثلاث ثم قيل : أم عندهم الغيب على معنى بل أعندهماللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب والمقصود من هذا نفي المنبأبه أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجاعكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : أم لهم سلم فقدسلف أن مصعب العرض حديث النبأوالمنبأوالمنبأ به فقضي الوطر من الأولين معالرمز إلى الأخير ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءا لحق الإعجاز ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العمل أشمل موردامن القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه وهذا من تلك الحيثية ومن حيث أنهم ما عملوا بإرسال غيره إياه أيضامعإحاطةعل لكنه غير مقصود قصداأوليا ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلىالأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدافهم ينصبو لك الحبائل قولا وفعلا
(27/42)
لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولاوفعلاوحجة وسيفا وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : أم لهم إله غير الله فينجيهم من كيده وعذابه لاوالله سبحان الله عن أن يكون إله غيره ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا أظهر في هذا المساق انتهى وكأن ما بعد تأكيدا لأمر طغيانهم ومزيد للوعيد ومبالغة في التسلية ويعلم مما ذكره لا زالت رحمة اللهتعالآ عليه متصلة أن أم في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الأضرابية والأضرا ههنأ واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهي ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين وحكى الثعلبي عن الخليل أنه متصلة والمراد بها الأستفهام وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالآ أعلم
ومما ذكروه من باب الإشارة في بعض الآيات والطور إشارة إلى قالب الإنسان وكتاب مسطور إشارة إلى سره فيرق منشور إشارة إلى قلبه والبيت المعمور إشارة إلى روحه والسقف المرفوع إشارة إلى صفته والبحر المسجور إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر وقيل : الطور إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك والكتاب المسطور في الرق المنشور إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائفالآفاق والبيت المعمور إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص والسقف المرفوع إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة والبحر المسجور إشارة إلى بحر القدرة المملوء منأنواع المقدرات التي لا تتناهى وقيل : إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون ووصفه بالمسجور إما لأنه مملوء منهم وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز و جل وقيل : غير ذلك فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون أي يخوضون في غمرات البحر اللجي الدنيوي ويلعبونفيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذى أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك فاكهين بماآثارهمربهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ووقاهم ربهم عذاب الجحيم وهو عذاب الحجاب كلوا من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية وأشربوا من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية وسبح بحمد ربك حين تقوم أي مقام العبودية ومن الليل فسبحه أيعند نزول السكينة عليك وإدبار النجوم أي عند ظهور نور شمس الوجه وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالأحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة و السلام
(27/43)
سورةوالنجم
وتسمى أيضاسورة النجم بدون واو وهي مكية على الأطلاق وفي الإتقان استثنى منها الذين يجتنبون إلى اتقى وقيل : أفرأيت الذي تولى الآيات التسع ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنه مدنية ولاأرى صحة ذلك عنه أصلا وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي وإحدى وستونفي غيره وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون وأخرج البخاري ومسلم وأبود داود والنسائي عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعدذلك قتل كافراوهو أمية بن خلف وفي البحر أنه عليه الصلاة و السلام سجد وسجدمعهالمؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا فيحتمل أنه وأمية فعلاكذلك وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى : إدبار النجوم وافتتحت هذه بقوله سبحانه : والنجم وأيضافيمفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه ص - من التقول والشعر والكهانة والجنون وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة و السلام يختلق القرآن وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم الآية فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود إذاهلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : كذبت ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك وهوأعلم بكم الآية كلها وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين : ألحقنا بهم ذريتهم الخ قالأ سبحانه هنا في الكفار أو فيالكبار : وأن ليس للأنسان إلا ما سعى خلاف ماد خل في المؤمنين الصغار ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادى التضاد وفي صحة كون قوله تعالى : هو أعلم بكم الآية نزل لما ذكر نظر عندي وكون قوله تعالى : ألحقنا بهم ذريتهم في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل بسم الله الرحمن الرحيم والنجم إذا هوى أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روي عن الحسن ومعمر بن المثنى ومنه قوله : فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها ومعنى هوى غرب وقيل : طلع يقالأ هوى يهوى كرمىيرمي هويابالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له وهويا لضم للعلو والطلوع وقيل : الهوى بالفتح للأصعاد والهوى بالضم للأنحدار وقيل : الهوى بالفتح والضم السقوط ويقال أهوى بمعنى هوى وفرق بعض البلغويين بينهما بأن هوى إذاانقض لغير صيد وأهوى
(27/44)
إذا انقض له وقالالحسن وأبو حمزة الثمالي : وأقسم سبحانه بالجوم إذاانتثرت في القيامة وعن ابن عباسفي رواية أقسم عزوجل بالنجوم إذاانقضت في إثر الشياطين وقيل : المراد بالنجم معين فقالأ مجاهد وسفيان : هوالثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها ومنه قوله ص - : إذاطلع النجم صباحاارتفعت العاهةوقول العرب : طلع النجم عشاءا فابتغى الراعي كساء طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسيةوفسرهويها بسقوطها مع الفجر وقيل : هو الشعري المرادة بقوله تعالى : وأنه هو رب الشعري والكهانيتكلمون على المغيبات عند طلوعها وقيل : الزهرة وكانت تعبد وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد : النجم المقدر النازل من القرآن على النبي ص - وإذا هوى بمعنى إذا نزل مع ملك الوحي جبريل عليه الصلاة و السلام وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج وجوز على هذا أن يراد بهويه صعودهوعروجه عليه الصلاة و السلام إلى منقطع الأين وقيل : هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقيل : العلماء على إرادة الجنس والمراد بهويهم قيل : عروجهم في معارج التوفيق إلى حضائر التحقيق وقيل : غوصهم في بحار الأفكار لاستخراج دررالأسرار وأظهر الأقوال القولبأن المراد بالنجم جنس المعروف فإن أصله اسم جنس لكل كوكب وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا وراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة و السلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل : والنجم الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل ما ضل صاحبكم أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرةفهو استعار وتمثيل لكونه عليه الصلاة و السلام على الصواب في أقواله وأفعاله وماغوى
2
- أي وما اعتقد باطلاقط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ما ضل من عطف الخاص على العام اعتناءابالأعتقاد وإشارة إلى انه المدار
وأما علىالثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة و السلام ومدار رشاده كأنه قيل : وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ما ضل عنها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وماغوى فهو من باب
وثناياك أنها إغريض
(27/45)
والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته ص - مما نفى عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة و السلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة و السلام ومشاهدتهم لمحاسن شئونه العظيمة مقتضية لذلك حتماففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم واختلف في متعلق إذاقال بعضهم : فاوضت جار الله في قوله تعالى : والنجم إذا هوى فقال : العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت : كيف يعمل فعل الحالفي المستقبل ! وهذا لأن معناه أقسم الآن لاأقسم بعد هذا فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف والتقدير وهوى النجم إذاهوى فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الأستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره وقال عبد القاهر : إخبار الله تنعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع
(27/0)
إذا لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي وقيل : إنه متعلق بعامل هو حال من المنجم وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا وأن إذا للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالامقدرة أوتجرد إذا لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدابه فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الأطلاق كما ذكره النحاة أو النجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه على ما قيل ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الأستقبال وهو الذي اختاره في المغنى وتخصيص القسم بوقت الهوى ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة وأما على القولين فقيل : لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب وإنما يهتدي به عند هبوطه أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو وقيل : لادلالته على حدوته الدال على الصانع وعظيم قدرته عز و جل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام لا أحبالآفلين وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثلهذا التركيب فلا تغفل وما ينطق أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه : صاحبكم والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعنفي قوله تعالى : عن الهوى
3
- وقيل : هي بمعنى الباء وليس بذلك أي بذاك ما يصدر نطقة فيما آتاكم به من جهته عز و جل كالقرآن أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلافإن المراد استمرار النفي كما مر مرارافي نظائره إن هو أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق إلا وحي من الله عز و جل يوحى
4
- يوحيه سبحانه إليه والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للأستمرار التجددي وقيل : ضمير ينطق للقرآن فالآية كقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وهو خلاف الظاهر وقيل : المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة و السلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا
واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الأجتهاد له عليهالصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ووجه الأحتجاج أن اللهتعالى أخبر بأن جميع ما ينطق بهوحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مماينطق وأجيب بأن الله تعالآإذا سوغ له عليه الصلاة و السلام الأجتهاد كان وما يسند إليه وحيالا نطقا عن الهوى وحاصله منع كبر القياس واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي تستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا وأجيب بأن النبي عليه الصلاة و السلام أوحي إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين وقال القاضي البيضاوي : إنه حينئذ بالوحي لا وحي وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام : متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي ما ألقيته في قلبك فهو مردي فيكون وحياحقيقة والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديثالقدسية والأستدلال بها على أنه عليه الصلاة و السلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلففي دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف ولا يبعدعندي أن يحمل قوله تعالى : وما ينطلق عن الهوى على العموم فإن من يرى الأجتهاد له عليه الصلاة و السلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة
(27/46)
لا يقولبأن ما ينطق به صلى الله تعالى عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوىالنفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالةعن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه : إن هوإلا وحي للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل إذاكان شأنه عليه الصلاةوالسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه واستمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيعه الأقاويل فقيل : ما هو إلا وحي يوحيه الله عز و جل إليه ص - فتأمل وفي الكشف أن في قوله تعالى : ما ينطق مضارعا مع قوله سبحانه : ما فضل وما غوى ما يدلعلىأنه عليهالصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميزوقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبء وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم علمه الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن أو الوحي وجوزأبو حيان كون الضمير للقرآن وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة و السلام شديد القوى
5
- هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع فإنهالواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها علىجناحه ورفعها إلى السماءثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ماقرروه في الحكمة الجديدة ذومرة ذوحصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم فكأن الأول وصف بقوة الفعل وهذا وصف بقوة النظر والعقل لكن قيل : إن ذاك بيان لما وضع اللفظ فإن العرب تقول لكل فوي العقل والرأي ذو مرة من أمررت الحبل إذاأحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة وعن سعيد بن المسيب ذوحكمة لأن كلام الحكماء متين وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال : ذو شدة في أمر الله عز و جل واستشهد له وحكى الطيبي عنه أنهقال : ذو منظر حسن واستصو به الطبري وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن : وهو في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تحل الصدقة لغني ولالذي مرة سوى بمعنى ذي قوة وفي الكشف إن المرة لأنها في الأصل تدلعلى المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فاستوى
6
- أي فاستقام علىصورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادي النبوة وكان له عليه الصلاة و السلام كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود ستمائة جناح كلجناح منها يسد الأفق فالأستواء ههنأبمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب وهو المراد بالأستقامةلا ضد الأعوجاج ومنه استوى الثمر إذانضج وفي الكلام على ما قال الخفاجي : طي لأنوصفه عليهالسلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل علىأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل : فهل رآه على صورته الحقيقية : فقيل نعم رآه فاستوى الخ وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى : ما أوحى بيان لكيفية التعليم وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر ومن هنا قيل : إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على علمه على معنى علمه على غير صورته الأصلية ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام وقيل : :
(27/47)
استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم
وهو بالأفق الأعلى
7
- أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن : هو أفق المشرق والجملة في موضع الحال من فاعل استوى وقال الفراء والطبري : إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبريل عليه السلام وجوز العكس والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين ثم دنا أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى
8
- فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة و السلام في الهواء ومنه تدلت الثمرة ودلي رجليه من السرير والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتر عسل : تدلى عليها بين سب وخيطة بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها ومن أسجاع ابنة الخس كن حذرا كالقرلي إن رأى خيرا تدلى وإن رأى شرأئ تولى فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادةالدنوكما في الأيضاح نعم إن جعل بمعنى النزيل من علة كما يرشد إليه الأشتقاق كان له وجه فكان أي جبريل عليه السلام منالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاب قوسين أي من قسى العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم والقاب وكذا القيب والقاد والقيد والقيس والمقدار وقرأ زيد بن علي قاد وقريء قيد وقدر وقدر وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما ويقالأعلى ما بين مقبض القوس وسيتها وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان وفسر به هناقيل : وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابي قوس وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحددون قلب وعن مجاهد والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال : الخفاجي إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعلهإذاتحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكونذلك إشارة إلى أن أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف أي فكان ذا قاب قوسين ونحوه قوله : فادرك إبقاء العرادة ظلعها وقد جعلتني من خزيمة أصبعا فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبامنه وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة يتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة إلى اعتبار الحذف وليس بذاك أو أدنى
9
- أي أو أقرب من ذلك و أ للشك من جهة العباد على معنى إذارآه الرائي يقول : هو قاب قوسين أو أدنى والمراد إفادة شدة القرب فأوحى أي جبريل عليه السلام إلى عبده أي عبد الله وهو النبي صلى الله عليه و سلم والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام ومنه ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة
(27/48)
وقوله سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة القدر ما أوحي
10
- أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا وإبهام الموحي به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم وقالأبو زيد : الضمير المستتر لله عز و جل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلىجبريل والأول مروي عن الحسن وهو الأحسن وقيل : ضمير أوحى الأول والثانيلله تعالى والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى ما كذب الفؤاد أي فؤاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما رأى
11
- ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب وقيل : أي ما كذب الفؤاد البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر ما كذاب مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها وفي الكشف أنه لما قال سبحانه : إن هوإلا وحي أي من عند الله تعالى يوحى ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحي وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى علم صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات وقوله تعالى : فاستوى وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه فيصورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يتشبه عليه بوجه وقوله تعالى : ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة و السلام وإتباعه بالمنزل وقوله سبحانه : فأوحى أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه : ما أوحى ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن وإيثار بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الإختصاص وإيثار الضمير على الأسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبداإلا له عز و جل فلا ليس لشهرته بأنه عبد الله لا غير وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد ثم قالسبحانه : ما كذبالفؤاد ما رأى على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولوتصور بغير تلك الصورة إنه جبريل فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى
وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وسيأتيذلك إن شاء الله عز جل بما وعليه أفتمارونه علىما يرى
12
- أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه فتمارونه عطف على محذوف علىما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدر فشبه به الجدال لأن كلا من المتحادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج دره
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف أفتمرونه بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال : مريتهحقه إذاجحدته وأنشدوا لذلك قول الشاعر : لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا
(27/49)
أو مضارع مريته إذاغلبته في المراء على أنه من باب المغالبة ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدي اتلفعل بعلى وكان حقه أن يعدى بفي لتضمينهمعنىالمغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم وقرأعبد الله فيما حكى ابن خالويه والشعبي فيما ذكر شعبة أفتمرونه بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قالأ أبو حاتم : وهو غلظ والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام وعبر بالمضارع استحضاراللصورة الماضية لما فيها من الغرابة وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد وقيل : المراد أفتمارونه على ما يرى من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعدما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره ولقد رآه أي رأى النبي جبريل صلى الله عليه و سلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها نزلة أخرى
13
- أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مر يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤيةفي هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر وقال الحوفي وابن عطية : إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية لرأى من معناه أي رؤية أخرى وفيه نظر والمراد من الجملة القيمسة نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء عند سدرة المنتهى هيشجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعى على المشهور وفي حديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم في السماء نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقة
والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصلالجحيم وقيل : إطلاقالسدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس فيظل السدرة و المنتهى اسم مكان وجوز كونه مصدراميميا وقيل : لها سدرة المنتهى لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياءعليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله تعالى عندها أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقاأو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها وإضافة سدرة إلى المنتهى من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه وقيل : يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز و جل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي سدرة الله الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه : وأن إلى ربك المنتهى وعد ذلك من باب الحذف والأيصالأ ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد عندنا أي عند السدرة وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهونازل عن رتبة القبول جنة المأوى
15
- التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن واستدل به على أن الجنة في السماء وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة :
(27/50)
هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون وقيل : هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية وقيل : من إضافة الموصوفإلى الصفة كما فيمسجد الجامع وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به والجملة حالية وقيل : الحال هو الظرفو جنة مرتفع على الفاعلية وقرأعلي كرم الله تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحدم بن كعب وقتادة : جنه بهاء الضمير وهو ضمير النبي ص - وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه به أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن المأوى مصدر ميمي أو اسم مكان وجنه بمعنى ستره قال أبو البقاء : شاذوا المستعمل أجنه ولهذا قالت عائشة رضعنها وكذأ جمع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين : من قرأ به فأجنه الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر وأنت تعلم أنه إذاصح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الأستعمال وعائشة قد حكى عنها الإجازة أيضا
وإذايغشى السدرة ما يغشى متعلق برآه وقيل : بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على ما النافية للتوسع في الظرف والغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه والأول هو الأليقبالمقام وفي إبهام ما يغشى من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارالصورتها البديعة وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الفشيان بطريق التجدد وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلائق سبحانه وعن ابن عباس غشيها رب العزة عز و جل وهو من المتشابه وقالأ ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم : يغشاها جراد من ذهب وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا
وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال : استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأذنلهم فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة و السلام وفي حديث رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائمايسبح الله تعالى وقيل : يغشاها رفرف من طير خضر والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم
ما زاغ البصر أي ما مال بصر رسول الله ص - عما رآه وما طغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحامستيقنا وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه أو ما عدل عن رؤية العجائبالتي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته
لقد رأى من آيات ربه الكبرى
18
- أي والله لقد رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج فالكبرى صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه بعد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع وجوز أنتكون الكبرى صفة المذكور على معنى و لقد رأى بعضا من الآيات الكبرى ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرأى الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة معكون من مزيدة وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس مجمعا على جوازه وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة و السلام أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قالفي
(27/51)
الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها والذيينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة و السلامآيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى هذا وفي الآيات أقوال غيرما تقدم فعنالحسنأن شديد القوى هو الله تعالى وجمه القوى للتعظيم ويفسر ذو مرة عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكونوصفا لهD وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى : فاستوىوهو بالأفق الأعلى عليه له سبحانه أيضا وقال : إن ذلكعلى معنى العظمة والقدرةوالسلطان ولعل الحسنيجعل الضمائر في قوله سبحانه : ثم دنل فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى له عز و جل أيضا وكذا الضميرالمنصوب في قوله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى لقد رأىصص ربه وفسردنوه تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلى الله عليه و سلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس ويقاللهذاالجذب : الفناء في الله تعالى عند المتأهلين وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه
ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه وجوزأن تكون الضمائر في دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى على ما روي عن الحسن للنبي صلى الله عليه و سلم والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة و السلام من ربه سبحانه فكان منه عز و جل قاب قوسين أو أدنى والضمائر في فأوحى الخ لله تعالى وقيل : إلى عبده ولم يقل إليه للتفخيم وأمر المتشابه قد علم وذهب غير واحد في قوله تعالى : علمه شديد القوى إلىقوله سبحانه : وهو بالأفق الأعلى إلى أنه في أمر الوحيوتلقيه من جبريل عليه اتلسلام على ما سمعت فيما تقدم وفي قوله تعالى : ثم دنا فتدلى الخ إلى أنه في العروج إلى الجانب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياهجل وعلا فالضمائر في دنا وتدلى وكان و أوحى وكذا الضمير المنصوب في رآه لله عز و جل ويشهد لهذاما في حديث أنس عند البخاريمن طريق شريك بن عبد الله ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودناالجبارفتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنىفأوحى إليه فيما أوحىخمسين صلاة الحديث فأنه ظاهر فيما ذكر
واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبرالأمةابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك أخرج مسلم عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشةثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالىالفرية قلت ما هن قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وقال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى : ولقد رآه بالأفق المبين ولقد رآه نزلة أخرى فقالت : أنا أول هذه الأمة عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا إنما هو جبريل لم أره على صورته اليذ خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض الحديث وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق فقالت : أنا أول من سألأر صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذافقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك فقال : إنما رأيت جبريل منهبطا ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة و السلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في رآه ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام وشاع أنها تنفي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا وتستدل لذلك بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقوله
(27/52)
سبحانه وماكان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا وهو ظاهرما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة وقالبعضهم : إنها إنما تنفي رؤية تدل عليهاالآيةالتي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق
وحاصل ما روي عنها نفي صحة الأحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة و السلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضميرفيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياها وحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوابها لا على أنه نفي للرؤيةالمخصوصة وهي يظن التي دلالة الآية عليهاويرجع إلى نفيالدلالةولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق والأنصاف أن الأخبار ظاهرةفي أنهاتنفي الرؤية مطلقا وتستدل عليه بالآيتين السابقتين وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكورفي محله
والظاهرأن ابن عباس لم يقلبالرؤية إلا عن سماع وقد أخرج عنه أحمد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ربي ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأنقول عائشة محمول علىنفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوتبأنه لا يقوم له بصر وقوله ابن عباس محمولعلى ثبوت رؤيتهتعالى في نوره الذيلا يذهببالأبصاربقرينةقوله في جوابعكرمةعن قوله تعالى : لا تدركه الأبصار : ويحك ذاك إذاتجلىبنوره الذيهو نوره وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيمعن قتادة عن عبد الله بنشقيق عن أبي ذر قال : سألتر صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك قال : نوراني أراهومنطريق هشام وهمامكلاهما عن قتادة عن عبد الله قال : قلتلأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسألته فقال : عن أي شيء كنتتسأله قال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال أبو ذر : قد سألته فقال : رأيتنورا فيحملالنور في الحديثالأول على النور القاهر للأبصار بجعلالتنوين للنوعيةأو للتعظيم والنور في الثانيعلى ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية وإن صحت رواية الأول كماحكاه أبو عبد الله المازريبلفظ نوراني بفتح الراء وكسرالنون وتشديد الياءلم يكناختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنىالمنسوب إلى النور علىخلاف القياس ويكونالمنسوب إليه هو نوره الذيهو نوره والمنسوبهو النور المحمول على الحجابحمل مواطأة في حديث السبحاتفي قوله عليه الصلاة و السلام : حجابه النور وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر
ثم إن القائلين بالرؤيةاختلفوا فمنهممن قال : إنه عليه الصلاة و السلامرأىربه سبحانه بعينه وروي ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبيهريرة وأحمد بن حنبل ومنهم من قال : رآهD بقلبه وروي ذلكعن أبي ذر أخرج النسائي عنه أنه قال : رأىر صلى الله عليه و سلم ربهبقلبهولميره ببصره وكذا رويعن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبدبن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا : يا رسول الله رأيت ربك قال : رأيته بفؤاديمرتين ولم أرهبعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى وفي حديث عن ابن عباس يرفعه فجعل نور بصريفي فؤاديفنظرت إليه بفؤاديوكان التقدير في الآيةعلى هذا ما كذبالفؤاد فيما رأى ومنهم من ذهب إلى أن إحدىالرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال : إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه عز و جل مرتين مرةببصرهومرة بفؤاده ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي
(27/53)
في الرؤية بالعين وقال : إنهليس عليه دليل واضح قال في الكشف : لأنالروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا وعن الإمامأحمد أنهكانيقول : إذاسئلعن الرؤيةرآهرآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزمصاحبالكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسمما بين النبي وجبريلصلاة الله تعالىوسلامه عليهماأي وأن المرئيهو جبريلعليه السلام وإذاصح خبر جوابه عليه الصلاة و السلاملعائشة رضي الله تعالى عنهالم يكن لأحد محيص عن القول به وقالالعلامةالطيبي : الذييقتضيه النظمإجراء الكلام إلىقوله تعالى : وهو بالأفق الأعلى على أمر الوحي وتلقيهمن الملك ورفعشبهالخصوم ومن قوله سبحانه : ثم دنافتدلى إلى قولهسبحانه : من آيات ربه الكبرى على أمر العروج إلىالجانب الأقدس ثم قال : ولا يخفىعلى كل ذي لب إباءمقام فأوحى الحمل على أن جبريلأوحى إلى عبد الله ما أوحى إذ لا يذوق منه أربابالقلوبإ معنى المناغاةبين المتساويين وما يضيق عنه بساط الوهمعنه ولا يطيقهنطاق الفهم وكلمة ثم على هذا للتراخيالرتبيوالفرق بين الوحيينأن أحدهما وحي بواسطة وتعليم والآخر بغير واسطةبجهة التكريم فيحصلعنه عندهالترقيمن مقام وما مناإلا له مقام معلوم إلى مخدع قابقوسينأو أدنى وعن جعفر الصادق عليه الرضاأنه قال : لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنهلا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف وذلك قوله تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى أي كانما كان وجرى ما جرىقال الحبيب للحبيب ما يقولالحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبهوأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحوهذا يشيرابن الفرض بقوله : ولقد خلوتمع الحبيب وبيننا سرادق من النسيم إذا سرى ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو اللهD من النبيصص ودونوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك وقال بعضهم في قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى : ما زاغبصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما التفتإلى الجنةومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق وماطغى عن الصراط المستقيم وقال أبو حفصالسهروردي : ما زاغالبصر حيث لميتخلف عنالبصيرة ولم يتقاصر وما طغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدىمقامه وقال سهل بن عبد الله التستري : لم يرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التيأوجبتالثبوت في ذلك المحل وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى : وهو بالأفقالأعلى إلى النبي عليه الصلاة و السلام وهو منتهى وصول اللطائف وفسر سدرة المنتهى بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبه من جذبات الحق وقالوا في قاب قوسين ما قالواوأنا أقول برؤيته ص - ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهبت فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلىما قاله الطيبيفتأمل والله تعالى الموفق
أفرأيتم اللات والعزة
19
- ومناة الثالثة الأخرى
20
- هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة : لثقيف بالطائف وأنشدوا وفرت ثقيفإلى لاتها بمنقلب الخائبالخاسر
(27/54)
وقال أبو عبيدة وغيره : كان بالكعبة وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش ورجح ابن عطية قول قتادة وقال أبو حيان : يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامافأخبر عن كل صنم بمكانه والتاء فيه قيل : أصلية وهي لامالكلمة كالباء في باء وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة ل ي ت موجودة فإنوجدت مادة لو ت جاز أن تكون منقلبة من واو وقيل : تاء العوض والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة أو يلتون عليه أي يطوفون فخففبحذف الياء وأبدلت واوه ألفا وعوض عن الياء تاءا فصارت كتاء أخت وبنت ولذا وقفعليها بالتاء وقرأابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بتشديد التاء علىأنه اسم فاعل من لت إذا عجن قيل : كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك وعن مجاهد أنهكان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمروبن لحي : إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلماتوفي جعلوا قبره وثنا وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان وقيل غير ذلك والعزي لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة كما قال قتادة وأصلها تأنيث العز وأخرج النسائي وابن مردويه عنالطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعثخالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزي فأتاها خالد وكانت ثلاث فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثن أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال : ارجع فإنك لم تصنع شيئافرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون ياعزي فأتاهافإذاامرأته عريانة ناشرة شعرها تحثوالتراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة و السلام : تلك العزي وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليها خالدافقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول : يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ورجع فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة و السلام : تلك العزي ولن تعبد أبدا وقال ابن زيد : كانت العزي بالطائف وقال أبو عبيدة : كانت بالكعبة وأيده فيالبحر بقول أبي سفيان في بعض الحروف للمسلمين لنا العزي ولاعزي لكم وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم ومناة قيل : صخرة كانت لهذيل وخزاعة عنابن عباس لثقيف وعن قتادةللأنصار بقديد وقال أبوعبيدة : كانت بالكعبة أيضا واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال : لأن المخاطب في قوله تعالى : أفرأيتم قريش وفيه بحث ومناة مقصورة قيل : وزنها فعلة وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمني عندهأ أي تراق وقرأابن كثير على ما في البحر مناءة بالمدة والهمزكما في قوله : ألا هل أتىتيم بنعبد مناءة على النأي فيما بيننا ابن تميم ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة والهمزة أصل وهي مشتقة من النون كأنهم كانوا
(27/55)
يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها والظاهر أن الثالثةالأخرى صفتان لمناة وهما على ما قيل : للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لماتقدمها معلوم غير محتاج للبيان وقال بعض الأجلة : الثالثة للتأكيد و الأخرى للذم بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعالذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف : هي اسم ذم يدل على وضاعةالسابقتين بوجه أيضا لأن أخرى تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذاأتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملابمفهوما الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليست ثالثة أيضااستدعت المشاركة قضاءا لحق التفضيل وكأنه قيل : الأخرى في التأخر انتهى وهوحسن وذكر في نكتة ذممناة بهذا الذم أنالكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك
وقال الإمام : الأخرى صفة ذم كأنه قال سبحانه : ومناة الثالثة الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي والعزي صورة نبات ومناة صورة صخرة فالآدمي أشرف من النبات والنبات أشرف من الجماد فالجماد متأخر ومناة جماد فهي في أخريات المراتب وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال وقيل : الأخرى صفة للعزي لأنها ثانية اللات والثانية يقاللها الأخرى وأخرت لموافقة رءوس الآي وقال الحسن ابن المفضل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير والعزي الأخرى ومناة الثالثة ولعمري إنه ليس بشيء والكلام خطاب لعبدةهذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون : إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علواكبيرافقي لهم توبيخاوتبكيتا : أفرأيتم الخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر منشؤنالله تعالىالمنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز و جل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى
وقوله تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى
21
- توبيخ مبني ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز و جل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور ومناط الأول نفس تلك النسبة وقيل : المعنى أرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته وقيل : المعنى أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآية السابقة وقيل : المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونهاتنفعكم وقيل المعنى أفرأيتم هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم ولا يخفى أن قوله تعالى : لكم الخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامه علىالقول السابق وقيل : ن قوله سبحانه : ألكم الخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكمالذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جانب الله تعالى العزيز الجليل منغير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه ما صور أمر الوحي تصويراتامماوحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآي به وعرفه حق المعرفة قالسبحانه : أفتمارونه على ما يرى على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحققة لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديامهديا وأنى يبقى للمراء مجال وقد رآه نزلة أخرى !
(27/56)
وعرفه حق المعرفة ثم قيل : لقد رأى من آيات الخ تنبيهاعلى أن ما عد منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية
وقوله تعالى : أفرأيتم عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون علىما أنتم عليه من المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاداله تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى : ألكم الخ زيادة للإنكارفعلى هذا ليس أفرأيتم في معنى الإستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى أفتمارونه فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى والقول مقدر أي فقللهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكما وتنبيها على أنه نتيجة مراتبهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هوفيه منالنقص انتهى وما ذكره أولاأولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا تلك إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الإستفهامية إذاقسمة ضيزي
22
- أي جائرة من حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزي ابن عباس وقتادة وفي معناه قول سفيان منقوصة وابن زيد مخالفة ومجاهد ومقاتل عوجاء والحسن غير معتدلة والظاهر أنه صفة واختلف في ريائه فقيل : منقلبة عن واو وقيل : أصلية ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى ثم كسرت لتسليم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه بضم فعل الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداءل لما ذهبإليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لميجيء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكا بورود ذلك فدق حكى ثعلب مشية حيكى ورجل كيصي وغيره امرأة عز هي وامرأة سعلي ورد بأنه من النوادروالحمل على الكثير المطرد في بابه أولى وأيضا يمكن أن يقالأ في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزي ويمنع ورود عز هي وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة وجوز أن يكون ضيزي فعلى بالكسر ابتداءا على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة ومجيء هذا الوصف في المصادر كما ذكر والأسماء الجامدة كدفلي وشعري والجموع كحجلي كثير وقرأ ابن كثير ضيئزي بالهمزعلى أنه مصدروصف به وجوز أن يكون وصفاوهو مضموم عومل معاملة المعتل لأنه يؤول إليه وقرأابن زيد ضيزي بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو ككسرى ويقالأ ضؤزي بالواو والهمز وضم الفاء وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزا بالهمز وأنشد الأخفش : فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب فسهمك مضئور وأنفك راغم والأكثر ضاز بلا همز كما في قول امريء القيس : ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق إنهي الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التيتدعونها إلا أسماء محضة ليس فيها شيء ما أصلا من معنىالألوهية وقوله تعالى : سميتموها صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعنى جعلتموها أسماء فإن التسمية نسبة بين الأسم والمسمى فإذا قيست إلى الأسم فمعناها جعله اسماللمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للأسم وإنما اختير ههنا
(27/57)
المعنى الأول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعاكما في قوله سبحانه : ما تعبدون من دونهإلا أسماء الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية وقيل : هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والأعزاز والتقرب إليها بالقرابين وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخاصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب اللوهية عنها كما هو زعمهم المشهوفي حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من الأشاء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى الأهواء الباطلة ما أنزل الله بها من سلطان برهان يتعلقون به إن يتبعو أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها إلا الظن إلا توهم أن ما هم عليه حق توهماباطلا فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن وما تهوى الأنفس أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن ما موصولة وعائدها مقدر وأل في الأنفس للعهد أو عوض عن المضاف إليه وجوز كون ما مصدرية وكذا جوز كون أل للجنس والنفس من حيثهي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل والألتفات في يتبعون إلى الغيبة للأيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الأغراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم وقرأابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر تتبعون بتاء الخطاب ولقد جاءهم من ربهم الهدى حال من ضمير يتبعو مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى والمراد بالهدى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن العظيم علىأنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة ما يتبعونإلا ذل : والحال لقد جاءهم من ربهم جلشأنهما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق
وحاصله يتبعون ذلك في حال ينافيه وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك أم للإنسان ما تمنى
24
- أم منقطعة مقدرة ببل وهي للأنتقالأ من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوىأنفسهم إلى بيان أن ذلك ممالا يجدي نفعاأصلا والهمزة وهي للأنكار والنفي أي بل ليس للأنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه ومفاده قيل : رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبة جزئية وإليه يشير قولبعضهم : المراد نفي أن يكو للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنة عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكاله مختصابه يتصرف فيه حسب إرادته ويتضم ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الأنسان خاصا بهم كما قيل وقوله تعالى : فلله الآخرة والأولى
25
- تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعابه تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأموربل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشألم يكن وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهم أطاعهم عندهممن الفوز فيها ولذا أردف ذلك بقوله تعالى :
(27/58)
وكم منملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا وإقناطهم عما طعموا به من شفاعة الملائكة عليهمالسلام موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الأبتداء والخبر الجملة المنفية وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عدنالله تعالى شيئامن الإغناء في وقت من الأوقات إلآ من بعدأن يأذن الله تعالى لهم في الشفاعة
لمن يشاء أن يشفعوا له ويرضة
26
- ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والأيمان وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم منإذن الله تعالى بمعزل وعنه بألف ألفمنزل وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز و جل أهلالها وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذاكان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكرنا فما ظنهم بحال الأصنام والكلام قيل من باب :
على لا حب لا يهتدي بمناره
فحاصله لا شفاعة لهمولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه الخ وقيل : هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقرأزيد بن علي شفاعتهبإفراد الشفاعة والضمير وابن مقسم شفاعاتهم بمجمعها وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان : لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحدلم تغن شفاعتهم شيئا إن الذين لا يؤمنون بالآخرة وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي ليسمون الملائكة المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق تسمية الأنثى
27
- فإنهم كانوا يقولو الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون والملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحدمن الملائكة تسمية الأنثى أي يسمونه بنتالأنهم إذاقالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتا فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسكل واحد منا حلة والإفراد لعدم اللبس ولذالم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى وما ذكر أولاقيل : مبني على أن تسمية الأنثى في النظمالجليل ليس نصبا على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضا وفي تعليقالتسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة غب الآخرة بحيث لا يجتريء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا وقوله تعالى : وما لهم به من علم حال من فاعل يسمون وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الأعتبار ذكر أو باعبار القول أي يسمونهم إناثا والحال لا علم لهم بما يقولون أصلا وقرأأبيبها أي بالتسمية أو بالملائكة إن يتبعون أي ما يتبعون في ذلك إلا الظن أي التوهم الباطل وإن الظن أي جنس الظن كان يلوح به الإظهار في موضع الإضمار وقيل : الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل
لا يغني من الحق شيئا من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذاكان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتد بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الأعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل وإنما يعتد به في العمليات وما يؤدي إليها
وفسر بعضهم الحق بالله عز و جل لقوله سبحانه : ذلك بأن الله هو الحق واستدلبالآية من لم يعتبر
(27/59)
التقليد في الأعتقاديات وفيه بحث والظاهرية على إبطاله مطلقاوإبطالالقياس ورده على أتم وجه في الأصول وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال : قال عمر بن الخطاب : احذروا هذا الرأي على الدين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالىكان يريه وإنما هو من تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا هو أحدأدلتهم على إبطال القياس أيضا وقد حكى الآدمي فيالأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال : قال ابن عمر : اتهموا الرأي عن الدين فإن الرأي منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وأجاب عنه غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله وأن المراد بقوله : إن الظن الخ استعمالأ الظن في مواضع اليقين وليس المراد إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة ويقالأ نحو هذافي كلام عمر رضي الله تعالى عنه وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك فليراجعه فأعرض عن من تولى عن ذكرنا أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم المنطوي على بيان الأعتقادات الحقة المشتمل على علومالأولين والآخرين والمذكر للآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها والمراد بالأعرض عنه ترك الأخذبما فيه وعدم الأعتناء به وقيل : المراد بالذكر الرسول ص - وبالأعرض عنه ترك الأخذ بما جاء به وقيل : المراد به الأيمان وقيل : هو على ظاهره والأعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز و جل ولم يرد إلا الحياةالدنيا
29
- راضيابها قاصرانظره عليها جاهدافيما يصلحها كالنظر بن الحرث والوليد بن المغيرة والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانتمنتهى همته وقصارى سعيه وقوله تعالى : ذلك أي أمر الحياة الدنيا المفهوممن الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة وقيل : أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا وقيل : ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه وقيل : إلى جعلهم الملائكة بنات الله سبحانه وكلاالقولين كما ترى مبلغهم من العلم أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه واعتراض مقررلمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا
والمراد بالعلم مطلق الإدراك للظن الفاسد وضمير مبلغهم لمن وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه وقوله سبحانه : إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى
30
- تعليل للأمر بالأعراض وتكرير قوله تعالى : هو أعلم لزيادة التقرير والإنذار بمكال تباين المعلومين والمراد بمن ضل من أصر علىالضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا و بمن اهتدى من شأنه الأهتداء في الجملة أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا وبمن يقبل الأهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلاتتعب نفسك في دعوتهم ولاتبالغ في الحرص عليهم فإنهم من القبيل الأول وقوله تعالى : ولله ما فيالسماوات وما في الأرض أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقاوملكالا لغيره عز و جل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا ويشعر بفعل يتعلق به
(27/60)
وقوله تعالى : ليجزي الذين أسآئوا بماعملوا أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر بالأساءة بيانا لحاله أو بمثل ما عملوا أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير ويجزي الذين أحسنوا أي اهتدوا بالحسنة أي بالمثوبة الحسنة التي هي الجنة أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قيل لأنه سبحانه لماأمره عليه الصلاة و السلام بالإعراض نفى توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى وفي العدول عن ضمير ربك إلى الأسم الجامع ما ينشيء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بد منضال ومهتد ومن أن يلقى كل ما يستحقه وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يلقى الحسنة جزاءا لتبليغه وهميلقون السوأي جزاءا لتكذيبهم وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الأعتنار والتنبيه على تباين الجزائين
وجوز أن يكون معنى فأعرض الخلا تقابلهمبصنيعهم وكلهم إلى ربك أنه أعلم بك وبهم فيجزي كلا ما يستحقه ولا يخفى ما فيالعدول عن الضميرين في بمن ضل وبمن اهتدى وجعل قوله تعالى : ليجزي على متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى : إن ربك هو أعلم أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم ليجزي الخ وقوله سبحانه : ولله ملك السماوات جملة معترضة تؤكد حديث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل : هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق ليجزي بقوله تعالى : ولله ما في السماوات كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد أي هو أعلم بهم وإنما سوى هذا الملك للجزاء ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مر وجوز في جملة لله ما في السماوات كونها حالا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أولا وفي ليجزي تعلقه بضل واهتدى على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى أعلم بمن ضل ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعلمه و بمن اهتدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى ولا يخفى بعده وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه : لا تغني شفاعتهم كما ذكره مكي وقرأزيد بن علي لنجزي ونجزي بالنون فيهما الذين يجتنبون كبائر الإثم بدل من الموصول الثاني وصيغة الأستقبال في صلته للدلالة على تجدد الأجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر محذوف و الأثم الفعل المبطيء عن الثواب وهو الذنب وكبائره ما يكبر عقابه وقرأحمزة والكسائي وخلف كبير الأثم على إرادة الجنس أوالشرك والفواحش ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام وقيل : الفواحش والكبائر مترادفا إلآ اللمم ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره ومنه لمه الشعر لأنها دون الوفرة وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة والغمزة والقبلة وهومن باب التمثيل وقيل : معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة وعليه قول الرماني هو الهم بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع وقول ابن المسيب : ما خطر على القلب وعن ابن عباس وابن زيد هو ما ألموا به منالشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قدكنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف على ما في البحر وقيل : هو مطلق الذنب
(27/61)
وفيرواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب والمعظم على تفسيره بالصغائروالأستثناء منقطع وقيل : إنه لا استثناء فيه أصلا و إلا صفة بمعنى غير إما لجعلالمضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الأثم في حكم النكرة أو لأن غير و إلا التي بمعناها قد يتعرفانبالإضافة كما في غير المغضوب وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع إلا صفة كونها تابعة لجمع منكر غيرمحصور ولم يوجد هنا ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب وسيبويه يرى جواز وقوعها صفةجواز الأستثناء فهو لا يشترط ذلك وتبعه أكثر المتأخرين نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الأنقسام وقالوا : سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ ألو إسحاق الأسفرايني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين في الإرشاد وتقيالدين السبكي وابن القريشي في المرشد بل حكاه ابن فروك عنالأشاعرة واختاره في تفسيره فقالمعاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالأضافة وحكى الأنقسام عند المعتزلة وقال : إنه ليس بصحيح وقال القاضي عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرةإلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر وبوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن مسعود لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة والجمهور على الأنقسام قيل : ولا خلاف في المعنى وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق لإجماع الكل على أن المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله عز و جل وشدة عقابه سبحانه وإجلالا له جل شانه عن تسمية معصيته صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي : لا يليق إنكارالفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حد الكبيرة فقيل : هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء وقيل : كل معصية أوجبت الحد وبه قال البغوي وغيره والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حد فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي : إنهم إلى ترجيحه أميل وقيل يقال : يرد على الأولأيضاأنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد
وقيل : هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدوترك فريضة تجب فورا والكذب في الشهادةوالرواية واليمين زاد الهروي وشريح وكل قول خالف لأجماع العام وقيل : كل جريمة تؤذنبقلة اكتراث مرتكبها بالدينورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط وتعقب بأنه بظاهره ديتناول صغيرة الخسة والإمام كما قال الأذرعي إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط نعم هو أشمل من التعريفين الأولين وقيل : هي ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه وقيل : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كانفاحشة فالزنا كبيرة وبحليلة الجارفاحشة والصغيرة ما تنقص رتبته عن رتبته المنصوص عليه أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم
(27/62)
كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعووغيره عن القاضي حسين عن الحليمي وقيل : هي كل فعل نصالكتاب على تحريمه أي بلفظالتحريم وهو أربعة أشياء أكل الميتة ولحم الخنزير ومال اليتيم والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر وقيل : إنها كل ذنب قرن به حد أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصومافظهر أنه مستحقي لدمه أو طيء امرأة ظاناأنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال : هو التحقيق وقيل : غير ذلك واعتمد الواحدي أنها لا حدلها يحصرها فقل الصحيح أنالكبيرة ليس لها حديعرفها العباد به وإلالاقتحم الناس الصغائر واستباحوه ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر ونظير ذلك إخفاء الأسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة وقالالعلامة ابن حجر الهيتمي : كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب وإلآ فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه وذهب جمع إلى تعريفها بالعد فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
وقيل : هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير واستدل له بما فيالصحيحين اجتنبوا السبع الموبقات الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلاتالمؤمنات وقيل : خمس عشرة وقيل : أربع عشرة وقيل : أربع وعن ابن مسعود ثلاث وفي رواية أخرى عشرة وقال شيخ الإسلام العلائي : المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك وقال أبو طالب المكي : هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من النكر وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر واثنان في الفرج الزنا واللواط واثنتان في اليد القتلة والسرقة وواحدة في الرجل الفرارمن الزحف وواحدة في جمع الجسد عقوق الوالدين وفيه ما فيه وروي الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له : كم الكبائر سبع هي فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الأستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وقد ألف فيها غير واحد من العلماء وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه فليراجع والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن ربك واسع المغفرة حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر فالجملة تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز و جل وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأوهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي واسع المغفرة لهم ليس بشيء كما لا يخفى
هو أعلم بكم أي بأحوالكم من كل أحد إذ أنشأكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام
(27/63)
من الأرض إنشاءا إجماليا حسبما مر بحقيقه وقيل : إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه من الأغذية التي منشؤها من الأرض وأيا ما كان فإذا ظرف لأعلم وهو على بابه من التفضيل
وقال مكي : هو بمعنى عالم غذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه وتعقب بأنه قد يتعلق علم منأطلعه الله تعالى من الملائكة عليه وقيل : إذ منصوب بمحذوف والتقدير اذكروا إذ أنشأكم وهو كما ترى وإذ أنتم أجنة ووقت كونكم أجنة في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لو لا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله فالجملة استئناف مقررلما قبلها وذكر فيبطون أمهاتكم مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه وقيل : لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة والفاء في قوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدمكونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذاكان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل أشركوا والله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه هو أعلم بمن اتقى المعاصي جميعاوهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيهابأسرها كذافي الإرشاد وقيل : اتقى الشرك وقيل : اتقى شيئا من المعاصي والآية نزلت على ما قيل : في قوم من المؤمنين كانوايعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنهإذاكان بطريق الإعجاب أو الرياء أماإذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعدفاعله منالمزكين أنفسهم ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعد منها التسمية بنحو برة أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب وكذا غير عليه الصلاة و السلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي جابر : إن عشت إن الله أنهى أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة محمول كما قالالنووي على إرادة أنهى نهي تحريم والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوص بما إذاكان الإشعار قويا كما إذاكان الأسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التزكية مستعملافيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذالم يكن كذلك كسعيد وحسن وقد كان لعمرو رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها : عاصية فسماها رصص جميلة كذا قيل والمقام بعد لا يخلو عن بحث فليراجع وقيل : معنى لا تزكوا أنفسكم لا يزكي بعضكم بعضا والمراد النهي عنتزكية السمعة أو المدح للدنيا أو تزكية على سبيل القطع وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود
أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال كانت اليهود إذاهلك لهم صبي صغيرة قالوا : هو صديق فبلغ ذلك النبي صصفقال : كذبتيهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها فأنزل الله سبحانه عند ذلك هو أعلم بكم الآية
(27/64)
أفرأيت الذي تولى
33
- أي عن اتباع الحق والثبات عليه وأعطى قليلا أي شيئا قليلا أو إعطاءا قليلا وأكدي
34
- أي قطع من قولهم حفر فأكدي إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر قال مجاهد وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله ص - وجلس ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له : أتترك ملة آبائك ! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن علي أن تعطي كذا من المال فوفقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث أعطى خمس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأمور وقال محمدبن كعب : في أبي جهل قال : والله يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه : أعنده علم الغيب إلى آخره وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل كما قال ابن عطية ولا أصل له وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثلذ ذلك و أفرأيت هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول والثاني الجملة الأستفهامية والفاء في قوله تعالى : فهو يرى للتسبب عما قبله أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنهيومالقيامة ما يخافه وقيل : يرى أن ما سمعه من القرآن باطل وقال الكلبي : المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حق وأيا ما كان فيرى من الرؤية القلبية وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفى عن غيره مما هو غيب أم لم ينبأ أي بل ألم يخبر
بما في صحف موسى وهي التوراة وإبراهيم وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه الذي وفى أي وفر وأتم ما أمر به أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى : وقال ابن عباس : وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحدغيره وهي ثلاثوسهما منها عشرة في براءة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآيات وعشرة في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الآيات وست في قدأفلح المؤمنون الآيات التي في أولها وأربع في سأل سائل والذين يصدقون بيوم الدين الآيات وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه وفى بأربع ركعات يصليهن في كل يوم وفي رواية يصليهن أول النهار
وأخرج أحمد من حديث معاذبن أنس مرفوعا أيضا ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفي أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسو وحين تصبحون الآية وقال عكرمة : وفي بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره وقيل وقيل : والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قالأ : ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتمالأما لايحتمله غيره وفي قصة الذبح ما فيه كفاية
(27/65)
وخص هذا النبيان عليهما السلام بالذكر قيل : لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وأبيه وعمه وخاله والزوج بامرأته والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام وتقديمه لماصحفه أشهر عندهم وأكثر وقرأأبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السمقيع وزيد بن علي وفي بتخفيف الفاء ألا تزر وازرة وزر أخرى أي أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن أن هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما فيصحف موسى أو الرفع على أنه خبر مبتدأمحذوف والأستئناف بياني كأنه قيل : ما في صحفها فقيل : هو أن لا تزر الخ والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن ذلك وزر الإضلال الذي وهو وزره لا وزر غيره وقوله تعالى : وأن ليس للأنسان إلا ما سعى
39
- بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره وأن كأختها السابقة و ما مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه أو إلا الذي سعى به وفعله واستشكل بأنه أخبار وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عنالميت منها ما أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال : نعم وكذا بنعالحج
أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال : أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة و السلام : لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال : نعم قال : فحق الله أحق بالقضاء وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعأ فكأنه بسعيه وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وأجيب أيضابأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الأيمان فكأنه سعيه ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنةوأن هشاماابنهنحر حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : أما أبوك فلوكان أقر بالتوحيدفصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك وأجيب بهذا عما قيل : إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضاالقصر على سعيه وحده وأنت تعلم ما في الجواب من النظر وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الأنتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتفيد بمالا يهبه العامل وسأل وإلى خراسان عبد الله بن طاهر الحسبن بن الفضل عن هذه الآية مع قوه تعالى : والله يضاعف لمنيشاء فقال : ليس لهبالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين وقالأ عكرمة : كان هذاالحكمفي قول إبراهيم وموسى عليهما السلام وأما هذه الأمة فللأنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة هل لأمي إذا تطوعت عنها قال ص - : نعم وقال الربيع : الأنسان هنا الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود
(27/66)
والنحاس كلاهما في الناسخ وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفاولا نسخ في الأخبار وما يتوهم جوابامن أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهم السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى ثم من بعدذلك ترتفع إرادته وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه وقيلأ : اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضافانها وعظ للذي تولى وأعطى قليلاوأكدي والذي أميل إليه كلام الحسين ونحوه كلام ابن عطية قال : والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه : للأنسان فإذاحققت الشيء الذي حق الأنسان أن يقول فيهلي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة أو رعاية أبصالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو نحو ذلكفليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاقبما هو حقيقة انتهى
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذاجعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لاتلحق الأموات وهو مذهب الإماممالك بل قال الإمام ابن الهمام : إن مالكا والشافعيلا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة غيرها كالصدقة والحج وفي الأذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل فالأختيار أن يقول القاريء بعدفراغه اللهمأوصل ثواب ما قرأنه إلى فلان والظاهر أنه إذاقال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلانبقلبه كفى وعن بعضهم اشتراط نية أول القراءة وفي القلب منه شيء ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما غذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذالأجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوماعند أهل السنة والجماعة وفيه ما علمت ما مر آنفا
وقالالخفاجي : هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعد حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة أما الصوم فلا وماورد في حديث من مات وعليه صيام صام عنه وليه وكذا غيره من العبادات فقالأ الطحاوي : إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنهبدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضلهD كالصدقة عن الغير فاعرفه انتهى فلا تغفل وأن سعيه سوف يرى
40
- أي يعرض عليه ويكشف له يومالقيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء وفي البحر أه حاضر والقيامة ويطلعون عليهتشريفاللمحسن وتوبيخاللمسيء ثميجز به أي يجزى الإنسان سعيه يقالأ : جزاه الله عز و جل بعمله وجزاه على عمله وجزاهعمله بحذف الجار وإيصالأالفعل وقوله تعالى :
(27/67)
الجزاء الأوفى
41
- مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له وجوز كونه مفعولا بهبمعنى المجزيبه وحينئذيكونالفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصاللا التوسع فيجيء فيه الخلاف وبعضهم يجعل الجزاء منصوبابنزع الخافض وجوز أن يكون الضمير المنصوب في يجزاه للجزاء لا للسعي و الجزاء الأوفى عليه عطف بيان أو بدل كما في قوله تعالى : وأسروا النجوى الذينظلموا وتعقبه أبو حيان أن فيهإبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع وأن إلى ربك المنتهى
42
- أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرونولهذا قال غير واحد : أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الأنتهاء وقيل : المعنى أنه عز و جل منتهى الأفكار فلا تزال الأغكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز و جل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية : لا فكرة في الرب وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري وروي عنه عليه الصلاة و السلام إذا ذكر الرب فانتهوا وأخرجابن ماجة عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا نفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قالأ : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا
واستدلبذلك من قال باستحالة معرفته عز و جل بالكنه والبحث في ذلك طويل وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع وقرأأبو السمال وإن بالكسر هنا وفيما بعدعلى أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف وأنه هوأضحكوأبكى
43
- خلق فعلى الضحك والبكاءوقالالزمخشري : خلق قوتي الضحك والبكاء وفيه دسيسة اعتزال وقال الطيبي : المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة ولذا قرن بقوله تعالى : وأنه هو أمات وأحيا
44
- وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الأماتة وأحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالباوالإحياء عند الولاد الضحك وما أحسن قوله : ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سرورا فاجهدلنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار وقيل : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي أنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه وكذا في أنه هو أمات وأحيا فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز و جل والقاتل إنماينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل اللهتعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى
45
- من نوع ألإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز و جل من نطفة إذا تمنة
46
- أي تدفق في الرحم
(27/68)
يقال : أمني الرجل ومني بمعنى وقال الأخفش : أي تقدر يقالأ مني لك الماني أي قدر لك المقدر ومنه المنا الذي يوزن به فيما قيل والمنية وهي الأجل المقد للحيوان وأن عليه النشأة الأخرى
47
- أي الأحياء بعدالإماتة وفاءابوعده جل شأنه وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه وفي الكشاف قال سبحانه : عليه لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الأحسان والإساءة وفيه مع كونه طريق الأعتزالنظر وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بالمد وهي أيضامصدر نشأة الثلاثي وأنه هو أغنى وأفنى
48
- وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى : أغنى لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها وفي البحر يقال : قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضابالهمزة والتضعيف فيقالأ : أقناه الله تعالى مالاوقناه الله تعالى مالا وقال الشاعر : كممن غني أصاب الدهر ثروته ومن فقير يقني بعدإقلال أي يقني المال وعن ابن عباس أغنى مول وأقنى أرضى وهو بهذا المعنى مجاز منالقنية قال الراغب : وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية منالرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن ولله تعالى در من قال : هل هي إلا مدة وتنقضي ما يغلبالأيام إلا من رضى وعن ابن زيد والأخفش اقتنى أفقر ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى وقيل : إنهما جعلا أقنى بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في أمات وأحيا وأضحك وأبكى وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال أغنى نفسه سبحانه و أفقر الخلائق إليه عز و جل والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أنيكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل وعندي أن أغنى سبحانه نفسه كأوجدجل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه وأنه هو رب الشعرى
49
- هي الشعرى العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعدالواو وتقال الشعري أيضاعلى الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناة تحتية وصاد مهملة ومد والأولى فيالجوزاء وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجردة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذاطلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما يتبع الصائدأو الصيد والثانية في ذراع الأسد المبسوطة وإنما قيل لها الغميصاء لأنهابكت من فراق سهيل فغمصت عينيها والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق وذلك من زعم العرب أنهما اختا سهيل وفي القاموس منأحاديثهم أن الشعري العبور العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا وقيل : زعموا أن سهيلا و الشعري كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعري فعبرت المجرة فسميتالعبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياءا وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرماوأكثر ضياءاوهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية
قال السدي : عبدتها حمير وخزاعة وقال غيره : أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة أو هو سيدهم
(27/69)
واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي ص - : ابن أبي كبشه شبهوه لمخالفته قومه في عبادة الأصنام وذكر بعضهم أنه أحدأجداده عليه الصلاة و السلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أثوله فيقولون نزع إليه عرق كذا وعرق الخال نزاع وقيل : هو كنيةوهب بن عبد مناف جده صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل أمه وقولهم له عليه الصلاة و السلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة وقيل : كنية زوج السعدية مرضعته عليه الصلاة و السلام وقيل : كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز و جل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا ولمزيدالأعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل
ومن العرب من كان يعظمها يعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمو على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : وأنه هو رب الشعري إشارة لى نفي تأثيرها
وأنه أهلك عادا الأولى
أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور وقال الطبري : وصفت بالأولى لأن في القبائل عادا أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال وقال المبرد : عاد الأخرى هي ثمود وقيل : الجبارون وقيل : عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى وفي الكشاف الأولى قوم هود والأخرى إرم والله تعالى أعلم
وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف وقرأ قوم عاد الولي محذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها وقرأنافع وأبو عمرو عاد الولى بإدغام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة وعاب هذه القراءة المازني والمبرد وقالت العرب : في الأبتداء بعدالنقل الحمر والحمر فهذه القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها وأتى قالون بعدضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله :
أحب الموقدين إلى مؤسى
وكما قرأ بعضهم على سؤقه وفيه شذوذ وفي حرف أبي عاد غير مصروف للعملية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط وثمود عطف على عادا ولا يجوز أن يكون مفعولا لأبقى في قوله تعالى : فما أبقى لأن ما النافية لها صدر الكلام والفاء على ما قيل : مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها وقيل : هو معمول لأهلك مقدر ولا حاجة إليه وقرأعاصم وحمزة ثمود بلا تنوين ويقفان بغير ألأف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف والظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم أي أخذهم بذنوبهم وقيل : أي ما أبقى منهم أحدا والمراد ما أبقى من كفارهم وقوم نوح عطف على عادا أيضا من قبل أي من قبل إهلاك عاد وثمود وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين
إنهم كانوا همأظلموأطغى
أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذبيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول : يا بني إن أبي مشى إلى هذا وأنا يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأالصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما وقيل : ضمير إنهم يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة و السلام
(27/70)
ما لا يخفى و هم يجوز أن يكون تأكيداللضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقعبين معرفة وأفعل التفضيل وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان جار مجرى خبر المبتدأ وحذفه فصيح فيه فكذلكفي خبر كان والمؤتفكة هي قرة قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم ومنهالإفك لأنه قلب الحق وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه
وقرأالحسن والمؤتفكات جمعا أهوى أي أسقطهأ إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء وقال المبرد : جعلها تهوى
والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة وجوز أن يكون المؤتفكة معطوفا على ما قبله و أهوى مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم
فغشاها ما غشى فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ما مفعولاثانياوالفاعلأ ضميره تعالى ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف ما هي الفاعل فبأي الآءربك تتمارى تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغةفي الفعل وقيل : إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها والخطاب قيل : لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير وقيل : للأنسان على الإطلاق وهو أظهر والأستفهام للإنكار والآلاء جمع إلى النعم والمراد بها ما عدفي الآيات قبلوسمي الكل بذلك مع أن منه نقمالمافي النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والأنتفاع للأنبياء والمؤمنينفهي نعم بذلك الأعتبار أيضا وقيل : التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له وقرأ يعقوب وابن محيصن ربك تمارى بتاء مشددة هذا نذير من النذر الأولى الإشارة إلى القرآن وقال أبو مالك : إلى الأخبار عن الأمم أو الإشارة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والنذير يجيء مصدراوةوصفا والنذر جمعه مطلقاوكل من الأمرين محتمل هنا ووصف النذر جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة أو الجماعة واختير على غيره رعاية للفاصلة وأيا ما كان فالمراد هذانذير من جنس النذر الأولى
وفي الكشف أن قوله تعالى : هذا نذير الخ فذلكة للكلام إما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل أزفت الأزفة أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن فأل في الآزفة كاللعهد لا للجنس وقيل : الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا وقيل : لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة ليس لها من دون الله أي غير الله تعالى أو ألآ الله عز و جل كاشفة
58
- نفس قادرة على كشفهأ إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها والمراد بالكشف الإزالة وقري من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهومراد الزمخشري بقوله : أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير وقيل : معناه لو وقعت الآن لم يردها إلى وقتها أحدإلا الله تعالى فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة وقال الطبري والزجاج : المعنى
(27/71)
ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات ة فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى : لا يجليها لوقتها إلا هو والتاء في كاشفة على جميع الأوجه للتأنيث وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت وبعضهم يقدر الموصوف حالا والأول أولى وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز و جل وفيه نظر وقال الرماني وجماعة : يحتمل أن يكون كاشفة مصدرا كالعافية وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى أفمن هذا الحديث أي القرآن تعجبون
59
- إنكارا وتضحكون استهزاءا مع كونه أبعد شيء من ذلك ولا تبكون
60
- حزنا علىما فرطتم في شأنه خوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة وأنتم سامدون
61
- أي لا هون كما روي عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد : ليت عادا قبلوا الحق ولم يبدوا جحودا قيل : قم فانظر إليهم ثم دع عنك السمودا وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود فقال : البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا وقال الراغب : السامد اللامي الرافع رأسه من سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه وقال أبو عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية أسمديلنا أي غني لنا وروري نحوه عن عكرمة وأخرج عبد الرزاق والبزاز وابن جرير والبيهقي في سننه وجماعة عن ابن عباس أنه قال : هو الغناء باليمانية وكانواإذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه وقيل : يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه والجملةالإسمية على جميعذلك حال من فاعل لا تبكون ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود وقال المبرد : السمود الجمود والخشوع كما في قوله : رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا والجملةعليه حال من فاعل تبكون أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفي والإنكار وارد على نفي البكاء والسمو معا فلا تغفل وفي حرف أبي وعبد الله تضحكون بغير واو وقرأ الحسن تعجبون تضحكون بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء واستدل بالآية كما في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع القرآنوقراءته أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : لما نزلت أفمن هذا الحديث الآية بكىأصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة و السلام : لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخلالجنة مصر على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون ما ضحك النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إلا أن يتبسم ولفظ عبد بن حميد فما رؤي النبي عليه الصلاة و السلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا وفيه سد باب الضحك عند قراءة القرآنولو لم يكن استهزاءا والعياذ بالله
(27/72)
فاستجيبوا لله واعبدوا
62
- الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلتهبما يليق به ويدلعلى عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم وقد سجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندها
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابنمسعود قال : أولسورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا الحديث
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود وكذا عمر رضي الله تعالى عنه أخرج سعيد ابن منصور عن سبرة قال : صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع ولا يرى مالك السجود هنا واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يسجد فيها وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدلعلى نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة و السلام سجد بعد وكذا زيد رضي الله تعالى عنه نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز أو لعذر لم نطلع عليه وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة ناف وضعيف وكذا قوله فيما رواه أيضا عنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها على أن الترك إنما ينافي كما سمعت الوجوب والله تعالى أعلم
سورة القمر
وتسمى أيضا اقتربت وعن ابن عباس أنها تدعىفي التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال : إنه منكر وهي مكية في قول الجمهور وقيل : مما نزل يوم بدر وقال مقاتل : مكية إلا ثلاث آيات أم يقولون إلى وأمر واقتصر بعضهم على استثناء سيهزم الجمع الخ ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال : أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سيهزم الجمع ويولون الدبر وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله أي جمع يهزم فلما كان يوم بدروانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر فكانت ليوم بدر وفي الدر المنثور : أخرج البخاري عن عائشة قالت : نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ويرد به وبما قبله ما حكى عن مقاتل أيضا وقيل : إلا أن المتقين الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه : ثم أزفت الآزفة وهنا اقتربت الساعة وقال الجلال السيوطي : لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق
(27/73)
للتسمية في التسمية لما بين النجم والقمر من الملابسة وأيضا إن هذه بعد تلك كالأعرافبعد الأنعام وكالشعراءبعد الفرقان وكالصافات بعد يس في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح إلى قوله سبحانه : والمؤتفكة أهوى
بسم الله الرحمن الرحيم اقتربت الساعة أي قريب جدا وانشق القمر
1
- انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة و السلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس أن اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق لا يعول عليه وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشهدوا ومن حديثه أيضا انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة و السلام فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء في السفار فأخبروهم بذلك أبو داود والطيالسي وفي رواية البيهقي فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا : رأيناه فأنزل الله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال : اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحرث فقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع لهم النبي صلى الله عليه و سلم : إن فعلت تؤمنوا قالوا : نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ربه عز و جل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثلنصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا
والأحاديث الصحيحة في الأنشقاق كثيرة واختلف في تواتره فقيل : هو غيرمتواتر وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب : الصحيح عندي انشقاق القمر متواترمنصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمتري في تواتره انتهى باختصار وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحةعن جماعةمن الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن مسعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكنمولودا إذ ذاك وكأنسفإنه ابن أربع أو خمس بالمدينة وهذا لا يطعن في صحةالخبر كما لا يخفى ووقع في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة و السلام كان ليتئذ بمكة فالمراد أن الإنشقاق كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الأنشقاق
(27/74)
عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث وأما الإجماع فغير مسلم وفي المواهب قال الحافظ ابن حجر : أظن أن قوله : بالإجماع يتعلق بانشق لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الأنشقاق في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل قائل مرتين أراد فرقتين وهذا الذيلا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنىفي خبرابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتينوهي بمعنى فرقتين ومرتين معا والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤيةوتعددها لا يقتضي تعدد الأنشقاقبأن يكون رآه منشقا فصرف نظره عنه ثم أعادهفرآه كذلك لم يتغير ففيهإشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال : انتهى أهل مكةإلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله فهبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلةيروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلةأربع عشرةفانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى اقتربت الساعةوانشق القمر فلوقال أحدهؤلاء رأيت القمرمنشقا ثلاث مرات على معنى الرؤيةصح بلا غبار ولم يقتض تعدد الأنشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذاالطرز ليجمع بين الروايات ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشارإليه البوصيري في قوله : شق عن صدره وشق له البلد رومن شرط كل شرط جزاء من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمرليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامةابن حجر الهيتي في شرحه : الظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا ولعله أراد بالبدر مطلق القمر ويؤيد كونه ليلةالبدر ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : سحر القمر فنزلت اقتربت الساعة إلى مستمر فإن الكسوف وإن جاز عادةأن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشرإلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورةإلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الإنشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهايةأن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعته السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالىعلى من وضعه وما في خبر أبي نعيم الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما علىالصفا والآخر على المرة قدرما بين العصرإلى الليلينظرون إليه ثم غاب لا يعول عليه كيف وقد تضمن ذلك الخبرأن الأنشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا سحر مستمر هم وهو مخالف لما نطقت به الأخبارالصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع وقد شاع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشارإلى القمر بسبابته الشريفة فانشق ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم
(27/75)
وأنكر الفلاسفة أصل الأنشقاق بناءا على زعمهماستحالة الخرق والألتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنىنسمةمن نسمات أفكار أهلالحق العلويين خرقا لا يقبل الألتئامكما بين في موضعه وقال بعض الملاحدة : لو وقعلنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس في شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التيسير والتنجيم ولذكره أهل الأرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع طلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة وأيضا لا يعقل لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشدمن أصواتالصواعق المهلكة بأضعافمضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أخلالأرض منه وأيضا متى خرق وصار قطعتينذهبت منه قوة التجاذبكالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلةوكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم رؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والأعتناءبأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلةأهلها لحظة غير مستبعد والأنشقاق لا تختلفبه منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوةسير لتلحق أختها الغربية واي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله تعالىسبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمةالجديدة : إن بين الأرض والشمس ثلثمائةألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرضفي مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلمسبب كلحادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤيةالكواكب قريبةمع بعدهاالمفرطفقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفيفي ذلكعدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقةولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم بخواص البصرمع كونه قطعة شحم صغيرةمعروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون
ومن سلمتأثيرالنفوس إلى حدأن يصرعالشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناكسبب نحو ذلك وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممنله عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين وربما تصور له من رمل فينظرإليه ويفلقهفينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاةوإلا فإراة الله تعالى كافية في الأنشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومثله ذهاب التجاذبوالجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرمالقمر والرض فيها ويمكن أن يكون إحدىالقطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حد جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلكالقطعة عدم الخروج عن حد الجذبعلى أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبت الأمكان وشمول قدرته عز و جل وأنه سبحانه فعال لما يريد
والحاصلأنه ليس عند المنكر سوىالأستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليلعلى الأستحالةالذاتية ولو انشق والأستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم وروي عن الحسن أنه قال : هذا
(27/76)
الأنشقاق بعد النفخة الثانية والتعبيربالماضي لتحقق الوقوع وروي ذلك عن عطاء أيضا ويؤيد الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الأنشاق قبل يوم القيامة وكذا قوله تعالى : وإن يروا آية يعرضوا فإنه يقتضيأن الأنشقاقآية رأوها وأعرضوا عنها وزعم أن انشقاق القمرعبارةعن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الأنفلاقبالأنشقاقكمافي قوله النابغة : فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داعي وزعم آخر أن معنى انشقالقمروضح الأمر وظهر وكلا الزعمينمما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولا أظن الداعيإليهما عند من يقربالسعةالتي هي أعظم من الأنشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الأتفاق سوى عدم ثبوتالأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة و السلام عندهومنشأ ذلك القصور التاموالتمسك بشبه هي على طرف الثمام ومع هذا لا يكفر المنكر بناءا على عدمالأتفاق على تواتر ذلك وعدمكون الآية نصا فيه والأخراج من الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالىالموفق
والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني وكلآت قريب وزمان العالم مديد والباقيبالنسبةإلى الماضي شيء يسير ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغيلأحد إنكارها واستعمالالأقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال لعل في قوله تعالى : لعل الساعةتكون قريبا مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمرآية ظاهرة على هذا القرب وعلى الأول قيل : هو آية لأصل الأمكان الذي يقتضيه الوقوع وقيل : هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلى الله عليه و سلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه بأنه إذا قربت الساعة انشق القمرمعجزة وكلاهما كما ترى واختاربعضهم أنه آية لصدق النبيE في جميع ما يقول ويبلغ ربهسبحانه لأنه معجزه له صلى الله عليه و سلم ومنه دعوىالرسالة والأخبار باقترابالساعةوغير ذلك و آية نكرة في سياق الشرط فتعم فالمعنى وإن يروا كل آيةيعرضوا عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها ويقولون سحر أي هذا أو هو أي ما نراه سحر مستمر
2
- أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآياتوتتابع المعجزات
وقال أبو العالية والضحاك : مستمر محكم موثقمن المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدرمررت الحبل مرةإذافتلته فتلا محكما فأريدبه مطلق المحكم مجازا مرسلا وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء واختارهالنحاس مستمرأي مار ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهمومنوها بالمانيالفارغة كأنهم قالوا : إن حاله عليه الصلاة و السلام وما ظهر من معجزاته سبحانه
سحابةصيف عن قريبتشفع
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وقيل : مستمر مشتد المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدةمرارته يقال : مر الشيء وأمرإذاصارمراوأمر غيره ومره يكون لازما ومتعديا وقيل : مستمر يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات وقيل : مستمر مار من الأرضإلى السماءأي بلغ من سحره أنه سحر القمروهذا ليس بشيء ولعلالأنسب
(27/77)
بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه وقريء وأن يروا بالبناء للمفعول من الإرادءة وكذبوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبماأظهره الله تعالى على يدهمن الآيات واتبعواأهواءهم التي زينها الشيطان لهم وقيل : كذبوا الآية التي هي انشقاق القمر واتبعوا أهواءهم وقالواسحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله والعطف على الجزاء السابق وصيغةالماضي للدلالة على التحقق وقيل : العطف على اقتربت والجملة الشرطيةاعتراضيةلبيان عادتهم إذاشاهدوا الآيات وقوله تعالى : وكل أمرمستقر
3
- استئناف مسوق للرد على الكفارفي تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنععلة شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغةمن عدم استقرار أمره عليه الصلاة و السلام حسبما قالوا : سحر مستمر ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومنجملتها أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسيصير غاية يتبينعندها حقيته وعلو شأنه وللإشارة إلىظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة و السلام لميصرح بالمستقر عليه وفي الكشاف أي كل أمرلا بد أن يصيرغاية يستقر عليها وأن أمره صلى الله عليه و سلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حقأو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة و السلام وأمرهم مستقرأيسيثيب ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادةأو شقاوة في الآخرة قال في الكشف : والكلام على الأول تذييل جارمجرى المثلوعلى الثاني تذييل غير مستقر وقرأ شيبة مستقر بفتح القاف ورويت عن نافع وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار وحمله على كل أمر بتقديرمضاف أي ذومستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار أو ذو موضعاستقرار وتعقب بأن كون كل أمر لا بد من زمان أو مكان أمرمعلوم لا فائدةفي الأخبار به وأجيب بأن فيه إثبات الأستقرارله بطريق الكناية وهيأبلغ من التصريح
وقرأزيد بن علي مستقر بكسر القاف والجر وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربتالساعة واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها قالفي الكشف : وفيه شمةمن التجريد وتهويل عظيم حيث جعلفي اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع وقوله تعالى : وانشق القمر على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها وإما منزلمنزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة وقوله سبحانه : وإن يروا آية الخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر
واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير أكلت خبزا وضربتخالدا وإن يجيء زيد أكرمه ورحلإلى بنيفلان ولحما بعطف لحما على خبرا ثم قال بللا يوجد مثله في كلام العرب وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذادلعلى العطف الدليل لا يعدذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا ولا يخفى وقال صاحب اللوامح إن مستقر خبر كل والجرد للجوار واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس يجيد لأن الجرد علىالجوار في غاية الذوذ في مثله إذا لم يعهدفي خبر المبتدأ وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده واستظهركون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت أومعمول به ونحوه ممايشعر به الكلام أو مذكور بعدوهو قوله تعالى : حكمة بالغة وقد اعترض بينها بقوله سبحانه : ولقد جاءهم في القرآن من الأنباء أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة والجار والمجرور
(27/78)
في موضع الحال منما في قولهD : ما فيه مزدجر
4
- قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه و من للتبعيض أو للتبيين بناءا على المختار من جواز تقديمه على المبين قال الرضي : إنماجازتقديم من المبينة على المبهمفي نحو عندي من المال ما يكفي لأنه في الأصل صفة لمقدرأي شيء من المال والمذكزر عطف بيان للمبين المقدرقبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجارلهم ومنع عما هم فيه من القبائح أو موضعازدجار ومنع وهي أنباء التعذيب أو أنباء الوعيد وأصل مزدجر من تجر بالتاء موضعالدال وتاء الأفتعال تقلب دالامع الدال والذال الراء للتناسبوقريء مزدجر بقلبها وايا وإدغام الزاي فيها وقرأزيد بن علي من جر اسم فاعل من أزجر أي صار زجر كأعشب صار ذا عشب حكمةبالغة أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها ورفع حكمه على أنها بدل كل أو اشتمال من ما وقيل : من مزدجر أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسلوإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى أو إلى ما في النباء أو إلى الساعة المقتربة والآية الدالة عليها كما قاله الإمام وتقدم آنفا احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد وقرأاليماني حكمة بالغة بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو نكرة موصوفة ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني
فما تغن النذر
5
- نفي للأغناء أو الأستفهام إنكاري والفاءلترتيب عدم الإغناء علىمجيء الحكمةالبالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغةالمضارع للدلالة على التجدد والأستمرار و ما علىالوجه الثاني في محلنصبعلى أنهامفعول مطلق أي فأي إغناءتغنيالنذر وجوزأن تكون في محل رفع على الأبتداء والجملة بعدها خبر والعائد مقدرأي فما تغنيه النذر وهو جميعبمعنى المنذر وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار وتعقب بأن حق المصدرأن لا يثنيولا يجمعوأن يكون كالأنذار وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله فتول عنهم الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمربه والسبب عدم الإغناء أو العلم به والمراد بالتولي إما عدم القتال فالآية منسوخة وإما تركالجدال للجلاد فهيمحكمة والظاهر الأول يوم يدع الداع ظرف ليخرجون أو مفعول به لا ذكر مقدرا وقيل : لا تنظر وجوز أن يكون ظرفا لتغني أو لمستقروما بينهما اعتراض أو ظرفا ليقول الكافر أو لتول أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة أو هو معمولله بتقدير إلى وعليه قوله الحسن فتول عنهم إلى يوم
والمراد استمرار التولي والكل كما ترى والداعي إسرافيل عليه السلام وقيل : جبرائيل عليه السلام وقيل : ملك غيرهما موكل بذلك وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في كن فيكون على القول بأنه تمثيل فالداعيحينئذ هو الله عز و جل وحذفت الواو من يدع لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ والياء من الداع تخفيفا وإجراءا لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه والشيء يحمل على ضده كما يحملعلى نظيره إلى شيء نكر أي فظيعتنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنىبالنكر عن الفظيعلأنه في الغالب منكرغير معهود وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقراروأيما كان فهووصف على فعل بضمتين وهو قليلفي الصفات ومنه روضة أنف لم ترع ورجلشلل خفيففي الحاجة سريع حسن الصحبة
(27/79)
طيب النفس وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل نكر بإسكان الكاف كما قالوا : شغل وشغل وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف أو السكون هو الأصل والضمللأتباع وقرأمجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي نكر فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر خشعا أبصارهم حال من فاعل يخرجون أي يخرجون من الأجداث أيالقبور اذلة أبصارهم من شدة الهول أذلاء من ذلك وقدمالحال لتصرف العامل والأهتمام وفيهدليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا ويرده أيضاقولهم : شتى تؤب الحلبة وقوله : سريعا يهون الصعب عند ألي النهي إذا بر جاء صادققابلوا البأسا وجعل حالامن ذلك لقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا إلى قوله تعالى : خاشعة أبصارهم وقيل : هو حال من الضمير المفعول المذحوف في يدع الداع أي يدعوهم الداع وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوعالبصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعلهمفعول يدعو على معنى فريقا خاشعاأبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل وقيل : هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى : فتولى عنهم وفيه ما لا يخفى وأيضافاعل خشعاوطابقه الوصففي الجمع لأنه إذاكسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذاجمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذارفعالظاهر المجموع على اللغة الفصيحةدون لغة أكلوني البراغيث لكن الجمع حينئذفي الأسم أخف منه في الفعل كما قال الرضي ووجهه ظاهر وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسماظاهرامجموعافإن تكسيرها كمررت برجل قيام غلمانه فهو أولىمن إفرادها كمررتبرجل قائم غلمانه وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهدله كقوله : وقوفابها صحبى على مطيهم يقولونلا تهلك أسى وتجملي وقوله : بمطرد لدن صحاح كعوبه وذي رونقعضب يقدرالقوانسا وقال الجمهور : الإفراد أولى والقياس معهم وعليه قوله : ورجالحسنأوجههم من إياد بن نزار بن معد وقيل : إن تبعمفردا فالأفراد أولى كرجل قائم غلمانه وإن تبع جمعافالجمع أولى كرجال قيام غلمانهم وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلوني البراغيث وجوز أن يكون خشعا ضمير مستتر و أبصارهم بدلامنه وقرأابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي خاشعا بالإفراد وقرأأبي وابن مسعود خاشعة وقريء خشع على أنه خبر مقدم و أبصارهم مبتدأو والجملة في موضع الحال وقوله تعالى : كأنهم جرادمنتشر
7
- حال أيضاوتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والأنتشار في الأقطار وجاء تشبيههم بالفراشالمبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل وقيل : يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدونأين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها ثم كالجراد المنتشر إذاتوجهوا إلى المحشرفهما تشبيهان باعتبار وقتين وحكى ذلك عن مكي بن أبي طالب
مهطعين إلى الداع مسرعين إليه قال أبو عبيدة : وزاد بعضهمماديأعناقهم وآخر مع هز ورهق ومد بصر
(27/80)
وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع : تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشدالبيت وقيل : خافضين ما بين أعينهموقال سفيان : شاخصة أبصارهم إلى السماء وقيل : أصل الهطع مد العنق أو مدالبصر ثم يكنىبه عن الإسراع أو عن النظر والتأملفلا تغفل يقول الكافرون هذا يوم عسر
8
- صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنهعلى المؤمنين ليسكذلك كذبت قبلهم قوم نوح شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للزدجارونوعتفصيل لهاوبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى : فما تغنى النذر والفعل منزل منزلة اللازم أيفعلت التكذيب قبلتكذيب قومك قوم نوح وقوله تعالى : فكذبوا عبدنا تفسير لذلك التذكيب المبهم كما في قوله تعالى : ونادىنوح ربه فقال الخ وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب وجوز أن يكون المعنى تكذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مثله أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأساكذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل والفاعلية عليه سببية وقيل : معنى كذبت قصدتالتكذيب وابتدأته ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله : قدجبر الدين الإله فجبر
وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم لهعليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه
وقالوا مجنون أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وازدجر
9
- عطف على قالوا وهو إخبار منه عز و جل أي وزجر عن التبليغ بأنواعالأذية والتخويف قاله ابن زيد وقرا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين وقال مجاهد : هو من تمام قولهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته والأول أظهر وأبلغ وجعل مبنيا للمفعول لغرضالفاصلة وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة علىأنفعلهم أسوأمن قولهم فدعا ربه أني أي بأني
وقرأابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي ورويتعن عاصم إني بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين مغلوب من جهة قومي ماليقدرة على الأنتقام منهم فانتصر
10
- فانتقم ليمنهم وقيل : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك وقيل : المراد بمغلوب غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلابعد اليأس من إيمانهم والتأكيد لمزيدالأعتناء بأمر الترحمالمقصود من الأخبار
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر
11
- أي منصب وقيل : كثير قال الشاعر : أعيناي جودابالدموع الهوامر على خير باد من معدوحاضر والباء للآلهة مثلها فيفتحت الباب بالمفتاح وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من اليحاب بانصباب أنهارانفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء وهو الذي ذهب إليه الجمهور وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس
(27/81)
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلامن السحاب وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوفالتقى الماآن وفي رواية لم تقلع أربعين يوما وعن النقاشأنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة والمعروف من الأرصادأن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا والله تعالى أعلم
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبونالمطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأابن عامر أبو جعفر والأعرج ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب والظاهر أن جميع القلة هنا للكثرة وفجرنا الأرض عيونا وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عبيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير فالتمييز محول عن المفعول وجعله بعضهم محولاعن الفاعل بناءاعلى أنه الأكثر والأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكونعن فاعلفعل آخر يلاقيه في الأشتقاق وهذا منه وهو تكلف لا حاجة إليه ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب عيونا حالا مقدرة وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أيصيرنا بالتفجير الأرض عيوناوكان ذلك على ما في بعض الروايات يوما وقرأعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم فجرنا بالتخفيف فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض والإفراد لتحقيقأن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بلبطريق الأختلاط الأتحاد وقرأعلي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمدبن كعب والجحدي الما آن والتثنية لقصد بيان اختلاط النوعين وإلا فالماء شامل لماء السماء وماء الأرضونحوه قوله : لنا إبلان فيهما ما علمتم فعن أيها ما شئتم فتنكبوا وقيل : فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الأفراد وقرأ الحسن أيضا ماوان بقلب الهمزة واواكقولهم : علباوان كما قال الزمخشري ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالابعلة أنها غير أصلية لأنها زائدة للإلحاق كذلك ههنا لأنها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنهاأجريت مجرى البدل عن الواو في النسبة فيه : ما وي وجاء في جمعه أمواء كماجاءأمواه ولا يبعد أن يكون من ثناه بالواو قاسه على النسبة كذا في الكشف وعنه أيضاالمايان بقلب الهمزة ياءا
على أمر قد قدر أي كائنا على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج
وقيل : إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملاأربعين وقيل : ماء الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز و جل أو على أمر قدره الله تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالىفيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هؤلاء و على عليه للتعليل ويحتمل تعلقها بالتقى وفيه رد علىأهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عداالزهرة في برج مائي وقرأ أبو حيوة وابن مقسم قدر بتشديدالدال وحملناه أي نوحا عليه السلام على ذات ألواح أخشاب عريضة ودسر أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب وقيل :
(27/82)
دسر كسقف وسقف وأصل الدسر الدفع الشديدبقهر فسمى به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة وقيل : حبال من ليف تشدبها السفن وقال الليث : خيوط تشدبها ألواحها وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه وروي عن ابن عباس نحوه وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة وأيا ما كان فقوله تعالى : ذات ألواح ودسر من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم : حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو فصيح الكلام وبديعه ونظير الآية قول الشاعر : مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودة من حديد فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل : تراءى الهافيكل عين مقابل ولو في عيون النازيات بأكرع فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه علىما في المفصل وغيره فكلام نحوي تجري بأعيننا بمرأى منا وكني به عن الحفظ أي تجرد في ذلك الماء يحفظنا وكلاءتنا وقيل : بأوليائنا يعني نوحاعليه السلام ومن آمن معه يقال : مات عين من عيون الله تعالى أي ولي من أوليائه سبحانه وقيل : بأعين الماء التي فجرناها وقيل : بالحفظة من الملائكة عليهم السلام سماهم أعيناوأضافهم إليه جل شأنهوالأول أظهر وقرأزيد بنعلي وأبو السمال بأعينا بالإدغام
جزاء لمن كان كفر
14
- أي فعلنا ذلك جزاءالنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي من الله تعالى على أمته وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضاأي جحدت نبوته فالكفر عليه ضد الإيمان وعلى الأول كفران النعمة وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل : غضبا وانتصارالله عز و جل وهو كماترى وقرأ مسلم بن محارب كفر بإسكان الفاء خففت فعل كما في قوله :
لو عص منه البان والمسك انعصر وقرأيزيد بن رمان وقتادة وعيسى كفر مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قدخبرالكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة وجوز أن تكون كان زائدة كأنه قيل : جزاءالمن كفر ولم يؤمن ولقد تركناها أي أبقينا السفينة آية بناءاعلى ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودى حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة أو أبقينا خبرها أو أبقينا جنسها وذلك إبقاء السفن أو تركنا بمعنى جعلنا وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين فهل من مذكر أي معتبر بتلك الآية الحرية الأعتبار وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية مذكر بالذال المعجمة على قلب تاء الأفتعال ذالا وإدغام الذال في الذال وقالأ اللوامح : قرأ قتادة فهل من مذكر بتشديد الكاف من التذكير أي نفسه أو غيره بها وقريء مذتكر بذالمعجمة بعدهاتاء الأفتعال كما هو الأصل فكيف كان عذابي ونذر
15
- استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا علي كيفية هائلة
(27/83)
لا يحيط بها الوصف و النذر مصدر كالإنذار وقيل : جمع نذير بمعنى الإنذار وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه وليس بشيء وكذا جعله بمعنى المنذر وكان يحتمل أن تكونناقصة فكيف في موضع الخبر وتامة فكيففي موضع الحال ولقد يسرنا القرآن الخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى : ولقد جاءهم الخوتنبيهاعلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الأدكار كافية في الأزدجار ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد للذكر أي للتذكر والأتعاظ فهل من مدكر إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكدهيدل على أنه لا يقدر أحدأن يجيب المستفهم بنعم وقيل : المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروه عن الوحشي ونحوه فلهتعلق بالقلوب وحلامة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال : يسرنا القرآن هونا قراءته
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لو لا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعامثله
وأخرج ابن المنذرعن ابن سيرين أنه مر برجل يقول سورة خفيفة فقال : لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول : ولقد يسرنا القرآن للذكر والمعنى الذي ذكر أولاأنسب بالمقام ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيراللآية وجوز يسرنا بهيأنا منقولهم : يسر ناقته للسفر إذا رحلها ويسر فرسه للغزوإذا أسرجه وألجمه قال الشاعر : وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع كذبت عاد شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والأتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم ذكروا بعنوا الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو عاد ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولميتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للأختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الأزدجار من العذاب وقوله : فكيفكان عذابي ونذر
18
- لتوجيه قلوبالسامعين نحو الإصغاء إلى ما لا يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعدبيانهكما قبله وما بعدهكأنه قيل : كذبت عاد فهل سمعتم أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم وقيل : هو التهويل أيضالغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذاالنوع من العذاب وفيه بحث وقوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا استئناف لبيان ما أجمل أولا والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك وقيل : شديدة الصوت وتمام الكلام قد مر في فضلت
فييوم نحسشؤم عليهم مستمر
19
- ذلك الشؤم لأنهم بعدأن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة والمراد باليوم مطلق الزمانلقوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحاصرصرافي أيام نحسات وقوله سبحانه : سخرنا عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما والمشهور أنه يوم الأربعاء
(27/84)
وكان آخر شوال على معنىأن ابتداء إرسال الريحكان فيه فلا ينافي آيتي فصلت والحاقة
وجوز كون مستمر صفة يوم أي في يوم استمرعليهمحتىأهلكهم أو شمل كبيرهمصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة علىأن الأستمرار بحسب الزمان أو بحسبالأشخاص لكن على الأوللا بدمن تجوز بإرادة استمرار نحسه أو بجعلاليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر وجوزكون مستمر بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له وجوز كونه بدلا أو عطف بيان وهو كما ترى وقرأالحسن يوم نحس بتنوينيوم وكسر حاء نحس وجعله صفة ليوم فيتعين كون مستمر صفة ثانية له وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يومنحس مستمر وأخذبذلك كثير من الناس فتطيروا منهوتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له : أربعاء لا تدور وعليه قوله : لقاؤك للمبكر فأل سوء ووجهك أربعاء لا تدور وذلك مما لا ينبغي والحديث المذكور في سنده ميلمة بن الصلت قال أبو حاتم : متروك وجزم ابن الجوزي بوضعه قال ابن رجب : حديث لا يصح رفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفاعلى ابن عباس وقال السخاوي : طرقه كلها واهية وضعفوا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر والآية قد علمت معناها وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يومالأربعاء بعيد الزوال وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنه ما بديء شيء يوم الأربعاء إلاوتم وهو خلق الله تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه لخبر ابن حبان والديلمي عن جابر مرفوعامن غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال : سبحان الباعث الوارث أتته أكلها نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا لو لا أن تكره لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء وأحب الأيام إلي الشخوص فيها يوم الخميس وهو غير معلوم الصحة عندي
وأخرج أبو يعلى ابن عباس وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعايوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحديوم غرس وبناء ويوم الأثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء ويوم الخميس يوم الحوائج والدخول على السلطان والجمعة يوم خطبة ونكاح وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف وروي ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه الحاكم من طريقين آخرين لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص وكره بعضهم عيادة المريض فيه وعليه قيل : لم يؤت في الأربعا مريض إلا دفناه في الخميس وحكى عن بعضهم أنه قاللأخيه : أخرج معي في حاجة فقال : هو الأربعاء قال : فيه ولد يونس قال : لا جرم قدبانتله بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله تعالى قال : وفيهولد يوسف عليه السلامقال : فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال : وفيه نصر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال : أجل لكن بعدأن زاغتالأبصار وبلغتالقلوب الحناجر ونقل المناوي عن البحر أن
(27/85)
أخباره عليه الصلاة و السلام عن نحوسة آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليسمن الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنهيوم عطارد وهو نحس من النحوس سعدمع السعود فإنه قول باطل ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أياحذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيهمن الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفاأن يلحقكم فيه بؤسكما وقع لمن قبلهم وهذا كما قال حين أتى الحجر : لا تدخلوا على هؤىء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك وحكى أيضاعن بعضهم أنه قال : التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء فيمصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة إباحة الإمساك فيه لمن كرهته النفس لا اقتفاءا للتطيرولكن إثباتاللرخصة في التوفي فيه لمن يشاء معوجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ونقل عن الحليمي أنه قال : علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا ويقابل النحس السعد وإذاثبت الأول ثبت الثاني أيضا فالأيام منها نحس ومنها سعدكالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد لكن زعم أن اليام والكواكب تنحس أو تسعدباختيارها أوقاتاوأشخاصا باطل والقول إن الكواكب قد تكون أسباباللحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده مما لا بأس به ثمقال المناوي : والحاصل أن توفي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ومن تطير حاقت به نحوسته ومن أيقن أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز و جل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل : تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور انتهى وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء ومامن ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث الله تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الأعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار والنهار في الليل إلآ يلاد الحوادث وقد قيل : ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات وقد حكى أنه ثمود العذاب يوم الأحد وورؤدفي الأثر أظنه يصح نعوذ بالله تعالى من يوم الأحذ فإن له حدا أحد من السيف ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه وزعم بعضهم أن من المجرب الذيلم يخط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم غير مسلم وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء وفيه أنزل إبليس إلى الأرض وفيه خلق جهنم وفيه سلط الله تعالىملك الموت على أرواح بني آدم وفيه قتل قابيل هابيل وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام وفيه ابتلي أيوب الحديث وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير ففي رواية مسلم خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء وإذا تتبعت التواريخ وقفت على حوادث عظيمة في سائر الأيام ويكفي هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقدقال سبحانه : سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيامحسوما فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها ! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيصكل يوم بعمل كما
(27/86)
يزعمه كثير من الناس ويذكرونفي ذلك أبياتانسبها الحافظ الدمياطي لعلي كرم الله تعالى وجهه وهي فغنم اليوم يوم السبت حقا لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه تبدي الله في خلق السماء وفي الأثنين إن سافرت فيه سترجع بالجناح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يومادواءا فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاءحاج فإن الله يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويجوعرس ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يدريه إلا نبي أو صبي الأنبياء ولاأظنها تصح وقصارى ما أقول : ما شاءالله كان وما لم يشألم يكن لأدخل في ذلك لوقت ولا لغيره فنعم لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذاك واللهتعالى يتولى هداك وقوله تعالى : تنزع الناس يجوز أن يكون صفة للريح وأن يكون حالامنها لأنها وصفت فقربت من المعرفة وجوز أن يكون مستأنفا وجيءبالناس دون ضمير عاد قيل : ذكورهموإنهائهم والنزع القلع روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى
كأنهم أعجاز نخل منقمر
20
- أي منقلع عن مغارسهساقط على الأرض وقيل : شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأنالريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجساداوجثثا رؤوس ويزيدهذا التشبيه حسناأنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى : أعجاز نخل خاوية واعتبار كل في من الموضعين للفاصلة والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة وقال الطبري : في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم الخ فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك وقرأأبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع وقوله تعالى : فكيف كان عذابي ونذر
21
- تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعدبيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم وقيل : إن الأول لما حاق في الدنيا لما يحيق بهم في الآخرة و كان للمشاكلة أو للدلالةعلى تحققه على عادته سبحانه في إخباره وتعقب بأنهترتيب الثاني على العذاب الدنيوي
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
22
- الكلام فيه كالذي مر كذبت ثمود بالنذر
23
- بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع وجوز أن يكون مصدرا أو جمعاوأن يكون جمع نذير بمعنى المنذرمنه فلا تغفل
فقالوا أبشرا منا أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لبشرا وانتصابه بفعل يفسره نتبع بعدأي أنتبع بشرا واحدا أي منفردا لا تبع له أو واحدامن آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنطير
(27/87)
الدال علىعدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلامن الجنسية والحدة مما يمنع الأتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه وقرأأبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابهالكامل وأبو عمرو الداني أبشر منا واحد برفعهما على أن بشر مبتدأ وما بعده صفته وقوله تعالى : نتبعه خبره ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع بشر ونصب واحدا وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع بشر إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر وإما على الأبتداء والخبر جملة نتبعه ونصب واحدا على الحال إما من ضمير النصب في نتبعه وإما من الضمير المستتر في منا وخرج صاحب اللوامح نصب واحدا هلى هذا أيضا وأما رفع بشر فخرجه على الأبتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما وتقدم الأستفهام يرجحتقدير فعل يرفع به إنا إذا
أي إذا اتبعنا بشرامنا واحدا لفي ضلال عظيم عن الحق وسعر
24
- أي نيران جمع سعير
وروي أن صالحاعليه السلام كان يقول لهم : إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا : إن اتبعناك كنا كما تقول فالكلام من باب التعطيس والقول بالموجب وجمع السعير باعتبار الدركات أو للمبالغة وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال : أي لفي بعد عن الحق وعذاب وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنهاسم مفرد بمعنى ذلك يقال ناقة مسعورة إذاكانت تفرطفي سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر : كأن بها سعرا إذا العيس هزها ذميلوإرخاء من السير متعب والأول أوجه وأفصح ألقى الذكر عليه من بيننا أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينامن هو أحق منه بذلك والتعبير بألقى دون أنزل قيل : لأنه يتضمنالعجلة في الفعل بل هو كذاب أشر
25
- أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب : دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيامبحقها ووضعها إلى غير وجهها ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدة بطره وطلبه التعظيم علينا على ادعاء ذلك وقرأ قتادة وأبو قلابة بل هو الكذب الأشر بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباما في ذلك وقوله تعالى : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر
26
- حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدالقومه والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم وقيل : يومالقيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه وعليه قول الطرماح : ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الحوائج وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح أي سيعلمون البتة عن قريب من الكذاب الأشر الذي حملهأشره وبطره على ما حمله أصالح أم من كذبه والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الأبهام إيماءا إلى أنه مما لا يكاد يخفى ونحوه قول الشاعر :
(27/88)
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيي وأيك فارس الأحزاب وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش ستعلمون بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبالهم وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الألتفات قال صاحب الكشف : أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سبيل الألتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب فتولى عنهم وقال يا قوم لقدأبلغتكم بعدما استؤصلوا هلاكاوهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعى عليهم جناياتهم وأما في خطابه عز و جل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الألتفات وعلى التقديرينلا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل هو أبلغ انتهى ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الألتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل وقرأمجاهد فيما ذكره صاحباللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيفالراء ويقال : أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها
وحكى الكسائي عن مجاهدضم الشين دون الهمزة فهو كندس وقرأأبو حيوة الأشر أفعل تفضيل أي البلغ فيالشرارة وكذا قرأقتادة وأبو قلابة أيضاوهو قليل الأستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة :
بلال خير الناس وابن الأخير وقال أبو حاتم : لا تكاد العرب تتكلم بالأخير و الأشر إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت وقال الجوهري : لا يقال الأشر إلا في لغة رديئة وقوله تعالى : إنا مرسلوا الناقة الخ استئناف مسوق لبيان مباديء الموعود على ما هو الظاهر وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة والإرسالحقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجوا الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها فتنة لهم امتحانا وجوز إبقاؤها على معناها المعروف فارتقبهم فانتظرهم وتبر ما هم فاعلون واصطبر
27
- على اذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى ونبئهم أن الماء وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم قسمة بينهم مقسوم لها يوم ولهم يوم و بينهم لتغليب العقلاء وقرأمعاذ عن أبي عمرو قسمة بفتح القاف كل شرب نصيب وحصة منه محتضر
28
- يحضره صاحبه في نوبته فتحتضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى وقيل : يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل : يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنمسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى وقيل : يحضرون الماء في نوبتهم واللبن فينوبتها والمعنى كل شرب من الماء واللبن يحضرونه أنتم فنادوا أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة فنادوا لعقرها صاحبهم وهو قدار بن سالفأحمير ثمود وكان أجرأهم فتعاطى العقر أي فاجترأ على تعاطيه مععظمته غير مكترث به
فعقر
29
- فأحدث العقر بالناقة وجوز أن يكون المرادفتعاطى الناقة فعقرها أو فتعاطى اتلسيف فقتلها
وعلى كل فمفعول تعاطي محذوف والتفريع لا غبار عليه وقيل : تعاطي منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث
(27/89)
ما هية التعاطي وقوله تعالى : فعقر تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى : فعقروا الناقة لأنهم كانوا راضين به فكيف كان عذابي ونذر
30
- الكلام فيه كالذي تقدم إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباحيوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم فكانوا أي فصاروا كهشيم المحتظر
31
- أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء
وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر و المحتظر الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطولالزمان تطؤه البهائم فيتهشم وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة والحظيرة والزريبة التي تصنعها العرب وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع
وقرأ وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد المحتظر بفتح الظاء علىأنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل : ويقدر له موصوف أي كهشيم الحائط المحتظر أو لا يقدر على أن المحتظر الزربية نفسها كما سمعت وجوز أن يكون مصدراأي كهشيم الأحتظار أي ما تفتتحالة الأحتظار ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل منمدكر
32
- كما مر كذبت قوم لوط بالنذر
33
- علىقياس النظر السابق إنا أرسلنا عليهم حاصبا ملكاعلى ما قيل يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح التي تحصب ولم يرد الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير وقالابن عباس : هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح وعليه قول الفرزدق : مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور إلا إل لوط خاصته المؤمنين به وقيل : آله ابنتاه نجيناهم بسحر
34
- أي في سحر وهو آخر الليل وقيل : السدسالأخير منه وقال الراغب : السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاءالنهار وجعل أسما لذلك الوقت ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بسحر داخلين فيه نعمة من عندنا أي إنعامامناوهو علة لنجينا ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه أو بنجينا لأن النتيجة إنعام فهو كقعدت جلوسا كذلك أي مثل ذلك الجزاء العجيب نجزي من شكر
35
- تعمتنا بالأيمان والطاعة ولقد أنذرتهم لوط عليه السلام بطشتنا أخذتنا الشديدة بالعذاب
وجوز أن يراد بها نفس العذاب فتماروا فكذبوا بالنذر
36
- متشاكين فالفعل مضمن معنىالتكذيب ولولاهتعدي بفي ولقد راودوه عن ضيفه صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعضللجميع لرضاهمبه فطمسنا أعينهم أيأزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه وهو كما قال أبو عبيدة وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاءوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقهم بجناحه فتركهم عميانايترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام
(27/90)
وقال ابن عباس والضحاك : إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه
وقرأابن مقسم فطمسنا بتشديد الميمللتذكير في المفعول فذوقوا عذابي ونذر
37
- أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام فالقول في الحقيقة لهموأسند إليه تعالى مجازالأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول تمثيل والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه
ولقد صبحهم بكرة أول النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس وقرأ زيد بن علي بكرة غير مصروفة للعلمة والتأنيث على أن المراد بها أول النهار مخصوص
عذاب مستقر
38
-
يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار أو لا يدفع عنهم أو يبلغ غايته
فذوقواعذابي ونذر
39
-
حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديداللعذاب أو هو تمثيل
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر
40
-
تقدم ما فيه من الكلام
ولقد جاء آل فرعون النذر
41
-
صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الأعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للأتعاظ والأكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأننفسه أولى بذلك فإنهرأس الطغيان ومدى الألوهية والقول : بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه و النذر إن كان جمع نذير بمعنى الأنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهمالأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي بالله تعالى لقد جاءهم المنذرون أوالأنذارات أو الأنذار وقوله تعالى : كذبوا بآياتنا كلها استئناف مبني على سؤالمن حكاية مجيء النذر كأنه قيل : فماذاقيل آل فرعون حينئذ فقيل : كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهمعليهم السلام فإن تكذيب البعض للكل أو هي الآيات التسع وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه : بآياتنا من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها وزعم بعض غلاة الشيعة وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد بالآيات كلها علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى : وكل شيء أحصيناهفي إمام مبين وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسىعليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا وهذا من الهذيان بمكان نسأل الله تعالى العفو والعافية فأخذناهم أي آل فرعون وزعم بعضأن ضمير كذبوا وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى : النذر وليس بشيء والفاء للتفريع أي فأخذناهم وقهرناهم لأجل تكذيبهم
(27/91)
أخذعزيز
لا يغالب مقتدر
42
-
لا يعجز شيء ونصب أخذالمصدرية لا على قصد التشبيه
أكفاركم خيرمن أولاءكم
أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفر العدد والعدة أوباعتبار لين الشكية في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيريةأقل عناداوأقرب طاعةوانقيادا وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيثقالوا : أكفاركم يا معشرالعرب خير الخ والأستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل : ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة أو بأن يكونوا ألينشكيمة في الكفر والعصيان
(27/0)
والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشهها من زينة الدنيا أو أسوأحالامنهم في الكفر وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك وكذا قيل : في الخطاب في قوله تعالى : أم لكم براءة في الزبر وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل : بل الكفار كم براءة وأمن من تبعا ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب المساوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون واختار بعضهفي هذا أنه خاص بالكفار وقالوا في قوله تعالى : أم يقولون نحن جميع منتصر
44
- إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الألتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام أو منتصر من الأعداء لا يغلب أو متناصر ينصر بعضنا بعضا
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكةأو العرب وهو ظاهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا وطور سينائ ويوم الأحدولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم ويجوز أن يعتبر في أكفاركم ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو لهم فيها دار الخلد فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم وفي ذلك من المبالغة ما فيه ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول على أأنتم وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز و جل لهم : لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهمليكون ذلك سبباللأمن من حلول نحو عذابهم بكم أم أعطاكم الله عز و جل براءة من عذابه أنتم أعز نمنهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل فأسروا كلام الله تعالى لا تتناهى ثم لا تعجل بالأعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا ثم إن جميع على ما أشير إليه بمعنى التي أمرها مجتمع وليسمن التأكيد في شيء بل هو خبر نحن وجوز أن يكو بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو أمرنا والجملة خبر نحن وأن يكون هو الخبر والإسناد مجازي و منتصر على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال : نصره فانتصر إذا منعه فامتنع
والمرادبالأمتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون والأفتعال بمعنى التفاعل كالأختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمغ معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم أم تقولون بتاء الخطاب وقوله تعالى : سيهزم الجمع رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جميعهم البتة ويولون الدبر
45
- أي الأدبار وقد قريء كذلك والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن أو لأنه في تأويل يولي كل واحدمنهم دبره على حد كسانا الأمير حلة الرعاية المذكورة أيضاوقدكان هذا يوم بدر وهو دلائل النبوة لأن الآية مكية وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر
(27/92)
رضي الله تعالى عنه : يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار ولم يتعرضلقتال أحد منهم وقد تقدم الخبر
ومما أشرنا إليه بعلم أن قول الطيبيفي هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في أم يقولون الخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشيء عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه وقرأأبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم ستهزم الجمع بفتح التاء وكسر الزاي خطابالرسولأالله صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية وقرأأبو حيوة أيضا ويعقوب سنهزم بالنون مفتوحة وكسرالزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة سيهزم الجمعبفتح الياء مبنياللفاعل ونصب الجمع أي سيهزم اللهتعالى الجمع وقرأ أبو حيوة وداود بن بن أبي عمرو وتولون بتاء الخطاب بل الساعة موعدهم أي ليس هذا تمام عقوبتهمبل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه والساعة أدهى أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدي إلى الخلاص عنه وأمر
46
- وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس وقيل : أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها إن المجرمين من الأولين والآخرين في ضلال في هلاك وسعر
47
- ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيرانفي الآخرة وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في خسران وجنون وقوله تعالى : يوميحسبون أي يجرون في النار على وجوههم متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا مس سقر
48
- وجوز أن يكون متعلقابمقدر سفهم مما قبل أي يعذبون أو يهانون أو نحوه وجملة القول عليه حال من ضمير يسحبون وجوز كونه متعلقا بذوقوا على أن الخطابللمكذبين في قوله تعالى : أكفاركم الخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساووهم في الدنيا وهو كما ترى والمراد بمس سقر ألمها علىأنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الأستعمال وفي الكشاف مس سقر كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسابذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو ينقضون عهد اله ويحتمل غير ذلك وسقر علم لجهنم أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذوالرمة يصف ثور الوحش : إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها بأفنان مربوع الصريحة معبل وعدمالصرف للعلمية والتأنيث وقرأعبد الله إلى النار وقرأمحبوب عن أبي عمرو من سقر بإدغام السين في السين وتعقب ذلك ابن مجاهدبأن إدغامه خطأ لأنه مشدد والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم إنا كل شيء من الأشياء خلقناه بقدر أي مقدرا مكتوبا في اللوحقبلوقوعه فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف وروي الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون
(27/93)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وأخرج البخاريفي تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن عدي وابن مردويه عنابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : صنفانمن أمتي ليسلهما في الإسلام نصيب المرجئةوالقدرية أنزلت فيهم آية في كتاب الله إن المجرمين في ضلالوسعر إلى آخر الآيات وكانابن عباس يكره القدرية جدا وأخرج عبد بن حميد عن أبي يحيىالأعرج قال سمعتابن عباس وقد ذكر القدرية يقول : لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال : الزنابقدر والسرقة بقدر وشربالخمر بقدر
وأخرج عن مجاهد أنه قال : قلتلابن عباس : ما تقول فيمن يكذب بالقدر قال : أجمع بيني وبينه قلت : ما تصنعبه قال أخنقه حتى أقتله وقد جاء ذمهم في أحاديثكثيرة منها ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمران أن رسول الله ص - قال : لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولونلا قدر إ مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوافلا تشهدوهم وجوز كون المعنى إنا كل شي خلقناه مقدرأمحكما مستوفي فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين فالآية من باب وخلق كل شيء فقدره تقديرا ونصب كل بفعل يفسره ما بعدهأي إنا خلقنا كل شيء خلقناه وقرا أبو السمال قال : ابن عطية وقوممن أهل السنة برفع كل وهو على الأبتداء وجملة خلقناه هو الخبر و بقدر متعلق به كما في القراءة المتواترة فتدلالآية أيضاعلى أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة ة ويجعل الخبر بقدر لاختلافالقراءتين معنى حينئذ والأصل توافق القراآت وقال الرضي : لا يتفاوتالمعنى لأن مراده تعالىبكل شيء كل مخلوق سواء نصبت كل أو رفعته وسواء جعلت خلقناه صفة مع الرفع أو خبراعنه وذلك إنا خلقنا كل شيءبقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء علىكل منها وحينئذ نقول : إن معنى كلشيء خلقناه بقدر على أن خلقناه هو الخبر كل مخلوق مخلوق بقدر وعلى أن خلقناه صفة كل شيء مخلوق كائن بقدر والمعنيان واحدإذ لفظ كل في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خلقناه صفة له أو خبرا وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول : إذاجعلنا خلقناه صفة كلالمعنى كل مخلوق متصف بأنهمخلوقنا كائن بقدر وعلةهذا لا يمتنع نظراإلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك فلا تندرج تحت الحكم وأما إذاجعلناه خبراأو نصبا كل شيء فلا مجال لهذا الأحتمال نظراإلى نفس المعنى المفهوم منالكلام فقد اختلف المعنيان قطعاولا يجديه نفعامتصف بتلك الصفة في الواقع لأنه يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذيلا احتمال فيه وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكونالنصب نصافي المقصود اتفقت القرآت المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجحعلى الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه
وما أمرنا إلا واحدة أيما شأننا إلا فعلة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الأيجاد بلا معالجة ومشتقة أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى : كن فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور فإذا أراد عز و جل شيئاقال له : كن فيكون كلمحبالبصر
50
- أي في السير والسرعة وقيل : هذا في قيام الساعة فهوكقوله تعالى : وما أمر الساعةإلا كلمح البصر ولقد أهلكنا أشياعكم أي أشباهكم فيالكفر
(27/94)
من الأمم السالفة وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالبمن جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه أوبطريق الأستعارة والحال قرينة على ذلك وقيل : هو باقعلى حقيقته أي أتباعكم فهل من مدكر متعظ بذلك وكل شيء فعلوه من الكفر والمعاصي والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد وجملة فعلوه صفة شيء والرابط ضمير النصب وقوله تعالى : في الزبر متعلق بكون خاص المبتدأأيكل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه وتفسير الزبر بالملوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء ولم يختلف القراء في رفع كل وليست الآية من باب الأشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الأسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى ههنا حينئذ فعلوا في الزبر كل شيء إن علقنا الجار بفعلوا أو هم لم يفعلوا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب أوفعلوا كل شيء مكتوب في الزبر إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا وكل صغير وكبير من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وقيل : منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة مستطر مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهومنالسطر بمعنى الكتب ويقال : سطرت واستطرت بمعنى وقرأالأعمش وعمران وعصمة عن أبيبكر عن عاصر مستطر بتشديد الراء قال صاحب اللوامع : يجوز أن يكون من طر النبات والشارب إذاظهر والمعنى كل صغير وكبير ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الأستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول جعفر ويفعل بالتشديد وقفا أي أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى : إن المجرمين الخيستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانهمالهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا : إن المتقين أي من الكفر والمعاصي وقيل : من الكفر
في جنات عظيمة الشأن ونهر أي أنهار كذلك والإفراد للأكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل وعن ابن عباس تفسيره بالسعة وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة كما في الدر المنثور أو قيس بن الخطيب كمافيالبحر يصف طعنة : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم مندونها ما وراءها أي أوسعت فتقها والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر وقيل : سعة الرزق والمعيشة وقيل : ما يعمهما وأخرج الحكيم والترمذيفي نوادرالأصول عن محمد بن كعب قال : ونهر أي في نور وضياء وهو على الأستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات وقرأالأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان ونهر بسكون الهاء وهو بمعنى نهر مفتوحها وقرأ الأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني ونهر بضم النون والهاء وهو جمع نهر المفتوح أو الساكن كأسد وأسد ورهن ورهن وقيل : جمع نهار والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل
(27/95)
عندهم كماحكى فيما مر وقيل : قريء بضم النون وسكون الهاء في مقعد صدق في مكان مرضي علىأن الصدق مجاز مرسل في لازمهأو استعارة وقيل : المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله ص - أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام فالإضافة لأدنى ملابسة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز و جل لهم النظر إلى وجهه الكريم وإفراد المقعد ذعلى إرادة الجنس
وقرا عضمان البتي في مقاعد على الجمع وهو توضح أن المراد بالمقعد المقاعد عند مليك أي ملك عظيم الملك وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الأشباع مقتدر
55
- قادر عظيم القدرة والظرف في موضع الحال من الضميالمستقر في الجار والمجرور أو خبر بعد خبر أو صفة لمقعد صدق أو بدل منه والعندية للقرب الرتبي وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر مليكا ومقتدرا للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز و جل لا تدري الإفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عينرأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكل دونهالأذهان
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : إن المتقين الخ قال : إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأعليهم القرآن وقد جلس كل امريء منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب بالأعمال فلا تقرأعينهم قط كما تقر بذلك ولم يسمعوا شيئاأعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل ولهذين الأسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء مافيبعض الآثار
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال : دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحدغيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال : أيها الممتليئفرقالا تفرق ولا تفزع وقل اللهمإنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لكقال : فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول : اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن عليوانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين
سورة الرحمن عز و جل
وسميت في حديثأخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاعروس القرآن ورواه موسى ابن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه لأظهار كذلك وهي مكية في قول الجمهور وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عنابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة وحكى ذلك عن مقاتل وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا وحكى أيضاقولاآخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى :
(27/96)
يسأله من في السماوات والأرض الآية وحكى الأستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعنيه وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي وسبع وسبعون في الحجازي وست وسبعون في البصري
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وامر ثم وصف عز و جل حال المجرمين في سقر وحال المتقين في جنات ونهر فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأبوصف مرارة الساعة والإشارة إلى شدتها ثم وصف النار وأهلها ولذا قال سبحانه : يعرف المجرمون بسيماهم ولم يقل الكافرون أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك : إن المجرمين ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم : ولمن خاف مقام ربه جنتان وذلك هو عين التقوى ولم يقل آمن أو أطاع أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها وقال أبو حيان في ذلك : أنهتعالى لما ذك هناك مقر المجرمين في سعر ومقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر وذكر سبحانه هنا شيئامن آيات الملك وآثاره القدرة ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان هناك على جهة الأختصار ولما أبرز قوله تعالى : عند مليك مقتدر بصورة التنكير فكأن سائلايسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين فقيل : الرحمن الخ والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنهتعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز و جل وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعي عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاضعلى كافة النام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم إثر كل فنمنها إخلالهم بمواجب شكرها وهذا التكرار أحلى من السكر إذا تكرر وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضي التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب واشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا : علىأن ليس عدلا من كليب إذاما ضيم جيران المجير علىأن ليس عدلامن كليب إذا رجف العضاه من الدبور على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبأة من الخدور على أن ليسعدلا من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جاش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولو لا خوف الملل لأوردتها ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله وقسم في الأتفاق التكرار إلى أقسام وذكر أن منه ما هو لتعدد بأن يكون المكرر ثانيا متعلقابغير ما تعلق به الأول ثم قال : وهذأ القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان فإنهما وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة
(27/97)
تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد الخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمنع وإن لزم منه التأكيد فافهم وبدأسبحانه من النعيم بتعليم القرآن فقال عز قائل : بسم الله الرحمن الرحيم الرحمن
1
- علم القرآن
2
- لأنه أعظم النعم شاناوأرفعها مكانا كيف لا وهو مداره للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنوا إليه أحداق المم إلا وهو منشؤه ومناطه ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه ونصبه على أنه مفعول ثان لعلم ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه أي علم الإنسان القرآن وهذا المفعول هو الذي كان فاعلاقبل نقل فعل الثاني إلى فعل المضعف وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال : علم لا بد له من مفعول ثان وترك للأشارة إلى ان النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص ويمكن أن يقال : أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذاالمفعول فلا جزم بسهوه وقيل : المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى القولين يتضمن ذلك الإشارة إلى أن القرآن كلام الله عز و جل والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام مكن الملائكة الكرام تردد بناءا على ما في الإتقان نقلاعنابنالصلاح من أن قراءة القرآن كرامةأكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة علىأن جبريل عليه السلام كان يقرأالقرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثنى منه جبريل عليه السلام وقيل : علم من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر أو علامة للنبوة ومعجزة وهذا على ما قيل : يناسب ما ذكر في مفتتح السورة الساقة من قوله تعالى : وانشق القمر وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة
وقد أبعد القائل ولوأبدى ألف مناسبة فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم والمراد بتعليم القرآن قيل : إفاده العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتد به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئافيه
أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعاإن الله لو أغفل شيئالأغفل الذرة والخردلة والبعوضة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن وقال ابن عباس : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثمر صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة ثم ورث عنهم التابعونلهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل الصحابة ما حمل الصحابة والتابعومن علومه وسائر فنونه وفسر بعضهم التعليم بتبنيه النفس لتصور المعاني وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن كقوله تعالى : ولقديسرنا القرآن للذكر وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى و الرحمن مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر وإسناد
(27/98)
تعليمه إلى اسم الرحمن للإيذانبأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر وفيهمن تعظيم شأن القرآن ما فيه وقيل : الرحمن خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوفأي الله الرحمن أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز و جل وهو خلاف الظاهر ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقالتعالى : خلق الإنسان
3
- لأن أصل النعم عليه وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها وقيل : لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإنكان الأمر بالعكس خارجا والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة ثم أتبع عز و جل ذلك بنعمة تعليم البيان فقال سبحانه : علمه البيان
4
- لأن البيان هو الذي بهيتمكن عادة من تعلم القرآن المراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير
والمراد بتعليمه نحو ما مر وفي الإرشاد أن قوله تعالى : خلق الإنسان تعيين للمتعلم وقوله سبحانه : علمه البيان تبيين لكيفية التعليم والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه ومن فهم بيان غيرهإذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن وقيل : بناءا على تنقدير المفعولالمحذوف الملائكة المقربين إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعافهم قدعلموه قبل خلق الإنسان وربما ثيرمز إليه قوله تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث أنه تعالى ذكر أموراعلوية وأموراسفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا وقال الضحاك : البيان الخير والشر وقال ابن جريج : سبيل الهدى وسبيل الضلالة وقال يمان : الكتابة والكل كما ترى وجوز أن يراد به القرآنوقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه : هذا بيان وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة : الإنسان آدم و البيان علم الدنيا والآخرة وقيل : البيان أسماء الأشياء كلها وقيل : التكلم بلغات كثيرة وقيل : الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء ونسبهذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه
وقالابن كسيان : الإنسان محمد ص - وعليه قيل : المراد بالبيان بيان المنزل والكشف عن المراد به كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة و السلام ويليقبه المعاني السابقة ولعل ابن كسيان يقدر مفعولأعلم الإنسان مرادابه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا وهذه أقوال بين يديك المتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأكجملة علم القرآن وكذا قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان
5
- والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى الشمس والقمر كائن أومستقر بحسبان أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران أن بمعنى الحساب كما قال قتادة وغيره أي هما يجريان بحسبان مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب وقال الضحاك وأبو عبيدة : هو جمع حساب كشهبان وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما وقال مجاهد : الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة وعليه فالباء للظرفية والجار والمجرور في موضع
(27/99)
الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم والمراد كل من الشمس والقمر في فلك والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه
وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا وأن القمر يجري على الرض والأرض تجري على الشمس وقد سمعنا أنهم عدلوا منذر أعوام عن ذلك غزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدامثل حالهم بالأمس ونحن مع الظواهر حتىيقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع ومثل هذه الجملة قوله تعالى : والنجم والشجر يسجدان فإن المعطوف على الخبر خبر والمراد بالنجم النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له وبالشجر النبات الذي له ساق وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا شبه جريهما على مقتضى طبيعتهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه لهثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية وقال مجاهد وقتادة والحسن النجم نجم السماء وسجوده الغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستداره عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهدأن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يرد سبحانه بهما طبعا والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولاقبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه وإن كان تقدم الشمس والقمر يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلامما تضمنتهمستقلة تقتضي الشكر وقصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة
وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان ومن حيث أن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الإنقياد لأمر الله عز و جل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الأرتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشمس والقمر بتسخيره غيره تعالى ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له كذا قالوه وفي الكشف : تبيينالما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال : زيد أعناك بعدفقر أعزك بعد ذلك كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك فيشيء ولما قضى الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور
وجملة الشمس والقمر بحسبان ليست من أخبار المبتدأ والزمخشري إنما سألعن وجه الربط وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذيعد عليه أصول النعم ليثيب على ما طلب منه من الشكر وهذا كما تقول في المثال الشابق بعد قولك : فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكه ولم يخرجأحدمنحياطة عدله ونصفته فلا يشك ذو أرب أنها جمل
(27/100)
منقطعة عنالأولى إعرابا متصلة بها اتصالامعنوياأورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لآخر وقريب من هذا الأتصال اتصال قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم الآية بقوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب الآية انتهى
وقد أبعدالمغزي فيما أرى إلآ أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كون قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان من الأخبار فتأمل والسماء رفعها أي خلقها مرفوعة ابتداءا لا أنها كانت مخفوضة ورفعها والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي ويجوز أن يكونالمراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عدن من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز و جل وقراأبو السمال والسماء بالرفع على الأبتداء ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه إسمية معطوفة على مثلها وإنما الإشكال في النصب لأنهبفعل مضمر على شريطة التفسير أييرفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة النجم والشجر يسجدان الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوف والمعطوف عليها بالإسمية والفعلية وهو خلاف الأولى وإن عطفت على جملة يسجدان الصغرى لزم أن تكون خبرا للنجم والشجر مثلها وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى الشمس والقمر بحسبان وأجاب أبو علي باختيار الثاني وقال : لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء وتلاقولهممتقلدا سيفاورمحا وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذاتضمن نكتة قال الطيبي : الظاهر أن يعطف على جملة الشمس والقمر بحسبان ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر وأسجدالنجم والشجر فعدل إلى معنى دوام التسخير والأنقياد فيالجملتين الأوليين ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل فيكتب النحو ووضع الميزان
7
- أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه ووفى في كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة و السلام : بالعدل قامت السماوات والأرض أي بقيتاأبلغ نظام وأتقن إحكام وقال بعضهم : المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لو لا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا وأما الملأالأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل فذكرهم للمبالغة والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض جميعه ولا شلك أنه لو لا العدل لم يكن العالم منتظما ومنشأما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل فيالحكم لفصل الخصومات ونحوه وليسكما ظن بل المراد به عدل الله عز و جل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المرادبه ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال ونحوهما والمعنى خلقه موضوعامخفوضاعلى الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق وقيل : هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى اذهانهم من لفظ الميزان سواه وقيل : المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام
(27/101)
ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشد ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل وقد قرأعبد الله وخفض الميزان والأول بانه أتم فائدةفزن ذلك بميزان ذهنك ألا تطغوا في الميزان أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن أن ناصبة و لا نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى : وضع الميزان وجوز ابن عطية والزمخشري كون أن تفسيرية و لا ناهية
واعترضه أبو حيانبأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل أن مفسرة وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهمالسلام وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه وفيه ما لا يخفى وفي البحر قرأ إبراهيم ووضع الميزان بإسكان الضاد وخفض الميزان على أن وضع مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل وضع مرفوع أو منصوب فإن كان مرفوعافالظاهر أنه مبتدأ وأن لا تطغوا بتقدير الجار في موضع الخبر وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل وضع الميزان أو وضع الميزان أن لا تطغوا الخ وقرأعبد الله لا تطغوا بغير أن على إرادة القول أي قائلا أو نحوه لا قل كما قيل و لا ناهية بدليل الجزم
وأقيموا الوزن بالقسط قوموا وزنكم بالعدل وقال الراغب : هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال وعن مجاهدأن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذوالإعطاء وقال سفيان بن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب والظاهر أن الجملة عطف علىالجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب وجعل بعضهم لا في الأولى مطلقاناهية حرصاعلى التوافق ولا تخسروا الميزان
9
- أي لا تنقصوه فإن منحقه أن يسوي لأنهالمقصود من وضعه وكرر لفظ الميزان بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك وقريء ولاتخسروا بفتح التاء وضم السين وقرأزيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين
وحكى ابن جني وصاحب اللوامح عن بلاب أنه قرأبفتحهما وخرج ذلك الزمخشري على أن الأصل ولا تخسروا في الميزان فحذف الجار وأصل الفعل بناءاعلى أنه لم يجيء إلالازما وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعدياكقوله تعالى : خسروا أنفسهم وخسر الدنيا والآخرة فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذفالمفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسرين يوم القيامة بسبب الميزان بان لا تراعوا ما ينبغي فيه والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال : إن قوله تعالى : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة فيالوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه : من خفف موازينه وكلا المعنيين متلازمان وقيل : المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان أو جعل الميزان مجازاعن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل والأرض وضعها خلقها موضوعة مخفوضة عن السماءحسبما يشاهد وقال الراغب : الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر وقيل : أي خفضها مدحوة على الماء
(27/102)
والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها تخلق مدحوة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز و جل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه منزبده للأنام
10
- قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والشعبي ومجاهدعلى ما في مجمع البحرين : الحيوان كله وقال الحسن : الأنس والجن
وفي رواية أخرى عن ابنعباس هم بنو آدم فقط ولمأر هذا التخصيص لعيره رضي الله تعالى عنه ففي القاموس الأنام الخلقأو الجن والأنس أو جميع ما على وجه الأرض ويحتمل أنه أراد أن المرادبههنا ذلك بناءاعلى أن اللام للأنتفاع وأنه محمول على الأنتفاع التام وهو للنس أتم منه لغيرهم والأولى عندي ما حكى عنه أولا وقرأأبو السمال والأرض بالرفع وقوله تعالى : فيها فاكهة الخ استئنافمسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كونه الأرض موضوعة لنفع الأنام وقيل : حال مقدرة من الأرض أو من ضميرها فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور و فاكهة رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به والنخل ذات الأكمام
11
- هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع كم بكسر الكاف وقد تضم وهذافي كم الثمر وأما كم القميص فهو بالضم لا غير أو كل ما يكم ويطغى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا واختارهمناخت ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف والحب هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ذو العصف قيل : هو ورق الزرع وقيده بعضهم باليابس وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب وعن السدي والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ماينبت وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا واختار جمع ما روي عنه أولاوفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف والريحان
12
- هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد وأخرج عن الحسن أنه قال : هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس : كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر وعليه قول بعض ألأعراب وقد قيل له : إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز و جل ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو والريحان بالجر عطفاعلى العصف إذ يبعدعليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل : والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم وذو اللب الذي هو رزق لكم وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفاعلى فاطهة كما في قراءة الرفع والجر للمجاورة وهو كما ترى والزمخشري بعد أن فسر الأكمام بما ذكرناه ثانيا فيها والريحان باللب قال : أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التغذي والتلذذ وهو ثمر النخل ومايتغذى به وهو الحب وهوعلى ما في الكشف بيان لإظهار وجه الأمتنان أنه مستوعب لأقسام ما يتناول فيحال الرفاهية لأنه إماللتلذذ الخالص وهو الفاكهة أوله وللتغذي أيضا
(27/103)
وهو ثمر النخل أو للتغذي وحده وهو الحب ولما كان الأخيران أدخلأ في الأمتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا وأنت تعلم إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كماقيل به في قوله تعالى : فيها فاكهة ونخل ورمان وإذاكان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفري فالعطف ليس على ذلك وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير الأكام بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا ثم قال : ولا ينافي جعله منه في قوله تعالآ : فيها فاكهة الخنظراإلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل
وقرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والحب ذا العصف والريحان بنصب الجمع وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب الخ وقيل : يجوز تقدير أخص وفيه دغدغة وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف والأصل وذو أو وذاالريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه و الريحان فيعلان من الروح فأصله ريوحان قبلت الواو ياءالاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياءفصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل : ريحان كما قيل : ميت وهيبسكون الياء
وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياءاللتخفيف وللفرق بينه وبين الروحان بمعنى ماله روح فبأي ءالآء ربكما تكذبان
13
- الخطاب للثقلينلأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه أو لأن الأنام عبارة عنهما علىما روي عن الحسن وسينطق بهما في قوله تعالى : سنفرغ لكم أيهالثقلان وفي الأخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ما يؤيده وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم وأبعد أكثر منه من قال : إنه خطاب على حد ألقيا في جهنم ويا شرطي أضربا عنقه يعني أنه خطاب للواحدبصورة الأثنين والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعمان وصنوف الآلاء الموجبة للأيمان والشكر حتما والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونهمنه عز و جل مع عدم الأعتراف بكونه نعمة فينفسه كتعليم القرآنوما يستند إليه من النعم الدينية وإما إنكار كونه منه تعالآمع الأعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا صريحا أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها والتعبير على كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشمر شهادة منها بذلك فكفربها فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد نعم ما لككما ومربيكما بتلك النعم تكذبان مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد فقد أخرج البزاز وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الأفراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأسورة الرحمن على أصحابه فسكتوا فقال : مالي أسمع الجن أمحسن جوابامنكم ما أتيت على قول الله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا : لا بشيء من نعمتك ربنا نكذب فلك الحمد
وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر عن عبد الله نحوه وقريء فبأي بالتنوين في جمع السورة
(27/104)
كان حذف منهالمضاف وأبدل منه آلاء ربكما بدل معرفة من نكرة
خلق الإنسان من صلصالكالفخار
14
- تمهيدللتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين والمرادبالإنس آدم عند الجمهور وقيل : الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة وأصله كما قال الراغب تردد الصوت من الشيء اليابس ومنه قيل : صلالمسمار وقيل : هو المنتن من الطين من قولهم : صل اللحم وكأن أصله صلال فقلبت إحدىاللامين صادا ويبعدذلك قولهسبحانه : كالفخار وهو الخذفأعني ماأحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناثم حما مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدهما وبين ما نطق بأحدالآخرين وخلق الجان هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن وقال مجاهد : هو أبو الجن وليس بإبليس وقيل : هو اسم جنس شامل للجن كلهم من مارج من لهب لا دخان فيه كما هو رواية عن ابن عباس وقيل : هو اللهب المختلط بسواد النار أو بخضرة وصفرة وحمرة كما روي عن مجاهد من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط و من لابتداء الغاية وقوله تعالى : من نار
15
- بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل : خلق من نار خالصة أو مختلطة على التفسيرين وجوز جعل من فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالتسبة إلى الإنسان وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة
(27/105)
فبأي آلاء ربكما تكذبان
16
-
مماأفاضعليكما فيتضاعيف خلقكما منسوابغ النعم
رب المشرقين ورب المغربين
17
-
خبر مبتدأ محذوف أي هو رب الخ أو الذي فعل ما ذكرمن الأفاعيا البديعة رب مشرقي الشمس صيفاوشتاءاومغربيها كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة أن المشرقين مشرقا الشتاء ومشرق الصيف و المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكالشمس وقيل : المشرقان مشرقا الشمس والقمر والمغربان مغرباهما
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشرقين مشرق الفجر ومشرق الشفق و المغربين مغرب الشمس ومغرف الشفق وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلعالشمس والمعولأماعليه الأكثرون من مشرقيالشتاء ومغربيهما ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات وقيل : رب مبتدأوالخبر قوله تعالى : مرج الخ وليس بذاك
وقرأأبو حيوة وابن أبي عبلة رب بالجر على أنه بدل من ربكما فبأي آلاء ربكما تكذبان
18
- ممأ في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته
مرج البحرين أيأرسلهما وأجراهما من مرجت الدابة في المرعى أرسلتها فيه والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب يلتقيان
19
- أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين وقيل : أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه وروي هذا عن قتادة لكنه
(27/0)
أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى : مرج البحرين هذاعذب فرات وهذاملحأجاج والقرآن يفسر بعضه بعضا وعليه قيل : جملة يلتقيان حال مقدرة إن كان المراد إرسالهما إلى المحيط أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه بينهما برزخ أي حاجز من قردة الله تعالى أو من أجرام الأرض كما قال قتادة لا يبغيان
20
- أي لا يبغي أحدهما على ىلآخر بالممازجة وإبطالالخاصية بالكلية بناءا على الوجه الأول فيما سبق أو لا يتجاوزان أن حديهما بإغراض ما بينهما بناءا على الوجه الثاني وروي هذا عن قتادةأيضا وفي معناه ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن لا يبغيان عليكم فيغرقانكم وقيل : المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها فبأي ىلآء ربكما تكذبان
21
- مما لكما ذلك من المنافع يخرج منهما اللؤلؤ صغار الدر والمرجان
22
- كباره كما أخرج ذلكعبد بن حميد وابن جرير عن علي كرم الله تعالة وجهه ومجاهد وأخرجه عبد عن الربيع وجماعةمنهم المذكورون وابن المنذر وابن أبيحاتم من طرق عن ابن عباس وأخرج ابن جريرعنه أنه قال : اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار
وأخرج هو وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والأبتداء عن مجاهد وأظنأنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفيالمرجان معنىالمرج والأختلاطفالأوفقلذلك ما قيل : ثانيا فيهما وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبريعن ابن مسعود أنه قال : المرجان الخرزالأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف و اللؤلؤ عليهشاملللكباروالصغار ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل : لا يحفظ منه فيكلامالعرب أكثرمنخمسةهو والجؤجؤ الصدروقرية بالبحرين والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين أو ثمان وتسع وعشرين أوثلاث ليال من آخره والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل والسيد الظريف ورأسالمكحلة وإنسان العين ووسطالشيء واليؤيؤآخر لحروف طائر كالباشق ورأيتفي كتباللغة على هذا البناء غيرها الشؤضؤ الأضل للطائر والنؤنؤ بالنون المكثرتقليبالحدقة والعاجز الجبان ومن ذلك شؤشؤ دعاءالحمار إلىالماء وزجر الغنموالحمار للمضي أو هو دعاء للغنم لتأكل أو تشرب وأما المرجان فقد ذكره صاحب القاموس في مادة مرج ولم يذكر مايفهم منه أنه معرب وقال أبو حيان في البحر : هو اسم أعجمي معرب وقال ابن دريد : لم أسمع فيه بفعل متصرف
وقرأ طلحة اللؤليء بكسراللامالأخير وقريءبقلب الهمزة المتطرفة ياءا ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة وقرأ نافع وأبو عمرو يخرج مبنياللمفعول من الإخراج وقريء يخرج مبنيا للفاعلمنه ونصب اللؤلؤ والمرجان أي يخرج الله تعالى واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذبوالملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج اللؤلؤوالمرجان من أحدهما وهو الملح فكيف قال سبحانه : منهما وأجيببأنهما لما التقياوصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال : يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره وقد ينسب إلى الأثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعوما صدر من واحد منهم ومثله ما في الأنتصاف على رجل من القريتين عظييم وعلى ما نقل عن الزجاج
(27/106)
سبع سماوات طباقاوجعل القمر فيهن نورا وقيل : إنهما لا يخرجان إلامن ملتقى العذب والملح ويرده لمشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولاآخر بل ذكره لتقوية الأتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى
وقال أبو عليالفارسي : هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل وجعل من القريتين من ذلك وهو عندي معنى لا تقدير إعراب وقالأ الرماني : العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى أي بواسطتهما وقالابن عباس وعكرمة : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواههافتتكون منه ولذا تقل في الجدب وجعل عليهضمير منهما للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناءاعلى ما أخرجه ابن جرير عنه أنالمراد بالبحرين بحرالسماء وبحر الأرض
وأخرج هو وابن المنذر عنابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناءا على تفسيره بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا : إنه يتكون فينيسان وقال بعض الأئمة : ظاهر كلام الله تعالى أولى بالأعتبار من كلام الناس ومن علم أن اللؤلؤلا يخرج من الماء العذبوهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح ولكن لم قلتم أن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى منالماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوخمةبها في أوائل حملها حتى خرج لم يمكنه العود وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذينقطعوا المفاوز وداروا فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم والله تعالى أعلم ومن غريب التفسير ما أخرجه ابن مردويهعن ابن عباس قال : مرج البحرين يلتقيان علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما بينهما برزخلا يبغيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين رضعنهما
وأخرج عن إياس بن مالك نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ وذكر الطبرسي منالمامية في تفسيره مجمع البيان الأول بعينه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري والذي أراه أن هذا إن صح ليسمن التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير منالآيات وكل من علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علماوفضلا وكذا من الحسين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتبجاوزت حد الحسبان فبأي الآء ربكما تكذبان
23
- مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الطباء أن اللؤلؤ يمنع الخفقان والبحر وضعف الكبد والكلي والحصى وحرقة البول والسدد واليرقان وأمراض القلب والسموم والوسواس والجنون والتوحش والربوشربا والجذام والرص والبهق والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك وأن المرجان أعني البسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا ونفثالدم والطحال شربا والدمعة والبياض والسلاق والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور ذفي كتبهم ولهالجوار السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السماوات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم لا يخرجها من ملكه عز و جل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منهD وقرأعبد الله والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو الجوار
(27/107)
بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله : لهاثنايا أربع حسان وأربع فكلها ثمان المنشآت أي المرفوعات الشرع كما قال مجاهد من أنشأه بمعنى رفعه وقيل : المرفوعات على الماء ولبس بذاك وكذا ما قيل المصنوعات وقرأالأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه المنشآت بكسر الشين أي الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن أو اللاتي ينشئن السير إقبالاوإدبارا وفي الكل مجاز وشدد الشين ابن أبي عبلة وقرأالحسن المنشآت وحدالصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى : أزواج مطهرة وقلب الهمزة ألفاعلى حد قوله
إن السباغ لتهداء في مرابضها
يريد لتهدأوالتاء لتأنيث الصفة كتبت تاءاعلىلفظها في الصل في البحر كالأعلام
24
- كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل فبأي ءالآء ربكما تكذبان
25
- من خلق مواد السفن والإرشاد إلىأخذهاوكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى كل منعليها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات و من للتغليب أو للثقلين فإن
26
- هالك ويبقى وجه ربك أي ذاته عز و جل والمراد هو سبحانه وتعالى فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس وهو مجاز شائع وقيل : أصله الجهة واستعماله في الذاتمن باب الكنايةوتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ
والظاهر أن الخطاب في ربك للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة و السلام وقيل : هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته وفي الآية عند المؤولين كلام كثير مكنه ما سمعت ومنه ما قيل : الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود أي ويبقى ما يقصدبه ربك عز و جل من الأعمال وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه وأقرب منه ما قيل : وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز و جل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنهبالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كل من عليها وقيل : وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها علآ الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حد ذاته فإنه فإن في كل وقت وقيل : المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى والإضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حد ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غيرمرتبط بعلته أعني الوجود الحق كان معدومالأن ظهوره إنما نشأمن العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا وقول العلامة البيضاوي : لو استقرت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف فمنهم من يجعل قوله : لو استقريت الخ تتمة لتفسيره الأول
(27/108)
ومنهم من يجعل وجهاآخر وهو على الأول أخذ بالحاصل وعلى الثاني قيل : يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافاحقيقياب يكون الوجود زائداعليها قائمابها وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود بها قائمابها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء وإليه ذهب المتأهلون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتأهلين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حصرةالوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى والطرقإلى الله تعالى بعدد انفاس الخلائق فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضهلشيء ولا قيامهبه ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلي وينجلي فيه نوره فالله نور السماوات والأرض والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لهاصفات متكثرة وشؤنات متعددة وتجلياتمتجددة قل الله ثم ذرهم والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين
ووجه التطبيق على الول أن يقال : المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن وإن كان موجوداحقيقة عند الجمهور لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات وجهة الأستفادة ليست هي الذات ولا شيئاآخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلومية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحلعن الوجوب الذاتي المنافية له وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتيجهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوباوإن كان بالغير ولذا يعقبه فيضان الوجود ولذا تسمعهم يقولون : الممكن ما لم يجب لم يوجد
ووجه التطبيقعلى الثاني أن يقال : الوجه الذي يلي جهته تعالى هوتلكالنسبة المخصوصةالمصححة لإطلاق لفظالموجود عليها ولو مجازا فالمعنى كل من عليها فان معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازاإلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهراله سبحانه ووجه التطبيق على الثالث أن يقالأ : المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شئونات واعتبارات له تعالى فالمعنى كل منعليها معدوم من جميع الوجوه والأعتبارات إلا من الوجه الذي جهته سبحانه والأعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز و جل وهو كونه شأنامنشئونه واعتبارامن اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينأبالله عز و جل
ذو الجلال والإكرام
27
- أي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنهتعالى شأنه فهذا راجع إلى مآله سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز و جل أو الذي يقالأفي شأنه : ما أجلك وما أكرمك أي هو شبحانه من يستحق أن يقالأفي شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ماله تعالى منالكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه أو من عندهالجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم وفسر بعض المحققين الجلال بالأستغناء المطلق والإكرام بالفضل التام وهذا ظاهر ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها ثم ألحق بالحقيقة ولذا قال الجوهري : عظمة الشيء الأستغناء عن غيره وكل محتاج حقير وقال الكرماني :
(27/109)
إنه تعالى لهصفات عدمية مثل لا شريك له وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجل عن كذا جل عنكذا وصفات وجودية كالحياة والعلم وتسمى صفات الإكرام وفيه تأمل
والظاهر أن ذو صفة للوجه ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء من عليها لا يخل بشأنه عز و جل لأنه الغني المطلق والإشارة إلى أنه تعالىبعد فنائهم يفيضعلى الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة ووصف الوجه بما وصف يبعدكونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفاوكأنمن يقول بذلك يقول : ذو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له ثم قطعت عن التبعية ويؤيده قراءة أبي وعبد الله ذيالجلال بالياء على أنه صفة تابعة للرب وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز و جل ولم يستعمل في غيره فهو من أجل أوصافه سبحانه ويشهد له ما رواهالترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا ألظوا بيان الجلال والإكرام أي ألزموه وأثبتوا عليهوأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم وروي الترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لأصحابه أتدرون بما دعا قالوا : الله ورسوله أعلم قال : والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظمالذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى
فبأي آلاء ربكماتكذبان
28
- مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء والحياة الأبدية والإثابية بالنعمة السرمدية وقال الطيبي : المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجل النعم ولذلك خص الجلال والإكرام بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب والتحذير من مثل ذلك نعمة فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى : فبأي آلاء الخ وليس بذاك يسئله منفي السماوات والأرض قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثاوبقاءاوفي سائر أحوالهم سؤالامستمرابلسان المقال أو بلسانالحال فإنهمكافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا في كل آن سائلون
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنأبي صالح يسأله من في السماوات الرحمة ومن في الأرض المغفرة والرزق وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج يسأله الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة ز وأهل الأرض يسألونهما جميعاوما تقدم أولى ولا دليل على التخصيص
والظاهر أن الجملة استئناف وقيل : هي حال من الوجه والعامل فيها يبقى أي هو سبحانه دائم في هذه الحال ولا يخفى حاله على ذي تمييز كل يوم كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات
هو في شأن
29
- من الشؤن التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشيء أشخاصا وينفي آخرين ويأتي بأحوال ويذهببأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز و جل المبنية على الحكم البالغة وأخرج البخاري فيتاريخه وابن ماجه وابنحبان وجماعة عن أبيالدرداء عن النبي صأنه قال في هذه الآية : من شأنه
(27/110)
أن يغفر ذنباويفرج كرباويرفعقوماوي آخرين زاد البزاز ويجيب داعيا وقيل : إن الله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر عسكر من الأصلاب إلى الأرحام وعسكر من الأرحام إلى الدنيا وعسكر من الدنيا إلى القبور والظاهر أن المرادبيان كثرة شئونه تعالى في ادلنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا
وقال ابن عيينة : الدهرعند الله تعالى يومان أحدهمااليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء وثانيهما اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا : إن الله تعالىلا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز و جل بذلك وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جفبما هو كائن إلآيوم القيامة فقال : شئون بيديها لا شئونيبتديها وانتصب كل يوم على الظرف والعامل فيه هو العامل في قوله تعالى : في شأن و هو ثابت المحذوف : فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم فبأي آلاء ربكما تكذبان
30
- مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينافحينا سنفرغ لكم الفراغ فياللغة يقتضي سابقة شغل
وقرأللشيء يقتضي لا حقيقته أيضا والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن فجعل انتهاءالشؤن المشار إليها بقوله تعالى : كل يوم هوفي شأن يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغالهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال : فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء وأخذهتعالى في جزائهم فحسب بحال من فرغله وجازت الأستعارة التصريحية التبعية في سنفرغ بأن يكون المراد سنأخذفي جزائكم فقط الأشتراك الأخذفي الجزاء فقط والفراغ عن جميع المهام إلى واحد فيأن المعنى به ذلكالواحد وقيل : المراد التوفر في الأنتقام والنكاية وذلك أن الفراغللشيء يستعمل في التهديد كثيراكأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبقله شغل غيره فيدل على التوتر المذكور وهو كناية فيمن يصح عليه ومجاز في غيره كالذي نحن فيه ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما كماأخرج ابن جرير عنهما هذأ وعيدمن الله تعالىلعباده ما ذكر والخطاب عليه قيل : للمجرمين وتعقب بأن النداء الآتي يأباه نعم المقصود بالتهديد هم وقيل : لا مانع من تهديد الجميع ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يومالقيامة وقول ابن عطية : يحتمل أن يكون ذلك توعدابعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه وقيل : إن فرغ يكوبمعنى قصد واستدلعليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير : ألآن وقد فرغت إلى نمير فهذا حين كتنتلهم عذابا أي قصدت وأنشد النحاس
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل
وفي الحديث لأتفرغن لك الحديث قاله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبابه أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك ونقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقاتنجيزيا يجزائهم وقرأحمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي بياء الغيبة وقرأقتادة والأعرج سنفرغ بنون العظمة وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها وهو لغةتميم كما أن سنفرغ في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز وقرأأبو السمال وعيسى سنفرغ بكسر النون وفتح الراء وهي على ما قال أبو حاتم لغة سفلى مضر وقرأالأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما وابن أبي عبلة والزعفراني
(27/111)
سيفرغ بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ عيسىأيضا سنفرغ بفتح النون وكسر الراء والأعرج أيضا سيفرغ بفتح الياء والراء وهي لغة وقريء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده وقرأأبي سنفرغ إليكم عداه بإلى فقيل : للحمل على القصد أو لتضمينه معناه أي سنفرغ قاصدين إليكم أيه الثقلان
31
- هما الأنس والجن من ثقل الدابة وهوما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والأنس والجن ثقلاها وما سواهما على هذا كالعلاوة وقال غير واحد : سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شانهما ويقالألكم عظيم القدر مما يتنافس فيه : ثقل ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وقيل : سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف وعن الحسن لثقلهما بالذنوب فبأي آلاء ربكما تكذبان
32
- التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب يا معشر الجن والإنس هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبيء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنهلما ذكر سبحانهأنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز و جل ذلك ببيان أنهم لا يقدرونعلى الخلاص من جزائهوعقابه إذا أراده فقالأ سبحانه : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم إن قدرتم وأصل الستطاعة طلب طواعيةالفعل وتأتيه
أن تنفذوا من أقطار السكاوات والأرض أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله تعالى فارينمن قضائه سبحانه فانفذوا فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابهD والأمر للتعجيز لا تنفذون لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان
33
- أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل روي أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به وقيل هذا أمر يكون في الدنيا قالأ الضحاك : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب بالجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة وقيل : المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا وقيل : المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السماوات والأرض فانفذوا لتعلموا لكن لا تنفذون ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم وروي ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى
وقرأزيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فبأي آلاء ربكما تكذبان
34
- أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة وقيل : على الوجه الأخير فيما تقدم أيمما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلا يرسل عليكما استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما شواظ هو اللهب الخالص كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه أبو حيان قول حسان : هجوتك فاختضعت لنا بذل بقافية تأجج كالشواظ
(27/112)
وقيل : اللهب المختلط بالدخان وقالمجاهد : اللهبالأحمر المنقطع وقيل : اللهب الأخضر وقال الضحاك : الدخان الذي يخرج من اللهب وقيل : هو الناروالدخان جميعا وقرأعيسى وابن كثير وشبل شواظ بكسر الشين من نار متعلق بيرسل أو بمضمر هو صفة لشواظ و من ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم ونحاس هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشدله قول الأعشى أو النابغة الجعدي : تضيء كضوءالسراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا وروي عنه أيضا وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤسكما صفر مذاب والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال : وذلك لشبهه في اللونبالنحاس وقرأابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو ونحاس بالجر على أنهعطف على نار وقيل : على شواظ وجرللجوار فلا تغفل
وقرأالكلبي وطلحة ومجاهد بالجر أيضالكنهم كسروا والنون وهو لغة فيه وقرأابن جبير ونحس كما تقول يوم نحس وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا ونحس مضارعا وماضيه حسه أي قتله أيونقتل بالعذاب وعن ابن أبي إسحاق أيضا ونحس بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير وحنظلة ابن عثمان ونحس بفتح النون وكسر السين والحسن وإسماعيل ونحس بضمتين والكسر وهو جمع نحاس كلحاف ولحف وقرأزيد بن علي نرسل بالنون شواظا بالنصب ونحاسا كذلك عطفاعلى شواظا فلا تنتصران
35
- فلا تمتنعان وهذا عندالضحاك في الدنيا أيضا
أخرجابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية : تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا وقال في البحر : المرادتعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليههذا فلا يقدر على الأمتناع مما يرسل عليه فبأي آلاء ربكما تكذبان
36
- فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والأنتقام من الكفار من عداد الآلاء فإذا انشقت السماء أي انصدعت يوم القيامة وحديث امتناع الخرق وحديث خرافة ومثلهما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الأنشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور فكانت وردة أيكالوردة فيالحمرة والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج وقتادة وقالأابن عباس وأبو صالح : كانت مثل لون الفرس الورد والظاهر أن مرادهماكانت حمراء
وقالأ الفراء : أريد لون الفرس الورد يكونفي الربيع إلى الصفرة وفي الشتاء إلى الحمرة وفي اشتداد البرد إلى الغبرة فشبه تلونالسماء بتلون الورد من الخيل وروي هذا عن الكلبي أيضا وقال أبو الجوزاء : وردة صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة ونصب وردة على أنه خبر كان وفي الكلام تشبيه بليغ وقرأعبيد بن عمير وردة بالرفع على أن كان تامة فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة : فلئن بقيت لأرحلن بغزوة نحو المغانم أو يموت كريم حيث عني بالكريم نفسه وقوله تعالى : كالدهان
37
- خبرثان لكانت أو نعت لوردة أو حال
(27/113)
من اسم كانت على ما رأى من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى : كالمهل وهو درديالزيت وهو ما جمع دهن كقراط وقراط أو اسملما يده به كالحزام والأدام وعليهقوله في وصف عينينكثيرتي التذارف : كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تدهنا بدهان وهو الدهن أيضاإلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على ما قيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة وقيل اللمعان وقيل الحسن أي كالدهان المختلطة لأنها تتلون ألواناوقالأ ابن عباس : الدهان الأديم الأحمر ومنه قول الأعشى : وأجرد من كرامالخيل طرف كأن على شواكله دهانا وهو مفرد أو جمع واستدل للثاني بقوله : تبعن الدهان الحمر كل عشية بموسم بدر أو بسوقعكاظ وإذاشرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان أو وجدت أمراهائلا أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا كان مفرعاومسبباعما قبله في إرسال الشواظ ما هو سببلحدوث أمر هائل أو رؤيته في ذلك الوقت فبأي آلاء ربكما تكذبان
38
- فإن الأخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أي لطف ونعمة أي نعمة فيومئذ أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر
لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان
39
- لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين في موقف آخر قاله عكرمة وقتادة وموقف السؤالأعلى ما قيل : عند الحساب وترك السؤال عند الخروج من القبور وقال ابن عباس : حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقدير وحيث نفي فهو استخبار محض عن الذنب وقيل : المنفي هو السؤال عن اذلنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه وأنت تعلم أن الآيات ما يدل على السؤالعن نفس الذنب
وحكى الطبرسي عنالرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى وضمير ذنبهللإنس وهو متقدم رتبةلأنه نائب عن الفاعل وإفراده باعتبار اللفظ وقيل : لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل : لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جني وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد ولا جأن بالهمز فرارامن التقاء الساكنين وإن كان على حده فبأي آلاء ربكما تكذبان
40
- يقال فيه نحو ما سمعت في سابقه يعرف المجرمون بسيماهم استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال و المجرمون قيل : من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهم المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى : لا يسأل عن ذنوبهم الجرمون و سيماهمعلى ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون وقيل : ما يعلوهم من الكآبة والحزن وجوز أن تكون أموراأخر الكعمى والبكم والصمم
وقرأحماد بن سليمان بسيمائهم فيؤخذبالنواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس والأقدام
41
- جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة والجار والمجرور نائب الفاعل
(27/114)
وقالأأبو حيان : إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدي بها أي فيسحب بالنواصي الخ وفيه بحث وظاهر كلام غير واحد أن أل عوض عن المضافإليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم ونص عليه أبو حيان فقال : أل فيهما عوض عن الضمير على مذهب الموفيين والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم وأنت تعلم أن الخلافبين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضميرالمربط ولا احتياج إليه هنا نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميهفي سلسلة من وراء ظهرهثم يكسر ظهرهويلقيه في النار وقيل : تأخذالملائكة عليهم السلام بعضهم سحبابالناصية وبعضهم سحبا بالقدم وقيل : تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذالنواصي وتارة بأخذالأقدام فالواو بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين وقيل : للرمز إلى عظمتهفقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جنهم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان يقال فيه نحو ما تقدم وقوله تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون مقول قول مقدر معطوف علىقوله تعالى : يؤخذ الخ أي ويقال هذه الخ أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع أو حال من أصحاب النواصي بناءا على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم وما فيالبين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل التي يكذب بها المجرمون التي كذبتم بها فعدل عنه للدلالة على استمرار ذلك وبيانلوجه توبيخهم وعلته
يطوفون بينهاأي يترددون بين نارها وبين حميم ماء حار إن
44
- متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها قال قتادة : الحميم يغلي منذ خلق الله تعالىجهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم وقيل : يحرقون في النار ويصب على رؤسهمالحميم وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم وقيل : يغمسوفي واد فيجهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقدأحذث الله تعالآلهم خلقاجديدا وعن الحسن أنه قال : حميم آن النحاس انتهى حره وقيل : آن حاضر
وقرأ السلمي يطافون والأعمش وطلحة وابن مقسم يطوفون بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة وقريء يطوفون أي يتطوفون فبأي آلاء ربكما تكذبان
45
- هو أيضا كما تقدم ولمن خاف مقام ربه الخ شروعفي تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة و مقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي ولمن خاف قيام ربه وكونهمهيمناعليه مراقباله حافظالأحواله فالقيام هنا مثله في قوله تعالى : أفمن هو قائمعلى كل نفس بما كسبت وهذا مروي عن مجاهدوقتادة أو هو اسم مكان والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز و جل وحده فيه بحسب نفس الأمر والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه : يقوم الناس لرب العالمين منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسةوليس بشيء وقيل : المعنى ولمن خاف مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه وإضافته
(27/115)
للرب لأنهعنده تعالآ فهي مثلها فيقولهم : شاة رقوب الحلب وهي بمعنى عند الكوفيين أي رقود عند الحلب وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضاثم إن المراد بالعندية هنا مما لايخفى وجوز أن يكونمقحماعلى سبيل الكناية فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ ومثله قول الشماخ : ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف والظاهر أن المرادولكل فرد فرد من الخائفين : جنتان
46
- فقيل : إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابهله والأخرىمنزل أزواجه وخدمه وإليه ذهب الجبائي وقيل : بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه وقيل : منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته وأين هذا ممن يطوف بين النار وبين حميم آن
وجوز أن يقالأ : جنة لعقيدته وجنة لعمله أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي أو جنة يثاببها وأخرى يتفضل بها عليه او إحداهماروحانية والأخرى جسمانية ولا يخفى أن الصفاتظاهرة في الجسمانية
وقال مقاتل : جنة عدن وجنة نعيم وقيل : المرادلكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني فإن الخطاب للفريقين وهذأ عندي خلافالظاهر وفي الآثار ما يبعده فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد 0 عمر رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجدوالعبادة فعشقته جاريةفأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلكفشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال : يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه فانطلق لإأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخر فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال : لك جنتان لك جنتان
والخوففي الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب : والخوف من الله لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات ولذلك قيل : لا يعدخائفامن لم يكن للذنوبتاركا ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته
وقول مجاهد : هوالرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع اذلنب والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم وقد يقاتل : إن ارتكاب الذنب قديجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفامن عقابه تعالى عليه وأيد ذلك بما أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الصول ز وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأهذه الآية ولمن خافمقام ربهجنتان فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام : الثانية ولمن خاف مقام ربهجنتان فقلت : وإن زنى وإن سرق فقال الثالثة : ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت : وإنزنى وإن سرق قال : نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال : سمعت محدمبن سعديقرأ ولمن خافمقام ربه جنتان وإزنى وإن سرق فقلت ليه فيهوإن زنى وإن سرق
(27/116)
فقال : سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلكحتة أموت وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل وجاءفي شأن هاتين الجنتين من حديث عيض بن غنم مرفوعا إن عرض كل واحدةمنهما مسيرة مائة عام والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبي بكر
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخفي العظمةعنعطاء أن أبا بكر الصديق رضعنه ذكر ذات يوم وفكر في يوم القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثارالكواكب فقال : وددت أني كنت خضرامن هذه الخضر تأتي علي بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان
47
- ذواتا أفنان
48
- صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهاعلى أن تكذيب كلمن الموصوف والصفة موجب للأنكار والتوبيخ وجوز أن يكون خبر مبتدأمقدر أي هما ذواتا وأيا ما كان فهو تثنية ذات بمعنى صاحبة فإنه إذاثني فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا والأخرى ذواتا بردهإلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها وقدقالوا : أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا وفرقا بين الواحدوالجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنيةالجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الشجار والثمار وروي ذلكعن ابن عباس وابنجبير والضحاك وعليهقول الشاعر : ومن كل أفنان اللذاذة والصبا لهوت به والعيش أخضر ناضر وإما جمع فنن وهو ما دقولأن م الأغصانكما قال ابن الجوزي وقديفسر بالغصن وحمل على التسامح وتخصيصهابالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضالأنها هي التي تورق وتثمر فمنها تمتد الظلال ومنها تجنى الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل : ذواتا ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية وهي أخضر وأبلغ وتفسيره بالأغصان على أنه جمع فنن مروي عن ابن عباس أيضا وأخرجه ابن جرير عن مجاهدقال أبو حيان : وهو أولى لأن أفعالآئ في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين كفن ويجمع هو على فنون
فبأي الآء ربكما تكذبان
49
- فيهمأعينان تجريان
50
- صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأالمقدرأي في كل منهما تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسنيم والأخرى بالسلسبيل وروي هذا عن الحسن وقال عطية العوفي : عينان إحداهمأمن ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين وقيل : عينان من الماء تجريان حيث شاصاحبهمأمن الأعالي والأسافل من جبل مسك وعن ابن عباس عينان مثل الدنيا أضعافامضاعفة تجريان بالزيادة والكرامة على أهل الجنة
فبأي الآء ربكما تكذبان
51
- فيهما من كل فاكهة زوجان
52
- صنفان معروف وغريب لم يعرفوهفي الدنيا أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب وأخرجعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال ابن عباس في هذه الآية : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل ونقل هذافي البحر عن ابن عباس أيضابزيادة إلا أنه حلو والجملة كالجملة التي قبلها
فبأي آلاء ربكماتكذبان
53
- متكئين حال من قولهتعالى : ولمن خاف وجمع رعاية للمعنى بعدالإفراد
(27/117)
رعاية اللفظ وقيل : العامل محذوف أي يتنعمون متكئينوقيل : مفعول به بتقدير أعني والإتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب والمعنى متكئينفي منازلهم على فرش بطائنها من استبرق من ديباجثخين قال ابن مسعود كما رواه عنه جمع وصححهالحاكم أخبرتمبالبطائن فكيف بالظاهر وقيل : ظهائرهامن سندس وعن ابن جبير من نور جامد وفي حديث من نور يتلألأ وهو إن صح وقف عنده
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنهقيل له : بطائنها منإستبرق فماذا الظواهر قال : ذلكمما قال الله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وقال الحسن : البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة وقال الفراء : وقدتكون البطانة الظهارة والظهارة البطانةلأن كلامنهمأيكونوجها والعربتقول : هذا ظهالسماء وهذا بطن الساء والحق أن البطائن هنا مقابل الظاهر على الوجه المعروف وقرأأبو حيوة فرش بسكونالراء وأخرج عبد بن حميدعن الضحاك قال : قرأعبد الله سرر وفرش بطائنها من استبرق وجني الجنتين أي ما يجنيويؤخذمن أشجارهما من الثمار فجنياسمصفة مشبهة بمعنىالمجني دان
54
- قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع قالابنعباس رضعنهما : تدنو الشجرة حتى يجتبيها ولي الله تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاءمضطجعا وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعدولا شوك وقرأعيسى وجنى بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت اللفقد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو حتى نرى اللهجهرة وقريء وجني بكسر الجيم وهو لغة فيه
فبأي آلاء ربكما تكذبان
55
- فيهن أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدم اعتبار الجمعة في قوله تعالى : متكئين وقال الفراء : الضمير لجنتان والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعدما سمعت وقيل : الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر وقيل : يعود على الفرش قال أبو حيان : وهذا قول حسن قريب المأخذ وتعقب بأن المناسب للفرش على وأجيب بأنه شبه تمكهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثاره للأشعار بأن أكثر حالهن الأستقرار عليها ويجوز أن يقال : الظرفية للإشارة إلىأن الفرش إذاجلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه وقيل : الضمير للآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني والمراد معهن قاصرات الطرف أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن قال ابن رشيق فيقول امريء القيس : من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغي زوجها ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتني :
(27/118)
وخضر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا انتهى فلا تغفل والأكثرون علىأول المعنيين اللذينذكرناهمابل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي
أخرج ابن مردويهعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك لا ينظر إلا إلى أزواجهن ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجكوجعلكزوجي و الطرف في الأصل مصدر فلذلك وحد لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان
56
- قال ابن عباس : لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان وفيه إشارة إلى أن الضمير قبلهن للأزواج ويدل عليه قاصرات الطرف وفيالبحر هو عائدعلى من عادعليهالضمير في متكئين وأصلالطمث خروجالدم ولذلك يقال للحيض طمث ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم وقيل : ثم عمم لكلجماع وهو المروي هنا عن عكرمة وإلى الأول ذهب الكثير وقيل : إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدنأبكارا كلماجومعن ونفي طمثهن عن الأنس ظاهر وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن : قدتجامع الجن نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوجاسم الله تعالى فنفي هنا جميع المجامعين وقيل : لا حاجة إلى ذلكإذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانهمنهم ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكومع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال : كتب قوممن أهل اليمن إلى مالك يسألونهعن نكاح الجن وقالوا : إن ههنا رجلامن الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلكبأسأفي الدين ولكن أكره إذاوجدت امرأةحامل قيل : من زوجك قالت : من الجن فيكثر الفساد في الإسلام ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعاحقيقيا مع أزواجهنإذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء وقوله تعالى : وشاركهم في الموال والأولاد غير نص في المراد كما لا يخفى وقال ضمرة بن حبيب : الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجننوعهم فالمعنى لم يطمث النسيات أحدمن الإنس ولا الجنيات أحدمن الجن قبل أزواجهن وقدأخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم وظاهره أن ما للجن لسنمن الحور
ونقلالطبرسي عنه أنهن من الحور وكذاالأنسيات ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهميقال لذلك إنسيات وحوراللجن يشاكلنهم يقال لهن جنيات ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحداويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيرهفي هذه النشأة ويقالأ : ما يعطاه الأنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله ومايعطاه الجني لميطمثهاجني قبلهوبهذا فسر البلخي الآية وقال الشعبي والكلبي : تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئنالنشأة الآخرة خلق قبل والذييعطاهالإ زوجتهالمؤمنية التي كانت له في الدنيا ويعطيغيرها من نسائها المؤمنات أيضا وكذا الجني زوجتهالمؤمنة التيكانت له في الدنيا من الجن ويعطى غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضا ويبعد الجني من نساء الدنيا الإنسيات في الآخرة
(27/119)
والذي يغلب على الظن أن الأنسي يعطى من الإنسيات والحور والجني يعطى من الجنيات والحور ولا يعطى إنسي جنية ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو جنيامن الحور شيء يليق به وتشبيه نفسه وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقوفيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى
(27/0)
والأوزاعي وعليه الأكثر كما ذكره العيني في شرح البخاري من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون على المعصية ويدخلون الجنة فإنظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الأولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات الثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد علىدخولها الثالثة التوقف قالأالكردي : هو في أكثر الروايات وفي فتاوي أبي إسحاق بن الصفار أن الإمام يقول : لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم اللهتعالى
ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربضالجنة وقيل : هم أصحاب الأعراف وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل : نراهم ولا يرونا عكس ما كانواعليه في الدنيا وإليه ذهب الحرث المحاسبي وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهمفي الدنيا وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل : إن تنعمهم بغير رؤيته عز و جل فإنهم لا يرونه وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها علىما حكاهأبو إسحاق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله وقرأطلحة وقرأطلحة وعيسى وأصحاب عبد الله يطمثهن بضم الميم هنا وفيما بعد وقرأأناس بضمه في الأول وكسره في الثاني وناس بالعكس وناس بالتخيير والجحدري بفتح الميم فيهما والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة فبأي آلاء ربكما تكذبان
57
- وقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان
58
- إما صفة لقاصرات الطرف أو حال منها كالتيقبل أي مشبهات بالياقوتوالمرجا وقول النحاس : إن الكاف في موضع رفععلى الأبتداء ليس بشيء كما لا يخفى أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ وعن الحسن نحوه وفي البحرعن قتادة في صفاء الياقوت وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف وقيل : مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدرفي بياض البشرة وصفائها وتخصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضامن الكبار وقيل : يحسنهنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى : كأنهن بيض مكنون فلا تغفل
وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم وصحبه والبيهقي فيالبعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : كأنهن الخ قال : ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيئما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوباينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك
وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال : إن المرآة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراءاللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء
فبأي آلاء ربكما تكذبان
59
- وقوله تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
60
- استئناف مقررلمضمونما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وقيل : المراد ما جزاء التوحيد إلا الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفروس وابن النجار في تاريخه عن أنس قال : قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(27/120)
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فقال : وهل تدرون ما قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليهبالتوحيد إلا الجنة وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعابلفظ قال الله عز و جل هل جزاء من أنعمت عليه الخ ووراءذلك أقوال تقربمن مائة قول واختير العموم ويدخلالتوحيددخولاأولي والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما في الحديثأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قالوا : فهو اسم يجمع أبواب الحقائق وقرأابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن فبأي آلاء ربكما تكذبان
61
- وقوله تعالى : ومن دونهما جنتان
62
- مبتدأو ومن دون تينك الجنتين في المنزلةوالقدر جنتانأخريان قال ابن زيد والأكثرونالأو للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويهعن أبي موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله سبحانه : ومن دونهما جنتان قال : جنتان من ذهب للمقربين من ورق لأصحاب اليمين وقال الحسن : الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين وروي موقوفاوصححه الحاكعن أبي موسى وزعم بعضهم أن الأولين للخائفين والآخرين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجدله مستندامن الآثار وحكى في البحر عن ابن عباس أنه قال : ومن دونها فيالقرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأولين وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى
فبأيآلاء ربكما تكذبان
63
- وقوله تعالى : مدهامتان
64
- صفة لجنتان وسط بينها الأعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حيقي بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر بها عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذالم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون ويقال : ادهام أدهيمامامدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وجماعة بخضراوان بل أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضعنه قال : سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى : مدهامتان فقال عليه الصلاة و السلام : خضراوان والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذااشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبيصالح قيل : إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارابأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن فيوصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بانها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالأقتصار في كل منهما على أحد المرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لاوالجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلآمن الجنة القليلة الظلال والثمار ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونهأغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولوإذا مدحوابستاناأشجاره خضر يانعة وهو أظهر من مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان وهو يشعر أيضابكثرة مائهوالأعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك
(27/121)
فبأي آلاء ربكما تكذبان
65
- فيهما عينان نضاختان
66
- فوارتانبالماء على ما هو الظاهر وفي النضخ فوران الماء وفي الكشاف وغيره النضخ أكثر من النضح بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضلالجنتين الأوليين دون الجري فالمدح به دون المدح به وعليه قول البراء بن عازبفيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاحتين ومن ذهب إلى تفضيل هاتينيقول في الفوران جري مع زيادةحسفإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطراتكحبات اللؤلؤ المتناثرة كمايشاهد في الفوارات المعروفة أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس نضاختان بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر علىأهلالدنيا أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد نضاختان بالخير ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير
فبأي آلاء ربكما تكذبان
67
- فيهمافاكهة ونخل ورمان
68
- عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانالفضهما وقيل : إنهما في الدنيالما لم يخلصا للتفكهفإنالنخ فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء عدا جنساآخر فعطفاعلى الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناأو رطبالم يحنث وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه
أخرج ابن المبارك وابن أبيشيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفهاكسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرهاأمثالأالقلال أشد بياضامن اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاأصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب الخ
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاقالأE : نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى فيالجنتين السابقتين : فيهمأ من كل فاكهة زوجان ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينةالمقام نظير ما قيل في قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت فيكون في قوة فيها كل فاكهة ويزيد ما في النظم الجليل علىما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها وقال الإمام الرازي : إن ما هنا كقولهتعالى : فيهما من كل فاكهة زوجان وذلكلأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخلوغيرها من الشجريات فقال تعالى : مدهامتان لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض وأحدهما حار والآخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة وأحدهمأأشجار تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى : رب المشرقين ورب المغربين انتهى ولعل الول أولى فبأي آلاء ربكما تكذبان
69
- وقوله تعالى : فيهن خيرات صفة أخرى لجنات أو خبر بعد خبر للمبتدأالمحذوف كالجملة التي قبلها
(27/122)
يجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالأكلامفيه في قوله تعالى : فيهن قاصرات الطرف و خيرات قال أبو حيان : جمع خيرة وصف بنيعلى فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة وقال الزمخشري : أصله خيرات بالتشديد فخففت كقوله عليهالصلاة والسلام : هينون لينون وليس جمع بمعنى أخير فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصاإذا نكر وقرأبكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم خيرات بتشديدالياء وهو يؤيد أن أصله كذلك وروي عن أبي عمرو خيرات بفتح الياءكأنه جمع خائرة جمع على فعلة حسان
70
- قيل : أي حسان الخلق والخلق
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادةأنه قال في الآية : خيرات الأخلاق حسان الوجوه وأخرجذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا
فبأي آلاء ربكما تكذبان
71
- وقوله تعالى : حور بدلمن خيرات وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضاعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقالابن الأثير : الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وفي القاموس الحور بالتحريك أنيشتد بياض بياض العين وسواد سوادهاوتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بنس آدم بل يستعار لها وإذاصح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله ص -
مقصورات في الخيان
72
- أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق قال كثير عزة : وأنت التي حببت كل قصيرة إلي ولم تشعر بذاكالقصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت : وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتغفل عن أبياتهن فتعذر وهذاالتفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال : مقصورات قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن والأول أظهر و في الخيام عليه متعلق بمقصورات وعلى الثاني يحتمل ذلك ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل والخيام جمع خيمة وهو على ما في البحر بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقالأله خيمة وقال غير واحد : هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضاعلى خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب والخيامهنا بيوت من لؤلؤ أخرج ابن أبي شيبةوجماعة عن ابن عباس أنه قال : الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخلها أربعة آلاف مصراع من ذهب وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال : الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعوبابامن در وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستونميلافي كل زاوية منها للمؤمن
(27/123)
أهل لا يراهم الآخرونيطوف عليهم المؤمن ةإلى ذلك من الأخبار وقوله سبحانه : فيهن الخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز و جل : فيهن قاصرات الطرف إلى قوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في مقصورات على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم أو يجعلقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل
جوهرة أحقاقها الخدور
ومن ذهب إلىتفضيل الأخيرتين يقول : هذاأمدح لعموم خيرات حسان الصفات الحسنة خلقاوخلقا ويدخلفي ذلكقصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن و قاصرات الطرف ربما يوهم أن القصر باختيارهنفمتى شئن قصرن ومتى لم يشأ لم يقصرن
فبأي آلاء ربكما تكذبان
73
- وقوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان
74
- الكلامفيه كالكلام في نظيره فبأي آلاء ربكما تكذبان
75
- وقوله سبحانه : متكئين قيل : بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين والضمير لأهل الجنتين المدلولعليهم بذكرهما على رفرف اسم جنس أو اسم جمعواحده رفرفة وعلى الوجهينيصح بقوله تعالى : خضر وجعله بعضهمجمعالهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل وفسره في الآية علي كرم الله تعالىوجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه وقال الجوهري : الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابسواشتقاقه من رف إذا ارتفع وقال الحسن فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه هيالبسط
وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كسيان وقال الجبائي : الفرش المرتفعة وقيل : ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب وقال الراغب : ضرب من الثياب مشبهة بالرياض وأخرجابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : الرفرف رياض الجنة وأخرجعبد بنحميدنحوه عن ابن عباس وهو عليه كما في البحر من رف النبت نعم وحسن ويقالالرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء وعبقري هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبوإليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أرى عبقريايفري فريه ولتناسي تلك النسبة قيل : إنه ليس بمنسوب هلهو كرسي وبختيكما نقل عن قطرب والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع هو قوله تعالى : حسان
76
- حملا على المعنى وقيل : هو اسم جمعأو جمعواحدهعبقرية وفسره الأكثرون بتعلقالزرابي وعن أبي عبيدة هو كاكلهوشيء من البسط
وروي غير واحدعن مجاهد أنه الديباج الغليظ وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف
وقرأعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيص
(27/124)
ورهبر الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف حضر بسكون الضاد وعباقري بكسر القاف وةفتح الياء مشددة وعنهم أيضاضم الضاد وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارفللمشاكلة وإلا فلا وجه لمنعالصرف مع ياءيالنسبإلا في ضرورة الشعر انتهى
وقال ابن خالويه قرأ على رفارف خضر وعباقري النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والجحدري وابن محيصن وقدروي عمن ذكرنا علىرفارف خضر وعباقري بالصرف وكذلكروي عن مالك بن دينار وقرأأبو محمد المروزيوكاننحويا على رفاف خضار بوزن فعال وقال صاحب الكامل : قرأ فارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الأختيار لقوله تعالى : حضر وعباقري بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن وروي عنهما التنوين
وقال ابن عطية : قرأزهير القرقبي رفارف بالجمع وترك الصرف وأبو طعمة المدني وعاصم فيمارويعنه رفارف بالصرف وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك وعباقي بالجمع والصرف وعنه وعباقري بفتحالقافوالياء علىأن اسم الموضع عباقر بفتح القاف والصحيحفيه عبقر وقال الزمخشري : قريء عباقري كمدايني
وروي أبو حاتم عباقريبفتح القاف ومنع الصرفوهذا لا وجهلصحته وقال الزجاج : هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت : عباقرة نحو مهلبي ومهالبةولاتقولمهالبي
وقال ابن جني : أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس شذوذمع استعماله وقالأابن هشام : كونه من النسبتة إلى الجمع كمدايني باطل فإن من قأبذلك قرأرفارف خضر بقصدالمجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفهكمداينيوقد صحت الرواية بمنعه الصرفعن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو منباب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنهاخالفت القياس في زيادة ما بعدالألف على المعروفكما ذكره السهيلي وقال صاحب الكشف : فتح القافلا وجه له بوجه والمذكور في المنتقي عن النبي صلى الله عليه و سلم الكسر
وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حديذهبنفينجدوغورا وإضافته إلى حسان مثل إضافة حور إلى عينفي قراءة عكرمة كأنه قيل : عباقري مفارش أو نمارق فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحدالوصفين قائم مقام الموصوف ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى فأحط بجوابالكلام ولا تغفل وقرأابن هرمز خضر بضم الضادوهي لغة قليلة ومن ذلكقول طرفة : أيها القينات في مجلسنا جردوا منها واردا وشقر وقول الآخر وما انتميت إلى خود ولا كشف ولا لئام غداة الروع أو زاع فشقر جمع أشقر وكشف جمع أكشف وهو منينهزم فيالحرب هذا والوصف بقوله تعالى : متكئين على رفرف الخ دون الوصف بقوله سبحانه : متكئين على فرش بطائنها من استبرق عند القائلبتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر ممايعجز عنها الوصف ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول : الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرحعليها الرفرف مذكورفيجوز أن يكونترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع
(27/125)
إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينهالإمام يشيرإلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات وقد يقال غير ذلكفتأمل وينبغي على القول يتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خافأن لا يفسر من خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم أو يقال إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى ولمنخاف مقام ربه أضا جنتان صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين وعليه قيل : جنتان عطف على جنتان قبله ومن دونهما في موضع الحال وذهببعضهم إلى أن هاتينالجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربهD فلهيوم القيامة أربع جنان
قال الطبرسي : والأخيرتان دون الأوليين أي أقربإلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروفمن طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعدعن الملل الذي طبع عليه البشر وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالاظاهرالكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا إذ حكم مثله حكم المرفوع لم يكن لنا العدول عما يقتضيه وقد روي عنه أيضاحديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس
وأخرج عند أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم أنه قال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهماوجنتان من فضة حليتهماوآنيتهماوما فيهما ومابين القوم أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان ومعنى قوله تعالى : ولمن خاف الخ عليه مما لا يخفى ثم إن قاصرات الطرف إن كن من الإنس فهن أجل قدراوأحسنمنظرا من الحور المقصورات في الخيام بناءا على أنهن النساء المخلوقات في الجنة
فقد جاء من حديث أم سلمة قلت يا رسول الله : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة قلت : يا روبم ذاك قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبداألاونحن الناعمات فر نبأس أبداطوبى لمن كنا له وكان لنا إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيداللقول بتفصيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما تقدم سبحانه ذكر الأتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز و جل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه : ولمنخاف مقام ربه جنتان فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعاراظاهرا وهو الإتكاء فإنه من شأن الآمنين وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزلمن طعام وشراب وقينة تكون فيه وإذا قلنا : إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع وقال الإمام في ذلك : إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب ومنهم من يكومترددافي طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فلله عز و جل قال في أهل الجنة : متكئون قبل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعدالأجتماعليعلم أنهم دائمون على السكون ولا يخفى أن هذاعلى ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل
(27/126)
أن يقول لم لميعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا ثم ذكر في ذلك وجهاثانياوهو على ما فيهمبني على ما لا مستند لهفيه من الآثار فتدبر فبأي آلاء ربكما تكذبان
77
- وقوله عز و جل : تبارك اسم ربك تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنهالفائضة على الإمام فتبارك بمعنى تعالآلأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصفالآتي وقدورد في الأحاديث تعالى اسمه أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرتبهالسورة من اسم الرحمن المنبيء عن إفاضة الآلاء المفصلة وارتفعمما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائهوتكذيبها وغذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانهكذلكفما ظنكبذاته الأقدس الأعلى
وقيل : الأسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها وقيل : هو مقحم كما في قول من قال : ثم اسم السلام عليكما وقيل : هوبمعنى المسمى وزعم بعضهم إن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة وهو تعدد الآلاء والنعم تفسير تبارك بكثرت خيراته ثم إنهلا بعدفي إسناده بهذا المعنى لاسمهتعالآ إذا به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان وقولهسبحانه : ذي الجلالوالإكرام
78
- صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلالما ذكر من التنزيه والتقرير وقرأابن عامر وأهل الشام ذو ج بالرفع على أنه وصف للأسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح
هذا ومنباب الإشارة في بعض الآيات الرحمن علم القرآن إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانيةالإجمال عنداستوائه عز و جل على عرش الرحمانية خلق الإنسان الكاملالجامع علمه البيان وهو تفصيلتلك العلوم الإجمالية فإذا قرأناهفاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه والشمس والقمر بحسبان يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الأستعدادات و النجم القوى السفلية والشجر الأستعدادات العلوية يسجدان يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه والسماء سماء القوى الإلهية القدسية رفعها فوق أرضالبشرية ووضع الميزان القوة المميزة أن لا تطغوا فيالميزان لا تتجاوزا عند أخذالحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية
وجوز أن يكون الميزان الشريعة المطهرة فإنهاميزان يعرف بهالكامل من الناقص والأرض أرضالبشرية وضعها بسطها وفرشها للأنام للقوى الأنسانية فيها فاكهة من فواكه معرفة الصفات الفعلية والنخل ذات الكمام وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظموذات أطوار كل طور مستور بطور آخر والحب هو الحب المبذور في مزارعالقلوب السلمية الدغل ذو العصف أوراق المكاشفات والريحان ريحان المشاهدة رب المشرقين ورب المغربين رب مشرق شمس النبوة ومشرققمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني مرج البحرين بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية يلتقيان بينهمابرزخ حاجز القلب يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان أنواع من أنوار الأسرار ونيران الأشواق وله الجوار المنشآت سفنالخواطر المسخرة في بحر الإنسان كل من عليها فان ماشم رائحة الوجود ويبقى وجه ربك الجهة التي تليهسبحانه وهي شئوناته عز و جل ذو الجلال أي الأستغناء التام عن جميع المظاهر والإكرام الفيض العام يفيض على القوابل حسبمااستعدت له وسألتهبلسان
(27/127)
والأرض الخ واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه : كل يومهو في شأن على شرفالتلون وكذا استدل به على عدم بقاء الجواهرآنين وعلى هذا الطرز ما قيل في الآيات بعد وذكر بعض أهلالعلمأن قوله تعالى : فبأي آلاء ربكما تكذبان قد ذكر إحدى وثلاثين مرة وثمانية منها عقيب تعداد عجائب عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد وسبعة عقب ذكر ما يشعر بالناروأهوالها على عدد أبواب جهنم وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنةفكأنه أشيربذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولىوعمل بموجبهااستحقكلتاال الله تعالى ووقاهم جهنم ذاتالأبواب السبعة والله تعالىأعلم بإشارات كتابه وحقائقخطابه ودقائقكلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسك ربك ذو الجلال والإكرام
سورة الواقعة
مكية كما أخرجه البيهقيفي الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير واستثنى بعضهم قوله تعالى : ثلة الأولين وثلة من الآخرين كما حكاه في الإتقان وكذا استثنى قوله سبحانه : فلا أقسم بمواقع النجوم إلى تكذبون لما أخرجهمسلمفي سببنزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى وفيمجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي وسبع وتسعون في البصري وست وتسعون في الكوفي وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار وقالفي البحر : مناسبتها لما قبلها أنه تضمنالعذابللمجرمين والنعيم للمؤمنين وفاضلسبحانه بين جنتي بعضالمؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلىكافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذهالسورة منكونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين وقال بعض الأجلة أنظر إلى اتصال قوله تعالى : إذاوقعت الواقعة بقوله سبحانه : فإذاانشقت السماء وأنه اقتصر في الرحمنعلى ذكر انشقاق السماء وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكان السورتين لتلازمهماواتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء وقد عكسالترتيب فذكر في أول هذه ما فيتلك وفي آخر هذه ما فيتلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان ثمصفة يوم القيامة ثم صفة النار ثم صفة الجنة وهذهابتداؤها بذكر القيامة ثم صفة الجنة ثم صفة النار ثمخلق الإنسان ثمالنبات ثمالماء ثم النار ثم ذكرت النجوم ولم تذكر فيالرحمن كما لم يذكرهنا الشمس والقمر ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلكوكالمتضمنة لرد العجز على الصدر وجاء في فضلها آثار
أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحرث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنابنمسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : من قرأسورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا وأخرج ابن مردويه عن أنسعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : سورة الواقعة الغنى فاقرءوها وعلموها أولادكم
(27/128)
وأخرج الديلمي عنه مرفوعاعلمو نسائكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى
بسم الله الرحمن الرحيم إذا وقعت الواقعة
1
- أيإذا حدثت القيامة على أن وقعت بمعن حدثت و الواقعة علم بالغلبة أو منقول للقيامة وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في جاءني جاء فإنه لغو لدلالة كل فعل علىفاعل له غير معين وقال الضحاك : الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور وقيل : الواقعة صخرة بيت المقدستقع يوم القيامةوليس بشيء و إذا ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب بوقعت كسائر أسماء الشرط ولسيت مضافةإلى الجملة والجمهور على إضافتها فقيل : هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا وقيل : لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس وصنيع الزمخشري يشعر باختياره
وقيل : بمحذوفوهو الجواب أي إذا وقعتالواقعة كان كيت وكيت قال في الكشف : هذا الوجه العربي الجزل فالنصببإضمار اذكر إنما كثر في إذ وبليس إنما يصح إذاجعلت لمجرد الظرفية وإلالوجوب الفاء فيليس وأبو حيان تعقب النصب بليس لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك ما وهي لا تعمل فكذا ليس فإنها مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان والقول : بأنها فعل على سبيل المجاز والعامل في الظرفإنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه ثم ذكر ما ذكر صاحب الكشف منوجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية واعترض دعواه أن ما لا تعملبأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفي وأنه يكفي لهرائحة الفعل ويقاس عليها في ذلك ليس وكذا دعوى وجوب الفاء في ليسإذا لم تجرد إذا عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعالالجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به وأما إذا فدخلوا الفاء في جوابها على خلاف الأصل وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران وبعد القيل والقال الأولى كون العامل محذوفاوهو الجواب كما سمعت وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة
وقوله تعالى : ليس لوقعتها كاذبة
2
- إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية و كاذبة اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس وقيل : مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به و الواقعة السقطة القوية وشاعت في وقوعالأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك : كتبته لخمس خلوان أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب لهتعالى في أنها تقعوهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبامكذبا بلصادقامصدقا وقيل : على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة وأن قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين مجاب عنه بما هو مذكور في محله أواللام على حقيقتها و كاذبة صفة لذلك المحذوف أيضاأي ليسلوقعتها نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحدولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها
(27/129)
بلسانالحال لن تكوني وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذب أحدفيقول إنه غير واقع وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطباإلا على ذلكإما على سبيل التخييل من باب لو قيل : للشحم أين تذهب وهو الأظهر وإما على التحقيق وجوز كون كاذبة منقولهم كذبت نفسه وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم واللام قيل : على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتعريه عليها
وفي الكشف إن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما في الوجه الأول وجوز أيضا كون كاذبة مصدرا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة وروي نحوه عن الحسن وقتادة وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس في كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير : ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ماالليث كذب عن أقرانه صدقا ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب للوقعة كذببلهي وقعةصادقة لا تطاق على نحو حملة صادقة وحملة لها صادق أو علىمعنىليس هي في وقوعها كذب لأنهحق لا شبهة فيه ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم وإن روي نحوه عمن سمعت نعم قيل : عليها إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر وقوله عز و جل : خافضة رافعة
3
- خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قالابن عباس وأخرجه عنه جماعة والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة وتقديم الخفض على اىلرفع لتشديد التهويل أو بيان لمايكون يومئذ من حطالأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات وعلى هذا قول عمر رضعنه : خفضت أعداء الله تعالى إلى النارورفعت أولياءه إلى الجنة أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارنتها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب والضحاك بعد أن فسر الواقعة بالصيحة قال : خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى رافعة ترفعها لتسمع الأقصى وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وعكرمة وقدر أبو علي المبتدأ مقرونابالفاء أيفهي خافضة وجعل الجملة جواب إذافكأنه قيل : إذا وقعت الواقعة خفضت قوماورفعت ةخرين وقرأزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره خافضة رافعة بنصبهما ووجهه أن يجعلا حالين عنالواقعة عما أن ليس لوقعتها كاذبة اعتراض أو حالين عن وقعتها وقوله سبحانه : إذا رجت الأرض رجا
4
- أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بيناء وجبل متعلق بخافضة أو برافعة على أنه من باب الأعمال أو بدل من إذا وقعت كما قال به غير واحد وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي : إذا رجت في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأالذي هو إذا وقعت وليست واحدة منهما شرطية بل هيبمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض وادعى ابن مالكأن إذا تكون مبتدأ واستدل بهذه الآية وقال أبوحيان : هو بدل من إذا وقعت وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهوقوله تعالى : فأصحاب الميمنة والمعنى إذا كان كذا وكذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظمما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم
(27/130)
عند الله عز و جل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم وفيه بعد وبست الجبال بسا
5
- أي فتت كما قال ابن عباس ومجاهد حتى صارنت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لته وقيل : سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنك إذا ساقها فهو كقوله تعالى : وسيرت الجبال
وقرأ زيد بن علي رجت وبست بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها عينها وصلاها راج وهي تمشي وتفاج فكانت فصارت بسبب ذلك هباء غبارا منبثا
6
- متفرقا والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين وقال ابن عباس : هو ما يثور من شعاع الشمس إذا دخلت من كوة وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت
وقرأ النخعي منبتا بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع والمراد من البث بالمثلثة وكنتم للأمة الحاضرة والأمة السالفة كما ذهب إليه الكثير وقال بعضهم : خطاب للأمة الحاضرة فقط والظاهر إن كان أيضا بمعنى صار وصرتم أزواجا أي أصنافا ثلاثة وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج قال الراغب : الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيهما وفي غيرهما كالخف والنعل ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وقوله تعالى : فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة
8
- وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة
9
- تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قيل تفصيلها والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ وقوله تعالى : ما أصحاب الميمنة ما فيه استفهامية مبتدأ ثان و أصحاب خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير وكذا يقال في قوله تعالى : وأصحاب المشأمة الخ والأصل في الموضعين ما هم أي أي شيء هم في حالم وصفتهم فإن ما وإن شاعت مفهوم الأسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد فيقال : عالم أو طيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال وأصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال وقيل : جملة ما أصحاب خبر القول على ما عرف في الجملة الإنشائية إذا وقعت خبرا في حقهم ما أصحاب الخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر و الميمنة ناحية اليمين أو اليمن والبركة والمشأمة ناحية الشمال من اليد الشؤمي زهي الشمال أو هي من الشؤم مقابل اليمن ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل واختلفوا في الفريقين فقيل : أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح وهو مجاز شائع وجوز أن يكون كناية وقيل : الذين يؤتون صفائحهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم وقيل : الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقيل : أصحاب اليمين وأصحاب الشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم
(27/131)
بمعاصيهم وروي هذا عن الحسن والربيع وقوله تعالى : والسابقون السابقون هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق مع جميع الوجوه
واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان وروي هذا عن عكرمة ومقاتل وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في حز قيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه كل منهم سابق أمته وعلي أفضلهم وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدموا أهل الأديان وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة وعن علي كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه
وأخرج عبد بن جميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز و جل وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر وقال كعب : هم أهل القرآن وفي البحر في الحديث سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ورجل ابتكر الشرفي حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال وعن ابن كسيان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى السابقون إلى رحمته سبحانه أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنة والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد
وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى : أولئك المقربون
11
- مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني وقيل السابقون السابق مبتدأ والسابقون اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : فأصحاب الخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الأتستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما يقل السابقون ما السابقون على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب والإشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل
(27/132)
و المقربون من القربة بمعنى الخطوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا خطوة ومكانة عند الله تعالى وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش درجاتهم
هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : فأصحاب الميمنة خير مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : وأصحاب المشأمة وقوله جل شأنه : والسابقون فإن المترقب عند بيان الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنبائا إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الأستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله على أنها خبر لما بعدها فغن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في ما أصحاب المشأمة وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : السابقون مبتدأ والإظهار في مقام الأضمار للتفخيم و أولئك مبتدأ ثان أو بدل من الأول وما بعده خبر له أو للثاني والجملة خبر للأول انتهى وقيل عليه : إنه ليس في جعل جملتي الأستفهام وقوله سبحانه : السابقون إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر ما أصحاب اليمين و ما أصحاب الشمال في التفصيل وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه هلى هذا الوجه ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للأعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الأنقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الأستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم ما أصحاب الميمنة وكذا يقال في وأصحاب المشأمة الخ ويجعل أيضا السابقون صفة للسابقون قبله والتأويل في الوصفية كالتأويل في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع وما يقال : إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون أل في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث فتأمل ولا تغفل وقوله تعالى : في جنات النعيم
12
- متعلق بالمقربين أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر أو نهي ولذا قيل : في جنات النعيم دون جنات الخلود ونحوه وقيل : خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الأخبار
(27/133)
بكونهم فيها بعد الأخبار مقربين ليس فيه مزيد مزية وأجيب بأن الإخبار الأول للأشارة إلى اللذ الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية
وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد وقوله تعالى : ثلة من الأولين
13
- خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة الخ وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم أو خبرا أولا أو ثانيا لأولئك وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر على سرر والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلت وقال الزمخشري : الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله : وجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد وقوله تعالى بعد : وقليل الخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالأستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التفنن بل هي إما للكثرة والإشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال غلب على الكثير فالمعنى جماعة كثير من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وقليل من الآخرين
14
- وهم الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة و السلام : إن أمتي يكثرون سائر الأمم أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي الماقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك
وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائمة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال : كثرة سابقي الأولين ليسن بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذا أكثرهم سابقو الأمم بضم الأنبياء عليهم السلام وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته بالكثرة ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين حزن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
(27/134)
وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلا قليل فنزلت نصف النهار ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فنسخت وقليل من الآخرين وأبى ذلك الزمخشري فقال : إن الرواية غير صحيحة لأمرين : أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين والثانية في أصحاب اليمين والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار
وقيل : يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والأخبار يتبعه وعلى هذا البيضاوي وقيل : يجوز عن الماضي وعليه الإمام الرازي والآدمي وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظاهر خبر أبي هريرة الثاني ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول صاحب الكشف : لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء وأقول : قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال : إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فحزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى
وقو أبي هريرة فنسخت وقليل من الآخرين إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : الفرقتان أي في قوله تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل وقيل : هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين
وقال أبو حيان : جاء في الحديث الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل انتهى وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال : هما جميعا من الأمة وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز و جل : وكنتم أزواجا ثلاثة لهذه الأمة فقط على سرر موضونة حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى : في جنات النعيم بناءا على أنه في موضع الحال كما تقدم وقيل : هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولا بثلة وفيه وجه آخر أشرنا إليه فيما مر وموضونة من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى : ومن نسج داود موضونة تسير مع الحي عيرا فعيرا واستعير لمطلق النسج أو لنسج محكم مخصوص ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب وفي رواية عنه بقضبان الفضة وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت وقيل : موضونة متصل بعضها ببعض كحلق الدرع والمراد متقاربة وقرأ زيد بن علي وأبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم وكلب يفتحون
(27/135)
على فعل جمع المضعف نحو سرير متكئين عليها حال الضمير المستقر في الجال والمجرور أعني على سرر وقوله تعالى : متقابلين
16
- حال منه أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين
والمراد كما قال مجاهد : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن وقوله تعالى : يطوف عليهم حال أخرى أوستئناف أي يدور حولهم للخدمة ولدان مخلدون
17
- أي مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحول عن ذلك والإك أهل الجنة مخلد لا يموت وقال الفراء وابن جبير : مقرطون بخلدة وهي ضرب من الإقراط قيل : هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها وروي هذا أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعن الحسن البصري واشتهر أنه عليه الصلاة و السلام قال : أولاد الكفار خدم أهل الجنة وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه أخرج البخاري وأبو داو والنسائي عن عائشة قالت : توفي صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافيلا الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أو تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار لهذا أهلا ولهذا أهلا وفي رواية خلقهم لهما وهم في أصلاب آبائهم
وأخرج أبو داود عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من ىبائهم فقلت : يا رسول الله بلا عمل قال : الله أعلم بما كانوا عاملين قلت : يا رسول الله فذراري المشركين قال : من آبائهم فقلت : بلا عمل قال : الله أعلم بما كانوا عاملين وقيل : إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وأدخل الجنة ومن أبي أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا
ومن الغريب ما قيل : إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم وفي الكشف الأحاديث متعارضة في المسئلة وكذلك المذاهب والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عز و جل أعلم انتهى والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك بأكواب بآنية لا عرا لها ولا خراطيم والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوكب وأباريق جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل : وعروة وفي البحر أنه من أواني الخمر وأنشد قول عدي بن زيد : ودعوا بالصبوح يوما فجاءت في قينة في يمينها إبريق وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق وذكر غير واحد أنه معرب آب ريزاي صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب آب ري بلا زاي وأيا ما كان فهو ليس مأخوذا من البريق نعم الإبريق بمعمى المرأة الحسنة البراقة والقوس فيها تلاميع مأخزذ من ذلك ولعله يقول بأنه عربي لا معرب وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله : مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا أو لأنه غالبا يتخذ له نوع برق كالبلور والفضة وكأس من معين
18
- أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا وقيل : ظاهرة للعيون مرئية لأنها كذلك أهنا وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة لا يصدعون عنها أي بسببها وحقيقته
(27/136)
لا يصدر صداعهم عنها والمراد أنهم لا يلحق رؤسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدميا وقيل : لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأياب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق
وقرأ مجاهد لا يصدون بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى : يومئذ يصدعون بقتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سواء الأدب ليس من حسن العشرة ولا ينزفون
19
- قال مجاهد وقتادة والضحاك : لا تذهب عقولهم بسكرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف وقيل : هو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف
وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد ولا ينزفون بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه ومعناه صار ذا نزف ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا ولا ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي قال : في المجمع وهو محمول على أنه لا يفني خمرهم والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر على الأجسام والثانية لبيان نفي الضرر على العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك وفاكهة مما يتخيرون
20
- أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه ولحم طير مما يشتهون
21
- مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة ينالها القائم والقاعد والنائم وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي من الطيور الجنة فيقع في يده ملقيا نضجا وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة
وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللخم وأجيب بأن ذلك والله تعالى أعلم حالة الإجتماع والشرب ويفعلون ذلك للإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والإحترام وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتنائا بشأنه وإظهارا لمحبته والأحتفال به وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب متقلدا سيفا ورمحا أو من بابه المعروف وتقديم الفاكهة على اللخم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإن الفاكهة أميل منه إلى اللحم وجوز أن يكون ذلك لأن عادة هل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا أو أقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا
ويعلم من الوجه الأول وجه تخيص التخير بالفاكهة والأشتهاء باللحم وفيه إشارة إلى أن الفاكهة
(27/137)
لم تزل حاضرة عندهم بمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه وقيل : وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التغعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وحور عين
22
- عطف على ولدان أو على الضمير المستكن في متكئين أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي هذا كل وحور أو مبتدأ حذف خبره أي لهم أو فيها حور وتعقب الوجه الأول بأن لا يناسب حالهن وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن وأن الطواف في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهن مقصورات فيها أو أن العطف على معنى لهم ولدان وحور والثاني بأنه خلاف الظاهر جدا والثالث بكثرة الحذف و عين جمع عيناء وأصله عين على فعل كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا وليس في كلام العرب ياءا ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة قبلها كسرة
وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة عن عاصم وحمزة والكسائي وحور عين بالجر وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياءا والضمة قبلها كسرة في حور فقال : وحير على الأتباع لعين وخرج على العطف على جنات النعيم وفيه مضاف محذوف كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الأستعارة المكنية وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة في فهي باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز وذهب إلى العطف المذكور الزمخشري وتعقبه أبو حيان فقال : فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض وهو فهم أعجمي وليس كما قال كما لا يخفى أو على أكواب ويجعل من باب متقلدا سفيا ورمحا كما سمعت آنفا فكأنه قيل : ينعمون بأكواب وبحور وجوز أن يبقي على ظاهره المعروف وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم وإلى هذا ذهب أبو عمر وقطرب وأبي ذلك صاحب الكشف فقال : أما العطف على الولدان على الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طواهم بالأكواب والقلب إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه وكون الجر للجوار يأباه الفصل أو يضعه وقرأ أبي وعبد الله وحورا عينا بالنصب وخرج على العطف على محل بأكواب لأن المعنى يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا كله وحورا وقرأ قتادة وحور بالرفع مضافا إلى عين وابن مقسم وحور بالنصب مضافا وعكرمة وحواء عيناء على التوحيد اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب كأمثال اللؤلؤ المكنون
23
- أي في الصفا وقيد بالمكنون أي المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير وفي الحديث صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ووصف الحسنات بذلك شائع في العرب ومنه قوله : قامت تراءى بين سجفي كلة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
(27/138)
أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد والجار والمجرور في موضع الصفة لحور أو الحال والإتيان بالكاف للمبالغة في التشبيه ولعل الأمر عليه نحو يد قمر جزاء بما كانوا يعملون
24
- مفعول له لفعل محذوف أي يفعل بهم ذلك جزاءا بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء لا يسمعون فيها لغوا لا يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى الغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل قبيح لغوا ولا تأثيما
25
- أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم تفسيره بالكذب وأخرجه هناد عن الضحاك وهو من المجاز كما لا يخفى والكلام من باب
ولا ترى الضب ينجحر
إلا قليلا أي قولا مصدر مثله سلاما سلاما
26
- بدل من قيلا كقوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما وقال الزجاج : هو صفة بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله والمراد لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده والمعنى إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما وقيل : هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما والتكرير للدلالة على فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام والأستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن يكون من الضرب الأول منه وهو أن يستثنى منصفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا داخلا فيما قبل فيفيد التأكيد من وجهيم وأن يكون من الضرب الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لا يقدر ذلك ويجعل الأستثناء من أصله منقطعا فيفيد التأكيد من وجه ولولا ذكر التأثيم على ما قاله السعد جاز جعل الأسنثناء متصلا حقيقة لأن معنى السلام الدعاء وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام ولو لا ما فيه من فائدة الإكرام وإنما منع التأثيم الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بألستثناء المتصل من الأول مثل أن تقول : ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر الرجل وقريء سلام سلام بالرفع على الحكاية وقوله تعالى : وأصحاب اليمين الخ شروع في بيان تفاصيل شؤنهم بعد بيان تفاصيل شئون السابقين وأصحاب مبتدأ وقوله : ما أصحاب اليمين
27
- جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا : إما للمبتدأ وقوله سبحانه : في سد مخضود خبر ثان له أو لمبتدأ محذوف أي هم في سدر والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله عز و جل : ما أصحاب اليمين من علو الشأن وإما معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه : في سدر وجوز أن تكون الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين : أولئك المقربون في جنات النعيم أي وأصحاب اليمين المقول فيهم ما أصحاب اليمين كائنون في سدر الخ والظاهر أن التعبير بالميمنة فيما مر وباليمين هنا للتفنن وكذا يقال في المشأمة والشمال فيما بعد وقال الإمام : الحكمة في ذلك أن في الميمنة وكذا المشأمة
(27/139)
دلالة على الموضع والمكان والأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم فلذا يؤت بذلك اللفظ ثانيا والسدر شجر النبق والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون إن الله تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال : وما هي قال : السدر فإن له شوكا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أليس الله يقول : في سدر مخضود خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك أنه الموقر حملا على أنه من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثني الأغصان كني به عن كثير الحمل
وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن أعظم من القلال والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والأنتفاع بما ذكر وطلح منضود قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر الموز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وأخرده جماعة من طرق عن ابن عباس رواه ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعبد بن حميد عن الحسن ومجاهد وقتادة وعن الحسن أنه قال : ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب وقال السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وقيل : هو شجر من عظام العضاه وقيل : شجر أم غيلان وله نوار كثير طيب الرائحة وظل ممدود ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وظاهر الآثار يقتضي أنه ظل الأشجار
أخرج أحمد والبخري ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم وظل ممدود
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عامة لا يقطعها وذلك الظل الممدود
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا وعن مجاهد أنه قال : هذا الظل من سدرها وطلحها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال : الظل الممدود مسيرة سبعين ألف سنة وماء مسكوب قال سفيان وغيره : جار من غير أخاديد وقيل : مناسب حيث شاءوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنواها أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال : كاننوا يعجبون بوج وظلاله من طلحه وسدره فأنزل الله تعالى : وأصحا اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود الخ وفي رواية عن الضحاك نظر السلمون إلى وج فأغجبهم سدره وقالوا : يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية
(27/140)
وقيل : كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة فيها مياه وأشجار زظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي وذكر الإمام مدعيا أنه مما وفق قوله تعالى : في سدر مخضود وطلح منضود من باب قوله سبحانه : رب المشرق والمغرب لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والطلح يعني الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين فيراد جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا بأس به وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وطلع بالعين بدل وطلح بالحاء وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد قال : قرأت على علي كرم الله تعالى وجهه وطلح منضود فقال : ما بال الطلح أما تقرأ وطلع ثم قرأ قوله تعالى : لها طلع نضيد فقيل له : يا امير المؤمنين انكحها من المصحف فقال : لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما نبه ذلك الطيبي وكيف يقر أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس أو كيف يظن بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو عغلوا عنه هذا والله تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان عظيم
ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي : حمل في سدر مخضود الخ على معنى التضليل وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي لأن الفواكه مستغنى عنها بعد وليقابل قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم قوله سبحانه : وأصحاب اليمين الخ فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به لكن قال صاحب الكشف : إن وصف الطلح بكونه منضودا لا يظهر له كثير ملاءمة لكون المقصود منفعة التظليل وينبغي أن يحمل الطلح على أنه من عظام العضاه على ما ذكره في الصحاح فشجر أم غيلان والموز لا ظل لهما يعتد به ثم قال ولو حمل الطلح على المشموم لكان وجها انتهى وقد قدمنا لك خبر سبب النزول فلا تغفل وفاكهة كثيرة أي بحسب الأنواع والأجناس على ما يقتضيه المقام
لا مقطوعة في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا ولا ممنوعة عمن يريد تناولها بوجه من الوجوه ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وقريء وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة بالرفع في الجميع على تقدير وهناك فاكهة الخ وفرش جمع فراش كسراج وسرج وقرأ أبو حيوة بسكون الراء مرفوعة منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وجماعة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام ولا تستبعد ذلك من حيث العروج والنزول ونحوهما فالعالم عالم آخر وراء طور عقلك
وأخرج هناد عن الحسن أن ارتفاعهما مسيرة ثمانين سنة وليس بمثابة الخبر السابقق وقال بعضهم : أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأيا ما كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليه وقال أبو عبيدة المراد بها النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهن في الأقدار والمنازل
وقيل : على الأرائك وأريد إرادة النساء بقوله تعالى : إنا أنشأنهن إنشاء
35
- لأن الضمير في الأغلب
(27/141)
يعود على مذكور متقدم وليس إلا الفرش ولا يناسب العود إليه إلا بهذا المعنى والأستخدام بعيد هنا وعلى القول في الفرش الضمير للنساء وإن لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها فهو تتميم بيانا لمقدر يدل على السياق كأنه قيل وفرش مرفوعة ونساء أو وحور عين ثم استؤنف وصفهن بقوله سبحانه : إنا انشأناهن تتميما للبيان زيادة للترغيب لا لتعليل الرفع وقيل : إن المرجع مضمر وتقدير المنزل وفرش مرفوعة لأزواجهم أو لنسائهم فإنا الخ استئناف علة للرفع أي وفرش مرفوعة لأزواجهم لأنا أنشأناهن والأول أوفق لبلاغة القرآن العظيم والمراد بأنشأناهن أعدنا إنشاءهن من غير ولادة لأن المخبر عنهن بذلك نساءكن في الدنيا
فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد والترمذي وآخرون عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في الآية إن المنشآت اللاتي كن في الدنيا عدائز عمشا رمصا وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وجماعة عن سلمة بن مثد الجعفي قال : سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاءا الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا وأخرج الترمذي في الشمائل وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال : أتت عجوز فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي قال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول : إنا أنشأناهن إنشاءا الخ وقال أبو حيان : الظاهر أن الإنشاء هو الأختراء الذي لم يسبق بخلق ويكون ذلك مخصوصا بالحور العين فالمعنى إنا ابتدأناهن ابتداءا جديدا من غير ولادة ولا خلق أول فجعلناهن أبكارا
36
- تفسير لما تقدم والجعل إما بمعنى التصيير و أبكارا مفعول ثان أو بمعنى الخلق و أبكارا حال أو مفعول ثان والكلام من قبيل ضيق فم الركبة وفي الحديث إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا أخرجه الطبراني في الصغير والبزاز عن أبي سعيد مرفوعا عربا متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر وروي هذا عن جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات ولا يخفى أن الغنج أسباب التحبب وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام وفي رواية عن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد هن العواشق لآزواجهن ومنه على ما قيل قول لبيد : وفي الخدور عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر وفي رواية أخرى عن مجاهد أنهن الغلمان اللاتي يشتهين أزواجهن وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا خير نسائكم العفيفة الغلمة وقال إسحاق بن عبد الله بن الحرث النوفلي : العروب الخفرة المبتذلة لزوجها وأنشد : يعرين عند بعولهن إذا خلو وإذا هم خرجوا فهن خفار ويرجع هذا إلى التحبب وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : عربا كلامهن عربي ولا أظن لهذه صحة والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر
وقرأ حمزة وجماعة منها عباس والأصمعي عن أبي عمرو وأخرى منها خارجة وكردم عن نافع وأخرى منها حماد وأبو بكر وأبان عن عاصم عربا بسكون الراء وهي لغة تميم وقال غير واحد : هي للتخفيف كما في عنق وعنق أترابا
37
- مستويات في سن واحد كما قال أنس وابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة
(27/142)
وقتادة وغيرهم كأنهن شبهن في التساوي بالترائب التي هي صلوع الصدر أو كأنهن وقعن معا على التراب أي الأرض وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن
وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين والمراد بذلك كمال الشباب وقوله تعالى : لأصحاب اليمين
38
- متعلق بأنشأنا أو بجعلنا وقيل : متعلق بأترابا كقولك فلان ترب لفلان أي مساوله فهو محتاج إلى التأويل وتعقب بأنه مع هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر وقيل : بمحذوف هو صفة لأبكارا أي كائنات لأصحاب اليمين وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير لطول العهد أو للتأكسد والتحقيق وقوله تعالى : ثلة من الأولين
39
- وثلة من الآخرين
40
- خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة أو خبر ثان لهم المقدر مبتدأ مع في سدر أو لأصحاب اليمين في قوله تعالى : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين أو مبتدأ خبره محذوف أي منهم أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه وجعل اللام بمعنى من كان في قوله :
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
لا يخفى حاله والأولون والآخرون المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم هذا ولم يقل سبحانه في حق أصحاب اليمين جزاءا بما كانوا يعملون كما قاله عز و جل في حق السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره ثم الظاهر أن ما ذمر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة ولا يمكن أن يقال : إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل والله تعالى أعلم
والكلام في قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال
41
- في سموم على نمط ما سلف في نظيره والسموم قال الراغب : الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم وفي الكشاف حر نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى : وحميم
42
- وهو الماء الشديد الحرارة وظل من يحموم
43
- أي دخان أسود كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن زيد والجمهور وهي على وزن يفعول وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم وتسميته ظلا على التشبيه التهكمي وعن ابن عباس أيضا أنه سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم وقال ابن كسيان : هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود بهيم نعوذ بالله تعالى منها وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا : هو جبل في النار أسود يفزع أهل النار ذراه فيجدونه أشد شيء والجار والمجرور في موضع الصفة لظل وكذا قوله سبحانه : لا بارد ولا كريم
44
- صفتان له وتقديم الصفة الجار والمجرور المفردو كما صرح به الرضيوغيره أي لا بارد كسائر الظلال ولا نافع لمن يأوى إليه من أذى الحر وذلك كرمه فهناك استعارة ونفي ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الأسترواح إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى : من يحموم والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للأثبات ومن ذلك جاء التهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون
(27/143)
أشجى لحلوقهم لتحسرهم وقيل : الكرم باعتبار أنه مرضي في بابه فالظل الكريم هو المرضي في برده وروحه وفيه أنه لا يلائم ما هنا لقوله تعالى : لا بارد وجوز أن يكون ذلك نفيا لكرامة من يستروح إليه ونسب إلى الظل مجازا والمراد أنهم يستظلون به وهم مهانون وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين ليحموم ويلزم منه وصف الظل بهما وتعقب وصف اليحموم وهو الدخان بذلك ليس فيه كبير فائدة وقرأ ابن أبي عبلة لا بارد ولا كريم برفعهما أي لا هو بارد ولا كريم على حد قوله
فأبيت لا حرج ولا محروم
أي لا أنا حرج ولا محروم وقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين
45
- تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب وسلك هذا المسلك في تعليل الأبتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك بصنع ما يشاء لا يمنع والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز و جل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل وقيل : هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والإذعان له والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله عز و جل وما جاء منه سبحانه وقيل : هو الذي اترفته النعمة أي أبطرته وأطغته وقريب منه ما بل : هو المنعم المنهمك في الشهوات وعليه قول أبي السعود أي أنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل ولا يرد هذا على ما قدمناه من القوليه كما لا يحغى
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصي عن الأعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذمر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله وقيل : 0 المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة وهو ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه وكانوا يصرون يتشددون ويمتنعون من الإقلاع ويداومون على الحنث أي الذنب العظيم
46
- وفسر بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالة في وصفه بالعظيم كما وصف الطود وهو الجبل العظيم به أيضا والمراد به كما روي عن قتادة والضحاك وابن زيد وهو الظاهر
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى وكانوا يصرون على حنث عظيم وفي رواية عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الإطلاق وقال التاج السبكي في طبقاته : سألت الشيخ يعني والده تقي الدين ما الحنث العظيم فقال : هو القسم على إنكار المشار إليه بقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى : وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما إلى آخره للزوم التكرار وأجيب بأن المراد بالأول
(27/144)
وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالتالي وصفا بالأستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده والمراد بقولهم : كنا ترابا وعظاما كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا وبعضها عظاما نخرة وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث وإذا متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى : ءنا لمبعوثون
47
- لامبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله وهو نبعث وهو المرجع للأنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيه إليه منافيه له بالكلية وهذا كالستدلال على ما يزعمونه وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحاية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد وقوله سبحانه : أو آباؤنا الأولون
48
- عطف على محل إن واسمها أو على الضمير المستتر في مبعوثون للفصل بالهمزة وإن كانت حرفا واحدا كما قال الزمخشري ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها وقولهم : الحرف إذا كرر للتأكيد فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم أطراده لورود
ولا للماء بهم أبدا دواء
وأمثاله وجوز أن يكون آباؤنا مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه الطعف المذكور والمعنى أيبعث آباؤنا على زيادة الأستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وابطل وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل
قل ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق إن الأولين والآخرين
49
- من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم وتقديم الأولين المبالغة في الرد حيث إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي لمجموعون بعد البعث وقريء لمجمعون إلى ميقات يوم معلوم
50
- وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند الله عز و جل والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما وإضافته إلى يوم بيانية كما في خاتم فضة وكون يوم القيامة ميقاتا لأنه وقت به الدنيا و إلى للغاية والأنتهاء وقيل : والمعنى لمجموعون منتهين إلى ذلك اليوم وقيل : ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها ثم إنكم أيها الضالون عطف على إن الأولين داخل في حيز القول و ثم للتراخي الزماني أو الرتبي المكذبون
51
- بالبعث أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولا أوليا للسياقث على ما قيل والخطاب لأهل مكة وأضرابهم لأكلون بعد البعث والجمع ودخول جهنم من شجر من زقوم
52
- من الأولى لبتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدءون للأكل من شجر هو زقوم وجوز كون الأولى تبعيضية و من الثانية على حالها وجوز كون من زقوم بدلا من قوله تعالى : من شجر فمن تحتمل الوجهين وقيل : الأولى زائدة وقرأ عبد الله من شجرة فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى : فمالئون منها البطون
53
- أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما
(27/145)
لا يؤكل وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه : فشاربوا عليه أي عقيب ذلك بلا ريث من الحميم
54
- أي الماء الحار في الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل وقال يعضهم : التأنيث أولا باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ فقيل عليه : إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المتعارف فلو أعيد الضمير المذكر على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى بحث ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول وقيل : هو مطلقا عائد على الأكل وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل
فشاربون شرب الهيم
55
- قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الأستسقاء يصيب الأبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال : جمل أهيم قال الشاعر : فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها وجعل بعضهم الهيم هنا الهيماء وقيل : هو جمع هائم أو هائمة وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ وعن ابن عباس أيضا وسفيان الهيم الرمان التي لا تروي من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خففت وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم الياء ويخف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه وقال ثعلب : هو بالضم كقرادة وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل : لأن الإفراط بعد الأصلي وقيل : لأن كلا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام يشرب غير الحميم والشرب الذي لا يحصل الري ناشيء عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية : إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم بالضم مصدر وقيل : اسم لما يشرب وقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما شرب بفتح الشين وهو مصدر شرب المقيس وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي هذا الذي من ألوان العذاب نزلهم يوم الدين
56
- يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى ونظير ذلك قوله : وكنا إذ الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول : وقوله تعالى :
(27/146)
نحن خلقناكم فلو لا تصدقون
57
- تلوين للخطاب وتوجيه إلى الكفر بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة نحن خلقناكم ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبيء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك وقيل : المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم أئنا لمبعوثون فيكون الكلام إشارة إلى الإستدلال بالأبداء على الإعادة فإن من قدر عليها حتما والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء الله تعالى أفرأيتم ما تمنون أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ ابن عباس وأبو الثمال تمنون بفتح التاء من مني النطقة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة ءأنتم تخلقونه أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام الخلقة فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو تجوزا وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي أأنتم تخلقونه وتنشئون نفس ذات ما تمنونه أم نحن الخالقون
59
- له من غير دخل شيء فيه وأرأيتم قد مر الكلام غير مرة فيه ويقال هنا : إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الأستفهامية مفعوله الثاني وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الأستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب وجوز في أنتم أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير واختاره أبو حيان و أم قيل : منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الأستفهام للتقرير وقال قوم من النحاة : متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل : أأنتم تخلقونه أم نحن ثم جيء بالخالقون بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة نحن قدرنا بينكم الموت قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة وقرأ ابن كثير قدرنا بالتخفيف وما نحن بمسبوقين
60
- أي لا يغلبنا أحد على أن نبدل أمثالكم أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز على الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل على لازمه والظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلى والجملة في موضع الحال من ضمير قدرنا وكأن المراد قدرنا ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم
وننشئكم في ما لا تعلمون
61
- من الخلق والأطوار التي لا تعدونها وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها وقيل : المعنى وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا وقيل : المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوثت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه وقوله تعالى : على أن نبدل الخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين
(27/147)
أو عازمين على تبديل أمثالكم والجملة السابقة على حالها وقال الطبري : على أن نبدل متعلق بقدرنا وعلة له وجملة وما نحن بمسبوقين اعتراض والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن ولقد علمتم النشأة الأولى من خلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وقال قتادة : هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده فلو لا تذكرون
62
- فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثاق وهذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل : لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذي بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة يسعى لدار الغرور
وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف أفرأيتم ما تحرثون
63
- ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه ءأنتم تزرعونه تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية أم نحن الزارعون
64
- أي المنبتون لا أنتم والكلام في أنتم و أم كما مر آنفا وأخرج البزاز وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه وابن حبان كما قال الخفاجي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى يقول : أفرأيتم ما تحدثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة و السلام أخذ النهي من هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع وقال القرطبي : إنه يستحب للزراع أن يقول بعد الأستعارة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزراع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين قيل : وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع وإنتاجه لو نشاء لجعلناه حطاما هشيما متكسرا لشدة يبسه بعدما أنبتناه وصار بحيث طعمتم في حيازة غلاله فظلمتم بسبب ذلك تفكهون
65
- تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقال الحسن : تندمون أي على ما تبعتم فيه وأنفقتم عليه من غير حصول نفع أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي وقال عكرمة : تلاومون على ما فعلتم وألأالتفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كني به في الآية عن التعجب أو الندم أو التلاوم على اختلاف التفاسير وفي البحر كل ذلك تفسير باللازم ومعنى تفكهون تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية العتكي عنه فظلتم بكسر الظاء كما قالوا : مست بالكسر ومست بالفتح وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش وقرأ عبد الله والجحدري فظللتم بلامين أولاهما مكسورة وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر وقرأ أبو حزام تفكنون بالنون بدل الهاء قال ابن خالويه : تفكه بالهاء تعجب وتفكن بالنون تندم إنا لمغرمون
66
- أي معذبون
(27/148)
مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر : إن يعذب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي والمراد مهلكون بهلاك رزقنا وقيل : بالمعاصي أو ملزمون غرامة بنقص رزقنا وقرأ الأعمش والجحدري وأبو بكر أئنا بالأستفهام والتحقيق والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين أو تقولون ذلك بل نحن محرومون
67
- محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق كأنهم لما قالوا إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا : بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا أو لما قالوا : إنا ملزومون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا : بل نحن محرومون الرزق بالكلية أفرءيتم الماء الذي تشربون
68
- عذبا فراتا وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشراب أهم المقاصد المنوطة به ءأنتم أنزلتموه من المزن أي السحاب واحدته مزنة قال الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها وقيل : هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب أم نحن المنزلون
69
- له بقدرتنا
لو نشاء جعلناه أجاجا ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار وقيل : الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار فإما أن يراد ذلك أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو ههنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى جاز حذف لم أر في قول أوس : حتى إذا الكلاب قال لها كاليوم مطلوبا ولا طلبا والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره وان الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا ولم أره أتى بما يشرح الصدر وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر : إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى
فلو لا تشكرون
70
- تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال : الحمد لله الذي سقانا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا أفرءيتم النار التي تورون
71
- أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ءأنتم أشأتم شجرتها التي منها الزناد وهي المرخ والعفار وقيل :
(27/149)
المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل : نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة
أم نحن المنشئون
72
- لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبيء عن بديع الصنع النعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل في كل شجر نار واستمجد المرخ والغفار كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى : ثم أنشأناه خلقا آخر لذلك نحن جعلناها تذكرة استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أعدوا به أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة صلى الله تعالى عليه وسلم ناركم هذه توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في ألول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك وقيل : تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج من النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده وقيل : تبصرة في الظلام يبصر بضوئها وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة ومتاعا ومنفعة للمقوين
73
- للذين ينزلون القواء وهي الفقر من أقوى دخل كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطربين إلى الأقتداح بالزناد
وقيل : للمقوين أي المسافرين ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون الفقراء والمفاوز وقيل : للمقوين الفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلحون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في الفقر الفقر فقيل : أقوى فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل وقال ابن زيد : للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا على ما قيل لأن غيرهم ينتعم بها متاعا وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسد خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ وقال عكرمة ومجاهد : الموقين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز قال العلامة الطيبي والطبرسي : وعلى هذا القول المقوى من الأضداد يقال للفقير : مقو لخلوه من المال وللغني مقوه لقوته على ما يريد يقال : أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى
وفيه بحث لا يخفى ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالأقواء الأحتياج والمستمتع محتاج إليها فتدبر وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النر لأن الأحتياج إليه أشد وأكثر والأنتفاع به أعم وأوفر وقال بعضهم : قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد ثم ذكر بعده ما به قوام الأنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغنى عند الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى واستحسن بعضهم من القاريء أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة : بل أنت يا رب فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن حجر المروي
(27/150)
قال : بت عند علي كرم الله تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون فقال : بل أنت يا رب ثلاثا وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين السماء فسبح باسم ربك العظيم
74
- مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز و جل وودائع نعمه سبحانه وتعالى والمراد على ما قيل : أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة و السلام غير معرض عنه وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث فالمراد تجديد التسبيح وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك أو الاسم مجاز عن الذكرفإن إطلاق الأسم للشيء ذكره والباء للإستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء والعظيم صفة للأسم أو للرب وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عز و جل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو للمنعم في الحقيقة أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها وسبحان للتعجب مجازا مشهور فسبح بمعنى تعجب وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر
هذا وجوز أن لا يكون في باسم ربك إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى : كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز و جل بالطريق الأولى وعلى طريق الكناية الرمزية وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء وجعلها زائدة خلاف الظاهر وحال كونها للتعدية قد سمعته وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغو معين فقال : إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في الاسم والذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه : فسبح باسم ربك على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو المتبادر المعروف
وفي الكشف إن المراد بذلك تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لاثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد : فلا أقسم وعلى الأول لا بد من إضمار أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به فأقسم أنه لقرآن والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح وأنا أقول يتأتى الأنطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس يقال : تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز و جل قال سبحانه : فسبح باسم ربك أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه وأقبل على إنذارهم بالقرآن الأحتجاج عليهم بعد الأحتجاج بما ذكرنا فأقسم أنه لقرآن كيت وكيت
(27/151)
فلا في قوله عز و جل : فلا أقسم مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله
أعوذ بالله من العقراب
واختاره أبو حيان ثمقال : هو وإن كان قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام
ويؤيد قراءة الحسن وعيسى فلا قسم وهو مبني على ما ذهب إليه تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال : والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر
ليعلم ربي أن بيتي واسع
وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للأستقبال وهو خلاف المراد والذي اختاره ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الأستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل : لأقسمن وحذفها ضعيف جدا ومن هنا خرجوا قراءة الحسن وعيسى على أن اللام لام الأبتداء والمبتدأ محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم وقيل : نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الأشباع وتعقب بأن المبتدأ إذا دخل عليه لام الأبتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الأعتناء به وحذفه يدل على خلافه وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة : لا نفي ورد لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل : فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل : أقسم الخ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم لا وخبرها في غير جواب سؤال نحو لا في جواب هل من رجل في الدار وقيل : الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واتئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو لا وأطال الله تعالى بقاءك وقال : بعضهم إن لا كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الأستفتاح كما في قوله : لا وأبيك ابنة العامري لا يدعى القوم إني أفر وقال أبو مسلم وجمع : إن الكلام على ظاهره المتبادر منه والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا يحتاج إلى قسم ما فضلا عن أن هذا القسم العظيم فقول مفتي الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخير ناشيء عن الغفلة على ما لا يخفى على ظن بمواقع النجوم
75
- أي بمساقط كواكب السماء ومغاربها كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر دائم رلا يتغير ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا أو لأن ذلك وقت المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى وأول نزول الرحمة والرضوان عليهم
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الإنكدار يوم القيامة قيل : وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز و جل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث وعن أبي جعفر وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الأنقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين وقد مر لك تحقيق أمر هذا الأنقضاض فلا تغفل وقيل : مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية
(27/152)
أنهم يمطرون بها ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء الله تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال : على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى من الدليل عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان وقال جماعة منهم ابن عباس : النجوم نجوى القرآن ومواقعها أوقات نزولها
وأخرج النسائي وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أن قال : أنزل القرآن في ليلة من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق السنين وفي لفظ ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أسم بمواقع النجوم وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد : إنه لقرآن يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعد كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى ولعل الكلام من باب
وثناياك إنها إغريض
وقرأ ابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي بموقع مفردا مرادا به الجمع
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
76
- مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى : إنه لقسم عظيم معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه : إنه لقرآن كريم
77
- وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له وقوله عز و جل لو تعلمون معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب لو إما متروك أريد به نفي علمهم أو حذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه ووجه كون ذلك القسم عظيما قد أشير إليه فيما مر أو هو ظاهر بناءا على أن المراد بمواقع النجوم ما روي عن ابن عباس والجماعة ومعنى كون القرآن كريما أنه حسن مرضي في جنسه كمن الكتب أو نفاع جم المنافع وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد والكرم على هذا مستعار كما قال الطيبي من الكرم المعروف
وقيل : الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والأتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه حقيقة وجوز أن يراد كريم على الله تعالى قيل : وهو يرجع لما تقدم وفيه تقدير من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل : إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الأخبار عنه بأنه تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا أنه أنشأه كما زعمه الكفار وقوله تعالى : في كتاب مكنون
78
- وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره وقيل : أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه إذ ذاك مصاحف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال : في كتاب أي التوراة والإنجيل وحكى ذلك في البحر ثم قال : كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه فالمعنى على الأستشهاد بالكتب المنزلة انتهى
والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل وجوز إرادة هذا المعنى المجازي
(27/153)
على غير هذا القول من الأقوال وقيل : الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى
وقيل : المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى : وإنا له لحافظون والمعول عليه ما تقدم وجوز تعلق الجار بكريم كما يقال زيد كريم في نفسه والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كرينا عند الكفار والوصفية أبلغ كما لا يخفى وقوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون
79
- إما صفة بعد صفة لكتاب مرادا به اللوح فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن مدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية وقيل : عن كدر الأجسام ودنس الهيلولي والطهارة عليهما طهارة معنوية ونفي مسه كناية عن لازمه وهو نفي الأطلاع عليه وعلى ما فيه وإما صفة أخرى لقرآن
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : المسلم أخو المسلم لا يظلمه الحديث وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل لا ناهية وثانيها أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل وثالثها أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس ورابعها أن عبد الله قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروي من عدة طرق عن ابن عباس وكذا أخرجه جماعة عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في لا يمسه مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال : في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس وأخرجاهما وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال : في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال : قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية لا يمسه إلا المطهرون أنها بمنزلة الآية التي في عبس كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروي عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام وعطاء وطاوس وسالم
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان يعني الفارسي رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن فقال : سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا لا يمسه إلا المطهرون وقيل : الجملة صفة لقرآن والمراد بالمطهرون المطهرون من الكفر والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى : إنا لمسنا السماء أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر ولم أر هذا عن أحد من السلف والنفي عليه على ظاهره ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون وإن كان في تعظيمه وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب وفيه نظر وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر
وفي الأحكام للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في
(27/154)
اختيار ذلك والأحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس وقتادة عدل الأكثرون عن الأستدلال بها على ذلك إلى الأستدلال بالأخبار فقد أخرج الإمام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمرو بن حزم ولا تمس القرآن إلا على طهور
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يمس القرآن إلا طاهر إلى غير ذلك وقال بعضهم : يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الأحتمالين الآخرين أيضا وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما والمس بغير طهرمخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله من راجعه نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الأعتناء بشأنه ولا ينحصر الأعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه
وقيل : حرام كالمس باليد المتنجسة وكون القراءة في مكان نظيف والقاريء مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه والأستياك لقراءته والترتيل والتدبر والبكاء أو التباكي وتحسين الصوت بالقراءة ولا يتخذه معيشة وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه فقد أخرج أبو داود وغيره عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آيو أوتيها رجل ثم نسيها وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل : بكفر من يفعل ذلك إلى أمور أخر مذكورة في محالها وفي وجوب كون القاريء طاهرا من الأحداث خلاف فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن وروي ذلك أيضا عن الإمام أبي حنيفة وعن عمر أحب إلى أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر
وقرأ عيسى المطهرون اسم مفعول مخففا من أطهر ورويت عن نافع وأبي عمرو وقرأ سلمان الفتارسي رضي الله تعالى عنه المطهرون بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي المطهرون أنفسهم أو غيرهم بالأستغفار لهم والإلهام وعنه أيضا المطهرون بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء ورويت عن الحسن وعبد الله بن عون وقريء المتطهرون على الأصل تنزيل من رب العالمين
80
- صفة أخرى للقرآن أي منزل أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل
وجوز كونه خبر محذوف أي هو تنزيل على الأستئناف وقريء تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا أفبهذا الحديث أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم أنتم مدهنون
81
- متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به وأصل الأدهان كما قيل : جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينا محسوسا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية ولذا تجوز به هنا التهاون أيضا لأن المتهاون بالأمر
(27/155)
لا يتصلب فيه وعن ابن عباس والزجاج مدهنون أي مكذبون وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أوللى والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه : وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل : أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جازمون وعلى الإصرار عليه عازمون ولا يخفى بعده وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى وتجعلون رزقكم شكركم أنكم تكذبون
82
- تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي وحسنه والضياء في المختارة وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إما إشارة منه عليه الصلاة و السلام إلى أن في الكلام مضافا مقدرا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان بمعنى شكره ونقل عن الكرماني أنه نقل في شرح البخاري أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله ما حكاه الهيثم وفي البحر وغيره أن عليا كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قرأ شكركم بدل رزقكم وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ علي كرم الله تعالى وجهه الواقعة في الفجر فقال : وتجعلون شكركم أنكم تكذبون فلما انصرف قال : إني قد عرفت أنه سيقول قائل لم قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا : أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى وتجعلون شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب
تحية بينهم ضرب وجيع
ومنه قول الراجز : وكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقء الأعين وأكثر الروايات أن قوله تعالى : وتجعلون الخ نزل في القائلين : مطرنا بنوء كذا من غير تعريض لما قبل
وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي عليه الصلاة و السلام : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا : هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج ابن حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلى الله عليه و سلم أن لا يحملوا من مائمة شيئا ثم ارتحلوا ونلوا منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام عليه الصلاة و السلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتم بالنفاق إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء بل قال ابن عطية : أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجودها جل جلاله
(27/156)
وقد صح ذكره مع الإيمان أخرج البخاري وسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما أقبل علينا فقال : هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : قال : ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي والآية على القول بنزولها في قائلي ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر وقيل : تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة
هذا وقيل : معنى الآية وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب
وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسابقه وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به ألسنة المقبولة وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه وذلك بأن يقال : إنه عز و جل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه : تنزيل من رب العالمين فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا
وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناءا على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز و جل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا : أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع اقتضاه الحال من التكذيب بالقثرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيا به لا ينتطح فيه كبشان وهذا لا تمحل فيه وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون تكذبون على معنى تكذبون بكونه أي المطر من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أنتم مدهنون أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم تجعلون موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من تكذبون أو من قوله سبحانه : أنتم مدهنون لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم وحال عطف تجعلون رزقكم أنكم تكذبون على ما قبله لا يخفى على نبيه فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم
(27/157)
وقرأ المفضل عن عاصم تكذبون بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه وحاشاه افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر : إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه وقوله تعالى : فلو لا إذا بلغت الحلقوم
83
- الخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى : نحن خلقناكم الخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت مبلكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم ولو لا للتخصيص بإظهار عجزهم و إذا ظرفية و الحلقوم مجرى الطعام وضمير بلغت للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى : يسألونك عن الروج قل الروح من أمر ربي جسم لطيف جدا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر
وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل : المراد ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل : فلو لا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن وأنتم أيها الخاسرون حول صاحبها حينئذ أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها تنظرون
84
- إلى ما يقاسيه من الغمرات وقيل : تنظرون حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك
وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ ونحن أقرب إليه أي المحتضر المفهوم من الكلام منكم والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للإطلاع والعلم وقال غير واحد : المراد القرب علما وقدره أي نحن أقرب إليه في كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدة من غير أن تقفوا عن كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المتسولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت ولكن لا تبصرون
85
- لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلهم بشؤننا وقد علمت أن الخطاب للكفار وقيل : لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الأستدراك من تنظرون والأبصار من البصر بالعين تجوز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب وقيل : أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز و جل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلو لا إن كنتم غير مدينين أي غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم ومنه قيل للعبد : مدين وللأمة مدينة قال الأخطل : ربت وربا في حجرها ابن مدينة تراه على مسحاته يتركل والكلام ناظر إلى قوله تعالى : نحن خلقناكم فلو لا تصدقون وقيل : هو من دان بمعنى انقاد وخضع وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم كما تدين تدان أي فلو لا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرا لإنكارهم البعث وليس بشيء ترجعونها أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي ترجعون تعلقها كما كان أولا
(27/158)
إن كنتم صادقين 87
في اعتقادكم عن خالقيته تعالى فإن عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على مذهبهم وفي البحر وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبديء المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء دونه عز و جل وترجعون المذكور هو العامل بإذا الظرفية في إذا بلغت الحلقوم وهو المحضض عليه بلو لا الأولى و لو لا الثانية تكرير للتأكيد و لو لا الأولى مع ما في حيزها دليل جواب الشرط الأول أعني إن كنتم غير مدينين والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له وقدم أحد الشرطين على ترجعونها للأهتمام والتقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الأعتقاد الباطل فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم وحاصل المعنى أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة وقوله تعالى : وأنتم حينئذ تنظرون جملة حالية من فاعل بلغت والأسمية المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذ لأن التنوين عوض عن جملة أي فلو لا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك وقوله سبحانه : ونحن أقرب الخ اعتراض يؤكد ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم سبحانه منهم وفي جواز جعله حالا مقال
وقال أبو البقاء : ترجعونها جواب لولا الأولى وأغنى ذلك عن جواب الثانية وقيل : عكس ذلك
وقيل : إن كنتم شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدما في التقدير أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان وما ذكرناه سابقا اختيار جار الله وأيا ما كان فقوله تعالى : فأما إن كان من المقربين
88
- إلى آخره شروع في بيان حال المتوفي بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة وضمير كان للمتوفي مما مر أي إن كان المتوفي الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم فروح أي فله روح على أنه مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه لأنه نكرة وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه روح أي استراحة والفاء واقعة في جواب أما قال بعض الأجلة : تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح الخ إن كان من المقربين فحذف مهما يكن من شيء وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء أما فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه : إن كان من المقربين لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول والفاء في فروح وأخويه جواب أما دون إن وقال أبو البقاء : جواب أما فروح وأما إن فاستغنى بجواب أما عن جوابها لأنه يحذف كثيرا وفي البحر أنه إذا اجتمع شرطان فالجواب للسابق منهما وجواب الثاني محذوف فالجواب ههنا لأما وهذا مذهب سيبويه
وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب إن وجواب أما محذوف وله قول آخر موافق لمذهب سيبويه
وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معا وقد أبطلنا المذهبين في شرح التسهيل انتهى والمشهور أنه لا بد من لصوق الأسم لأما وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية والذاهبون إلى الأول قالوا : هي بتقدير فأما المتوفي إن كان وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا إطراد الحكم ثم إن كون أما قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا يطرد في نحو أما قريشا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشا
(27/159)
فأنا أفضلها وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وآخرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ فروح بضم الراء وبه قرأ ابن عباس وقتادة ونوح القاري والضحاك والأشهب وشعيب وسليمان التيمي والربيع بن خثيم ومحمد بن علي وأبو عمران الجوني والكلبي وفياض وعبيد وعبد الوارث عن أبي عمرو ويعقوب ابن حسان وزيد ورويس عنه والحسن وقال : الروح الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم أو بسبب لحياته الدائمة فإطلاقه عليها من باب الأستعارة أو المجاز المرسل وروي هذا عن قتادة أيضا وقال ابن جني : معنى هذه القراءة يرجع إلى الروح فكأنه قيل : فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول : الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش وفسر بعضهم الروح بالفتح بالرحمة أيضا كما في قوله تعالى : ولا تيأسوا من روح الله وقيل : هو بالضم البقاء وريحان أي ورزق كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك في رواية أخرى عن الضحاك أنه الأستراحة وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال : هو هذا الريحان أي المعروف
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة ثم قرأ فأما إن كان الخ
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة فيشمهما ثم يقبض وجنت نعيم
89
- أي ذات تنعم فالإضافة لامية أو لأدنى ملابسة وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه أن يكونوا أصحاب نعيم
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان : هذا له عند الموت وفي قوله تعالى : وجنة نعيم تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا وعن بعض السلف ما يقتضي أن يكون الكل في الآخرة
وأمآ إن كان من أصحاب اليمين
90
- عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبيء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين وقوله تعالى : فسلام لك من أصحاب اليمين
91
- قيل : هو على تقدير القول أي فيقال لذلك المتوفي منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع تقدير القول من للأبتداء كما تقول سلام من فلان على فلان وسلام لفلان منه
وقال الطبري : معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين فمن أصحاب اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام بتقدير القول أيضا وكأن هذا التفسير مأخوذ من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك : تأتيه الملائكة من قبل الله تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت وأنه على المعنى السابق في الجنة
وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم وهذا كما تقول لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ البال من ولدك فإنه في راحة ودعة والخطاب لمن يصلح له أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه قيل : يجوز أن يكون
(27/160)
ذلك تسلية له عليه الصلاة و السلام على معنى أنهم غير محتاجين إلى شفاعة وغيرها ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح الآيات أنهم كفال وما لهم من ولي ولا شفيع يطاع وكونهم من أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسما على حدة قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف
وأما إن كان من المعذبين الضآلين
92
- وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ذما لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب هنا على عكس ما تقدم ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلى الله عليه و سلم في دعوى الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة و السلام بأن يشافه بكل جملة منه من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة و السلام المشعر بسبب الأبتلاء بالعذاب كرامة له صلى الله عليه و سلم وتنويها بعلو شأنه ولما كان الكلام السابق داخلا في حيز القول المأمور عليه الصلاة و السلام بأن يشافه به أولئك الكفرة لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذ من باب مادح نفسه يقرئك السلام ويجوز أن يقال أيضا إن الكلام في حال الكافر المحتضر والتكذيب لكونه مقابل التصديق إلا بالقلب وهو لم يتعطل منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدن هنا ويرشد إلى هذا ما قالوه في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء والإيمان بالإماتة
وقال الإمام في ذلك : إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل الله تعالى ولم يصلوا إليه ثم كذبوا رسله وقالوا أئذا متنا الخ فكذبوا بالحشر فقال تعالى : أيها الضالون الذين أشركتم المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون وأما هنا فقال سبحانه لهم : أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هناك مع الكفار فقال سبحانه : أيها الذين أشركتم أولا وكذبتم ثانيا والخطاب هنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يبين له عليه الصلاة و السلام حال الأزواج الثلاثة كما يدل عليه فسلام لك فقال سبحانه : المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلامة وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى وعليه بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال وقوله تعالى : فنزل بتقدير فله نزل أو فجزاؤه نزل كائن من حميم قيل : يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل وتصلية جحيم
94
- أي إدخال في النار وقيل : إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة وقيل : هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : لا يخرج
(27/161)
الكافر حتى يشرب كأسا من حميم وقرأ أحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو وتصلية بالجر عطفا على حميم إن هذا أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لو حق اليقين
95
- اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى لهو عين اليقين فهو على محو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم وقال بعض آخر : إنها بيانية على معنى من وقدر بعضهم هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه وفي البحر قيل : إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر والفاء في قوله تعالى : فسبح باسم ربك العظيم
96
- لترتيب التسبيح أو الأمر به فإن حقيقة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسبح باسم ربك العظيم قال : اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال : اجعلوها في سجودكم
ومما قاله السادة أرباب الإشارة متعلقا ببعض هذه السورة الكريمة أن الواقعة اسم لقيامة الروح كما أن الآزفة اسم لقيامة الخفى و الحاقة اسم لقيامة السر و الساعة اسم لقيامة القلب وقالوا : إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوي قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك فليس لوقعتها كاذبة بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ثم أنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس وقالوا في مواقع النجوم : إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية وقيل : في قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات وهو الحدث الأصغر ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات وهو الحدث الأكبر أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي لمن لم يكن طاههر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة وقيل : أيضا يجوز أن يقال المعنى
(27/162)
لا يصل إلى أدنى حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات
وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب الكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام وكان المعنى لا يطلع عليه إلى الملائكة عليهم السلام كان في ذلك رد على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه وقال لهم : إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ
وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير وبكل من ذلك نطقت الآثار وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح ومع هذا كله من ادعى وقوع الأطلاع فعليه البيان وأني به وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وأما إذا قيل فيه غير ذلك أنجر البحث إلى وراء ما سمعت واتسعت الدائرة
ومن ذلك قولهم : إن الألواح أربعة لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول ولوح القدر أي لوح النفس النطاقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقدراه وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ولوح الهيولي القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله : وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكرامتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك وطرق اطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإرادته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع وورود ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين والله تعالى أعلم
وقال في قوله تعالى : ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان وقيل : مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار وقيل : طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا استقر وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين وقيل : علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الأخلاص فيها وحق اليقين المشاهدة فيها وقيل : وقيل : ونحن نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل
(27/163)
سورة الحديد
أخرج جماعة عن ابن عبس أنها نزلت بالمدينة وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجمع المفسرين ولم يسلم له فقد قال قوم : إنها مكية نعم الجمهور كما قال ابن الفرس على ذلك
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا ويشهد لها ما أخرجه البزاز في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فأسلم ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا ويسن أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلا أربع سنين وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة
ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف وهي تسع وعشرون آية في العراقي وثمان وعشرون في غيره ووجه اتصالها بالواقعة أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمرية وكان أولها واقعا موقع العلة للأمرية فكأنه قيل : سبح باسم ربك العظيم لأنه سبح له ما في السماوات والأرض وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات والأرض التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما وحيث أسند ههنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها قال الجمهور : المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص وذهب بعض إلى أن التسبيح حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل وقد صرح به جمع الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قلي وإن تفاوت الأمر وقيل : معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى
(27/164)
عموم المجاز وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها في قول الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد سبحان ما سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى والظاهر أنها في الوجهين موصولة وقال بعضهم : إنها نكرة موصوفة وأن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت صفتها مقامها ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى
وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى : وتسبحوه للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له وقيل : للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه وفيه شيء لا يخفى وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجير أه وديدنه و أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الأستمرار إلى زمان الأخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضى للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غب تسبيح وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك وقيل : الإيذان والدلالة على الأستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل على الأستمرار إلى زمان الأخبار والمضارع على الأستمرار في الحال والأستقبال فشملا معا جميع الأزمنة وقال الطيبي : افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب عن جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وإن من شيء إلا يسبح بحمده وهو العزيز القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء الحكيم
1
- الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم وكذا قوله تعالى : له ملك السماوات والأرض أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات وقوله سبحانه : يحيي ويميت أي يفعل الأحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال وقوله تعالى : وهو على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة قدير
2
- مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله هو الأول السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات والآخر الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية
ومن هنا قال ابن سينا : الممكن في حد ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض
(27/165)
الموجودات الممكنة لا تفي كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حد ذاتها أمر لا ينفك عنها و وقد يقال : فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير وقيل : هو الأول الذي تبتدي منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها والآخر الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى إليه المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة وقيل : الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل : ما رأيت إلا رأيت الله تعالى بعده وقال حجة الإسلام الغزالي : إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولا وآخرا جميعا بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود لاحظت سلسلة الموجودات المترتبة فالله تعالى بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود منه سبحانه وأما هو عز و جل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو ةخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخرا انتهى
والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم
والظاهر أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر والباطن بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول وقال حجة الإسلام : هذان الوصفان من المضافان فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالأستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري ثم قال : إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال : إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا
(27/166)
وأبدا وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى وهو حسن فلا تغفل
وعليه فالتذليل بقوله تعالى : وهو بكل شيء عليم
3
- لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه وجل كما في الشاهد وقال الأزهري : قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العالم لما ظهر وبطن وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى : لا شرقية ولا غربية أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قولهم ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة لكن قيل : في الآثار ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر
أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها : قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أقض عنا الدين وأغننا من الفقر وقال الطيبي : المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والإستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه يلتجيء إليه ملتجيء وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك وأيضا في دلالة الباطن على ما قال : خفاء جدا على أنه للو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فإن الخبر صحيح وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجه ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلى الله عليه و سلم من أسائه تعالى غير ما في الآية ويحتمل أنه عليه الصلاة و السلام أراد بقوله : فليس دونك شيء ليس أقرب منك شيء ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال : بلغنا في قوله تعالى : هو الأول الخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عره والذي يترجح عندي ما ذكر أولا وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه : هو الأول الخ لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر أو ظاهر أو باطن فإذا كان الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن لا غيره كان كل ما يتصور موجودا هو سبحانه لا غيره وأيدوه بما في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله قال أبو هريرة ثم قرأ النبي صلى الله عليه و سلم هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه وقد قال الترمذي : فسر أهل العلم
(27/167)
الحديث فقالوا : أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة و السلام على ما قبله وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك : وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول الآية
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش بيان لبعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره ومرارا يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها مر بيانه في سور سبأ وهو معكم أين ما كنتم تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا وقيل : المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة وقد أول السلف هذه الآية بذلك أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها : عالم بكم أينما كنتم
وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال : علمه معكم وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى
وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا تؤول إلا ما أوله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أولوا أولنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأوسيل غيره وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى : ثم استوى على العرش ويسخرون من القرآن الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق
والله بما تعملون بصير
4
- عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم وقيل : إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز و جل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه وقوله تعالى : له ملك السماوات والأرض تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة : وإلى الله ترجع الأمور
5
- أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج ترجع مبنيا للفاعل من رجع رجوعا وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل مر تفسيره مرارا وقوله تعالى : وهو عليم أي مبالغ في العلم بذات الصدور
6
- أي بمكنوناتها
(27/168)
اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها وجوز أن يراد بذات الصدور نفسها وحقيقتها على الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه أي حعلكم سبحانه خلفاء عنه عز و جل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصارف هان عليه الأنفاق أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم وفيه أيضا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه أنه لا يدوم لغيره فيسهل إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان وفي الحديث يقول ابن آدم : ما لي ما لي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى : له ملك السماوات والأرض وعليه ما حكى أنه قيل لأعرابي : لمن هذه الإبل فقال : هي لله تعالى عندي ويميل إليه قول القائل : وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل فالذين آمنوا منكم وأنفقوا حسبما أمروا به لهم بسبب ذلك أجر كبير
7
- وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة إسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا وأعيد ذكر الإيمان والأنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير ووصف بالكبير وقوله عز و جل : وما لكم لا تؤمنون بالله استئناف قيل : مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الأستقرار أي أي شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط ونظيره قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد يتوجه الإنكار والنفي مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى : وما لي لا أعبد الخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه وقوله تعالى : والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم حال من ضمير لا تؤمنون مفيدة على ما قيل : لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه ولام لتؤمنوا صلة يدعو وهو يتعدى بها وبإلى أي وأي عذر في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه وجوز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه : وقد أخذ ميثاقكم حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير تؤمنون والتخالف بالإسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية
(27/169)
والتمكين من النظير فقوله تعالى : والرسول يدعوكم إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي
وقال البغوي : هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا وعليه لا مجاز والأول اختيار الزمخشري وتعقبه ابن المنير فقال : لا عليه أن يحمل على العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع ووجب الإيمان به وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفي أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا لألزامهم الإيمان به وقال الطيبي : يمكن أن يقال إن الضمير في أخذ إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي الخ لأن المعنى فإما يأتينكم مني هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم ويدل على الأول قوله سبحانه : والرسول يدعوكم لتؤمنوا وعلى الثاني هو الذي ينزل على عبده آيات الخ وإن كان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد ولعل الميثاق ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت با يعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى
ويضعف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه
والخطاب قال صاحب الكشف : عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعد الإنفاق في سبيله
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه وما لكم لا تؤمنون الخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه : إن آمنوا كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزمن استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه ما فيه ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده : أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل وقريء وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله وقرأ أبو عمرو وقد أخذ ميثاقكم بالبناء للمفعول ورفع ميثاقكم إن كنتم مؤمنين
8
- شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه وقال الواحدي : أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان بأن وظهر لكم على يدي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى : وما لكم لا تؤمنون وقال الطبري
(27/170)
في ذلك : المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن وقيل : المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة و السلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن وقيل المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة والكل كما ترى
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي وقال في هذا الشرط : يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل على ما بعد هو الذي ينزل على عبده حسبما يعن لكم من المصالح آيات بينات واضحات والظاهر أن المراد بها آيات القرآن وقيل : المعجزات ليخرجكم أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وقريء في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف
وقرأ الحسن بالوجهين وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا وإن الله بكم لرؤف رحيم
9
- مبالغ الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه وقريء في السبعة لرؤوف بواوين وقوله عز و جل : وما لكم ألا تنفقوا توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار و أن مصدرية لا زائدة كما قيل واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر فالمصدر المؤل في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى : في سبيل الله لتشديد التوبيخ والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الإستعارة التصريحية أي أب شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز و جل من المصارف أو ما انتقل إليكم من غيركم وسبنتقل منكم إلى الغير ولله ميراث السماوات والأرض أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقي لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف
وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز و جل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل : وما لكم في ترك إنفاقها في سبيل الله تعالى والحال أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز و جل وإظهار الأسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة وقوله تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل
(27/171)
وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الإنفاق أصلا وقسيم من أنفق محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد وهو المشهور فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاءا وقال الشعبي : هو فتح الحديبية وقد مروجه تسميته فتحا في سورة الفتح وفي بعض الآثار ما يدل عليه
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاءا ابن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة و السلام : يوشك أن يأتي يوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا : من هم يا رسول الله أقريش قال : لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله قال : لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن فصل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح الآية
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما قبل بغير من أولئك إشارة لى من أنفق والجمع بالنظر إلى معنى من كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم ومحله الرفع على الإبتداء والخبر قوله تعالى : أعظم درجة أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا
من الذين أنفقوا من بعد بعد الفتح وقاتلوا وذهب بعضهم إلى أن فاعل لا يستوي ضمير يعود على الإنفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده و من أنفق مبتدأ وجملة أولئك أعظم خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والإنفاق بعده وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكأن ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند الله وأعظم رغبة فيه ولا كذلك الذين أنفقوا بعد وكلا أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط وعد الله الحسنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة وقيل : أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا وقرأ ابن عامر وعبد الوارث وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله : وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدأ وقالوا : لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوبون بهذه القراءة وقول بعضهم : فيها إن كل خبر مبتدأ تقديره وأولئك كل وجملة وعد الله صفة كل تأويل ركيك وفيه زيادة حذف على أن بعض النحاة منع وصف كل بالجملة لأنه معرفة بتقدير وكلهم وقال الشهاب : الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر
(27/172)
في غي كل وما ضاهاها في الأفتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه إجماع وهو محل نزاع
والله بما تعملون خبير
10
- عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناءا على الخلاف السابق والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم فلذلك قال : أولئك ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك نعم هو أكمل الإراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ما له وبذل نفسه معه عليه الصلاة و السلام ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس أحد أمن على بصحبته من أبي بكر وذلك يكفي لنزولها فيه وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه قال الطيبي : الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ أحدهم ولا نصيفه وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا الآية وإلا فقد قيل : إن الخطاب يقتضي الحظور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة
وأقول شاع الأستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناءا على ما قالوا : إن إضافة الجمع تفيد الأستغراق وعليه صاحب الكشف واستشكل أمر الخطاب وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حد خطاب الله تعالى الأزلي لكن في بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة
أخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن ابن عوف : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل قال الجلال المحلي : كون الخطاب في لا تسبوا للصحابة السابين وقال : نزلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر وقوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالإستفهام ليس على حقيقته بل للحث والقرض الحسن الإنفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات أن يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء وأن يكون المرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى : وأن يكتم ذلك وأن لا يتبعه بالمن
(27/173)
والأذى وأن يقصد به وجه الله تعالى وأن يستحقر ما يعطي و إن كثر وأن يكون من أحب أمواله إليه وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحملة إلى بيته ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر
وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ما له في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه فيضاعفه له فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله
وله أجر كريم
11
- أي وذلك الأجر المضموم إليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حالية لا عطف على فيضاعفه وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الأضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر ونصب بضاعفه على جواب الأستفهام بحسب المعنى كأنه قيل : أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك : من جاءك اليوم إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغةفي الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مستقبل وعلى هذا يؤل كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع وقرأ غير واحد فيضاعفه بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقوع وهو إما عطف على يقرض أو على فهو يضاعفه وقريء فيضعفه بالرفع والنصب يوم نرى المؤمنين والمؤمنات ظرف لما تعلق به أوله أو لقوله تعالى : فيضاعفه أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله عز و جل : يسعى نورهم حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار وإليه ذهب الجمهور والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا
بين أيديهم وبأيمانهم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط وقال بعضهم : يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم وفي البحر الظاهر أن النور قسمان : نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها ونور بأيمانهم يضيء ما خواليهم من الجهات وقال الجمهور : إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك وقيل : الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم وذكر الأيمان لشرفها انتهى ويشهد لهذا المعنى
(27/174)
ما أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي من خلفي وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل : يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك قال : غر محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم الخبر وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو في العموم وكذا ما أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز و جل إلى الجنة ولا ينافي هذا كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى وكذا إيتاء الكتب بالإيمان ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى
ويمكن أن يقال : إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الأمتياز وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها وقيل : أريد بالنور القرآن وقال الضحاك : النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة وبإيمانهم بكسر الهمزة وخرج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني بين أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك العتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى : بشريكم اليوم جنات أي بسبب إيمانهم يقال لهم ذلك وجملة القول إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم والقائل الملائكة الذين يتلقونهم
والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات وما قيل : البشارة لا تكون بالأعياء فيه نظر وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عن عين الدخول وجملة قوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار في موضع الصفة لجنات وقوله سبحانه : خالدين فيها حال من جنات قال أبو حيان : وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في بشراكم إلى ضمير الغائب في خالدين ولو أجري على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها : ذلك هو الفوز العظيم
12
- يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات ويحتمل أن يكون الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل وقريء ذلك الفوز بدون هو
(27/175)
يوم يقول المنافقون والمنافقات بدل من يوم ترى وجوز أن يكون معمولا لا ذكر
وقال ابن عطية : يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل : إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضادة أبدع وأفخم وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقديره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو وصفه وهو العظيم لجاز أي الفوز الذي عظم أي قدره يوم انتهى وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر للذين آمنوا انظرونا أي انتظرونا نقتبس من نوركم نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به
وقيل : فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتي ذلك فقالوه وأصل الأقتباس طلب القبس أي الجذرة من النار وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس الخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على حذف ذلك خلاف الظاهر وقولهم : للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها وروي أنه يكون ذلك على الصراط
وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه عباده وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم وقال المؤمنون : أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا
وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة ييجمع الله تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتي الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله تعالى نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم اللمؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون : أنظرونا نقتبس من نوركم الخبر والأخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه
وقرأ زيد بن علي وأبو وثاب والأعمش وطلحة وحمزة أنظرونا بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الإمهال يقال أنظر المديون أي أمهله وضع أنظرونا بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الإستعارة بعد سبق تشبيه الحالة مبالغة في العجز وإظهار الأفتقار وقيل : هو من أنظر أي أخر والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم
وقال المهدوي : أنظرونا وأنظرونا وهما من الإنتظار تقول العرب : أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى أمهلونا قيل القائلون على ما روي عن ابن عباس المؤمنون وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم السلام
ارجعوا وراءكم قال ابن عباس : أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة فالتمسوا نورا هناك قال مقاتل : هذا من الأستهزاء بهم كما استهزءوا بالمؤمنين
(27/176)
في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين وذلك قوله تعالى : الله يستهزيء بهم أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا وقال أبو أمامة : يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه : يخادعون الله وهو خادعهم وقيل : المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الأقتباس منه والغوض التهكم والأستهزاء أيضا
وقيل : أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لا رجعوا
وقيل : لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل : ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع مكانا أوسع لك فضرب بينهم أي بين الفريقين وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير فضرب مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عز و جل بسور أي بحاجز قال ابن زيد : هو الأعراف وقال غير واحد : حاجز غيره والباء مزيدة له باب باطنه أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة فيه الرحمة الثواب والنعيم الذي لا يكتنه وظاهره الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار من قبله أي من جهته العذاب
13
- وهذا السور قيل : يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس
أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال : وقد تلا قوله تعالى : فضرب بينهم بسور هذا موضع السور عند وادي جهنم وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن فضرب بينهم بسور هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمو المسجد وظاهره من قبله العذاب يعني وادي جهنم وما يليه
وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل : ما يبكيك فقال : ههنا أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله فإن صح الخبر لم يسعنا الإيمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال : ولعله لا يصح عنهم ينادونهم استئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب فقيل : ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات ألم نكن في الدنيا معكم يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر قالوا بلى كنتم معنا كما تقولون ولكنكم فتنتم أنفسكم محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وتربصتم بالمؤمنين الدوائر وأبصرتم وشككتم في أمور الدين وغرتكم الأماني الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام
(27/177)
وقال ابن عباس : فتنتم أنفسكم بالشهوات واللذات وتربصتم بالتوبة وارتبتم قال محبوب الليئي : شككتم في الله وغرتكم الأماني طول الآمال وقال أبو سنان : قلتم سيغفر لنا حتى جاء أمر الله أي الموت وغركم بالله الغرور الشيطان قال لكم : إن الله عفو كريم لا يعذبكم
وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله تعالى في النار
وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم قال ابن جني : وهو كقوله : وغركم بالله تعالى الأغترار وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله تعالى سلامة الأغترار ومعناه سلامتكم منه اغتراركم
فاليوم لا يؤخذ منكم أيها المنافقون فدية فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا وفيه حجة على من منع ذلك وقرأ أبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ بالتاء الفوقية ولا من الذين كفروا أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين ثم الظاهر إن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد وفي الحديث إن الله تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار فيقول : نعم يا رب فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك مأواكم النار محل أويكم هو مولاكم أي ناصركم من باب تحية بينهم ضرب وجيع والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب ونحوه قولهم : أصيب بكذا فاستنصر الجزع ومنه قوله تعالى : يغاثوا بماء كالمهل وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة : أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد : فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف قال الزمخشري : وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل : هو مئنة للكرام أي مكان لقول القائل : إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من أن التحقيقية وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال : هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعلى مولاه على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال : أحد معاني المولى الأولى
وحمله في الخبر عليه لأنه إرادة غيره يجعل الأخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق
(27/178)
فهو لا يرد الأستدلال إذ يكفي للمرتضي أن يقول : المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما ففي رده الأستدلال أيضا تردد وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو وهو لم يبينه والحق أنه لو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الأستدلال بالخبر على الأمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم الله تعالى وجهه لما بين في موضعه وفي التحفة الأنثى عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق
وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام : إن المولى بمعنى موضع الولي وهنو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه وأنت تعلم أن الأخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه ورضوانه على التهكم بهم وقيل : أي متوليكم أي المتصرفة فيكم كمتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للأحراق والتعذيب وقيل : مشاكلة تقديرية وبئس المصير
15
- أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر عن الأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت ألم يأن الآية
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : ألم يأن الآية وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن
وأخرج عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال : أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكمم وقد نزل في ضحككم آية ألم يأن للذين الخ قالوا : يا رسول الله فما كفارة ذلك قال : تبكون بقدر ما ضحكتم وفي خبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة و السلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث و يأن مضارع أني الأمر أنيا وأناءا وإناءا بالكسر إذا جاء أناه أي وقته أي ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز و جل
وقرأ الحسن وأبو السمال ألما بالهمزة ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع
(27/179)
وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق وقال أبو العباس : قال قوم : إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وما نزل من الحق أي القرآن وهو عطف على ما ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو
هو الملك القرم وابن الهمام
فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى وقال الطيبي : يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الخق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : تلك السكينة تنزل للقرآن
وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو للقرآن انتهى ولا يخفى بعد ذلك جدا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن ولما يخس مما بعد من نوع تأييد له وفسر الخشوع للقرآن بالأنقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور والظاهر أنه اعتبر كون صلة الخشوع وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعون إلى الطاعة على أكمل وجوهها وفي الآية حض على الخشوع وكأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال : بلى يا رب بلى يا رب وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرءون من القرآن أقل مما تقرؤن فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق وروي السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت : ما هذا فقالوا : كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت : ما هي فقيل : قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول : أما آن للهجران أن يتصرما وللغصن غصن البان أن يتبسما وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما كتبت بماء الشوق بين جوانحي كتابا حكى نقش الوشي المنمنما ثم قال : إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاءا شديدا فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه : أقيلوني فلست بخيركم وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهر وردي قدس سره : معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغر به حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين : إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه وقرأ غير واحد
(27/180)
من السبعة وما نزل بالتشديد والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه نزل مبنيا للمفعول مشددا وعبد الله أنزل بهمزة النقل مبنيا للفاعل
ولا يكونوا كالذين أوتواالكتاب من قبل لا نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع
وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو المعنى نهي أيضا وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوبي وحمزة في رواية عن سليم عنه ولا تكونوا بالتاء الفوقية على سبيل الألتفات للأعتناء بالتحذير وفي لا ما تقدم والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة
فطال عليهم الأمد أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم وقيل : أمد انتظار القيامة والجزاء وقيل : أمد انتظار الفتح وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية وقرأ ابن كثير في رواية الأمد بتشديد الدال أي الوقت الأطول فقست قلوبهم صلبت فهي كالحجارة أو أشد قسوة وكثير منهم فاسقون
16
- خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى وعن عيسى عليه السلام لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسوا قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز و جل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز و جل : إعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لأحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قد بينا لكم الآيات التي من جملتها هذه الآيات لعلكم تعقلون
17
- كي تعقلوا ما فيهاوتعلموا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين
إن المصدقين والمصدقات أي المتصدقين والمتصدقات وقد قرأ أبي كذلك وقرأ ابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز و جل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى : وأقرضوا الله قرضا حسنا وقيل : الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصدق وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته وعطف أقرضوا على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل : إن الذين أصدقوا أو صدقوا على القراءتين وأقرضوا
(27/181)
وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة صلة بأجنبي وهو المصدقات وذلك لا يجوز وقال صاحب التقريب : هو محمول على المعنى كأنه قيل : إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل : إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة وفيه بعد ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر ومن هنا قيل : إنه قريب ولا يبعد تنزيل ما تقدم عن أبي علي والزمخشري عليه وقيل : العطف على صلة أل في المصدقات واختلاف الضمائر أنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذين عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى ومثله ما قيل : هو من باب كل رجل وضيعته إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة أو يقدر خبر أي إن المصدقين والمصدقات يفلحون وأقرضوا في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاعف بعد صفة قرضاأو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين واختر أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل : والذين أقرضوا فيكون مثل قوله : فمن يهجر رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه قال : وأقرب منه أن يقال : إن المصدقات منصوب على التخصيص كأنه قيل : إن المتصدقين عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول : إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا
ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالىأقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل ثم قال : ولما لم يكن األأقراض غير ذلك التصدق قيل : وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه ولو قيل : والمقرضين لفاتت النكتة انتهى
ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر وأما ما ذكره في نكتة العدول على المقروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي والزمخشري وعلى تخريج أبي حيان وقال الخفاجي : القول أي قول أبي البقاء بأن أقرضوا الخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر يضاعف لهم الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا والجار والمجرور نائب الفاعل وقيل : هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وقريء بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز و جل لهم ثواب ذلك ولهم أجر كريم
18
- قد مر الكلام فيه
والذين آمنوا بالله ورسله قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى : أولئك مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا وقوله سبحانه :
(27/182)
هم مبتدأ ثالث وقوله عز و جل : الصديقون والشهداء خبر الثالث والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني وقوله تعالى : عند ربهم متعلق على ما قيل : بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز و جل وفي حكمه سبحانه هم الصديقون والشهداء
والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله تعالى شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة وقيل : لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده وقيل : لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة وقيل : غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمنى مفعول على اختلاف التأويل وقوله عالى : لهم أجرهم ونورهم خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر أو لهم الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير لهم للموصول والضميران الأخيران للصديقين والشهداء والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الأتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل : أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور والموعودان لهم وقال بعضهم : وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس فعند ربهم متعلق بالشهداء والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز و جل أو نحو ذلك ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن مؤمنين أمتي شهداء ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده : كلكم صديق وشهيد قيل له : ما تقول يا أبا هريرة قال : اقرءوا والذين آمنوا بالله ورسله الآية وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية وأخرج عبد بن حميد ونحوه عن عمرو بن ميمون وأخرج ابن حبان عن عمرو ابن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا قال : من الصديقين والشهداء وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كمال في ذلك يعتد به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتد بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا
(27/183)
ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه مالكم إذا رأيتم الله تعالى عنه مالكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه قالوا : نخاف لسانه قال : ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء وقال ابن الأثير : أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جلة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبيائها وكذا بقوله عليه الصلاة و السلام : اللعانون لا يكونون شهداء بناءا على أحد القولين فيه
وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية والذين آمنوا بالله ورسله أولئك الصديقون والشهداء ثم قال هذه فيهم ثم قال : الفرارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابم مريم في درجته في الجنة ويجوز أن يراد من قوله : هذه فيهم أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا ويقال : في قوله عليه الصلاة و السلام : مع عيسى في درجته المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى وقيل : الشهداء مبتدأ و عند ربهم خبره وقيل : الخبر لهم أجرهم والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى : الصديقون وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون هذه مفصولة سماهم صديقين ثم قال : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم
وروي جماعة عن مسروق ما يوافقه واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل : الشهداء في سبيل الله تعالى
وحكى ذلك عن مقاتل بن سليمان وقيل : الأنبياء عليهم السلام يشهدون للأمم عليهم وحكى ذلك عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم أولئك الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أصحاب الجحيم
19
- بحيث لا يفارقونها أبدا واعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد بعدما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني وأشير إلى أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الأطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب ولهو تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه وزينة لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وتفاخر بالأنساب والعظام البالية وتكاثر بالعدد والعدد وقرأ السلمي وتفاخر بينكم بالإضافة ثم أشير إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال وشيكة الأضمحلال بقوله سبحانه : كمثل غيث مطر أعجب الكفار أي راقهم نباته أي النبات الحاصل به والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون
(27/184)
البذور في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز و جل فأعجب بها ولذا قال أبو نواس في النرجس : عيون من لجين شاخصات على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا قم يهيج يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له وقيل : أي يجف بعد خضرته ونضارته فتراه يا من تصح منه الرؤية مصفرا بعد ما رأيته ناضرا مونقا وقريء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل : إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب على رؤيته كذلك وقيل : للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ثم يكون حطاما هشيما متكسرا من اليبس ومحل الكاف قيل : النصب على الحالية من الضمير في لعب لأنه في معنى الوصف وقيل : الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل الخ ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى وضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا : وفي الآخرة عذاب شديد لأنه من نتائج الأنهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا ومغفرة عظيمة من الله ورضوان عظيم لا يقادر قدره وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب لن يغلب عسر يسرين
وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
20
- لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها وروي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة سابقوا إلى مغفرة أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة من ربكم والكلام على الأستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر وقيل : المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر وقيل : سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغرووه وخداعه عن ذلك وهو كما ترى
والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : كن أول داخل المسجد وآخر خارج وقال عبد الله : كونوا في أول صف القتال وقال أنس : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أي كعرضهما لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا
(27/185)
كان العرض وهو أقصر الأمتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالأقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه وقيل : المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الأبعاد وتقدم قول آخر تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية
أعدت للذين آمنوا بالله ورسله أي هيئت لهم واستدل بذلك على أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى : أعدت بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدى بالباء غير مسلم كذا قالوا ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الإيمان يعتد بها وقيل : بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الأستدلال الثاني في الجنة كما لا يخفى وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا بسابقوا وفي آية آل عمران بسارعوا وبالسماء هنا وبالسماوات هناك وبكعرض هنا وبعرض بدون أداة تشبيه ثم كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون وبالذين آمنوا هنا هم دون أولئك حالا فتأمل ذلك أي الذي وعد من المغفرة والجنة فضل الله عطاؤه والغير الواجب عليه يؤتيه من يشاء إيتاءه والله ذو الفضل العظيم فلا يبعد منه عز و جل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها
مآ أصاب من مصيبة أي نائبة أي نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها
وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر و من مزيدة للتأكيد وأصاب جاء في الشر كما هنا وفي الخير كقوله تعالى : ولئن أصابكم فضل من الله وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصواب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم وكلاهما يرجعان إلى أصل العموم وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه وعليه قوله تعالى : ما تسبق من أمة أجلها والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أي مصيبة في الأرض كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها ولا في أنفسكم كمرض وآفة كالجرح والكسر إلا في كتاب أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ وقيل : في علم الله عز و جل
من قبل أن نبرأها أي نخلقها والضمير على ما روي عن أبن عباس وقتادة والحسن وجماعة للأنفس وقيل : للأرض واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذظر وقال جماعة يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر وقيل : المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة قيل : وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية واللوح متناه وهو لا يكون
(27/186)
ظرفا لغير المتناهي ولذا جاء جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وفي الآية تخصيص ىخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب وفي أهلها بل لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه وقيل : بأن كناية الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناءا على ما يقولون : إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماك الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه إن الأوفق بما تقدم من شرح الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر لكان تاما مطلقا إن ذلك أي إثباتها في كتاب على الله لا غيره سبحانه يسير
22
- لا ستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة وإن أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز و جل وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية وجاء ذلك في خبر مرفوع أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسده شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب مصيبة الآية
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا : إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة الدار فقالت : والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول ولكن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة الآية لكيلا تأسوا أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا ولا تفرحوا بما آتاكم أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن كل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتي ما قدر إتيانه لا محالة لا يعم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأولإلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز و جل كما حقق في موضعه وعليه قول الشاعر : فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرج على الباقي وسائله لم بقى ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله أوتيتم مبنيا للمفعول أي أعطيتم وقرأأبو عمرو أتاكم من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغي الملهي عن الشكر وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الأستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والأعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه في الآية : ليس إلا هو وهو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا وقوله تعالى :
(27/187)
والله لا يحب كل مختال فخور
23
- تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والأختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالماء والجاه
وذكر بعضهم أن الأختيار في الفعل والفخر فيه وفي غيره والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز و جل وأولا بالإثابة والتعذيب ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله : إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن إن هذا الحكم أكثري لا كلي وقوله تعالى : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل بدل من كل مختال بدل كل من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا وبأمر غيره بذلك والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة وقيل : كانوا قدرة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين الخ أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الأنفاق الغني عنه الله عز و جل ويدل عليه قوله تعالى : ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد
24
- فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فأن الله سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الأعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله وقيل : تقديره مستغني عنهم أو موعودون بالعذاب أو مذمومون وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت لكل مختال فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء وقال ابن عطية : جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الأشعار بالتهديد لمن تولى وقرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني بإسقاط هو وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل قال أبو علي : ولا يحسن أنيكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم لقد أرسلنا رسلنا أي من بني آدم كما هو الظاهر بالبينات أي الحجج والمعجزات وأنزلنا معهم الكتاب أي جنس الكتاب الشامل للكل والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان وقيل : مقارنة بتنزيل الأتصال منزلة المقارنة والميزان الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره وإنزاله إنزال أسبابه ولو بعيدة وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته
ليقوم الناس بالقسط علة لأنزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان في أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي من الأتصاف به معاشا ومعادا
وأنزلنا الحديد
قال الحسن : أي خلقناه كقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وهو تفسير بلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه
وقال قطرب : هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف فيه بأس أي عذاب شديد لأن آلات الحرب تتخذ منه وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس وقوله تعالى : ومنافع للناس أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا
(27/188)
والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش ومن يقوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع وليتم القيام بالقسط كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده والجملة الظرفية موضع الحال وقوله سبحانه : وليعلم الله من ينصره ورسله عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للأشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذ المعطوف وأقيم متعلقه مقامه وقوله تعالى : بالغيب حال من فاعل ينصر أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه وقوله عز و جل : إن الله قوي عزيز
25
- اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر إلى الثواب فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام وفسر البينات كما فسرنا بناءا على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الأقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاههر وإنزال الميزان بيمعنى الآلة عنده على حقيقته قال : روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال : مر قومك يزنوا به وفسره كثير بالعدل وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان وروي أنه نزل ومعه المر والمسحاة وقيل : نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والأبرة والمطرقة والميقعة وفسرت بالمسن وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها وقيل : ما تحد به الرحى وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالياسنة وهي آلات الصناع وقيل : سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم
واستظهر أبو حيان كون ليقوم الناس بالقسط علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى وقوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا وتكرير القسم لإظهار مزيد الأعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم
وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب وقال ابن عباس : الكتاب الخط بالقلم وفي مصحف عبد الله والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو فمنهم أي من الذرية وقيل : أي من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين مهتد وكثير منهم فاسقون
26
- خارجون عن الطريق المستقيم ولم يقل ومنهم ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه ومعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم ثم قفينا على آثارهم برسلنا أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل
(27/189)
الشيء خلف القفا وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما وقيل : لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام
واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحافإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه وقيل : للذرية وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وقفينا بعيسى ابن مريم جعلناه بعد
وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة و السلام وآتيناه الإنجيل بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصةصلبه المفتراة وقرأ الحسن الأنجيل بفتح الهمزة قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له قال الزمخشري : وأمره أهون من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه وجعلنا في قلوب الذين اتبعون رأفة ورحمة أي خلقنا أو صيرنا ففي قلوب في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رحماء بينهم والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل : إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشرب ورأب الصدع وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقريء رآفة على فعالة كشجاعة ورهبانية منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية
ابتدعوها فهو من باب الأشتغال واعترض بأنه يشترط فيه كما قال ابن الشجري وأبو حيان أن يكون الأسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الأبتداء ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الأسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم : شر أهر ذا ناب
ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قيل وجملة ابتدعوها في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف وقال : الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والأنقطاع عن الناس وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف من رهب كخشيان من خشي وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءا على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره وفائدة في قلوب على هذا التصوير على ما قيل ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الأنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا
(27/190)
التأويل أو أعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن ويراد في ابتدعوها وما بعده وليس الداعي للتأويل الأعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل
وقريء رهبانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب : يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال : إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطي حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال وقوله تعالى :
ما كتبناها عليهم
جملة مستأنفة وقوله سبحانه : إلا ابتغاء رضوان الله استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزمواأنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى وقوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث أن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز و جل
واستدلبذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه وجوز أن يكون قوله تعالى : ما كتبناها الخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لأنفسه كما في الوجه الأول وقوله سبحانه : إلا ابتغاء الخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ابتدعوها و ما كتبناها عليهم الخ حيث أن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء الخ ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال : الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولا ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والداريات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم يعني الآية والظاهر أن ضمير فما رعوها لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن الأبتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في بنو تميم قتلوا زيدا والقاتل بعضهم
وقال الضحاك وغيره : الضمير في فما رعوها للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة و السلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم
(27/191)
إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أجرهم أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة و السلام وليس بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر ويجوز أن يقال : إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة و السلام قال الزجاج : قوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها على ضربين : أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم والآخر وهو الأجود أن يكونوا حيث بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية ودليل ذلك قوله تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم الخ انتهى فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة و السلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى : وكثير منهم فاسقون
27
- على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم ومقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالأتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام
وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلهم على دين الله وعيسى ابن مريم وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي وصدقوني وكثير منهم فاسقون الذين حجدوا بي وكفروا وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية على ذم البدعة مطلقا والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وةبناء المدارس والربط وغير ذلك ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك والحرام والمكروه ظاهران فعلم أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كل بدعة ضلالة من العام المخصوص
وقال صاحب جامع الأصول : الأبتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء
(27/192)
وفعل المعروف ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح : نعمت البدعة هذه يأيها الذين آمنوا استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا : إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا : يا رسول الله إنا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله سبحانه : أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يءمن بكتابكم فله كأجوركم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا الآية أي أي رادا عليهم قولهم : ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم
وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان اتقوا الله اثبتوا على تقواه عز و جل فيما نهاكم عنه
وآمنوا برسوله واثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة و السلام يؤتكم بسبب ذلك
كفلين من رحمته قال أبو موسى الأشعري : ضعفين بلسان الحبشة وقال غير واحد : نصيبين والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل : يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقون بين أحد من رسله
وقال الراغب : الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ولا دلالة على التخصيص
ويجعل لكم نورا تمشون به يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويغفر لكم ما سلف منكم والله غفور رحيم
28
- أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله قيل : متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا الخ وقيل : متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و لا مزيدة مثلها في قوله تعالى : ما منعك أن لا تسجد ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و أن مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي أنهم وقيل : ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا يظلون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة و السلام فقولهم : من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل
(27/193)
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : لما نزلت أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا فخر مؤمنوا أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوال : لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة و السلام فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا الخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب وقال الثعلبي : فأنزل الله تعالى يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه : لئلا يعلم الخ وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا أملاك فضله عز و جل فيزوره على المؤمنين ويستبدوا به دونهم وقوله تعالى : وأن الفضل بيد الله عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم وقوله سبحانه : يؤتيه من يشاء خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل : حال لازمة أو استئناف وقوله عز و جل : والله ذو الفضل العظيم
29
- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله
وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن يؤمن منهم بعد : فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أي اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الإيمان به عليه الصلاة و السلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلى الله عليه و سلم وأيد ذلك بما في صحيح البخاري من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى ولذا قيل : الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليهم الإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابواعلى العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام
وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فأن الأيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا وقيل : إن لا في لأن لا يعلم غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه أو أنهم أي النبي عليه الصلاة و السلام والمؤمنون لا يقدرون الخ على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه : وأن الفضل الخ معطوفا على أن لا يعلم داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل : فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناءا على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين وقرأ خطاب بن عبد الله لأن لا يعلم بالإظهار وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم وقرأ الجحدري أيضا وليعلم على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياءا
(27/194)
لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة وروي ابن مجاهد عن الحسن ليلا مثل ليلى اسم المرأة يعلم بالرفع ووجه بأن أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة وعليه قوله : أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار للا فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام المدغمة ياءا نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث أن الأصل قراط ودنار فأبدلوا أحد المثلين فيهما ياءا للتخفيف فصار ليلا ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع وروي قطرب عن الحسن أيضا ليلا بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر وعن ابن عباس كي يعلم وعنه أيضا لكيلا يعلم وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة لكي يعلم
وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع والله تعالى أعلم
ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها هو الأول والآخر والظاهر والباطن قالوا : هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل وقالوا في قوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز و جل وقوله تعالى : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإضافة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات
وقال سبحانه : اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الأشتغال بمداواة القلب الميت فما رعوها حق رعايتها أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات ويرجع ما قالوه فيها على ما قيل إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية ويجعل لكم نورا من نور ذاته عز و جل وهو على ما قيل : إشارة إلى البقاء بعد الفناء وقيل : هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : هو نور النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز و جل : تمشون به وفي بعض الآثار من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم وقال سبحانه : اتقوا الله ويعلمكم الله وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز و جل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم
تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون ويليه الجزء 28
(27/195)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف وتسمى سورة قد سمع وسميت في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه الظهار وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى مدنية قال الكلبي : وابن السائب : إلا قوله تعالى : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وعن عطاء : العشر الأول منها مدني باقيها مكي وقد انعكس ذلك على البيضاوي وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير واثنتان وعشرون في الباقي وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد
ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل الله تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك وقال بعض الأجلة ذلك : لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة ومنها الظاهر والباطن وقال سبحانه : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجه والبخاري تعليقا حين نزلت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى قد سمع الخ وذكر سبحانه بعد ذلك ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية وهي تفصيل لأجمال قوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الأفتتاح بسبح إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأهل
بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله بإظهار الدال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن بادعائها في السين قال خلف بن هشام البزاز : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليبس بعربي ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان قول التي تجد لك في زوجها أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظاهر وقريء تحاورك والمعنى على ما تقدم وتحاورك أي تسائلك وتشتكي إلى الله عطف على تجادلك فلا محل للجملة من الأعراب وجوز كونها حالا أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى وفيه بعد معنى ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون إسمية واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما أنطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز و جل وهو من الشكو وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها
(28/2)
فقيل : خولة بنت ثعلبة بن مالك وقيل : بنت خويلد وقيل : بنت حكيم وقيل : بنت الصامت وقيل : خويلة بالتصغير بنت ثعلبة وقيل : بنتمالك بن ثعلبة وقيل : جميلة بن الصامت وقيل : غير ذلك والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وقيل : هو سلمة بن حجر الأنصاري والحق لهذا قصة أخرى والآية نزلت في خولة وزوجها أوس وذلك أن زوجها أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه وكان هذا أول ظهار في الأسلام فندم من ساعته فدعاها فأبت وقالت : والذي نفس خولة بيده لاتصل إلى وفد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فينا و فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها فقال عليه الصلاة و السلام : والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن وفي رواية ما أراك إلا قد حرمت عليه قالت : ما ذكر طلاقا وجادلت رسول الله عليه الصلاة و السلام مرارا ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه وفي رواية قالت : أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : يا خولة أبشري قالت : خيرا فقرأ عليه الصلاة و السلام عليها قد سمع الله الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول : قد سمع الله تعالى لها
وروي ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال : ويحك أتدري من هذه قال : لا قال : هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة والله لو لم تنصرف حتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها وفي رواية للبخاري في تاريخه أنها قالت له : قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول فقال رجل : يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه : وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل قد سمع الله الآيات والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقةالسببية أو كناية عن ذلك و قد للتحقيق أوللتوقع وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محققأو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول والمراد توقع المخاطب ذلك وقد كان صلى الله عليه و سلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة وفرج عن المجادلة كربها وفي الأخبار ما يشعر بذلك والسمع في قوله تعالى : والله يسمع تحاوركما على ما هو المعروف فيه من كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم أوكونه راجعا إلى صفة العلم والتحاور المرادة في الكلام وجوز أن يراد به الكلام المردد ويقال : كلمته فما رجع إلى حوارا وحويرا ومحورة أي ما رد علي بشيء وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين والجملة استئناف
(28/3)
جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحاقها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة و السلام إياها علمه عز و جل بحاملها من دواعي الأجابة وقيل : هي حال كالجملة السابقة وفيه أيضا بعد وقوله تعالى : إن الله سميع بصير
1
- تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله من قضية ذلك أن يسمع سبحانه تجاورهما ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع والأسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الأسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين وقوله عز و جل : الذين يظهرون منكم من نسآئهم شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكاؤها بطريق الأستئناف
والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الضهر ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض فيقال : ظاهر زيد عمرا أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه وإن لم يقابل حقيقة بإعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال : قوي ظهره غذا نصره وظاهربين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب وظاهر من امرأته إذا قال لها : أنت علي كظهر أمي وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا وهو لا يمنع الأشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات
وعرفه الحنفية شرعا بأنه تشبيه المنكوحة أو عضوا منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه
وحكى عن الشافعية أنه تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة أو عضو منه لا يذكر للكرامة كالد والصدر وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الظهار هو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقا في الجاهلية قيل : وأول الأسلام
وحكى بعضهم أنه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه وقيل : لم يكن طلاقا من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقا مؤكدا باليمين على الأجتناب ولذا قال الشافعية : إن فيه الشائبتين وسيأتي إن شاء الله تعالى الأشارة إلى حكمه الشرعي وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقا وهو مبعد والظهر في قولهم : أنت علي كظهر أمي قيل : مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن فكظهر أمي أي كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو المصارف عن الحقيقة من النكات وقيل : خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج ومنثم سمي المركوب ظهرا وقيل : خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراما فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ وإقحام منكم في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكي عن المالكية ومن هنا قال الشافعية : يصح من الذمي والحربي لعموم الآية وكذا الحنابلة والحنفية
(28/4)
يقولون : لا يصح منهما وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي والرواية المعول عليها عدم الصحة لأنه ليس من أهل الكفارة وشنع الشافعية في قولهم بصحته منه اشتراطهم النية في الكفارة والإيمان في الرقبة وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن وقال بعض أجلتهم إن الكفار شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالأعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه عبادة بدنية ولا ينتقل عنه للأطعام لقدرته عليه بالأسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضا ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه أو يقول : لمسلم أعتق قنك عن كفارتي فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسر منع منالوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى
وفي كتب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإيرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم وقرأ الحرميان وأبو عمرو يظهرون بشد الظاء والهاء والأخوان وابن عامر يظاهرون مضارع لظاهر وأبى يتظاهرون مضارع تظاهر وعنه أيضا يتظهرون مضارع تظهر والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون وأقيم دليله وهو قوله تعالى : ما هن أمهاتهم مقامهأو هو الخبر نفسه أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت
وقرأ المفضل عن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة تميم وقرأ ابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء قال الزمخشري : في لغة من ينصب أي بما الخبر وهم الحجازيون يعني أنهم الذين يزيدون الباء دون التميميين وقدم تبع في ذلك أبا علي الفارسي ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي : لعمرك ما معن بتارك حقه ولا منسيء معن ولا متيسر إن أمهاتهم أي ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدتهم فلا يشبه بهن في الحزمة إلا من ألحقها الله تعالىبهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات وأما الزوجات فأبعد شيء منالأمومة وإنهمليقولون منكرا منالقول ينكره الشرع والعقل والطبع أيضا كما يشعر به التنكير ومناط التأكيد كونه منكرا وإلا فصدوا القول عنهم أمر محقق وزورا أي وكذبا باطلا منحرفا عن الحق ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخبارا كاذبا علق عليه الشارع الحرمة والكفارة ظاهر وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الأستماع في الشرع كالطلاق على ما هو الظاهر فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية وإن الله لعفو غفور
2
- أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفرما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقا أو بالتوبة ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا : إنه كبيرة لأنفيه إقداما على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه وهذا أخطر منكثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لو لا خلو الأعتقاد عن ذلك واحتمال الأعتقاد عن ذلك واحتمال التشبيه لذلك وغيره ومن ثم سماه عز و جل منكرا من القول وزورا وإنما كره على ما ذكره بعض الشافعية أنتعلي حرام لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى وثم علىما قالوا : كفارة يمين وقوله تعالى : والذين يظاهرون من نسآءهم ثم يعودون لما قالوا الخ تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمرا منكرا
(28/5)
بطريق التشريع الكلي المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا والموصول مبتدأ وقوله تعالى : فتحرير رقبة مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة أو فاعل فعل مقدر أي فيلزمهم تحرير أو خبر مبتدأ مقدر أي فالواجب عليهم تحرير وعلى التقادير الثلاثة الجملة خبر الموصول ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط و ما موصولة أو مصدرية واللام متعلقة ب يعودون وهو يتعدى بها كما يتعدى بإلى وبقي فلا حاجة إلى تأويله بأحدهما كما فعل البعض والعود لما قالوا على المشهور عند الحنفية العزم على الوطء كأنه حمل العود على التدارك مجازا لأن التدارك من أسباب العود إلى الشيء ومنها لمثل عاد غيث على ما أفسد أي تداركه بالأصلاح فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يتداركونه بنقضه وهو العزم على الوطء فالواجب عليهم إعتاق رقبة
من قبل أن يتمآسا أي كل من المظاهر والمظاهر منها والتماس قيل : كناية عن الجماع فيحرم قبل التكفير على ما تدل عليه الآية وكذا دواعيه من التقبيل ونحوه عندنا قيل : وهو قول مالك والزهري والأوزاعي والنخعي ورواية عن أحمد فإن الأصل أنه إذاحرم حرم بدواعيه إذ طريق المحرم محرم وعدم إطراد ذلك في الصوم والحيض لكثرة وجودهما فتحريم الدواعي يفضي إلى مزيد الحرج وقال العلامة ابن الهمام : التحقيق أن الدواعي منصوص على منعها في الظهار فإنه لا موجب لحمل التماس في الآية علىالمجاز لإمكان الحقيقة ويحرم الجماع لأنه من أفراد التماس كالمس والقبلة وقال غيره : تحرم أقسام الأستمتاع قبل التكفير لعموم لفظ التماس فيشملها بدلالة النص ومقتضى التشبيه في قوله : كظهر أمي فإن المشبه به لا يحل الأستمتاع به بوجه من الوجوه فكذا المشبه ويحرم عند الشافعية أيضا الجماع قبله وكذا يحرم لمس ونحوه من كل مباشرة لا نظر بشهوة في الأظهر كما في المحرر وقال الإمام النووي عليه الرحمة : الأظهر الجواز لأن الحرمة ليست لمعنى يخل بالنكاح فأشبه الحيض ومنثم حرم الأستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام
وحكى البيضاوي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أننقض القول المراد بالعود بإباحة التمتع بها ولو بنظرة بشهوة وحمل ذلك على استباحة التمتع بمباشرته بوجه ما دون عده مباحا من غيرمباشرة
ولعله أريد بالمباشرة بوجه ما مباشرة ليست من التماس الذي قالوا بحرمته قبل التكفير وأيا ما كان فظاهر تعليق الحكم بالموصول يدل على ما في حيز الصلة أعني الظهار والعود له فهما سببان للكفارة وهذا أحد أقوال في المسألة
قال العلامة ابن الهمام : اختلف في سبب وجوبها فقال في المنافع : تجب بالظهار والعود لأن الظهار كبيرة فلا يصلح سببا للكفارة لأنها عبادة أو المغلب فيها معنى العبادة ولا يكون المحظور سببا للعبادة فعلق وجوبها بهما ليخف معنى الحرمة باعتبار العود الذي هو إمساك بمعروف فيكون دائرا بين الحظر والأباحة وعليه فيصلح سببا للكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة وقيل : سبب وجوبها العود والظهار شرطه ولفظ الآية أي المذكورة يحتملهما فيمكن كون ترتيبها عليهما أو على الأخير لكن إذا أمكن البساطة صير إليها لأنها الأصل بالنسبة إلى التركيب فلهذا قال في المحيط : سبب وجوبها العزم على الوطء والظهار شرطه وهو بناء على أن المراد منالعود في الآية العزم على الوطء واعترض بأن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة متكررة بتكرر الظهار لا العزم وكثير من مشايخنا على أنه العزم على إباحة الوطء بناءا على إرادة المضاف في الآية أي يعودون لضد ما قالوا أو لتداركه ويرد عليه ما يرد على ما قبله ونص صاحب المبسوط على أن بمجرد
(28/6)
العزم لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت من بعد العزم فلا كفارة فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظاهر ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة : يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء انتهى
ولا يخفى أن إرادة المضاف غير متعين بناءا على ما نقل عن الكثير من المشايخ وأن ظاهر الآية يفيد السببية كما ذكرنا آنفا ويكون الموجب للكفارة الأمران وبه صرح بعض الشافعية وجعل ذلك قياس كفارة اليمين ثم قال : ولا ينافي ذلك وجوبها فورا مع أن أحد سببيها وهو العود غير معصية لأنه إذا اجتمع حلال وحرام ولم يمكن تميز أحدهما عن الآخر غلب الحرام وظاهر كلام الأمام النووي عليه الرحمة أن موجبها الظهار والعود شرط فيه وهو بعكس ما نقل عن المحيط ثم إن من جعل السبب العزم أراد به العزم المؤكد حتى لو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنها وجبت بنفس العزم ثم سقطت كما قاله بعضهم لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع وذكر ابن نجيم في البحر عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة ثم قال : إن كون كفارة الظهار كذلك على قول من جعل السبب مركبا من الظهار والعود ظاهر لكون الظهار محظورا والعود مباحا لكونه إمساكا بالمعروف ونقضا للزور
وأما على القول بأن المضاف إليه وهو الظهار سبب وهو قول الأصوليين فكونه دائرا بين الحظر والأباحة مع أنهمنكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية واستظهر بعد أنه لا ثمرة للأختلاف في سببها معللا بأنهم اتفقوا على أنهلو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم ولو عزم ثم ترك فلا وجوب ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهارلم يصح ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصا إذاصار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصولة إلى الجنة انتهى ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائرا بين الحظر والأباحة فإنه كما ترى
وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا : فيريدون الوطء قال الزيلعي : وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأها وعزم عليه فقد رجع عما قال ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر وقيل : العود الرجوع والمراد بما قالوا ماحرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهوالتماس تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : ونرثه ما يقول والمعنى ثم يريدون العود للتماس وفيه تجوزان وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى ثم يعودون ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة كأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة
(28/7)
واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود وأيضا لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة فتحرير الخ والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأنيمسكها علىالزوجية ولو جهلا ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكررا للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جن عند وجودها زمن إمكان فرقة شرعا فلا عود في نحو حائض إلا بالأمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدمفعله صار ناقضا له متداركا لما قال فلو اتصل بلفظ الظهارفرقة بموت أو فسخ أوانفساخ بنحو ردة قبل وطء أوطلاق بائن أورجعي ولم يراجع
(28/0)
أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو منطلقها رجعيا عقب الظهار أو ارتد متصلا وهي موطوءة ثم أسلم فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالأسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والأستباحة أمر يترتب عليه إلا غذا أمسكها بعده زمنا يسع الفرقة وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها منمقطوعها في المدة للخبر أيضا ولأن الحل منتظر بعدها فالأمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الأمساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود
واعترض ما قالوه بأن ثم تدل على التراخي الزماني والأمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف بثم بل بالفاء ورد بأن مدة الأمساك ممتدة ومثله يجوز فيه العطف بثم والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثما مننفس الظهار حتى يقال عليه : إنهغير مسلم ولا إلى قول الإمام أنه مشترك الإلزام بين الشافعية والحنفية القائلين : بأنالعود استباحة الأستمتاع فيمنع أيضا لأن الأستباحة المذكورة عقب الظهار قولا نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية
واعترض أيضا بأنالظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روي عن الأمام مالك في المراد بالعود روايتان : احدهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها ثم قال : ومن أصحابنا منقال : العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه
وابن حجر نسب القول : بأنه العزم على الوطيء إلىالإمام مالك والإمام أحمد والقول : بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة وذكر أنهما قولان للأمام الشافعي في القديم وما حكاه عن الأمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه وحكاه الزيلعي عن الأمام مالك ولم يحك عنه غيره وحكاه أبوحيان في البحر عن الحسن وقتادة وطاوس والزهري وجماعة وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك ثانيتهما أنه العزم على الأمساك والوطء
واعترض القول به ممن كان وكذا القول : بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت وأمر صلى الله عليه و سلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطيء أو عزم على الوطء والأصل عدم ذلك والوقائع القولية كهذه يعممها الأحتمال وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العود سابقا عليه فكيف يكون هو الوطء ! وأجاب القائل : بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأنذلك لعلمه عليه الصلاة و السلام به منخولة فقد أخرج الأمام أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال : حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : في وفي أوس بن الصامت أنزلالله تعالىصدر سورة المجادلة كنتعندهوكان شيخا كبيرا قد ساءخلقه فدخلعلي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال : أنتعلي كظهر أمي ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت : كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكمالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فينا ثم جئت إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام فذكرتله ذلك فما برحت حتى نزل القرآنالخبر فإن ظاهر قولها : فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع
(28/8)
ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي وذكر ذلك له عليه الصلاة و السلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام
وأجيب من جهة القائل : بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعا والوطء أولا حرام موجب للتكفير وهو كما ترى ونقل عن الثوري ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالأسلام ثم يعودون لمثله فكفارة منعاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها فحملا العود والقول على حقيقتهما وفي اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للأستمرار فيما مضى وقتا فوقتا وأخذ القطع من دلالة ثم على التراخي وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى حكايته
وتعقب ذلك بأن فيه أن الأستمرار ينافي القطع ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالأسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الأسلام لأنه مسوق لبيان حكمه وعليه ينطبق سبب النزول وهو يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجبا للكفارة وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهادا فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب الأحكام وغيره وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه فيجوز أن يشترطذا لوجوب الكفارة شيئا مما مر لكن لا يقولون : إنه المراد بالعود فيها وقال أهل الظاهر : المعنى الذين يقولون هذا المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانيا فكفارته تحرير رقبة الخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضا
وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن عبد الله بن الأشج والفراء أيضا وحكاه أبو حيان رواية عنالإمام أبي حنيفة ولا نعلم أحدا من أصحابه رواه عنه وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل : يعودون لهفإنهأخصر ولا يبقى لكلمة ثم حسن موقع هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى والمنزل فيه أعني قصة خولة يدفعه إذ لم ينقل التكرار ولأسأل عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا الدفع قوي وأما ما قيل : فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه صريحا في التحريم فلعله يسبق لفظه به منغير قصد لمعناه فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى لما قالوا لقصد التأكيد بالأظهار وأن العطف بثم لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار وقول الزيلعي في الأعتراض عليه : إن اللفظ لا يحتمله لأنهلو أريد ذلك لقيل : يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الأعادة لا من العود جهل ناشيء من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم وقال أبو مسلم الأصفهاني : معي العود أن يحلف أولا على ما قال منالظهار بأن يقول : والله أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونهمؤكدا للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار منغير قسم عنده وهذا القول إلغاء للظهار معنىلأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه وأيضا المنزل فيه يدفعه إذا لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم والأصل عدمه وقيل : عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة وتعد مباشرته ذلك تكريرا للظهار وليس بشيء كما لا يخفى وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه فإذا قال إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة
(28/9)
المفروضة حتى يمسكها أعقب الأفاقة أو تذكره وعلمه بوجوب الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام
وعندنا أيضا يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر ولا يبقى بعد مضي المدة نعم لو ظاهر واستثنى يوم الجمعة مثلا لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهرا بخلاف الأبانةالمعلقة كما بين في محله وقال الأخفش : في الآية تقديم وتأخير وتقديرها والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا : ثم يعودون إلى نسائهم ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش وفي قوله تعالى : من نسائهم دليل لنا وكذا للشافعي وأحمد وجمع كثير منالصحابة والتابعين رضي الله تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوأة أو غيرها لا يصح وبيان ذلك أنه يتناول نساؤنا والأمة وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الأطلاق لا تستلزم الحقية لأن حقيقة إضافة النساء إل رجل أورجال إنما تحقق مع الزوجات دون الأماء لأنهالمتبادر حت يصبح أن يقال : هؤلاء جواريه لا نساؤه وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطءا حلالا عند الجمهور وبلا هذا القيد عندنا عل أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الأضافة حت يشمل المعن الحقيقي وهن الزوجات والمجازي أعني الماء بعموم المجاز لأنكن للأتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الأماء كتوبته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولالزوم عندنا أيضا ليثبت بطريق الدلالة لأن الماء لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل واستدل أيضا بأن القياس شأنه أنلا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق منلها حق الأستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس وبأن الطهار كان طلاقا فنقل عنه إلى تحريم مغيا بالكفارة ولا طلاق في الأمة وهذا ليس بشيء للمتأمل
ونقل عن مالك والثوري صحة الطهار في الأمة مطلقا وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الموطوءة ثمك إن الشرط كونها زوجة في الأبتداء فلو ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها بقي الظهار فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كما صرحوا به والمراد بالزوجة المنكوحة التي يصح إضافة الطلاق إليها فلا فرق بين مدخول بها وغيرها فلا يصح الظهار من مبانة ومنه ما سمعت آنفا ولامن أجنبية إلا إذا أضافه إلى التزويج كأن قال لها : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها فإنه يكون مظاهرا نعم في التاتار خانية : لو قال إذا تزوجتك فأنتطالق ثم قال : إذاتزوجتك فأنتعلي كظهر أمي فتزوجها يقع الطلاق ولا يلزم الظهار في قول أبيحنيفة وقال صاحباه : لزماه جميعا وعن مالك أنه ظاهر من أجنبية ثم نكحها لزم الظهار أضافه إلى التزوج أم لا
وقال بعض العلماء لا يصح ظهار غير المدخول بها وقال المزني : لا يصح ظهار المطلقة الرجعية وظاهر الذين يظاهرون يشمل العبد فيصح ظهاره وقد ذكر أصحابنا أنه يصح ظهار الزوج البالغ العاقل المسلم ويكفر العبد بالصوم ولا يتصف لما فيه منمعنى العبادةكصوم رمضان ومثله المحجور عليه بالسفه على قولهما المفتى به
(28/10)
وحكي الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهار العبد ولا تدخل المرأة في هذا الحكم فلو ظاهرت منزوجها لم يلزم شيء كما نقل ذلك في التاتارخانية عن أبي يوسف وقال الحسن بن زياد : تكون مظاهرة وقال الأعزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر فلانة فهي يمين تكفرها وقال الزهري : أرى أن تكفر كفارة الظهار ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها انتهى والرقبة من الحيوان معروفة وتطلق على المملوك وذلك من تسمية الكل باسم الجزء كما في المغرب وهو المراد هنا
وفي الهداية هي عبارة عن الذات المرقوق من كل وجه فيجزيء في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ولو رضيعا لأن الاسم ينطلق على كل ذلك ومقتضى ذلك إجزاء إعتاق المرتد والمرتدة والمستأمن والحربي وفي التاتارخانية أن المرتد يجوز عند بعض المشايخ وعند بعضهم لا يجوز والمرتدة تجوز بلا خلاف أي لأنها لا تقتل وفي الفتح إعتاق الحربي في دار الحرب لا يجزيه في الكفارة وإعتاق المستأمن يجزيه وفي التاتارخانية لو أعتق عبدا حربيا في دار الحرب إن لم يخل سبيله لا يجوز وإن خلى سبيله ففيه اختلاف المشايخ فبعضهم قالوا : لا يجوز وشمل الرقبة الصحيح والمريض فيجزى كل منهما واستثني في الخانية مريضا لا يرجى برؤه فإنه لا يجوز لأنه ميت حكما وفي جواز إعتاق حلال الذم كلام : فحكى في البحر أنه إذا أعتق عبدا حلال الدم قد قضي بدمه ثم عفي عنه فلو كان أبيض العينين فزال البياض أو كان مرتدا فأسلم لا يجوز
وفي جامع الفقه جاز المديون والمرهون ومباح الدم ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنه حي ولا بد أن تكون الرقبة غير المرأة المظاهرة منها لما في الظهيرية والتاتارخانية أمة تحت رجل ظاهر منها ثم اشتراها وأعتقها كفارة ظهارها قبل : تجزي وقيل : لا تجزي في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف ويجوز الأصم استحسانا إذا كان بحيث إذا صيح عليه يسمع وفي رواية النوادر لا يجوز ولا تجزي العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين وكذا مقطوع إبهام اليدين ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من جانب واحد والمجنون الذي لا يعقل ولا يجوز إعتاق المدبر وأم الولد وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال وإن اشترى أباه أوابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باقيه لم يجز عند الإمام وجاز عند صاحبيه وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع ثم أعتق باقيه لم يجز عنده لأن الأعتاق يتجزأ عنده وشرط الأعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص وإعتاق النصف حصل بعده وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس واشتراط الشافعي عليه الرحمة كون الرقبة مؤمنة ولو تبعا لأصل أو دار أو ساب حملا للمطلق في هذه الآية على المقيد في آية القتل بجامع عدم الأذن في السبب
وقال الحنفية : لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوما عقليا إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوبا إدخاله في الوجود مطلقا ومقيدا كالصوم في كفارة اليمين ورد مطلقا ومقيدا بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها والكلام في تحقيق هذا الأصل في الأصول
قالوا على تقدر التنزل إلى أصل الشافعية من الحمل مطلقا : إنه لا يلزم منالتضييق في كفارة الأمر الأعظم
(28/11)
وهو القتل ثبوت مثله فيما هو أخف منه ليكون التقييد فيه بيانا في المطلق وما ذكروه من الجامع لا يكفي ووافقوا في كثير مما عدا ذلك وخالفوا أيضا في كثير فقالوا : يشترط في الرقبة أن تكون بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزي صغير ولو عقب ولادته وأقرع وأعرج يمكنه منغير مشقة لا تحتمل عادة تتابع المشي وأعور لم يضعف نظر سليمته حتى أخل بالعمل إخلالا بينا وأصم وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته مما يحتاج إليه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه وأسنانه وعنين ومجبوب ورتقاء وقرناء وأبرص ومجذوم وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وولد زنا وأحمق وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه وآبق ومغصوب وغائب علمت حياته أوبانت وإن جهلت حالة العتق لا زمن وجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الأعتاق أو فاقد يد أو رجل أشل أحدهما أو فاقد خنصر وبنصر معا من يد أو أنملتين من غيرهما أو أنملة إبهام كما قال النووي عليه الرحمة ولا هرم عاجز ولا من هو في أكثر وقته مجنون ولا مريض لا يرجى عند العتق برء مرضه كسلال فإن برأ بعد إعتاقه بأن الإجزاء في الأصح ولا من قدم لقتل بخلاف من تحتم قتله في المحاربة قبل الرفع للأمام ولا يجزي شراء أو تملك قريب أصل أو فرع بنية كفارة ولا عتق أم ولد ولا ذو كتابة صحيحة قبل تعجيزه ويجزي مدبر ومعلق عتقه بصفة غير التدبير وقالوا : لو أعتق معسر نصفين له منعبدين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما أو باقي أحدهما حرا إلى غير ذلك
وفي الإتيان بالفاء في قوله تعالى : فتحرير الخ دلالة على ما قال بعض الأجلة : على تكرير وجوب التحرير بتكرر الظهار فإذا كان له زوجتان مثلا فظاهر من كل منهما على حدة لزمه كفارتان
وفي التلويح لو ظاهر من امرأته مرتين أوثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة وفي إطلاقه بحث فقد ذكر بعضهم أنه لو قصد التأكيد في المجلس الواحد لم تتعدد وفي شرح الوجيز للغزالي ما محصله : لو قال لأربع زوجات : أنتن علي كظهر أمي فإن كان دفعة واحدة ففيه قولان وإن كان بأربع كلمات فأربع كفارات ولو كررها والمرأة واحدة فإما أن يأتي بها متوالية أولا فعلى الأول إن قصد التأكيد فواحدة وإلا ففيه قولان : القديم وبه قال أحمد واحدة كمالو كرر اليمين على كل شيء واحد والقول الجديد التعدد وبه قال ذأبو حنيفة ومالك وإذا لم تتوال أو قصد بكل واحدة ظهارا أو أطلق ولم ينو التأكيد فكل مرة ظهار برأسه وفيه قول : إنه لا يكون الثاني ظهارا إن لم يكفر عن الأول وإن قال : أردت إعادة الأول ففيه اختلاف بناءا على أن الغالب في الظهار أن معنى الطلاق أو اليمين لما فيه من الشبهين انتهى
وظاهر بعض عبارات أصحابنا أنهلو قيد الظهار بعدد اعتبر ذلك العدد ففي التتارخانية لو قال لأجنبية : إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي مائة مرة فعليه أي إذا تزوجها لكل كفارة وتدل الآية على أن الكفارة المذكورة قبل المسيس فإن مس أثم ولا يعاود حتى يكفر فقد روي أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس أن رجلا وهو سلمة بن صخر الأنصاري كمافي حديث أبي داود والترمذي وغيرهما ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ما حملك على ذلك ! فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر وفي لفظ بياض ساقها قال عليه الصلاة و السلام : فاعتزلها حتى تكفر ولفظ ابن ماجه فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفر قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ونفى كونه صحيحا رده المنذري في مختصره بأنه صححه الترمذي ورجاله ثقات مشهور سماع بعضهم من بعض
(28/12)
وروي الترمذي وقال : حسن غريب عن ابن إسحاق بالسند إلى سلمة المذكور عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قالفي المظاهر يواقع قبل أن يكفر : كفارة واحدة تلزمه ويرد به على مجاهد في قوله : يلزمه كفارة أخرى ونقل هذا عن عمرو بن العاص وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة وعلى منقالتلزمه ثلاث كفارات ونقل ذلك عن الحسن والنخعي وبه وبما تقدم يرد على ما قيل : من أنه تسقط الكفارة الواجبة عليه ولا يلزمه شيء ولا ترتفع حرمة المسيس إلا بها لا بملك ولا بزوج ثان حتى لو طلقها من بعد الظهار ثلاثا فعادت إليه من بعد زوج آخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظاهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر وهو واجب على التراخي على الصحيح لكون الأمر الدالة عليه الآية مطلقا حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الأمكان ويكون مؤديا لا قاضيا ويتعين في آخر عمره ويأثم بموته قبل الأداء ولا تؤخذ من تركته إنلم يوص ولوتبرع الورثة في الأعتاق وكذا في الصوم لا يجوز كذا في البدائع فإن أوصى كان من الثلث وفي التاتارخانية لو كان مريد التكفير مريضا فأعتق عبدهعن كفارته وهو لا يخرج من ثلث ما له فمات من ذلك المريض لا يجوز عن كفارته وإن أجازت الورثة ولو أنه بريء منمرضه جاز وللمرأة مطالبته بالوطء والتكفير وعليها أن تمنعه من الأستمتاع بها حتى يكفر وعلىالقاضي أن يجبره على النكفير دفعا للضرر عنها بحبس فإن أبى ضربه ولو قال : قد كفرت صدق ما لم يكن معروفا عند الناس بالكذب
هذا وبقيت مسائل أخر مذكورة في كتب الفقه ذلكم الإشارة إلى الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول أو لهم ولغيرهم من الأمة توعظون به أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات والمراد بيان أنالمقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواببمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكموزجركم عن مباشرة مايوجبه كذا في الأرشاد وهو ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها لذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناءا على أنالكفارات زواجر كالتعازير أو جوابر للخلل ورجح ابن عبد السلام الثاني لأنها عبادة لافتقارها للنية أي فهي كسجود السهو
والفرق بينها على الثاني وبين الدفن الكفارة للبصق على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الأثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يداوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك وعلى الأول الممحو هوحق الله تعالى من حيث هو حقه وأمابالنظر لنحو الفسق بموجبها فلا بد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى
ومتى قيل : بأنالأعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بد مناستتباعه الثواب وكون ذلك لا يعد ثوابا لا يخلو عن نظر ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب وإن تضمنه في الجملة فتأمل والله بما تعملون خبير من الأعمال كالتكفير وما يوجبه من جناية الظهار
3
- أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تحلو بشيء منها فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا
(28/13)
أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس والمراد بمن لم يجد منلم يملك رقبه ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم وقدر الكفاية منالقوت للمحترف قوت يوم والذي يعمل قوت شهر على مافي البحر ومنله عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم وهذا بخلاف من له مسكن لأنهكلباسه ولباس أهله وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنا فاضلا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثا لا بد منه وعن دينه ولو مؤجلا
وقالوا : إذا لم يفضل القن أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أوضخامة كذلك بحيث يحصل له يعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أوبممونه فلا عتق عليه لأنهفاقد شرعا كمن وجد ماءا وهو يحتاجه لعطش وإلى اعتبار كون ذلك فاقدا كواجد الماء المذكور ذهب الليث أيضا
والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه وماستعماله محظور عليه بخلاف الخادم واليسار والأعسار معتبران وقت التكفير والأداء وبه قال مالك وعن الشافعي أقوال في وقتهما أظهرها كما هو عندنا قالوا : لأن الكفارة أعني الأعتاق عبادة لها بدل من غير جنمسها كضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها وغلب الثاني كمذهب أحمد والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب كما لو زنى قن ثم عتق فإنه يحد حد القن والثالث الأغلظ منالوجوب إلى الأداء والرابع الأغلظ منهما وأعرض عمابينهما
ومن يملك رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدرعلى أخذه من مديونه فهوفاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال وجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين وأما قبله فقيل فاقد أيضا بناءا على قول محمد أنهتحل له الصدقة المشير إلىأن ماله لكونه مستحقا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكما وقيل : واجد لأنملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه
وفي البدائع لو كان في ملكه رقبة صالحة للنكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واجد حقيقة وحاصله أنالدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل وصرح بذلك النووي وغيره من الشافعية فقالوا : لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة والفرق بينهمابتكرر ذلك ضعيف وعلى الأول كما قال الأذرعي وغيره نقلا عن الماوردي واعتمدوه لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل وكذا لو غاب ماله فيكلف الصبر إلى وصوله أيضا ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى
وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما ثم أعتق عن ظهار الأخرى ففي المحيط في نظير المسألة ما يقتضي عدمإجزاء الصومعن الأول قال : عليه كفارتا يمين وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمالفلا يجزئه ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص
(28/14)
فمن صام بالأهلة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزأه ذلك وإن غم الهلال اعتبر كما في المحيط كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلا بد من ستين يوما كما في فتح القدير ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضا وقالوا : إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعدهبالهلال لتمامه وأتمالأول منالثالث ثلاثين لتعذر العلال فيه بتلفقه من شهرين وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل وإن أفطر يوما من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لوم الأستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة وقال أبو حيان : إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب والحسن وعطاء وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه : يبنى أه وإن جامع التي ظاهر منها منخلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف : لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به وإنجامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيا لا يستأنف عند الأمام أيضا كما لو أكل ناسيا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة وتقدمها على المسيس شرط حلها فبالجماع ناسيا في أثنائه يبطل حكم الصومالمتقدم في حق الكفارة ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطالما أوجب الله تعالى وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيد وأيام التشريق لأنالصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل
وفي البحر : المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر وفي المريض روايتان وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع ومن قدر على الأعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الأعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذ تظوعا والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه شرع فيه نسقطا لا ملتزما خلافا لزفر
وفي تحفة الشافعية لو بان صومهما أنله ما لا ورثه ولم يكن عالما به لم يعتد بصومه على الأوجه اعتبارا بما في نفس الأمرأي وهو واجد بذلك الأعتبار وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمنتيمم وفي رحله ماء غبره ولم يعلم به منصحة تيممه الأعتداد بالصوم ههنا وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماءا ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعد مبطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليراجع فمن لم يستطع أي صيام شهرين متتابعين وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن الهمام وغيره وعليه أكثر الشافعية وقال الأقلون منهم كالأمام ومنتبعه وصححه في الروضة : يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء قال ابن حجر : ويظهر الأكتفاء بقول عدل منهم وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإنلم تبح التيمم فيمايظهر غير مستطيع وكذا من خاف زيادة مرض وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال : والله يا رسول الله
(28/15)
إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني الخبر وعدوا من أسباب عدم الأستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة
واستدل بما أخرج الأمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن سلمة بن صخر قال : كنت رجلا قد أوتيت منجماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها إلى أن قال فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال : أنت بذاك قلت : أنا بذاك فقال : أنت بذاك قلت : أنا بذاك وها أناذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال : اعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها قال : فصم شهرين متتابعين فقلت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال : فأطعم ستين مسكينا الحديث فإنه أشار بقوله : وهل أصابني الخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين وإنما لم يكن عذرا في صوم رمضان قالابن حجر : لأنهلا بد له وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرا ابتداءا لفقده حينئذ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر وانتقل عنه للأطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى : فمن لم يستطع
فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو صاع شعير ودقيق كل كأصله وكذا السويق وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في فتح القدير والصاع أربعة أمداد
وقال الشافعية : لكل مسكين مد لأنه صح في رواية وصح في الأخرى صاع وهي محمولة على بيان الحواز الصادق بالندب لتعذر النسخ فتعين الجمع بما ذكر فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط ولو للبلدي فلا يجزيء نحو دقيق مما لا يجزي في الفطرة عندهم ومذهب مالك كما قال أبو حيان مد وثلث بالمد النبوي وروي عنه ابن وهب مدان
وقيل : مد وثلثا مد وقيل : ما يشبع من غير تحديد ولا فرق بين التمليك والأباحة عندنا فإن غدي الستين وعشاهم أو غداهم مرتين أوعشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك ويعتبر اتحاد الستين فلو غدي مثلا ستين مسكينا وعشي ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء ولو أطعم مائة وعشرين مسكينا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزأه واشترط الشافعية التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الأباحة ونحن نقول : المنصوص عليه هنا هو الأطعام وهو حقيقة في التمكين منالطعم وفي الإباحة ذلك كما في التمليك وفي الزكاة الإيتاء وفي صدقة الفطر الأداء وهما للتمليك حقيقة كذا في الهداية قال العلامة ابن الهمام : لا يقال : اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر مشتركا معمما أو في حقيقته ومجازه لأنا نقول : جواز التمليك عندنا بدلالة النص والدلالة تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مكع التأفيف
(28/16)
فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره وذكر الواني أن الأطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته ىكلا وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال قالوا : والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل
ويجوز الجمع بين الأباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذاملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءا وعشاءا وكذا لرجل واحد في إحد روايتين كأن غداه مثلا وأعطاه مدا وإن أعطي مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سد خلة المحتاج والحاجة تتجدد في كل يوم فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره وهذا في الأباحة من غير خلاف وأماالتمليك منمسكين واحد بدفعات فقد قيل : لا يجزيه وقيل : يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص وخالف الشافعية فقالوا : لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزيء الدفع لواحد في ستين يوما وهو مذهب مالك والصحيح من مذهب أحمد وبه قال أكثر العلماء لأنه تعالى نص على ستين مسكينا وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سد خلة المحتاج الخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز وأصحابنا أشد موافقة لهذا الأصل ولذا قالوا : لا يجزيء الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أنتفريق الدفع غيرمصرح به وإنماهو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنهالمستلزم وغاية ما يعطيه كلامهمأنهبتكرار الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم منالستين حقيقة أو حكما
ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه فإن قلت : المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيهالتعدد الحكمي ما هو قلت : هو الحاجة فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أنالعدد ممايقصد لما في تعميم الجميع منبركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء قاله في فتح القدير وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا منالحنطة وبعضا منالشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع منبر ونصف صاع منشعير وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود وهوالأطعام ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه وهو البر والشعير ودقيق كل وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاعتمر يبلغ قيمة نصف صاع بر ولا يجوز فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنمآ الأعتبار في غير المنصوص عليه ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا
(28/17)
ولا يجوزفي الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع منالبر مثلا فقط ففي التاتارخانية لو أعطي ستين مسكينا كل مسكين مدا منالحنطة لم يجز وعليه أن يعيد مدا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأطى ستين آخرين كلا مدا لم يجز ولو أعطى كلا من المساكين مدا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدا لم يجز وكذا لو أعطى المكاتبين مدا مدا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر وعليه فالمراد بستين مسكينا ستون مسكينا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره فإن أمر غيره فأطعم أجزأ لأنهاستقراض معنى فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه والمراد بالمسكين ما يعم الفقير وقد قالوا : المسكين والفقير إذااجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ويشترط أن لا يكون المطعم أصله أو فرعه أوزوجته أومملوكه أو هاشميا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة ولا حربيا ولو مستأمنا لمزيد خسته فليس أهلا لأدنى منفعة ويجوز أن يكون ذميا ولو دفع بتحر فبان أنه ليس بمصرف أجزأه عندهما خلافا لأبي يوسف كما في البدائع
واستنبط الشافعية منالتعبير بعدم الوجود عند الأنتقال إلى الصوم وبعدم الأستطاعة عند الأنتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الأطعام كما سمعت ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والأعتاق والأطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره ويجب تقديم الأطعام على المسيس فإن قرب المظاهر المظاهرة في خلاله أثم ولم يستأنف لأنهD ما شرط فيه أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين والوجوب قيل : لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الأطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهما القربان قبل الأطعام ثم اتفق قدرته فلزم التكفير به لزم أن يقع العتق التماس والمفضي إلى الممتنع ممتنع
وتعقب بأن فيه نظرا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداءا بل يثبت الأستحباب ورعا فالأولى الأستدلال عل حرمة المسيس قبل الأطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث اعتزلها حت تكفر ونحوه وما ذكر من أنه لو قدر عل العتق مثلا خلال الأطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية
قال ابن حجر عليه الرحمة : لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الطعام ولو لمد كما لو شرع في صوم يوم منالشهرين فقدر على العتق أجاز بعض المسيس في خلال الأطعام من غير إثم ونقل ذلك عن أبي حنيفةرض عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الأستئناف وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاثة في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الأطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم
وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الأطعام دليلا لأبي حنيفة في قوله : بعدم الأستئناف أي مع الأثم
وتعقبه ابن المنير في الأنتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة : إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس
(28/18)
في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرا في أحد الحكمين دون الآخر وهلالتخصيص إلا نوع من التحكم ثم قال : وله أن يقول : اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير وقد نطقت الآية بالمتفرقة فلم يصرفها إلىما وقع الأتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام
وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية : استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه ثم الباقي إذا أيسر والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تماما ولم يبال بأضرار المرأة بذلك لأن الأيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع ولم أراجع حكم المسألة في الظهار عند الحنفية وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجز عن الخصال الثلاثة وفيه : فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال : تصدق به فقال : أعلى أفقر مني يا رسول الله فو الله ما بين لابتيها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدتنواجذه ثم قال : خذه فاطعمه أهلك في لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد منالتكفير وجمهور العلماء على قوله وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن للشافعي في هذا العاجز قولين : أحدهما لا شيء عليه واحتج له بحديث الأعرابي المذكور لأنه عليه الصلاة و السلام لم يقل له : إن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له إطعام عياله والثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره وأماالحديث فليس في نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنهأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة و السلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقكط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الأنفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي وإنما لم يبين عليه الصلاة و السلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة انتهى
ومن الناس من قال : لم يكن هناكط تأخير بيان وإنما اكتفى صلى الله تعالى عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالأستقرار والأخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي
ومسائل الظهار كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة ومن أراد كمال الأطلاع فليرجع إلى كتب الفروع ولو لا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئا منها ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم
ذلك إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم ومحله إما الرفع على الأبتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتعلموا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم
(28/19)
عليه في جاهليتكم وتلك الأحكام المذكورة حدود الله التي لا يجوز تعديها فألزموها وقفوا عندها وللكافرين أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها عذاب أليم
4
- على كفرهم وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا لزجره ونظير ذلك قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
إن الذين يحادون الله ورسوله أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حد وجهة غير حد الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه وقيل : إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما منالمحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها والأول أظهر وفي ذكر المحادة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دونالمعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد وقال ناصر الدين البيضاوي : أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور
قال المولى شيخ الأسلام سعد الله جلبي : وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون والله تعالى المستعان على ما يصفون أه وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله : وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول : يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما وقد قال الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ولكن أين من يعقل ! انتهى
وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به
(28/20)
إياك أن تقول في مجلسنا : المسألة شرعا كذا وقد أصابني منه عامله الله بعد له لعد ولي عن قوله مزيد الأذى واتفق أن قال لي بعض خاصته يوما : أرى ثلثي الشرع شرا فقلت له وإن كنت عالما أن في أذنيه وقرا : نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الأشارة والذي ينبغي أن يقال في ذلك : إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليق ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الأمام كأنواع التعاذير وللأمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الأمام حق الله تعال للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج والقواعد لا تأباه نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الأفراط والتفريط وقد شاهدنا في الغراق مما يسمونه جزاءا ما القتل أهون منه بكثير ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير
وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق ورجم الزاني المحصن وما فصل في حق الطريق منقطع الأيدي والأرجل منخلاف وغيره مما فصل في آيتهم إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي
وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه شرعا ولا نسميه قانونا و أصولا وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشته لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز و جل
وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا لعمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهمفهو مما لا بأس فيه وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس ولا يجري هذا التفصيل فيماوصفه رسول الله عليه الصلاة و السلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه موافقة ولا مخاتلفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والأباحة فإن دخل في عمومات الأباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد وأمرتكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصا لها بعد ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول : وإن تلك الأحكامأصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها ويقول كلما ذكرها : الأصول المستحسنة وكان يرشح كلامه بنفي رسالةالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في أكثر المسائل والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك
(28/21)
الأنتظام ويصلح أمر الخاص والعام ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الأمام فليس ذلك من المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة و السلام ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للأمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي والذي يستوفيه الأمام هو حق الله تعالى للمصلحة وفي كتاب الخراج للأمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضا ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم لأن المراد كماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو عموما ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه نعم القانونالذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادما لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي : إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم ثم إن الآية على ما في البحر نزلت في كفار قريش كتبوا أي أخزوا كما قالقتادة أو غيظوا كما قالالفراء أو ردموا مخذولين كما قال ابن زيد أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش
وعن أبيعبيدة أن تاءه بدل من الدال والأصل كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي : لعنوا وقيل : الكبت الكب وهو الألقاء على الوجه وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق وقيل : إلى ما كان يوم بدر وقيل : معنى كتبوا سيكبتون على طريقة قوله تعال : أت أمر الله وهو بشارة للمؤمنين بالنصر عل الكفار وتحقق كبتهم
كما كبت الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية المحادين لله عز و جل ورسله عليهم الصلاة والسلام وقد أنزلنا آيات بينات حالمن واو كبتوا أي كبتوا لمحادتهم والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم وقيل : آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به وللكافرين أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا عذاب مهين
5
- يذهب بزعمهم وكبرهم يوم يبعثهم الله منصوب بما تعلق به اللام من الأستقرار
(28/22)
أو بمهيمن أو بإضمار اذكر أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا وقيل منصوب بيكون مضمورا على أنهجواب لمنسألأ متى عذاب هؤلاء فقيل له : يوم يبعثهم أي يكون يوم الخ وقيل : بالكافرين وليس بشيء وقوله تعالى : جميعا حال جيء به للتأكيد والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد فينبئهم بما عملوا من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رءوس الأشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم وقوله تعالى : أحصاه الله استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل : كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراضمتقضية متلاشية فقيل : أحصاه الله تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء وقوله تعالى : ونسوه حينئذ حال منمفعول أحصى بإضمار قد أو بدونه أو قيل : لم ينبئهم بذلك فقيل : أحصاه الله تعالى ونسوهفينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير واللهعلى كل شيء شهيد
6
- لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا والجملة اعتراض تذييلي مقرر لأحصائه تعالى أعمالهم وقوله تعالى : ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز و جل يعلم ما فيهما منالموجودات سواء كان ذلك بالأستقرار فيهما أو بالجزئية منهما
وقوله تعالى : ما يكون مننجوى ثلاثة الخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى و يكون من كان التامة و من مزيدة و نجوى فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض أ لأن السر يصان فكأنه رفع منحضيض الظهور إلى أوج الخفاء وقيل : أصل ناجيته منالنجاو وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهو مضافة إلى ثلاثة ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى أو يؤول نجوى بمتناجين فثلاثة صفة للمضاف المقدر أو لنجوى المؤول بما ذكر
وجوز أن يكون بدلا أيضا التأويل والتقدير المذكوران ليتأتى الأستثناء الآتي من غير تكلف وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المساوون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب : إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد وقد يوصف به فيقال : هو نجوى وهم نجوى قال تعالى : وإذ هم نجوى وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل
وقرأأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة ما تكون بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري : على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي و من فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى واختار في الكشف الثاني فقال : هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود من ولا معنى لأن المعنى شيء منها فالتذكير هو الوجهلفظا ومعنى وهو قراءة العامة انتهى وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس
(28/23)
قالتعالى : وما تاتيهم من آية من آيات ربهم ما تسبق من أمة أجلها فتأمل وقوله سبحانه : إلا هو رابعهم استثناء مفرغ من أعم الأحوال والرابع لأضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حالمن الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث أنه عز و جل يطلع أيضا على نجواهم وكذا قوله تعالى : ولا خمسة أي ولا نجوى خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى أي ولا نجوى أدنى من ذلك أي مما ذكر كالأثنين والأربعة ولا أكثر كالستة وما فوقها
إلا هو معهم يعلم ما يجري بينهم أين ما كانوا من الأماكن ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة وجهان : أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا واله تعالىمعهم يعلم ما يقولون فالآية تعريض بالواقع على هذا وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدثون فقال : أحدهم أترى أن الله يعلم ما نقول فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأنمن علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم مجتباة من أولي الأحلام والنهي وأول عددهم الأثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم به الأستصواب فذكر عز و جل الثلاثة والخمسة وقال سبحانه : ولا أدنى من ذلك فدل عل الأثنين والأربعة وقال تعالى : ولا أكثر فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف
في الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجو فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إل الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى : ولا أدنى من ذلك دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الأثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك ولأنه تعالى وتر يحب الوتر انتهى
وقد يقال : إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا والأليق أن يكون وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الأختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى
وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل عليه بدل قوله لهم : نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم وقد قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وتربة العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو من اعتبار كل ممكن حتى
(28/24)
أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة أشياء : الموضوع والمحول والحد الأوسط بل القضية التي يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها وكذا بضربالحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبهة بالثلاثة من حيث أنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها في التناجي وكذا عدد الحواس الظاهرة ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى : ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هومعهم ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى
وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا وقال ابن عيسى : كلسرار نجوى وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل
وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة و خمسة بالنصب على أن الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه وفي مصحف عبد الله إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهمولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك إلا الله معهم إذا انتجوا وقرأالحسن وابن أبيإسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب ولا أكثر بالرفع قال الزمخشري : على أنه معطوف على محل لا أدنى كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة ويجوز أن يعتبر أدنى مرفوعا علىهذه القراءة ورفعهما على الأبتداء والجملة التي بعد إلا هي الخبر أو على العطف على محل مننجوى كأنه قيل : ما يكونأدن ولا أكثر إلا هو معهم و أكثر على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نجوى كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم وأن يكون مفتوحا لأن لا لنفي الجنس وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد ولا أكبر بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ثم ينبئهم بما عملوايومالقيامة تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم
وقريء ينبئهم بالتخفيف والهمز وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء
إن الله بكل شيء عليم
7
- لأن نسبة ذاته المقتضى للعلم إلى الكل على السواء وقد بدأ الله تعالى في هذهالآيات بالعلم حيث قال سبحانه : ألم تر أن الله يعلم الخ وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال الله تعالى : إن الله الخ ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز و جل : رابعهم و سادسهم و معهم أن المراد به كونه تعالىكذب بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤولون وكأنهم لم يعدوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفاظه بما يدل عليه دلالة لأخفاء فيها ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولونليس على إطلاقه ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت فياليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم يتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهمشكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم وقال مجاهد : نزلت في اليهود
(28/25)
وقال ابن السائب : في المنافقين والخطاب للرسول عليه الصلاة و السلام والهمزة للتعجيب من حالهم وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة وقوله تعالى : ويتناجون بالأثم والعدوان ومعصيت الرسول عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعد على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وذكره عليه الصلاة و السلام بعنون الرسالة بين الخطابين المتوجهين وإليه صلى الله عليه و سلم لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم
وقرأحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس وينتجون بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى وقرأ أبو حيوة العدوان بكسر العين حيث وقع وقريء معصيات بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله صح منرواية البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن أناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : السلام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة و السلام : وعليكم قالت عائشة : وقلت : عليكمالسام ولعنكم الله وغضب عليكم وفي رواية عليكمالسام والذام واللعنة فقالE : يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش فقلت : ألا تسمعهم يقولون : السام ! فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أو ما سمعت أقول : وعليكم ! فأنزل الله تعالى وإذا جاؤك الآية
وأخرج أحمد والبهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوايقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم : لو لا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية وإذا جاؤك الخ والسام قال ابن الثير : المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني ولم يذكر فيه الهمز وتركه
وقالالطبرسي : من قال : السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز وجعل البيضاوي منالتحتية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة و السلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك وقوله تعالى : ويقولون في أنفسهم أي فيمابينهم وجوز إبقاؤه على ظاهره لولا يعذبنا الله بما نقول أي هلا يعذبنا الله بسبب ذلك لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول منالتحتية أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الأسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأشير إليها بقوله تعالى : سلام على المرسلين وسلام على عباده الذين اصطفى وما جاء في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة اللهوبركاته ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الأكتراث ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة والقول بالكراهة غير يعيد
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدي بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله لهتأديبه لتركه سنة السلام انتهى وأنعم صباحا نحو صبحك الله بالخير غاية ما في الباب أنه
(28/26)
مجلسه صلى الله تعالى عليه وسلم والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة و السلام فإن لكل أجد منهم مجلسا وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان كان صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة و السلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منأهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إل المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : السلامعليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم سلموا عل القوم فردوا عليهم فقامواعل أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا الخ وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب منر صلى الله عليه و سلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك
(28/27)
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة ينشاحون في مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت يا أيها الذين آمنوا الخ والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسخ لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة و السلام ومصاف القتال وغير ذلك وقريء في المجلس بفتح اللام فإما أنيراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الأستعمال وإما أن يراد به المصدر والجار متعلق بتفسحوا أي إذا قيللكمتوسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه فافسحوا يفسح الله لكم أيفي رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال
وقال بعضهم : المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدونالفسح فيه أي مما ذكر وغيره وأنتتعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل وإذا قيل انشزوا أي انهضوا للتوسعة على المقبلين فانشزوا فانهضوا ولا تتثبطوا وأصلهمنالنشز وهو المرتفع من الأرضفإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك : المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا وقيل : إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقوموا وهذا لأنه عليه الصلاة و السلام كان يؤثر أحيانا الأنفراد في أمر الأسلامأو لأداء وظائف تخصه صلى الله تعالى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكتمل بدون الأنفراد وعمم الحكم فقيل : إذاقال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ينبغي أن يجاب وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة انشزوا فانشزوا بكسر الشين منهما
يرفع الله الذين آمنوا منكم جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشزوا يرفع عز و جل المؤمنين منكم في الآخرة
(28/0)
دعاء كان يستعمل في الجاهلية نعم تحيتهم به له عليه الصلاة و السلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف حسبهم جهنم عذابا يصلونها يدخلونها أويقاسونحرها أو يصطلون بها
فبئس المصير
8
- أي جهنم يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم في أنديتكم وفي خلواتكم
فلا تتناجوا بالأثم والعدوان ومعصيت الرسول كما يفعله المنافقون فالخطاب للخاص تعريضا بالمنافقين وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم
وقرأالكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس فلا تنتجوا مضارع انتجى وقرأ ابن محيصن فلا تناجوا بإدغام التاء في التاء وقريء بحذف إحداهما وتناجوا بالبر والتقوى بمايتضمن خير المؤمنين والأتقاء عن معصية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واتقوا فيما تأتون وما تذرون الله الذي إليه وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا تحشرون
9
- فيجازيكم على ذلك إنما النجوى المعهودة التي هي التناجي بالأثم والعدوان والمعصية منالشيطان لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها وقوله تعالى : ليحزن الذين آمنوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوبتهم أنها في نكبة أصابتهم وقريء ليحزن بفتح الياء والزاي فالذين فاعل وليس بضآرهم أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين شيئا من الأشياء أوشيئا من الضرر إلا بإذن الله أي بإرادته ومشيئته عز و جل وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم وعلى الله فليتوكل المؤمنون
10
- ولا يبالوا بنجواهم
وحاصله أنما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز و جل ولا يحزنوا منه فهذا الكلام لإزالة حزنهم ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير ليس بضارهم للحزن وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضافإنه غذا قيل : إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم هذا ومن الغريب ما قيل : إن الآيةنازلة في المنامات التي برأها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزم منها فكأنها نجوى يناجي بها وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذاكنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك ولما نهي عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز و جل من قائل : يأيها الذين آمنواإذا قيل لكم تفسحوا في المجالس الخ أو لما نهي عز و جل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قاللكم قائل كائنا منكان : توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها من قولهم : أفسح عني أيتنح والظاهر تعلق في المجالس بتفسحوا وقيل : متعلق بقيل
وقرأالحسن وداود بن أبيهند وقتادة وعيسى تفاسحوا وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس والجمهور في المجلس بالأفراد فقيل : على إرادة الجنس لقراءة الجمع وقيل : على إرادة العهد والمراد به
(28/28)
جزاءا للأمتثال والذين أوتوا العلم الشرعي درجات أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام وعطف الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا منعطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدهم كأنهم جنس آخر ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا فضل العالم العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الأسلام فبينه وبين النبيين درجة وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة وعنه عليه الصلاة و السلام يشفع يومالقيامة ثلاثة : الأنبياء ثن العلماء ثم الشهداء فأعظم بمرتبة بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلى الله تعالى عليه وسلم وعن ابن عباس خير سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمالفاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعا له
وعن الأحنف كاد العلماء يكونون أربابا وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير وعن بعض الحكماء : ليست شعري أي شيء أدرك منفاتهالعلم وأي شيء فاته من أدرك العلم والدالعلى فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى وأرجى حديث عندي في فضلهم ما رواه الأمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يجمع الله تعالى يوم القيامة فيقول : إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابنمسعود أنه قال : ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات وجعل بعضهم العطفعليه للتغاير بالذات بحمل الذين آمنوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالىيرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن الذين أوتوا معمول لفعل محذوف والعطفمنعطف الجمل أي ويرفع الله الذين أوتوا العلم خاصة درجات ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنهقال في الآية : يرفع الذين أوتوا العلم منالمؤمنين على الذين لم يؤتواالعلم درجات
وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى تقدير العامل والمعنى على ذلك منغير تقدير واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر وقال : يضمر المذكور أحط منهمما يناسب المقام نحو أن يقال : يرفعالله الذين آمنوافي الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما لا يليق بهم من غرف الجنات ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم وجوز كون المراد الموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات وكون العطف منعطف الخاص على العام هو الأظهر وفي الأنتصاف في الجزاء يرفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه منالجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك
(28/29)
يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي برفع الدرجات كقوله : من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عز و جل
وقيل : إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص منرفعة المجالس وحبهم للتصدير وهذا منمغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الأنتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم ولا أظن بالذين أوتوا العلم المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرض بهم الخفاجي نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير ن علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا لكن كثير من هؤلاء إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته ومع ذلك قد امتلأ قلبه منحب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العالم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا وهو بناء على ما تقدم منمعناها لدلالتها على فضل العالم على غيره منالمؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل
وقالالجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكمدرجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ففيه دليل على رفع العلماء المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن معنى المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمالبعيد ويظهر منهأيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤالعن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك ويحتمل أنه علم أنهمجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه المتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله والله بما تعملون خبير
11
- تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره وقريء بما يعملون بالياء التحتانية يأيها الذين آمنواغذا ناجيتم الرسول أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة و السلام لأمر ما من الأمور فقدموا بين يدي نجواكم صدقة أي فتصدقوا قبلها وفي الكلام استعارة تمثيلية وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالأنسان وإثبات اليدين تخييل وفي بين ترشيح على ما قيل ومعناه قبل وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه و سلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة و السلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه و سلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم فيكفرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه الصلاة و السلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت واختلف في الأمر للندب أو للوجوب لكنه نسخ بقوله تعالى : أأشفقتم الخ وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا وقيل : نسخ بآية
(28/30)
الزكاة والمعول عليه الأول ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما نزلت يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الخ قال لي النبي صلى الله عليه و سلم : ما ترى في دينار قلت : لا يطيقونه قال : نصف دينار قلت : لا يطيقونه قال : فكم قلت : شعيرة قال : فإنكلزهيد فلما نزلت أأشفقتم الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم : خفف الله عن هذه الأمة ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه وأخرج الحاكموصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهمعنهكرم الله تعالى وجهه أنه قال : إنفي كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أيها الذين آمنواإذا ناجيتم الرسول الخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه و سلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت أأشفقتم الآية وقيل : وهذا على القول بالوجوب محمول على أنهلم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم واختلف في مدة بقائه فعن مقاتل أنه عشرة ليال وقال قتادة : ساعة من نهار وقيل : إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا
وقريء صدقات بالجمع لجمع المخاطبين ذلك أي تقديم الصدقات خير لكم لما فيه من الثواب وأظهر وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الأكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها وفيه إشاة إلى أنفي ذلك إعداد النفس لمزيد الأستفاضة من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند المناجاة
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم
12
- أي لمن لم يجد حيث رخص يبحانه له في المناجات بلا صدقة أظهرإشعارا بالوجوب
أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول أشفقتم محذوف و أن على إضمار حرف التعليل ويجوز أن يكون المفعول أنتقدموا فلا حذف أي أخفتم تقديمالصدقات لتوهم ترتب الفقرعليه وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة منتقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر من استمرار الأمر وتقديم صدقات وهذا أولى مما قيل : إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وتاب الله عليكم بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة وفيه على ما قيل : إشعار بأن أشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤي منهم من الأنقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام توبتهم وإذ على بابها أعني أنها ظرف لما مضى وقيل : إنها بمعنى إذ الظرفية للمستقبل كما في قوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم
وقيل : بمعنى إن الشرطية كأنه قيل : فإن لم تفعلوا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة والمعنى على الأولإنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة واعتبرت المثابرة لأن المأمورينمقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة وعدلعن فصلوا إلى فأقيموا الصلاة ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كمالها لا على أصل فعلها فقط ولما عدلعن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقلوزكوا لئلا يتوهم أن المراد بتزكية النفس كذا قيل فتدبر وأطيعوا الله ورسوله أي في سائر الأوامر ومنهاما تقدمفي ضمن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذاقيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا الآيات وغير ذلك
(28/31)
والله خبير بما تعملون
13
- ظاهرا وباطنا
وعن أبي عمرو يعملون بالتحتية ألم تر تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين وفيه على ما قال الخفاجي : تلوين بصرفه عن المؤمنين إلى اتلرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي ألمتنظر إلى الذين تولوا أي والوا قوما غضب الله عليهم وهم اليهود ما هم أي الذين تولوا منكم معشر المؤمنين ولا منهم أي من أولئك القوم المغضوب عليهمأعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك وفي الحديث مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين أي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع
وجوز ابن عطية أن يكون هم للقوم وضمير منهم للذين تولوا ثم قال : فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة وجوز كونها حالا من فاعل تولوا ورد بعدمالواو وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الأسمية المثبتة أو المنفية إذاوقعت حالا بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا وما ههنا أتت بالضمير أعني هم وعلى ما قالابن عطية : في موضع الصفة لقوم
وذكر المولى سعد الله أن في منكم التفاتا وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلى الله عليه و سلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر ويحلفون على الكذب عطف على تولوا داخل في حيز التعجيب وجوز عطفه على جملة ما هم منكم وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف وقوله تعالى : وهم يعلمون
14
- حال من فاعل يحلفون مفيدة لكمالشناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح واستدلبه على أن الكذبيعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظإذ عليهما لا حاجة إليه وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وهم يعلمون بمعنى خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين والأحتمال يبطل الأستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الأسلام حقيقة وقيل : إنهم ما شتموا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بناءا على ما روي أنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال : إنكم سيأتيكمإنساتن ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة و السلام حين رآه : علام تشتمني أنت وأصحابك فقال : ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا فنزلت وهذا الحديث أخرجه الأمام أحمد والبزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره فأنزل الله يوم يبعثهم جميعا فيحلفون لهكما يحلفون لكم الآية والتي بعدها ولعله يريد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهمما شتموا
وفي البحر رواية ذلك عن السدي ومقاتل وهو أنه عليه الصلاة و السلام قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية فقال صلى الله عليه و سلم :
(28/32)
علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له : فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت والله تعالى أعلم بصحته
وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الياء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحرث بن قيس الأنصاري الوسي ذكره ابن الكلبي والبلا ذري في المنافقين وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر : إنه أطلع على أنهتاب وأما قوله في القاموس : عبد الله ابن نبيل كأمير منالمنافقين فيحتمل أنه هو هذا واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره أعد الله لهم بسبب ذلك عذابا شديدا نوعا من العذاب متفاقما إنهم سآء ما كانوا يعملون
15
- ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتخذوا أيمانهم الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جنة وقاية وسترة عنالمؤاخذة وقرأ الحسن إيمانهم بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين قال في الأرشاد : والأتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل : تستروا بما أظهروه منالإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لهاإلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى : فصدوا أي الناس
عن سبيل الله في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الأسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم وقيل : فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم : صدوا لازم والمراد فأعرضوا عنالأسلام حقيقة وهو كما ترى فلهم عذاب مهين
16
- وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم وقيل : الأول عذابالقبر وهذا عذاب الآخرة ويشعر به وصفه بالأهانة المقتضية للظهور فى تكرار
لن تغني عنهم أموالهم ولآ أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار همفيها خالدون
17
- قد سبق مثله في سورة آل عمران وسبق الكلام فيه فمنأراده فليرجع إليه يوم يبعثهم الله جميعا تقدم الكلام في نظيره غير بعيد فيحلفون له أي لله تعالى يومئذ قائلين : والله ربنا ما كنا مشركين كما يحلفون لكم في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناءا على ما قدمنا من سبب النزول ويحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الفاجرة على شيء من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية ألا إنهم هم المكذبون
18
- البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسرواعلى الكذب بين يدي علام الغيوب وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه عز و جل كما تروجه عند المؤمنين استحوذ عليهم الشيطان أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم وقال الراغب : الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال : حاذ الإبل يحوذها أي ساقها
(28/33)
سوقا عنيفا وقوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان أي استاقهم مستوليا عليهم أو من قولهم : استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها أه
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الأستيلاء ومثله الأحواذ والأحوذي وهو كما قال الأصمعي : المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك واستحوذ مما على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس كاستنوق واستصوب وإن وافق الأستعمال المشهور فيه ولذا لم يحل استعماله بالفصاحة وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل فأنساهم ذكر الله في معنى لم يمكنهم من ذكره عز و جل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أولئك الموصوفون بما ذكر منالقبائح حزب الشيطان أي جنوده وأتباعه
ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون
19
- أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايفين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى
إن الذين يحآدون الله ورسوله استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران الشيطان عبر عنهمبالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم أولئك الموصوف بما ذكر في الأذلين
20
- أي في جملة من هو أذل خلق الله عز و جل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز و جل غير متناهية كانت ذلة من حاده كذلك كتب الله استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم وعن قتادة قال : وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه : لأغلبن أنا ورسلي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقول صالح وقوم لوط وغيرهم والحرب بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة و السلام وكذا لأتباعهم يعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله عز و جل لا لطلب ملك وسلطنةوأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا وخص بعضهم الغلبة بالحجة لأطرادهاوهو خلاف الظاهر ويبعده سبب النزول فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا : نرجوا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي : أتظنونالروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أنتظنوا فيهم ذلك فنزلت كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي على نصر رسله عزيز
21
- لا يغلب على مرادهD
(28/34)
وقرأ نافع وابن عامر ورسلي بفتح الياء لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر آدون منحاد الله ورسوله خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له و تجد إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى : يوادون الخ مفعوله الثاني وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة وقيل : صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بذاك والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل أن منالممتنع المحال أنتجد قوما مؤمنين يوادون المشركين والغرض منه أنهلا ينبغي أن يكونذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب فيمجانبة أعداء الله تعالى وحاصل هذا على ما في الكشف أنه منفرضغير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان وإنما الواقع نفي الأنبغاء فخيل أنههو فالتصوير في جعل ما لا يمتنع ممتنعا وقيل : المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان علىهذه الحال فالنفي باق على حقيقته والمراد بموادة المحادين موالاتهم ومظاهرتهم والمضارع قيل : لحكاية الحال الماضية و من حاد الله ورسوله ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق والأخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان : يرون أنالآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا يقول اللهتبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهملا تجعل لفاجر في رواية ولا لفاسق على يدا ولا نعمة فيوده قلبي فإني وجدت فيماأوحيت إلى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وحكى الكواشي عن سهل أنه قال : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكلهولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوةوالبغضاء ومن داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن ومنتجبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزغ الله تعالى نور الإيمان منقلبه ومن لم يصدق فليجرب انتهى
ومنالعجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة وليس منهم ولا قلامة ظفر يوالي الظلمة بل منلا علاقة له بالدين منهم وبنصرهم بالباطل ويظهر منمحبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس وإذا تليت عليه آيات الله تعالىوأحاديث رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول : سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته إن كانت بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته وهذا لعمري هو الضلال البعيد وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء ولو كانوا أي من حاذ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام والجمع باعتبار معنى منكما أن الأفراد فيما قبل باعتبار لفظها آباءهم أي الموادين أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم فإن قضية الإيمان بالله تعالى
(28/35)
واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة وليس المراد بمنذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف وثني بالأبناءلأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم : أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجاء بغير سلاح وختم بالعشيرة لأن الأعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الأخوان غالبا : لو كنت منمازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذا لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا وقرأ أبو حيان رجاء وعشائرهم بالجمع أولئك إشارة إلى الذين لا يوادونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : كتب في قلوبهم الإيمان أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ بالمنتهى للتأكيد والمبالغة وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه
وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم كتب مبنيا للمفعول الإيمان بالرفع على النيابة عن الفاعل
وأيدهم أي قواهم بروح منه أي من عنده عز و جل على أن من ابتدائية والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية وجوز كونه استعارة وقول بعض الأجلة : إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون في القلب وبه الأدراك فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى أو المراد به القرآن على الأحتمالين السابقين واختيرت الأستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر وإطلاق الروح على شائع أقوال
وقيل : ضمير منه للإيمان والمراد بالروح الإيمان أيضا والكلام على التجريد البديعي فمن بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله تعالى : ويدخلهم الخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبد الآبدين وقوله تعالى : رضي الله عنهم استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز و جل العاجلة والآجلة وقوله تعالى ورضوا عنه بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وقوله تعالى : أولئك حزب الله تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه : ألا إن حزب الله هم المفلحون
22
- بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة بإلا وإن على ما مر في أمثالها والآية قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فصكه
(28/36)
أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : أفعلت يا أبا بكر قال : نعم قال : لا تعد قال : والله لو كان السيف قريبا مني لضربته وفي رواية لقتلته فنزلت لا تجد قوما الآيات
وقيل : في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال : جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تجد الخ وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد وقال الواقدي في قصة إياه : كذلك يقول أهل الشام وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا : توفي أبو قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الأسلام انتهى
والحق أنه قتله في بدر أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال أي أبو عبيدة قتل أباه وهو منجملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته وقيل : نزلت فيه حيث قتل أباه وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : دعني أكون في الرعلة الأولى وهي القطعة من الخيل قال : متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري وفي مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحرث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر
وتفصيل ذلك ما رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز إلى قوله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة ابن الحرث فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة
هذا ورتب بعض المفسرين ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه وقيل : إن قوله تعالى : لا تجد قوما الخ نزل في حاطب بن أبي بلتعة والظاهر على ما قيل : إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى والله تعالى أعلم
(28/37)
سورة الحشر
قال البقاعي : وتسمى سورة بني النضير وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر قال : قل : سورة بني النضير قال ابن حجر : كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد ههنا إخراج بني النضير
وهي مدنية وآيها أربع وعشرون بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وفي أول هذه فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله وأن في الأولى ذكر المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة لا ترد له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أبو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل وكان عليه الصلاة و السلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفة من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل : أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها : الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة و السلام وهو على حمار مخطوم بليف
وقيل : على جمل واستعمل على المدينة ابن مكتوم حتى إذا نزل صلى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب وقالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب وقيل : استمهلوه عليه الصلاة و السلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون أخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة و السلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم على ما قال ابن هشام في سيرته ست ليال وقيل : إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا مننصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة و السلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا منالمتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام
(28/38)
ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيقد قال لهم : معنى ألفان منقومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز و جل : بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم
1
- إلى قوله تعالى : والله على كل شيء قدير وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد وكرر الموصول ههنالزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح وقولهتعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز و جل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق والمراد بالذين كفروا بنو النظير بوزن الأمير وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة ويقال للحيين : الكاهنان لأنهما من ولد الكاهنبن هارون كما في البحر ويقال : إنهم نزلوا قريبا من المدينة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلى الله عليه و سلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى
وقيل : إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق وقال لهم : لا تستحيوا منهمأحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله تعالى والله لأدخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان وروي عن الحسن أنهمبنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب والثاني متعلق بأخرج وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا وضمير هو راجع إليه تعالى بعنوان العزة والحكمة إما بناءا على كمالظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة منالمقام أو على جعله مستعارا لاسم الأشارة كما في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم علىقلوبكم من إله غير الله يأتكمبه أي بذلك فكأنه قيل : ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج الخ ففيه إشعار بأنفي الأخراج حكمة باهرة وقوله تعالى : لأول الحشر متعلق بأخرج واللام لام التوقيت كالتي في قولهم : كتبته لعشر خلون ومآلها إلى معنى في الظرفية ولذا قالوا هنا أيفي أول الحشر لكنهملم يقولوا : إنها بمعنى في إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها للأختصاص لأن ما وقع فيوقت اختص بهدون غيره من الأوقات وقيل : إنها للتعليل وليس بذاك ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ماحشروا وأخرجوا ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهمجلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناءا على أنهملم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم أو لم يصبهمذلك في الأسلام أو على أنهمأول محشورين من أهل الكتاب في جزيرة العرب إلى الشام ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر وبعضهميعتبرها فمعنى أول الحشر أنهذا أولحشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمررض عنه إياهم من خيبر إلى الشام وقيل : آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأنالمحشر يكون بالشام
وعن عكرمة منشك أن المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى لأولحشرهم
(28/39)
إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل وهو يوم القيامة من القبور ولا يخفى أنهضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا : المعنى لأول موضع الحشر وهوالشام وفي الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال لهم : اخرجوا قالوا : إلى أين قال : إلى أرض المحشر ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا وقيل : آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة إي هذا أوله والقيام من القبور آخره وهو كماترى وقيل : المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلى الله عليه و سلم أو حشره الله عز و جل لقتالهم لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى ولذا قيل : إنهالظاهر وتعقب بأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة و السلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر وقيل : لأول جمعهم للمقاتلة مع المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا نعم يشترط فيه كونالمحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير ومشروعية الإجلاء كانتفي ابتداء الإسلام وأما الآن فقد نسخت ولا يجوزإلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا لشدة بأسهم ومنعتهم ورثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم
وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله أي ظنوا أن حصونهم ما نعتهم أوتمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ وما نعتهم خبر مقدم والجملة خبر أن وكان الظاهر لمقابلة ما ظننتم أنيخرجوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للأشعار بتفاوت الظنين وأنظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء بمانعتهم وحصونهم مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الأختصاص فكأنهلا حصن أمنع من حصونهموبمايدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهمفي عوة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أويطمع فيمعازتهم فجيء بضمير هم وصير اسما لأنوأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي وفي كونذلك من باب التقوى بحث ومنع بعضهم جواز الأعراب السابق بناءا على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا وصحح الجواز في المشتق دون الفعل نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون حصونهم فاعلا لما نعتهم لاعتماده على المبتدأ
وجوز كون ما نعتهم مبتدأ خبره حصونهم وتعقب بأن فيه الأخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأنقصد استمرار المنع فتأمل وكانت حصونهم على ما قيل : أربعة الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة وزاد بعضهم الوحدة وبعضهم شقا والذيفي القاموس أنهموضع بخيبر أو واد به فأتاهم الله أي أمره سبحانه وقدرهDالمتاح لهم من حيث لم يحتسبوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج
(28/40)
قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقل شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة وقيل : ضمير أتاهم و لم يحتسبوا للمؤمنين أي فأتاهمنصر الله من حيث لم يحتسبوا وفيه تفكيك الضمائر
وقريءفآتاهم الله وهو حينئذ متعد لمفعولين ثانيهما محذوف أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وقذف في قلوبهم الرعب أيالخوف الشديد من رعبت الحوض إذا ملأته لأنهيتصور فيه أنه ملأ القلب وأصلالقذف الرمي بقوة أو من بعيد والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركوزه في قلوبهم
يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وأيديالمؤمنين حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم ولماكان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم وبهذا الأعتبار عطفت أيدي المؤمنين على أيديهم وجعلت آلة لتخريبهم مع أنالآلة هي أيديهم أنفسهم فيخربون على هذا إما منالجمع بين الحقيقة والمجاز أو منعموم المجاز والجملة إما فيمحل نصب على الحالية منضمير قلوبهم أو لا محل لها من الأعراب وهي إما مستأنفة جواب عنسؤالتقديره فماحالهمبعد الرعب أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الأتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها
وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو يخربون بالتشديد وهو للتكثير في الفعلأو في المفعول وجوز أن يكون في الفاعل وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب بمعنى هدم وأفسد وأخرب تركالموضع خرابا وذهب عنه فالإخراب يكون أثر التخريب وقيل : هما بمعنى عدي خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فاعتبروا يأولي الأبصار
2
- فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار واتقوا مباشرة ما اداهمإليه من الكفر والمعاصي واعتبروا من حالهم في غدرهمواعتمادهم على غير الله تعالى الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهممكرهين إلى حالأنفسكم فلا تعولوا علىتعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز و جل بل توكلوا عليه سبحانه
واشتهر الأستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي وقالوا : إنه تعالى أمر فيها بالأعتبار وهوالعبور والأنتقال من الشيء إلى غيره وذلك متحقق فيالقياس إذافيه نقل الحكممن الأصل إلى الفرع ولذا قالابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية والأصل في الأطلاق الحقيقةوإذ ثبتالأمر وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب ثبتت مشروعيةالعملبالقياس واعترض بعد تسليم ظهورالأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الأعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الأتعاظ لأنهالمتبادر حيث أطلق ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرتهيقال : إنهغير معتبر ولو كان القياس هو الأعتبار لم يصح هذا السلب سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة فيكفي فيالعمل بها العمل بالقياس العقلي سلمنا لكن العام مخصص بالأتفاق إذ قلتم : إنهإذا قال لوكيله : أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم وإن كان أسود
(28/41)
وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أنالخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم وأجيب بأنه لو كان الأعتبار بمعنى الأتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم : اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الأنتقال المذكور لأنه متحقق في الأتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الأنتقال وهو القياس والآيتان على ذلك ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة وأطلق النفي إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به والآية إن دلت على العمومفذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها وقد برهن على أنالعام التخصيص حجة وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يومالقيامة قد انعقد الإجماع عليه ولا يضر الخلاف فيشمول اللفظ وعدمه على أنهإن عم أو لم يعم هو على الخصوم في بعض محل النزاع ويلزم من ذلك الحكمفي الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق
هذا وقال الخفاجي في وجه الأستدلال : قالوا : إنا أمرنا في هذه الآية بالأعتبار وهو رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه وهذا يشمل الأتعاظ العقلي والشرعي وسوق الآية للأتعاظ فتدلعليه عبارة وعلى القياس إشارة وتمامك الكلام على ذلك في الكتب الأصولية ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لعذبهمفي الدنيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم وجلوا عنها خرجوا وبرزوا ويقال أيضا : جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأنالجلاء ما كان مع الأهل والولد والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد
وقال الماوردي : الجلاء لا يكون إلا لجماعة والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة ويقال فيه : الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة وأنمصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأنكما توهمه عبارة الكشاف وقد صرح بذلك الرضي وقوله تعالى : ولهم في الآخرة عذاب النار
3
- استئناف غير متعلق بجواب لو لا أي أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهوالجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوينأمر الجلاء على أنفسهم بنافع وفيه إشارة إلى أنالقتل أشد من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عندهإلى عذاب النار إنما أوثر الجلاء لأنهأشق عندهموأنهم غير معتقدين لما أمامهممن عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لا حتياجها للتأويل لعدم المقارنة
ذلك أي ما نزل بهم وما سينزل بأنهم بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله وفعلوا مافعلوا من القبائح ومنيشاق الله وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال والأقتصار على ذكر مشاقته عز و جل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة و السلام وفيه من تهويل أمرها ما فيه وليوافق قولهتعالى : فإن الله شديد العقاب
4
(28/42)
وهذه الجملةإما نفس الجزاء وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل : ذلك الذي نزل وسينزل بهم منالعقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قطعتم منلينة هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة وتجمع على ألوان وقالابن عباس وجماعة من أهل اللغة : هي النخلة ما لم تكن عجوة وقال أبو عبيدة وسفيان : ما تمرها لون وهو نوع من التمر قالسفيان : شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج وقال أبو عبيدة أيضا : هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هي العجوة وقال الأصمعي : هي الدقل وقيل : هي النخلة القصيرة وقال الثوري : الكريمة من النخل كأنهماشتقوها من اللين فتجمع على لين وجائ جمعها ليانا كما في قول امريء القيس : وسفالة كسحوق الليان أضرم فيه القوي السعر وقيل : هي أغصان الأشجار للينها وهو قول شاذ وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة : كأنقنودي فوقها عش طائر على لينة سوقاء تهفو جنوبها ويمكن أن يقال : أراد باللينة النخلة الكريمة لأنهيصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبهبه إلى ذلك المعنى و ما شرطية منصوبة بقطعتم و من لينة بيان لها ولذا أنث الضمير في قوله تعالى : أوتركتموها قآئمة على أصولها أيأبقيتموها كانتولم تتعرضوا لها بشيء ما وجواب الشرط قوله سبحانه : فبإذن الله أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلى الله عليه و سلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز و جل وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بنعلي قوما على وزن فعل كضربجمعقائم وقريء قائما اسم فاعل مذكر على لفظ ما وأبقى أصولها على التأنيث وقريء أصلها بضمتين وأصله أصولها فحذفت الواو اكتفاءا بالضمة أوهوكرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف
وليخزي الفاسقين
5
- متعلق بمقدر علىأنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنينوليخزي الفاسقين أي ليذلهمأذن عز و جل في القطع والترك وجوز فيه أن يكون معطوفا علىقوله تعالى : بإذن الله وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم واعتبار القطع والترك فيالمعللهو الظاهروإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الأنتصاف
قال بعضهم : وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاءوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم منعزته
(28/43)
على صاحبه غير الغارس له وقد سمعت بعض الغارسين يقول : السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانتالمقطوعة النخلة الكريمة أظهر وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمينإن كانتهي المتروكة والذي تدل عليه بعض الآثار أن الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلى الله عليه و سلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار والثاني بأنه اسبقاء الكريمة للمسلمين وكان ذلك أولنزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا : يا محمد كنتتنهى عن الفساد في الأرض فما بالقطع النخل وتحريقها ! فنزلت الآية وماقطعتم من لينة الخ ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه وأما التعرض للترك مع أنه بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا في سلك ما ليسبفساد إيذانا بتساويهما في ذلك
واستدلبالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنهإن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة وقوله تعالى : ومآ أفآء اللهعلى رسوله منهم شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه و سلم من أولئك الكفرة وهم بنو النضير و ما موصولة مبتدأ والجملة بعدها صلة والعائد محذوف كما أشرنا إليه والجملة المقترنة بالفاء بعد خبر ويجوز كونها شرطية والجملة بعد جواب والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهمأموالهم التيبقيت بعد جلائهم والمراد بإعادتها عليه عليه الصلاة و السلام تحويلها إليه وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلى الله عليه و سلم نظير ما قيل في قوله تعالى : أولتعودن في ملتنا ظاهر وإن اقتضى سبق الحصولفيما ذكر مجازا وفيه إشعار بأنهاكانت حرية بأن تكونله صلى الله عليه و سلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها وكذاشأن جميع أموال الكفرة التي تكونفيئا للمؤمنين لأنالله عز و جل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموالليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكونللمطيعين ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة : فيء مع أنه منفاء الظل غذا رجع ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أغراض ادلنيا يجري مجرى ظل زائل و أفاء على ما في البحر بمعنى المضارع أما غذاكانت ما شرطية فظاهر وأما إذاكانتموصولة فلأنها إذا كانتالفاء في خبرها تكونمشبهة باسم الشرط فإن كانتالآية نازلة قبل جلائهم كانتمخبرة بغيب وإن كانتنزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صكانت بيانا لمايستقبل وحكم الماضي حكمه والذي يدل عليه الأخبار أنها نزلت بعد روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوارباعهم وأموالهم طلب المسلمونتخميسها كغنائم بدرفنزل ما أفاء اللهعلى رسوله منهم فمآأوجفتم عليه الخ فكانتلرسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عنعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمونعليه بخيل ولا ركاب وكانتلرسول اللهص خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى
(28/44)
وقال الضحاك : كانت له صلى الله عليه و سلم خاصة فآثر بها المهجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة أعطاهم لفقرهم وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر الأولين ولم يذكر الحرث وكذا لم يذكره ابن سيد الناس وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبيالحقيق كان له ذكر عندهم ومعنى ما أوجفتم عليهم ماأجريتم على تحصيله منالوجيف وهو سرعة السير وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب : ألا رب ركب قد قطعت وجيفهم إليك ولو لا أنتلم توجف الركب وقالابن هشام : أوجفتم حركتم وأتعبتم في السير وأنشد قول تميم بن مقبل : مذ أويد بالبيض الحديث صقالها عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا والمآل واحد و من في قوله تعالى : من خيل زائدة في المفعول للتنصيص على الأستغراق كأنهقيل فماأوجغتم عليه فردا من أفراد الخيل أصلا ولا ركاب ولا ما يركب من الأبلغلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح : راكب لمنكان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال : فارسونحوه وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا وإنما لم يعلموا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بن النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان على حمار أو على جمل كما تقدم لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها وكان المراد إن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتد به منكم ولهذا لم يعط صلى الله تعالى عليه وسلم الأنصارإلا منسمعت وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونه غرباءفنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد ولماأشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز و جل : ولكن الله يسلط رسلهعلى من يشاء أيولكن سنته عز و جل جارية على أن يسلط رسلهعلى من يشاء من أعدائهمتسليطا خاصا وقد سلط رسوله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أنتقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم ويكونأمرها مفوضا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم والله على كل شيء قدير
6
- فيفعل ما يشاء كما يشاءتارة علىالوجوهالمعهودة وأخرى على غيرها وقيل : الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحتبه الأخبار والواقع من القتال شيء لا يعتد به
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم منقرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه منبني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جوابسؤال مقدر ناشيء مما فهم من الكلام السابق فكأنقائلا يقول : قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى منبني النضير فما حكمما أفاء عز و جل من غيرهم فقيل : ما أفاء الله علىرسوله من أهلالقرى الخ ولذا لم يعطف على ما تقدم ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم
(28/45)
الفيء لا الغنيمة ولا الأعم وفرقوابينهما قالوا : الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة وماصولحوا من غير نحو قتال وما جلواعنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة وما لمرتد قتل أو مات على ردته وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا منذميين فإنه لهم لا يخمس وحكمها مشهور
وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا : الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أنتخمس وباقيها للغانمين خاصة والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ونقل هذا الحكمابن حجر عمنعدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن راجع إلينا من الكفار واختلاف السبب بالقتالوعدمه لا يؤثر والذينطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قالخاطبا : اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أنالسواد فتح غنوة وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين ولذا قالبعض الشافعية : إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق وما جعله الله تعالى من ذلك لمنتضمنه قوله تعالى : فللهوللرسول إلى ابن السبيل هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم : لمن ذكر الله عز و جل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد وذكره تعالى كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماواتوما في الأرض وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة و السلام
وقال أبو العالية : سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته وهو الكعبة المشرفة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس ويلزمه أن السهام كانتستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك وسهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع وهو خمس الخمس وكان ينفق منه نفسه وعياله ويدخر منهمئونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين وسقط عندنا بعد وفاتهE قالوا : لأن عملالخلفاء الراشدين على ذلك وهم أمناء الله تعالى على دينه ولأن الحكم معلق بوصف مشتق وهوالرسول فيكون مبدأ الأشتقاق وهو الرسالة علة ولم توجد في أحد بعده وهذا كما سقط الصفي
ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة و السلام كان يستحقه لإمامته دونرسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ والأكثرون منالشافعية أنما كان له صلى الله تعالى عليه وسلم منخمس الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين والأئمة والمؤذين ولو أغنياء وسائر من يشتغل على نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم والحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه ويقدم الأهم فالأهم وجوبا
(28/46)
وأهمها سد الثغور ورد سهمه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة و السلام في الخبر الصحيح : ما لي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها الأصناف ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس والمراد بذي القربى قرابته صلى الله عليه و سلم والمراد بهمبنو هاشم وبنو عبد المطلب لأنهص وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس ومنذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلكبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم حتى كأنهم على قلب رجل واحد قيل : لذي القربى دون لذوي بالجمع
قال الشافعية : يشترط في هذا السهم الغني والفقير لأطلاق الآية ولأعطائه صلى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا بل قيل : كان له عشرونعبدا يتجرون له والنساء لأنفاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه ويفضل الذكر كالآرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظي الأنثى ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالأرث ويثبت كون الرجل هاشميا مطلبيا بالبينة وذكر جمع أنه لا بد معها من الأستفاضة وبقول الشافعي قال أحمد وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم إن كان أمره أهم من أمرهم
وقال المزني والثوري : يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة والغني واتلفقير سواء لأطلاقالنص ولأنالحكمالمعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الإشتقاق وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم مستقل ولا يعطون مطلقا وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهملاندراجه في اليتامى والمساكين وابن السبيل لكنيقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم : سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وعلي كرم الله تعالى وجههفي خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل ويحمل على الرجوع إلىرأيهم إن صح عنه أنهكان يقول : سهم ذوي القربى على ما حكى عن الشافعي وفائدة ذكرهم على القول بأناستحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه منقبيل الصدفة ولا تحل لهم ومنتتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوايسهمونهممطلقا وهو رأي علماء أهل البيت واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أنكلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الأقتصار عندنا على صنف واحد كأنيعطى تمام الخمس لابن السبيل وحدهمثلا
والكلام مستوفي في شروح الهداية والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية : اليتيم هو صغير لا أبله وإن كان له جد ويشترط إسلامه وفقره أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة وفائدة ذكرهممع شمولالمساكين لهم عدم حرمانهملتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفسه في بيت المال ولا بد في ثبوت اليتيم
(28/47)
والإسلام والفقر منالبينة ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلايمين وإن أتهما نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيالأنه يكلف بينة انتهى واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي
هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف وهو شافعي بعد أن اختار جعل للفقراء بدلا من ذي القربى وما عطف عليه من تضمنهقوله تعالى : والذين تبوءوا إلى قوله سبحانه : والذين جاءوا من بعدهم على معنى أن له عليه الصلاة و السلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وقال : إنهاللمقاتلين الآن على الأصح وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهمما لم يوجد تبرع والمرتزقة الأجناد الموصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلى الله عليه و سلم وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أنهذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة و السلام منخمس الخمس فجعله ما كان يأخذه صلى الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما منخمسة وعشرين وكان علي ماقالالروياني : يصرف العشرين التي له عليه الصلاة و السلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر وقال الغوالي : كان الفيء كله له صلى الله عليه و سلم في حياته وإنما خمس بعد وفاته
وقال الماوردي : كان له صلى الله تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها وقالالزمخشري : إن قوله تعالى : ما أفاء الله الخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة وظاهره أن الجملة استئناف بياني والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادتالجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأنما يوضع موضع الخمس منالغنائم هو الكل لا أن خمسه كذلك والباقي وهو أربعة أخماسه لمنتضمنه قوله تعالى : والذين تبوءوا إلى قوله سبحانه : والذين جاءوا من بعدهم على ما سمعت سابقا وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في منهم أعني بنيالنضير وعدل عن الضمير إلى ذلك على ما في الإرشاد إشعارا بشمول ما في ما أفاء الله لعقاراتهم أيضا واعترض صاحبالكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم ووجهالآية بما أيد به مذهبه ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر
وقال ابن عطية أهل القرى المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكمأموالبني النضير فإن تلك كلها له صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهذه قسمها كغيرها وقيل : المراد بما أفاء الله تعالى على رسوله خيبر وكان نصفها لله تعالى ورسولهصص ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة و السلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة وكان الذيللمسلمين الشق وكانثلاثة عشر سهما ونطاة وكانتخمسة أسهم ولم يقسم عليه الصلاة و السلام منخيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله
(28/48)
ابن عمرو الأنصاري روي هذا عن ابن عباس وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج
وعن الزهري أنه قال : بلغني أنه ذلك وأنت قد سمعت أنعمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على إبقاءسواد العراق بأيادي أهله وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكنليس ذلك إلا لأن وصول مفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم
وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الأعتناء وفيه على ما قيل : تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما ووجه إفراد ذي القربى قد ذكرناه غير بعيد ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قيل : وابن السبيل بالإفراد كما قيل : ولذي القربى وعلى ذلك قوله : أيا جارتا إنا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نسيب كي لا يكون تعليل للتقسيم وضمير يكون لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء دولة هي بالضم وكذا بالفتح ما يدول أي مايدور للأنسان منالغناء والجد والغلبة وقالالكسائي وحذاق البصرة : الدولة بالفتح في الملك بالضم و الدولة بالضم في الملك بالكسر أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل : وفي الجاه وقيل : هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد وجمهور القراء قرأوابضم الدال والنصب وبالياء التحتية في يكون على أن اسم يكون الضمير و دولة الخبر أي كي لا يكونالفيء جدا بين الأغنياء منكم أي بينهمخاصة يتكاثرون به أو كي لا يكون دولة وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمةويقولون من عزيز وقيل : المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء خاصة بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا منالفقراء
وقرأ عبد الله تكون بالتاء الفوقية على أنالضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ورفع دولة بضم الدالعلى أن كان تامة و دولة فاعل أي كي لا يقعدولة وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا ونصب دولة بفتح الدالعلى أن كان ناقصا اسمها ما سمعت و دولة خبرها ويقدرمضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانهكان للتيمنعند الأكثرين لا لأن له عز و جل سهما وكذا يجل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا وما اشتهر منقوله عليه الصلاة و السلام : الفقر فخري لا أصلله وكيف يتوهممثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أحب خلقهإليه سبحانه حتى قالبعضالعارفين : لا يقال له صلى الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه اتلصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك وقيل : إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الأنقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز و جل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمنبعد لا محذورا فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنهلا يعطي أغنياء ذوي القربى وإنما يعطي فقراؤهم وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكونفيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر ولا يلزم أن كل من يدفع إليه
(28/49)
شيء منه فقيرا وما آتاكمالرسول أي ما أعطاكم من الفيء فخذوه لأنه حقكم الذي أحله اللهتعالى لكم ومانهاكمعنه أي عن أخذه منه فانتهوا عنه واتقوا الله في مخالفته عليه الصلاة و السلام إن الله شديد العقاب
7
- فيعاقب من يخالفه صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في العموم وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل ولذلك عقب بقوله تعالى : واتقوا الله تعميما على تعميم فيتناول كل ما يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول وروي ذلك عن ابن جريج
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى فبلغ ذلك امرأة منبني أسد يقال لها أم يعقوب وكانتتقرأ القرآن : فأتته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب اللهD فقالت : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته قال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت قوله تعالى : وماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : بلاى قال فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنه وعن الشافعي أنه قال : سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عبد الله بن محمد بن هرون : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور فقال : قال الله تعالى : وما أتاكمالرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أي بكر وعمر
وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور هذا من غريب الأستدلال وفيه على علاته ككلام ابن مسعود حمل ما في الآية على العموم وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا قيل : والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكمله : قيل : والأول أقرب لأنه لا يقال : أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا تركه للفقرآء المهاجرين قال الزمخشري : بدل من قوله تعالى : لذي القربى والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من لله وللرسول ومابعد وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله عز و جل أخرج رسوله عليه الصلاة و السلام من الفقراء في قوله سبحانه : و ينصرون الله ورسوله وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة و السلام عن التسمية بالفقير وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز و جل وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لأن فيه سوء أدب انتهى
وعني أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ماذكر قال الإمام : فكأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين وما ذكر من الأبدال من لذي القربى وما بعده مبني على قول الحنفية إنه لا يعطي الغني من ذوي القربى وإنما يعطي الفقير ومن يرى كالشافعي أنه يعطي غنيهم كما يعطي فقيرهم خص
(28/50)
الأبدال باليتامى وما بعده وقيل : يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر يفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة و السلام لم يعط غنيا شيئا منه والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر
وفي الكشف أن للفقراء ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل : لله وللرسول وللمهاجرين وقال ابن عطية : للفقراء الخ بيان لقوله تعالى : اليتامى والمساكين وابن السبيل وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبين أن البدل هو منها وقيل : اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى : كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم كأنه قيل : ولكن يكون للفقراء المهاجرين
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الأحتمال بناءا على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج فخرجوا منها وهذا وصف باعتبار الغالب وقيل : كان هؤلاء مائة رجل يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي طالبين منه تعالى رزقا قالفي الدنيا ومرضاة في الآخرة وصفوا أولا بما دل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام وينصرون الله ورسوله عطف على يبتغون فهي مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة أولئك الموصون بما ذكر من الصفات الجليلة هم الصادقون
8
- أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله ولم يثبت منه ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الأستدلال على صحة إمامة أبيبكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنهصحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عنمثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة ومنهمعلي كرم الله تعالى وجهه ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الأكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا والذين تبوءوا الدار والإيمان الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين والمراد بهم الأنصار والتبوؤ النزول في المكان ومنه المباءة للمنزل ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر وأما نسبته إلى الإيمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الأستعارة المكنية التخييلية والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم
وقال غير واحد : الكلام من باب
علفتها تبنا وماءا باردا
أيتبوأو الدار وأخلصوا الإيمان وقيل : التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل : لزموا الدار والإيمان وقيل : في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الأضافة وفي الإيمان حذف مضاف أي ودار الإيمان
(28/51)
فكأنه قيل : تبوأوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة والعطف كما في قولك : رأيت الغيث والليث وأنتتريد زيدا ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف وقيل : إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى وقيل : الواو للمعية والمراد تبوأوا الدار مع إيمانهم أي تبوأوها مؤمنين وهو أيضا ليس بشيء وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك
وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك منقبلهم أي من قبل المهاجرين والجار متعلق بتبوأوا والكلام بتقدير مضاف أي من قبلهجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين ولا يلزم منه سبق إيمانهم ليقال : إن الأمر بالعكس وجوزأن لا يقدر مضاف ويقال : ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل يبقهم إياهمفي التمكن فيه لأنهملم ينازعوا فيه لما أظهروه
وقيل : الكلام على التقديم والتأخير والتقدير تبوأوا الدار والإيمانفيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة ههنا وقيل : لا حاجة إلى شيء مما ذكر وقصارى ما تدل الآية عليه تقدممجموع تبويء الأنصاري وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو ههناتبوؤ الدار وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصح أن يقال : بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهمعلى تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يحيونمنهاجر إليهم في موضع الحالمن الموصول وقيل : استئناف والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدمالأستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم وقيل : على ظاهره أييحبون المهاجر إليهممنحيث مهاجرته إليهملحبهمالإيمان ولا يجدون في صدورهم أي ولا يعلمون في أنفسهم
حاجة أي كطلب محتاج إليه مما أوتوا أي مما أعطي المهاجرونمن الفيء وغيره وحاصله أن نفوسهملم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمع إلى شيء منه تحتاج إليه فالوجدان إدراك عملي وكونه في الصدر من باب المجاز والحاجة بمعنى المحتاج إليه وهو استعمالشائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاهمنمالهحاجته و من تبعيضية وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مر في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس
ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون في أنفسهمما يحمل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها وقيل : على أنها كناية به عماذكر لأنهلا ينفكعن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم وما تقدم أولى وقولبعضهم : أي أثر تقدير معنى لا إعراب و من في قوله تعالى : مما أوتوا تعليلية ويؤثرون أي يقدمونالمهاجرين على آنفسهم في كل شيءمن الطيبات حتى أنمنكان عندهامرأتانكان ينزل عن إحداهماويزوجها واحدا منهم ويجوز أنلا يعتبر مفعول يؤثرون خصوص المهاجرين أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن
(28/52)
أبيهريرة قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقالE : ألارجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار وفي رواية فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما ويؤثرون الخ
وأخرج الحاكم وصححه وابنمردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذامنا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخرحتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأولفنزلت ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهمخصاصة أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانهمنالفرج والفتوح والجملة في موضع الحال وقد تقدموجه ذلك مرارا ومنيوقشح نفسه الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال : يمارس نفسا بينجنبيه كزة إذا همبالمعروف قالت له مهلا وأضيف إلى النفس لأنه غزيرة فيها وأما البخل فهو المنعنفسه وقال الراغب : الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أنيبخل الأنسان بما في يده والشح أن يشح على ما في يدي الناس وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبيشيبة وابنأبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكموصححه وجماعة عن ابن مسعود أنرجلا قال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت قال : وما ذاك قال : إني سمعت الله تعالى يقول : ومن يوق شح نفسه الآية وأنارجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود : ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكلمال أخيك ظلما وأخرجابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليسالشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنماالشح أنتطمح عين الرجل إلى ما ليس له ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح ولعل المراد أنهالبخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يود جود الغير به وتنقبض نفسه منهويسعى في أن لا يكون أو بحيث يبلغ به الحرص إلىأن يأكل مال أخيه ظلما أوتطمح عينه إلى ما ليس لهولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل
وقرأ أبو حيوة وابن أبيعبلة ومن يوق بشد القاف وقرأ ابن عمر وابن أبيعبلة شح بكسر الشين وجاء فيه لغة أيضا ومعنى الكل واحد ومعنى الآية ومنيوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شحنفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق فأولئك هم المفلحون
9
- الفائزون بكل مطلوب الناجون من كلمكروه والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ منومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى :
(28/53)
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا ويفهم من الآية ذم الشح جدا وقد وردت أخبار كثيرة بذمه أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا ما محق الإسلام محق الشح قط وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبيهريرة مرفوعا لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنمفي جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا
وأخرج أبو داود والترمذي وقالغريب والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبيسعيد الخدري مرفوعا خصلتانلا يجتمعان في جوف مسلمالبخل وسوء الخلق وأخرجابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها : انطقي فقال : قد أفلح المؤمنون فقال الله عز و جل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة و السلام قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنالشح قد أهلك من كان قبلكمحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم إلى غير ذلك من الأخبار لكن ينبغي أنيعلم أن تقوي الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه وقوله تعالى : والذين جآءوا من بعدهم عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين والمراد بهؤلاء قيل : الذين هاجروا حين قوي الأسلام فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة وضمير من بعدهم للمهاجرين الأولين وقيل : همالمؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان وضمير من بعدهم للفريقين المهاجرين والأنصار وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريحفيه فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين وجملة قوله تعالى : يقولون الخ خالية وقيل : استئناف ربنا اغفر لنا ولإخواننا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الذين سبقونا بالإيمان وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم ولا تجعل في قلوبنا غلا أي حقدا وقريء غمرا للذين آمنوا على الإطلاق ربنآ إنك رءوف رحيم
10
- أي مبالغ في الرأفة والرحمة فحقيق بأن تجيب دعاءنا وفي الآيةحث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم وأخرج عبد بن حميد وابنالمنذر وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أمرواأنيستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية والذين جاءوا الخ
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه
(28/54)
فقرأعليه للفقراء المهاجرين الآية ثم قال : هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت قال : لا ثم قرأعليه والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية ثم قال : هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت قال : لا ثم قرأ عليه والذين جاءوا من بعدهم الآية ثم قال : أفمن هؤلاء أنت قال : أرجو قال : لا والله ليس من هؤلاء منسب هؤلاء
وفي رواية أنابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نالمن عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال وقالالإمام مالك : من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهمقول سيء أو بغض فلاحظ له في الفيء أخذا من هذه الآية وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في أيام ثلاثة يطلع عليكمالآنرجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله : هذه التي بلغت بك وهي التيلا نطيق وفي رواية أنه قال : لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله : لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها واللهلقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بينا هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى : والذين تبوأوا الخ مبتدأ وجملة يحبون الخخبره والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار وجوز كون ذلك معطوفا على أولئك فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق وجملة يحبون الخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال منضمير تبوأوا وإلى أن قوله تعالى : والذين جاءوا الخ مبتدأ وجملة يقولون الخ خبره والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه منالجملة السابقة لمدح الأنصار
واستدل لعدم عطف الذين تبوأوا على المهاجرين بما روي أن النبي عليه الصلاة و السلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولميعط الأنصار إلا ثلاثة كماتقدم وقال عليه الصلاة و السلام لهم : إن شئتمقسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا : بل نقسم لهم أي المهاجرين من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولانشاركهم فيها فنزلت الآية والذينتبوأوا الدار والإيمان إلى آخره وبعضالقائلين بالعطف يقولون : إن قوله تعالى : والذينتبوأوا الخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أنله عليه الصلاة و السلام أنيعم الناس بها حسب اختياره وأنالأنصار مصرف من المصارف ولكن قد اختار صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة و السلام لهم وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم رمزإليه على أن في الأخبار ما هوأصح وأصرح فيالدلالة على عطفهم على ما تقدم وأنهم يعطون من الفيء وكذا عطف الذين جاءوا من بعدهم فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن مالك ابن أوسبن الحدثان في حديث طويل أنعمر رضي الله تعالى عنه قال أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه وعمهالعباس رضي الله تعالى عنه في فدك وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن
(28/55)
يعملا فيها بما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعملبه فيها فتنازعا إن الله تعالى قال : ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليهم من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله علىكل شيء قدير فكانتلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة ثم قال سبحانه : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى إلى آخر الآية ثم واله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناوينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه : والذينجاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا إلى قوله تعالى : رحيم فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمكهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون للفقراء بدلا من لذي القربى وما بعده ولا مما بعده دونه وكذا ظاهر ما في مصحفعبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش ما أفاء اللهعلى رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات وفي صدق ذلك عليهم بعد وكذا يقتضي كونابن السبيل كذلك وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني وذلك أنهمكانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى : فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أنالمذكورين مصرف الخمس ولميعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا : فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي فقيل : تكون الأخماس الأربعة أو يكون الباقي للفقراء المهاجرين إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك
ألم تر إلى الذين نافقوا حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم والخطاب لرسول الله عليه الصلاة و السلامأو لكل أحد ممتن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس نزلت في رهط من بني عوف منهمعبد الله بن أبي بن سلوان ووديعة بن مالك وسويد وداعش بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى : يقولون الخ
وقال السدي : أسلم ناس من بني قريظة والنظير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى والمعول عليه الأول وقوله سبحانه : يقولون استئناف لبيان المتعجب منه وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم أولاستحضار صورته واللام في قوله عز و جل : لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب للتبليغ والمراد بأخوتهم الأخوة في الدين واعتقاد الكفرة أو الصداقة وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر إخوان ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة وقل خلاف ذلك واللام في قوله تعالى : لئن أخرجتم موطئة للقسم وقوله سبحانه لنخرجن معكم جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم ألبتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم
(28/56)
ولا نطيع فيكم في شأنكم أحدا يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه أبدا وإن طال الزمان وقيل : لا نطيع فيقتالكم أو خذلانكم قال في الإرشاد : وليس بذاك لأن تقدير القتالمترقب بعد ولآن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليسمجرد طاعتهم لمنيدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى : إن قوتلتم لننصرنكم أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عنر صلى الله عليه و سلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانتعند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم ولا ريب في أنما يفعله عليه الصلاة و السلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم وأماالخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدعوا أن خروجهم معهم لمابينهممنالصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين ونوقش في ذلك وجواب إن محذوف و لننصرنكم جواب قسم محذوف قبل إن الشرطية وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط والله يشهد إنهم لكاذبون
11
- في مواعيدهم المؤكدة بالإيمان وقوله تعالى : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهمعلى التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال ولئن قوتلوا لا ينصرونهم وكان الأمر كذلك والإخبار عن خلقهم في الميعاد قيل : من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز وهذا مبني علىأن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل : يدل على خلافه
وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : يقولونلئن أخرجتم الخ من باب الإخبار بالغيب بناءا على ما يروى أنعبد الله بن أبي دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة و السلام على ما دسه ولئن نصروهم على سبيل الفرض والتقدير ليولن أي المنافقون الأدبار فرارا ثم لا ينصرون
12
- بعد ذلكأي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لطهور كفرهم أو ليولن أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين وقيل : الضمير المرفوع في نصروهم لليهود والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء وكأنهدعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاةبين لا ينصرونهم ولئن نصروهم على الوجه السابق وقد أشرنا إلى ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله لأنتم أشد رهبة أي أشد مرهوبية على أن رهبة مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنون مرهوب منهم لا راهبون في صدورهم من الله أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز و جل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز و جل ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى لشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك قيل : إن في صدورهم على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلك أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى بأنهم بسبب أنهم قوم لا يفقهون
13
- شيئا حتى يعلموا عظمة الله عز و جل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى والمراد بهؤلاء اليهود وقيل : المنافقون وقيل : الفريقان لا يقاتلونكم
(28/57)
أي اليهود والمنافقون وقيل : اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم جميعا أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إلا في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها أو من ورآء جدر يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبادرزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبكم ومزيد رهبتهم منكم
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب جدر بإسكان الدال تخفيفا ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من الكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدالوهي مفرد الجدر والقصد فيه إلى الجنس أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان
وقرأ جمع منالمكيين وهارون عن ابن كثير جدر بفتح الجيم وسكون الدال قال صاحب اللوامح : وهو الجدار بلغة اليمن وقال ابن عطية : معناه أصل بنيان كسور وغيره ثم قال : ويحتمل أن يكون منجدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقي به عند المصافة بأسهم بينهم شديد استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب تحسبهم جميعا أي مجتمعين ذوي ألفة واتحاد وقلوبهم شتى جمع شتيت أي متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون من عند قوس واحدة وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم
وقرأ مبشر بن عبيد شتى بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق وعبد الله وقلوبهم أشت أي أكثر أو أشد تفرقا ذلك بأنهم أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قوم لا يعقلون
14
- شيئا حتىيعلموا طرق الألفة وأسباب الأتفاق وقيل : لا يعقلون أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهمبحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك وقوله تعالى : كمثل الذينمن قبلهم خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر كما قالمجاهد أو كبني قينقاع كما قال ابن عباس وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالي المدينة غزاهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة و السلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير
وقيل : أي مثل هؤلاءالمنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية قريبا ظرف لقوله تعالى : ذاقوا وبال أمرهم أي ذاقواسوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم
(28/58)
وقيل : انتصاب قريبا بمثل إذ التقدير كوقوع مقل الذين وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن الكلاممضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثلفكأنهقيل : مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد
(28/0)
شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح
وقيل : إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب وقيل : متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع وكلا القولين كما ترى ولا يبعد تعلقه بماتعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في ومن قريب فيفيد أن قبليتهم فبلية قريبة ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه وجملة ذاقوا مفسرة للمثل لا محل لها من الأعراب ويتعين تعلق قريبا بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقوا الأمم الماضية فتدبر ولهم في الآخرة عذاب أليم
15
- لا يقادر قدره والجملة قيل : عطف على الجملة السابقة وإن اختلفتا فعلية وإسمية وقيل : حالمقدرة من ضمير ذاقوا وأياما كان فهو داخل المثل وقيل : عطف على جملة مثلهم كمثل الذين من قبلهم ولا يخفى بعده وقوله تعالى : كمثل الشيطان جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير مثلهم ههنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير وقال بعضهم : ضمير مثلهم المقدر في الموضعين للفريقين وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى : كمثل الذين على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني النضير والثاني يخص المنافقين وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضمير هما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل : مثل أولئكالذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهمعلى القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان إذ قالللإنسان اكفر أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل استعارة فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين
16
- تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولمينفعه ذلك كما قال سبحانه : فكان عاقبتهما أنهمافي النار خالدين فيها أبد الآبدين وذلك أي الخلود في النار جزآؤا الظالمين
17
- على الإطلاق دون المذكورينخاصة والجمهور على أنالمراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله : إني أخاف الخ
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر : لا غالب لكم اليوم منالناس وإني جار لكم فيما وقعوا فيما وقعوا قال : إني بريء منكم إنيأرى ما لا ترونإني أخاف الله الآية وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقينمن أهل الكتاب بحالأهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر ومعنى اكفر علىتخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض وقال الخفاجي : لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل
(28/59)
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالىوجههأن رجلا كانيتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لهاشيء فأتوه بها فزينت له نفسهفوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : أنا الذي زينتلك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم
(28/0)
تبرأ منه وقال له ما قال فذلك قوله تعالى : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر الآية وهذا الرجل هو برصيصا الراهب وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص وفي البحرإن قول الشيطان : إني أخاف الله كان رياءا وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقريء أنابريء وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم فكانعاقبتهما بالرفع على أنه اسم كان وأنهما الخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور
وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة خالدان بالألف على أنه خبر إن وفي النار متعلق به وقدم للأختصاص وفيها تأكيد له وإعادة بضميره وجوز أن يكون في النار خبر إن و خالدان خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال منالضمير في الجار والمجرور يأيها الذين آمنوا اتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه أو لأن الدنيا كيوم الآخرة غده يكون فيها أحوال غير الحوال السابقة وتنكيره لتفخيمهوتهويلهكأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لغاية عظمه وأما تنكير نفس فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها ومنه ظهر كما في الكشف أن جعله من قبيل قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت غير مطابق للمقام أي فهو كما في الحديث الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل منالقليل والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور ولا ينظر إليه ما لم يأتمر وجوز ابن عطية أن يراد بعد يوم الموت وليس بذاك وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحرث ولتنظر بكسر اللام وروي ذلك عن حفص عن عاصم وقرأ الحسن بكسرهاوفتح الراء لام كي وكان المعنى ولكن تنظر نفس ماقدمتلغد أمرنا بالتقوى واتقوا الله تكرير للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذافي ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه : إن الله خبير بما تعملون
18
- أي من المعاصي وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى وقيل : إن التقوى شاملة لترك مايؤثم ولاوجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الإهتمام بأمرها فالتأكيد أولى وأقوى وفيه منع ظاهر وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذاقيل ولعل من يقول بالتأكيد يقول : إنقوله سبحانه : إن الله خبير الخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا ولعلك مع هذا تميل للتأسيس
(28/60)
ولا تكونوا كالذين نسوا الله أي نسوا حقوقه تعالى شأنه وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجبأمره سبحانه ونواهيه عز و جل حق رعايتها فأنساهم الله تعالى بسبب ذلك أنفسهم أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها أو أراهمجل جلاله يوم القيامة من الأهوال ما أنساهمأنفسهم أي أراهمأمرا هائلا وعذابا أليما ونسيان النفس حقيقة قيل : مما لا يكون لأن العلم بها حضوري وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه أولئك هم الفاسقون
19
- الكاملون في الفسوق
وقرأ أبو حيوة ولا يكونوا بياء الغيبة على سبيل الألتفات وقال ابن عطية : كناية عن نفس المراد بها الجنس
(28/0)
ولا يستوي أصحاب النار الذين نسوا الله تعالى فاستحقوا الخلود في النار وأصحاب الجنة الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبيء عنه عدم الأستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهومعدم الأستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادةالزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص وعليه قوله تعالى : هل يستوي الأعمى والبصير أمهل تستوي الظلمات والنور إلى غير ذلك
ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون لأن صفته ملكة لصفة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها والمراد بعدم الأستواء عدم الأستواء في الأحوال الأخروية كما ينبيء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة وكذا قوله تعالى : أصحاب الجنة هم الفائزون
20
- فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الأستواء بينهما أي الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه وهذا كما تقول لمن عق أباه : هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا : لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز و جل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتوقيع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين فالمقام يقتضي التباين في حكم الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في المدار وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون : إن العموم مدلول نفي المساوات لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ وقول الحنفية : إن الأستواء مطلقا أعم من الأستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه والنفي إنما دخل على الأستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين
وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع ألا ترى أن من قال : ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا وتمام ذلك في كتب الأصول والأنصاف أن كون المراد هنا نفي الأستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الأستدلال بها على ما ذكر
لو أنزلنا هذا القرآن العظيم الشأن على المنطوي على فنون القوارع على جبل من الجبال أو جبل عظيم لرأيته مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشعا متصدعا من خشية الله أي متشققا منها
وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى :
(28/61)
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
21
- فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى : لو أنزلنا الخ وإلى أمثاله فالكلام بتقدير وقوع تلك أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة هو الله الذي لا إله إلا هو وحده سبحانه عالم الغيب وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق والشهادة وهو ما يشاهده مخلوق
قال الراغب : الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر وألفيه للأستغراق إذ لا قرينة للعهد ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى : علام الغيوب فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل : مراد الفقهاء في قولهم : مدعى علم الغيب كافر وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى وذكر الشهادة مع أنه كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز و جل : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقيل ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس
وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان وقال الحسن : الغيب السر والشهادة العلانية وقيل : الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها وقيل : الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها وفيه أن ثبوت المجردات خلافا قويا وأكثر السلف على نفيها وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة وقيل : لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب وصاحب القيل الأخير يقول : إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ووجهه ما أشرنا إليه وتتضمن على ما قيل : دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالأختيار كما هو الواقع في نفس الأمر والخلق بالأختيار يستحيل بدون العلم ومن هنا قيل : الأستدلال بها على هذا المطلب أولى من الأستدلال بقوله تعالى : والله بكل شيء عليم هو الرحمن الرحيم
22
- برحمة تليق بذاته سبحانه والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفى كما حقق في التمييز وغيره
هو الله الذي لا إله إلا هو كرر لإبراز كمال الأعتناء بأمر التوحيد الملك المتصرف بالأمر والنهي أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الإذلال أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل أو المنفرد بالعز والسلطان أو ذو الملك والملك خلقه أو القادر أقوال حكاها الآمدي وحكى الأخير عن القاضي أبي بكر القدوس البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به أو الذي لا يحد ولا يتصور وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي القدوس بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة فقد قالوا : فعول بالضم كثير وأما بالفتح فيأتي
(28/62)
في الأسماء كسمور وتنور وهبود اسم جبل باليمامة وأما في الصفات فنادر جدا ومنه سبوح بفتح السين السلام ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة وقيل : أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف المؤمن قيل : المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة أو واهب عباده الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنية في قلوبهم أو بإخبارهم أو لا خوف عليهم وقيل : مؤمن الخلق من ظلمه وقال ثعلب : المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا وقال النحاس : في شهادتهم على الناس يوم القيامة وقيل : ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه وقيل : غير ذلك وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم وقيل أبو جعفر المدني المؤمن بفتح الميم على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى : واختار موسى قومه أي المؤمن به
وقال أبو حاتم : لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي المهيمن الرقيب الحافظ لكل شيء مفعيل من الأمن بقلب همزته هاءا وإليه ذهب غير واحد وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء وإذا قلت : أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز و جل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من غير ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى : ومهيمنا عليه وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبيء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياءا كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاءا كما في هراق الماء وقولهم في إياك : هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين وحرف الأستعلاء كمهيمنا عليه لتضمين معنى الأطلاع ونحوه وأنت تعلم أن الأشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء
وقال المبرد : إنه مصغر وخطيء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز و جل العزيز الغالب
وقيل : الذي لا مثل له وقيل : الذي يعذب من أراد وقيل : الذي عليه ثواب العاملين وقيل : الذي لا يحط عن منزلته وقيل : غير ذلك الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه : ويقال في فعله : أجبر وأمثلة المبالغة تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة وقيل : إنه من جبره بمعنى أصلحه ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها وقيل : هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي : جبارة وقيل : هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره
وقال ابن عباس : هو العظيم وقيل : غير ذلك المتكبر البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكلف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ أو الذي
(28/63)
تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا سبحان الله عما يشركون
23
- تنزيه لله تعالى عما يشركون به سبحانه أو عن إشراكهم به عز و جل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا هو الله الخالق المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة أو مبدع الأشياع من غير أصل ولا احتذاء ويفسر الخلق بإيجاد الشيء من الشيء الباريء الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة وقيل : المميز بعضها عن بعض بالأشكال المختلفة المصور الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد
وقال الراغب : الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها وهي ضربان : محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة ومعقولة تدركها الخاصة دون العامةكالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه : خلقناكم ثم صورناكم إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبيبلتعة والحسن وابن السمقيع المصور بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للباريء وأريد به جنس المصور وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول نحو الضارب الغلام وفي الخانية إن قراءة المصور بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد غذا أجراه حينئذ على الله سبحانه وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر
له الأسماء الحسنى الدالة على محاسن المعاني يسبح له ما في السماوات والأرض من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان أو بلسان المقال الذي أوتيه كلمنها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين وقد تقدم الكلام فيه وهو العزيز الحكيم
24
- الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به العزيز بناءا على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به الحكيم بناءا على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فتأمل ولا تغفل
ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من قال : حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل اللهبه سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي بتلك المنزلة
وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر
وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فرائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعليابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه : أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة و السلاممما خصه به جبريل مما بعث به الارحمن عز و جل قال : يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أولالحديد عشر آيات وآخر الحشر ثم قل : يا منهو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو الله يا براء لو دعوت علي لخسف بي
(28/64)
وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام أنهقال في قوله تعالى : لو أنزلنا إلى آخر السورة هي رقية الصداع وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال : أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقري البغدادي يعرف بغلاف ابن شنبوذ أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال : قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لو أنزلنا هذا القرآن على جبل قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآيات قال : ضع يدك على رأسكفإني قرأتعلى الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على بد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رءوسكما فإني قرأتعلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي : ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلى قال : ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت إلى غير ذلك من الآثار والله تعالى أعلم
سورة الممتحنة
قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة وفي جمال القراء تسمى أيضا الأمتحان وسورة المودة وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إمامن باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة وهي ثلاث عشرة آية بالأتفاق
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيها قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلحالحديبية ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الأفتتاح بسبح
بسم الله الرحمن الرحيم يآيها الذينآمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلعتة وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزي أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب فخذوه منها فأوتي به فخرجنا حتى أتبنا الروضة فإذا نحن بالظغينة فقلنا : اخرجي الكتاب قالت : ما معي من كتاب قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب ابن أبي بلعتة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة و السلام ما هذا يا حاطب ! قال : لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان
(28/65)
من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة و السلام : إنه شهد وما يدرك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أيها الذين آمنوالا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء الخ
وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه قاتل عليه الصلاة و السلام بعث عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه : والله ما كذبنا ولا كذبناارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا : والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت : أدفعه إليكما على أ لا ترداني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها وفيه على ما في الدر المنثور أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش وفي الكشاف يقال لها : سارة مولاة لأبيعمرو بن صيفي بن هاشم وفي صحة خبر أنس تردد وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد وقيل : إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوافرسانا والمعول عليه ما قدمنا والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عنعبد الرحمن بن حاطب المذكور وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال : كانتوالدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته
وصور الكتاب على ما في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز ما وعده وفي الخبر السابق على ما قيل : دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا وفيه بحث وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز و جل وتغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم وفيه رمز إلى معنى قوله : إذاصافى صديقك من تعادى فقد عاداك وانقطع الكلام والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواجب ونصب أولياء على أنه مفعول ثان لتتخذوا وقوله تعالى : تلقون إليهم بالمودة تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الأعراب والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز
وقيل : الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس وقيل : هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تتخذوا أو صفة لأولياء ولم يقل تلقون إليهم أنتم بناءا على أنه لا يجب مثل هذاالضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو سواء في ذلك الأسم والفعل كما في شرحالتسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس
(28/66)
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الأسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية أو يقال : إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى : وقد كفروا بما جاءكم من الحق حالمن فاعل لا تتخذوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تلقون حالية أيضا أو منفاعل تلقون وهي متداخلة على تقدير حاليتها وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا
وقرأ الجحدري والمعلي عن عاصم لما باللام أي لأجل ما جاءكمبمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يخرجون الرسول وإياكم أي منمكة أن تؤمنوا بالله ربكم أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكمبالله عز و جل والجار متعلق بيخرجون قيل : حال من فاعل كفروا أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل : كيف كفروا وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر وهذا أرجح منالوجه الأول لطباقه للمقام وكثرة فوائده والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة والأستمرار غير مناسب للمعنى وفي تؤمنوا قيل : تغليب للمؤمنين والألتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال : بي إلى ما في النظم الجليل للأشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي متعلق بقوله تعالى : لا تتخذوا الخ كأنه قيل : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تتخذوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية ولا بد فيها من الواو وأنترد حيث يكون ضد المذكور أولى كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك وما هنا ليس كذلك
وأجيب بأن ابن جني جوزه وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمنتحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك : لا تخذنني إن كنت صديقي تهييجا للحمية وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول وقوله تعالى : تسرون إليهم بالمودة استئناف بياني كأنهملما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا فقيل : تسرون الخ وجوز أن يكون بدلا من تلقون بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر
وقال أبو حيان : هو شبيه ببدل الأشتمال وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم تسرون والكلام استئناف للأنكار عليهم وأنت تعلم أن الأستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه كلامهم كالباء فيما تقدم وقوله تعالى : وأنا أعلم بما أخفيتم وماأعلنتم
(28/67)
في موضع الحال و أعلم أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي منكم وأجاز ابن عطية كونه مضارعا والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة و ما موصولة أو مصدرية وذكر ما أعلنتم مع الأستغناء عنه للأشارةإلى تساوي العلمين في علمه عز و جل ولذا قدم ما أخفيتم وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودةإليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار ومنيفعله أي الإسرار
وقال ابن عطية وجمع : أي الأتخاذ منكم فقد ضل سوآالسبيل
1
- أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سواء من إضافة الصفة إلى الموصوف ونصبه على المفعول به لضل وهو يتعدى كأضل وقيل : لا يتعدى و سواء ظرف كقوله
كماعسل الطريق الثعلب
إن يثقفوكم أي إن يظفروا بكم وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ومنه رجل ثقف لقف وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يكونوا لكمأعدآء أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى : ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري فوقوع يكونوا الخ جواب الشرط بالأعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في السورة ومثله قول بعضهم : أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبواعليها أحكامها وقيل : المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنهقيل : إن يثقفوكميظهر لكم عدمنفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم وقوله تعالى : وودوا لو تكفرون
2
- عطف على الجوابوهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب ويؤول كما أول سابقه بأن يقال على ما في الكشف المراد ودادةيترتب عليها القدرة علىالرد إلى الكفر أو يقال على ما قالالبعض المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الأستقبال للأشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم
(28/68)
وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الإفراد فعبر بالماضي نظرا للأولوجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني وآثر الخطب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى : ثم لا ينصرون في السورة قبل وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون عند جمع قال : لأن ودادتهم أنيرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة وإلى ذلك ذهب أبو حيان وجوابه يعلم مما ذكرنا وقريب منه ما قيل : إنودادة كفرهم بعد الظفر لماكانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتد بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الوداد قبل الظفر فيكونللتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة
وقال بعض الأفاضل : إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء : الأول أن يكونكل منهماجزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك الثاني أن يكون الجواء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذاجاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه الثالث أن يكونالمقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب ومنه قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك
(28/0)
الله ما تقدممن ذنبك وما تأخر الآية وما في النظم الجليل هنا قيل : محتمل للأزل لاستقبال الودادة من بعض الأعتبارات كما تقدم وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث أن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه وأهم شيء عند العدو أنيقصد أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأنيكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة قيل : وللثاني أيضا بأن يكونالجزاء هو يبسطوا وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة الأرتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادةالمسبب وهو مضار الدارين وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكممضار الدنيا والدين وما ذكر دليله أقيم مقامه وقيل : عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح
وعن بعضهم أن الواوواو الحاللا واو العطف والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه ولا يخفى أن العطف المتبادر وكونه على الجزاء أبعد مغزى وإخراج الشرط والجزاء علىنحو ذلك أكثر من أن يحصى
لن تنفعكم أرحامكم دفع لما عسى ان يتخيلوا كونه عذرا نافعا من أن الداعي للأتخاذ وإلقاء المودة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك والرحم في الأصل رحم المرأة واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازا عن القريب أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى : ولآ أولادكم أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم يوم القيامة بدفع ضر أو نفع يفصل بينكم استئناف لبيان عدمنفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم منالآخر حسبمانطق به قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه الآية فلا ينبغي أنيرفض حق الله تعالىوتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو الظاهر وجوز تعلقه بيفصل بعده
وقرأحمزة والكسائي وابن وثاب يفصل بضم الياء وتشديد الصاد مبنيا للفاعل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا وطلحة والنخعي نفصل بالنون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة
وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر يفصل بالياء والتشديد والبناء للمفعول وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا ونائب الفعل إما بينكم وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل والله بما تعملون بصير
3
- فيجازيكم به
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهم والذن معه تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب ف الله والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الأئتساء والأفتداء وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسي ويقتدي بها وعلى نفس الشخص المؤتسي به
(28/69)
ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو
وللضعفاء في الرحمن كاف
وفي البيضة منا حديد وكل من ذلك قيل : محتمل في الآية ورجح إرادة الخصلة لأن الأستئناف الآتي عليها أظهر و لكم للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك أو هو متعلق بكان على رأي من يجوز تعلق الظرف بها وأسوة اسمهاو حسنة صفته و في إبراهيم خبرها أو لكم هو الخبر و في إبراهيم صفة بعد صفة لأسوة أو خبر بعد خبر لكان أو حالمن المستكن في لكم على ما قيل أو في حسنة ولم يجوز كونه صلة أسوة بناءا على أنها مصدر أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل قيل : وإذا قلنا : إنها ليست مصدرا ولا اسمه أو قلنا : إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للأتساع فيه جاز ذلك
والظاهر أن المراد بالذين معه عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري وجماعة : المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا من عصره عليه الصلاة و السلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرءوا منهم فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ : ما على الأرض منيعبد الله تعالى غري وغيرك وأنتتعلم أنه لا يلزم وجود الأتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم ويكون التبري المحكي في قوله تعالى : إذ قالوا لقومهم إنا بآؤا منكم الخ وقت وجودهم وإذا قيل : ظرف لخبر كان والعامل الجار والمجرور أو المتعلق أو لكان نفسها على ما مر أو بدلمن أسوة وبرآء جمع بريء كظريف وظرفاء
وقرأ الجحدري براء كظراف جمع ظريف أيضا وقرأ أبو جعفر براء بضم الباء كتؤام وظؤار وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر وقال الزمخشري : إنذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل وتعقب بأنه ضم أصلي والصيغة من أوزان أسماء الجموع وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة ورويت هذه القراءة عن عيسى قال أبو حاتم : زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه براء على فعال كالذي في قوله تعالى : إنني براء مما تعبدون في الزخرف وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره وتأكيد الجملة لمزيد الأعتناء بشأنها أو لأن قومهم المشركين مستبعدون ذلك شاكون فيهحيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم : إنابرآء منكم
ومماتعبدون من دون الله من الأصنام والكواكب وغيرها كفرنا بكم بيان لقوله سبحانه : إنابرآء إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبماتعبدون من دون الله ويكون المراد بكم القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين والكفر بذلك مجاز أو كناية عن الأعتداد فكأنه قيل : إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء
وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به ثم اكتفى بكفرنا بكم لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به ولا سيما وقد تقدمه إنابرآء فسر بأنا لا نعتد الخ تنبيها على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفر لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الأستهجان والذم وما ذكرناه أقرب وهو معنى ما في الكشاف دونه وأما ما قيل : إن في الكلام معطوفا
(28/70)
على الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون وحذف اكتفاءا بدلالة السياق فليس بشيء
وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حتى تؤمنوا بالله وحده وتتركوا ما أنتمعليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة وفسر الفيروزابادي البغضاء بشدة البغض ضد الحب وأفاد أن العداوة ضد الصداقة وفسر الصداقة بالمحبة فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الألتئام قلبا وقال نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب ثم قال : يقال : بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء وهونحو كلام الفيروزابادي والذييفهم منكلام غير واحد أنه كثيرا ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب
إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك استثناء من قوله تعالى : أسوة حسنة كما قاله قتادة وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا لأسوة بالأقتداء منقطع بلا ريب وأما على تقدير أن يراد بها مايؤتسى به فقيل : هو متصل وقيل : منقطع وإليه ذهب الأكثر توجيه الأستثناء إلى العدة بالأستغفار لا إلى نفس الأستغفارالمحكي عنه عليه السلام بقوله تعالى : واغفر لأبي الآية أنه المراد قيل : لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه ويعلم من ذلك استثناء نفس الأستغفار بطريق الأولى وجعلها بعضهم كناية عن الأستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم كما لا يخفى وكأنهذهالعدة غير العدة السابقة في سورة مريم في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام : سأستغفر لك ربي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها وحكيت ههناعلى سبيل الأستتثناء
وفي الأرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها على طريق التوكيد القسمي واستثناء ذلك من الأسوة الحسنة قيل : لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنهيموت على الكفركما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسىبه أصلا إذ المراد به ما يجب الأئتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى بعد : ومنيتول فإنالله هو الغني الحميد فاستثناؤه عما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجق إيمانه وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل وأما عدم جوازه فلا دلالة للأستثناء عليه قطعا وزعم الإمام على ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك ولا يلزم أن يكون الأستغفار منه عليه الصلاة و السلام معصية لأنه كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الأستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع
وعن الطيبي ما حاصله : إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه : لأرجمنك واهجرني مليا بقوله : سأستغفر لك ربي رحمة ورأفة به ولم يكن عارفا بإصراره علىالكفر وفي بوعده وقال : واغفر لأبي فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه فظهر أن استغفاره لم يكن منكرا وهوفي حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بفوله تعالى : لن تنفعكم الخ وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل : لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين
(28/71)
له كما تبين لكم انتهى وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الأستغفار بعد تبين الأمر وقد كان استغفاره عليه السلام قبله ومنبيء عن كون الأستغفار مؤتسي به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الأئتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق
واستظهر أبو حيان أن الأستثناء منمضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم الخ وجزم باتصال الإستثناء عليه وكذا جزم الطيبي باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك ولا يخفى أن التقدير خلاف الظاهر ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور بقي أنه قيل : إنالآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الأستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى أعني طلب الإيمان له لا منع عنه
وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على الأستغفار ليس مما يجب الأئتساء به حتما لا على منعه وحرمته ثمإنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الأستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده وقد تقدم في سورة التوبة قول : بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الأخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنهعليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة وهي استغفار أي استغفار فيه ولو كان تبين أنه يموت كافرا في الدنيا لم يكن ليشفع ويطلب على أتم وجهالمغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل والذاهبون إلى أنالتبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة وهو صحيح الذي أجزم به اليوم أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار وأتهموا وأنجدوا في الجواب عنها وقد تقدم جميع ماوجده لهم فارجع إليه واختر لنفسك ما يحلوا
ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أنالأستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك
والتزم أنامتناع جواز الأستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أنيغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم وأنه عليه السلام لم يكن إذ استغفر عالما بالوحي امتناعه ومعنى الآية والله تعالى أعلم إن لكم الأقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة منالكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الأقتداء به فيه ومآله يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الأستغفار وإبدالالرأفة فليس لكم الذي اعتبرناه في الأستثناء من باب قوله تعالى : وما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين الخ ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ماقدمناه ووراءه كلام مبني على قول من قال : ليس لله عز و جل قضاء مبرم ونقل ذلك عن القطبالشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وشيد بعض الأجلة أركانه في رسالة مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلكلكنها لا تخلو عن بحث والله عالى أعلم وقوله سبحانه : وما أملك لك من الله شيء منتمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل لأستغفرن ومورد الأستثناء نفس الأستغفار لا قيده فإنه في نفسه
(28/72)
من خصال الخير لكونه إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى الله عالى فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دونالقيد
وفي الكشف أنه وإن كان في نفسه كلاما مطابقا للواقع حسنا أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله : لأستغفرن لك تحقيقا للوعد كأنه قيل : لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة وفيه أنه ملك أكثر من ذلك لفعل وعلى هذا فهو حقيق بالأستثناء وقوله عز و جل : ربنا علك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
4
- إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الأعراب متصلة معنى بقصة إبراهيم عليه السلام ومنمعه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز و جل وقشر العصا ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز و جل لا لحظ نفسي وقيل : اتصالها بماتقدم لفظي على أنها بتقدير قول معطوف على قالواإنا برآء أي وقالوا : ربنا الخ وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمرا منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليما منه عز و جل لهم وتتميما لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والأئتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهموتنبيها على الإنابة إلى الله تعالى والأستعاذة له منفتنة أهل الكفر والأستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل : وجه حسن لا يأباه النظم الكريم وفيه شمة من أسلوب انتهوا خيرا لكم لأنه سبحانه لما حثهم على الأئتساء بمنسمعت في الأنتهاء عن الكفر وموالاة أهله ثم قالسبحانه ما يدلعلى اللجأ إليه تتعالى يكون في المعنى نهيا عن الأولوأمرأ بالثاني
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على لا تتخذوا أي وقولوا ربناالخ وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنهقيل : ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك ربنالا تجعلنا فتنة للذينكفروا أيلا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا قاله ابن عباس فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذاأذابها فكأنه قيل : ربنا لا يجعلنا معذبين للذين كفروا وقال مجاهد : أي لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب منعندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك
وقال قريبا منهقتادة وأبو مجلز والأول أرجح ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل المعدودة وكذا الجملة الآتية وقيل : إن هذه الجملة بدل مما قبلها ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء واغفر لنا ما فرط منا ربنا إنك أنت العزيز الغالب الذي لا يذل منالتجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه الحكيم
5
- الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة لقد كان لكم فيهم أيفي إبراهيم عليه السلام ومنمعه أسوة حسنة الكلام فيه نحو ما تقدم وقوله تعالى : لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر أيثوابهتعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليومالآخر خصوصا والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة لحسنة أوصفة وجوزكونه بدلا من لكم بناءا على ما ذهب إليه الأخفش منجواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب وكذا من ضمير المتكلم بدلالكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب وأنيبدل من الكل بدلالبعض وبدل الأشتمال بدل الغلط
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض والأشتمال والغلط
(28/73)
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدلالكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى : تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء وجملة لقد كان الخقيل : تكرير لما تقدممن المبالغة في الحث على الأئتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي : إن لم ينظر لقوله تعالى : إذ قالوا فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما بعد تخصيص وهو مأخوذ منكلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا الخ وفي قوله سبحانه : لمنكان الخ إشارة إلى أنمن كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الأقتداء بهم وإنتركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفرة كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى : ومن يتولى فإن الله هو الغني الحميد
6
- فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة
عسى الله أن يجعل بينكموبين الذين عاديتم منهم أي من أقاربكم المشركين مودة بأن يوافقوكم في الدين وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهمومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهمفتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه منمسلمة الفتح من أقاربهم المشركين
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طرق الكلبي عن أبيصالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كانت المودة التي جعل الله تعالىبينهم تزوج النبيصص أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارتت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين وأنت تعلم أن تتزوجها كان وقت هجرة الحبشة ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره وفي ثبوته عن ابن عباس مقال والله قدير مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليبالقلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة والله غفور مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لمافرط منكم في موالاتهم رحيم
7
- مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز و جل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المفت مقة وقيل : يغفر سبحانه لمنأسلم من المشركين ويرحمهم والأول أفيد وأنسب بالمقام
لا ينهاكم اللهعن الذين يقاتلونكمفي الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى على البر بهؤلاء كما يقتضيه كون أن تبروهم بدل اشتمال من الموصول وتقسطوا إليهم أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل فالفعل مضمن معنى الأفضاء ولذا عدي بإلى إن الله يحب المقسطين
8
- أي العادلين
أخرج البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أأصلها فأنزل الله تعالى لا ينهاكم الله الخ فقال عليه الصلاة و السلام : نعم صلي أمك وفي رواية الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنتعبد العزي على ابنتهاأسماء بنت أبي بكر بهدايا :
(28/74)
أخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير وابن مردويه بسند حسن وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن : كانت المرأة إذا جاءت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض وبالله ما خرجتمن بغض زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وما خرجت إلا حبا للهورسوله وفي رواية عنه أيضا كانتمحنة النساء أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر عمر ابن الخطاب فقال : قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة و السلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا الخ الله أعلم منكل أحد أو منكم بإيمانهن فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن والجملة اعتراض فإن علمتموهن أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد الأمتحان مؤمنات في نفس الأمر فلا ترجعوهن إلى الكفار أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح ويشعر بذلك التعبير بالأسم في الأولى والفعل في الثانية
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين : إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاما بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيه الأخلال والتغيير من جانبهن وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانا بأن ذلك الحكم مستمر الأمتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغير باستبدال الهدى بالضلال وجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكسوالتبديل كالذي في قوله تعالى : هن لباس لكموأنتم لباس لهن ولعل الأول أولى واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الأنتصاف والقول : بأن المخاطب في حق المؤمنة هي وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله وقرأ طلحة لا هن يحللن لهم وآتوهم ما أنفقوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن منالمهور قيل : وجوبا وقيل : ندبا رويأنه صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب : باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناسويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا منقريش بغير إذن وليه رده عليه ومنجاء قريشا من محمد لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأن لا إسلال ولا إغلال وأنهمن أحبأن يدخل في عقد محمد وعهده دخلفيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا جندلابن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة و السلام أحد من الرجال إلا رده في مدة العهد وإن كان مسلما ثم جاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت أول المهاجرات فخرج أخواها عمار والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكلماه في أمرها ليرده عليه الصلاة و السلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة و السلام ثم أنكحها صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه
وأخرج ابن أبيحاتم عن مقاتل أنه جاءتامرأة تسمى سبيعة بنت الحرق الأسلمية مؤمنة وكانت تحتصيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية وروي أنها كانت تحت
(28/75)
صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسألأر صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى لا ينهاكمالله الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها
وقتيلة هذه على ما في التحرير كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء حقيقة وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أما مجازا والأول هو المعول عليه وقال الحسن وأبو صالح : نزلت الآية في خزاعة وبني الحرث بن كعب وكنانة ومزبنة وقبائل من العرب كانواصالحوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه وقالقرة الهدماني وعطية العوفي : نزل في قوم من بني هاشم منهم العباس
وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة وقال مجاهد : في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروافكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة وقيل : في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة أي مع القدرة عليها وقال النحاس والثعلبي : نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذينلم يستطيعوا الهجرة والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة وعلى ذلك قال الكيا : فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحربوعلى وجوب النفقة للأب الذمي دونالحربي لوجوب قتله ويخطر لي أني رأيت في الفتاوي الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الأستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه لكن راجعت تلك الفتاوي عند كتابتي هذا البخث فلم أظفر بذلك ومع هذا وجته تقل في آخر الفتاوي الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف منشره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى ولميتعقبه بشيء ثم إن في كونالقيام منالبر مطلقا ترددا وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية : وللميل أو للمال يخدم كافر وللميل للأسلام لو قام يغفر ومنالناس منيجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيما والله تعالى أعلم ونقل الخفاجي عن الدر المنثور أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : اقتلوا المشركين الآية والأستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إنتم إنما يتم على بعض الأقوال فيها
إنما ينهاكمالله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم كمشركي مكة فإن بعضهم سعوا في إخرج المؤمنين وبعضهم أعانواالمخرجين أن تولوهم بدلمن الموصول بدل اشتمال أيضا أي إنماينهاكمسبحانه عن أن تتولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون
9
- لوضعهم الولاية موضع العداوة أو همالظالمونلأنفسهم بتعريضها للعذاب وفي الحصر من المبالغة ما لا يخفى
يأيها الذين آمنوا بيان لحكممن يظهرالإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين إذا جاءكم المؤمنات أي بحسب الظاهر مهاجرات منبين الكفار وقريء مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات فكأنه قيل : إذا جاءكم مهاجرات فامتحنوهن فاختبروهن بمايغلب على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان
(28/76)
مسافر المخزومي وأنه أعطي ما أنفق وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وطلبواردهافنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة و السلام وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل ولعل سبب النزول متعدد وأيا ما كان فالآية على ما قيل : نزلت بيانا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دونالنساء وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومنوافقه ونسب الزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظبل يجعلها مطلقات والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام والحنفية يجوزونه لا يقال : إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العملبالخطاب كانبعد مجيء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش وهذا ذهب إليه بعضالشافعية أيضا ومنهممن زعم أن العميم كانمنهصص عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال : نسخ بالآية ومن لم يجوز قال : بالسنة أي امتناعه صلى الله تعالى عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة و السلام
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تاتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذيأنفق عليها وللنبي صلى الله تعالى عليه وسلم منالشرط مثل ذلك وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة أمانسخ العهد فلماأمرفيها من النبذ وأمانسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ والذي عليه معظم الشافعية أنالغرامة لأزواجهن غير ثابتة وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة والقول بالتخصيص والقول : بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلى الله عليه و سلم ثم قال : وأما على قول الضحاك أي السابق فهو مشكل ووجهه أنه حكم فيمخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز و جل خص الحكمبالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم ولا جناح عليكمأن تنكحوهن أي في نكاحهن حيث حالإسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفارإذآ آتيتموهنأجورهن أي وقت إيتائكمإياهن مهورهن فإذا لمجرد الظرفية ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل وعلى التقدير يفهم اشتراطإيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن وليس المراد بإيتاء الأجورإعطاءها بالفعلبل التزامها والتعهد بها وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى : وآتوهم ما أنفقوا أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد معذلك من إصداقهن وقيل : لا يخلو إماأن يراد بالأجورما كانيدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن أدائه وإماأنيراد أن ذلك إذادفع إليهنعلى سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكنبه بأس وإما أن يبين إليهم أن ما أعطى لأزواجهن لا يقوممقامالمهر وهذاما ذكرناه أولا من الظاهر وهو الأصح في الحكم والوجهان الآخران ضعيفان فقها ولفظا
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذاخرج من دار الحرب مسلما أو بذمة
(28/77)
وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملا وهذا للحديث المشهور الذيتجوز بمثله الزيادة على النص من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقينماءه زرع غيره ومذهب الشافعي على ما قيل : إنهلا تقع الفرقة إلا بإسلامها وأما بمجرد الخروج فلا فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة وتعقب الأحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر نعمقد احتج بها على عدمالعدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة ووجهبأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجهفينكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر ولميقيد جل شأنه بمضي العدة فلو لا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثابتا ومع هذا فقد قيل : الجواب على الأصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليستعرضا للعدم وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع وكونها حاملا بالأتفاق فتأمل ولا تمسكوابعصم الكوافر جمعكافرة وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث وقال الكرخي : الكوافر يشمل الإناث والذكور فقال له الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة فقال : أليسيقال : طائفة كافرة فرقة كافرة قالالفارسي : فبهت وفيه أنهلا يقال : كافرة في وصف الذكور إلا تابعا للموصوف أو يكونمحذوفا مرادا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان و عصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به عقد وسبب والمراد نهيالمؤمنين عن أن يكون بينهم الزوجات المشركات الباقية في دار الحربعلقة من علق الزوجية أصلا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناءا على أنه لا عدة لهن قالابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها مننسائه لأناختلاف الدارين قطع عصمتها منه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال : نزل قوله تعالى : ولا تمسكوا الخ في المرأة منالمسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد بريء منها
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وسعيد بن جبير محوه وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنتأبي أمية بنالمغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيانوامأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي وكذا طلق طلحة زوجته أرويبنت ربيعة وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية والشافعية أما عند الحنفية فلأنالفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلاموأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حين اللفظ وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية وقرأ أبو عمرو ومجاهد بخلاف عنه وابن جبير والحسن والأعرج تمسكوا مضارع مسك مشددا والحسن أيضا وابن أبيليلى وأن عامر في رواية عبد الحميد أبو عمرو في رواية معاذ تمسكوا مضارع تمسك محذوف إحدىالتاءين والأصل تتمسكوا
وقرأ الحسن أيضا تمسكوا بكسر السين مضارع مسك ثلاثيا وسئلوا مآ أنفقتم أي واسألواالكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم وليسئلوا مآ أنفقواأي ليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم وظاهره أمر الكفار وهومن باب وليجدوا فيكمغلظة فهوأمر للمؤمنين بالأداء مجازا وقيل : المراد
(28/78)
التسوية ذلكم الذي ذكر حكم الله أي فاتبعوه وقوله عز و جل : يحكم بينكم كلام مستأنفأو حال من حكم بحذف الضمير العائد إليه وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم أو العائد إليه الضمير المستتر في يحكم يجعل الحكم حاكما مبالغة كأنالحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر واللهعليم حكيم
10
- يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة وروي أنهلما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مماأمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى : وإن فاتكم أي سبقكموانفلت منكم شيء من أزواجكم إلى الكفار أيأحد من أزواجكموقريءكذلك وإيقاع شيء موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصا وفي الكشف لك أن تقول : أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن منفات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان وكانت الفائتات ستا على ما نقله في الكشاف وفصله أو إن فاتكم شيء من مهور أزواجكم على أن شيء مستعملفي غير العقلاء حقيقة و من ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول فعاقبتم من العقبة لا من العقاب وهي في ألأصل التوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور أولئك نسائ أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى أو شبه الحكم بالأداء المذكوربأمر يتعقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار
فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا من مهر المهاجر التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكونقصاصا ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة وهذا كما تقول : إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيرهأخرى ولا تريد أنهاتعاقب غيرها من الأبل في ذلك وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عنالزهري أنه قال : يعطيمنلحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم
وعن الزجاج أن معنى فعاقبتم فغنمتم وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي عن ابن عباس يعطي الذيذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئا وقال ابن جني : وينا عن قطرب أنه قال : فعاقبتم فأصبتم عقبا منهم يقال : عاقب الرجل شيئاإذا أخذ شيئا وهو في المعنىكالوجهقبله
وقرأ مجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني فعقبتم بتشديد القاف منعقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يقفى صاحبه والأعرج وأبو حيوة أيضاوالنخعي وابن وثاب بخلاف عنه فعقبتم بفتح القاف وتخفيفها والزهري والنخعي أيضا بالكسر والتخفيف ومجاهد أيضافأعقبتم أي دخلتم فيالعقبة وفسر الزجاج هذه القراآت الأربعة بأن المعنى فكانت العقبىلكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنهاالعاقبة التيتستحق أن تسمى عاقبة واتقواالله الذي أنتمبه مؤمنون
11
- فإن الإيمان به عز و جل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى يا أيها النبي غذا جاءك المؤمنات يبايعنك
(28/79)
أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة على أنلا يشركن بالله شيئا أي شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك ولا يسرقن ولا يزنين ولايقتلن أولادهن أريد به على ما قال غير واحد : وأد البنات بالقرينة الخارجية وإن كان الأولاد أعم منهن وجوز إبقاءه على ظاهره فإنالعرب كانتتفعل ذلكمن أجلالفقر والفاقة وانظرهل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي ولا يقتلن بالتشديد لا اتين ببهتان بفرينه بين أيديهن وأرجلهن
قال الفراء : كانتالمرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول : هذاولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن و وذلك أن الولد إذاوضعته الم سقط بين يديها ورجليها وفي الكشاف كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذيتلصقه بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدينوفرجها الذي تلده به بين الرجلين وقين : كني بذلكعن الولد الدعي لأن اللواتي كنيظهرن البطون لأزواجهن فيبدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانا عليهم وكن يبدين في ثاني الخال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرا لتينك الحالتين وتهجينا لما كن يفعلنه وأيا ما كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال بعض الأجلة : معناه لا يأتين ببهتام منقبل أنفسهن واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية : هذا ما كسبت يداك أو معناه لا يأتينببهتان ينشئنه في ضمائرهن وقلوبهن والقلب مقره بين الأيدي والأرجلوالكلام على الأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن وعلى الثانيكناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني
وقالالخطابي : معناه لا يبهتن الناس كفاحا ومواجهة كمايقال للأمر بحضرتك : إنه بين يديك ورد بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه : وهو بين رجليك وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت الأيدي تبعا فلا والكلام قيل : كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة وروي عن الضحاك حملذلك على القذف وقيل : بين أيديهنقبلة أو جمةوأرجلهن الجماع وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالتميمة وأرجلهن فروجهن بالجماع وهو وكذا ماقبله كما ترى
وقيل : البهتان السحر وللنساء ميل إليه جدا فنهين عنه وليسبشيء ولا يعصينك في معروف أيفيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر والتقييد بالمعروف مع أن الرسول ص - لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق ويرد به على زعم منالجهلة أن طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما أخرج الإمام أحمد والترمذيوحسنه وابن ماجه وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة : ما هذا المعروف الذي لا ينبغي أننعصيك فيه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تنحن الحديث ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير والحق العموم وما ذكر في الأخبار من باب الأقتصار على بعض أفراد العاملنكتة ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم : هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها وتخصيص الأمور المعدودةبالذكر في حقهن لكثرة
(28/80)
وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا فبايعهن بضمان الثواب على الوفاء بهذهالأشياء وتقييد مبايعتهت بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليه واستغفر لهن الله زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب إن الله غفور رحيم
12
- أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز و جل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه وهذه الآية نزلت على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح فبايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجاء أنه عليه الصلاة و السلام بايع النساء أيضا بنفسه الكريمة
أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا حتى بلغ ولا يعصينك في معروف فقال : فيما استطعن وأطقن قلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا قال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد عن الشعبي قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا وفي بعض الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوى ومن يثبت ذلك يقول بالمافحة وقت المبايعة والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه وكأنهذا بدلالمصافحة والله تعالى أعلم بصحته
والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة وممن بايعنه عليه الصلاة و السلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلى الله تعالى عليه وسلم عليهن الآية فلما قال : على أن لا يشركن بالله شيئا قالت هند : وكيف نطمع أن يقبلمنا مالم يقبله من الرجال يعني أن هذا بين لزومه فلما قال ولا يسرقن قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك فقال أبو سفيان : ما أصبت منشيء فيما مضى وفيماغبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعرفها فقاللها : وإنك لهند بنت عتبة قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : ولا ولا يزنين فقالت : أو تزني الحرة تريد أن الزنا في الإماء بناءا على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبا وإنما يزني في الغالب الإماء وإنماقيد بالغالب لما قيل : إن ذوات الرايات كن حرائر فقال : ولا يقتلن أولادهن فقالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية أنها قالت : قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد ! فضحك فقال : ولا يأتين ببهتان فقالت : والله إن البهتانلأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال : ولا يعصينك في معروف فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وكأن هذا منها دونغيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله
(28/81)
صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية ويروى أن أول من بايع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن
يا أيها الذينآمنوالا تتولوا قوما غضب الله عليهم عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز و جل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم وروي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوايواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت وقيل : هم اليهود والنصارى وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش وقال غير واحد : هم عامة الكفرة وهذه الآية على ما قال الطيبي : متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وهي قولهسبحانه : ومن يتولهم فأولئكهم الظالمون وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكمالمؤمنات الخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم ولمافرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى وفي الأنتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الأستطراد وهو ظاهر على القول : بأن المراد بالقوم اليهود و أهل الكتابمطلقا وقوله تعالى : قد يئسوا من الآخرة استئناف والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المنعوت في كتابهمالمؤيد بالآيات والمعجزات الباهرات وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها
كما يئس الكفار من أصحاب القبور
13
- أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن من بيانية والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنواالقبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم وقيل : كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة وكون من بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد وهو اختيار ابن عطية وجماعة واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كمايئسوا من موتاهم أن يبعثواويلقوهم في دار الدنيا وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة فالمراد بالكفار أولئك القوم ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا لكفرهم وإشعارا بعلة يأسهم وقرأ ابن أبي الزناد كما يئس الكافر بالإفراد على إرادة الجنس
هذا ومنباب الإشارة في بعض الآيات ما قيل : إن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكمأولياء الخ إشارة للسالك إلى ترك مولاة النفس الأمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل : أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك وهي لا تزالكارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولاتنفك عن ذلك حتى تكونمطمئنة راضية مرضية وإليه الإشارة بقوله تعالى : عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتممنهم مودة وقوله سبحانه : لا ينهاكم الله الخإشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمنجماحها جاز إعطاؤهاحظوظها المباحة وإليه الإشارة بما روي أنلنفسك عليك حقا وفي قوله سبحانه : يا أيها النبي إذاجاءك المؤمنات يبايعنك الخ إشارة إلى مبايعةالمرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الأختيار وتفويض الأمور إلى الله عز و جلوأنلا يرغب فيما ليسله بأهل وأن لا يلج في شهوات النفس وأنلا يئذ الوارد الإلهاميتحت ترابالطبيعة وأن لا يفتريفيزعم أن الخاطر السري خاطر
(28/82)
الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك وأن لا يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز و جل وأن يطلب من اللهسبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده وحاصله أن يطلب له البقاءبعد الفناء وذلك فضل اللهيؤتيه من يشاء
سورة الصف
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام وهي مدنية في قولالجمهور وروي ذلك عنابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وقالابن يسار : مكية ورويذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا والمختار الأول ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد اللهبن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحبإلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه سبح للهما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها وروي هذاالحديث مسلسلا يقرأهاعلينا وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر : إنهأصح مسلسل يروى في الدنيا إن وقع في المسلسلاتمثله فيمزيد علوه وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قولشباب من المسلمين : فعلنا في الغزو كذاولميفعلوا وماروي عن ابنزيد من أنه قولالمنافقينالمؤمنين : نحن منكم ومعكمثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك
وآيها أربععشرة آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه
بسم الله الرحمن الرحيم سبح لهه ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم
1
- الكلام فيه كالكلام المار في نظيره والنداء يوصف الإيمان في قوله تعالى : يآ أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون
2
- على ما عداالقول الأخير في سبب النزول ظاهر وعليه قيل : هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم و لم مركبة من اللامالجارة وما الأستفهامية قد حذفألفها على ما قال النحاة للفرق بين الخبر والأستفهام ولم يعكسحرصا على الجواب وقيل : لكثرة استعمالهامعا فاستحقالتخفيف وإثباتالكثرة المذكورة أمر عسير وقيل : لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه وبين بأن قولك : لم فعلتمثلاالمستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلولاللام والفعل مدلول ما لأنها بمعنى أي شيء والمفيد لذلك المجموع وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل وحدهوهو كما ترى والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه منالخير والمعروف ! على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدمفعلهم وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقطبل الوعد أيضا وقد كانوايحسبونه معروفا ولو قيل : لم لا تفعلونما تقولونلفهم منهأن المنكر هو ترك الموعود كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
3
- بيان
(28/83)
لغاية قبح ما فعلوه و كبر من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة يعده و أن تقولوا هو المخصوصبالذم وجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه : لم تقولون أي كبر هو أي القول مقتا و أن تقولوا بدل منالمضمر أوخبر مبتدأ محذوف وقيل : قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كمافي قوله : وجارة جساس أبأنابنابها كليبا غلت نابكليب بواؤها ومعنى التعجب تعظيم الأمرفي قلوب السامعين واسند أن تقولوا ونصب مقتا على تفسيره دلالة على أن قولهم : ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراحتى جعل أشده وأفحشه وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة وقال ابن عطية : المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت وقال المبرد : رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد واستدلبالآية عل وجوب الوفاء بالنذر وعن بعض السلف أنه قيل له : حدثنا فسكت فقيل له : حدثنا فقال : وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله عز و جل وقوله سبحانه : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص
4
- بيان لما هو مرضي عندهسبحانه وتعالبعد بيان ما هو ممقوت عندهجل شأنه وظاهره يرجع أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتالدون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهملأوعدهم وصف مصدروقع موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول ونصبه على الحال من ضمير يقاتلون أي صافين أنفسهم أو موصوفين و كأنهم الخ حالمنالمستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهمببنيان الخ وهذا ما عناه الزمخشري بقوله : هما أي صفا و كأنهم الخ حالان متداخلان وقول ابن المنير : إن معنى التداخل أنالحالالأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الأتصاف هي هيئة الأرتصاص خلافالمعروف من التداخل في اصطلاح النحاة وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير
وقال الحوفي : هو في موضع النعت لصفا وهوكما ترى والمرصوص على ما قال الفراء ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص ويراد به المحكم وقال المبرد : رصصت البناء لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة ومنه الرصيص وهو انضمام الأنسان والظاهرأن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث أنهم لا فرجه بينهم ولا خلل وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماعالكلمة كالبنيان المرصوص والأكثرون على الأول وفي أحكام القرآنفيه استحباب قيام المجاهدين والقتالصفوفا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سد الفرج والخلل في الصفوف وإتمام الصف الأول فالأول وتسوية الصفوف عدمتقدم بعض على بعض فيها وقال ابن الفرس : استدل به بعضهمعلى أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص إنما يمكن منهم ثم قال : وهو ممنوع انتهى ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوممن أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فمايتوصل به إلىتحصيل الأتصاف بذلكمما لا ينبغي أن يتكاسل فيتحصيله وقرأ زيد بن علي
(28/84)
يقاتلون بفتح التاء وقريء يقتلون وقوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وإذا منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان حيث قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إلى قوله تعالى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون وأصروا على ذلك كل الأصرار وآذواه عليه السلام كل الأذية فوبخهم على ذلك بقوله : يا قوم لم تؤذونني بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به وقد تعلمون أني رسول الله إليكم جملة حالية مؤكدة لأنكار الإيذاء ونفي سببه وقد لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك للمقام وصيغة المضارع للدلالة على الأستمرار أي والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة ومنقضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فلما زاغوا أي أصروا على الزيغ والأنحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام واستمروا عليه أزاغ الله قلوبهم أي صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال وقيل : أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب الإرادة والإرادة على حسب العلم والعلم على حسب ما عليه الشيء في نفس الأمر وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب وقوله تعالى : والله لا يهدي القوم الفاسقين
5
- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها شاملة للكل والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام الإضمار لذمهم وتعليل عدم الهداية به أو جنس الفاسقسن وهم داخلون في حكمهم دخولا أوليا قيل : وأيا ما كان فهو ناظر إلى ما في قوله تعالى : فافرق بيننا وبين القوم الفاسقسن وقوله سبحانه : فلا تأس على القوم الفاسقين هذا وقيل : إذ ظرف متعلق بفعل مقدر يدل عليه ما بعده كزاغوا ونحوه والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة
وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم وإذ قال عيسى ابن مريم إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها يا بني إسرائيل ولعله عليه السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال : يا بني إسرائيل لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم وفيه من الأستعطاف ما فيه وقيل : إن الأستعطاف
(28/85)
بما ذكر لما فيه من التعظيم وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقا فنصب مصدقا على الحال من الضمير المستتر في رسول وهو العامل فيه و إليكم متعلق به وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه الصلام وقوله تعالى : ومبشرا برسول من بعدي معطوف على مصدقا وهو داع أيضا إلى تصديقه عليه السلام من حيث أن البشارة بهذا الرسول صلى الله عليه و سلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس : منها أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر : يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره فيه والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى إلى غير ذلك ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جميعا من تقدم ومن تأخر وجملة يأتي الخ موضع الصفة لرسول وكذا جملة قوله تعالى : اسمه أحمد وهذا الأسم الجليل علم لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم وعليه قول حسان : صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس قدمي وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية وجوز أن يكون من المحمودية بناءا على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي وقريء من بعدي بفتح الياء هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان وقولهم : لو وقعت لذكرى في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة وإذا سلمت قلنا : بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاءا بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد حبا لدينهم أولأمرما غير ذلك أسقطوها كذا قيل وأنا أقول : الأناجيل التي عند النصارى أربعة : إنجيل متي من الأثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالأسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا وإنجيل يوحنا وهوحبيب المسيح جمعه بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدةإصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز و جل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي
(28/86)
إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعا ونحو ذلك وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض ألأحوال والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح : إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء وقال يوحنا أيضا : قال المسيح : من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم ولو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب وقال أيضا : إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عندهبل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب وقال أيضا : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم من قريب والفار قليط لفظ يؤذن بالحمد وتعين إرادته صلى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه الصلاة و السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه وقد فسره بعض النصارى بالحماد وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة و السلام أحمد وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى عليه السلام : فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان التخليص فستدل به على ثبوت رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا وزعم بعضهم أن الفار قليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبى ذلك إذ لم يتقدم لهم غيره فلما جاءهم أي عيسى عليه السلام بالبينات أي بالمعجزات الظاهرة
قالوا هذا سحر مبين مشير إلى ما جاء به عليه السلام فالتذكير بهذا الأعتبار وقيل : مشيرين إليه عليهالسلام وتسميته سحرا للمبالغة ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب هذا ساحر وكون فاعل جاءهم ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه وقيل : هو ضمير أحمد عليه الصلاة و السلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات قالوا الخ
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام أي أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلىالإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الأفتراء على الله عز و جل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا فإن الأفتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المنفي أي لا أظلم من ذلك والمراد أنه أظلم من كل ظالم وقرأ طلحة يدعى مضارع ادعى مبنيا للفاعل وهوضميره تعالى و يدعى بمعنى
(28/87)
يدعو يقال : دعاه وأدعاه نحو لمسه والتمسه وقيل : الفاعل ضمير المفتري وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الأنتماء والأنتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيا أنه مسلم وليس بذاك وعنه يدعى مضارع ادعى أيضا لكنه مبني للمفعول ومعناه كما سبق والآية فيمن كذب من هذه الآمة على ما يقتضيه ما بعد وهي إن كانت في بني إسرائيل جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم
والله لا يهدي القوم الظالمين
7
- أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم تمثيل في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة منينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم كما تقول الناس : هو يطفيء عين الشمس وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الشمس دينه تعالى الحق كما روي عن السدي على سبيل الأستعارة التصريحية وكذا في قوله سبحانه : والله متم نوره و متم تجريد وفي قوله تعالى : بأفواههم تورية وعن ابن عباس وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول وقالابنبحر : يريدون إبطالحجج اللهتعالىبتكذيبهم وقال الضحاك : يريدون هلاك الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالأراجيف وقيل : يريدونإبطالشأنالنبي صلى الله عليه و سلم وإخفاءظهوره بكلامهم وأكاذيبهم فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالىنور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلى الله عليه و سلم فنزلت يريدون إلى آخره وفي يريدون ليطفئوا مذاهب : أحدهما أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في : لا أبالكلتأكيد معنى الإضافة ثانيها أنهازائدة للتعليل ومفعول يريدون محذوف أي يريدونالأفتراء لأن يطفئوا ثالثها أنالفعل أعني يريدون حال محلالمصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للأطفاء والكلام نظير تسمع بالمعيدي خير من أن تراه من وجه رابعها أن اللام مصدرية بمعنة أن من غير تقدير والمصدر مفعوا به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر خامسها أن يريدون منزل منزلة اللازم لتأويله بيوقعون الإرادة قيل : وفيه مبالغة لجعل كل إرادةلهم للأطفاء وفيه كلامفي شرح المغنى وغيره
وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابنمحيصن متم بالتنوين نوره بالنصب على المفعولية لمتم ولو كرهالكافرون
8
- حال منالمستكن في متم وفيهإشارة إلى أنه عز و جل متم ذلكإرغاما لهم هو الذيأرسلرسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى بالقرآن أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهد مبالغة ودين الحق والملة الحنيفية ليظهره عل الدين كله ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ولقد أنجز الله عز و جل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الأسلام
وعن مجاهد إذانزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام ولا يضر في ذلك ما ورد من أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الإستمرار وقيل : المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلكأمر مستمر أبدا ولو كره المشركون
9
(28/88)
ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك الشرك وقريء هو الذي أرسل نبيه يآ أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة جليلة الشأن تنجيكم من عذاب أليم
10
- يوم القيامة وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر تنجيكم بالتشديد وقوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدونفي سبيل الله بأموالكم وأنفسكم استئناف بياني كأنه قيل : ما هذه التجارة دلنا عليها : فقيل : تؤمنون الخ والمضارع في الموضعين كما قال المبرد وجماعة خبر بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا ويؤيده قراءة عبد الله كذلك والتعبير به للإيذانبوجوبالأمتثالكأ والجهاد قد وقعا فأخبر بوقوعهما والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلص فالمراد تثبتون وتدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمانوالجهاد أي بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد تخلصون الإيمان وأيا ما كان فلا إشكال في الأمر وقال الأخفش : تؤمنون الخ عطفبيانعل تجارة وتعقب بأنه لا يتخيل إلا على تقدير أنيكونالأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر ثم حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
يريد أن أحضر فلما حذف أن ارتفع الفعل وهو قليلوقال ابن عطية : تؤمنون فعل مرفوع بتقدير ذلك أنه تؤمنون وفيه حذفالمبتدأ وأن واسمها وإبقاء خبرها وذلك على ما قالأبو حيان : لا يجوز وقرأ زيد بن علي تؤمنوا وتجاهدوا بحذفنون الرفع فيهماعلى إضمارلام الأمر أي لتؤمنوا وتجاهدوا أو لتجاهدواكما في قوله : قلت لبواب على بابها تأذن لنا إني من أحمائها وكذا قوله : محمد تفد نفسك كل نفس إذاما خفت من أمر تبالا وجوز الأستئناف والنون حذفت تخفيفا كمافي قراء ساحران يظاهرا وقوله : ونقري ما شئت أن تنقري قد رفع الفخ فماذا تحذري وكذا قوله أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي وأنت تعلم أن هذا الحذفشاذ ذلكم أيما ذكر من الإيمان والجهاد خير لكم على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم إن كنتم تعلمون
11
- أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا يعتد بأفعالهم حتى توصف بالخبرية وقيل : أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذاعلمتم ذلك واعتقدتم أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون وتفلحون يغفر لكم ذنوبكم جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما في قولهم : اتقي الله تعالى امرؤ وفعل خيرا يثب عليه أو جوابلشرط أو استفهامدل عليه الكلام والتقدير أنتؤمنوا وتجاهدوايغفر لكم أو هل تقبلون أن أدلكم أو هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم وقال الفراء : جواب للأستفهامالمذكور أيهل أدلكم وتعقب بأنمجرد الدلالة لا يوجبالمغفرة وأجيب بأنه كقوله تعالى : قل لعبادي الذين آمنوا يقيمواالصلاة وقد قالوا فيه : إن القول لماكان للمؤمن الراسخ الإيمان كانمظنة لحصول الإمتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال ههنا : ما كانت الدلالة مظنة لذلكنزلت منزلة المحقق ويؤيده إن كنتم تعلمون لأنمن لهعقل إذا دله سيدهعلىما هو خير له لا يتركه وادعاء الفرق بماثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من المعاتبة قيل : غير ظاهر فتدبر والإنصاف أن تخريج الفراء لا يخلو
(28/89)
عن بعد وأما ما قيل : من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم و يغفر مرفوع سكن آخره كما سكن آخر
أشرب
في قوله : فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة أي طاهرة زكية مستلذة وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها وقوله تعالى : في جنات عدن إشارة إلى حسنها باعتبار محلها ذلك أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها الفوز العظيم
12
- الذي لا فوز وراءه وأخرى أي ولكم إلى ما ذكر من النعم نعمة أخرى فأخرى مبتدأ وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه والخبر محذوف قاله الفراء وقوله تعالى : تحبونها في موضع الصفة وقوله سبحانه : نصر من الله وفتح قريب أي عاجل بدلأو عطفبيان وجملة المبتدأ وخبره قيل : حالية وفي الكشف إنها عطف على جواب الأمر أعني يغفر كماتقول : جاهدوا تؤجروا ولكم الغنيمة وفي تحبونها تعبير لهم وكذلك في إيثار الإسمية على الفعلية وعطفها عليها كأنهذه عندهم أثبت وأمكن ونفزسهم إلى نيلها والفوز أسكن
وقيل : أخرى مبتدأ خبره نصر وقال قوم : هي في موضع نصب بإضمار فعل أي ويعطيكم أخرى وجعل ذلك من باب
علفتها تبنا وماءا باردا
ومنهم من قدرتحبون أخرى على أنه من باب الأشتغال و نصر على التقديرينخبر مبتدأ محذوف أي ذلك أو هو نصر أو مبتدأخبره محذوف أي نصر وفتح قريبعنده وقال الأخفش : هي في موضع جر بالعطف على تجارة وهو كما ترى
وقرأ ابن أبي عبلة نصرا وفتحا قريبا بأعني مقدرا أو على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا أو على البدلية من أخرى على تقدير نصبها وبشر المؤمنين
13
- عطف على قل مقدرا قبل قوله تعالى : يا أيها الذينآمنوا وقيل : على أبشر مقدرا أيضا والتقدير فأبشر يا محمد وبشر
وقال الزمخشري : هو عطف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك وتعقبه في الإيضاح بأن فيه نظرا لأن المخاطبين في تؤمنون هم المؤمنون وفي بشر هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قوله تعالى : تؤمنون بيان لما قبلهعلى طريق الأستئناف فكيف يصح عطف بشر المؤمنين عليه وأجيب بما خلاصته أن قوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته كما تقررفي أصول الفقه وإذا فسر بآمنواوبشر دل على تجارته عليه الصلاة و السلام الرابحة وتجارتهم الصالحة وقدم آمنوا لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع منالعطف على جواب السائل بما لا يكون جوابا إذا ناسبه فيكون جوابا للسؤال وزيادة كيف وهوداخل فيه كأنهم قالوا : دلنا ربنا فقيل : آمنوايكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم وفيه من إقامة الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه واختاره صاحب الكشف فقال : إن هذا الوجه من وجه العطف على قل ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما تضمنه الجواب يآ أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله
(28/90)
أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة و السلام وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان أنصار الله بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز و جل
وقرأ ابن مسعود على ما في الكشاف كونوا أنتم أنصار الله وفي موضح الأهوازي والكواشي أنتم دون كونوا كما قالعيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله أي من جندي متوجها إلى نصرة اللهتعالى ليطابق قوله سبحانه : قال الحواريون نحن أنصار الله وقيل : إلى بمعنى مع و نحن أنصار الله بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق والأولأولى والإضافة في أنصاري إضافة أحد المتشاركينإلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز و جل كانبينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في أنصار الله إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى وقال أبو حيان : هو على معنى قلنا لكم كما قالعيسى
وقالالزمخشري : هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : من أنصاري إلى الله وخلاصته على ما قيل : إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحوريين أنصاره وقت قول عيسى ثم قيل : كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة وجيء بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم : كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته واكتفى بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدالعلى موصوفه وهذامن توسعاتهم في الظروف وقد جعلت الآية من الأحتباك والأصل كونوا أنصار الله حين قال لكم النبي صلى الله عليه و سلم : من أنصاري إلى الله كما كان الحواريون أنصار الله حين قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاريإلى الله فحذف من كل منهما ما دل عليه المذكور في الآخر وهو لا يخلو عن حسن و الحواريون أصفياؤه عليه السلام والعدول عن ضميرهمإلى الظاهر للأعتناء بشأنهم وهم أول من آمنبه وكانوا اثني عشر رجلا فرقهم على ما في البحر عيسى عليه السلام في البلاد فمنهم من أرسله إلى رومية ومنهممن أرسله إلى بابل ومنهم من أرسله إلى إفريقية ومنهممن أرسله إلى أفسس ومنهم من أرسله إلى بيت المقدس ومنهم من أرسله إلى المجاز ومنهممن أرسله إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه ولست على ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم وقد ذكرها السيوطيأيضا في الأتقان فليلتمس ضبط ذلك من مظانه واشتقاق الحواريين من الحور وهو البياض وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين وقيل : لبسهم البياض وقيل : لنقاء ظاهرهم وباطنهم وزعم بعضهم أنما قيل : من أنهم قصارين إشارة إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم وما فيل : من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق
وقيل : الحواريون المجاهدون وفي الحديث لكل نبي حواري وحواريي الزبير وفسر بالخاصة منالأصحاب والناصر وقال الأزهري : الذي أخلص ونقى من كل عيب وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله تعالى عنه أيضا فقد قال : إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبيوقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين
(28/91)
فئامنت طائفة من بني إسرائيل أي بعيسى عليه السلام وكفرت طائفة أخرى فأيدناالذين آمنواعلى عدوهم وهم الذين كفروا فأصبحوا ظاهرين
14
- فصاروا غالبين قال زيد بن علي وقتادة : بالحجة والبرهان وقيل : إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت طائغة من قومه : إنه الله سبحانه وقالت أخرى : إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا رفعه الله عز و جل إليه وقالت طائفة : إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبيصص فظهرت المؤمنة على الكافرتين وروي ذلك عن ابن عباس وقيل : اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون على الكفرة بالسيف والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه السلام وقيل : المراد فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد عليه الصلاة و السلام وكفرت أخرى به صلى الله تعالى عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين وهو خلاف الظاهر والله تعالى أعلم
سورة الجمعة
مدنية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الجمهور وقال ابن يسار : هي مكية وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالإتفاق ولأن أمر الأنفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذاأمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم الخ لم يكن إلا بالمدينة وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ووجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين ولذا تعرض فيها لذكر اليهود وأيضا لما حكى هناك قول عيسى عليه السلام ومبشرا برسول من بعدي اسمه أحمد قال سبحانه هنا : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تجارة ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة أما الأولى فظاهر وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الأصطفاف إلى غير ذلك وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابنماجه عن ابن عباس يقرأ في الجمعة بسورتها وإذا جاءك المنافقون
وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة
بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض تسبيحا متجدداعلى سبيل الأستمرار
(28/92)
الملك القدوس العزيز الحكيم صفاتللأسم الجليل وقد تقدم معناها وقرأ أبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدينار والأعرابي برفعها على المدح وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول بين الصفة والموصوف وجاء كذلك عن يعقوب وقرأ أبو الدينار وزيد بن علي القدوس بفتح القاف هو الذي بعث في الأمين يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرأون
وقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته وقيل نسبة إلى أمة العرب وقيل : إلى أم القرى والأول أشهر واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب والكتابة على ما قيل : بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار وقريء الأمين بحذف ياء النسب رسولا منهم أي كائنا من جملتهم فمن تبعيضية والبعضية : إما باعتبار الجنس فلا تدل على أنه عليه الصلاة و السلام أمي أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر فتدل واختار هذا جمع فالمعنى رسولا من جملتهم أميا مثلهم يتلو عليهم آياته مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم ويزكيهم عطف على يتلو فهو صفة أيضا لرسولا أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال
ويعلمهم الكتاب والحكمة صفة أيضا لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهم التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوةالنظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالهامستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر في سورةالبقرة وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كلعنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع قاله بعض الأجلة وجوز كون الكتاب والحكمة كناية عن جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه من الدلالة على مزيد علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه ولو لم يكن له عليه الصلاة و السلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما أشار إليه اليوصيري بقوله : كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب فياليتيم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
2
- من الشرك وخبث الجاهلية وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كان نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهند كورقة وأضرابه وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة و السلام من الغير وإن هي المخففة واللام هي الفارقة وآخرين جمع آخر بمعنى الغير وهو عطف على الأميين أي وفي آخرين منهم أي من الأميين و من للتبيين لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
3
- أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وهم الذين جاءوا بعد
(28/93)
الصحابة إلى يوم الدين وجوز أن يكون عطفا على المنصوب في ويعلمهم أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أولهفكأنه عليه الصلاة و السلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول والمذكور في الآية قومه صلى الله تعالى عليه وسلم وجنس الذين بعث فيهم وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيا أو إثباتا وقد تعرض لإثباته في آيات أخر وخصوص القوملا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب وقيل : المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم وبهم فسره مجاهد كما رواه عنه ابن جرير وغيره وتعقب بأنالعجم لم يكونوا أميين
وقيل : المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقا لا في كونهم لا يقرأون ولا يكتبون وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه وكذا على ما قبله ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب
وقال بعض أهل العلم : المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سسماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك من باب التمثيل والأقتصار على بعض الأنواع بناءا على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضا وربما يقال : إن من في منهم إسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى : ومن الناس من يقول وضمير الجمع لآخرين وجملة لما يلحقوا بهم خبر فيشمل آخرين طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم وبذلك فسره الضحاك وابن حيان ومجاهد في رواية ويكون الحديث من باب الأقتصار والتمثيل كقول ابن عمر : هم أهل اليمن وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر
وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى : لما يلحقوا بهم أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الحابة على التابعين ومن بعدهم وفيه أن لما منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعد فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه كذلك وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدرا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كاب الصحابة وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل فقال : الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلة معاوية خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ اهدنا الصراط المستقيم الخ فقال معاوية : آمين واستدل على عدم اللحوق بما صح من قوله عليه الصلاة و السلام فيهم : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه على القول بأن الخطاب لسائر الأمة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة : لا يدري ظهارته خير أم بطانته ذلك إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة و السلام رسولا في الميين ومن
(28/94)
بعدهم معلما مزكيا وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم فضل الله وإحسانه جل شأنه يؤتيه من يشآء من عباده تفضلا ولا يشاء سبحانه إيتاءه لأحد بعدهصص
والله ذو الفضل العظيم
4
- الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة مثل الذين حملوا التوراة أيعلموها وكلفوا العمل بما فيها والتحميل في هذا شائع يلحق بالحقيقة والمراد بهم اليهود ثم لم يحملوها أي لم يعملوا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
كمثل الحمار يحمل أسفارا أي كتبا كبارا على ما يشعر بهالتنكير وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها و يحمل إما حال من الحمار لكونه معرفة لفظا والعامل فيه معنى المثل أو صفة له لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح
ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك ووجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل : هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار وفي الآية دليل على سوء حال العالم الذي لا يعمل بعلمه وتخصيص الحمار بالتشبيه به لأنه كالعلم في الجهل ومن ذلك قول الشاعر : ذوامل للأسفار لا علم عندهم يجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أرواح ما في الغرائر بناءا على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار كالجمل البازل وقرأ يحيى بن يعمر وزيد بنعلي حملوا مبنيا للفاعل وقرأ عبد الله حمار بالتنكير وقريء يحمل بشد الميم مبنيا للمفعول بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه ويجوز أن يكون الذين صفة القوم والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله وهو والضمير راجع إلى مثل الذين حملوا التوراة وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو مثل المذكور والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف والتقدير بئس مثلا مثل القوم الخ وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوزحذفه ولو سلم جوازه فهو قليل وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب لاعتبار الوجه الأول وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل مثل القوم من ذلك الباب وإلا ففيه حذف الفاعل وقد قالوابعدم جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها والله لا يهدي القوم الظالمين
5
- أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب
قل يا أيها الذين هادوا أي تهودوا أي صاروا يهودا إن زعمتم أنكم أولياء لله أي أحباء له سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه : ألا إن أولياء الله قال الطيبي : ليؤذن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه عز و جل بها من دون الناس حال من الضمير الراجع إلى اسم إن أي
(28/95)
متجاوزين عن الناس فتمنوا الموت أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة إن كنتم صادقين جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار وأمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لهم إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا يقولوت : نحن أبناء الله وأحباؤه ويدعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وروي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر : إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه خالفناه فقالوا نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزير ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت قل يا أبها الذين هادوا الآية واستعمال إن التي للشكل مع الزعم وهو محقق للأشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه
وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السمقيع فتمنوا الموت بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا وعن ابن السمقيع أيضا فتحها وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو ولا يتمنونه أبدا إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم : والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة و السلام فعلموا أنهم لو تمنوا لما تمنوا ساعتهم ولحقهم الوعيد وهذه إحدى المعجزات وجاء نفي التمني في آية أخرى بلن وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من لا و لن لنفي المستقبل من غير تأكيد ومن قال : بإفادة لن التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الأختصاص دون الناس في الموضعين وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبهة فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه والباء في قوله سبحانه : بما قدمت أيديهم سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التني بسبب ما قدمت وجوز تعلقه بالأنتفاء كأنه قيل : انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبلا بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة والله عليم بالظالمين
7
- أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهمظالمونفي كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك
قل إن الموت الذي تفرون منه ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم فإنه ملاقيكم البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر إن والفاء لتضمن الأسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد فلا يقال : إن الفاء إنما تدخل الخبر
(28/96)
إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي وإنما لنكتة تليق بالمقام وهي ههنا المبالغة في عدم الفوت وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة الفوت عليه فجيء بالفاء لأفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيسا للحال وقيل : ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سببا للنجاة سبب للأعلام بملاقاته كما في قوله تعالى : فما بكم من نعمة فمن الله وهو وجه ضعيف فيما نحنفيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى ومنع قوم منهم الفراء ودخول الفاء في نحو هذا وقالوا : هي ههنا زائدة وجوز أن يكون الموصول خبر إن والفاء عاطفة كأنه قيل : إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم
وقرأزيد بن علي إنه ملاقيكم بدون فاء وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور وجوز أن يكون الخبر ملاقيكم و إنه توكيدا لأن الموت وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبا بضمير الأسم الذي لأن وقرأ ابن مسعود تفرون منه ملاقيكم بدونالفاء ولا إنه وهي ظاهرة ثم تردونإلى عالم الغيب والشهادة الذيلا يخفى عليه خافية
فينبئكم بما كنتم تعملون
8
- من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها واستشعر غير واحد من الآية ذمالقرار من الطاعون والكلام في ذلك طويل فمنهم من حرمه كابن خزيمة فإنه ترجم في صحيحه باب الفرار من الطاعون من الكبائر وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه واستدلبحديث عائشة الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم وسنده حسن
وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه ومنهم من قال : بكراهته كالأمام مالك ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة ابن شعبة وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق وروي الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته : إن هذا رجز مثل السيل تنكبه اخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومنأقام أحرقته وفي لفظ الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمررض عنه فلم ينكره ولم يكرهه وعن طارق بن شهاب قال : كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون : لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكمحتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فإذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه
وأخرج البيهقي وغيره عنه بسند حسن أنه قال : إن هذاالطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنهفليفعل واحذروا اثنين أن يقول قائل : خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب فلو كنت خرجتلسلمت كما سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان ويفهم أنه لا بأس بالخروج مع اعتقاد أن كلمقدر كائن وكأني بك تختار ذلك لكن في فتاوي العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فارا منه مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملا أن ينجو أما الخروج من محله بقصد
(28/97)
أن له قدرة على التخلص من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل كفر اتفاقا
وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك فهو مما لا ينبغي أن يختلف في جوازه كما صرح به بعض المحققين ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعة له لا يقدر على دفعها تضر به ضررا بينا وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك المحل قيل : ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من المهالك فإنه مأمور به وقد قال الجلال السيوطي : الفرار من الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالأجماع والطاعون مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي أو التنزيهي عن الفرار منه واختلفوافي علة النهي فقيل : هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام فتينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه وقيل : هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم وأيضا من خروج الأقوياء كسرا لقلوب الضعفاء عن الخروج وأيضا إن الخارج يقول : لو لم أخرج لمت والمقيم : لو خرجت لسلمتفيقعان في اللو المنهي عنه واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون وقيل : هي إن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد وفي الفرار إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك وكذا من الفرار من الحريق مع أن المكيت بذلك شهيدا أيضا وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك ولهم في بعض هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فليرجع إليها
يآ أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة أي فعل النداء لها أي الأذان والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر وقد كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة و السلام أقام الصلاة ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر فأمر بالتأذين الأولعلى داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه
وفي حديث الجماعة إلا مسلما فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء وفي رواية للبخاري ومسلم زاد النداء الثاني والكل بمعنى وتسمية ما يفعل من الأذان أولا ثانيا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما كان بعد وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى أذانا كما في الحديث بين كل أذانين صلاة وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي : المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي : فاسعوا هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال : المراد
(28/98)
الأول في الأصح وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر وقته معلوم تخمينا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك
وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى : إذا نودي الخ قال : إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه : ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا غذانودي للصلاة الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به وهذا القول هو الصحيح في المذهب وقيل : العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو وهو ضعيف لأنه لو اعتبر في جواب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الأستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى ونحوه كثير لكن الأعتراض عليه قوي فتدبر من يوم الجمعة أي فيه كما في قوله تعالى : أروني ماذا خلقوا من الأرض أي فيها وجوز أبو البقاء أيضا كون من للتبعيض وفي الكشاف هي بيان لاذا وتفسير له والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط من البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأنيوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا وقيل : أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في وكونها للتبعيض وهو كما ترى
والجمعة بضم الميم وهو الأفصح والأكثر الشائع وبه قرأ الجمهور وقرأ ابن الزبير وأبو حيوةوابن أبي عبلة وزيد بن علي والأعمش بسكونها وروي عن أبي عمرو وهي لغة تميم وجاء فتحها ولم يقرأ به ونقل بعضهم الكسر أيضا وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم : ضحكة للمضحوك منه وأما الجمعة : بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم : ضحكة لكثير الضحك وقال أبو البقاء : الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الإجماع
وقيل : في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى وقد صار يوم الجمعة علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علما له ولا مانع منه وإضافة العام المطلق على الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفى الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد وكانت العرب على ما قال غير واحد تسمى يوم الجمعة عروبة قيل : وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها وقيل : أل لازمة قال الخفاجي : والأول أصح
وفيالنهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة وكأنه ليس بعربي يقال : يوم عروبة ويوم العروبة والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال : عروبة منكرا ومعرفا هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب ثم قال : قال السهيلي : ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ
وأول من سماه جمعة قيل : كعب بن لؤي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه و سلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه
(28/99)
بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما تجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره فقالوا : يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد ابن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم فأنزل الله تعالىفي ذلك بعد يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة الآية وكون أسعد هذا أول من جمع مروي عن غير ابن سيرين أيضا وأخرج أبو داود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان غذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت : يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو قال : لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت : كم كنتم يومئذ قال : أربعون رجلا وظاهر قول ابن سيرين : فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أيها الذين آمنوا الخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض وكذا قوله : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه و سلم وقبل أن تنزل الجمعة وفي الفتح القدير التصريح بذلك وقال العلامة ابن حجر في تحفة المحتاج : فرضت يعني صلاة الجمعة بمكة ولم نقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الإظهار وكان صلى الله تعالى عليه وسلم بها مستخفيا وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولا بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطب فقال : إن الله افترض عليكم الجمعة في مقاميهذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة ولا حج ولا صوم ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه فأن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة و السلام فيه : لا حج له أن الحج كان مفروضا إذ ذاك وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل : فرض قبل الهجرة وقيل : أول سنيها وقيل : ثانيها وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا : إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة قلإن أن يقدح في صحة الحديث وإما أن يقال : مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد ويقال : إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال : أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعبابن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم اثنا عشر رجلا
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة و السلام فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال : أذن النبي عليه الصلاة و السلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير : أما بعد فانظر اليوم الذي تهجر فيه اليهود بالزبور فأجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فترقبوا إلى الله تعالى بركعتين قال : فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلى الله تعالى عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين وصرح به ابن الهمام ومصعبا أول من أقامها بأمره عليه الصلاة و السلام أو بأن مصعبا أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة وقولهم : في المدينة تسامح وقال الحافظ ابن حجر : يجمع
(28/100)
بين الحديثين بأن أسعد كان أميرا ومصعبا كان إماما وهو كما ترى ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها وكأن في خبر ابن سيرين رمزا إليها بقوله : وذكرهم وقد يقال : إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط فمتى قيل : إن فلانا أول من صلى الجمعة متضمنا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه وإن كان قبل فرضيتها مستوفيا لما هو معروف اليوم من الشروط ثم إني لا أدري هل صلى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها وعلى تقدير الأكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة و السلام ! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاءوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدا فتدبر والله تعالى الموفق
وأماما كان من صلاته عليه الصلاة و السلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة وهو أول جمعة صلاها عليه الصلاة و السلام وقال بعضهم : إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض وقيل : لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قلت : يا نبي الله لأي شيء سمي الجمعة فقال : لأن فيها جمعت طينة أبيكمآدم عليه السلام الخبر ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كمافي حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا وهو من أفضل الأيام وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمامأحمد وابن ماجة عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعا يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يومالفطر ويوم الأضحى وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة أي للدعاء ما لم يكن يؤال حرام وقيام الساعة وفي خبر الطبزاني وفيه دخل الجنة وفيه خرج وصحح ابن حبان خبر لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة وفي خبر مسلم فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس وصح خبر وفيه تيب عليه وفيه مات
وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر قيل : ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه فعنأبي بردة : هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها وعن الحسن : هي عند زوال الشمس وعنالشعبي : هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل وعن عائشة : هي حين ينادي المنادي بالصلاة وفي حديثمرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير بن عبد الله المزني هي حين تقام الصلاة إلى الأنصراف منها وعن أبي أمامة إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات : إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر أو عند الإقامة وعن طاوس ومجاهد : هي بعد العصر وقيل : غير ذلك ولم يصح تعيين الأكثرين وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الإسم الأعظم وليلة القدر وغيرهما لحكمة لا تخفى
(28/101)
فاسعوا إلى ذكر الله أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي وجعل ذلك من خصائص الجمعة فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة واسظهر أن المراد به الصلاة وجوز كون المراد به الخطبة وهو على ما قيل مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة أو لأنها كالمحل له وقيل : الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقا ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه طويلا يسمى خطبة أو ذكرا لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلى الله تعالى عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكأن ذلك واجبا أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزيء غيره إذ لا يكون بيانا لعدم الإجمال في لفظ الذكر والشافعية يشترطون خطبتين : ولهما أركان عندهم واستدلوا على ذلك بالآثار وأيا ما كان فالأمر بالسعي للوجوب
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الصلاة أو هي الخطبة فظاهر وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط وهو المقصود لغيره فرع افتراض ذلك الغير ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين وقيل : كفاية وهو شاذ وفي حديث رواه أبو داود وقال النووي : على شرط الشيخين الجمعة حق واجب على كا مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره وقول القاشاني : تصح بواحد لا يعتد به كما في شرح المهذب لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال : أحدها أنه اثنان أحدهما الإمام وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود الثاني : ثلاثة أخذهم الإمام وحكى عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم الثالث : أربعة أحدهم الإمام وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره وحكاه في شرح المهذب عن محمد وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم الرابع : سبعة حكى عن عكرمة الخامس : تسعة حكى عن ربيعة السادس : اثني عشر في رواية عن ربيعة وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي السابع : ثلاثة عشر أحدهم الإمام حكى عن إسحاق بن راهوية الثامن : عشرون رواه ابن حبيب عن مالك التاسع : ثلاثون في رواية عن مالك العاشر : أربعون أحدهم الإمام وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد وهو المشهور عن الإمام أحمد وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز الحادي عشر : خمسون في الرواية الأخرى عنه الثاني عشر ثمانون حكاه المازري الثالث عشر : جمع كثير بغير قيد وهو مذهب مالك فقد اشتهر أنه قال : لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم
(28/102)
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة وقد رجحه المزني وهو من كبار الآخذين عن الشافعي وهو اختيار السيوطي ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة ولو لا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال
وقرأ أكثر من الصحابة والتابعين فامضوا وحملت على التفسير بناءا على أنه يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وذروا البيع أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا أيضا
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم وقول الأكمل في شرح المنار : إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الأسبيجاني أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة وعامة العلماء على صحة البيع وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغضوب أو في الأرض المغضوبة
وقال ابن العربي : هو فاسد وعبرمجاهد بقوله : مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة وأوله إما وقت أذان الخطبة وروي عن الزهري وقال به جمع وإما أول وقت الزوال وروي ذلك عن عطاء والضحاك والحسن والظاهر أن المأمورين برك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضا والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ذلكم أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع خير لكم أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجل وأبقى وقيل : أنفع من ذلك ومنترك السعي وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والأستحباب دون الختم والإيجاب كما لا يخفى إن كنتم تعلمون الخير والشر الحقيقيين أو إن كنتم من أهل العلم علىتنزيل الفعل منزلة اللازم فإذا قضيت الصلاة أي أديت وفرغ منها فانتشروا في الأرض لأقامة مصالحكم وابتغوا من فضل الله أي الربح على ما قيل وقال مكحول والحسن وابن المسيب : المأمور بابتغائه هو العلم
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : لم يؤمروابشيء من طلب الدنيا إنماهو عيادة مريض وحضورة جنازة وزيادة أخ في الله تعالى وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا والأمر للأباحة علىالأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج وروي ذلك عن الضحاك ومجاهد
وحكى الكرماني في شرح البخاري الأتفاق على ذلك وفيه نظر فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب
(28/103)
وقيل : هوللندب وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن يسر الحراني قال : رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له : لأي شيء هذا قال : إني رأيت سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فإذا قضيت الصلاة الخ
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى : واذكروا الله كثيرا أي ذكرا كثيرا ولا تخصوا ذكره عز و جل بالصلاة لعلكم فلحون
10
- كي تفوزوا بخير الدارين ومما ذكرنا يعلم ضعف الأستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظرللأباحة واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من ألأمر بالأنتشار وابتغاء الفضل وأمانفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة و السلام غذ كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة فمت كانوا يصلون السنة وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة و السلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعا وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن واستدل بقةله تعالى : إذا نودي الخ من قال : إنما بجي إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء والمسألة خلافية فقال ابن عمر وأبو هريرة ويونس والزهري : يجب إتيانها من ستةأميال وقيل : من خمسة وقال ربيعة : من أربعة وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر
وقال مالك والليث : من ثلاثة وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق على من سمع النداء وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ما شيا أدرك الصلاة وكذا استدل بذلك من قالبوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا وسواء أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة
وإذا رأواتجارة أو لهوا انفضوا إليها أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والرمذي وجماعة عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماإذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى وإذا رأوا تجارة إلى آخر السورة وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقى في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا وفي رواية عن قتادة والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم
(28/104)
أولكم لالتهب الوادي عليكم نارا وقيل : لم يبق إلا أحد عشر رجلا وهم على ما قال أبو بكر : غالب بنعطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في أخرى وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم وعدوا بلالا وجابرا لكلامه السابق ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر بلالا وابن مسعود ومنهممن ذكر عمارا بدل ابن مسعود وقيل : لم يبق إلا ثمانية وقيل : بقي أربعون وكانت العير لعبد الرحمن ابن عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر
وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصليالجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنواإلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وإذا رأوا الخ فقدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة ولا أظن صحة هذا الخبر والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك نعم ذكرالعلامة ابن حجر الهيتي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كول الخطبة قبلها والله تعالى أعلم والآية لماكانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا : إن إذا فيها قد خرجت عن الإستقبال واستعملت للماضي كما في قوله : وندمان تزيد الكاس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه أو لأن الأنفاض للتتجارة مع الحاجة إليها والأنتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالأنفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ! وقيل : الضمير للرؤية المفهومة من رأوا وهوخلاف الظاهر المتبادر وقيل : في الكلام تقدير والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأولعليه وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل منهما بل يكفيالرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن أو في أو لهوا مثلها في قوله : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح فقال الجوهري : يريد بل أنت فالضمير في إليها راجع إلى اللهو باعتبار المعنى والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عددت لهوا وتعد فضلا إن لم تشغله كما في قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله انتهى وليس بشيء كما لا يخفى
وقرأ ابن أبي عبلة إليه بضمير اللهو وقريء إليهما بضمير الأثنين كما في قوله تعالى : إن يكون غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل في الآية التي ذكرناها وتركوك قائمآ أي على المنبر
واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه وأخرج ابن ماجه وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب قائما أم قاعدا
(28/105)
فقال : أما تقرأ وتركوك قائما وكذا سئل ابن سيرين وأبو عبيدة وأجابا بذلك وأول من خطب جالسا معاوية
ولعل ذلك لعجزه عن القيام وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج البخاري ومسلم والتترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة و السلام كانيخطب خطبتين يجلس بينهما وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه وكأنهأراد بالأستراحة غير الجلوس بين الخطبتين غذ ذاك ما كان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضعنهما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة فإن ذلك نفع محقق بخلاف ما فيهما من النفع فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم ونفع التجارة ليس بمخلد وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم لأنه أقوى مذمة فناسب تقديمه في مقام الذم وقال ابن عطية : قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيللتقع النفس أولا على الأبين وهو قريبمما ذكرنا
وقال الطيبي : قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه ليخالفالسابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة واستدلالشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة وأنتعلم أن ذلك مبني على الزعموالوهم وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعفمن خضر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله الملك والله خير الرازقين
11
- فإليه سبحانه اسعوا ومنهD اطلبوا الرزق
واستدلبما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءا على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الأنفضاض كانوا كذلك ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الأبتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف وفيه أن ذلك وإن كان دالاعلى صحتها بإثني عشر رجلا بلاشبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف : فعند أبي حنيفة إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا قبل الركوع وعند صاحبيه إذا كبر وهم معه مضي فيها وعند زفر إذانفروا قبل القعد بطلت لأن العدد شرط ابتداءا فلا بد من دوامه كالوقت ولهما أنه شرط الأنعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة وللأمام أن الأنعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونهاليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها
وقالجمهور الشافعية : إن انفض الأربعون أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمنونها ظهرا لنحو ما قال زفر وفي قول : لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الأبتداء وتمام ذلك في محله
(28/106)
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهمبأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إل اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدينوأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم وفيهإن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضواوالقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال : بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته أني بذلك ! وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر
هذا ومن باب الإشارة على ما قيل في الآيات : هو الذي بعث في ألأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة إشارة إلى عظيم قدرته عز و جل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية ومنه قالوا : إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي على ما قال ان الجوزي وعندهمن العلوم اللدنية ما تقصر عنهاالعقول وقال العز بن عبد السلام : قد يكون الإنسان عالما بالله تعالىذا يقين وليس عندهعلم من فروض الكفايات وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن في علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة ومن انقطع إلى الله عز و جل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لأدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من ألأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا وقد رأيت منهم من يقول وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلافقلت له : منذ كم تقول هذا فقال : من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد ولا أظن ثباته على ذلك وخبر لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه ليس من كلامه عليه الصلاة و السلام ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا
وذكر بعضهم أن قوله تعالى : ويزكيهم بعد قوله سبحانه : يتلو عليهم آياته إشارة إلى الإفاضة القلبيةبعد الإشارة إلى الإفادة القلبية اللسانية وقال بحصولها للأولياء المرشدين : فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم وهو سر ما يقال له التوجه عند السادةالنقشبندية وقالوا : بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحال القمر ولو لا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين : التوجه والرابطة وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز و جل
(28/107)
وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر وفوق كل ذي علم عليم ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه أو يقال : يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخرينوإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال وفي قوله تعالى : وآخرين الخ بناءا على عطفه على الضمير المنصوب قيل : إشارة إلى عدمانقطاع فيضه صلى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة وقد قالوا بعدمانقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء : وفي قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة الخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم وفي قوله تتعالى : قليا أيها الذينهادوا الآية إشارة إلى جواز امتحان مدعى الولاية ليظهر حاله بالأمتحال فعند ذلك يكرم أويهان وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذاصدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الأعتساف وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات ومن عمل بما علم أورثه الله عز و جل علم ما لم يعلم
سورة المنافقين
مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون ولهذا أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين وقال أبو حيان في ذلك : إنه لما كان سبب الأنفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم والأول أولى
بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون أي حضروا مجلسك والمراد بهم عبد الله بن أبيوأصحابه قالوا نشهد إنك لرسولالله التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزوروالتأكيد في قوله تعالى : والله يعلم إنك لرسوله لمزيد الأعتناء حقيقة بشأن الخبر أو ليس إلا ليوافقصنيعهم وجيء بالجملة اعتراضا لا ماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز و جل : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
1
- من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود من أول الأمر وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك ونظيره قول أبي الطيب : وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا فالتكذيب راجع إلى نشهد باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم : نشهد من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه
(28/108)
الشهادة وقد يقال : الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم : نشهد المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة وهو مراد من قال : أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل
وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهمإلى ادعائهم المواطأة ضمنا لأن اللفظ مرضوع للمواطيء وجوز أنيكون التكذيب راجعا إلى قولهم : إنك لرسول الله باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني وأن يكون راجعا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم : إنك لريول الله عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه قيل : وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ
وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعا إلى حلف المنافقين وزعموا أنهم لم يقولوا لا تنفقوا علي من عند رسول حتى ينفضوا من حوله ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل لما ذكر في صحيح البخري عن زيد بن أرقم أنه قال : كنت في غزاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسمعت عبد الله ابن أبي بن سلول يقول : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة و السلامإلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا أنهم ما قالوا : فكذبني رسول الله صلى الله عليه و سلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي : ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومقتك فأنزل الله إذا جاء المنافقون فبعث إلي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ فقال : إن الله صدقك يا زيد
وجوزبعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر وأيا ما كانفلا يتم للنظام الأستدلال بالآية على أن صدق مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الأعتقاد خطأ وكذبه عدمها وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في إذا على نحو ما مر آنفا
اتخذوا أيمانهم أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة جنة أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة : كلما ظهر علي شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم وهذا كلام مستقل تعدادا لقبائحهم وأنهم من عادتهم الأستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة ويجوز أن يراد بإيمانهم شهادتهم السابقة والشهادة وأفعال العلم واليقين أجرتها العربمجرى القسم وتلقتها بما يتلقى القسم ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به فلهذا يطلق عليها اليمين وبهذااستشهذ أبو حنيفة على أن أشهد يمين واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يمينا والكلام فيوجوب الكفار بذلك لا في إطلاق الأسم وليس كل ما يسمى يمينا تجب فيه الكفارة فلو قال : أحلفعلى كذا لا تجب عليه الكفارة وإن كان حلفا والجمع باعتبار تعدد القائلين والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه وقيل : إن اتخذوا جواب إذا وجملة قالوا السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه خلاف الظاهر وأبعد منه جعل الجملة حالا وقدير جواب لا ذا وقال الضحاك : أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به
(28/109)
الكفار ومن هنا أخذ الشاعر قوله : وما انتسبوا إلى الإسلام إلا لصون دمائهم أن لا تسالا وعن السدي أنهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا وهو كما ترى وكذا ما قبله
فصدوا عن سبيل الله أي من أراد الدخول في دين الإسلام أو من أراد فعل طاعة مطلقا على أن الفعل متعد والمفعول محذوف أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم وأيا ما كان فالمراد على ما قيل : اسمرارهم على ذلك وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكى عنهم من الشهادة ثم قال : واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء في فصدوا أي من أراد الإسلام أو الإنفاق كما سيحكي عنهم ولا ريب في أن هذا الصد مقدم على حلفهم وقريء أي قرأ الحسن إيمانهم بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم فمعنى قوله تعالى : فصدوا فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والإعراض عن سبيله تعالى انتهى وفيه ما يعرف بالتأملفتأمل إنهم ساء ما كانوا يعملون
2
- من النفاق ومايتبعه وقد مر الكلام في ساء غير مرة ذلك إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاقوالكذب والأستجنان بالأيمان الفاجرة أو الإيمان الصوري وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارإليه لما مر مرارا من الأشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا فالمعنى ساء عملهم بأنهم أي بسبب أنهم آمنوا أي نطقوابكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام ثم كفروا ظهر كفرهم وتبين بما أطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات وغير ذلك و ثم على ظاهرها أو لا ستبعاد ما بين الحالين أو ثم أسروا الكفر فثم للأستبعاد لا غير أو نطقوا بالإيمانعند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاءا بالإسلام وقيل : الآيةفي أهل الردة منهم
فطبع على قلوبهم حتى يموتوا على الكفر فهم لا يفقهون
4
- حقيقة الإيمان أصلا
وقرأ زيد بن علي فطبع بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى وجوز أن يكون ضميرا يعود على المصدر المفهوم مما قبل أي فطبعهو أي تلعابهم بالدين وفي رواية أنه قرأ فطبع الله مصرحا بالأسم الجليل وكذا قرأ الأعمش وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لصباحتها وتناسب أعضائها وإن يقولوا تسع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم وكان ابن أبي جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس ومعتب بن قشير فكان عليه الصلاة و السلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم والخطاب قيل : لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة وعطية العوفي يسمع بالياء
(28/110)
التحتية والبناء للمفعول وقيل : لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهمإذا أعجبته صلى الله تعالى عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره وكذا السماع لقولهم وليوافق قوله تعالى : إذا جاءك والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة وقوله تعالى : كأنهم خشب مسندة كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الإعراب وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم الخ والكلام مستأنف أيضأ وأنت تعلم أن الكلام صالح للأستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه وقيل : هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في لقولهم أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندةكما في قوله : فقلت : عسى أن تبصرني كأنما بني حوالي الأسود الحوار وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك و خشب جمع خشبة كثمرة وثمر والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندةإذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم وفي مثلهم قال الشاعر : لا يخدعنك اللحي ولا الصور تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسحاب منتشرا وليس فيها لطالب مطر وفي شجر السرو منهم شبه له وراء وماله ثمر وقرأ البراء بن عازب والنحويان وابن كثير خشب بإسكان الشين تخفيف خشب المضموم ونظيره بدن وقيل : جمع خشباء كحمر وحمراء وهي الخشبة التي جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين ومنه يعلم ضعف القيل إذا إذ الأصل توافق القراآت
وقرأابن عباس وابن المسيب وابن جبير خشب بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما فيالبحر ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى : أعجاز نخل خاوية يحسبون كل صيحة عليهم أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل : متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعا بهم وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله عز و جل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل : ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالا وكذا المتنبي قوله : وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا والوقف على عليهم الواقع مفعولا ثانيا ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي وعليه كلام الواحدي
(28/111)
وقوله تعالى : هم العدو استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعديالأعادي العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ككثير من أبناء الزمان فاحذرهم لكونهم أعدي الأعادي ولا تغترن بظاهرهم وجوز الزمخشري كون عليهم صلة صيحة و هم العدو والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءا على أنه يكون جمعا ومفردا وهو هنا جمع وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدا لا حاجة إليه وإن المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف ومع ذلك لا يساعد عليه ترتب فاحذرهم لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن قاتلهمالله أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز و جل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا : قالهم اللهم وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره وكذا قوله سبحانه هنا : قالهم الله
أنى يؤفكون
4
- وهذا تعجيب من حالهم أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال فأنى ظرف متضمن للأستفهام معمول لما بعده وجوز ابن عطية كونه ظرفا لقاتلهم وليس هناك استفهام وتعقبه أبو حيان بأن أنى لا تكون لمجرد الظرفية أصلا فالقول بذلك باطل
وإذا قيل لهم تعالى يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والإعراض على ما قيل وقيل : هو على حقيقته أي حركوها استهزاءا وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج ورأيتهم يصدون يعرضون عن القائل أو عن الأستغفار وهم مستكبرون
5
- عن ذلك
وروي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبي مقت الناس ابن أبي ولامه المؤمنونمن قومه وقال بعضهم له : امض إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارالهذا الرأي وقال لهم : لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفي حديث أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتمعن ابن جبير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : تب فجعل يلويرأسه فأنزل الله تعالى وإذا قيل لهم الخ وفي حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال : حتى أنزل الله تعالى تصديقي في إذا جاءك المنافقون ما نصه فدعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم فجمع الضمائر : إما على ظاهره وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانا وإذا على ما مر و يستغفر مجزوم في جواب الأمر و رسول الله
(28/112)
فاعل له والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن رسول الله يطلبه عاملان : يستغفر و تعالوا فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله وجملة يصدون في موضع الحال وأتت بالمضارع ليدل على الأستمرار التجددي ومثلها في الحالية جملة هم مستكبرون وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عنعاصم والحسن ويعقوب بخلاف عنهما لووا بتخفيف الواو والتشديد في قراءة باقي السبعةللتكثير ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهمواستكبارهم أشار عز و جل إلى عدم فائدة الأستغفار لهم لما علم سبحانه من سواء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى : سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فهو للتسوية بين الأمرين الأستغفار لهموعدمه والمراد الإخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جلشأنه : لن يغفر الله لهم وتعليله بقوله تعالى : إن الله لا يهدي القوم الفاسقين
6
- أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الأستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح فإن المغفرة فرع الهداية والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهمبأعيانهم والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا والآية في ابن أبي كسوابقها كما سمعت ولو أحقها كما صح وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى والأستغفار لهم قيل : على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين جناياتهم وكان ذلك قد اعتبر في جانبالأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الأتيان لا يظهر كونه سببا للأستغفار ويوميء إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي : تب وترك الأستغفار على طريق الإصرار على القبائح والأستكبار وترك الأعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة و السلام استغفار لهم
وحكىمكي أنه صلى الله عليه و سلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعد ما صدر منهم ما صدر بالتوبة وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما نزلت آية براءة استغفر لهم أو لا تستغفر الخ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم فنزلت هذه الآية سواء عليهم استغفرت لهم الخ
وأخرج أيضا عن ابن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورةتدعو لا لتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا والآية الأولى فيما اختار نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحةويجمع الطائفتين النفاق ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه وفيه أنه قال للنبي صلى الله تعالى
(28/113)
أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآية ولا تصلي على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ولا يشكل الأستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت علىما هو عليه من الكفر والنفاق وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق
وقرأ أبو جعفر آستغفرت بمدة على الهمزة فقيل : هي عوض عن همزة الوصل وهي مثل المدة في قوله تعالى : قل آلذكرين حرم لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الأستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة وعنه أيضا ضم ميم عليهم إذ أصلها الضم ووصل الهمزة وروي معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الأستفهام وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة أم عليها كما في قوله
بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقال الزمخشري : قرأ أبو جعفر آستغفرت إشباعا لهمزة الأستفهام للأظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في آلسحر وآلله وقال أبو جعفر بن القعقاع : بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية
وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر وفي كل ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الأستفهام وفي الثانية حذف همزة الأستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى : هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم وجوز أن يكون جاريا مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك أخرج الترمذي وصححه وجماعة عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان معنا من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى ذمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب وقال : لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة و السلام فحلف وجحد وصدقه صلى الله تعالى عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلى أن مقتل وكذبك المسلمون فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينما أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذا أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قلت : ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال : ابشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(28/114)
إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله حتى بلغ ليخرجن الأعز منها الأذل وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضا
وأخرج الإمام أحمد ومسلم والسائي نحو ذلك والأخبار فيه أكثر من أن تحصى وتلك الغواة التي أشار إليها زيد قال سفيان : يرون أنها غزاة بني المصطلق وفي الكشاف خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين والظاهر أن التعبير برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقربون برسالته عليه الصلاة و السلام ظاهرا
وجوز أن يكونوا قالوه تهكما أو لغلبته عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز و جل إجلالا لنبيه عليه الصلاة و السلام وإكراما والإنفضاض التفرق و حتى للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة و السلام ولا يصحبوه
وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي ينفضوا من أنفض القوم فني طعامهم فنفض الرجل وعاءه والفعل مما يتعدى بغير الهمز وبالهمزة لا يتعدى قال في الكشاف : وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم وقوله تعالى : ولله خزائن السماوات والأرض رد وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يؤدي إلى إنفضاضهم عنه عليه الصلاة و السلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء ولكن المنافقين لا يفقهون
7
- ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشئونه عز و جل ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون
يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قائله كما سمعت ابن أبي وعني بالأعز نفسه أو من يلوذ به وبالأذل من أعزه الله عز و جل وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو هو عليه الصلاة و السلام والمؤمنون وإسناد القول المذكور إلى جميعهم لرضائهم به كما في سابقه
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والسبتي في اختياره لنخرجن بالنون ونصب الأعز والأذل على أن الأعز مفعول به و الأذل إما حال بناءا على جواز تعريف الحال أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه
وحكى الكسائي والفراء أن قوما قرأوا ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء ورفع الأعز على الفاعلية ونصب الأذل على ما تقدم بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج وقريء ليخرجن بالياء مبنيا للمفعول ورفع الأعز على النيابة عن الفاعل ونصب الأذل على ما مر
وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني لنخرجن بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ونصب الأعز والأذل وحكى هذه القراءة أبو حاتم وخرجت على أن نصب الأعز على الأختصاص كما في قولهم : نحن العرب أقرب الناس للضيف ونصب ألأذل على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي والفراء والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل : وهو كما ترى ولعل هذه القراءة
(28/115)
غير ثابتة عن الحسن وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنينلا للغير ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر وقيل : إن الضعف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الأستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الإيمان وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال : والله علي أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال : وراءك قال : مالك ويلك ! قال : والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل وصح من رواية الشيخين والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة و السلام : يا نبي الله مر معاذا أن يضرب عنق المنافق فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه
وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهم الصلاة والسلام أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية وأريد بالتيه الكبر وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر وقد نص على ذلك أبو حفص السهروردي قدس يره فقال : العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الأنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزار أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فإنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل
ولكن المنافقين لا يعلمون
8
- من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازمفلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة وقيل في وجهه : إن كون العزة لله عز و جل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى ثم قيل : خص الجملة الأولى ب لا يفقهون والثانية ب لا يعلمون لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوتر ما هو أبلغ لما هو أدعى له
وعن الراغب معنى قوله تعالى : هم يقولون لا تنفقوا الخ أنهم يأمرون بالأضرار بالمؤمنين وحبس
(28/116)
النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل وعندهم أن الأعز له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز و جل فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين
يآ أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله أي لا يشغلكم الأهتمام بتدبير أمورها والأعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الأشتغال بذكر الله عز و جل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها
وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض وقال الضحاك وعطاء : الذكر هنا الصلاة المكتوبة وقال الكلبي : الجهاد مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : القرآن والعموم أولى ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا وعبر بهما عنهما لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا فإذا أريد بذكر العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية وقد نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم الخ فالتجوز في الإسناد وقيل : إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج أي لا تكونوا بحيث تلهكم أموالكم الخ
ومن يفعل ذلك أي اللهو بها وهو الشغل وهذا أبلغ مما لو قيل : ومن تلهه تلك فأولئك هم الخاسرون
9
- حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني وفي التعريف بالأشارة والحصر للخسران فيهم وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة وكأنه لما نهى المنافقون عن الإنفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وأريد الحث على الإنفاق جعل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا الخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالإنفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه : وأنفقوا من ما رزقناكم أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة من قبل أن يأتي أحدكم الموت أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى : فيقول رب لو لا أخرتني أي أمهلتني إلى أجل قريب أي أمد قصير فأصدق أي فأتصدق وبذلك قرأ أبي وعبد الله وابن جبير ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه : وأكن من الصالحين
10
- بالعطف على موضع فأصدق كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي والزجاج وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه للمتني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح والفرق بين العطف
(28/117)
على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي على والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير
وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو وأكون بالنصب وهو ظاهر وقرأ عبيد بن عمير وأكون بالرفع على الأستئناف والنحويون وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة فيقال هنا : أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للأستئناف مع الواو الأستئنافية كما هنا ولا بدونها وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازانيبأن التزام التقدير مما يظهر له وجهه وقيل : وجهه أن الإستئناف بالأسمية أظهر وهو كما ترى وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعا بالعطف على أصدق على نحو القولين السابقين في الجزم هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى : وأنفقوا مما رزقناكم يعني الزكاة والنفقة في الحج وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر : فأصدق أزكى وأكن من الصالحين أحج وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهمعنه أيضا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان له ماليبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعلسأل الرجعة عند الموت فقال له رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآنا يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله إلى آخر السورة كذا في الدر المنثور
وفي أحكام القرآن رواية الترمذي عنه ذلك موقوفا عليه وحكى عنه في البحر وغيره أنه قال : إن الآية نزلت في مانع الزكاة ووالله لو رأى خيرا لما سأل الرجعة فقيل له : أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكفرة ! فأجاب بنحو ما ذكر ولا يخفى أن الأعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادعى سؤالالرجعة ولم يرفع الحديث بذلك وإذا كان قوله تعالى : لو لا أخرتني الخ سؤالا للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى : من قبل أن يأتي أحدكم الموت إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفا
ولن يؤخر الله نفسا أي ولن يمهلها إذا جآء أجلها أي آخرعمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجلة به والله خبير بما تعملون
11
- فمجاز عليه وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفسا لكونها نكرة في سياق النفي في نعنى الجمع واستدل الكيا بقوله تعالى : وأنفقوا الخ على وجوبإخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها ونسب للزمخشري أنه قال : ليس في الزجر عن التفريط هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات : منها قوله تعالى : وأنفقوا ومنها أنه إن كان قبل حضور الموت لم يقدر على الإنفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل ومنها قوله تعالى مؤيسا له في الجواب : ولن يؤخر الله ولو لا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموتحين التمني وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه والتتمني وهو متمسك الفريق لا يصح الأستدلال به والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان والله تعالى أعلم
(28/118)
سورة التغابن
مدنية في قول الأكثرين وعن ابن عباس وعطاءبن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم الخ وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر وأيضا في آخر تلك لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم وفي هذه إنما أموالكم وأولادكم فتنة وهذه الجملة على ما قيل : كالتعليل لتلك وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل واستنبط بعضهم عمر النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة و السلام
بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع المخلوقات عما لا يليق بجانب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا وذلك بدلالتها على كماله عز و جل واستغنائه تعالى والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك له الملك وله الحمد لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبديء لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز و جلالمولي لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يبده فكلا الأمرين له تعالىفي الحقيقة ولغيره بحسب الصورة وتقديم له الملك لأنه كالدليل لما بعده وهو على كل شيء قدير
1
- لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض وقوله تعالى : هو الذي خلقكم الخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى : فمنكم كافر ومنكممؤمن أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز و جل أو فبعضمنكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في خلقكم من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى : واللهخلق كل دابة من ماء فمنهم منيمشي على بطنه الخ فيكون الكفر والإيمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الأخبار الصحيحة كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثلذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابنمردويه عن ابن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا مكث الني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول : يارب أذكر أم أنثى فيقضي الله ما هو قاض فيقول : أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق
وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى : وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم و وتقديم الكفر لأنه الأغلب
(28/119)
واختار بعضهم كون المعنى هو الذيخلقكم خلقا بعديعا حاويا لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائرالنعم فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا وهو الذي ذهب إليه الزمخشري بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأن الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلقوالإيجاد من النعم وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته ثم قال : فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الأستعارة كاللام في قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهي كالفاء في قوله تعالى : وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهمفاسقون ولم يجعلها للتفصيل كما قيل
واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالىفي ملكه وملكوته واستبداده فيهما وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكوناتذواتها وأعراضها ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف واعترض قول الزمخشري : فما أجهل الخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلو لا خلقه وتبيين ما فيه من المضار مقدار الأنعام بالإيمان وما فيه منالمنافع ثم إن كونه كفراباعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لاعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه ثم قال : ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى : فمنكم الخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خلقكم تحريف لكتاب الله تعالى انتهى
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى : كافر ومؤمن دون من يكفر ومنيؤمن نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها وقوله ص - : كل مولود يولد على الفطرة والإنصاف أن الآية تحتمل كلامن المعنيين : المعنى الذي ذكر أولا والمعنى الذي اختاره البعض والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل : إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين وقوله تعالى : والله بما تعملون بصير
2
- أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما في الكلام على قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول وكأني بك تختار الثانيلأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به وعن عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر أي باللهتعالى مؤمن بالكوكب ومنكم مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب وقيل : فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ومنكم مؤمن به وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق ولا أراه يصح وكأنه من كذب المعتزلة عليه والجملة على ما استظهر بعض الأفاضل معطوفة على الصلة ولا يضره عدم العائد لأن
(28/120)
المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب أو يقال : فيها رابط التأويل أي فمنكم من قدر كفره ومنكم من قدرإيمانه أو فمنكم كافر به ومنكممؤمن به ويقدر الحذفتديرجا وجوز أن يكون العطف على جملة هو الذي خلقكم
خلق السماوات والأرض بالحق بالحكمة بالبالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية قيل : وأصل الحقمقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة
وصوركم فأحسن صوركم حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعرالظاهر والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا : وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر ولعمري أن الإنسان أعجب نسخة في هذاالعالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثاروعلم ما علم منها ذوو الأبصار وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو المعروف وكل ما يشاهد من الصورة الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلا نحطاط بعضها عنمراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيزالحسن غير خارجة من حده ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظرإليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها وقالت الحكماء : شيآن لا غية لهما : الجمال والبيان
وقرأ زيد بن علي وأبو رزين صوركم بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور
وإليه المصير
3
- في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلق له لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب يعلم ما في السماواتوالأرض من الأمور الكليةوالجزئية والأحوال الجلية والخفية ويعلم ما تسرون وما تعلنون أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للأعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء وقوله تعالى : والله عليم بذات الصدور
4
- اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أيهو عز و جل محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة قيل وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الأتقان والأختصاص ببعض الأنحاء
(28/121)
وقرأ عبيد بن أبي عمرو وأبان عن عاصم ما يسرون وما يعلنون بياء الغيبة ألم يأتكم أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل : ألم يأتكم يا أهل مكة نبؤ الذين كفروا من قبل كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم المصرةعلى الكفر فذاقوا وبال أمرهم أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة والوابل للمطر الثقيل القطار واستعمل للضر لأنه يثقل على الإنسان ثقلا معنويا وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذانبأنه هائل وجناية عظيمة ولهم في الآخرة عذاب أليم
5
- لا يقادر قدره ذلك أ ما ذكر من الذعاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة بأنه أي بسبب أن الشأن
كانت تأتيهم رسلهم بالبينات بالمعجزات الظاهرة فقالوا عطف على كانت
أبشر يهدوننا أي قال كل قوم من أولئك الأقوال الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزاتمنكرين لكون الرسول من جنس البشر أو مجتمعين من ذلك يهدينا كما قالت ثمود : أبشرا منا واحدا نتبعه وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام وأريد بالبشر الجنس فوصفبالجمع كما أجمل الخطاب والأمر في قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وارتفاع بشر على الأبتداء وجملة يهدوننا هو الخبر عند الحوفي وابن عطية والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الأستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الأشتفال فكفروا بالرسل عليهم السلام وتولوا على التأمل فيما أتوا من البينات وعن الإيمان بهم واستغنى الله أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم ولو لا غناه عز و جل عنهما لما فعل ذلك والجملة عطف على ما قبلها وقيل : في موضع الحال على أن المعنى فكفروا وتولوا وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء والأول هو الوجه والله غني عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم حميد
6
- يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا الزعم ادعاء العلم وأكثر ما يستعمل للأدعاء الباطل
وعن ابن عمر وابن شريح إنه كنية الكذب واشتهر أنه مطية الكذب ولما فيه من معنى العلم يتعدىإلى مفعولين وقد قام مقامهما هنا أن المخففة وما في حيزها والمراد بالوصول على ما في الكشافأهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر ويؤيده ظاهرا قوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن قال في الكشف : ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكةفي الذكر وغيرهم ممن حملوا على الأعتبار بحالهم وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم قل ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة
(28/122)
في حيز الأمر وكذا قوله تعالى : ثم لتنبؤن بما عملتم أي لتحاسبن وتجرون بأعمالكم وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له وذلك أي ما ذكر من البعث والجزاء على الله يسير
7
- لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء في قوله تعالى : فآمنوا مفصحة بشرط قد حذف يقة بغاية ظهوره أي إذاكان الأمر كذلك فآمنوا بالله الذي سمعتم ما سمعتم من شئونه عز و جل ورسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والنور الذيأنزلنا وهو القرآن فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك والألتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه والله بما تعملون من الأمتثال بالأمر وتركه خبير
8
- عالم بباطنه
والمراد كمال علمه تعالى بذلك وقيل : عالم بأخباره يوم يجمعكم ظرف لتنبؤن وقوله تعالى : وذلك على الله يسير وقوله سبحانه : فآمنوا إلى خبير من الأعتراض فالأول يحقق القدرة على البعث والثاني يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به وبالحقيقةهو نتيجة قوله تعالى : لتبعثن ثم لتنبؤن قدم على معموله للأهتمام فجرى مجرى الأعتراض وقوله سبحانه : والله بما تعملون خبير اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول : أعمل إني غير غافل عنك وقال الحوفي : ظرف لخبير وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد
وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم ثم جوز هذا الوجه وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى : لتنبؤن بما عملتم فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر وجوز كونه منصوبا بإضمار اذكر مقدرا وتعقب بأنه وإن كان حسنا إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه وجوز كونه ظرفا فالمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم وتعقب بأن فيه ارتكابحذف لا يحتاج إليه فالأرجح الوجه الأول وقريء يجمعكم بسكون العين وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب وروي إشمامها الضم وقرأ سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي نجمعكم بالنون ليوم الجمع ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون وقيل : الملائكة عليهمالسلام والثقلان وقيل غير ذلك والأول أظهر واللام قيل : للتعليل وفي الكلام مضاف مقدر أيلأجل ما في يوم الجمع من الحساب وقيل : بمعنى فلا تقدير ذلك يوم التغابن أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنهم قالوا : يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد واختير للمبالغة وإلى هذا ذهب الواحدي
وقال غير واحد : أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس ففيالصحيح ما من عبد يدخل الجنة إلا أرىمقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة وهومستعار من تغابن القوم في التجارة وفيه تهكم بالأشقيار لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا
(28/123)
القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه السعداء والأشقياء على التقابل والأحسن الإطلاق وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح واختار ذلك محيي السنة حيث قال : التغابن تفاعل من الغبن وهوفوت الحظ والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان قال الطيبي : وعلى هذا الراغب حيث قال : الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال : غبن فلان بضم الغين وكسر الباء وإن كان في رأي يقال : غبن بفتح الغين وكسر الباء و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله وقوله سبحانه : إن اللهاشترى من المؤمنين أنفسهم وقوله عز و جل : الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا انتهى والجملة مبتدأ وخبر والتعريف للجنس وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا أي عملا صالحا يكفر أي الله تعالى عنه سيئاته في ذلك اليوم ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا أي مقدرين الخلود فيها والجمع باعتبار معنى من كما إن الإفراد باعتبار لفظه وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد بن علي والحسن بخلاف عنه نكفر وندخله بنون العظمة فيهما ذلك أي ما ذكرمن تكفير السيآت وإدخال الجنات الفوز العظيم
9
- الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطلبات
الذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير
10
- أي النار وكأن هذه الآية والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة
ما أصاب من مصيبة أي ما أصاب أحدامصيبةعلى أن المفعول محذوف و من زائدة و مصيبة فاعل وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى : ما تسبق من أمة أجلها وما تأتيهم من آية والمراد بالمصيبة الرزية وما يسوء العبد في نفس أو مال أو ولد أو قول أوفعل أي ما أصاب أحدا من رزايا الدنيا أي رزية كانت إلا بإذن الله أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز و جل كأن الرزية بذاتها متوجهةإلى العدبمتوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا وجوز أن يراد بالمعصية الحادثة من شر أو خير وقد نصواعلى أنها تستعمل فيمايصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل : إنهافي الأول من الصوبأي المطر وفي الثاني من إصابة السهم والأول هو الظاهر وإن كان الحكم بالتوقف على الأذن عاما
ومن يؤمن بالله يهد قلبه عند إصابتها للصبر والأسترجاع على ما قيل وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمرالله تعالىويرضى بها وعن ابن مسعود قريب منه وقال ابن عباس : يهد قلبه لليقين فيعلمأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأهلم يكن ليصيبه وقيل : يهد قلبه أي يلطف به ويشرحه لازدياد
(28/124)
الخير والطاعة وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة نهد بنون العظمة
وقرأ السلمي والضحاك وأبو جعفر يهد بالياء مبنيا للمفعول قلبه بالرفع على النيابة عن الفاعل وقريء كذلك لكن بنصب قلبه وخرج على أن نائب الفاعل ضمير من و قلبه منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى : لمن كان له قلب فالكلام من الحذف والإيصال نحو اهدنا الصراط المستقيم وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدى إليهوجوز أن يكون نصبه على التمييز بناءا على أنه يجوز تعريفه
(28/125)
وقرأعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار يهدأ بهمزة ساكنة قلبه بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكنبالإيمان ولا يكونفيه قلق واضطراب وقرأ عمرو بن قايد يهدأ بألف بدلا من الهمزةالساكنة وعكرمة ومالك بن دينار أيضا يهد بحذفالألف بعد إبدالها من الهمزة وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان وأجاز ذلك بعضهم قياسا وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى : جرى متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وأن لا يبد بالظلم يظلم أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفا ثم حذفت للجازم تشبيها بألأف يخشى إذادخل عليه الجازم وقوله تعالى : والله بكل شيء من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها عليم
11
- فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة فالجملة متعلقة بقوله تعالى : ومن يؤمن الخ وجوز أن تكون متعلقةبقوله سبحانه : ما أصاب الخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد وذكر الطبي أن في كلام الكشافرمزا إلى أن في الآية حذفا أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه ومن يؤمن بالله يهد قلبه وبني عليهأن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضا لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي وأي مصيبة أعظم منهما وهو كما أشار إليه يدفع في نحرالمعتزلة وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول كرر الأمر للتتأكيد والإيذان بالفرق بين الإطاعتين فيالكيفية وتوضيح مورد التولي في قوله تعالى : فإن توليتم أي عن إطاعة الرسول وقوله تعالى : فإنما على رسولنا البلاغ المبين
12
- تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة و السلام والإشعاربمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلى الله تعالى عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه والحصر في الكلام إضافي الله لا إله إلا هو الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد وقد مر وجلا وعلى الله أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا فليتوكل المؤمنون
13
- وإظهارالجىلة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل أو الأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية وذكر بعض الأجلة أن تخصيص المؤمنين بالأمر بالتوكل لأن الإيمان بأن الكل منه تعالى يقتضي التوكل ومن هنا قيل : ليس في الآياتت لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم
(28/0)
من هذه الآية لا يمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن وهي على ما قال الطيبي : كالخاتمة والفذلكة لما تقدم وكالمخلص إلى مشرع آخر
يا أيها الذين آمنواإن أزواجكم وأولادكم عدوا لكم أي إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها ومن افسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل ومن كسرت قارورة عرضه ومن مزقت كيس ماله ومن ومن وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك فاحذروهم أي كونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى : فإنهمعدو لي المأمور به الحذر عن الكل أو للأزواج والأولاد جميعا فالمأمور به الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشمالهم على العدو وإن عفوا عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن كون معلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدينلكن مقارنةللتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها وتصفحوا تعرضوا بترك الترثيب والتعيير وتغفروا تستروها بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها فإن الله غفور رحيم
14
- قائم مقام الجواب والمراد يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم فإنه عز و جل غفور رحيم ولما كان التكليف ههنا شاقا لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الأنتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه : وإن تعفو الخ وقال غير واحد : إن عداوتهم من حيث أنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجته وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك وسبب النزول أوفق بهذا القول
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم الخ في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى الآية وفي رواية أخرة عنه أنه قال : كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأته وولده فيقول : أما والله لئن جمع اللهبيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلن ولأفعلن فجمع الله عز و جل بينهم في دار الهجرة فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم الآية
وقيل : إنهم قالوا لهم لئن جمعنا الله تعالى في دار الهجرة لم نصبكم فلما هاجروا منعوهم الخير فنزلت وعن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وشكوا فراقه فرق ولم يغز ثم إنه ندم فهم بمعاقبتهم واستدلبها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجته وولده إذا جنوا معه جناية وأن لا يدعو عليهم إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي بلاء
(28/126)
ومحنة لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الأثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك وفي الحديث يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه عن بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عليه الصلاة و السلام من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال : صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما وفي رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج حسين بن علي على رسول الله وعليهم الصلاة والسلام فوطيء في ثوب كاب عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن المنبر فلما رآه الناس سعوا إلى حسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري
وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد وعنهما قال في الكشف : الفتنة على هذا الميل إلى الأموال والأولاد دون العقوبة والإثم وقدمت الأموال قيل : لأنها أعظم فتنة كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي وصححه عن كعب بن عياض سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال
وأخرج نحوه ابن مردويه عن عبد الله بن أوفى مرفوعا وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم تذكر من التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم والله عنده أجر عظيم
15
- لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في مصالحهم على وجه يخل بذلك فاتقوا الله ما استطعتم أي ابذلوا في تقواه عز و جل وجهدكم وطاقتكم كما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس وحكى عن أبي العالية
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت اتقوا الله حق تقاته اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فاتقوا الله ما استطعتم فنسخت الآية الأولى وجاء عن قتادة نحو منه وعن مجاهد المراد أن يطاع سبحانه فلا يعصى والكثير على أن هذاهو المراد في الآية التي ذكرناها واسمعوا مواعظه تعالى وأطيعوا أوامره عز و جل ونواهيه سبحانه وأنفقوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه جل شأنه كما يؤذن به قوله تعالى : خيرا لأنفسكم وذكر ذلك تخصيص بعد تعميم ونصب خيرا عند سيبويه على أنه مفعول به لفعل محذوف أي وأتوا خيرا لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وأنفع وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر
(28/127)
وبيان لكون الأمور خيرا لأنفسهم من الأموال والأولاد وفيه شمة من التجريد وعند أبي عبيد على أنه خبر ليكن مقدرا جوابا للأمر أي يكن خبرا وعند الفراء والكسائي على أنه نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا وقيل : هو نصب بأنفقوا والخير والمال وفيه بعد من حيث المعنى وقال بعض الكوفيين : هو نصب على الحال وهو بعيد في المعنى والأعراب ومن يوق شح نفسه وهو البخل مع الحرص
فأولئك هم المفلحون
16
- الفائزون بكل مرام إن تقرضوا الله تصرفوا المال إلى المصارف التي عينها عز و جل وفي الكلام استعارة تمثيلية قرضا حسنا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس يضاعفه لكم يجعل لكم جل شأنه بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر وقريء يضعفه ويغفر لكم ببركة الإنفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب والله شكور يعطي الجزيل بمقابلة النزر القليل حليم
17
- لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة الذنوب عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه سبحانه شيء العزيز الحكيم
18
- المبالغ في القدرة والحكمة وفي الآية من الترغيب بالإنفاق ما فيها لكن اختلف في المراد به فقيل : الإنفاق المفروض يعني الزكاة المفروضة وقد صرح به وقيل : الإنفاق المندوب وقيل : ما يعم الكل والله تعالى أعلم
سورة الطلاق
وتسمى سورة النساء القصرى كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري وغيره وأنكره الداوودي فقال : لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشيء من سور القرآن : قصرى ولا صغرى وتعقبه ابن حجر بأنه زد للأخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال : طولي الطوليين وأراد بذلك سورة الأعراف وهي مدنية بالإتفاق
واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية وفيما عداه اثنتا عشرة آية ولما ذكر سبحانه فيما تقدم إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الإنفصال منهن على الوجه الجميل وذكر عز و جل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة فقال عز من قائل : بسم الله الرحمن الرحيم يآ أيها النبي إذا طلقتم النساء خص النداء به صلى الله تعالى عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة و السلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا بستبدون بأمر دون فكان وحده في حكمهم كلهم وسادا مسد جنيعهم وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة و السلام ما فيه ولذلك اختير لفظ النبي لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : الخطاب كالنداء له صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله :
ألا فارحموني يا إله محمد
وقيل : إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة و السلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريما له صلى الله تعالى عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك : إذا طلقتم وقيل : حذف نداء الأمة والتقدير يا أيها النبي
(28/128)
وأمة النبي إذا طلقتم وأيا ما كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه واتفقوا على أنه لو لا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد وقال بعض المحققين : لك أن تقول : لا حاجة إلى ذلك بل هو تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة عل اللزوم كما يقال : إن ضربت زيدا فاضربه ضربا مبرحا لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضربا شديدا وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضا فطلقوهن لعدتهن أي لاستقبال عدتهن واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال يقين من جمادي الأولى أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر واعتبار الأستقبال رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة كالإمام أبي حنيفة ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض
وقد حصروا جميعا بأن ذلك طلاق وبدعى حرام وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه واستدل لذلك ولاعتبارالأستقب بما أخرجه الإمامان : مالك والشافعي والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسولالله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال : ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيضفتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء
وقرأ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر وغيره يقرأ كذلك وكذلك ابن عباس وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن ومن يرى أن العدة بالإطهار وهي القروء في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الأستقبال واعترض على التتأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن إريد التلبس بأولها فهو للشافعي ومنيرى رأيه لا عليه وعلى المخالف لا له وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللازم إذا دخلت الوقتأفادت معنى التأقيت والإختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت وعلى الأستدلال بقراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن الشيء أوله نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له ويشهد لكون العدة بالإطهار قراءة ابن مسعود لقبل طهرهن ومنهم من قال : التقدير لأطهارعدتهن وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى من دل على أن القرء هو الحيض والطهر معا وإن جعلت بمعنى اللام فيكفي ما في قولك لأطهار الحيض من التنافر ردا مع ما فيه من الأضمار من غير دليل
وفي الكشافالمراد أي في الآية أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهنوهوأحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم ويدلعليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدةوكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في أطهار وقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموة كانت أو مفروقة وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد عل الواحدة في طهر واحد
(28/129)
فأما مفروقا في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة وروي أنه عليه الصلاة و السلام قال لعمر : مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء
وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت والشافعي يراعي الوقت انتهى
وقد فتح القدير في الأحتجاج على عدم كراهة التفريق على الإطهار وكونه من الطلاق السني غير ما ذكر عن ابن عمر أيضا وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال : أنت طالق أنت طالق أنت طالق أو بلفظ واحد كأن يقال : أنت طالق ثلاثا وفي وقوع هذا خلاف وكذا في وقوع الطلاق مطلقا في الحيض فعند الإمامية لا يقعالطلاق بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين وقال قوم منهم فيما قيل طاوس وعكرمة : الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة وروي هذا أبو داود عن ابن عباس وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعلواحدةعلى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر قال : نعم وفي روايةلمسلم أن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ومنهم من قال في المدخول بها : يقع ثلاث وفي الغير واحدة لمافي مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بهاجعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبيبكر وصدر من خلافة عمر الحديث والذي ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة وقوعالثلاث بفم واحد بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع
ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابنمسعود وأبي هريرة وعثمان ابن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك وذكر أيضا أن إمضاء عمر الثلاث عليهممععدم مخالفة الصحابة له مع علمهم بأنها كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد أطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالأطلاع على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما وسيأتي إن شاء الله تعالبعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث لكن قيل : إن الثلاث فيها ما يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنتطالق أنت طالق ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالقثلاثا وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظلكن إذاصح الإجماع ولو سكوتيا على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت وتأويل ما روي عن عمر ولذا قال بعض الأئمة : لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه
(28/130)
لأنه لا يسوغ الأجتهاد فيه لأجماع الأئمة المعتبرين عليه وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك ومن قال : بمعصيته استدلبما روي النسائي عن محمود بن لبيد قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبان فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ! حتى قام رجل فقالوا : يا رسول الله ألا أقتله وبما أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادةفسألأه صفقال عليه الصلاة و السلام : بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائةوتسعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضا وهو ظاهر كلام ابن الرفعة ومقتضى قول الروياني واعتمده الزركشي وغيره أنه يعزر فاعله ووجه بأنه تعاطي نحو عقد فاسد وهوحرام ونوزع في ذلك بمافيه نظر وبما في سنن أبي داود عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق زوجته ثلاثا فقال له : عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك
ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه وقال : إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية ومع اعتقادها يحرم الجمع المخالف ومع الحرمة يجب على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثا فيموضعه والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شبها نوا ثلاثا لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه وقال بعض الحنفية في ذلك : إنه محمول على أنهم قالوا : ثلاثا للسنة وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة على العصيان فيه على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية
واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف وفي الأستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث وربما يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة الشافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء وليس في فليراجعها أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر فالمعنى فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة وإذا راجع ارتفع الأثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت بمنزلة التوبة ترفع أصل المعصية وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل ويندفع بما ذكر ما قيل : رفع الرجعة للترحيم كالتوبة يدل عل وجوبها إذ كون الشيء بمنزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذا النهي عند أبي حنيفةلا يستلزم الفساد مطلقا وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضا وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق ولم يؤمر بها قيل : وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكى عن السدي
(28/131)
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : بلغنا أن قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم الآية نزل في عبد الله ابن عمرو بن العاص وطفيل بن الحرث وعمرو بن سعيد بن العاص وقال بعضهم : فعله ناس منهم ابن عمرو ابن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت الآية وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى : يحدث يعد ذلك أمرا فراجعها عليه الصلاة و السلام ورواه قتادة عن أنس وقال القرطبي نقلا عن علماء الحديث : إن الأصح أنها نزلت ابتداءا لبيان حكم شرعي وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي وظاهرها أن نفس الطلاق مباح واستدل له أيضا بما رواه أبو داود وابن ماجه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إن من أبغض المباحات عند الله عز و جل الطلاق وفي لفظ أبغض الحلال إلى الله الطلاق لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه والمراد من كونه مبغوضا التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه
وقال البيهقي : البغض على إيقاعه كل وقت من رعاية لوقته المسنون وبطلاقه صلى الله عليه و سلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة وقال غير واحد : هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح ولقوله عليه الصلاة و السلام : لعن الله كل مذواق مطلاق وإنما أبيح للحاجة قال ابن الهمام : وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله تعالى شيئا أبغض إليع من الطلاق فإن الفعل لا عموم له في الأزمان ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضى بترك ذلك وما روي عن الحسن وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله : أحب الفني قال الله سبحانه : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته فهو رأي منه إن كان على ظاهره وكل ما نقل من طلاق الصحابة كطلاق المغيرةابن شعبة الزجات الأربع دفعة فقد قال لهن : أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الجاجة وإن لم يصرح بها وقال ابن حجر : هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين أياه أو مندوب كأن يعجز بحقوقها ولو لعدم الميل إليها أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها ومن ثم أمر صلى الله تعالى عليه وسلم من قال : إن زوجتي لا ترد يد لامس أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال في معناه بإمساكها خشية من ذلك ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصير على عشرتها عادة فيما يظهر وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب والأعصم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقى من الآباء والأمهات ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر أو حرام كالبدعى أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا : ليس فيه مباح لكن صوره الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمحنفسه بمؤنتها من غير تمتع أه
والآية على ما لا يخفى على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف وغيره لمكان قوله سبحانه : فطلقوهن لعدتهن
(28/132)
واحصوا العدة واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتادا قديما ثم صار حقيقة فيما ذكر واتقوا الله ربكم في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن وفي وصفه تعالى بربوبيته عز و جل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الأتقاء لا تخرجوهن من بيوتهن من مساكنهن عند الطلاق وإلى أن تنقضي عدتهن وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكنا كأنها أملاكهن وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناءا به والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن أو محض سفه بمنطوقه ويتناول عدمالأذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى : ولا يخرجن أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلهافظاهر وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفى والأذن في فعل المحرممحرم فكأنه قيل : لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤكد فلا يسقط بالإذن وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الأنتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله : فيه نظر وقد ذكر الرازي في الأحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالإسقاط انتهى
والذييظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالأذن وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتر في بيته وأما أن يحل لها الخروج فلا إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي ظاهرة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عمر وروي عن السدي وابن السائب والنخعي وبه أخذ أبو حنيفة والأستثناء عليه راجع إلى لا يخرجن والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه وقال الإمام ابن الهمام : هذا كما يقال في الخطابية : لا تزن إلا أن تكونفاسقا ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جدا والزنا على ما روي عن قتادة والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث وهو قول ابن مسعود وقول ابن عباس وبه أخذ أبو يوسف والأستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أيلا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لأقامة الحد عليهن وقال بعض المحققين : هو راجع إلى الكل وما يوجبحدا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب واختاره الطبري والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس والأستثناء راجع إلى ألأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن وأيد بقراءة أبي إلا أن يفحشن عليكم بفتح الياء وضم الحاء وفي موضح الأهواري يفحشن من أفحش قال الجوهري : أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحش وفي حرف ابن مسعود إلا أن يفحشن بدون عليكم والنشوز والمراد إلا أن
(28/133)
يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضا والأستثناء عليه قيل : راجع إلى الأول أيضا وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه إذا سقط حقها في السكني حل الأخراج والخروج أيضا وأيا ما كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهي عنه بالإتيان بالفاحشة وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك
وقرأ ابن كثير وأبو بكر مبينة بالفتح وتلك إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن حدود الله التي عينها لعباده عز و جل ومن يتعد حدود الله أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على الإظهار في موضع الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم في قوله تعالى : فقد ظلم نفسه أي أضر بها كما قال شخ الإسلام ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه : لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
1
- فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية وقد قالوا : إن الأمر يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى
ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم ههنا به وأن قوله تعالى : لا تدري الخ ليس تعليلا لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور فيتفسيره به فيما يظهر وجملة الترجي في موضع النصب ب لا تدري وعد أبو حيان لعل من المعلقات والخطاب في لا تدري للمتعدي بطريق الإلتفات لمزيد الأهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما قيل فالمعنى من يتعدىحدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله تعالى يحدثفي قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الأعراض عنها إقبالا إليها ولا يتسنى تلافيه برجعة أو استئناف نكاح فإذا بلغن أجلهن شارفن آخر عدتهن
فأمسكوهن فراجعوهن بمعروف بحسن معاشرة وإنفاق مناسب للحال من الجانبين
أو فارقوهن بمعروف بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة
وأشهدوا ذوي عدل منكم عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة وقطعا للنزاع وهذا أمر ندب كما في قوله تعال : وأشهدوا إذا تبايعتم وقال الشافعي في القديم : إنه للوجوب في الرجعة وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق وأنه مروي عن أئة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق وأقيموا الشهادة أي أيها الشهود عند الحاجة لله خالصا لوجهه تعال وفي الآية دليل عل بطلان قول من قال : إنه إذا تعاطف أمران لمأمورين يلزم ذكر النداء أو يقبح تركه نحو إضراب يا زيد وقم يا عمرو ومن خص جواز الترك بلا قبح باختلافهما كما في قوله تعالى : يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك فإن المأمور بقوله تعالى :
(28/134)
اشهدوا للمطلقين وبقوله سبحانه : أقيموا الشهادة للشهود كما أشرنا إليه وقد تعاطف من غير اختلاف في أفصح الكلام
ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أي لأنه المنتفع بذلك والإشارة على ما اختاره صاحب الكشاف إلى الحث عل إقامة الشهادة لله تعالى والأولى كما في الكشف أن يكون إشارة إلى جميع ما مر من إيقاع الطلاق على وجه السنة وإحصاء العدة والكف عن الإخراج والخروج وإقامة الشهادة للرجعة أو المفارقة ليكون أشد ملاءمة لقوله عز و جل : ومن يتق الله يجعل له مخرجا
2
- ويرزقه من حيث لا يحتسب فإنه اعتراض بين المتعاطفين جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام بالوعد على اتقاء الله تعالى فيها فالمعنى ومن يتق الله تعالى فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يجعل له سبحانه مخرجا مما عس أن يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المشايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه وفي الأخبار عن أجلة الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس في بعض الروايات عنه ما يؤيد هذا الوجه وجوز أن يكون اعتراضا جيء به على نهج الأستطراد عنه ذكر قوله تعالى : ذلكم يوعظ به الخ فالمعنى ومن يتق الله في كل ما يأتي وما يذر يجعل له مخرجا من غموم الدنيا والآخرة وهو أولى لعموم الفائدة وتناوله لما نحن فيه تناولا أوليا ولاقتضاء أخبار في سبب النزول وغيره له فقد أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن بسار عن ابن عباس قال : قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى : ومن يتق الخ فقال : مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتلو هذه الآية ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فجعل يرددها حتى نعست ثم قال : يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني قال : مرك وإياها أن تستكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة : نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت ومن يتق الله الآية وفي رواية ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق مولى آل قيس قال : جاء عوف ابن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له : أسر ابن عوف فقال له عليه الصلاة و السلام : أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فإذا سرح للقوم الذين كانوا شددوه فصاح بها فاتبع آخرها أولها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فنزلت ومن يتق الله الخ
وفي بعض الروايات أنه أصابه جهد وبلاء فشكا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : اتق الله واصبر فرجع ابنه وقد أصاب أعنزا فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة و السلام فنزلت فقال : هي لك إلى غير ذلك مما هو مضطرب على ما لا يخفى على المتتبع وعلى القول بالأستطراد قيل : المعنى من يتق الحرام
(28/135)
يجعل له مخرجا إلى الحلال وقيل : مخرجا من الشدة إلى الرخاء وقيل : من النار إلى الجنة وقيل : مخرجا من العقوبة ويرزقه من حيث لا يحتسب من الثواب وقال الكلبي : ومن يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجا إلى الجنة والكل كما ترى والمعول عليه العموم الذي سمعته وفي الكشف إن تنويع الوعد للمتقي وتكرير الحث عليه بعد الدلالة على أن للتقوى ملاك الأمر عدن الله تعالى ناط به سبحانه سعادة الدارين يدل على أن أمر الطلاق والعدة من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى لأنه أبغض المباح إلى الله عز و جل لما يتضمن من الإيحاش وقطع الألفة الممهدة ثم الإحتياط في أمر النسب الذي هو من جلة المقاصد يؤذن بالتشديد في أمر العدة فلا بد من التقوى ليقع الطلاق على وجه يحمد عليه ويحتط في العدة ما يجب فهنالك يحصل للزوجين المخرج في الدنيا والآخرة وعليه فالزوجة داخلة في العموم كالزوج ومن يتوكل على الله فهو حسبه أيكافيه عز و جل في جميع أموره
وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال : يقول الرب تبارك وتعالى : إذا توكل علي عبدي لو كادته السماوات والأرض جعلت له من بين ذلك المخرج إن الله بالغ أمره بإضافة الوصل إلى مفعولهوالأصل بالغ أمره بالنصب كما قرأ به الأكثرون أي ببلغ ما يريده عز و جل ولا يفوته مراد
وقرأ ابن أبي عبلة في رواية وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو بالغ بالرفع منونا أمره بالفع على أنه فاعل بالغ الخبر لأن أو مبتدأ و بالغ خبر مقدم له والجملة خبر إن أي نافذ أمره عز و جل وقرأ المفضل في رواية أيضا بالغا بالنصب أمره بالفع وخرج ذلك على أن بالغا حال من فاعل جعل في قوله تعالى : قد جعل الله لكل شيء قدرا
3
- لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه وجملة قد جعل الخ إن وجوز أن يكون بالغا هو الخبر على لغة منينصب الجزأين بإن كما في قوله : إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتسكن خطاك خفافا إن حراسنا أسدا وتعقب بأنها لغة ضعيفة ومعنى قدرا تقديرا والمراد تقديره قبل وجوده أو مقدارا من الزمان وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر ليه عز و جل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر وفيه على ما قيل : تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها
وقرأ جناح بن حبيش قدرا بفتح الدال والتي يئسن من المحيض أي الحيض وقريء ييأسن مضارعا من نسائكم لكبرهن وقد قدر بعضهم سن اليأس بستين سنة وبعضهم بخمس وخمسين وقيل : هو غالب سن يأس عشيرة المرأة وقيل غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه فإن المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحاري يبطيء فيه سن اليأس وقيل : أقصى عادة امرأة في العالم وهذا القول بالغ درجة اليأس من أن يقبل إن ارتبتم أي شككتم وترددتم في عدتهن أو إن جهلتم عدتهن فعدتهن ثلاثة أشهر أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه وجماعة عن أبي بن كعب
(28/136)
أي ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل الله تعالى في سورةالنساء القصرى واللائي يئسن الآية وفي رواية أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قالوا : يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر فنزل واللائي يئسن الخ فقال قائل : فما عدة الحامل فنزل وأولات الأحمال الخ
ويعلم مما ذكر أن الشرط هنا لا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم لأنه بيان للواقعة التي نزل فيها من غير قصد للتقييد وتقدير متعلق الأرتياب ما سمعت هو ما أشار إليه الطبري وغيره وقيل : إن ارتبتم في دم البالغاتمبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن الخ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك وقال الزجاج : المعنى إن ارتبتم في حيضهن وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة وقيل : إن ارتبتم أي إن تيقنتم إياسهن والإرتياب من الأضداد والكل كما ترى
والموصول قالوا : إنه مبتدأ خبره جملة فعدتهن الخ وإن ارتبتم شرط جوابه محذوف تقديرهفاعلموا أنها ثلاثة أشهر والشرط وجوابه جملة معترضة وجوز كون فعدتهن الخ جواب الشرط باعتبار الإعلام والإخبار كما في قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله والجملة الشرطية خبر من غير حذفوتقدير وقوله تعالى : والآئي لم يحضن مبتدأ خبره محذوف أي واللائي لم يحضن كذلك أو عدتهن ثلاثة أشهر والجملة معطوفة على ما قبلها وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق وجعل الخبر لهما من غير تقدير والمراد باللائي لم يحضن الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض
واستظهر أبو حيان شموله من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لهن حيض البتة كبعض النساء يعشن إلى أنيمتن ولا يحضن ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض ثم قال : وقيل : هذه تعتد سنة
وأولت الأحمال أجلهن أي منتهى عدتهن أن يضعن حملهن ولو نحو مضغة وعلقة ولا فرق في ذلكبين أن يكن مطلقات أو متوفي عنهن أزواجهن كما روي عن عمر وابنه فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حاملفقال : إذا وضعت حملها فقد حلت فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال : لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت وعن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال : من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى وأولات الأحمال الخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا وكل مطلقة أو متوفي زوجها فأجلها أن تضع حملها وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري بسبع سنين ولعله لا يصح وعن أبي هريرة وأبي مسعود البدري وعائشة وإليه ذهب فقهاء الأمصار وروي ذلك عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرج عبد بن حميد في زوائد المسند وأبو يعلى والضياءفي المختارة وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : قلت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أهي المطلقة ثلاثا والمتوفي عنها قال : هي المطلقة ثلاثا والمتوفي عنها وروي جماعة نحوه
(28/137)
عنه من وجه آخر وصح أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما وفي رواية بخمس وعشرين ليلة وفي أخرى بأربعين ليلة فاختضبت وتكحلت وتزينت تريد النكاح فأنكر ذلك عليها فسئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن تفعل فقد خلا أجلها وذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أن الآية في المطلقات وأما المتوفي عنها زوجها فعدتها آخر الأجلين وهو مذهب الإمامية كما في مجمع البيان
وعلى ما تقدم فالآية ناسخة لقوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن الآية على رأي أصحاب أبي حنيفة ومن وافقهم من الشافعية لأن العام المطلق المتأخر ناسخ عندهم فأولى أن يكون العام من وجه كذلك وأما من لم يذهب إليه فمن لم يجوز تأخير بيان العام قال : بالنسخ أيضا لأن العام الأول حينئذ مراد تناوله لأفراده وفي مثله لا خلاف في أن الخاص المتراخي ناسخ بقدره لا مخصص ومن جوز ذهب إلى التخصيص بناءا على أن التي في القصرى أخص مطلقا ووجه أنه ذكر في البقرة حكم المطلقات من النساء وحكم المتوفي عنهن الأزواج على التفريق ثم وردت هذه مخصصة في البابين لشمول لفظ الأجل العدتين وخصوص أولات الأحمال مطلقا بالنسبة إلى الأزواج وهذا كما يقول القائل : هندية الموالي لهم كذا وتركيتهملهم كذا لجنس آخر ثم يقول : والكهول منهم لهم دون ذلك أو فوقه أو كذا مريدا صنفا آخر يكون الأخير مخصصا للحكمين ولا نظر إلى اختلاف العطايا لشمول اللفظ الدال على الأختصاص وخصوص الكهول من الموالي مطلقا كذلك فيما نحن فيه لا نظر إلى اختلاف العدتين لشمول لفظ الأجل وخصوص أولات الأحمال بالنسبة إلى الأزواج مطلقا وإن شئت فقل : بالنسبة إلى المطلقات والمتوفي عنهن رجالهن مطلقا فلا فرق قاله في الكشف ثم قال : ومن ذهب إلى أبعد الأجلين احتج بأن النصين متعاضدان لأن بينهما عموما وخصوصا من وجه ولا وجه لإلغاء فيلزم الجمع وفي القول بذلك يحصل الجمع لأن مدة الحمل إذا زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت فيحصل العمل بمقتضى الآيتين والجواب أنه إلغاء للنصين لا جمع إذ المعتبر الجمع بين النصين لا بين المدتين وذلك لفوات الحصر والتوقيت الذي هو مقتضى الآيتين أه فتدبر
وقرأ الضحاك أحمالهن جمعا ومن يتق الله في شأن أحكامه تعالى ومراعاة حقوقها : يجعل له من أمره يسرا
4
- بأن يسهل عز و جل أمره عليه وقيل : اليسر الثواب ومن قيل : للبيان قدم على المبين للفاصلة وقيل : بمعنى في وقيل : تعليلية ذلك إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد للإيذان يبعد المنزلة في الفضل وإفراد الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى : أمر الله أنزله إليكم لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين ومن يتق الله بالمحافظة على أحكامه عز و جل يكفر عنه سيئاته فإن الحسنات يذهبن السيآت ويعظم له أجرا
5
- بالمضاعفة وقرأ الأعمش نعظم بالنون التفاتا من الغيبة إلى التكلم وقرأ ابن مقسم يعظم بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا وقوله تعالى : أسكنوهن من حيث سكنتم استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ
(28/138)
مما قبه من الحث على التقوى كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل : أسكنوهن الخ و من للتبعيض أي أسكنوهن بعض مكان سكناكم ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد في بعض نواحيه كما روي عن قتادة وقال الحوفي وأبو البقاء : هي لابتداء الغاية وقوله تعالى : من وجدكم أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله تعالى : من حيث سكنتم على ما قاله الزمخشري ورده أبو حيان بأنه لا يعرف عطف بيان يعدا فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا وتعقب بأن المراد أن الجار والمجرور عطف بيان للجار والمجرور فقط حتى يقال ذلك مع أنه لا يبرد له بسلامة الأمير وأنه لا فرق بين عطف البيان والبدل إلا في أمر يسير ولا يخفى قوة كلام أبي حيان وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة من وجدكم بفتح الواو وقرأ الفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرها وذكرها المهدوي عن الأعرج والمعنى في الكل الوسع ولا تضآروهن ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى لتضيقوا عليهن فتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه نحو ذلك وإن كان أي المطلقات أولت حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فيخرجن عن العدة وأما المتوفي عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن عند أكثر العلماء وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود تجب نفقتهن في التركة ولا خلاف في وجوب سكنى المطلقات أولات الحمل ونفقتهن بت الطلاق أو لم يبت
واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الأتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد : للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور والإمامية : لا سكنى لها ولا نفقة لحديث فاطمة بنت قيس قالت : طلقني زوجي أو عمرو بن حفص ابن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد وقال أبو حنيفة والثوري : لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل ودليله أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في المبتوتة : لها النفقة والسكنى مع أن ذلك جزاء الأحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل ولو كان جزاءا للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم ومن خص الإنفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على المنافقين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط ههنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطيرق الأولى كما في الكشاف فهو من مفهوم الموافقة وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر وعائشة وسليمان ابن يسار والأسود بن يزيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم فإن أرضعن لكم أي بعد أن يضعن حملهن فآتوهن أجورهن على الإرضاع وأتمروا بينكم بمعروف خطاب للآباء والأمهات والأفتعال بمعنى التفاعل يقال : ائتمر القوم وتآمروا بمعنى قال الكسائي : والمعنى تشاوروا وحقيقته
(28/139)
ليأمر بعضكم بعضا بمعروف أي جميل في الجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة وقيل : المعروف الكسوة والدثار وإن تعاسرتم أي تضايقتم أي ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحنة وفي الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك فسترضع له أخرى
6
- أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى وفيه على ما قيل : معاتبة للأم لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه : سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم
وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متعول ولا مضمون به في العرف وخصوصا من الأم على الولد ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب والكلام على معنى فيطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الأرتباط بين الشرط والجزاء وقال بعض الأجلة : إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضا حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى وهي أيضا تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى وبذلك يظهر كمال الأرتباط والأول أظهر فتدبر وقيل : فسترضع خبر بمعنى الأمر أي فلترضع وليس بذاك وهذا الحكم غذا قبل الرضيع ثذي أخرى أما إذالم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا : تجبر على الإرضاع بأجر مثلها لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر أي ضيق عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله وإن قل والمراد لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه والظاهر أن المأمور بالإنفاق الآباء ومن هنا قال ابن العربي : هذه الآية أصل في وجوب النفقة على الأب وخالف في ذلك محمكد بن المواز فقال : بوجوبها على الأبوين على قدر الميراث وحكى أبو معاذ أنه قريء لينفق بلام كي ونصب القاف على أن التقدير شرعنا ذلك لينفق
وقرأ ابن أبي عبلة قدر مشدد الدال لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها أي إلا بقدر ما أعطاها منالطاقة وقيل : ما أعطاها من الأرزاف قل أو جل وفيه تتطييب واستمالة لقلب المعسر لمكان عبارة آتاها الحاصلة بالأعسار قبل وذكر العسر بعد واستدل بالآية من قال لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة وهو ما ذهب إليه عبد العزيز وأبو حنيفة وجماعة وعن أبي هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق يفسخ النكاح بالعجز عن الإنفاق ويفرق بين الزوجين وفيها على ما قال السيوطي : استحباب مراعاة الإنسان حال نفسه في النفقة والصدقة ففي الحديث إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدبا حسنا إذا هو سبحانه وسع عليه وسع وإذا هو عز و جل قتر عليه قتر وقوله تعالى : سيجعل الله بعد عسر يسرا
7
- موعد لفقراء ذلك الوقف بفتح أبواب الرزق عليهم أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا وهو على الوجهين تذييل إلا أنه على الأول نستقل وعلى الثاني غير مستقل وكأين من قرية أي كثير من أهل قرية
وقرأ ابن كثير وكائن بالمد والهمزة وتفصيل الكلام فيما قد مر عتت تجبرت وتكبرتمعرضة عن أمر ربها ورسله فلم تمتثل ذلك فحاسبناها حسابا شديدا بلأستقصاء والتنقير والمناقشة
(28/140)
في كل نقير من الذنوب وقطمير وعذبناها عذابا نكرا
8
- أي منكرا عظيما والمراد حساب الآخرة وعذابها والتعبير عنهما بلفظ الماضي للدلالة على تحققهما كما في قوله تعالى : ونفخ في الصور
وقرأ غير واحد نكرا بضمتين فذاقت وبال أمرها عقوبة عتوها وكان عاقبة أمرها خسرا
9
- هائلا لا خسر وراءه أعد الله لهم عذابا شديدا تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى : فاتقوا الله يآ أولي الألباب كأنه قيل : أعد الله تعالى لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب داعيا لتقوى الله تعالى وحذر عقابه وقال الكلبي : الكلام على التقدير والتأخير والمراد فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة
والظاهر أن قوله تعالى : أعد الخ عليه تكرير للوعيد أيضا وجوز أن يراد بالحساب الشديد استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحائف الحفظة وبالعذاب النكر ما أصابهم عاجلا وتجعل جملة عتت الخ صفة لقرية والماضي في فحاسبناها وعذبناها على الحقيقة وخبر كأين جملة أعد الله الخ أو تجعل جملة عتت الخ هي الخبر وجملة أعد الله الخ استئناف لبيان أن عذابهم غير منحصر فيما ذكر بل لهم بعده عذاب شديد وقوله تعالى : الذين آمنوا منصوب بإضمار أعني بيانا للمنادى السابق أو نعت له أو عطف بيان وفي إبداله منه ضعف لعدم صحة حلوله محله قد أنزل الله إليكم ذكرا
10
- هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عبر به عنه لمواظبه عليه الصلاة و السلام على تلاوة القرآن الذي هو ذكر أو تبليغه والذكير به وقوله تعالى : رسولا بدلا منه وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا للمجاز أو لأن الإرسال مسبب عنه فيكون أنزل مجازا مرسلا وقال أبو حيان : الظاهر أن الذكر هو القرآن والرسول هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإما أن يجعل نفس الذكر مجازا أو يكون بدلا على حذف مضاف أي ذكر رسول وقيل : هو نعت على حذف ذلك أي ذا رسول وقيل : المضاف محذوف من الأول أي ذا ذكر رسولا فيكون رسولا نعتا لذلك المحذوف أو بدلا وقيل : رسولا منصوب بمقدر مثل أرسل رسولا دل عليه أنزل ونحا إلى هذا السدي واختاره ابن عطية وقال الزجاج وأبو علي : يجوز أن يكون معمولا للمصدر الذي هو ذكر كما في قوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما وقول الشاعر : بضرب بالسيوف رءوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل أي أنزل الله تعالى ذكره رسولا على معنى أنزل الله عز و جل ما يدل على كرامته عنده وزلفاه ويراد به على ما قيل : القرآن وفيه تعسف ومثله جعل رسولا بدلا منه على أنه بمعنى الرسالة وقال الكلبي : الرسول ههنا جبريل عليه السلام وجعل بدلا أيضا من ذكرا وإطلاق الذكر عليه لكثرة ذكره فهو منالوصف بالمصدر مبالغة كرجل عدل أو لنزوله بالذكر وهو القرآن فبينهما ملابسة نحو الحلول أو لأنهعليه السلام مذكور في السماوات وفي الأمم فالمصدر بمعنى المفعول كما في درهم ضرب الأمير وقد يفسر الذكر حينئذ بالشرف كما في قوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك فيكون كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله عز و جل كقوله تعالى : عند ذي العرش مكين
(28/141)
وفي الكشف إذا أريد بالذكر القرآن وبالرسل جبريل عليه السلام يكون بدل اشتمال وإذا أريد بالذكر الشرف وغيره يكون من بدل الكل فتدبر
وقريء رسول على إضمار هو وقوله تعالى : يتلوا عليكم آيات الله مبينات نعت لرسولا وهو الظاهر وقيل : حال من اسم الله تعالى ونسبة التلاوة إليه سبحانه مجازيه كبنى الأمير المدينة و آيا الله القرآن وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر على أحد الأوجه و مبينات حال منها أي حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام وقريء مبينات أي بينها الله تعالى كقوله سبحانه : قد بينا لكم الآيات واللام في قوله تعالى : ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور متعلق بأنزل أو بيتلو وفاعل يخرج على الثاني ضمير الرسول عليه الصلاة و السلام أو ضميره عز و جل والمراد بالموصول المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية : أو من علم سبحانه وقدر أنه سيؤمن أي ليحصل لهم الرسول أو الله عز و جل ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح أوليخرج من علم وقدر أنه يؤمن من أنواع الضلالات إلى الهدى فالمضي إما بالنظر لنزول هذه الآية أو باعبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأزلي
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا حسبما بين في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات
يدخلهجناتت تجري من تحتها الأنهار وقرأنافع وابن عامر ندخله بنون العظمة وقوله تعالى : خالدون فيها أبدا حال من مفعول يدخله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها وقوله تعالى : قد أحسن الله له رزقا
11
- حال أخرى منه أو من الضمير في خالدين بطريق التداخل وإفراد ضمير له باعتبار اللفظ أيضا وفيه معنى التعجب والتعظيم لما رزقه الله تعالى المؤمنين من الثواب وإلا لم يكن في الأخبار بما ذكر ههنا كثير فائدة كما لا يخفى
واستدلأكثر النحويون بهذهالآية على جواز مراعاة اللفظ أولا ثم مراعاة المعنى ثم مراعات اللفظ وزعم بعضهم أن ما فيها ليس كما ذكر لأن الضمير في خالدين ليس عائدا على من كالضمائر قبل وإنما هو عائد على مفعول يدخل و خالدين حال منه والعامل فيها يدخل لا فعل الشرط وهو كما ترى الله خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر ومن الأرض مثلهن أي وخلق من الأرض مثلهن على أن مثلهن مفعول لفعل محذوف والجملة عطف على الجملة قبلها وقيل : مثلهن عطف على سبع سماوات وإليه ذهب الزمخشري وفيه الفصل بالجار والمجرور بن حرف العطف والمعطوف وهو مختص بالضرورة عند أبي الفارسي وقرأ المفضل عن عاصم وعصمة عن أبي بكر مثلهن بالرفع على الإبتداء ومن الأرض الخبر
والمثلية تصدق بالأشتراك في بعض الأوصاف فقال الجمهور : هي ههنا في كونها سبعا وكونها طباقابعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله عز و جل لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى وعن ابن عباس أنهم إما ملائكة أو جن وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان وفي الأسماء والصفات من طريق أبي الضحى
(28/142)
عنه أنه قال في الآية : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى قال الذهبي : إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرةلا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا وذكر أبو حيان في البحر ونحوه عن الحبر وقال : هذا حديث لا شك في وضعه وهو من رواية الواقدي الكذاب
وأقول لا مانع عقلا ولا شرعا من صحته والمراد أن في كل أرض خلقا يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدمعليه السلام وفيه أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم وغيرهما فينا
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا أن بين كل أرض والتي تليها خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية مسجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريتها والخامسة فيها حياتها والسادسة فيها عقاربها والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أماه ويد خلفه يطلقه الله تعالى لمن يشاء وهو حديث منكر كما قال الذهبي لا يعول عليه أصلا فلا تغر بتصحيح الحاكم ومثله في ذلك أخبار كثيرة في هذا الباب لو لا خوف الملل لذكرناها لك لكن كون ما بين كل أرضين خمسمائة سنة كما بين سماءين جاء في أخبار معتبرة كما روي الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال : بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جالس وأصحابه قال : هل تدرون ما فوقكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف قال : هل تدرون ما بينكموما بينها قالوا : الله ورسوله أعلم قال : بينكم وبينها خمسمائة عام ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : سماء وإن بعد ما بينهما خمسمائة سنة ثم قال كذلكحتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم قال : وإنفوق ذلك العرش بينه وبين السماء ما بين السماءين ثم قال : هل تدرون ما تحتكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إنها الأرض ثم قال : هل تدرون ما تحت ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : إن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد صلى الله تعالى عليه وسلم سبع أرضين ما بين كل أرضين خمسمائة سنة
والأخبار في تقدير المسافة بما ذكر بين كل سماءين أكثر من الأخبار في تقديرها بين كل أرضين وأصح ومنها ما هو مذكور في صحيح البخاري وغيره من الصحاح وفيها أيضا أن ثخن كل سماء خمسمائة عام فقول الرازي في ذلك إنه غير معتبر عند أهل التحقيق كلام لا يخفى بشناعته على من سلك من السنة أقومطريق نعم ما حكاه من أن السماء الأولى موج مكفوف والثانية صخر والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوت ليس بمعتبر أصلا ولم يرد تضمنه من التفصيل خبر صحيح لكن في قوله : إنه مما يأباه العقل إن أراد به نفي الإمكان عقلا منع ظاهر وقال الضحاك : هي في كونها سبعا بعضها فوق بعض لا في كونها كذلك مع وجود مسافة بين أرض وأرض واختاره بعضهم زاعماأنالمراد بهاتيك السبع طبقة التراب الصرفة المجاورة للمركز والطبقة الطينية والطبقة المعدنية التي يتكون فيها المعادن والطبقة الممتزجة بغيرها المنكشفة التي هي مسكن الأنسان ونحوه من الحيوان وفيها ينبت النبات وطبقة الأدخنة والطبقة الزمهريرية وطبقة النسيم الرقيق جدا ولا يخفى أنه أشبه شيء بالهذيان ومثله ما يزعمه بعض الناظرين في كتب العلوم المسماة بالحكمة الجديدة من أن الأرض انفصلت بسبب بعض الحوادث
(28/143)
من بعض الأجرام العلوية صغيرة ثم تكونت فوقها طبقة وهكذا حتى صار المجموع سبعا وزعم أنهم شاهدوا بين كل طبقة وطبقة آثارا من مخلوقات مختلفة وقال أبو صالح : هي في كونها سبعا لا غير فهي سبع أرضين منبسطة بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار ويظل جميعها السماء وروي ذلك عن ابن عباس فالنسبة بين أرض وأرض على هذا نحو نسبة أمريقيا إلى آسيا أو أوربا أو أفريقيا لكن قيل : إن تلك البحار الفارقة لا يمكن قطعها
وقيل : من الأقاليم السبعة وهي مختلفة الحرارة والبرودة والليل والنهار إلى أمور أخر واختاره بعضهم ولا أظنه شيئا لأن المتبادر اعتبار انفصال أرض عن أرض انفصالا حقيقيا في المثلثية وقيل : المثلثية في الخلق لا في العدد ولا في غيره في أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع وأيد بأن الأرض لم تذكر في القرآن إلا موحدة ورد بأنه قد صح مكن رواية البخاري وغيره اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن الحديث وكذا صح من غصب قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين وأصح الأقوال كما قال القرطبي قول الجمهور السابق وعليه اختلف في مشاهدة ما عدا هذه الأرض السماء واستمدادهم الضوء منها فقيل : إنهم يشاهدونالسماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها
وقيل : إنهم لا يشاهدون السماء وأن الله عز و جل خلق لهم ضياءا يشاهدونه وروي الإمامي عن بعض الأئمة نحوا مما قاله الجمهور أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الرضا رضي الله تعالى عنه قال : بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال : هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقهاقبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال : والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقهاقبة وعرش الرحمن فوق السماء السابعة وهو قوله عالى : سبع سماوات ومن الأرض مثلهن الخ
وأنا أقول بنحو ما قاله الجمهور راجيا العصمة ممن على محور إرادته تدور أفلاك الأمور : هي سبع أرضين بين كل أرض وأرض منها مسافة عظيمة وفي كل أرض خلق لا يعلم حقيقتهم إلا الله عز و جل ولهم ضياء يستضيئون به ويجوز أن يكون عندهمليل ونهار ولا يتعين أن يكون ضيهؤهم من هذه الشمس ولا من هذا القمر وقد غلب على ظن أكثر أهل الحكمة الجديدة أن القمر عالم كعالم أرضنا هذه وفيه جبال وبحار يزعمون أنهم يحسون بها بواسطة أرصادهم وهم مهتمون بالسعي في تحقيق الأمر فليكن ما نقول به من الأرضين على هذا النحو وقد قالوا : أيضا إن هذه الشمس في عالم هي مركز دائرته وبلقيس مملكته بمعنى أن جميع ما فيه من كواكبهم السيارة تدور عليها فيه على وجه مخصوص ونمط مضبوط وقد تقرب إليها فيه وتبعد عنها إلى غاية لا يعلمها إلا الله تعالى كواكب ذوات الأذناب وهي عندهم كثيرة جداتتحرك على شكل بيضي وأن الشمس بعالمها من توابع كوكب تتدور عليه دوران توابعها من السيارات عليها هو فيما نسمع أحد كواكب النجم ولهم ظن في أن ذلك أيضا من توابع كوكب آخر وهكذا وملك الله تعالى العظيم عظيم لا تكاد تحيط به منطقة الفكر ويضيق عنه نطاق الحصر وسماء كل عالم كالقمر عندهم ما انتهى إليه هوؤه حتى صار ذلك الجرم في نحو خلاء فيه لا يعارضه ولا يضعف حركته شيء والجسم متى تحرك في خلاء لا يسكن لعدم المعارض فليكن كل أرض من هذه الأرضين محمولة بيد القدرة بين كل سماءين على نحو ما سمعتت عن الرضا على آبائه وعليه السلام
(28/144)
وهناك ما يستضيء به أهلها سابحا في فلك بحر قدرة الله عز و جل ونسبة كل أرض إلى سمائها نسبة الحلقة إلى الفلاة وكذا نسبة السماء إلى السماء التي فوقها ويمكن أن تكون الأرضون وكذا السماوات أكثر من سبع والأقتصار على العدد المذكور الذي هو عدد تام لا يستدعي نفي الزائد صرحوا بأن العدد لا مفهوم له والسماء الدنيا منتهى دائرة يتحرك فيها أعلى كوكب من السيارات وبينها وبين هذه الأرض بعد بعيد
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : خمسمائة عام من باب التقريب للأفهام ويقرب الأمر إذا اعتبر ذلك بالنسبة إلى الراكب المجد كما وقع في كثير من أخبار فيها تقدير مسافة وقوله عليه الصلاة و السلام في السماء الدنيا : موج مكفوف يمكن أن يكون من التشبيه البليغ في اللطافة ونحوها أو هو على حقيقته والتنوين فيه للنوعية حتى يقوم الدليل العقلي الصحيح على امتناعها وتزيين هذه السماء بالكواكب لظهورها فيها على ما يشاهد فلا يضر في ذلك كونها كلا أو بعضا فوقها أو تحتها ولم يقم دليل على أن شيئامن الكواكبمغروز في شيء من السماوات كالفص في الخاتم والمسمار في اللوح بل في بعض الأخبار ما يدل على خلافه نعم أكثر الأخبار في أمر السماوات والأرض والكواكب لا يعول عليها كما أشار إليه النسفي في بحرالكلام وكذاما قاله قدماءأهل الهيئة ومحدثوهم وفي كل مما ذهب الفريقان إليه ما يوافق أصولنا وما يخالفهوما شريعتنا ساكتة عنه لم تتعرض له بنفي أو إثبات وحيث كان من أصولناأنه متى عارض الدليل العقليالدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي للديل العقلي لأنه أصلهولو أبطل به لزم بطلانه نفسه فالأمرسهل لأن باب التأويل أوسع منفلك الثوابت ولا أرىبأسا في ارتكاب تأويل بعض الظواهر المستبعدةبما لا يستبعد وإن لم يصل الأستبعاد إلى حد الأمتناع إذا تضمن ذلك مصلحة دينية ولم يستلزم مصادمة معلوم من الدين بالضرورة وقد يلتزم الإبقاء على الظاهر وتفويض الأمر إلى قدرة الله تعالى التي لا يتعاصاها شيء رعاية لأذهان العوام المقيدين بالظواهر يعدون الخروج عنها لا سيما إلى ما يوافق الحكمة الجديدة ضلالا محضا وكفرا صرفا ورحم الله عالى امرءاجب الغيبة عن نفسه
وقد أخرجعبد بن حميد وابن الضريس وابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها وبالجملة منصدق بسعة ملك الله تعالى وعظيم قدرتهD لا ينبغي أن يتوقف عن وجود سبع أرضين على الوجه الذي قدمناه ويحمل السبع على الأقاليم أوعلى الطبقات المعدنيةوالطينية ونحوهما مما تقدم وليس في ذلك ما يصادم ضروريا من الدين أو يخالف قطعيا من أدلة المسلمين ولعل القول بذلك التعدد هو المتبادر من الآية وتقتضيه الأخبار ومع هذا هوليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أو المتردد فيه لكن لا أرى ذلك إلا عن جهل بما هو الأليق بالقدرة والأحرى بالعظمة والله عالى الموفق للصواب
يتنزل الأمر بينهن أي يجري أمر الله تعالى وقضاؤه وقدره عز و جل بينهن وينفذ ملكه فيهنوأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال : في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه تعالى وأمر من أمره وقضاء من قضائه عز و جل وقيل : يتنزل المر بينهن بحياة وموت وغنى وفقر وقيل : هو ما يدبره سبحانه فيهنمن عجيب تدبيره جل شأنه وقال مقاتل وغيره : الأمر هنا الوحي و بينهن إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة والأكثرون على أنه القضاء والقدر كما سبق وأن بينهن إشارة
(28/145)
إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها وقرأ عيسى وأبو عمرو وفي رواية ينزل مضارع نزل مشددا الأمر بالنصب أي ينزل الله الأمر لتعلموا أن الله عل كل شيء قدير متعلق بخلق أو بيتنزل أو بمضمر يعمهما أي فعل ذلك لتعلموا أن من قدر عل ما ذكر قادر عل كل شيء وقيل : التقدير أخبرتكم أو أعلمتكم بذلك لتعلموا وقريء ليعلموا بياء الغيبة
وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
12
- لاستحالة صدور هذه الأفاعيل ممن ليس كذلك
سورة التحريم
ويقال لها : سورة المتحرم وسورة لمتتحرم وسورة النبي صلى الله عليه و سلم وعن ابن الزبير سورة النساء والمشهور أنها مدنية وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر والباقي مكي وآيها اثنتا عشرة آية بالأتفاق وهي متواخية مع التي قبلها في الأفتتاح بخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتلك مشتملة على طلاق النساء وهذه على تحريم الإماء وبينهما من الملابسة ما لا يخفى ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة
بسم الله الرحمن الرحيم يآ أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك روى البخاري وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يمكثعند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت له فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود وفي رواية وقد حلفت فلا تخبرني بذلك أحدا فنزلت يا أيها النبي لم تحرم الخ وفي رواية قالت سودة : أكلت مغافير قال : لا قالت : فما هذه الريح التي أجد منك قال : سقتني حفصة شربة عسل فقالت : حرست نحلة العرفط فحرم العسل فنزلت وفي حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة والقائلة سودةوصفية
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال الحافظ السيوطي : بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت : إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت : إني أجد منك ريحا فقال : أراه من شرابشربته عند سودة والله لا أشربه فنزلت وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم الخ ويوافقه ما أخرجه البزاز والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال : نزلت يا أيها النبي لم تحرم الآية في سريته
والمشهور أنها مارية وأنه عليه الصلاة و السلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال
(28/146)
صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها قالت : بلى فحرمها وفي رواية أن ذلك كانفي بيت حفصة في يوم عائشة وفي الكشاف روي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لهل : اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين
وبالجملة الأخبار متعارضة وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي : قال النووي في شرح مسلم : الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلا عنه أيضا : الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم
والمغافير : بقتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء على ما صوبه القاضي عياض جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ والمغفور شوك له نور يأكل منه النحل يظهر العرفط عليه وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحب الطيب جدا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأنالملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى وفي ندائه صلى الله تعالى عليه وسلم بيا أيها النبي في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى ونظير ذلك قوله عالى : عفا اللهعنك لم أذنت لهم والمراد بالتحريم الأمتناع وبما أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى أو وطء سريته على ما في بعض الروايات ووجه التعبير بما على هذين التفسيرين ظاهر
وفسر بعضهم ما بمارية والتعبير عنها بما على ما هو الشائع في التتعبير بها عن ملك اليمين والنكتة فيه لا تخفى وقوله عالى : تبتغي مرضات أزواجك حال من فاعل تحرم واختاره أبو حيانفيكون هو محل العتاب على مكا قيل وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتا أو نفيا أو يكون التقييد على نحو أضعافا مضاعفة على أن التتحريم في نفسه محل عتب والباعثعليه كذلك كما فيالكشف أو استئناف نحوي أو بياني وهو الأولى ووجه أن الأستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر نمنه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى : إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فقيل : تبتغي مرضات أزواجك ومثلك منأجل أن تطلب مرضاتهن بمثل ذلك وجوز أن يكون تتفسيرا لتحرم بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريممبالغة في كونه سببا له وفيه من تفخيم الأمر ما فيه والإضافة في أزواجك للجنس لا للأستغراق
والله غفور رحيم
1
- فيه تعظيم شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن يكن في نفسه كذلك وأن عتابه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الأعتناء به وقد زل الزمخشري ههنا كعادته فزعم أن ما وقع من حريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليهالصلاة والسلام وقد شن ابن المنير في الأتصاف الغارة في الشنيع عليه فقال ما حاصله : إن ما أطلقه في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة و السلام منه براء وذلك أن تحريم الحلال
(28/147)
على وجهين : الأول ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلا والثاني الأمناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض ولو كان ترك المباح والأمتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال وما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة و السلام أن يراعي مرضات أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله عالى به وتأول بعضهم كلام الزمخشري وفيه ما ينبو عن ذلك
وقيل : نسبة التحريم إليه صلى الله تعالى عليه وسلم مجاز والمراد لم تكون سببا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه هذا لا يحتاج إليه وفي وقوع الحلف خلاف ومن قال به احتج ببعض الأخبار وبظاهر قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم وليس مصدر مقيسا والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل وأصله تحللة فأدغم وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك ويحل أيضا بصديق اليمين كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يمو لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم يعني وإن منكم إلا واردها الخ وتحليله بأقل ما يقع عليه الأسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الأجتياز اليسير وكذا يحل بالأستثناء أي بقول الحالف : إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل بمعنى الأستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الأطلاق بالأستثناء حتى لا تنعقد ومنه حلا أبيت اللعن وعلى القولبأنه كان منه عليه الصلاة و السلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطي صلى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا فعن الحسن أنه عليه الصلاة و السلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدممن ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة و السلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب وعن مقاتل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة و السلام أعطي الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها ومثله عن الشعبي واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته : أنت علي حرام أو الحلال على حرام ولم يستثن زوجته فقيل : قال جماعة منهم مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ : هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها وابن عباس أيضا في رواية والشافعي في قول في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يميمنا في كل شيء ويعتبر الأنتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم
(28/148)
تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين وإن نوى ثلاثا فكما نوى وإن قال : نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في حكم قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف وقال جماعة : إن لم يرد شيئا فهو يمين وفي الحرير قال أبو حنيفة وأصحابه : إن النوي الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث أو لم ينو شيئا فمول أو الظهار فظهار وقال ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا وقال يحيى بن عمر : : يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان : لا شيء عليه وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة وقال ابن جبير : عليه عتق رقبة وإنلم يكن ظهارا وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ففيه كفارته وعن الشافعي إننوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق أو لم ينو فكفارة يمين وقال مالك : يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث في غير المدخول بهاوقال ابن أبي ليلى وعبد الملك ابن الماجشون : تقع ثلاث في الوجهين وروي ابن خويز منداد عن مالك وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان : تقع واحدة بائنة فيهما وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : واحدة رجعية وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم : يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن وأما الطلاق فرجعي عنده وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث وعن زيد واحدة بائنة وعن عثمان ظهار وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أنه قال : من حرم امرأته فليس بشيء
وقرأ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وللنسائي أنه أتاه رجل فقال : جعلت امرأتي علي حراما قال : كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك عليك اغلظ الكفارةعتق رقبة إلىغير ذلك من الأقوال وهي في هذه المسألة كثيرة جدا وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا أو تحريمالمرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا
وأجيببأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية : والله لا أطؤها أو في العسل والله لا أشربه وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده والله تعالى أعلم
والله مولاكم سيدكم ومتولي أموركم وهو العليم فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الحكيم
2
- المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة وإذا أسر
(28/149)
أي واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة نعم رواه ابن مودويه عن ابن عباس وهو شاذ حديثا هو قوله عليه الصلاة و السلام على ما في بعض الروايات : لكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا فلما نبأت أي أخبرت
وقرأ طلحة أنبأت به أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أنه عليه الصلاة و السلام كما في البخاري وغيره كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة كما يشعر به لفظ كان فاستخفها السرور فنبأتبذلك وأظهره الله عليه أي جعل الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرا على الحديث مطلعا عليه من قوله تعالى : ليظهره عل الدين كله والكلام على ما قيل : على التجوز أو تقدير مضافأي على إفشائه وجوز كون الضمير لمصدر نبأت وفيه تفكيك الضمائر أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت على إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل عرف أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة بعضه أي الحديثأي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته
والمراد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها : قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل : هو قوله لها : كنت شربت عسلا عند زينت ابنة جحش فلن أعود وأعرض عن بعض هو على ما قيل قوله عليه الصلاة و السلام : وقد حلفت فلم يخبرها به تكرما لما فيه من مزيد خجلتها حيث أنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله تعالى عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك وهذا من كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام وقال الشاعر : ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي وجوز أن يكون عرف بمعنى جازى أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة و السلام إياها وتجاوز عن بعض وأيد بقراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبي عمرو في رواية هارون عنه عرف بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى : أظهره الله عليه مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة
قال الأزهري في التهذيب : من قرأ عرف بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك : والله لأعرفن لك ذلك واستحسنه الفراء وقول القاموس : هو بمعنى الإقرار لا وجه له ههنا وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم وأيد المعنى الأول بقوله عالى : فلما نبأها به قالت لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير
3
- الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام وهذا على ما في البحر
(28/150)
على معنى بهذا وقرأ ابن المسيب وعكرمة عراف بعضه بألف بعد الراء وهي إشباع وقال ابن خالويه ويقال : إنها لغة يمانية
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأنأبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو وقيل : بالعكس وقد جاء أسرار أمر الخلافة في عدة أخبار فقد أخرج ابن عديوأبو نعيم في فضائل الصديق وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا : إن أمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا قال لحفصة : أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال : في الآية أسر صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حفصةأن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال : لما حرم عليه الصلاة و السلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد ذالله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبها في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح والجمع بين الأخبار مما لا يكاد يتأتى
وقصارى ما يمكن أن يقال : يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرح العسل واتفق له عليه الصلاة و السلام قبيل ذلك أو بعيده أو وطيء جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما والبعض الآخر على نقل الأخرى وقال كل : فأنزل الله تعالى يا أيها النبي الخ وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الأختلاف وإلا فاطلب لك غيره والله تعالى أعلم
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق وأنه يلزمه كتمه وفيها على ما قيل : دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب وقد روي أن عبد الله بن رواحة وكان من النقباء كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة فقال قولا بالتعريض فقالت : إن كنت لم تقر بها فاقرأ القرآن فأنشد : شهدت فلم أكذب بأن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل في دينه متقبل وأن التي بالجزع من بطن نخلة ومن دانها كل عن الخير معزل
(28/151)
فقالت : زدني فأنشد : وفينا رسول الله يتلو كتابه كما لاح معروف من الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا به موقنات إن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا رقدت بالكافرين المضاجع فقالت : زدني فأنشد : شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن محمدا يدعو بحق وأن الله مولى المؤمنيا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا ويحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا فقالت : أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك وفي رواية أنها قالت وقد كانت رأته على ما تكره إذن صدق الله وكذب بصري فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم وقال : خيركم خيركم لنسائه إن تتوبا إلى الله خطاب لحفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الألتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولا بعيدا عن ساحة الحضور ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد وكونالخطاب لهما لما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والتترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس قال : لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتين قال الله عالى : إن تتوبا الخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فنزل ثم أني صببت على يديه فتوضأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : إن تتوبا الخ فقال : وأعجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله ومعنى قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب فقد صغت قلوبكما أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة وجعلها ابن الحاجب جوابا من حيث الأعلام كما قيل في : إن تكرمنياليوم فقد أكرمتك أمس وقيل : الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما وقوله تعالى : فقد صغت الخ بيان لسبب التوبة وقيل : التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما وما ذكر دليل على ذلك قيل : وإنما لم يفسروا فقد صغت قلوبكما بمالتإلى الواجب أو الحق أو الخير حتآ يصح جعله جوابا من غير احتياج إلى نحو ما تقدملأن صيغة الماضي وقد وقراءة ابن مسعود فقد زاغتت قلوبكما وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضيا وإن لم يكن لفظ كان وفيه نظر والجمع في قلوبكما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد قال أبو حيان : لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله :
(28/152)
حمامة بطن الواديين ترنمي
وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في التسهيل : ويختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية وإن تظاهرا عليه بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء وهي قراءة عاصم ونافع في رواية وطلحة والحسن وأبو رجاء وقرأ الجمهور تظاهرا بتشديد الظاء وأصله تتظاهرا فأدغمتالتاء في الظاء وبالأصل قرأ عكرمة وقرأ أبو عمرو في رواية أخرى تظهرا بتشديد الظاء والهاء دون ألف والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره
فإن الله هو مولاه أي ناصره والوقف على ما في البحر وغيره هنا أحسن وجعلوا قوله تعالى : وجبريل مبتدأ وقوله سبحانه : وصالح المؤمنين والملائكة معطوفا عليه وقوله عز و جل : بعد ذلك أي بعد نصرة الله تعالى متتعلقا بقوله جل شأنه : ظهير
4
- وجعلوه الخبر عن الجميع وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون واختير الإفراد لجعلهم كشيء واحد وجوز أن يكون خبرا عن جبريل وخبر ما بعده مقدر ونظير ما قالوا في قوله : ومن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيار بها لغريب وجوز أن يكون الوقف على جبريل أي وجبريل مولاه وصالح المؤمنين مبتدأ وما بعده معطوف عليه والخبر ظهير وظاهر كلام الكشاف اخيار الوقف على المؤمنين فظهير خبر الملائكة وعليهغالب مختصريه وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبرا وهو إما لفظ مول مرادا به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي وجبريل مولاه أي قرينه وصالح المؤمنين مولاه أي تابعه أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه ولا مانع من أن يكون المولى في الجميع بمعنى الناصر كما لا يخفى وزيادة هو على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز و جل متولي ذلك بذاته تعالى وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء وأنه للتقوى لا للحصر والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح وإن كان كلام الكساكي موهما الوجوب هذا والمبالغةمحقق على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون وجبريل وما بعده مخبرا عنه بظهير وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتتنع على نحو زيد المنطلق وعمرو وكذا في الكشف ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأسالكروبيين والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير وأريد به الجمع هنا ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر ولذا عم بالإضافة وجوز أن يكون اللفظ جمعا وكان القياس أن يكتب وصالحوا بالواو إلا أنها حذفت خطا تبعا لحذفها لفظا وقد جاءت أشياء في المصحفتبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو ويدع الإنسان ويدع الداع و سندعالزبانية وهل أتاك نبأ الخصم إلى غير ذلك وذهي غير واحد أن الإضافة للعهد فقيل : المراد به الأنبياء عليهم السلام
وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد ومظاهرتهم له قيل : تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبيمن الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل : علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب وروي الإمامية عن أبي جعفر أن النبي
(28/153)
صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال : يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال : هو عمر بن الخطاب وأخرج هو وجماعة عن سعيد ابن جبير قال : وصالح المؤمنين نزل في عمر بن الخطاب خاصة وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال : وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم وقيل : الخلفاء الأربعة
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس قالا : نزلت وصالح المؤمنين في أبي بكر وعمر وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما وأخرج الحاكم عن أبي أمامة والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر وأخرج ابنعساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أبي يقرؤها وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وأن جبريل عليه السلام ظهير له صلى الله عليه و سلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنيتهما وتوهينا لأمرهما
وأنا أقول العموم أولى وهما وكذا علي كرم الله تعالى وجهه يدخلان دخولا أوليا والتنصيص على بعض الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكة اقتضت ذلك لا لأرادة الحصر ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك : من صالح المؤمنينأبو بكر وعمر وفائدة بعد ذلك التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز و جل وإن تنوعت ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة وفيهم جبريل أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده
وقيل : الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم وبالجملة فائدة بعد ذلك نحو فائدة ثم في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز و جل وأيا ما كان فإن شرطية وتظاهرا فعل الشرط والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب وسبب أقيم مقامه والأصل فإنه تظاهرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طعمهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة و السلام وعند المؤمنين لأمومتهما وكرامة له صلى الله عليه و سلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهمايجديهما نفعا
وقيل : المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه وفيه أيضا مزيد إغاطة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل : فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك مظاهرون له ومعينون إياه كذلك ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث
(28/154)
لم يقل ظهير له عليكما مثلا وكذا ترك المعان فيه وتخصيص صالح المؤمنين بالذكر وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير صالح المؤمنين بمن بريء من النفاق فتأمل
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أي أن يعطيه عليه الصلاة و السلام بدلكن أزواجا خيرا منكن والخطاب لجمع زوجاه صلى الله تعالى عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الألتفات وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور ويرشد إلى هذا ما أخرجه البخاري عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله خيرا منكن فنزلت هذه الآية وليس فيها أنه عليه الصلاة و السلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن مع أن المذهب على ما قيل : إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتتان أولا بقوله تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الخ فكأنه قيل : عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيرا منكما ومن غير كما من ألأزواج والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة و السلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا من أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله لأنالتعليق على طلاق الأثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة وقال الخفاجي التغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولا اثنتان وفي لفظة إن الشرطية أيضا الدالة على عدم وقوع الطلاق
وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في إن انتهى وفيه بحث ثم إن المشهور إن عسى في كلامه تعالى للوجوب وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط وقيل : هي كذلك إلا هنا والشرط معترض بين اسم عسى وخبرها والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى الخ و أزواجا مفعول ثان ليبدل و خيرا صفته وكذا ما بعد وقرأ أبو عمرو فيرواية عياش طلقكن بإدغام القاف في الكاف
وقرأنافع وأبو عمرو وابن كثير يبدله بالتشديد للتكثير مسلمات مقرات مؤمنات مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب وهو لا يكون إلا مخلصا أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات قانتان مصليات أو مواضبات على الطاعة مطلقا تائبات مقلعات عن الذنب عابدات متعبدات أو متذللات لأمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم سائحات صائمات كما قال ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال الفراء : وسمى الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه وإنما يأكل من حيث يجد الطعام وعن زيد بن أسلم ويمات مهاجرات وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب
وقرأ عمرو بن قائد سيحات ثايبات جمع ثيب من ثاب يثوب ثوبا وزنه كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها وأبكارا
5
- جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء وترك العطف
(28/155)
في الصفات السابقة لأنها صفات تتجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة ولم يؤت بأو قيل : ليكون المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار وقريب من ما قيل : وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر وفي الأنتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاجب أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة وكان الفاضل يتبجح باسترجاعها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله : أحدهما في التوبة التائبون العابدون إلى قوله سبحانه : والناهون عن المنكر والثاني في قوله تعالى : وثامنهم كلبهم والثالث في قوله تعالى : وفتحت أبوابها إلى أن ذكر ذلك يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري فبين له أنه واهم في عددها من ذلك القبيل وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بها ههنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه وقال : أرشدتنا يا أبا الجود انتهى
وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم من تزوجها ثيبا وفيهن من تزوجها بكرا وجاء إنه عليه الصلاة و السلام لم يتزوج بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنها بقولها : إن أمي تزوج بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت يآ أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا أي نوعا من النار وقودها الناس والحجارة تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب وروي أن عمر قال حين نزلت : يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا فقال عليه الصلاة و السلام : تنهوهن عمكا نهاكم الله وتتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية : علمواأنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم والمراد على ما قيل : ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة
واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه وفي الحديث رحم الله رجلا قال : يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة وقيل : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله
وقريء وأهلوكم بالواو وهو عطف على الضمير في قوا وحسن العطف للفصل بالمفعول والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري وذكر ما حاصله أن الأصل قوا أنتموأهلوكمأنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها فقدم أنفسكم وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب وكذا اعتبر التغليب في قوا وفيه
(28/156)
تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية
وقرأالحسن ومجاهد وقودها بضم الواو أي ذو وقودها وتتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة عليها ملائكة أي أنهم موكلون عليها يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل : وأعوانهم غلاظ شداد غلاظ الأقوال شداد الأفعال أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه لا يعصون الله ما أمرهم صفة أخرى لملائكة و ما في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره تعالى كقوله تعالى : أفعصيت أمري أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به ويفعلون ما يؤمرون
6
- أي الذي يأمرهم عز و جل به والجملة الأولى لنفي المعاندة والأستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فهي كقوله تعالى : لا يستكبرون عن عبادته والثانية لأثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى : ولا يستحسرون إلى لا يفترون وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيانأصله المنع والإباء وعصيان الأمر صفة الباطن بالحقيقة لأن الأتيان بالمأمور إنما يعد طاعة إذا كان بقصد الأمتثال فإذا نفى العصيان عنهم دل على قبولهم وعدمإبائهم باطنا والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الأستمرار المستفاد من يفعلون فلا تكرار وفي المحصول لا يعصون فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية ويفعلون ما يؤمرون في الآتي
وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله عز و جل والغضب له سبحانه
يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الأعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم إنما تجزون ماكنتم تعملون
7
- في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنهما أشد النهي وأمرتم بالإيمان والطاعة على أتم وجه يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله من الذنوب
توبة نصوحا أي بالغة النصح فهو من أمثلة المبالغة كضروب وصفت التوبة به عل الإسناد المجازي وهو وصف التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها ولعله ما تضمنه ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما التوبة النصوح قال : أن يندم العبد عل الذنب الذي أصاب فيعتذر إل الله تعالى ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع وروي تفسيرهابما ذكر عن عمر وابن مسعود وأبي والحسن ومجاهد وغيرهم وقيل : نصوحا من نصاحة الثوب أي خياطته أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك وقيل : خالصته من قولهم : عسل ناصح إذا خلص من الشمع وجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعمال
(28/157)
الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها وفي المراد أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين قولا : منها ما سمعت
وقرأ زيد بن علي توبا بغير تاء وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع نصوحا بضم النون وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور والكفر والكفور أي ذات نصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له
هذا والكلام في التوبة كثير وحيث كانت أهم الأوامر الإسلامية وأول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين لا بأس في ذكر شيء مما يتعلق بها فنقول : هي لغة الرجوع وشرعا وصفا لنا على ما قال السعد : الندم على المعصية لكونها معصية لأن الندم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلا لا يكون توبة وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة ففي كونه توبة تردد ومبناه على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا وكذا الندمعليها لقبحها مع غرض آخر والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كمال إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما وكذا في التوبة عند مرض مخوض بناءا على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف وظاهر الأخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت ويتحقق أمره عادة ومعنى الندمتحزن وتوجع على أنفعل وتمني كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروح إلى بعض المباحات ليس بتوبة ولقوله عليه الصلاة و السلام : الندم توبة وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة
واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه وقد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلا أوجب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الإشعار بالقدرة والأختيار
وأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطوط والأقتدار حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك وبذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال : إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن التوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح ممن يتمكن من مثل ما قدمه ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا ومن الأخرس العزم على ترك القذف وقال بعض الأجلة : التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للبيان والتقدير لا للتقييد والأحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخلو عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والأقتدار وعلامة الندم طول الحسرة والخوف وانسكاب الدمع ومن الغريب ما قيل : إن علامة صدق الندم عن ذنب كالزنا أن لا يرى في المنام أنه يفعله اختيارا إذ يشعر ذلك ببقاء حبه إياه وعدم انقلاع أصوله من قلبه بالكلية وهو ينافي صدق الندم وقال المعتزلة : يكفي في التوبة أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لأفضائه إلى التكليف بما لا يطاق
وقال الإمام النووي : التوبة ما استجمعت ثلاثة أمور : أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما على أن لا يعود إلى مثلها أبدا فإن كانت تتعلق بآدمي لزم الظلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه وركنها الأعظم الندم
وفي شرح المقاصد قالوا : إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف وقد تفتقر لإلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب
(28/158)
وتسليم ما وجب في ترك الزكاة ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم والعزم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغضب والقتل العمد ولزم إرشادهإن كان الذنبإضلالا له والأعتذار إليه إن كان إيذاءا كما في الغيبة إذا بلغته ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر عن التوبة على ما قال إمام الحرمين من أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تتستدعي توبة ولا يقدح في التوبة عن القتل ثم قال : وربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغضب ففرق بينالقتل والغضب ووجهه لا يخفى على المتأمل ولم يختلف أهل السنة وغيرهم في وجوب التتوبة على أرباب الكبائر واختتلف في الدليل فعندنا السمع كهذه الآية وغيرها وحمل الأمر فيها على الرخصة والإيذان بقولها ودفع القنوط كما جوزه الآدمي احتمال وبني عليه عدم الإثابة عليها مما لا يكاد يقبل وعند المعتزلة العقل وأوجبت الجهمية التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا وأهل السنة على ذلك ومقتضى كلام النووي والمازني وغيرهما وجوبها حال التلبس بالمعصية وعبارة المازري اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة
وفي شرح الجوهري أن التمادي على النذب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه وساعتين إثمان وهلم جرا بل ذكروا أن بتأخير التوبة على الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان : المعصية وترك التوبة وساعتينأربع : الأوليان وترك التوبة على كل منهما وثلاث ساعات ثمان وهكذا وتصح عن ذنب دون ذنب لتحقق الندم والعزم على عدمالعود وخالف أبو هاشم محتجا بأن الندمعلى المعصية يجب أن يكون لقبحها وهو شامل لها كلها فلا يتحقق الندمعلى قبيح مع الأصرار على آخر
وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية وهذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم وتاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي أما هو فتوبته صحيحة وإسلامه كذلك بالإجماع ولا يعاقب إلا عقوبةتلك المعصية نعم اختلف في أن مجرد إيمانه هل يعد توبة أم لابد من الندمعلى سالف كفره فعند الجمهور مجرد إيمانه توبة وقال الإمام والقرطبي : لا بد من الندم على سالف الكفر وعدم اشتراط العمل الصالح مجمع عليهعند الأئمة خلافالابن حزم وكذا تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه ولو لم يشق عليه تعيينه وخالف بعض المالكية فقال : إنما تصح إجمالا مما علم إجمالا وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا ولا تنتقض التوبة الشرعية بالعود فلا تعود عليه ذنوبه التي تاب منها بل العود والنقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها
وقالالمعتزلة من شروط صحتها أن لا يعاود الذنب فإن عاوده انتقضت توبته وعادت ذنوبه لأن الندم المعتبر فيها لا يتحقق إلا بالأستمرار ووافقهم القاضي أبو بكر والجمهور على أن استدامة الندم غير واجبة بل الشرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه ويدفعه لأنه حينئذ دائم حكما كالإيمان حال النوم ويلزم من اشتراط الأستدامة مزيد الحرج والمشقة وقال الآدمي : يلزم أيضا اختلاف الصلوات وسائر العبادات ويلزم أيضا
(28/159)
أن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا وأن يجب عليه إعادة التوبة وهو خلاف الإجماع نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التوبة منها هل يجب عليه أن يجدد الندم وإليه ذهب القاضي منا وأبو علي من المعتزلة زعما منهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحابها وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة وقد قال القاضي نفسه : إنه إذا لم يجدد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذ العبادة المضاية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها انتهى
وبعد وجوب التجديد عند ذكر المعصية صرح إمام الحرمين ويفهم من كلامهم أن محل الخلافإذا لم يبتهج عند ذكر الذنب به ويفرح ويتلذذ بذكره أو سماعه والأوجب التجديد اتفاقا وظاهر كلامهم أن المعاودة غير مبطلة ولو كانت في مجلس التوبة بل ولو تكررت تكرارا يلتحق بالتلاعب وفي هذا الأخير نظر فقد قال القاضي عياض : إن الواقع في حق الله تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب ليكون ذلك زجرا له ولمثله إلا من تكرر ذلك منه وعرف استهانته بما أتى به فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته انتهى
وينبغي عليه أن يقيد ذلك بأن لا تكثر كثرة تشعر بالإستهانة وتدخل صاحبها في دائرة الجنون واختلف في صحة التوبة الموقتة بلا إصرار كأن لا يلابس الذنوب كذا سنة فقيل : تصح وقيل : لا وفي شرح الجوهرة قياس صحتها من بعض الذنوب دون بعض صحتها فيما ذكر ثم إن للتوبة مراتب من أعلاها ما روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه سمع أعرابيا يقول : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك فقال : يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين فقال الأعرابي : وما التوبة قال كرم الله تعالى وجهه : يجعلها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة وللفرائض الأعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي وأريد بإعادة الفرائض أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التوبة لمخامرته للنجاسة غالبا وهذه توبة نحو الخواص فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم وأضرابه كما لا يخفى ثم إنه تعالى بين فائدة التوبة بقوله سبحانه : عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار قبل : المراد أنه عز و جل يفعل ذلك لكن جيء بصيغة الأطماع للجري على عادة الملوك فإنهم إذا أرادوا فعلا قالوا : عسى أن نفعل كذا والإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه والتوبة غير موجبة له وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوفورجاء وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة واستدلبالآية على عدم وجوب قبول التوبة لأن التكفير أثر القبول وقد جيء معه بصيغة الإطماع دون القطع وهذه المسألة خلافية فذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى قبولها عقلا وأتوا في ذلك بمقدمات مزخرفات وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر : يجب قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري : بل بدليل قطعي ومحل النزاع بين الأشعري وتلميذه ما عدا توبة الكافر أما هي فالأجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى : قل للذين كفروا وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف بخلاف ما جاء في توبة
(28/160)
غيره فإنه ظاهر وليس بنص في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى : قل يا عبادي الذين أ
رفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله وأما حديث التوبة تجب ما قبلها فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه وهذا وما قبله ذكرهما القاضي لما قيل له : إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن : وقال ابن عطية : إن جمهور أهل السنة على قول القاضي والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته ولو كان مقطوعا به لما كان للدعاء معنى ومثل ذلك وجوب الشكر على القبول فإنه لو كان واجبا لما وجب الشكر عليه
وتعقب ذلك السعد بأنه ربما يدفع بأن المسئول في الدعاء هو استجماعها لشرائط القبول فإن الأمر فيه خطيرووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا في نفسه كتربية الوالد لولده وقال الإمام النووي : لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عند أهل السنة لكنه سبحانه يقبلها كرما منه وتفضلا وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع فلا تغفل وقريء يدخلكم بسكون اللام وخرجه أبو حيان على أن يكون حذف الحركة تخفيفا وتشبيها لما هو في كلمتين بالكلمة الواحدة فإنه يقال في قمع : قمعوفي نطع : نطع وقال : إنه أولى منكونه للعطف على محل عسى ربكم أن يكفر واختاره الزمخشري كأنه قيل : توبوا يرج تكفير أو يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم يوم لا يخزي الله النبي ظرف ليدخلكم وتعريف النبي للعهد والمراد بهسيد الأنبياء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد بنفي الأخزاء إثبات الكرامة والعز
وفي القاموس يقال : أخزى الله تعالى فلانا فضحه وقال الراغب : يقال : خزي الرجل لحقه إنكسار إما من نفسهوهو الحياء المفرط ومصدرهالخزاية وإما من غيره وهو ضرب من الأستخفاف ومصدره الخزي و يوملا يخزي الله النبي وهو من الخزي أقرب ويجوز أن يكون منهما جميعا والذين آمنوا معه عطف عليهE وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق واستحماد على المؤمنين على أن عصمهم من مثل حالهم والمراد بالإيمان هنا فرده الكامل على ما ذكره الخفاجي وقوله تعالى : نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم أي على الصراط كما قيل ومر الكلام فيه جملة مستأنفة وكذاقوله سبحانه : يقولون الخ وجوز أن تكون الجملتان في موضع الحال من الموصول وأن تكون الأولى حالا منه والثانية حالا من الضمير في يسعى وأن تكون الأولى مستأنفة والثانية منالضمير وأن تكون الأولىحالا من الموصول والثاني مستأنفة أو حالا من الضمير وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره معه والجملتان خبران أو مستأنفان أو حالان من الموصول أو الأولى حال منه والثانية حال من الضمير أو الأولى مستأنفة والثانية حال من الضمير أو الأولى حال والثانية مستأنفة أو الأولى خبر بعد خبر والثانية حال منالضمير أو مستأنفة وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : نورهم يسعى الخ والجملة الأخرى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر فهذه عدة احتمالات لا يخفى ما هو الأظهر منها
والقول على ما روي عن ابن عباس والحسن : يكون إذا طفيء نور المنافقين أي يقولون غذا طفيء نور المنافقين ربنا أتمم علينا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير
8
- وفي رواية أخرى عن الحسن يدعون تقربا إلى الله تعالى مع تمام نورهم وقيل : يقول ذلك من يمر على الصراط زحفا وحبوا
(28/161)
وقيل : من يعطى من النور بقدر ما يبصر به موضع قدمه ويعلم منه عدم تعين حمل الإيمان على فرده الكامل كما سمعت عن الخفاجي وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة وبإيمانهم بكسر الهمزة على أنهمصدر معطوف على الظرف أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم يآ أيها النبي جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه
وعن الحسن أكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقين فأمر عليه الصلاة و السلام أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود و وحكى الطبرسي عن الباقر أنه قرأ جاهد الكفار بالمنافقين وأظن ذلك من كذب الإماميةعاملهم الله تعالىبعد له ومأواهم جهنم أي وسيرون فيها عذابا غليظا وبئس المصير
9
- أي جهنمأو مأواهم والعطف قيل : من عطف القصة على القصة ضرب الله مثلا للذين كفروا ضرب المثل في مثل هذا الموقع عبارة عن إيراد حالة غريبة لتعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل الله تعالى مثلا لحال الكفرة حالا ومآلا على أن مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به وقوله تعالى : امرأتنوح واسمها قيل : والعة وامرأت لوط واسمها قيل : واهلة وقيل : والهة وعن مقاتل اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة مفعوله الأول وأخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما ويتضح بذلك حال الكفرة والمراد ضرب الله تعالىمثلا لحال أولئك حال امرأة الخ فقوله تعالى : كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين بيانا لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح ولم يقل : تحتهما للتعظيم أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة وحيازة سعادتهما وقوله عالى : فخانتهما بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينافيهما من مرافقة النبي عليه الصلاة و السلام أما خيانة امرأة نوح عليه السلام فكانت تقول للناس : إنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف رواه جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس
وأخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن الضحاك أنه قال : خيانتهما النميمة وتمامه في رواية : كانتا إذا أوحى الله عالى بشيء أفشتاه للمشركين وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : خيانتهما أنهما كانتا كافرتين مخالفتين وقيل : كانتا منافقتين والخيانة والنفاق قال الراغب : واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيضها الأمانة وحمل ما في الآية على هذا ولا تفسر ههنا بالفجور لما أخرج غير واحد عن ابن عباس ما زنت امرأة نبي قط ورفعه أشرس إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكشاف لا يجوز أن يراد بها الفجور لأنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أحد بخلاف الكفر فإن الكفر لا يستسمجونه ويسمونه حقا
ونقل ابن عطية عن بعض تفسيرها بالكفر والزنا وغيره ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد : إن الحق منعها في حق الأنبياء عليهم السلام وما ينسب للشيعة مما يحالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم كذب عليهم فلا تعول عليه وكان شائعا وفي هذا على ما قيل : تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهملرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة وقوله تعالى :
(28/162)
فلم يغنيا الخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن ذانك العبدان الصالحان والنبيان العظيمان عنهما بحق الزواج من الله أي من عذابه عز و جل شيئا أي شيئا من الأغناء أو شيئا من العذاب
وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقق الوقوع ادخلا النار مع الداخلين
10
- أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام
وذكر غير واحد أن المقصود الإشارة إل أن الكفرة يعاقبون بكفرهم ولا يراعون بما بينهم وبين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الوصلة وفيه تعريض لأمهات المؤمنين وتخويف لهن بأنه لا يفيدهن إن أتين بماحظر عليهن كونهن تحت نكاح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليس في ذلك ما يدل عل أن فيهن كافرة أو منافقة كما زعمه يوسف ألأوالي من متأخري الإمامية سبحانك هذا بهتان عظيم
وقرأ مبشر بن عبيد تغنيا بالتاء المثناة من فرق و عنهما عليه بتقدير عن نفسهما قال أبو حيان : ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما كهي في : دع عنك لأنها إن كانت حرفا كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضميره المجرور وهو يجري مجرى الضمير وذلك لا يجوز وفيه بحث وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون أي جعل حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله عز و جل وهي أعلى غرف الجنة واسمها آسية بنت مزاحم وقوله عالى : إذا قالت ظرف لمحذوف أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك قيل : أي قريبا من رحمتك لتنزهه سبحانه عن المكان
وجوزفي عندك كونه حالا من ضمير المتكلم وكونه حالا من قوله تعالى : بيتا لتقدمه عليهوكان صفة لو تأخر وقوله تعالى : في الجنة بدل أو عطف بيان لقوله تعالى : عندك أو متعلق بقوله تعالى : ابن وقدم عندك لنكتة وهي كما في الفصوص الإشارةإلى قولهم : الجار قبل الدار وجوز أن يكون المراد بعندك أعلى درجات المقربين لأن ما عند الله تعالى خير ولأن المراد القرب من العرش و عندك بمعنى عند عرشك ومقر عزك وهو على ما قيل : الأحتمالات في إعرابه ولا يلزم كونه ظرفا للفعل ونجني من فرعون أي من نفسفرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم وعمله أي وخصوصا من عمله وهو الكفر وعبادة غير الله تعالى والتعذيب بغير جرم إلى غير ذلك من القبائح والكلام على أسلوب ملائكته وجبريل وجوز أن يكون المراد نجني من عمل فرعون فهو من أسلوب أعجبني زيد وكرمه والأول أبلغ لدلالته على طلب البعد من نفسه الخبيثة كأنه بجوهره عذاب يطلب الخلاص منه ثم طلب النجاة عمله ثانيا تنبيها على أنه الطامة العظمى وخص ببعضهم عمله بتعذيبه وعن ابن عباس أنه الجماع وما تقدم أولى ونجني من القوم الظالمين
11
- من القبط التابعين له في الظلم قاله مقاتل وقال الكلبي : من أهل مصر : وكأنه أراد بهم القبط أيضا والآية ظاهرة في أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث وذكر بعضهم أنها عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف العصا الإفك فعذبها فرعون
وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلامفقالت : رب ابن لي عندك بيتا في الجنة
(28/163)
فكشف لها عن بيتها في الجنة وهو على ما قال : من درة وفي رواية عبد بن حميد عنه أنه من وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعترأسها إلى السماء فقالت رب ابن لي إلى الظالمين ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأتته وقيل : أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله عالى فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه وعن الحسن فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها وظاهره أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح
وفي الآية دليل على أن الأستعاذة بالله عالى والألتجاء إايه عز و جل ومسألة الخلاص منه تعالى عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء وهو في القرآن كثير وقوله تعالى : ومريم ابنت عمران عطف على امرأة فرعون أي وضرب مثلا للذين آمنوا حالتها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والأصطفاء مع كون قومها كفارا وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لقلوبهن على ما قيل وهو من بدع التفاسير كما في الكشاف وقرأ السختياني ابنه بسكون الهاء وصلا أجراه مجرى الوقف التي أحصنت فرجها صانته ومنعته من الرجال وقيل : منعته عن دنس المعصية
والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح ومنه ما هنا عند الأكثرين فنفخنا فيه النافخ رسوله تعالى وهو جبريل عليه السلام فالإسناد مجازي وقيل : الكلام على حذف مضاف أي فنفخ رسولنا وضمير فيه للفرج واشتهر أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج
وروي ذلك عن قتادةوقال الفراء : ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة كل فرجة بين الشيئين وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع وفي مجمع البيان عن الفراء أن المراد منعت جيب درعها عن جبريلعليه السلام وكان ذلك على ما قيل : قولها إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا وأفاد كلام البعض أن أحصنت فرجها على ما نقل أولا عن الفراء كناية عن العفة نحو قولهم : هي نقي الجيب طاهر اذليل
وجوز في ضمير فيه رجوعه إلى الحمل وهو عيسى عليه السلام المشعر به الكلام وقرأ عبد الله فيها كما في الأنبياء فالضمير لمريم والإضافة في قوله تعالى : من روحنا للتشريف والمراد من روح خلقنا بلا توسط أصل وقيل : لأدنى ملابسة وليس بذاك وصدقت آمنتت بكلمات ربها بصحفه عز و جل المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره وسماها سبحانه كلمات لقصرها وكتبه بجمع كتبه والمراد بها ما عدا الصحف مما فيه طول أو التوراة والإنجيل والزبور وعد المصحف من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلا بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة و السلام فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم مذكورا بكتابه في الكتب الثلاث وتفسير الكلمات والكتب بذلك هو ما اختاره جمع وجوز غير واحد أن يراد بالكلمات ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام وبالكتب ما عرف فيها مما يشمل الصحف وغيرها وقيل : جميع ما كتب مما يشمل اللوح وغيره وأن يراد بالكلمات وعده تعالى ووعيده أو ذلك وأمره عز و جل ونهيه سبحانه وبالكتب أحد الأوجه السابقة وإرادة كلامه تعالى القديم القفائم بذاته سبحانه من الكلمات بعيد جدا وقرأ يعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم صدقت بالتخفيف ويرجع إلى معنى
(28/164)
المشدد وفي البحر أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى وما أظهره الله تعالى لها من الكرامات وفيه قصور لا يخفى
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري بكلمة على التوحيد فاحتمل أن يكون اسم جنس وأن يكون عبارة عن كلمة التوحيد وأن يكون عبارة عن عيسى عليه السلام فقد أطلق عليه السلام أنه كلمة اله ألقاها إلى مريم وقد مر شرح ذلك وقرأ غير واحد من السبعة وكتابه على الإفراد فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى عليه السلام وقرأ أبو رجاء وكتبه بسكون التاء على ما قال ابن عطية وبه وبفتح الكاف على أنه مصدر أقيم مقام الأسم على ما قال صاحب اللوامح
وكانت من القانتين
12
- أي من عداد المواظبين على الطاعة فمن للتبعيض والتذكير للتغليب والأشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم فهو أبلغ من قولنا : وكانت من القانتات أو قانتة وقيل : من لابتداء الغاية والمراد كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام ومدحها بذلك لما أن الغالب أن الفرع تابع لأصله والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وهي على ما في الأخبار سيدة النساء ومن أكملهن روي أحمد في مسنده : سيدة نساء أهل الجنة مريم : ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة وفي الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنه عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنتت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وخص الثريد وهو خبز يجعل في مرق وعليه لحم كما قيل : إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد لا اللحم فقط كما قيل لأن العرب لا يؤثرون عليه شيئا حتى سموه بحبوحة الجنة والسر على ما قال القطبي : إن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسعة المرور في المريء فضرب به مثلا ليؤذن بأنها رضي الله تعالى عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل فهي تصلح للبعل والتحدث والأستئناس بها والإصغاء إليها وحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه و سلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال وعلى مزيد فضلها في هذه السورة الكريمة من عتابها وعتاب صاحبتها حفصة رضي الله تعالى عنهما ما لا يخفى ثم لا يخفى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها من حيث البغعية لا يعد لها في الفضل أحد وتمام الكلام في ذلك في محله
وجاء بعض الآثار أن مريم وآسية زوجا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام وزعم نبوتها كزعم نبوة غيرهما من النساء كهاجر وسارة غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوة على الصحيح خلافا للأشعري وقد نبه على هذا الزعم العلامة ابن قاسم في الآيات البينات وهو غريب فليحفظ والله تعالى أعلم
تم الجزء الثامن والعشرون ويليه إن شاء الله الجزء التاسع والعشرون وأوله تبارك الذي بيده الملك 29
(28/165)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المانعة وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفظ بحديث تفرح به قال بلى قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر
وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المانعة وهي مكية على الأصح وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرجه ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس وفي قول غريب أنها مدنية وآيها حدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يرجحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز و جل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه
(29/2)
وقيل أن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق الله الذي خلق سبع سماوات لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها
وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك ومنها ما جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة والحمد لله الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم وأسأل الله تعالى التوفيق لما بعد والقبول
ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين والله تعالى الموفق
بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي بيده الملك البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه
ونسبتها إلى الله عز و جل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها قيل ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وأنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى وقد مر تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للإستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والإستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلية لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته أو إن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والإستيلاء كما قيل ولاستدعاء ذلك استغناء المتصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق على الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة والإستيلاء على كل موجود وقوله تعالى
وهو على كل شيء قدير تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز و جل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عز سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قدير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وإن كان عاما في كل ما يصح إن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الإحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه وأما عند
(29/3)
القائلين بأن علة الإحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الإختيار يستدعي سبق العدم وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلا أيضا لأن الإختصاص بالموجود فيه إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى الذي بيده الملك مطلق وقوله سبحانه وهو على كل شيء قدير عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء إما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود وفيه أيضا نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضا مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وإن لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلوا عن نظر فليتأمل ومن الناس من حمل الملك على الموجودات وجعل إليه مجازا عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازا عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز و جل مالكه فمعنى بيده الملك مالك الملك وفسر الراغب الملك في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى وقوله تعالى
الذي خلق الموت والحياة شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز و جل وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي الخ والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لأزلية الإعدام وأما ما روي عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي فهو أشبه بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره وقيل هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الإستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي أو أن الموت عدما مطلقا صرفا بل هو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الموت والحياة خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازا ولا يخفى الحال في هذه الإحتمالات ومن الغريب ما قيل أنه كني بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها وبالحياة عن الآخرة من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله صحة العلم والقدرة وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحث على حسن العمل ولذا ورد أكثروا من ذكر هاذم اللذات والحياة وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكرا لله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما
(29/4)
ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطاريء وحياتكم أيها المكلفون
ليبلوكم أي ليعاملكم معاملة من يختبركم
أيكم أحسن عملا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم وأصل البلاء الإختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز و جل حمل الكلام على ما ذكر ويرجع ذلك إلى الإستعارة التمثيلية واعتبار الإستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الآية أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز و جل أي أيكم أتم فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه وإيراد صيغة التفضيل مع أن الإبتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الإبتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الإندراج تحت الوقوع فضلا عن الإنتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز و جل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أي الفريقين خير مقاما ليس بذاك وأيكم أحسن مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان ليبلوكم وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا قيل فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن وأيضا لا تقع الجملة الإستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الإستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الإستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال الخليل فلم يمتنع وقوعها مفعولا ثانيا بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أيهم أحسن وإليه ذهب الطيبي ثم قال وقد أنصف صاحب الإنتصاف حيث قال التعليق على أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقا لما في الأختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله انظر أيهم أحسن وجها فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين وفي الإستفهام خاصة دون ما فيه لام الإبتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصا فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور وأما
(29/5)
الحمل عن الإضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختيارا لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيرا ما يسئل عن ذلك قديما وحديثا والله تعالى الموفق
وهو العزيز أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء
الغفور لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام
الذي خلق سبع سماوات قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلاء كما نطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا
وقوله تعالى طباقا صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثري وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمحذوف أي طوبقت طباقا والجملة في موضع الصفة وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالا من سبع سماوات لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجيء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة وأيا ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وإن لم يكفر منكر ذلك فيما أرى واختلف في موادها فقيل الأولى من موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة من حديد والرابعة من نحاس والخامسة من فضة والسادسة من ذهب والسابعة من زمردة بيضاء وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبرا يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز و جل على كل شيء قدير
وقوله تعالى ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سماوات وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير الرابط للتعظيم والإشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها وبأنه عز و جل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا وبأن في إبداعها نعما جليلة وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغنى من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا الضمير إما مذكورا وإما مقدرا ليس بحجة على جار الله والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره واستظهر أبو حيان أنه استئناف وإن خلق الرحمن عام للسماوات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئا من تفاوت أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالإختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر
وقال السدي أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصا وقال عطاء بن يسار
(29/6)
أي من عدم استواء وقيل أي من اضطراب وقيل أي من اعوجاج وقيل أي من تناقض ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطا وهو نوع من التجاذب لا يفوت بسببه بعضها عن بعض وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذبا على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والإرتباط يضعف قليلا قليلا على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جدا واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش من تفوت بشد الواو مصدر تفوت وحكى أبو زيد عن العرب في تفاوت فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر
وقوله تعالى فارجع البصر هل ترى من فطور متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الإخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي إن كنت في ريب من ذلك فارجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له والفطور قال مجاهد الشقوق جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر والظاهر أن المراد الشق مطلقا لا الشق طولا على ما هو أصله كما قال الراغب وفي معناه قول أبي عبيدة الصدوع وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتأم الفطور
وقول السدي الخروق وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هل ترى الخ قال أبو حيان في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فارجع البصر معنى فانظر ببصرك
ثم أرجع البصر كرتين أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض وهذا كما أريد بأصل المثنى التكثير في قوله
لوعد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الذام
فإنه يريد لو عدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس بشيء
ويؤيد الأول قوله تعالى ينقلب إليك البصر خاسئا فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل أنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة لكن في الصحاح يقال خسأ بصره خسأ وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسئا بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا
مع قوله تعالى وهو حسير أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة يقال حسر بعيره يحسر حسورا أي كل وانقطع فهو حسير ومحسور وقال الراغب الحسر كشف الملبس عما عليه يقال حسرت عن الذراع أي كشفت والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة ونوق حسرى والحاسر أيضا المعيي لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد
(29/7)
حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه وقرأ الخوارزمي عن الكسائي ينقلب بالرفع وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة
وقوله تعالى ولقد زينا السماء الخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء أثر بيان خلوها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدنيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس
بمصابيح جمع مصباح وهو السراج وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها وقيل للتنويع والأول أولى والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا ثم ثخن السماء الدنيا وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه فزينا السماء بمصابيح كقول القائل
زينت السقف بالقناديل
وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه أو كل منها في فلك وسماء غير السبع والإقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى أفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها قال يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذه الفضاء وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أحق بالإتباع نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه
وجعلناها رجوما للشياطين الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى جعلنا منها أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع
(29/8)
رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع وقيل أنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا والمراد بالشياطين مسترقوا السمع ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسايط وقال الشهاب لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى
وأقول لا يخفى أن ذلك المبني لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالأبروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك ثم أن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعدما يشاهد لها من الإنقضاض وإن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز و جل والضمير المنصوب في جعلناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الإطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها والكلام نحو قولك اسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمي بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمى به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو وأن يكون لتفاوت الإستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلا لرمي الشياطين فيحتمل
(29/9)
أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر وقيل معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فأرجع إليه أن إردته فإنه نفيس جدا
وأعتدنا لهم وهيأنا للشياطين
عذاب السعير عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون
وللذين كفروا بربهم من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع إيهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم
وقوله تعالى عذاب جهنم مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة لا يعذب غير الكفرة وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه عذاب بالنصب عطفا عن عذاب السعير أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم وبئس المصير أي جهنم
إذا ألقوا فيها أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة
سمعوا لها أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق محذوف وقع حالا من قوله تعالى شهيقا لأنه في الأصل صفته فلما قدمت صارت حالا أي سمعوا كائنا لها شهيقا أي صوتا كصوت الحمير وهو حسيسها المنكر الفظيع ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقولهم تعالى لهم فيها زفير وشهيق والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم اخسئوا فيها وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعهما منهم قبل
تكاد تميز أي والحال إنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وهي تفور أي ينفصل بعضها من بعض من الغيظ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الغيظ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح أنه الغضب أو أسوءه وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الإستعارة التصريحية ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ وجوز أن يكون الإسناد في تكاد تميز إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتها من الغيظ وقيل أن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فتغتاظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تكاد كما في قوله تعالى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفيه ما فيه والجملة
(29/10)
إما حال من فاعل تفور أو خبر آخر وقرأ طلحة تتميز بتائين وأبو عمرو تكاد تميز بإدغام الدال في التاء والضحاك تمايز على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن علي وابن أبي عبلة تميز من ماز
كلما ألقي فيها فوج استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة
سألهم خزنتها وهم مالك وأعوانه عليهم السلام والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني
ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا قالوا اعترافا بأنه عز و جل قد أزاح عللهم بالكلية بلى قد جاءنا نذير وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الإعتراف بمجيء النذير وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاءنا نذير أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته
فكذبنا ذلك النذير في كونه نذيرا من جهته تعالى وقلنا في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير ما نزل الله على أحد من شيء من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم
إن أنتم أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه إلا في ضلال كبير بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبيء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لادراجه تحت عبارتهم كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بين فأما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إن أنتم إلا في ضلال كبير فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وأما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إن أنتم وقوله سبحانه وقلنا ما نزل الله من شيء عطف على كذبنا قدم على صلته ليجري مجرى الإعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول
وقالوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لو كنا نسمع كلاما أو نعقل
(29/11)
شيئا ما كنا في أصحاب السعير أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى وأعتدنا لهم عذاب السعير وقيل الكفار مطلقا واختصاص إعداد السعير بالشياطين ممنوع لقوله تعالى إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا والآية لا تدل على الإختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا الخ وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأو للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع وقيل أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من السعير وأما إنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل
فاعترفوا بذنبهم الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عز و جل
فسحقا لأصحاب السعير أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم وقرأ أبو جعفر والكسائي فسحقا بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر
يجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق
وقيل هو مصدر إما فعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله
وإن أهلك فذلك كان قدري ...
أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله
وعضة دهريا ابن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر واللام في لأصحاب للتبيين كما في هيت لك وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بين أولا أحوال الشياطين حيث قاله سبحانه وأعتدنا لهم عذاب السعير ثم بين أحوال الكفار حيث قال عز و جل وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم والأوفق بقراءة النصب وإلا بعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فسحقا لأصحاب السعير فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحاب السعير على الشياطين والكفار جميعا ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الإختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق بل يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى ما كنا في أصحاب السعير بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذ يكون الداخل في السعير قسمين وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية لكنه عدل وغلب
(29/12)
أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترتب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا وقد عد ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الإفهام
إن الذين يخشون ربهم بالغيب أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم
لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم وأجر كبير لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني
وقوله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به خطاب عام للمكلفين كما في قوله أولا ليبلوكم عطف على مقدر قال في الكشف أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الإبتلاء فأجيب بقوله تعالى إن الذين يخشون الخ فأثبت لهم كمال العلم إنما يخشى الله من عباده العلماء وكمال التقوى لقوله تعالى بالغيب وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى أيكم أحسن عملا أي ليبلوكم أيكم المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون واعتقدوا استواء أسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى إن الذين الخ استطرادا عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وأسروا أو اجهروا على سبيل الإلتفات إلى أصحاب السعير لبعد العهد وزيادة الإختصاص عطفا على قوله تعالى وللذين كفروا كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء أو أبطنتموها فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول أملأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وأسروا الخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة و السلام فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة في شمول علمه عز و جل المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية
وقوله تعالى إنه عليم بذات الصدور تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الإستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل أنه عز و جل مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم
(29/13)
بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها
وقوله تعالى ألا يعلم من خلق إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يعلم أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها
وقوله تعالى وهو اللطيف الخبير حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خلق والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطى ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال ألا يعلم وهو عالم ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللطيف الخبير من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الإستغراق والإطلاق وتعقب بأن الإستغراق غير لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى ولما ورد ماء مدين الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة أن قوله تعالى ألا يعلم تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه أنه عليم بذات الصدور فربط المعنى أن يقال ألا يعلم هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس وقال ابن عطية الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الإنقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للإهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن
والفاء في قوله تعالى فامشوا في مناكبها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما جبالها وقال الحسن طرقها وفجاجها وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف واستعماله فيما ذكر على سبيل الإستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي ثم قال فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذلولا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق والمشبه هو
(29/14)
الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الإستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل وفي الكشاف المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها
وكلوا من رزقه انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعبر عن وجوه الإنتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الإلتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم قيل وهو المناسب لقوله تعالى امشوا وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الإكتفاء وليس بذاك واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب وفي الحديث أن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف وهذا لا ينافي التوكل بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال من أنتم فقالوا المتوكلون قال أنتم المتاكلون إنما المتوكل رجل ألقي حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز و جل وتمام الكلام في هذا الفصل في محله والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى
وإليه النشور أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عز و جل فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينهم منها وبث الرزق فيها ومما يقضى منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر
ءأمنتم من في السماء وهو الله عز و جل كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل من في السماء أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا واصله من في السماء أمره فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر وقيل على تقدير خالق من في السماء وقيل في بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الموكل بالخسف وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عز و جل في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول به الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة كل ما وصف الله تعالى به نفسه صكتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة
(29/15)
الشافعي وأحمد بن حنبل وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عز و جل والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة و السلام انتهى كلام الحافظ على وجه الإختصار ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه بليس كمثله شيء دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلى الله تعالى عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عز و جل بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الإحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا كونه أحسن المسالك
وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن الجهل عدوانا
وقرأ نافع أأمنتم بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء النشور وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا
وقوله تعالى أن يخسف بكم الأرض بدل اشتمال من من وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به ليخسف والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى فخسفنا به وبداره الأرض أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وإن الأرض نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك
فإذا هي حين الخسف تمور ترتج وتهتز اهتزازا شديدا وأصل المور التردد في المجيء والذهاب
أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل الخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الإمتنان بقوله تعالى وكلوا من رزقه ألا ترى إلى قوله تعالى وفي السماء رزقكم قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب أنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلمهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم ولعل ما أشير إليه أولا أولى
فستعلمون كيف نذير أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان
(29/16)
فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري
وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقريء شاذا فسيعلمون بالياء التحتانية
ولقد كذب الذين من قبلهم أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والإلتفات إلى الغيبة لإبراز الإعراض عنهم
فكيف كان نكير أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نكير كالكلام في نذير وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى
أو لم يروا أغفلوا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم صافات باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافات على الحال من الطير أو من ضميرها في فوقهم وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظرفا لصافات أو ليروا ومفعول صافات على الإحتمالات محذوف كما أشرنا إليه وناسب ذكر الإعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لا سيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة
ويقبضن ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافات لأن المعنى يصففن ويقبضن أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله
بات يعشيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للإستظهار به على التحرك جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا أثر حين كما يكون من السابح
ما يمسكهن في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والإنجذاب إليها
إلا الرحمن الواسع في رحمته كل شيء حيث برأهن عز و جل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتى منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يقبضن وقرأ الزهري ما يمسكهن بالتشديد
إنه بكل شيء بصير دقيق العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز و جل للطير على وجه تأتى به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال نحن نقول أن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز و جل على السبب عقلا بيد أنا نقول أنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو
(29/17)
شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بكل شيء على بصير للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه
أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن متعلق عند كثير بقوله سبحانه أولم يروا إلى الطير فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يمسكهن إلا الرحمن أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا في المعنيين معا خلا أن الإستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه وأم منقطعة مقدرة ببل للإنتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز و جل إلى التبكيت بما ذكر والإلتفات للتشديد في ذلك ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الإستفهامية والإستفهام لا يدخل على الإستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الإحتمالات المشهورة في مثله وجملة ينصركم صفة لجند باعتبار لفظه ومن دون الرحمن على الوجه الأول إما حال من فاعل ينصركم أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى من ينصرني من الله فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز و جل
وقوله تعالى إن الكافرون إلا في غرور اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط وإن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والإلتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به
والكلام في قوله تعالى أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه أي الله عز و جل رزقه بإمساك المطر وسائر مباديه كالذي مر
وقوله تعالى بل لجوا الخ منبيء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا
في عتوا في عناد واستكبار وطغيان
ونفور شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو الخ عديلا لقوله تعالى أولم يروا على معنى ألم ينظروا في أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال صاحب أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه وقال أنه كقوله تعالى أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا إلا أنه أخرج مخرج الإستفهام عن تعيين من ينصرهم إشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أم من هذا الذي يرزقكم الخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى أم متصلة ومن استفهامية وجعل في الثانية أم منقطعة ومن موصولة وهذا الذي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين وحديث لزوم اجتماع الإستفهامين في بعض الصور ودخول الإستفهام على الإستفهام قيل عليه أنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الإستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أم هل تستوي الظلمات وأم ماذا كنتم
(29/18)
تعملون ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الإستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والإستفهام الإنكاري أو الطلبي والزمخشري قال في الموضعين أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أولم يروا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أم من هذا الذي هو جند متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أم من هذا الذي يرزقكم بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن أم منقطعة والإستفهام تهكم وكذلك لما قيل أأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى ولقد كذب الذين من قبلهم فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز و جل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا وكذلك قوله سبحانه أولم يروا تصوير لقدرته الباهرة وأن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأى العين ثم قال فهذا ما هديت إليه مع الإعتراف بأن الإغتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول أمامنا الشافعي
أحب الصالحين ولست منهم ... انتهى
ولعمري لقد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع
ويعجبني طرف تدر دموعه ... على فضله العالي فلله دره
وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل وقرأ طلحة في الأولى أمن بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة
وقوله تعالى أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغرور وركوبهم متن عشواء العتو والنفور فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي الخ ومن موصولة مبتدأ ويمشي صلته ومكبا حال من الضمير المستتر فيه وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأهدى خبر من ومن الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو وقيل مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت والمكب الساقط على وجهه يقال أكب خر على
(29/19)
وجهه وهو من باب الأفعال والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال كبه الله تعالى فأكب وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومرتيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته وأقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته وانزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها وأنسل ريش الطائر ونسلته وقال بعضهم التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في الأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة وحكى ابن الأعرابي كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته أعني مكبا للأشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا وفسر بعضهم السوي بمستوى الجهة قليل الإنحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى على صراط مستقيم يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك العسل أحلى من الخل والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك وقال قتادة نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة وروي أنه قيل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه فقال عليه الصلاة و السلام أن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله
قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة أي القلوب
قليلا ما تشكرون أي تلك النعم كأن تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الإنتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤن الله عز و جل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قليلا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي أن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى
قل هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز و جل
وإليه تحشرون للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك
ويقولون من فرط عتوهم ونفورهم متى هذا الوعد أي الحشر الموعود كما ينبيء عنه قوله تعالى وإليه تحشرون
إن كنتم صادقين يخاطبون به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة و السلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته
قل إنما العلم أي العلم بوقته عند الله عز و جل لا يطلع عليه غيره عز و جل كقوله تعالى قل إنما علمها عند ربي
وإنما أنا نذير مبين أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار
والفاء في قوله تعالى فلما رأوه فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه الخ وهذا
(29/20)
نظير قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده إلا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وههنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الإستئناف
وقوله تعالى زلفة حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر وقال الراغب الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين وقيل زلفة لهم واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى ولا زلفة في كلا القولين
سيئت وجوه الذين كفروا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسببها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل المساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي كسر سين سيئت الضم
وقيل توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم
هذا الذي كنتم به توعدون أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكار واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب تدعون بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك الخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
وبالحاصب الحصى وقد رمى صلى الله تعالى عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة و السلام
قل أرأيتم أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه
إن أهلكني الله ومن معي أي من المؤمنين
أو رحمنا أي بالنصرة عليكم
فمن يجير الكافرين من عذاب أليم أي فمن يجيركم من عذاب النار وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأنى لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان وإن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة و السلام ومن معه من المؤمنين وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري ثانيها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك
(29/21)
وهذا فيه الأول من حيث أنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من العذاب بإرشاده والسياق أدعى للأول وثالثها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وإن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان وهم مؤمنون فماذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد
قل أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه
هو الرحمن أي الله الرحمن
آمنا به أي فيجيرنا برحمته عز و جل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لا نجار البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الإيمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمنا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام
وحسن التقديم في قوله تعالى وعليه توكلنا لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا نعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد ههنا بحصولها لهم في الدارين لإيمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الإيمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى
وقوله تعالى فستعلمون من هو في ضلال مبين أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في الخ وقرأ الكسائي فسيعلمون بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فمن يجير الكافرين
وقوله سبحانه قل أرأيتم أي أخبروني إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤل باسم الفاعل وأيا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي
فمن يأتيكم بماء معين أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة وأردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى وأنكم إذا لم تعبدوه عز و جل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فمن يأتيكم الخ قال تجيء به الفؤس والمعاول فذهب ماء عينيه نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه
سورة القلم
هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقرأ باسم ربك ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثنى منها إنا بلوناهم إلى يعملون ومن فاصبر إلى الصالحين فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به وقال الجلال السيوطي في ذلك إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال
(29/22)
سبحانه هنا وهم نائمون فأصبحت كالصريم وقال جل وعلا هناك إن أصبح ماؤكم غورا إشارة إلى أنه يسري عليه في ليلة كما أسري على الثمر في ليلة انتهى ولا يخلو عن حسن وقال أبو حيان فيه أنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع وأنه عز و جل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة و السلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلقه فقال عز من قائل
بسم الله الرحمن الرحيم ن بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو والقلم بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقريء بكسر النون وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وإن كان ذلك نصبا بإضمار اذكر ونحوه لا فتحا وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف قالوا وفي قوله تعالى والقلم للقسم وإن جعل مقسما به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف إن ن من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف وقالوا يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علما لأعرب منونا أو ممنوعا من الصرف ولكتب كما يتلفظ به وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء والحاكم وصححه وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ثم قرأ ن والقلم الخ وروي ذلك عن مجاهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الإستعمال المعتد به وقال ابن عطية يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظه أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين وأل فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضا لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم وعن معاوية بن قرة يرفعه أن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة وعن جعفر الصادق أنه نهر من أنهار الجنة وفي البحر لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسما من أسماء الحروف وكأنه إن كان مطلعا على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روي أولا عن ابن عباس ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الأعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة رواية عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الإختلاف فيما روي عنه في تعيين المراد به حتى أنه روي عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن وإن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفى أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف باذنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت
(29/23)
عن الزمخشري لغة لم تثبت والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات وأنى به وذكر صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز و جل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه
والضمير في قوله سبحانه وما يسطرون أي يكتبون أما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم
ما أنت بنعمة ربك بمجنون جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير في الخبر والعامل فيها معنى النفي والمعنى انتفى عنك الجنون في حال كونك ملتبسا بنعمة ربك منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأي والنبوة والشهامة واختاره ناصر الدين وقريب منه جعل الباء للسببية والجار والمجرور متعلقا بالنفي كالظرف اللغو كأنه قيل انتفى عنك الجنون بسبب نعمة ربك عليك وجوز أن تكون الباء للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وهل المراد إلا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة و السلام في جميع الأوقات وهو المراد وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلى الله تعالى عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الإلتباس المذكور وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلى الله تعالى عليه وسلم بالنعمة ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الإنتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا وقيل إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى
ظهور نار القرى ليلا على علم ...
ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل وجوز كون بنعمة ربك قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب
(29/24)
أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام لتشريفه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها والمراد تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلى الله عليه و سلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون
وإن لك بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة
لأجرا لثوابا عظيما لا يقادر قدره
غير ممنون أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز و جل أكرم الأكرمين ومن شيمة الأكارم أن لا يمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال
سأشكر عمرا أن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
وإنك لعلى خلق عظيم لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجه والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق نبي الله كان القرآن وأرادت بذلك على ما قيل أن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة و السلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كذلك لنثبت به فؤادك وربما يرجع إلى هذا قولها كما في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة و السلام فقالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز و جل بقوله سبحانه عظيم وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون وأنه كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون
فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخييل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد وأيد الإعتراض بأن قوله تعالى فستبصر ويبصرون خطاب له عليه الصلاة و السلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الإختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء ويؤيده قراءه ابن أبي عبلة في أيكم وأيا ما كان فالظاهر أن بأيكم المفتون معمول لما قبله على سبيل التنازع والمراد فستعلم
(29/25)
ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فستبصر ويبصرون في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك مهيبا معظما في قلوب العالمين وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني أن الكلام قد تم عند قوله تعالى ويبصرون ثم استأنف قوله سبحانه بأيكم المفتون على أنه استفهام يراد الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهما وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد أي هو سبحانه أعلم بمن ضل عن سبيله المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وهو عز و جل أعلم بالمهتدين إلى سبيله الفائزين بكل مطلوب الناجين عن كل محذور وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب وفي الكشاف أن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بأيكم المفتون لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هو أعلم بالمجنون وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الإعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بمن ضل أقيم مقام بهم وبالمهتدين أقيم مقام بكم ولعل ماعتبرناه أملا بالفائدة وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء
والفاء في قوله تعالى فلا تطع المكذبين لترتيب النهي على ما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله تعالى عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة وينبيء عنه قوله تعالى ودوا لو تدهن لأنه تعليل للنهي أو للإنتهاء وإنما عبر عنها بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور
فيدهنون أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طمعا في إدهانك فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولو فيه غير مصدرية وعلى الثاني هي مصدرية والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تدهن على أنه داخل معه في حيز لو متمني مثله والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب إدهانك وما تقدم أبعد على القيل والقال وأيا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الإدهان الذي هو إظهار الملاينة وإضمار خلافها وأما في جانبه عليه الصلاة و السلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط وأما إضمار خلافها فليس في حيز الإعتبار بل هم في غاية الكراهة له وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة و السلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون فيدهنوا بدون نون الرفع فقيل هو منصوب في جواب التمني المفهوم من ودوا وقيل إنه عطف على تدهن بناء على أن لو بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا
(29/26)
كأنه قيل ودوا أن تدهن فيدهنوا ولعل هذا مراد من قال أنه عطف على توهم أن وجمهور النحاة على أن لو على حقيقتها وجوابها محذوف وكذا مفعول ودوا أي ودوا إدهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك
ولا تطع كل حلاف كثيرا الحلف في الحق والباطل وكفى بهذا مزجرة لمن اعتاد الحلف لأنه جعل فاتحة المثاب وأساس الباقي وهو يدل على عدم استشعار عظمة الله عز و جل وهو أم كل شر عقدا وعملا وذكر بعضهم أن كثرة الحلف مذمومة ولو في الحق لما فيها من الجرأة على اسمه جل شأنه وهذا النهي للتهييج والإلهاب أيضا أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف
مهين حقير الرأي والتدبير وقال الرماني المهين الوضيع لإكثاره من القبيح من المهانة وهي القلة وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال هو المكثار في الشر وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه الكذاب
هماز عياب طعان قال أبو حيان هو من الهمز وأصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا ونحوها ثم استعير للذي ينال بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته
مشاء بنميم نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم فإن النميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد وقيل النميم جمع نميمة يريدون به الجنس وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة ومنه أسكت الله تعالى نامته أي ما ينم عليه من حركته
مناع للخير أي بخيل ممسك من منع معروفه عنه إذا أمسكه فاللام للتقوية والخير على ما قيل المال أو مناع الناس الخير وهو الإسلام من منعت زيدا من الكفر إذا حملته على الكف فذكر الممنوع منه كأنه قيل مناع من الخير دون الممنوع وهو الناس عكس وجه الأول والتعميم هنالك وعدم ذكر الممنوع منه أوقع
معتد مجاوز في الظلم حده
أثيم كثير الآثام وهي الأفعال البطيئة عن الثواب والمراد بها المعاصي والذنوب
عتل قال ابن عباس الشديد الفاتك وقال الكلبي الشديد الخصومة بالباطل وقال معمر وقتادة الفاحش اللئيم وقيل هو الذي يعتل الناس أي يجرهم إلى حبس أو عذاب بعنف وغلظة ويقال عتنه بالنون كما يقال عتله باللام كما قال ابن السكيت وقرأ الحسن عتل بالرفع على الذم
بعد ذلك أي المذكور من مثالبه وقبائحه وبعد هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبي فتدل على أن ما بعد أعظم في القباحة وفي الكشف أشعر كلام الزمخشري أنه متعلق بعتل فلزم تباينه من الصفات السابقة وتباين ما بعده أيضا لأنه في سلكه
زنيم دعي ملحق بقوم ليس منهم كما قال ابن عباس والمراد به ولد الزنا كما جاء بهذا اللفظ عنه رضي الله تعالى عنه وأنشد لحسان
زنيم تداعته الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وكذا جاء عن عكرمة وأنشد
زنيم يعرف من أبوه ... بغي الأم ذو حسب لئيم
من الزمنة بفتحات وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز والفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة وإنما كان هذا أشد المعايب لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشيء منها ومن ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم فرخ الزنا أي ولده لا يدخل الجنة فهو محمول على الغالب فإنه في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه أصلا فلا يعمل عملا يدخل به الجنة وقال بعض الأجلة هذا خارج مخرج التهديد والتعريض بالزاني وحمل على أنه لا يدخل الجنة مع السابقين لحديث الدارمي عن عبد الله بن عمر مرفوعا لا يدخل الجنة عاق ولا ولد زنية ولا منان ولا مدمن خمر فإنه سلك في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر ولا ارتياب أنهم عند أهل السنة ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا وقيل المراد أنه لا يدخل الجنة بعمل أبويه إذا مات صغيرا بل يدخلها بمحض فضل الله تعالى
(29/27)
ورحمته سبحانه كأطفال الكفار عند الجمهور وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة الزنمة وفي رواية ابن أبي حاتم عنه هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء والمآل واحد وعنه أيضا أنه المعروف بالأبنة ولا يخفى أن المأبون معدن الشرور بل من لم يصل في ذلك الأمر الشنيع إلى تلك المرتبة كذلك في الأغلب ولا حاجة إلى كثرة الإستشهاد في هذا الباب وفي قول الشاعر الإكتفاء وهو
ولكم بذلت لك المودة ناصحا ... فغدوت تسلك في الطريق الأعوج
ولكم رجوتك للجميل وفعله ... يوما فناداني النهى لا ترتج
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال نزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تطع كل حلاف الخ فلم يعرف حتى نزل عليه الصلاة و السلام بعد ذلك زنيم فعرفناه له زنمة في عنقه كزمة الشاة واستشكل هذا بأن الزنيم عليه ليس صفة ذم فضلا عن كونه أعظم فيه من الصفات التي قبل ذلك على ما يفيده بعد ذلك ولا يكاد يحسن تعليل النهي به على أن من المعلوم أن ليس المراد بالموصوف بهذه الصفات شخصا بعينه لمكان كل ويحمل ما جاء في الروايات من أنه الوليد بن المغيرة المخزومي وكان دعيا في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده أو الحكم طريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو الأخنس بن شريق وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة أو الأسود ابن عبد يغوث أو أبو جهل على بيان سبب النزول وقيل في ذلك أن المراد ذمه بقبح الخلق بعد ذمه بما تقدم وهو كما ترى فتأمل فلعلك تظفر بما يريح البال ويزيح الإشكال
وقوله تعالى أن كان ذا مال وبنين بتقدير لام التعليل وهو متعلق بقوله سبحانه لا تطع أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا متقويا بالبنين
وقوله سبحانه إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين استئناف جار مجرى التعليل للنهي وجوز أن يكون لأن متعلقا بنحو كذب ويدل عليه الجملة الشرطية ويقدر مقدما دفعا لتوهم الحصر كأنه قيل كذب لأن كان الخ والمراد أنه بطر نعمة الله تعالى ولم يعرف حقها ولم يجوز تعلقه بقال المذكور بعد لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولعل من يقول بإطراد التوسع في الظرف يجوز ذلك وكذا من يجعل إذا هنا ظرفية وقال أبو علي الفارسي يجوز تعلقه بعتل وإن كان قد وصف وتعقبه أبو حيان بأنه قول كوفي ولا يجوز ذلك عند البصريين وقيل متعلق بزنيم ويحسن ذلك إذا فسر بقبيح الأفعال وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وأبو بكر وحمزة وابن عامر أأن كان على الإستفهام وحقق الهمزتين حمزة وسهل الثانية باقيهم على ما في البحر وقال بعض قرأ أبو بكر وحمزة بهمزتين وابن عامر بهمزة ومدة والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال أو أطيعه لأن كان الخ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه أن كان بالكسر على أن شرط الغني في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد بمعنى النهي في غير ذلك يعلم بالطريق الأولى فيثبت بدلالة النص والشرط والعلة في مثله مما لا مفهوم له أو على أن الشرط للمخاطب وحاصل المعنى لا تطع كل حلاف الخ شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة وفيه تنزيل المخاطب منزلة من شرط ذلك وحققه زيادة للإلهاب والثبات وتعريضا بمن يحسب الغنى مكرمة والظاهر أن الجملة الشرطية بعد استئناف وقيل هذا مما اجتمع فيه شرطان وليسا من الشروط المترتبة الوقوع فالمتأخر لفظا هو المتقدم والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني فهو كقوله
فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لالعا
وقرأ الحسن أئذا على الإستفهام وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله أساطير الأولين
سنسمه سنجعل له سمة وعلامة على الخرطوم أي على الأنف وهو من باب إطلاق مشفر على شفة غليظة لإنسان كما سنشير إليه
(29/28)
إن شاء الله تعالى وعبر بذلك عن غاية الإذلال لأن السمة على الوجه شين حتى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه في الحيوانات ولعن فاعله فكيف على أكرم موضع منه وهو الأنف لتقدمه وقد قيل الجمال في الأنف وعليه قول بعض الأدباء
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا
وجعلوه مكان العزة والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه ومنه قول جرير
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفي لفظ الخرطوم استهانة لأنه لا يستعمل إلا في الفيل والخنزير ففي التعبير عن الأنف بهذا الاسم ترشيح لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإذلال والمراد سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إليه جمع إلا أنهم قالوا المعنى سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والإشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا كما تقول سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بينا فيك وزاد ذلك حسنا ذكر الخرطوم انتهى وبينه وبين ما تقدم فرق لا يخفى وقال بعض هو في الآخرة ومن القائلين بأن هذا وعيد بأمر يكون فيها من قال هو تعذيب بنار على أنفه في جهنم وحكي ذلك عن المبرد وقال آخرون منهم يوسم يوم القيامة على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره وقال أبو العالية ومقاتل واختاره الفراء المراد يسود وجهه يوم القيامة قبل دخول النار وذكر الخرطوم والمراد الوجه مجازا ومن القائلين بأنه يكون في الدنيا من قال هو وعيد بما أصابه يوم بدر فإنه خطم فيه بالسيف فبقيت سمة على خرطومه وروي هذا عن ابن عباس والمعروف في كتب السير والأحاديث أن أبا جهل قتل يوم بدر والباقين ما عدا الحكم ماتوا قبله فلم يسم أحد منهم بذلك الوسم وكذا الحكم لم يعلم أنه وسم بذلك وإن كان لم يمت قبل وعن النضر بن شميل أن الخرطوم الخمر وأنشد
تظل يومك في لهو وفي لعب ... وأنت يا لليل شراب الخراطيم
وأن المعنى سنحده على شربها وتعقب بأنه تنفيه الرواية بأن أولئك الكفرة هلكوا قبل تحريم الخمر ما عدا الحكم وهو لم يثبت أنه حد على أنهم لم يكونوا ملتزمي الأحكام والدراية أيضا لتعقيد اللفظ وفوات فخامة المعنى
إنا بلوناهم أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف
كما بلونا أي مثل ما بلونا فالكاف في محل نصب مصدر مقدر وما مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه
أصحاب الجنة المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال بنوه إن كان أبونا لأحمق حين يطعم المساكين فأقسموا على أن لا يطعموا منها مسكينا وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال كانت لشيخ من بني إسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح
(29/29)
خفية عن المساكين كما قال عز و جل إذ أقسموا معمول لبلونا
ليصرمنها ليقطعن من ثمارها بعد استوائها
مصبحين داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصرمنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله
ولا يستثنون قيل أي ولا يقولون إن شاء الله تعالى وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث أن مؤداه مؤدى الإستثناء فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد وقال الإمام أصل الإستثناء من الثني وهو الكف والرد في التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فإطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا يثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أقسموا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الإستثناء وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى ليصر منها ومقسم عليه أو على قوله سبحانه مصبحين الحال وهو معنى لا غبار عليه
فطاف عليها أي أحاط نازلا على الجنة
طائف أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف وقول قتادة طائف أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي طيف
من ربك مبتديء من جهته عز و جل
وهم نائمون في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق
فأصبحت كالصريم كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة وعنه أيضا الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة الصريم الليل والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه
فتنادوا نادى بعضهم بعضا
مصبحين لقسمهم السابق
أن اغدوا أي اخرجوا على أن أن تفسيرية واغدوا بمعنى اخرجوا أو بأن اغدوا على أن أن مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح
على حرثكم أي بستانكم
إن كنتم صارمين أي قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا وقيل يحتمل أن يكون المراد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك وظاهر كلام جار الله أن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدي ههنا بعلى لتضمين الغد ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والإستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع
(29/30)
ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الإستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي أن غدا يتعدى بعلى كما في قوله
وقد غدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
وكذا بكر مرادفه كما في قوله
بكرت عليهم غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصريم عواذله
فانطلقوا وهم يتخافتون أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة وخفي بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقي ولدها قبل أن يستبين خلقه
أن لا يدخلها اليوم أي الجنة عليكم مسكين إن مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يتخافتون لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله وأيا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك ههنا
وغدوا على حرد أي منع كما قال أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الإبل إذا قلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى قادرين قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم ونكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلا على المنع والحرمان وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان قادرين على الإنتفاع والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم وجوز أن يكون على حرد متعلقا بغدوا والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادرين من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قريء بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد
إذا جياد الخيل جاءت تردى ... مملوءة من غضب وحرد
أي لم يقدروا إلا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وروي هذا عن سفيان والسدي والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس فعلى حرد ظرف مستقر حال من ضمير غدوا وقادرين حال أيضا إلا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت وقال الأزهري حرد اسم قريتهم وفي رواية عن السدي اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الإنفراد يقال حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما
(29/31)
كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة
فلما رأوها أول ما وقع نظرهم عليها
قالوا إنا لضالون طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة وقيل لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك
بل نحن محرومون قالوه بعدما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بل نحن محرومون حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا
قال أوسطهم أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا
ألم أقل لكم لولا تسبحون أي لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم
ويدل على هذا المعنى قوله تعالى قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين لأن التسبيح ذكر لله تعالى وإنا كنا الخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة وقيل المراد بالتسبيح الإستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز و جل لأن الإستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تسثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح أنهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز و جل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفي أن يكون له فتاوي واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الإستثناء أن المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى وقيل المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع
قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين متجاوزين حدود الله تعالى
عسى ربنا أن يبدلنا أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والإعتراف بالخطيئة
خيرا منها أي من تلك الجنة
إنا إلى ربنا لا إلى غيره سبحانه راغبون راجون العفو طالبون الخير وإلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد أنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز و جل وتضرعوا إليه سبحانه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني رأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا وحكى عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون أنهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال لا أدري أكان قولهم إنا إلى ربنا راغبون إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة وسئل قتادة عنهم أهم من
(29/32)
أهل الجنة أم من أهل النار فقال للسائل لقد كلفتني تعبا وقرأ نافع وأبو عمرو يبدلنا مشددا
كذلك العذاب جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وأل للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز و جل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤل حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه إن خبثت النية والزوي عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار
وقوله تعالى ولعذاب الآخرة أكبر أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ
وقوله سبحانه لو كانوا يعلمون نعي عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم
إن للمتقين أي من الكفر كما في البحر أو منه ومن المعاصي كما في الإرشاد
عند ربهم أي في الآخرة فإنها مختصة به عز و جل إذ لا يتصرف فيها غيره جل جلاله أو في جوار قدسه
جنات النعيم جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النعيم لإفادتها التمييز من جنات الدنيا والتعريض بأن جنات الدنيا لغالب عليها النغص
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار
وقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلون وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الإلتفات لتأكيد الرد وتشديده
ما لكم كيف تحكمون تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى ما لكم أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي
أم لكم كتاب نازل من السماء
فيه أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى تدرسون أي تقرؤن فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتدرسون مستأنف أو حال من ضمير الخطاب
وقوله تعالى إن لكم فيه لما تخيرون أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول تدرسون إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة أن وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل أنه لا بد من تضمين تدرسون معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فيه على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أن الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فيه لا يساعده للإستغناء بفيه أو لا من غير حاجة إلى جعل ضمير فيه ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى عند ربهم وعلى الإستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تدرسون على أن قوله تعالى أن لكم الخ استئناف على معنى أن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى والظاهر أن أم لكم الخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب
(29/33)
فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك أن لكم بفتح الهمزة واللام في لما زائدة كقراءة من قرأ ألا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج آن لكم بالإستفهام على الإستئناف
أم لكم أيمان علينا أي أقسام وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم
بالغة أي أقصى ما يمكن والمراد متناهية في التوكيد وقرأ الحسن وزيد بن علي بالغة بالنصب على الحال من الضمير المستتر في علينا أو لكم وقال ابن عطية من إيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد
إلى يوم القيامة متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو متعلق ببالغة أي إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل
وقوله تعالى إن لكم لما تحكمون جواب القسم لأن معنى أم لكم أيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الإيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج آن لكم بالإستفهام أيضا
سلهم تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم
أيهم بذلك الحكم الخارجي عن دائرة العقول
زعيم قائم يتصدى لتصحيحه والجملة الإستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الإستفهام وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله
أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم
فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين في دعواهم إذ لا أقل من التقليد وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى ما لكم كيف تحكمون وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه أم لكم كتاب الخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه أم لكم إيمان علينا الخ وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز و جل أم لهم شركاء وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة فليأتوا بشركهم والمراد به ما أريد بشركائهم
يوم يكشف عن ساق متعلق بقوله تعالى فليأتوا على الوجهين ويجوز تعلقه بمقدر كاذكر أو يكون كيت وكيت وقيل بخاشعة وقيل بترهقهم وأيا ما كان فالمراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة والساق ما فوق القدم وكشفها والتشمير عنها مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب حتى أنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه كما في قول حاتم
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول الراجز
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طواء الخيل عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلا إذا عظم الخطب واشتد الأمر فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة وقد روي أيضا عن ابن عباس أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في
(29/34)
الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر
صبرا عناق أنه شر باق ...
قد سن لي قومك ضرب الأعناق ...
وقامت الحرب بنا على ساق ...
والروايات عنه رضي الله تعالى عنه بهذا المعنى كثيرة وقيل ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان والمراد يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وإليه يشير كلام الربيع بن أنس فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال في ذلك يوم يكشف الغطاء وكذا ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس أيضا قال حين يكشف الأمر وتبدوا الأعمال وفي الساق على هذا المعنى استعارة تصريحية وفي الكشف تجوز آخر أو هو ترشيح للإستعارة باق على حقيقته وتنكير ساق قيل للتهويل على الأول وللتعظيم على الثاني وقيل لا ينظر إلى شيء منهما على الأول لأن الكلام عليه تمثيل وهو لا ينظر فيه للمفردات أصلا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالساق ساقه سبحانه وتعالى وإن الآية من المتشابه واستدل على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا وأنكر ذلك سعيد بن جبير أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن الآية فغضب غضبا شديدا وقال إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه وإنما يكشف عن الأمر الشديد وعليه يحمل ما في الحديث على الأمر الشديد أيضا وإضافته إليه عز و جل لتهويل أمره وأنه أمر لا يقدر عليه سواه عز و جل وأرباب الباطن من الصوفية يقولون بالظاهر ويدعون أن ذلك عند التجلي الصوري وعليه حملوا أيضا ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه ابن مردويه وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناد يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك عدلا من ربكم قالوا بلى قال فلينطق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ويمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام شيطان عيسى وكذا يمثل لمن كان يعبد عزيرا حتى تمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز و جل فيقال لهم ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس فيقولون إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول فيم تعرفون ربكم إن رأيتموه قالوا بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه قال وما هي قالوا يكشف عن ساق فيكشف عند ذلك الحديث وهو ونظائره من المتشابه عند السلف وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة يكشف بفتح الياء مبينا الفاعل وهي رواية عن ابن عباس وقرأ ابن هرمز نكشف بالنون وقريء يكشف بالياء التحتية مضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه أكشف الرجل فهو مكشف انقلبت شفته العليا وقريء تكشف بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ضمير الساعة المعلومة من ذكر يوم القيامة أو الحال المعلومة من دلالة الحال وبها والبناء للمفعول وجعل الضمير للساعة أو الحال أيضا وتعقب بأنه يكون الأصل حينئذ يكشف الله الساعة عن ساقها مثلا ولو قيل ذلك لم يستقم لاستدعائه إبداء الساق وإذهاب الساعة كما تقول كشفت عن وجهها القناع والساعة ليست سترا على الساق حتى تكشف وأجيب أنها جعلت سترا مبالغة لأن المخدرة تبالغ في الستر جهدها فكأنها نفس الستر فقيل تكشف الساعة وهذا كما تقول كشف زيدا عن جهله إذا بالغت في إظهار جهله لأنه كان سترا على جهله يستر معايبه فأبنته وأظهرته إظهارا لم يخف على أحد `وقيل عليه أن الإذهاب حينئذ إدعائي
(29/35)
ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا عبرة بما ذكر من المثال المصنوع وأقل تكلفا منه جعل عن ساق بدل اشتمال من الضمير المستتر في الفعل بعد نزع الخافض منه والأصل يكشف عنها أي عن الساعة أو الحال فنزع الخافض واستتر الضمير وتعقب بأن إبدال الجار والمجرور من الضمير المرفوع لا يصح بحسب قواعد العربية فهو ضغث على إبالة وتكلف على تكلف وقيل إن عن ساق نائب الفاعل وتعقب بأن حق الفعل التذكير كصرف عن هند ومر بدعد
ويدعون إلى السجود توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك
فلا يستطيعون لزوال القدرة عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدونه فلا يتأتى منهم وعن ابن مسعود تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وتقدم في حديث البخاري ومن معه ما سمعت وفي حديث تصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا والظاهر أن الداعي الله تعالى أو الملك وقيل هو ما يرونه من سجود المؤمنين واستدل أبو مسلم بهذه الآية على أن يوم الكشف في الدنيا قال لأنه تعالى قال ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف فيراد منه إما آخر أيام الشخص في دنياه حين يرى الملائكة وإما وقت المرض والهرم والمعجزة ويدفع بما أشرنا إليه
خاشعة أبصارهم حال من مرفوع يدعون على أن أبصارهم مرتفع به على الفاعلية ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها
ترهقهم تلحقهم وتغشاهم
ذلة شديدة
وقد كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير أو لأن المراد به الصلوات المكتوبة كما قال النخعي والشعبي أو جميع الطاعات كما قيل والدعوة دعوة التكليف وقال ابن عباس وابن جبير كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة فلا يجيبون
وهم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وترك ذكر هذا ثقة بظهوره
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث أي إذا كان حالهم ما سمعت فكل من يكذب بالقرآن إلي واستكفنيه فإن في ما يفرغ بالك ويخلى همك وهو من بليغ الكلام يفيد أن المتكلم واثق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما يدور حول أمنية المخاطب وبما يزيد عليه وقد حققه جار الله بما حاصله أن من استكفى أحدا ترك الأمر إليه وإلا كان استعانة لا استكفاء فأقيم الرادف أعني التخلية وإن يذره وإياه مقام الإستكفاء مبالغة وأنباء عن الكفاية البالغة كيف وهذا الكافي طلب الإستكفاء بقوله ذرني وأبرز ترك الإستكفاء في صورة المنع مبالغة على مبالغة فلو لم يكن شديد الوثوق بتمكنه من الوفاء أقصى التمكن وفوق ما يحوم حول خاطر المستكفي لما كان للطلب على هذا الوجه الأبلغ وجه ومن في موضع نصب إما عطفا على المنصوب في ذرني أو على أنه مفعول معه
وقوله تعالى سنستدرجهم استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يكذب باعتبار لفظها أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة
من حيث لا يعلمون أنه استدراج بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم
وأملي لهم وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم
إن كيدي متين لا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا وهو ضرب من الإحتيال لكونه في صورته حيث أنه سبحانه يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ومراده عز و جل به الضرر لما علم من خبث جبلتهم وتماديهم في الكفر والكفران
أم تسئلهم على الإبلاغ والإرشاد
أجرا دنيويا
فهم لأجل ذلك
من مغرم أي غرامة مالية
مثقلون مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك وهذه الجملة على ما قاله
(29/36)
ابن الشيخ معطوفة على قوله تعالى أم لهم شركاء
أم عندهم الغيب أي المغيبات أو للوح وأطلق الغيب عليه مجازا لأنه محل لكتابة المغيبات أو لظهور صورها بناء على الخلاف المعروف فيه والقرينة
فهم يكتبون ما يحكمون به ويستغنون بذلك من علمك
فاصبر لحكم ربك وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض عليه الصلاة و السلام نفسه على القبائل بمكة فنزلت وقيل أراد عليه الصلاة و السلام أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت وعليه تكون الآية مدنية
ولا تكن كصاحب الحوت هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلا أنه فرق بين ذي وصاحب بأن أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام وذا النون والنهي عن اتباعه ولا تكن كصاحب الحوت إذ النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت ونقل مثل ذلك السرميني عن العلامة السهيلي وفرق بعضهم بغير ذلك مما هو مذكور في حواشينا على رسالة ابن عصام في علم البيان
إذ نادى في بطن الحوت
وهو مكظوم أي مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وهو من كظم السقاء إذا ملأه ومن استعماله بهذا المعنى قول ذي الرمة
وأنت من حب مي مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه أمر مستحسن ولذا لم يذكر المنادى وإذ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلى بنحو بلائه عليه السلام
لولا أن تداركه نعمة من ربه وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وقريء رحمة وتذكير الفعل على القراءتين لأن الفاعل مؤنث مجازي مع الفصل بالضمير وقرأ عبد الله وابن عباس تداركته بتاء التأنيث وقرأ ابن هرمز والحسن والأعمش تداركه بتشديد الدال وأصله تتداركه فأبدل التاء دالا وأدغمت الدال في الدال والمراد حكاية الحال الماضية على معنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه
لنبذ بالعراء بالأرض الخالية من الأشجار أي في الدنيا وقيل بعراء القيامة لقوله تعالى فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ولا يخفى بعده
وهو مذموم في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لولا لأن المقصود امتناع نبذه مذموما وإلا فقد حصل النبذ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم والغرض أن حالة النبذ والإنتهاء كانت مخالفة لحالة إلا لأمة والإبتداء لقوله سبحانه فالتقمه الحوت وهو مليم وفي الإرشاد أن الجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة
وقوله سبحانه فاجتباه ربه عطف على مقدر أي فتداركته نعمة من ربه فاجتباه أي اصطفاه بأن رد عز و جل إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة وإنما كان رسولا لبعض المرسلين في أرض الشام
فجعله من الصالحين من الكاملين في الصلاح بأن عصمه سبحانه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى وظاهر كلام بعضهم أن الجعل من الصالحين تفسير للإجتباء قيل وفسر الصالحين بالأنبياء وهو مبني على أنه لم يكن قبل الواقعة نبيا واستدل بالآية على خلق الأفعال لأنه جعله صالحا بجعل صلاحه وخلقه فيه وهو من جملة الأفعال ولا قائل بالفرق والمعتزلة يؤولون ذلك تارة بالأخبار بصلاحه وأخرى باللطف به حتى صلح على أنه يحتمل أن يراد بالصالحين الأنبياء كما قيل فلا تفيد الآية أكثر من كون النبوة مجعولة وهو مما اتفق
(29/37)
عليه الفريقان فتدبر
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم إن هي المخففة واللام دليلها لأنها لا تدخل بعد النافية ولذا تسمى الفارقة على عرف عند النحاة والمعنى أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرموك من قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله وجعل مبالغة في عداوتهم حتى كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فعاد يعمل الجوارح وأنشدوا قول الشاعر
يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطيء الأقدام
أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وقال الكلبي كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتهلك فاقترح الكفار منه أن يصيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأجابهم وأنشد
قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال إنك سيد معيون
فعصم الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأنزل عليه هذه الآية وقد قيل أن قراءتها تدفع ضرر العين وروي ذلك عن الحسن وفي كتاب الأحكام أنها أصل في أن العين حق والأولى الإستدلال على ذلك بما ورد وصح من عدة طرق أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وبما أخرجه أحمد بسند رجاله كما قال الهيثمي ثقات عن أبي ذر مرفوعا أن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة وذلك من خصائص بعض النفوس ولله تعالى أن يخص ما شاء منها بما شاء وإضافته إلى العين باعتبار أن النفس تؤثر بواسطتها غالبا وقد يكون التأثير بلا واسطتها بأن يوصف للعائن شيء فتتوجه إليه نفسه فتفسده ومن قال أن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما شاء عند مقابلة عين العائن من غير تأثير أصلا فقد سد على نفسه باب العلل والتأثيرات والأسباب والمسببات وخالف جميع العقلاء قاله ابن القيم وقال بعض أصحاب الطبائع أنه ينبعث من العين قوة سمية تؤثر فيها نظره كما فصل في شرح مسلم وهذا لا يتم عندي فيما لم يره ولا في نحو ما تضمنه حديث أبي ذر المتقدم آنفا ولا في إصابة الإنسان عين نفسه كما حكاه المناوي فإنه لا يقتل الصل سمه ومن ذلك ما حكاه الغساني قال نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا وكان أبو بكر صديقا وكان عمر فاروقا وعثمان حييا ومعاوية حليما ويزيد صبورا وعبد الملك سائسا والوليد جبارا وأنا الملك الشاب وأنا الملك الشاب فما دار عليه الشهر حتى مات ومثل ذلك ما قيل أنه من باب التأثير في القوة المعروفة اليوم بالقوة الكهربائية عند الطباعيين المحدثين فقد صح أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فوقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه وربما يقف وراءه جاعلا أصابعه حذاء نقرة رأسه ويوجه نفسه إليه حتى تضعف قواه فيغشاه نحو النوم ويتكلم إذ ذاك بما لا يتكلم به في وقت آخر وأنا لا أزيد على القول بأنه من تأثيرات النفوس ولا أكيف ذلك فالنفس الإنسانية من أعجب مخلوقات الله عز و جل وكم طوى فيه أسرارا وعجائب تتحير فيها العقول ولا ينكرها إلا مجنون أو جهول ولا يسعني أن أنكر العين لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأعصار ولا أخص ذلك بالنفوس الخبيثة كما قيل فقد يكون من النفوس الزكية والمشهور أن الإصابة لا تكون مع كراهة الشيء وبغضه وإنما تكون مع استحسانه وإلى ذلك ذهب القشيري وكأنه يشير بذلك إلى الطعن في صحة الرواية ههنا لأن الكفار كانوا يبغضونه عليه الصلاة و السلام فلا تتأتى لهم إصابته بالعين وفيه
(29/38)