[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
والظاهر عليه أن حذف المفعول الثاني من الأول لأفادة العموم وإن كان حذف الأول من الثاني لذلك أيضا وتنذر كل أحد يوم الجمع وقيل : يوم الجمع ظرف المفعولان محذوفين وقريء لينذر بياء الغيبة على على أن الفاعل ضمير القرآن لعدم حسن الألتفات ههنا لا ريب فيه اعتراض في آخر الكلام مقرر لما قبله ويحتمل الحالية من يوم الجمع أو الأستئناف فريق في الجنة وفريق في السعير
7
- أي بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولا ثم يفرقون بعد الحساب وفريق مبتدأ وفي الجنة صفته والخبر محذوف وكذا فريق في السعير أي منهم فريق فريق كائن في الجنة ومنهم فريق كائن في النار وضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه وجملة استئناف في جواب سؤال تقديره ثم كيف يكون حالهم أو حال ولا ركاكة فيه واشتراط الواو فيه غير مسلم وجوز كون فريق فاعلا للظرف المقدر وفيه ضعف وكونه مبتدأ والظرف المقدر في موضع الصفة له وفي الجنة خبره أي فريق كائن منهم مستقر في الجنة وكونه مبتدأ خبره ما بعده من غير أن يكون هناك ظرف مقدر واقع صفة وساغ الأبتداء بالنكرة لأنها في سياق التفصيل والتقسيم كما في قوله :
فثوب لبست وثوب أجر
وكونه خبر مبتدأ محذوف أي المجموعين فريق الخ
وقرا زيد بن علي رضعنهما فريقا وفريقا بنصبهما فقيل : هو على الحال من مقدر أي افترقوا أي المجموع ونفريقا وفريقا أو من ضمير جمعهم المقدر لأن أل قامت مقامه أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين وهو من مجاز المشارفة أي مشارفين للتفرق أو الح المقدرة فلا يلزم افتراقهم في حال اجتماعهم أو يقال إن اجتماعهم في زمان واحد لا ينافي أمكنتهم كما تقول : صلوا في وقت واحد في مساجد متفرقة فالمراد متفرقين في داري الثواب والعقاب وإذا أريد بالجمع جمع الأرواح بالأشباح أو الأعمال بالعمال لا يحتاج إلى توفيق أصلا وجوز كون النصب بتنذر المقدر أو المذكور والمعنى تنذر فريقا من أهل الجنة وفريقا من أهل السعير لأن الإنذار ليس في الجنة والسعير ولا يخفى تكلفه ولو شاء الله جعلهم أمة واحدة لجعلهم أي في الدنيا أمة واحدة مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله : على دين واحد فمعنى قوله تعالى : ولكن يدخل من يشاء في رحمته أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الأدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعا فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير
8
- وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للأيذان بأن الأدخال في العذاب من جهةالداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز و جل كما في الأدخال في الرحمة واختارالزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الأسلام كما في قوله تعالى : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى وقوله سبحانه : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الأيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى من يشاء وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير والكلام متعلق بقوله تعالى : والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما
(25/14)
أنت عليهم بوكيل كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على أيمانهم فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولا أوليا وعدل عن الظاهر إلى ما في النظم الجليل إذ الكلام في الأنذار وهو أبلغ في تخويفهم لأشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مرفوع منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفي ذلك علم أنهم في عذاب لأخلاص منه
وتعقب بأن فرض جعلا لكل مؤمنين يأباه تصدير الأستدراك بأدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذ داخلون فيها فكان المناسب حينئذ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه وربما يقال : حيث أن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمنا كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم المتخذون من دونه أولياء كفارا لأخلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسبا كما لا يخفى على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء من دون يدخل من يشاء لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية وقال شيخ الأسلام : الذي يقتضيه سابق النظم الكريم وسياقه أن يراد الأتحاد في الكفر كما في قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين الآية على أحد الوجهين فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة وتفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالأنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للأيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عز و جل ولا يتأثر به الآخرون ويتمادو وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى
ولا يخفى أن بين قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة الآية وقوله سبحانه : ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق أم اتخذوا من دونه أولياء جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولي أو نصير وكلام الكشاف يومي إلى أنه متصل بقوله تعالى : والذين اتخذوا الخ على معنى دع الأهتمام بشأنهم واقطع الطمع في أيمانهم وكيت وكيت أليسوا الذين اتخذوا من دونه تعالى أولياء وهو سبحانه الولي الحقيقي القادر على كل شيء وعدلوا عنه عز و جل إلا ما لا نسبة بينه تعالى وبينه أصلا وإن قوله سبحانه وكذلك أوحينا الآية اعتراض مؤكد لمضمون الآيتين و أم على القولين منقطعة وهي تقدر في الأغلب ببل والهمزة وقدرها جماعة هنا بهما إلا أن علىالقول الثاني للأضراب وعلى القول الأول للأنتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها والهمزة قيل : لأنكار الواقع واستقباحه وقيل : لا بل لأنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده إذ المراد بيان أنما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أي بل اتخذوا متجاوزين الله تعالى أولياء من الأصنام وغيرها فالله هو الولي قيل : هو جواب شرط مقدر أي إن أرادوا وليا بحق فالله تعالى هو الولي بحقلا ولي بحق سواه عز و جل وكونه جواب الشرط على معنى الأخبار ونحوه
وقال في البحر : لا حاجة إلى اعتبار شرط محذوف والكلام يتم بدونه ولعله يريد ما قيل : إنه عطف على
(25/15)
ما قبله أو أنه تعليل للأنكار المأخوذ من الأستفهام كقولك أتضرب زيدا فهو أخوك أي لا ينبغي لك ضربه فإنه أخوك
وتعقب بأن المعروف في مثله استعماله بالواو وإنما يحس التعليل في صريح الأنكار ولا يناسب معنى المضي أيضا وهو يحي الموتى أي شأنه ذلك نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم وهو على كل شيء قدير
9
- فهو سبحانه الحقيق بأن يتخذ وليا فليخصوه بالأتخاذ دون من لا يقدر على شيء ما أصلا : وما اختلفتم فيه من شيء إلى آخره حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم للمؤمنين أي ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين كاتخاذ الله تعالى وحده وليا فاختلفتم أنتم وهم فحكمه راجع إلى الله وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين يجوز أن يكون كلاما من جهته تعالى متضمنا التسلية ويكون قوله تعالى : ذلكم الخ بتقدير قل والأمام اعتبره من أول الكلام وأيا ما كان فالأشارة إليه تعالى من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قاله الطيبي من كونه تعالى هو يحيي الموتى وكونه سبحانه على كل شيء قدير وكونه عز و جل ما اختلفوا فيه فحكمه إليه وقال في الأرشاد : أي ذلكم الحاكم العظيم الشأن الله ربي مالكي عليه توكلت في مجامع أموري خاصة لا على غيره وإليه أنيب
10
- أرج مع فيما يعن لي من معضلات الأمور لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمرا واحدا مستمرا والإنابة متعددة متجددة حسب تجدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع وقيل : وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
وقيل : وما اختلفتم فيه من شيء من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله تعالى والظاهر من سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتعلق بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله تعالى أعلم كمعرفة الروح وأورد على الكل أنه مخالف للسياق لأن الكلام مسوق للمشركين وهو على ذلك مخصوص بالمؤمنين وظاهر كلام الإمام اختيار الأختصاص فإنه قال في وجه النظم الكريم : إنه تعالى كما منع رسوله صلى الله عليه و سلم أن يحمل الكفار على الأيمان كذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معه في الخصومات والمنازعات وذكر أنه احتج نفاة القياس به فقالوا إما أن يكون المراد منه وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه مستفاد من نص الله تعالى أو من القياس على ما نص سبحانه عليه والثاني باطل لأنه يقتضي أن تكون كل الأحكام مبنية على القياس فتعين الأول ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس وأجيب بأن المقصود من التحاكم إلى الله تعالى قطع الأختلاف لقوله تعالى : وما اختلفتم والرجوع إلىالقياس مما يقوي فوجب الرجوع إلىالنصوص أه وأنت تعلم أن النصوص غير كافية في جميع الأحكام وأن الآية على ما سمعت أو لا مما لا يكاد يصح الأستدلال بها على هذا المطلب من أول الأمر وفي الكشاف لا يجوز حمل الأختلاف فيها على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة لأن الأجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه و سلم ولا يخفى عليك أن هذه المسئلة مختلف فيها فقال الأكثرون بجواز الأجتهاد المذكور عقلا ومنهم من أحاله ثم المجوزون منهم من منع وقوع التعبد به وهو مذهب أبي علي وابنه أبي هاشم وإليه ذهب صاحب الكشاف وذكر ما يخالف نقل لمذهب الغير وإن لم يعقبه برد كما هو عادته
(25/16)
في الأكثر ومنهم من ادعى الوقوع ظنا ومنهم من جزم بالوقوع وقيل : إنه الأصح عند الأصوليين ومنهم من توقف والبحث فيها مستوفي في أصول الفقه والذي نقوله هنا : إن الأستدلال بالآية على منعه لا يكاد يتم وأقل ما يقال فيه : إنه استدلال بما فيه احتمال وقوله تعالى فاطر السماوات والأرض خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو فاطر أو صفة لربي أو بدل منه مبتدأ خبره جعل لكم وقرأ زيد بن علي رضي عنهما بالجر على أنه بدل من ضمير إليه أو عليه أوصف للأسم الجليل في قوله تعالى : إلى الله وما بينهما جملة معترضة بين الصفة والموصوف وقد تقدم معنى فاطر وجعل أي خلق من أنفسكم من جنسكم أزواجا نساء
وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة ومن الأنعام أزواجا أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ففيه جملة مقدرة لدلالةالقرينة أو وخلق لكم من الأنعام أصناما أصنافا أو ذكورا وإناثا يذروكم يكثركم يقال ذرأ الله تعالى الخلق بثهم وكثرهم والذرء الذر إخوان فيه أي فيما ذكر من التدبير وهو أن جعل سبحانه للناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد وجعل التكثر في هذا الجعل لوقوعه في خلاله وإثباته فهو كالمنبع له ويجوز أن تكون في للسبب يىة وغلب في يذرلاكم المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل فهناك تغليب واحد اشتمل على جهتي تغليب وذلك لأن الأنع فإذا أدخلت في خطاب العقلاء كان فيه تغيب العقل والخطاب معا وهذاالتغليب أعني التغليب لأجل الخطاب والعقل من الأحكام ذات العلتين وهما هنا الخطاب والعقل وهذا الذي عناه جار الله وهو مما لا بأسفيه لأن العلة ليست حقيقية وزعم ابن المنير أن الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين أحدهما مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب فالأول لتغليب العقل والثاني لتغليب الخطاب ليس بشيء ولا يحتاج إليه وكلام صاحب المفتاح يحتمل اعتبار تغليبين أحدهما تغليب المخاطبين على الغيب وثانيهما تغليب العقلاء على ما لا يعقل وقال الطيبي إن المقام يابى ذلك لأنه يؤدي إلى أن الأصل يذرؤكم ويذرؤها ويذرؤكن ويذرؤها لكن الأصل يذرؤكم ويذرؤها لا غير لأن كم في يذرؤكم هو كم في جعل لكم من أنفسكم أزواجا بعينه لكن ههنا علىالغيب فليس في يذرؤكم ألا تغليب واحد انتهى ثم أنه لا ينبغي أن يقال : إن التذرئة حكم علل في الآية بعلتين إحداهما جعل الناس أزواجا والثانية جعل الأنعام أزواجا ويجوز أن يكون هو اذلي عناه جار الله لأن الحكم هو البث المطلق وعلته المجموع وإن جعل كل جزء منه علة فكل بث حكم أيضا فأين الحكم الواحد المتعدد علته فافهم وعن ابن عباس أن معنى يذرؤكم فيه يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها وقريب منه قول ابن زيد يرزقكم فيه والظاهر عليه أن الضمير لجعل الأزواج من الأنعام
وقال مجاهد أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن ويتبادر منه أن الضمير للجعل المفهوم من جعل لكم من أنفسكم أزواجا ويجوز أن يكون كما في الوجه الأول ويفهم منه أن الذرء أخص من الخلق وبه صرح ابن عطية قال : ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق وهو توالي الطبقات على مر الزمان وقال العتبي : ضمير فيه للبطن لأنه في حكم المذكور والمراد يخلقكم في بطون الأناث وفي رواية عن ابن زيد أنه لما خلق من السماوات والأرض وهو كما ترى ومثله ما قبله والله تعالى أعلم ليس كمثله شيء نفي للمشابهة من كل وجه ويدخل في
(25/17)
ذلك نفي أن يكون مثله سبحانه شيء يزاوجه عز و جل وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أو المراد ليس مثله تعالى شيء في الشؤن التي من جملتها التدبيرالسابق فترتبط بما قبلها أيضا والمراد من مثله ذاته تعالى فلا فرق بين ليس كذاته شيء وليس كمثله شيء في المعنى إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الفرض كاف في المبالغة ومثل هذا شائع في كلام العرب نحو قول أوس بن حجر : ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل وقول الآخر : وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر وقول الآخر : سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ما أنك مثلهم في الناس من أحد وقد ذكر ابن قتيبة وغيره أن العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلك لا يبخل وهي تريد أنت لا تبخل أي على سبيل الكناية وقد سمعت فائدتها وفي الكشف أنها الدلالة على فضل إثبات لذلك الحكم المطلوب وتمكينه وذلك لوجهين أحدهما أنه فرض جامع يقتضي ذلك فإذا قلت مثلك لا يبخل دل على أن موجب عدم البخل موجود بخلافه إذاقلت أنت لا تبخل والثاني أنه إذا جعل من جماعة لا يبخلون يكون أدل على عدم البخل لأنه جعل معدودا من جملتهم ومن ذلك قولهم قد أيفعت لداته أي أترابه وأمثاله في السن وقول رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم في سقيا عبد المطلب : إلا وفيهم الطيب الطاهر لداته تعنير صلى الله عليه و سلم إلى غير ذلك وقيل : إن مثلا بمعنى الصفة وشيئا عبارة عنها أيضا حكاه الراغب ثم قال : والمعنى كصفته تعالى صفة تنبيها على أنه تعالى وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليست تلك الصفات له عز و جل حسبما يستعمل في البشر
وذهب الطبري وغيره إلى أن مثلا زائدة للتأكيد كالكاف في قوله : بألمس كانوا رخاء مأمول فأصبحت مثل كعصف مأكول وقول الآخر : أهل عرفت الدار بالغريين وصاليات ككما يؤثفين وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن مثلا اسم والأسماء لا تزاد بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة ونسب إلى الزجاج وابن جني والأكقرين القول بأن الكاف زائدة للتأكيد ورده ابن المنير بأن الكاف تفيد تأكيد التشبيه لا تأكيد النفي ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليست الآية نظير شطري البيتين ويقال نحوه فيما نقل عن الطبري ومن معه وأجيب بأنه يفيد تأكيد التشبيه أن سلبا فسلبو إن إثباتا فإثب ما أورد نغعم الأول هو الوجه والمثل قال الراغب : أعم الألفظ الموضوعة للمشابهة وذاك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر أن الند يقال لما يشارك في الجوهر والشبه لما يشارك في الكيفية فقط والمساوي لما يشاركفي الكمية فقط والشكل لما يشارك في القدر والمساحة فقطك والمثل عام في جميع ذلك ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبه من كل وجه خصه سبحانه بالذكر وذكرالأمام الرازي أن المثلين عند المتكلمين هما اللذان يقوم كل منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته وحمل المثل في الآية على ذلك أي لا يساوي الله تعالى في حقيقة الذات شيء وقال : لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوصف بذلك وكذا يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك وأطول الكلام في هذا المقام وفي القلب منه شيء
(25/18)
وفي شرح جوهرة التوحيد أعلم أن قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم ذهبواإلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمر ومثلا عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط وذهب المحققون من الماتريدية إلى أن المماثلة هي الأشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو
ومن لازم الأشتراك في الصفة النفسية أمران أحدهما الأشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع ثانيهما أن يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل ونسب الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه
واعترض بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا : زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلف في كثير من الأوصاف وفي الحديث الحنطة بالحنطة مثلا بم به الأستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها ويمكن أن يجاب بأن مراده التساوي في الوجه الذيبه التماثل حتى أن زيدا وعمرا لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا فلا يخالف مذهبا لما تري وفيه أيضا أنه عز و جل ليس له سبحانه مماثل في ذاته وصفاته فلا يسد مسد ذاته تعالى ذات ولا مسد صفته جلت صفته صفة والمراد بالصفة الصفة الحقيقية الوجودية ومن هنا تعلم مافي قولا لأمام لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله سبحانه يوصف بذلك فإن معنى أنه تعالى ليس مثل صفته سبحانه صفة ومن المعلوم البين أن العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عز و جل وقدرته جل وعلا أي ليسا سادين مسدهما وأما كونه تعالى مذكورا ونحوه فهو ليس من الصفات المعتبرة القائمة بذاته تعالى كما لا يخفى وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء لأن كل شيء فإنه يكون مثل المثل نفسه فقوله تعالى : ليس كمثله شيء معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو سبحانه مسمى باسم الشيء فلم يجعل الشيء المثل كناية عن الذات على ما سمعت ولا حكم بزيادة ولا بزيادة الكاف ومع هذا وإغماض العين عما في كلامه لا يتمله مقصوده إذ لنا أن نجعل ليس مثله شيء نفيا للمثل على سبيل الكناية أيضا لكن بوجه آخر وهو نفي للشيء بنفي لازمه لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال : ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أني كون لمثل الله تعالى مثل والمراد نفي مثله سبحانه وتعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير أنه موجود ومغايرته لما تقدم أن مبناه إثبات اللزوم بين وجود المثل ووجود مثل المثل ليكون نفي اللازم كناية عن نفي الملزوم من غير ملاحظة والتفات إلى حكم الأمثال وأو أنه يجري في النفي والأثبات فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم دون العكس بخلاف ما تقدم فإن مبناه إن حكم المتماثلين واحد وإلا لم يكونا متماثلين ولا يحتاج إلى إثبات اللزوم بين وجود المثل ومثل المثل وإنه يجري في النفي والإثبات كما سمعت من الأمثلة وليس ذاك من المذهب الكلامي في شيء أما أولا فلأنه إيراد الحجة وليس في الآية إشعار بها فضلا عن الأيراد وأما ثانيا فلأنه حينئذ تكون الحجة قياسا استثنائيا استثني فيه نقيض التالي هكذا لوكان له سبحانه مثل لكان هو جل شأنه مثل مثله لكنه ليس مثلا لمثله فلا بد من بيان بطلان التالي حتى تتم الحجة
(25/19)
إذ ليس بنفسه بل وجود المثل ووجود مثل المثل في مرتبة واحدة في العلم والجهل لا يجوز جعل أحدهما دليلا على الآخر لكن قيل : إن المفهوم من ليس مثله شيء على ذلك التقدير نفي أن يكون مثل لمثله سواه تعالى بقرينة الأضافة كما أن المفهوم من قول المتكلم : إن دخل داري أحد فكذا غير المتكلم وأيضا لا نسلم أنه لو وجد له سبحانه مثل لكان هو جل وعلا مثل مثله لأن وجود مثله سبحانه محال والمحال جاز أن يستلزم المحال
وأجيب على الأول أن اسم ليس شيء وهو نكرة في سياق النفي فتعم الآية نفي شيء يكون مثلا لمثله ولا شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله والأضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف المثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصودةالمنع عن دخول الغير وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقا يس المثل مع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلا لمثل مكابرة ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عز و جل وهو السميع المدرك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء البصير
11
- المدرك إدراكاتامالجميع المبصراتأو الموجودات لا على سبيلالتخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفةالعلم وتمام الكلام على ذلك في الكلام وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام
له مقاليد السماوات والأرض تقدم تفسيره في سورة الزمر وكذا قوله تعالى : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وقريء يقدر بالتشديد إنه بكل شيء عليم
12
- مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جل شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه والجملة تعليل لما قبلها وتمهيدا لما بعدها من قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى وإيذان بأنما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل والخطاب لأمته عليه الصلاة و السلام أيشرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الأتباع لاتفاق كل على نبوة بع واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الأسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبيء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمروالأعتناء بشأن المأمور به والمراد يأيحائه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم إما ما ذكر في صدرالسورة الكريمة وفي قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك الآية وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وقوله سبحانه : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد وغير ذلك وإيثار الأيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ولما في الأيحاء من
(25/20)
التصريح برسالته عليه الصلاة و السلام القامع لأنكار الكفرة والألتفات إلى نوال عظمة لأظهار كمال الأعتناء بأيحائه وفي ذلك إشعار بأن شريعته ص هي الشريعة المعتنى بها غاية الأعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصلات وذلك هو السرفي تقديم الذي أوحى إليه عليه الصلاة و السلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا وتقديم توصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما وقد قيل إنه عليه الصلاة و السلام أول الرسل وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة و السلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلى الله تعالى عليه وسلم أن أقيموا الدين أي دين الأسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والأيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمنا والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه و أن مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في شرع من معنى العلم والمصدر إما منصوب على أنه بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل : وما ذاك فقيل : هو أن أقيموا الدين وقيل : هو مجرور على أنه بدل من ضمير به ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأنه المبدل منه في نية الطرح حقيقة نعم قال شيخ الأسلام : إنه ليس بذاك لما أنه مع إفاضته إلى خروجه عن حيز الأيحاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلى الله تعالى عليه وسلم وأنهم المتفرقون ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى
وجوز كونه بدلا من الدين ويجوز كون أن مفسره فقد تقدمها ما يتضمن معنى القول دون حروفه والخطاب في أقيموا وقوله تعالى : ولا تتفرقوا فيه على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلى الله عليه و سلم وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير فيه للدين أي ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أيلا تختلفوا فيه ولا يشتمل هذا النهي عن الأختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين
قال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بأقامة الصلاة وأيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم وإنما كان منبها على بعض الأمور مقتصرا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد وشريعة أثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل فمعنى الآية شرعنا لكم ماشرعنا للأنبياء دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والأيذاء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم ومعنى أقيموا الدين ولا تتفرقوا
(25/21)
فيه اجعلوه قائما أي دائما مستمرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقا لا ما نعرفه منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل كبر أي عظم وشق على المشركين ما تدعوهم إليه على سبيل الأستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبيء بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه الله يجتبي إليه من يشاء تسلية له ص - بأن منهم من تجنب و يجتبي من الأجتباء بمعنى الأصطفاء والضمير في إليه لله تعالى كما ذكر محي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى : ويهدي إليه من ينيب
13
- أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي إليه عز و جل بالأرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه وعدي الأجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب وجعله جمع من الجباية بمعنى الجمع يقال : جببت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير إليه في الموضعين لما لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية بمعنى الجمع وعود الضمير على الدين وما ذكره محيي السنة وغيره قال في الكشف أظهر وأملأ بالفائدة أما الثاني فللدلالة على أن أهل الأجتباء غير أهل الأهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة
وأما الأول فلأن الأجتباء بمعنى الأصطفاء أكثر استعمالا ولأنه يدل أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى أجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الأكلام في عدم التفرق في الدين فناسب الجمع والأنتهاء إليه وقيل : ما تدعوهم إليه على معنى ما تدعوهم إلى الأيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى : الله يجتبي إليه من يشاء رد عليهم على نحو الله أعلم حيث يجعل رسالته وما قدمنا أظهر وما تفرقوا أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين الذي دعوا إليه واختلفوا فبه في وقت من الأوقات ألا من بعد ما جاءهم العلم من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وهذا يؤيد ما دل عليه سابقا من أن الأمم القديمة والحديث أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين والمراد بالعلم سببه مجازا مرسلا ويجوز أن يكون التجوز في الأسناد وأن يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم وقد يقال جاء مجاز عن حصل والأستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم بغيا بينهم أي غداوة على أن البغي
(25/22)
الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بمعنى طلب ولو لا كلمة سبقت من ربك هي عدته تعالى بترك معالجتهم بالعذاب إلى أجل مسمى معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة آخر أعمارهم المقدرة لهم لقضي بينهم باستئصال المبطلين حين اقترحوا لعظم ما اقترفوا وأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه و سلم وقرأ زيد ابن علي ورثوا مبنيا للمفعول مشددا الواو لفي شك منه أيمن كتابهم فلم يؤمنوا به حق الأيمان مريب
14
- مقلق أو مدخل في الريبة والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضما إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهم تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا فيكتابهم فلم يؤمنوا به ولم يصدقوا حقه
فلذلك أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا فادع إلى الأئتلاف والأتفاق على الملة الحنفية القديمة واستقم كما أمرت أي أثبت على الدعاء كما أوحي إليك وقيل : الإشارة إلى قوله تعالى : شرع لكم ومايتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأج لذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالأقامة والنهي عن التفرق فادع وما ذكر أولا أولى لأن قوله تعالى : أن أقيموا شمل النبي عليه الصلاة و السلام وأتباعه كما سمعت ويدل عليه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فقوله تعالى : فلذلك فادع الخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فأثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل
ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالأقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيقي بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع وقيل : هو الكتاب وقيل : هو العلم المذكور فيقوله تعالى : جاءهم العلم وقيل : هو الشكل ورجح بالقرب وليس بذاك واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل وقيل : على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه وأن تتعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضا كما في قوله :
دعوت لما نا بني مسرورا
ونقل ذلك عن الفراء والزجاج وأيا ما كان فالفاء الأول واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى وقيل : كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين ضمير تفرقوا لأختلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر
وقيل : ضمير تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي ص - فهذا كقوله تعالى : وما تفرق الذين أوتواالكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة و السلام لا لشبهة والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركوا مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر واختار كون المتفرقين أهل الكتاب
(25/23)
اليهود والنصارى المورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الأسلام واستظهر أن الخطاب في أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه لأمته صلى الله تعالى عليه وسلم وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه إخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال : يرد ذلك قوله تعالى : ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الأستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والأختلاف فيه فالتعرض فيه لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الأخلال بذلك المرام انتهى
وأجيب عن الأول بأن ضمير بينهم لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهم لم يصبهم عذاب الأستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا في عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور وقيل : المراد لقضي بينهم ريثما افتروا ولم يمهلوا أعواما وقيل المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الأخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلابعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين وقيل ضمير تفرقوا للمشركين فيقوله تعالى : كبر على المشركين
حكى في البحر عن ابن عباس أنه قال : وماتفرقوا يعني قريشا والعلم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم كما قال سبحانه : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير الآية وقد يقال عليه : المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم
ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أخبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب وقيل : ضمير بعدهم للمشركين والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير تفرقوا للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق وجعل متعلق استقم الدعاء لا تخفى مناسبته وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالأستقامة في جميع أموره عليه الصلاة و السلام والأستقامة أن يكون على خط مستقيم وفسرها الراغب بلزوج المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الأستقامة أي دم على الأستقامة ولا تتبع أهواءهم أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الأضافة للجنس وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم وتنكير كتاب المبين مؤيد لذلك وفي هذا القول تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب الأهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها وأمرت لأعدل بينكم أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل : لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم وقيل : بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد وقيل : لا سوى بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعلمه ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز و جل فاللام للتعليل والمأمور به محذوف وقيل : اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج
(25/24)
لتقديرالباء بأن أعدل ولا يخلو عن بعد الله ربنا وربكم أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب لنا أعمالنا لايتخطانا جزاؤها ثوبا كان أو عقابا ولكم أعمالكم لا يجاوز كم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم لا حجة بيننا وبينكم أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للأحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الأحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد الله يجمع بيننا يوم القيامة وإليه المصير
15
- فيفصل سبحانه بيننا وبينكم وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية
والذين يحاجون في الله أي يخاصمون في دينه قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الأسلام وإضلالهم فقالوا : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم وفي رواية بدل فديننا الخ فنحن أولى بالله تعالى منكم وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت غذا جاء نصر الله والفتح قال المشركون بمكة لم نبين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل في دين الله أفواجا فأخرجوا من بين أظهرنا أو أتركوا الأسلام والمحاجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك من بعد مااستجيب له أيمن بعد ما استجاب الناس لله عز و جل أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضوح المحجة والتعبير عن ذلك بالأستجابة باعتبار دعوتهم إليه حجتهم داحضة عند ربهم زائلة باطلة لا تقبل عنده عز و جل بل لا حجة لهم أصلا وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل ههنا مجراة معهم على زعمهم الباطل
وجوز كون ضمير له للرسول عليه الصلاة و السلام لكونه في حكم المذكوررواه المستجيبأهلالكتب واستجابتهم له صلى الله تعالى عليه وسلم إقرارهم واستفتاحهم به قبل مبعثه عليهالصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعد ما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقه العيان وقيل : المستجيب هو الله عز و جل وضمير له لرسوله عليه الصلاة و السلام واستجابته تعالى له صلى الله عليه و سلم بإظهار المعجزات الدالة على صدقه وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال : أيمن بعد ما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعاءه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه للمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل استجيب على الوعد خلاف الظاهر جدا وكذا ما روي عن عكرمة وقيل : إن حمل الأستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يمكن أحد منهم وقيل : لا يقتضيه لأن خبرا استجابتهم وإقرارهم وهو عليه الصلاة و السلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكحية وعليهم غضب عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره ولهم عذاب شديد
16
- لا يقادر قدره
(25/25)
الله الذي أنزل الكتاب جنس الكتاب أوالكتاب المعهود أو جميع الكتب بالحق ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام والميزان أي العدل كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أوالشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الأنزال إليه مجاز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان وتعقب بأنه أيضا محتاج إلى التأويل وقد يقال : نسبة الأنزال وكذا النزول إلى الأمر مشهورة جدا فالتحقت بالحقيقة ويجوز أن يتجوز في الأنزال ويقال نحو ذلك في أنزل الكتاب وعن مجاهد أن الميزان الآلة المعروفة فعلى هذا إنزاله حقيقته وجوز أن يكون على سبيلالأمر به واستظهر الأول لما نقل الزمخشري في الحديد أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به وكون المراد به ميزان الأعمال بعيد هنا
وما يدريك أي أيشيء يجعلك داريا أي عالما لعل الساعة أي إتيان الساعة الذي أخبر به الكتاب الناطق بالحق فالكلام بتقديره مضاف مذكر وقوله تعالى : قريب
17
- خبر عنه في الحقيقة لأن المحذوف بقرينة كالملفوظ وهو وجه في تذكيره وجوز أن يكون لتأويل الساعة بالبعث وأن يكون قريب من باب تأمر ولابن أي ذات قرب إلى أوجه أخر تقدمت في الكلام على قوله تعالى : إن رحمة الله قريب وأيا ما كان فالمعنى إن الساعة على جناح الأتيان فاتبع الكتاب وواظب على العدل واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها يستعجل بها اذ لين لا يؤمنون بها استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون : متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة و السلام وأصحابه
والذين آمنوا مشفقون منها أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الإشفاق عناية مختلفة بخوف فإذا عدي بمنكما هنا فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدي بعلى فمعنى العناية أظهر وعنايتهم بها لتوقع الثواب وزعم الجلبي أن الآية من الأحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها ويعلمون أنها الحق الأمر المتحقق الكائن لا محالة ألا أن الذين يمارون في الساعة أي يجادلون فيها وأصله من مريت الناقة إذا مسخت ضرعها للحلب وإطلاق المماراة على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه ويجوز أن يكون من المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك ومعنى المفاعة غير مقصود فالمعنى إن الذين يترددون في أمر الساعة ويشكون فيه لفي ضلال بعيد
18
- عن الحق فإن البعث أقرب الغائب ات بالمحسوسات لأنه يعلم من تجويزه من إحياء الأرض بعد موتها وغير ذلك فمن لم يهتد إليه فهو عن الأهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد
الله لطيف بعباده بر بليغ بهم يفيض جل شأنه على جميعهم من صنوفه ما لا يعلمه الأفهام ويؤذن بذلك مادةاللطف وصيغة المبالغة فيها وتنكيرها الدال على المبالغة بحسب الكمية والكيفية فالحجة الأسلام عليه الرحمة : إنما يستحق هذاالأسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ومادق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيلا لرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الأدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك إلا فيالله تعالى شأنه فصنوف البر من المبالغة في الكم وكونها لا تبلغها الأفهام من المادة
(25/26)
والمبالغة في الكيفيةلأنه إذا دق جدا كان أخفى وأخفى وإرادة الجميع من إضافة العباد وهو جمع إلى ضميره تعالى فيفيد الشمول والأستغراق وبالعموم قال مقاتل إلا أنه قال : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا
وقال أبو حيان : لطيف بعباده أي بر بعباده المؤمنين ومن سبق له الخلود في الجنة وما يرى من النعم علىالكافر فليس بلطف إنما هو إملاء إلا ما آل إلى رحمة ووفاة على الأسلام وحكى الطيبي هذا التخصيص عن الواحدي ومال إلى ترجيحه أنه ادعى أن لا لأضافة في عباده إضافة تشريف إذ أكثر استعمال التنزيل الجليل في مثل ذلك فيختص العباد بأوليائه تعالى المؤمنين وحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة وعلى الكمالات الأخروية والكرامات السنية وحمل الرزق في قوله تعالى : يرزق من يشاء عليه أيضا وقال : إن استعماله فيما ذكر كاستعماله في قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا أو يزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب
وجعل قوله سبحانه : وهو القوي العزيز
19
- مؤذنا بالتعليل كأنه قيل : إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أني ختص برحمته وكرامتهمن يشاءمن عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا معقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية وزان قوله عز و جل : ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التآم ولايقال حينئذ : إن قوله تعالى : يرزق من يشاء حكم مترتب على السابق فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر وحديث التخصيص في يرزق من يشاء فقد أجاب عنه صاحب التقريب فقال إنما خص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمته وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه وأشار جار الله إلى أنه لاتخصيص بالحقيقة فإن المعنى الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه فيرزق من يشاء لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق إلاالنصيب الخاص لكل واحد ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى : من كان يريد الخ كل الملاءمة ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي ولعل أمر التذييل بالأسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل : لطيف بعباده عام الأحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهرالقدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الأسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم وقل رب زدني علما
فكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي والحرث في الأصل إلقاء الذبر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الأستعارة المبنية على تشبيهها بالعلا لا لحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها ومن كان يريد بأعماله حرث الدنيا وهو متاعها وطيباتها نؤته منها أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته وما له في الآخرة من نصيب
20
- إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب
(25/27)
والمنقري والمنقري كلاهما عن أبي عمرو يزد ويؤته بالياء فيهما وقرأ سلام نؤته بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعلا لشرط ماضيا والجواب مضارعا مجوزا قال أبو حيان : ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وإنه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الأعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أه لايجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعات أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق دست رسولا بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدورا ذات توغير وقال أيضا تعش فإن عاهدتني لاتخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان أم لهم شركاء في الكفر وهم الشياطين شرعوا لهم أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا و أم منقطعة فيها معنى بل الأضطرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والأضراب عما سبق من قوله تعالى : شرع لكم من الدين الخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى وتأخير الأضراب ليدل على أنهم فيشرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل وجه فالشرك في مقابلة إقامة الدين والأستقامة عليه وإنكار البعث في مقابلة قوله تعالى والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق والعمل للدنيا لقوله سبحانه : من كان يريد حرث الآخرة وهذا أظهر من جعل الأضراب عما تقدم من قوله تعالى : كبر على المشركين كما لا يخفى وقيل : شركاؤهم أصنامهم وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله سبحانه وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى : إنهن أضللن كثيرا وجوز أن يكون الأستفهام المقدر على هذا للأنكار أي ليس لهم شرع ولاشارع كما في قوله تعالى : أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا وأيا ما كان فضمير شرعوا للشركاء وضمير لهم للكفار
وجوز على تفسير الشركاء بالأصنام أن يكون الأول للكفار والثاني للشركاء أي شرع الكفارلأصنامهم ورسموا من والأحكام ما لم يأذن به الله تعالى كاعتقاد أنهم آلهة وأن عبادتهم تقربهم إلى الله سبحانه وكجعل البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك وهو كما ترى ولولا كلمة الفصل أي القضاء والحكم السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة أو آخر أعمارهم لقضي بينهم أي بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا أو حين افترقوا بالعقاب والثواب وجوز أن يكون المعنى لو لا ماوعدهم الله تعالى به من الفصل في الآخرة لقضي بينهم فالفصل بمعنى البيان كما في قوله تعالى : هذا يوم جمعناكم والأولين وقيل : ضمير بينهم للكفار وشركائهم بأي معنى كان وإن الظالمين وهم المحدث عنهم أو الأعم منهم ويدخلون دخولا أوليا لهم عذاب أليم
21
- في الآخرة وفي البحر أي في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وفي الآخرة بالنار
وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب وأن بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل أي لو لا القضاء السابق بتأخيرالعذاب وتقدير أن الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة أولو لاالعدة بأن الفصل يكون يوم القيامة وتقدير أن الظالمين لهم الخلقضي بينهم والعطف على التقديرين تتميم للأيضاح لا تفسيري محض ترى الظالمين جملة مستأنفة لبيان ما قبل والخطاب لكل أحد يصلح له للقصد إلى المبالغة فيسوء حالهم أي يا من يصح
(25/28)
منه الرؤيا الظالمين يوم القيامة مشفقين خائفين الخوف الشديد مما كسبوا في الدنيا من السيآت والكلام قيل على تقدير مضاف
و من صلة الأشفاق أي مشفقين من وبال ما كسبوا وهو أي الوبال واقع بهم أي حاصل لهم لاحق بهم واختار بعضهم أن لا تقدير ومن تعليلية لأنه أدخل في الوعيد والجملة اعتراض للأشارة إلى أن إشفاقهم لا ينفعهم وأيثار واقع على يقع مع أن المعنى على الأستقبال لأن الخوف إنما يكون من المتوقع بخلاف الحزن للدلالة على تحققه وأنه لا بد منه وجوز أن تكون حالا من ضمير مشفين وظاهر ما سمعت أنه حال مقدرة
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات أي مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها
وقال الراغب : هي محاسنها وملاذها وأصل الروضة مستنقع الماء والخضرة واللغة الكثيرة في واواها جمعا التسكين كما في المنزلة ولغة هذيل مدركة فتحها فيقولون روضات إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ولم يقرأ أحد فيما علمنا بلغتهم لهم ما يشاؤن عند ربهم أيما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم فالظرف متعلق بمتعلق الجار والمجرور الواقع خبر الما أو به واختاره جار الله ونفي أن يكون متعلقا بيشاؤن مع أنه الظاهر نحوا وبين صاحب الكشف ذلك بأنه كلام في معرض المبالغة في وصف ما يكون أهل الجنة فيه من النعيم الدائم فأفيد أنهم في أنزه موضع من الجنة وأطيب مقعد بقوله تعالى : في روضات الجنات لأن روضة الجنة أنزه موضع منها لا سيما والأضافة في هذا المقام تنبيء عن تميزها بالشرف والطيب والتعقيب بقوله تعالى : لهم ما يشاؤن أيضا ثم أفيد أن لهم ما يشتهون من ربهم ولاخفاء أنك إذا قلت : لي عند فلان ما شئت كان أبلغ في حصول كل مطالبك منه مما إذا قلت : لي ما شئت عند فلان بالنسبة إلى الطالب والمطلوب منه
أما الأول فلأنه يفيد أن جميع ما تشاؤه موجود مبذول لك منه والثاني يفيد أن ما شئت عنده مبذول لا جميع ما تشاؤه وأما الثاني فلأنك وصفته بأنه يبذل جميع المرادات وفي الثاني وصفته بأن ما شئت عنده مبذول لك إما منه وإما من غيره ثم في الأول مبالغة في تحقيق ذلك وثبوته كما تقول : لي عندك وقبلك كذا فالله تعالى شأنه أخبر بأن ذلك حق لهم ثابت مقضي في ذمة فضله سبحانه ولا كذلك في الثاني ثم قال : ولعل الأوجه أن يجعل عند ربهم خبرا آخر أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في روضات الجنات لهم فيها ما يشاؤن وإنما أخر توبيخ السلوك المبالغة في الترقي من الأدنى إلى الأعلى ومراعاة لترتيب الوجود أيضا فإن الوافد والضيف ينزل في أنزه موضع ثم يحضر بين يديه الذي يشتهيه وملاك ذلك كله أني ختصه رب المنزل بالقرب والكرامة وأن جعله حالا من فاعل يشاؤن أو من المجرور في لهم أفاد هذا المعنى أيضا لكنه يقصر عما آثرناه قد أتى به إتيان الفضلة وهو مقصود بذاته عمدة ولعمري أن ما آثره حسن معنى إلاأنه أبعد لفظا مما آثره جار الله ولا يخفى عليك ما هو الأنسب بالتنزيل وفي الخبر عن أبي ظبية قال : إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول : ما أمطركم فما يدعو داع من القوم إلا أمطرته حتى أن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا ذلك إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين وما فيه من معنى البعد للأيذان ببعد منزلة المشار إليه هوالفضل الكبير
22
- الذي لا يقدر قدره ولا تبلغ غايته ويصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا ذلك
(25/29)
الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من يبشر بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا ونحوه والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده زعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الأشارة إلى التبشير لعدم لفظ البشرى ولاما يدل عليها وهو ناشيء عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كونما تقدم تبشيرالمؤمنين كاف في صحة ذلك ثم قال : ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية ألأ : تبشير الله تعالى عباده وليس بشيء لأنه إثبات للأشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل وقد ثبت إسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة
وقرأ عبد الله بن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة في رواية والكسائي وحمزة يبشر ثلاثيا ومجاهد وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدي بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدي إلى واحد وهو مخفف لا يعدى بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية قل لا أسئلكم عليه أيعلى ما أتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما أجرا أي نفعا ما ويختص في العرف بالمال إلا المودة أي إلا مودتكم إياي في القربى أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في إن امرأة دخلت النار في هرة فهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد وقتادة وجماعة والخطاب إما لقريش على ما قيل : أنهم جمعوا له ما لا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سبب آلهتهم فلم يفعل ونزلت وله عليه الصلاة و السلام في جميعهم قرابة أخرج أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : إلا المودة في القربى فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن عباس : عجلت أن النبي عليه الصلاة و السلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة للأنصار بناء على ما قيل : أنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده وله عليه الصلاة و السلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد التجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة و السلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة و السلام منهم جميعا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم وقرابته عليه الصلاة و السلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين والمعنى أن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها
وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي وذلك أمر لازم عليكم وروي نحو هذا في الصحيحين عن أبن عباس بل جاء ذلك عنه رضي عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
(25/30)
عن الشعبي قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية قل لا أسئلكم الخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي عنه إن رسول الله كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى : قل لا أسئلكم عليه أجرا على ما أدعوكم عليه إلا المودة في القربى تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها ومنها ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عنه قال : كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرابة من جميع قريشفلما كذبوهوأبوا أن يتابعوه قال : يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولايكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية والأستثناء متصل بناء على ما سمعتمن تعميم الأجر
وقيل : لا حاجة إلى التعميم وكون المودةالمذكورة من أفراد الأجر ادعاء كاف لاتصال الأستثناء وقيل : هو منقطع إما بناء على أن المودة له عليه الصلاة و السلام ليست أجرا أصلا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنها لازمة لهم ليمدحوا صلة الرحم فنفعها عائد عليهم والأنقطاع أقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقا وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي وفي البحر أنه قولا بن جبير والسدي وعمرو بن شعيب و في عليه للظرفية المجازية و القربى بمعنى الأقرباء والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم ولمكانة هذاالمعنى ىط 97 ل : إلا مودةالقربى وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الأستثناء وانقطاعه على ما سبق والمراد بقرابته عليه الصلاة و السلام في هذا القول قيل : ولد عبد المطلب وقيل علي وفاطمة وولدها رضي الله تعالى عنهم وروي ذلك مرفوعا أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قل لا أسئلكم الخ قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم قال علي وفاطمة وولدها صلى الله تعالى عليه وسلم على النبي وعليهم
وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف ونص على ما ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر وأيضا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكى عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روي عن جماعة من أهل البيت ما يؤيد ذلك أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين رضي عنهما أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه : أقأت القرآن قال : نعم قال : أقرأت آل حم قال : نعم قال : ما قرأت قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى قال : فإنكم لأنتم هم قال : نعم وروي ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية وإلى هذا أشار الكميت في قوله : وجدنا لكم في آل حم آية تأويلها منا تقي ومعرب ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول : بأية آية يأتي يزيد غداة صحائف الأعمال تتلى وقام رسول رب العرش يتلو وقد صمت جميع الخلق قل لا والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقط وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت فقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(25/31)
قال : أذكركم الله تعالى في أهل بيتي وأخرج الترمذي وحسنه والطبري والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : قال عليه الصلاة و السلام أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت إلا أدخله الله تعالى النار إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي عن عبد المطلب بن ربيعة قال : دخل العباس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم ودر عرق بين عينيه ثم قال : والله لا يدخ لقلب امريء مسلم أيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي وهذا ظاهر إن خص بالمؤمنين منهم وإلا فقيل : إن الحكم منسوخ وفيه نظر والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة و السلام من حيث أنهم قرابته صلى الله عليه و سلم كيف كانوا وما أحسن ما قيل : داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد فمودة العلويين الفاطميين ألزم من محبة العباسيين على القول بعموم القربى وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والأعتبارات و آثار تلك المودة التعظيم والأحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الفرض السلوك في هاتيك المسلك وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي : يا راكبا قف بالمحصب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان إنى رافضي ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا وأرى حبهم فرضا على مبينا فقد أوجبه أيضا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين قال : إنه عليه الصلاة و السلام قال : مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلك وقال رسول الله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين أحدهما السفينة الخالية عن العيوب والثاني الكواكب الطالعة النيرة فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبا فلذلك ركب أصحابنا أه لسفينة حب آل محمد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى و الكثير من الناس فيحق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط
وقال عبد الله بن القاسم : المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يود بعضكم بعضا وتصلوا قراباتكم وأمر في الأستثناء لا يخفى
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجراإلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب قيل : ويجري في الأستثناء الأتصال والأنقطاع واستظهر
(25/32)
الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت وأرادة على القول قبله كذلك
وقرأ زيد بن علي رضي عنهما إلا مودة في القربى هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الأستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال : علي كرم الله تعالى وجهه واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الأمامة ينتج علي رضي الله تعالى عنه صاحب الأمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث أما أولا فلأن في الأستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول وقيل في هذا المعنى : إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفعل أولادهم وقراباتهم وأيضا فيه منافاة ما لقوه تعالى : وما تسألهم عليه من أجر وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبةالعلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم وأما ثالثا فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وألا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا يأبى ذلك وأما رابعا فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت وأجيبوا الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدم لاتهبل ينتج أهل البيت صاحب و الأمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل
ومن يقترف حسنة أي يكتسب أي حسنة كانت والكلام تذييل وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس والسدي وأن الآية نزلت فيأبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت وقصة فدك والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم والكلام عليه تتميم ولعل الأولى وحب آل الرسول عليه الصلاة و السلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولا أوليا نزد له فيها أي في الحسنة حسنا بمضاعفة الثواب عليها فإنها يراد بها حسن الحسنة ففي للظرفية و حسنا مفعول به أو تمييز وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي يزد بالياء أي يزد الله تعالى وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو حسنى بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى إن الله غفور ساتر ذنوب عباده شكور
23
- مجاز من أطاع منهم بتوفيةالثواب والتفضل عليه بالزيادة وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم شكور لحسناتهم
أم يقولون بل أيقولون افترى محمد عليه الصلاة و السلام علي كذبا بدعوى النبوة أو القرآن والهمزة للأنكار التوبيخي وبل للأضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرا وشركا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلا ودعة وعقلا افتراء ثم افتراء على الله عز و جل فكأنه قيل : أيتمالكون التفوه بنسبة مثله عليه
(25/33)
الصلاة والسلام إلى الأفتراء ثم إلى الأفتراء على الله عز و جل الذي هو أعظم الفرى وأفحشها لا تحترق ألسنتهم
وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلى الله تعالى عليه وسلم من الأفتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى : فإن يشأ الله يختم على قلبك فإن هذا الأسلوب مؤاده استبعاد الأفتراء من مثله عليه الصلاة و السلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل : فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجتريء على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وما أحسن هذاالتعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة : لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمي القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم فالكلام تعليل لأنكار قولهم وأتى بأن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان وقيل : إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين ثم ذيل بقوله تعالى : ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته تأكيدا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الأفتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة و السلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه
والفعل المضارع للأستمرار والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على يختم وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعا لأسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في سندع الزبانية ويدع الأنسان بالشر وكان القياس إثباتها رسما لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على المقياس ويؤيد الأستئناف دون العطف على يختم إعادة الاسم الجليل ورفع يحق وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين وبيان ارتباطهما بما قبلهما وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي : لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلا وجوز هو أيضا في قوله تعالى : ويمح الخ أن يكون عدة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم ومابهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له وحينئذ يكون اعتراضا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى : إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة و السلام لو افترى على الله تعالى كذبا لمنعه من ذلك قطعا وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم أنه سبحانه لا يشاء صدورهعن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعا فكأنه قيل : لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولمتنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله عز و جل وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعولا لمشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف
(25/34)
في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم وأيهام كون القرآن ناشئا منه صلى الله عليه و سلم لا منزلا عليه عليه الصلاة و السلام وقال السمرقندي : المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة و السلام وتذكير لأحسانه إليه وإكرامه له صلى الله تعالى عليه وسلم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولو لا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر فالتفريع إلى المعنى المكني عنه وحاصله أنهم اجترؤا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى وفيه شمة مما ذكره الزمخشري
وعن قتادة وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن والمراد على ما قال ابن عطية الرد مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل : وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شار لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى وذكرالقشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعالجهم بالعذاب وعدل على الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة و السلام افترى على الله تعالى كذبا وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم وقال مجاهد ومقاتل : المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر ولا مانع عليه من عطف يمح على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجزوم و يحق حينئذ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم هاجلا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه وقيل : لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه وربما يقال : إن جملة فإن يشأ الله يختم منتتمة قولهم مفرعا على افترى كأنه قيل : افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئا أو كأنه قيل : افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى على ظاهرة وكونها الأشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى ولعل الأولى أن يكون فإن يشأ الخ مفرعا على كلامهم خارجا مخرج التهكم بهم ولا بأس حينئذ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالبطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل : أم يقولون افترى على الله فأذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل وهذا تقول لمن أخبرك أن زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فأذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه إنه عليم بذات الصدور
24
- فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدرهم فيجزي جل وعلا الأمر على حسب ذلك
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدي بعن لتضمنه معنى الأبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم أي تؤخذ وقيل : القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف
والتوبة أن يرجع عن القبيح والأخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل
(25/35)
وزادوا التفضي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد أو إلى وكيله أو الأستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالاكسير ومنرأى الأكسير فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه وإلا يدع له ويستغفر
وفي الكشف التفصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الأحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدتن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعة لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك
وروي جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله تعالى وجهه : إن سرعة اللسان بالأستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين : ما التوبة قال : اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الأعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الأصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم : لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذافي فعل الحسن بل يقال : لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث
واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح بالواجب وفيه أيضا بحث والأنفع في هذاالمقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عز و جل
ويعفوا عن السيئات صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر
وقال الطيبي : المعنى من شأنه تعالى قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيآتهم بمحض رحمته أو بشفاعة شافع وقال المعتزلة : أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في النظم الجليل على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالأجماع
ويعلم ما تفعلون
25
- بتاء الخطاب عند حفص والأخوين وعلقمة وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان من خير وشر فيجازي بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسبما تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح
(25/36)
وقيل : يعلم ذلك فيجازي التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر وفي الكشاف يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات وفيالكشف بعد نقله هو أي قوله تعالى ويعلم الخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه إذا علم العملين والعاملين جازى كلا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والأخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة ونحن أيضا لا ننكر تذييل فيه تأكيد كمالا يخفى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات عطف على يقبل التوبة فالفاعل ضميره تعالى و الذين مفعول بدون تقدير شيء بناء على أن يستجيب يتعدى بنفسه كما يتعدى باللام نحو شكرته وشكرت له أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والأيصال والأصل يستجيب للذين آمنوا بناء على أنه يتعدى للداعي باللام بنفسه ونحو هذا قوله : وداع دعايا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب وأجاب واستجاب بمعنى أي ويجيب الله تعالى الذين آمنوا إذ ادعوا وحاصله يجيب دعاءهم وجوز بعضهم أن يكون الكلام بتقدير هذا المضاف قيل : هو أولى من القول بأيصال الفعل بحذف الصلة لأن حذف المضاف إذا لم يلبس من قاس وذاك مسموع ويجوز أن يكون المراد يثيبهم على طاعتهم فإن الطاعة لكونها طلب ما يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاء وشابهت الأثابة عليها الأجابة ومن هذا يسمى الثناء دعاء لأنه يترتب عليه ما يترتب عليه وسئل سفيان عن قوله عليه الصلاة و السلام في الحديث : أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحدهلا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هذا كقوله تعالى في الحديث القدسي : من شغله ذكري عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ألا ترى قول أمية بن الصلت لابن جدعان حين أتاه يبغي نائله : أأذكر حاجتي أم قد كفاني ثناؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوم كفاه عن تعرضك الثناء وجعلوا من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم أفضل الدعاء الحمد لله على معنى أن الحمد يدل على الدعاء والسؤال بطريق الكناية والتعريض وقيل : هو على أطلاق الدعاء على الحمد لشبهه به في طلب ما يترتب عليه وجوز أن يراد بالأجابة معناها الحقيقي والأثابة بناء على القول بصحة الجمع بين الحقيقة والمجاز أي يجيب دعاءهم ويثيبهم على الطاعة ويزيدهم على ما سألوا واستحقوا من فضله الواسع جل شأنه وقيل : إن فاعل ويستجيب الذين آمنوا واستظهره أبو حيان والجملة عطف على مجموع قوله تعالى : هو الذين يقبل التوبة الخ أي ينقادون لله تعالى ويجيبونه سبحانه إذا دعاهم وهو المروي عن ابن جبير وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما لنا ندعوا فلا نجاب فقال : لأنه سبحانه دعاكم فلم تجيبوه ثم قرأ والله يدعو إلى دار السلام ويستجيب الذين آمنوا وهذا يؤكد هذا الوجه لأنه قدس سره ذكر أن الله تعالى دعاكم بقوله عز و جل : والله يدعو إلى دارالسلام وذكر أن المؤمن من استجاب دعوة ربه تعالى بقوله : ويستجيب الذين آمنوا فمن لا يجيب دعاءه تعالى لا يجيب تعالى أيضا دعاءه وكون الفاعل ضميره تعالى قد روي ما يقتضيه عن ابن عباس ومعاذ بن جبل ويزيدهم عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخرعطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب وقالا الحمد لله الذي فضلنا وقوله سبحانه من
(25/37)
فضله متعلق بيزيدهم مطلقا وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الأجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة
وأيا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله حين قدم المدينة واستحكم الأسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتير عليه الصلاة و السلام ونقول له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فقرأها عليهم وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك عز قرابته من بعده فنزلت أم يقولون افترى على الله كذبا فأرسل إليهم فتلاها عليهم فكبوا وندموا فأنزل الله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده فأرسل صلى الله عليه و سلم إليهم فبشرهم وقال : ويستجيب الذين آمنوا وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي وذكر قريبا منه في الدر المنثور لكن قال : أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن جبير بسند ضعيف والذي يغلب على الظن الوضع والكافرون لهم عذاب شديد
26
- بدلما للمؤمنين من الأجابة والتفضل
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض أي لتكبروا فيها بطرا وتجاوز الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضا فإن الغني مبطرة مأشرة وكفى بحال قارون عبرة وفي الحديث أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ولبعض العرب : وقد جعل الوسمي ينبت بيننا وبين بني روماننبعاوشوحطا وأصلا لبغي طلب أكثر مما يجب بأن يتجاوز في القدر والكمية أو في الوصف والكيفية ولكن ينزل بالتشديد وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف من الأنزال بقدر بتقدير ما يشاء وهوما اقتضته حكمته جل شأنه أنه بعباده خبير بصير
27
- محيط بخفيات أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحدمنهم فيكل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنه فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا واستشكلت الآية بأن الغنى كما يكون سبب البغي فذلك الفقر قد يكون فلا يظهر الشرطية وأجاب جار الله بأنه لا شبهة أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وكلاهما سبب ظاهر للأقدام على البغي والأحجام عنه فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن وأراد والله تعالى أعلم أن نظام العالم على ما هو عليه يستمر وإن كان قد يصدر من الغنى في بعض الأحيان بغي ومن الفقير كذلك لكن في أحدهما ما يدفع الآخر أما لو أفقرهم كلهم لكان الضعف والهلك لازما ولو بسط عليهم كلهم مع أن الحاجة طبيعية لكان من البغي ما لا يقادر قدره لأن نظام العال أكثر منه بالغنى وهذا أمر ظاهر مكشوف ثم إن الفقر الكلي لا يتصور معه البغي للضعف العام ولأنه لا يجد حاجته عند غيره ليظلمه وأما الغنى الكلي فعنده البغي التام وأما الذي عليه سنةالله عز و جل فهو الذي جمع الأمرين مشتملا على خوف للغني من الفقراء يزعه عن الظلم وخوف للفقير من الأغنياء أكثر منه يدعوه إلى التعاون ليفوز بمبتغاه ويزعه عن البغي ثم يتفق بغي من هذا أو ذاك كذا قرره صاحب الكشف ثم قال : وهذا جواب حسن لا تكلف فيه وهو إشارة إلى رد العلامة الطيبي فإنه زعم أنه جواب متكلف وإن السؤال قوي وذهب هو إلى أن المراد بعباده من خصهم الله تعالى بالكرامة وجعلهم من أوليائه ثم قال : وينصره التذييل بقوله تعالى : إنه بعباده خبير بصير
(25/38)
ووضعالمظهر موضع المضمر أيأنه تعالى خبيربأحوال عبادهالمكرمينبصير بما يصلحهم وما يرديهم وإليه ينظر ما ورد عنه صلى الله عليه و سلم إذاأحب الله تعالى عبداحماه الدنياكمايظل أحدكم يحمي سقيمه الماءويشد من عضده قولخباب بن الأرت نظرناإلى أموال بني قريظة والنضير وبنيقينقاعفتمنيناها فنزلت ولو بسط الآيةوقول عمرو ابنحريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلى الله عليه و سلم أن يغنيهمالله تعالىويبسط لهم الأموال والأرزاقفنزلت وعليه تفسير محيي السنة انتهى ولا يخفى أن الأنسببحال المكرمين المصطفينمن عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنيلصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلققلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشياء وكمال علمهمبمنتهى زخارفالحياة الدنيا وأبناءالدنيالوفكرو في ذلك حق التفكرلهان أمرهموقل شغفهم كما قيل : لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يسببهلم يسبه فلعل الأولىما تقدمأو يقال : إن هذا في بعض العباد المؤمنين فتأمل وهو الذيينزل الغيث أيالمطرالذي يغيثهممنالجدب ولذلك خصبالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر وقرأالجمهور ينزل مخففا
من بعدما قنطوا يئسوا منه وتقييد تنزيلهبذلك معتحققه بدونهأيضالتذكير النعمة وقرأالأعمش وابن وثاب قنطوا بكسرالنون وينشر رحمته أي منافع الغيثوآثاره في كلشيء من السهل والجبلوالنباتوالحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمةلما ذكر انتظاماأوليا وقيل : الرحمة هناظهورالشمس لأنهإذادام المطرسئمفتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء ومنالبعيد جداما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين وأياما كان فضمير رحمته للهD وجوز على الأول كونه للغيث
وهو الولي الذييتولىعباده بالأحسان ونشرالرحمة الحميد
28
- المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه ومن آياته خلقالسماوات والأرض علىما هماعليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتهاوصفاتهاتد على شؤنه تعالىالعظيمة ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها منالطبيعة العديمة الشعور
وما بث فيهما عطف على السماوات أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على خلق أي ومن آياته ما بث
و ما تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقديرمضاف أي خلق الذي بث خلافا لأبي حيان من دابة أي حيوان له دبيبوحركة وظاهر الآية وجود ذلك في السماواتوفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة ويجوز أن يكونللملائكة مشي معالصيران واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الأناسي بعيد في عرفاللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كونالدوابفي الأرض لا غير ومافي أحد الشيئين يصدق أنهفيهما فيالجملة فالآية على أسلوب يخرلاج منهما اللؤلؤ والمرجان وذلكلقوله تعالى في البقرة : وبثفيهامنكل دابة فإنهيدل على اختصاص الدواببالأرضلأن مقامالأطناب يقتضي ذكره لوكان لا للعملبمفهوم اللقلب الذيلا يقول به الجمهور والجوابأن التي في البقرة لما كانتكلامامعالغب والفهم والمسترشد والمعاند جيء فيه بما هو معروف عند الكل وهوبث الدواب في الأرض وأما ههنافجيء به مدمجامختصرالماتكررف القرآنولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل : ومن
(25/39)
آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما مؤثرا على لفظ الخلق ليدلعلى التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى : من دابة تعميما وتغليب الغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى : ويخلق مالا تعلمون وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بوايطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقصما في الآيات على ما يدعون ويحتمل أن يكون غيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القولبه وقيل : المراد بالسماوات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلا وفي جو كل إقليم بل كل بلدة بلكل قطعةمن الأرض حيوانات لا يحصى كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها وقيل : المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه وكذلك يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازا إما استعمال المقدي في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أوالمسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببا للحيف يكون مجازا مرسلا تبعيا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل على خلافه وأين ذلك الدليل بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض
وهوعلى جمعهم أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة إذا يشاء ذلك قدير
29
- تام القدرة كاملها و إذا متعلقة بما قبلها لا بقدير لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع ومنه قوله : وإذا ما أشاء أبعث منها آخر الليل ناشطا مذعورا وقول صاحب الكشف : لقائل أن يفرق إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهما وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا وضمير جمعهم قيل للسماوات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى وقيل : للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة وقيل : للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى وما أصابكم من مصيبة أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات فبما كسبت أيديكم أي معاصيكم التي اكتسبتموها و ما اسم موصول مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثير المافيه من معنى الشرط لأشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جيء بالفاء هنا
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة بما بغير فاء ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولا يكفي في الأشعار المذكور وحكى عن ابن مالك أنه قال : اختلاف القرائتين دل على أنما موصولة فجيء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حط المشبه على المشبه به وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو
من يفعل الحسنات الله يشكرها
والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقا ومنه
(25/40)
قوله تعالى : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون
وقال أبو البقاء : حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة ويعفو عن كثير
30
- أيمن الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا
وجوز كون المراد بالكثير من الناس والظاهرالأول و الذي تشهد له الأخبار روي الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفوا الله تعالى عنه أكثر وقرأ وما أصابكممن مصيبة
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية وما أصابكم الخ قال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاف عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عز و جل عنه أكثر وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر ورؤي على كف شريح قرحة فقيل : بم هذا فقال : بما كسبت يدي وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال : إن أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب ففي الحديث أشدالناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب اذ لأنه فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية وقيل : مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وسأفسرها يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عن في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محال فما هي إلا امتحانات وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيه البعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له
وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال : المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن
وفي الأنتصاف إنهذه الآية تلبس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنهم حملوا قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على التائب وهو غير ممكن لهم هاهنا فإنهقد أثبت التبعيض
(25/41)
في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضها أيضا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الأمام عن أبي هاشم وهو رأس الأعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا : المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب وأنت تعلم ما دل خبر علي كرم الله تعالى وجهه
وما أنتم بمعجزين في الأرض أي بجاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزا أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب وقيل : المراد إنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء وما لكم من دون الله من ولي من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها ولا تصير
31
- يدفعها عنكم والجملة كالتقرير لقوله تعالى : ويعفو عن كثير أي إن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفو ما قضى عليكم منه اولا لكم أيضا متول بالرحمة غيره عز و جل ليرحمكم إذا أصابتكم ولاناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية في القرآن للمؤمنين ويقوي أمر الرجاء على ما قيل : أن معنى ما أنتم الخ ما أنتم بمعجزين الله تعالى في دفع مصائبكم أي أنه سبحانه قادر على ذلك ومن آياته الجوار أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى : في البحر وبذلك حسن الحذف وإلافهي صفةغير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه وجوز أبو حيان أن يقال : إنها صفة غالبة كالأبطح وهي يجوز فيها أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف و في الحر متعلق بالجواري وقوله تعالى : كالأعلام
32
- في موضع الحال
وجوز أن يكون الأول أيضا كذلك والأعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمي الجبل علما لذلك ولا اختصاص له بالجبل اذ ليعليه النار للأهتداء أذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء : وإن صخر التأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وفيه مبالغة لطيفة وحكى أن النبيصص قال لما سمعه : قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا وقرأ نافع وأبو عمرو و الجواري بياء في الوصل دون الوقف
وقرأابن كثير به افيهما والباقون بالحذف فيهما والأثبات على الأصل والحذف للتخفيف وعلى كل فالأعراب تقديري وسمع بعض العرب الأعراب على الراء إن يشأ يسكن الريح التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكلف ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خليا وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغا بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدث الر وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر وأماالمتقدمون فذكروا أشياء أخر ولعل هناك أسبابا غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عز و جل والقول بالأسباب تحريكا وإسكانا لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جل جلاله وعم نواله
(25/42)
وقرأ نافع الرياح جمعا فيظللن رواكد على ظهره فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا وفسر بعضهم يظللن يبقين فيكون رواكد حالا أولى
وقرأ قتادة فيظللن بكسراللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ وقال الزمخشري : هو من ظل ويظل والكسر نحو ضلب الضاد يضل ويضل وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكرلأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضل بالكسر من ظللت بالفتح وكلاهما مقيس إن في ذلك الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى : لآيات عظيمة كثيرة على عظمة شؤنه عز و جل لكل صبار شكور
33
- لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص بالتمعن في نعمه تعالى شكر
ويجوز أن يكون قد كني بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الأيمان نصفه صبر ونصفه شكر
وذكر الأمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين أو يوبقهن عطف على يسكن أي أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفةالمغرقة والمراد على ما قال غير واحد إهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز بإطلاق المحل على حاله أو بطريق الكناية لأنه يلزم من إهلاكها من فيها والقرينة على إرادة ذلك قوله تعالى : بما كسبوا وأصله أو يرسلها أي الريح فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود من إرسالها عاصفة وهو إما إهلاكهم أو إنجاؤهم من قوله تعالى : ويعف عن كثير
34
- إذ المعنى أو يرسلها فيوفق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على طريق العفو عنهم وبهذا ظهر جزم يعف لأنه بمعنى ينج معطوف على يوبق ويعلم وجه عطفه بالواو لأنه مندرج في القسيم وهو إرسالها عاصفة وعلى هذا التفسير تكون الآية متضمنة لأسكانها ولأرسالها عاصفة مع الإهلاك والإنجاء وإرسالها باعتد المعلوم من قوله سبحانه الجواري فإنها المطلوب الأصلي منها
وقال بعض الأجلة : التحقيق أن يعف عطف على قوله تعالى : يسكن الريح إلى قوله سبحانه : بما كسبوا ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالأسكان أو الأعصاف وإن يشأ يعف عن كثير
وجوز بعضهم حمل يوبقهن على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضا وجعل الآية مثل قوله تعالى وما أصابهم من مصيبة
الخ وقرأ الأعمش يعفو بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحدهكما في قراءة الجزم وعن أهل المدينة أنهم قرؤا يعفو بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوبا بعدال والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد من الكلام السابق كأنه قيل : يقع وهومن العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين فيمثل ذلك وتسمى هذه الواو و او الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها
واختار الرضي أن الواو إما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجملة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن
(25/43)
الظاهر ليكون نصافي معنى الجمعية والمشهور اليوم ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم الزجاج النصب في قوله تعالى : ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص
35
- أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك وجعلوا الجزاء بمنزلة الأنشاء كالأستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال : فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال : واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله :
وألحق بالحجاز فأستريحا
فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار قليلا لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالأستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى وخرج هو النصب في يعلم على العطف على علة مقدرة قال : أي لينتقم منهم ويعلم الذين الخ وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك مع وجود حرف التعليل كقوله تعالى : ولنجعله آية للناس وقوله سبحانه : خلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزي كل نفس بما كسبت
وقال أبو حيان : يبعد هذا التقدير أنه تر على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم
وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في يعفو على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال : إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير وقراءة النصب في يعلم هي التي قرأبها أكثر السبعة
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر والأعرج وشيبة وزيد بن علي بالرفع وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى ومن آياته الدالة على كما لا لقدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه فيها بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا حفر الذمم فكأنه لما قيل : إن يشأ يسكن الريح وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص وجاز أني جعل عطفا على قوله تعالى : ومن آياته الجوار وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجودها من الدلالة أقيمت مقام المضمر والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونها آية بل آيات ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرقع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية وفيه بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى وقريء ويعلم بالجزم
وخرج على العطف على يعف وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في
(25/44)
المستقبل الوعيد النحذير كما قيل : سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار ومرجع المعنى على ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعض أو ينج آخرين عفوا ويحذر جماعة أخرى
واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذاالتحذير غير لائح وأيضا علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة
وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عز و جل فهو تعميم واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفوا ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى الآية ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرأ بها في السبعة والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل يعلم الذين وجملة ما لهم من محيص سادة مسد المفعولين وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الأسمية أي وهو يعلم الذين ولا يخفى أن الظاهر على الأحتمال الثاني كون الذين مفعولا أو لا والجملة مفعولا ثانيا على ضميره تعالى المستتر وأجيب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف يعلم على يعف لئلا يخرج الكلام عن الأنتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى فما أوتيتم من شيء أي شيء كان من أسباب الدنيا والظاهر أن الخطاب للناس مطلقا وقيل : للمشركين وما موصولة مبتد أو العائد محذوف أي أو تيتموه والخبر ما بعد ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط وقال أبو حيان : هي شرطية مفعول ثان لأوتيتم و من شيء بيان لها وقوله تعالى : فمتاع الحياة الدنيا أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم فيها جواب الشرط والأول وفق بقوله تعالى : وما عند الله من ثواب الآخرة خير ذات الخلوص نفعه وأبقى زمانا حيث لا يزول ولا يفنى لأن الظاهر أن ما فيه موصولة وإنما لم يؤت بالفاء في خبرها مع أن الموصول المبتدأ إذا وصل بالظرف يتضمن معنى الشرط أيضا لأن مسببة كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمر معلوم مقرر غني عن الدلالة عليه بحرف موضوع له بخلاف ما عند غيره سبحانه والتعبير عنه بأنه عند الله تعالى دون ما ادخر لذلك وقوله تعالى : للذين آمنوا إما متعلق بأبقى أو اللام لبيان من له هذه النعمة فهو خبر مبتدأ محذوف أي لذلك للذين آمنوا
وعلى ربهم يتوكلون
36
- لا على غيره تعالى أصلا وعن علي كرم الله تعالى وجهه اجتمع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله تعالى فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت والموصول في قوله تعالى : والذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون
37
- مع ما بعد إما عطف على الموصول الأول أو هو مدح مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف أو منصوب بمقدر كأعني أو أمدح والواو اعتراضية كما ذكره الرضي وغفل أبو البقاء عن الواو فلم يذكر العطف وذكر بدله البدل وكبائر الأثم ما رتب عليه الوعيد أو ما يوجب الحد أو كلما نهى الله تعالى عنه والفواحش ما فحش وعظم قبحه منها وقيل : المراد بالكبائر ما يتعلق
(25/45)
بالبدع واستخراج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله تعالى : وإذاما غضبوا هم يغفرون ما يتعلق بالقوة الغضبية وهو كما ترى والمراد بالأثم الجنس وإلا لقيل الآثام و إذا ظرف ليغفرون و هم مبتدأ لا تأكيد لضمير غضبوا وجوزه في البحر وجملة يغفرون خبره وتقديمه لأفادة الأختصاص لأنه فاعل معنوي واختصاصهم باعتبار أنهم أحقاء بذلك دون غيرهم فإن المغفرة حال الغضب عزيزة المثال وفي الآية أيماء إلى أنهم يغفرون قبل الأستغفار وقيل : هم مرفوع بفعل يفسره يغفرون ولما حذف انفصل الضمير وليس بشيء وجعل أبو البقاء إذا شرطية وجملة هم يغفرون جوابا لها وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم الفاء حينئذ ولا يجوز حذفها إلا في الشعر وتقدم لك آنفا ما ينفع كتذكره فتذكر وقرأ حمزة والكسائي كبير الأثم بالأفراد لأرادة الجنس أو الفرد الكامل منه وهو الشرك وروي تفسيره به عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولا يلزم التكرار لأن المراد الأستمرار والدوام والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة قيل : نزلت في الأنصار دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم للأيمان به وطاعته سبحانه فاستجابوا له فأقنى عليهم جل وعلا بما أثنى وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام لبيان شرفه لأيمانهم دون تردد وتلعثم والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة أوالمراد بهم أصحاب العقبة وأمرهم شورى بينهم أي ذو شورى ومراجعة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الأخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة وقيل : ان إضافة المصدر للمعوم فلا يصح الإخبار إلابالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه ولا جميع أمورهم وفيه نظر وقال الراغب : المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى والمشهور كونه مصدرا وجيء بالجملة إسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الأخبار بالمصدر وقد أخرج البيهقي في شعب الأيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدى لأرشد الأمور وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال : ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا وأمرهم شورى بينهم وقد كانت الشورى بين النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة و السلام وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك والمراد بالأحكام ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عز و جل إلى آراءالرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال : أجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا استرشدوا العاقل ترشدوا ولاتعصوه فتندموا والشورى على الوجه الذي ذكرناه من جملة أسباب صلاح الأرض ففي الحديث إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض
(25/46)
خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفساد للدين والدنيا أكثر من صلاحها ومما رزقناهم ينفقون
38
- أي في سبيل الخيرلأنه مسوق للمدح ولا مدح بمجرد الأنفاق ولعل فصله على قرينه بذكر المشاورة لأن الأستجابة لله تعالى وأقام الصلاة كانا من آثارها وقيل : لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون
39
- أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتمدون ومعنى الأختصاص أنهم بالأنتصار وغيرهم يعدوويت ولا يراد أنهم ينتصرون ولا يغفرون ليتناقض هو والسابق فكأنه وصفهم سبحانه بأنهم الأخصاء بالغفران لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول في غيرهم وأنهم الأخصاء بالأنتصار على ما جوز لهم إن كافؤا ولايعتدون كغيرهم فهم محمودون في الحالتين بينحسن وأحسن مخصوصون بذلك من بين الناس وقال غير واحد : إن كلا من الوصفين في محل وهو فيه محمود فالعفو عن العاجزالمعترف بجرمه محمود ولفظ المغفرة مشعر به والأنتصار من المخاصم المصر محمود ولفظ الأنتصار مشعر به ولو أوقعا على عكس ذلك كانا مذمومين وعلى هذا جاء قوله : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى وقد يحمد كل ويذم باعتبارات أخر فلا تناقض أيضا سواء اتحد الموصوفان في الجملتين أو لا وقال بعض المحققين : الأوجه أن لا يحمل الكلام على التخصيص بل على التقوى أي يفعلون المغفرة تارة والأنتصار أخرى لا دائما للتناقض وليس بذاك وعن النخعي أنه كان إذا هذه الآية قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجتريء عليهم الفساق وفيه أيماء إلى أن الأنتصار من المخاصم المصر وإلا فلا إذلال للنفس بالعفو عن العاجزالمعترف ثم إن جملة هم ينتصرون من المبتد أوالخبر صلة الموصول و إذا ظرف ينتصرون وجوز كونها شرطية والجملة جواب الشرط وجملة الجواب والشرط هي الصلة وتعقبه أبو حيان بما مر آنفا وجوز أيضا كون هم فاعلا لمحذوف وهو كما سمعت في وإذا ما غضبوا الخ وقال الحوفي : يجوز جعل هم توكيدا لضمير أصابهم وفيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل ولعله لا يمتنع ومع هذا فالوجه في الأعراب ما أشرنا إليه أولا وجزؤا سيئة سيئة مثلها بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة وقال جار الله : تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء منتنزل به وفيه رعاية لحقيقة اللفظ وإشارةإلى أن الأنتصار مع كونه محمودا إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الأحتياط وقوله تعالى : فمن عفا أي عن المسيء إليه وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والأغضاء عما صدر منه فأجره على الله فيجزيه جل وعلا أعظم الجزاء تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإنكان سلوك الطريق الأحتياط يتضمن مع ذلك إصلاح ذات البين المحمود حالا ومالا ليكون زيادة تحريض عليه وأبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه الدال على عظمته زيادة في الترغيب وجيء بالفاء ليفرعه عن السابق أي إذا كان سلوك الأنتصار غير مأمور العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق
(25/47)
المأمون العثار المحمود في الدارين وقوله تعالى : إنه لا يحب الظالمين
40
- المتجاوزين عن الحد في الأنتقام تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الأعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتها بالحمية فيكون دخولا في زمرة منلا يحبه الله تعالى ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل فمن عفا الخ اعتراضا ثم لو كان كذلك بأن يكون هذامتعلقا بجزاء سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة ولمن انتصربعد ظلمه بعد ما ظلم بالبناء للمجهول وقريء به فالمصدرمضاف لمفعوله أو هو مصدر البني للمفعول واللام للقسم وجوز أن تكون لام الإبتداء جيء بها للتوكيد و من شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل فأولئك ما عليهم من سبيل
41
- أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها والجملة عطف على من عفا وجيء بها للتصريح بأنما حض عليه إنما حض عليه إرشادا إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالا أو مالا ولايهام الحض خلاف ما تضمنته من نفي السبيل على العموم صدرت باللام وقوله تعالى : إنماالسبيل على الذين يظلمون الناس تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين والمراد بالذين يظلمون الناس من يبتدؤونهم بالظلم أو يزيدون في الأنتقام ويتجاوزون ما حد لهم وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلونبهم ما لا يستحقونه وهو أعم
ويبغون في الأرض بغير الحق أي يتكبرون فيها تجبرا وفسادا أولئك الموصوفون بالظلم والبغي بغي الحق لهم عذاب أليم
43
- بسبب ظلمهم وبغيهم والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة وقيل : من يعمهم وغيرهم وقوله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
43
- تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماما به وزيادة ترغيب فيه فالصبر هنا الاصلاح المؤخر فيما تقدم قدمه هنا وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولي العزم وإشارة إلى الأصلاح بالعفو والأغضاء إن مايحمد إذا كان على قدرة لا عن عجز و ذلك إشارة إلى المكذور من الصبر والمغفرة و عزم الأمور الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة وجوز في من أن تكون موصولة وأن تكون شرطية وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون قسمية واكتفى بجواب القسم على جواب الشرط وإذا جعلت اللام للأبتداء و من شرطية فجملة إن ذلك جواب الشرط وحذفت الفاء منها ومن يخص الحذف بالشعرلا يجوز هذا الوجه وذكر جماعة أن في الكلام حذفا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و ذلك لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو ذلك رابط والأشارة لمن بقدير من ذوي عزم الأمور تكلف
هذا واختارالطيبي أن تسميه الفعلة الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين دون المشاكلة وزعم أن المجازي سيء على ذلك ربط جملة إنه لا يحب الظالمين بما قبل فقال : يكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه : وجزاء سيئة سيئة مثلها والمسيء في هذاالمقام مفسدا لما في البين بدليل فمن عفا وأصلح علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه : إنه لا يحب الظالمين كأنه قيل : من أخرج نفسه
(25/48)
بالعفو والأصلاح من الأنتساب إلى السيئة والأفساد كان مقسطا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه فأجره على الله ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالما نفسه إنهلا يحب الظالمين فالآية واردة إرشادا للمظلموم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين
وقال : إن قوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه الخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به يظلمون الناس وفسره بقوله تعالى : عذاب أليم وكذا قوله سبحانه : ولمن صبر وغفر الخ تعليم لهم أيضا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخصله ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان انتهى ولا يخفى ما فيه
وفي الكشف أن جعل ما ذكر خطابا للولاة والحكام يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ضل منهم أخرج البيهقي في شعب الأيمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قال موسى ابن عمران عليه الصلاة و السلام يا رب من أعز عبادك عندك قال : من إذا قدر غفر وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا : ومن ذا الذي أجره على الله تعالى قال : العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب
وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي صلى الله عليه و سلم جالس فجعل عليه الصلاة و السلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله : فغضب النبي ص - وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال : إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله : وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة و السلام : ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلا أعز الله عز و جل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة واستشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى : ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيه رضعي الله عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر وكذا لا يعد لوما كما لا يخفى
ومن الناس من خض السبيل في الآية بالأثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلا وقيل : هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالا بل لاح عليه ص - ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيآت المقربين
وقد أمر ص - بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم أخرج النسائي وابن ماجه
(25/49)
وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى تعالى عنها قالت دخلت علي زينب رضي الله عنهما وعندي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة و السلام فلم تنته فقال لي : سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتهلل سرورا ولعله كان هذا منه عليه الصلاة و السلام تعزيرا لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الرد ورأى المصلحة وقد ذكر فقهاؤها أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل
وظاهر قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها يقتضي رعاية المماثلة مطلقا وفي تفسيرالأمام أن الآية تقتضي وجوب رعايةالمماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لو حملت المماثلة فيها على المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الاجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الأجمال أولى من دفع التخصيص
والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صورة كثيرة تارة بناء على نص آخرة أخص وأخرى بناء على القياس ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب
وعن مجاهد والسدي إذا قاله له : أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغى مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الأمام أو نائبه وفي مجمع الفتاوي جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للأذنبه ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل والعفو أفضل فمن عفا وأصلح فأجره على الله وقال ابن الهمام : الأولى أن الانسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا : لو قال له : يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال : بل أنت لا بأس
وفي التنوير وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم التعزير بضرب أوحبس أو نحوه وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الأبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضا حق الله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الأمام ان زجارالفاعل إلى آخر ما قالوا ويترجح عندي أن الأمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده أيما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله تعالى إياه فضمير بعده لله تعالى بتقدير مضاف فيه وقيل للخذلان المفهوم من يضلل والجملة عطف علىقوله تعالى : أولئك لهم عذاب أليم وكني بمن عن الظالم الباغي تسجيلا بأنه ضال مخذول أو أتى به مبهما ليشمله شمولا أوليا فقوله سبحانه : ولمنصبر الخ اعتراض لما أشرنا إليه وترى الظالمين لما رأوا العذاب أي حين يرونه وصيغة الماضي للدلالة على التحقق يقولون هل إلى مرد أي رجعة إلى الدنيا من سبيل
44
- حتى نؤمن ونعمل صالحا وجوز أن يكون المعنى هل إلى رد للعذاب منع منه من سبيل وتنكير مرد وكذا سبيل للمبالغة والجملة حال وقيل مفعول ثان لترى
(25/50)
وتراهم يعرضون عليها أي على النار المدلول عليها بالعذاب والجملة كالسابقة خاشعين متضائلين متقاصرين من الذل أي بسبب الذل لعظم ما لحقهم فمن سببية متعلقة بخاشعين وهو وكذا ما بعده حال
وجوز أن يعلق الجار بقوله تعالى : ينظرون ويوقف على خاشعين من طرف خفي والأول أظهر والطرف مصدر طرف إذا حرك عينه ومنه طرفة العين والمراد بالخفي الضعيف ومن ابتدائية أي يبتديء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها كما يفعل في نظره إلى المحارب ويجوز أن تكون من بمعنى الباء
وعن ابن عباس خفي ذليل فالطرف عليه جفن العين وقيل : يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك نظر من طرف خفي وهو تأويل متكلف والجملتان السابقتان أعني ترى الظالمين وقرا هم يعرضون معطوف على ومن يضلل وأصل الكلام والظالمون لما رأوا العذاب يقولون وهم يعرضون عليها خاشعين ثم قيل وترىوتراهم خطابا لكل من يتأتى منه الرؤية ويعتبر بحالهم زيادة للتهويل كأنه يعجبهم مما هم فيه ليعتبروا ويبتهجوا ومنه يظهر أنه خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه وقال الذين آمنوا إن الخاسرين أي أنهم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم بالتعريض للعذاب الخالد أو على ما مر في الزمر وعدل عن أنهم إلى المنزل تسجيلا عليهم بأكمل الخسران إذ المراد أن الكاملين في صفة الخسران المتصفين بحقيقته يوم القيامة متعلق بخسروا والقول في الدنيا وجوز أن يكون متعلقا بقال والماضي لتحقق الوقوع أي ويقولون إذا رأوهم على تلك الصفة وفي الكشف الظاهر أنه قول يوم القيامة كالخسران من باب التنازع بين الفعلين وآثر صاحب الكشاف على ما يؤذن به صنيعه أن يتعلق بالخسران وحده لأن الأصل في قال الذين آمنوا إن الخاسرين الخ الخاسرون كما أن الأثل في وترى الظالمين والظالمون لما رأوا ثم قيل : وقال الذين آمنوا على نحو ما قيل وترى الخ وكما أن الرؤية رؤية الدنيا استحضار العذاب هم الكائن في الآخرة تهويلا كذلك القول كأنهم جعله محضوراي عاين عذابهم ويسمع ما يقول المؤمنون فيهم ورد على الخطاب في الرؤية والغيبة في القول لأن معاينة العذاب لما كانت أدخل في التهويل جعل العذاب قريبا مشاهد او خصوا بالخطاب على سبيل استحضار الحال لمزيد الأبتهاج ولم يكن في الخسران ذلك المعنى لأنه أمر معقول والمحسوسات أقوى لا سيما إذا كن موجبات الخسران فجيء به على الأصل من الغيبة وعدله من المضارع إلى الماضي لأنه قول صادر عن مقتضى الحال قد حق ووقع تفوها به أو لا وأسند إلى المؤمنين دلالة على الابتهاج المذكور واغتباطهم بنجاتهم عما هم فيه وإلا فالقول والرؤية لكل من يتأتى منه القول والرؤية وجعله حالا كما فعل الطيبي على معنى وتراهم وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا إن الخاسرين الخ من أسلوب قوله :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذرالحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر
ثم أنه على التقديرلا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج وهذا بخلاف ما ذكره جارالله في قوله تعالى : وقد قدمت إليكم بالوعيد من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعارا به بينا انتهى ولعمري لقد أبعد قدس سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الأفهام فليفهم وقوله تعالى :
(25/51)
ألا إن الظالمين في عذاب مقيم
45
- إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف أخبارمنه تصديقا لذلك وما كان لهم من أولياء ينصرونهم برفع العذاب عنهم من دون الله حسبما يزعمون ومن يضلل الله فما لهمن سبيل
46
- إلى الهدى أو النجاة وقيل : المراد ماله من حجة استجيبوا لربكم إذا دعاكم لما به النجاة على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله الجار والمجرور إمامتعلق بمرد ويعامل اسم لا الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه كما نص عليه ابن ملك في التسهيل ومنه قوله عليه الصلاة و السلام لا مانع لما أعطيت وقوله تعالى : لا تثريب عليكم اليوم أي لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به ومن لم يرض بذلك قال : هو خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك من الله تعالى والجملة استئناف في جواب سؤال مقدر تقديره ممن ذلك أو حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع خبر لا أو متعلق بالنفي أو بما دل عليه كما قيل في قوله تعالى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون وقيل : هو متعلق بيأتي وتعقب أنه خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وقيل : هو ذلك قليل الفائدة وجوز كونه صفة ليوم وتعقب بأنه ركيك معنى والظاهر أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة لا يوم ورود الموت كما قيل ما لكم من ملجأ يومئذ أي ملاذ تلتجئون إليه فتخلصون من العذاب على ان ملجأ اسم مكان ويجوز أن يكون مصدرا ميميا وما لكم من نكير
47
- إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس ونفي ذلك معقوله تعالى حكاية عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين تنزيلا لما يقع من إنكارهم منزلة العدم لعدم نفعه وقيام الحجة وشهادة الجوارح عليهم أو يقال أن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف وجوز أن يكون نكير اسم فاعل للمبالغة أيما لكم منكر لأحوالكم غير مميز لها ليرحمكم وهو كما ترى فإن أعرضوا فما أرسلنا عليهم حفيظا تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه و سلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم إن عليك أيما عليك إلا البلاغ لا الحفظ وقد فعلت
وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة أي نعمة من الصحة والغني والأمن ونحوها فرح بها أريد بالانسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره فيقوله سبحانه : وإن تصبهم وليست للأستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل : وإن تصب الناس أو الأناسي سيئة بلاء من مرض وفقر وخوف وغيرها بما قدمت أيديهم بسبب ما صدر منهم من السيئات فإن الأنسان كفور
48
- بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها
وأل فيه أيضا للجنس وقيل : هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون وقيل : هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد وقال الزمخشري : أراد بالانسان الجميع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأنإصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فيهم ثم قال : ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس مرسوم بكفران النعم كما قال سبحانه إن الانسان لظلوم كفار إن الانسان لربه لكنود ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد
(25/52)
وان المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى : استجيبوا لربكم لترتب فإن أعرضوا عليه وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بتصميمهم على الكفران والايذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وإنها في المثال الثاني للجنس ليكون المعنى ليس ببدع من هذا الأنسان المعهود الأصرار لأن هذا الجنس مرسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلا على ذم المقيد وفي الكشف أنه أراد أن الأنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الأصابة في غير المجرمين للعوض الموفي ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى : فإن الانسان لكفور للجنس ليكون تعليلا للمقيد بطريق الأولى ومطابقا لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ولا بأس بأن يجعل إشارة السالف فإنه للجنس أيضا ويكون في موضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مرارا بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول ويكون كليهما للجنس أقول وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب إفراده لملابسته الأغلبية ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فيكون المجاز لغويا وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضا منصفات الكفرة بل إن كان بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضا اضطرارا أو شكرا إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالنظر على إرادة العهد في الانسان وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضا فحال إسنادها يعلم مما ذكرنا وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبية على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواد المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الأصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها باعمالهم للأيذان بندرة وقوعها وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الارادة بالذات والقصد الأولى وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم
لله ملك السماوات والأرض لا لغيره سبحانه اشتراكا واستقلالا يخلق ما يشاء من غير وجوب عليه سبحانه يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور
49
- أو يزوجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي ولما ذكر سبحانه إذاقة الانسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الأنسان بهواه وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لمواليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها وتأكيد لانكار كفرانهم من وجهين الأول أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس من هو أحقر جزع من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد الثاني أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جل جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه الأعلى وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلى عن الكفران والأعاجب وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الأناث وأخرت الذكور كأنه قيل : يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء
(25/53)
منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الأناث بلاء وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ولو قدم المؤخر لاختل النظم وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الأناث وفي تعريف الذكور مافيه من الأستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل : أو يزوجهم أي الأولاد ذكرانا وإناثا أي يخلق ما يهبهم زوجا لأن التزويج جعل الشيء زوجا فذكر انا وأناثا من الضمير والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقا ووجودا فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معا لا أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والأناث على حياله زوجا ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له ثم قيل : ويجعل من يشاء عقيما أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر وكأنه جيء بأوفى أو يزوجهم دون الواو كما في سابقه من حيث أنه قسيم الأنفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل وقيل : قدم الأناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد وفي الحديث من ابتلى بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار وقيل : قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق بيانه وقيل : لتعييب قلوب آبائهن لما في تقديمن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى وقال الثعالبي : إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤما فيقولون له بكر بكرين وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى وقيل : قدمت وأخر الذكور معرفا للمحافظة على الفواصل والمناسب للسياق ما علمت سابقا وقال مجاهد في أو يزوجهم التزويج أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنهما : هو أن تلد توأما غلاما وجارية وزعم بعضهم أن الآية نزلت في ألأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام إناثا ولأبراهيم عليه السلام ذكورا ولرسوله محمد صلى الله عليه و سلم ذكورا وإناثا وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين أه إنه عليم قدير
50
- مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار وما كان لبشر أيما صح لفرد من أفراد البشر
أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام الأول الوحي وهو المراد بقوله تعالى : إلا وحيا وفسره بعضهم بالالقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والالقاء أعم من الألهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاما وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روي عن مجاهد وليس بإلهام والفرق أن الألهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص : وأوحى إلي الله أن قد تأمروا بابل أبي أو في فقمت على رجلي فإنه إراد قذف في قلبي والثاني إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا
(25/54)
الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه أو من وراء حجاب فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المحتجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه والثالث إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه و سلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز و جل : أو يرسل رسولا أي ملكا فيوحي ذلك السول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري بإذنه أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه ما يشاء أن يوحيه وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول وبنى المعتزلي على هذاالحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر وقال بعض : المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشري ينمع أممهم واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء وقال القاضي إن قوله تعالى إلا وحيا معناه إلا كلاما خفيا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبا منحروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روي في حديث المعراج وما وعد به حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى : أو من وراء حجاب عليه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال : وأما نحن فنقول والله تعالى أعلم : إن قوله تعالى : وماكان لبشر على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم السلام ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى ثم أنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك : ماكان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد نعم يحتمل أن يكون زيدا داخلا فيهم على نحو ملائكته وجبريل وهذا يضرالقاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلاالمراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة وتقدير إلا وحيا من غير حجاب أو منوراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه : أو يرسل وهو عطف على قوله تعالى : إلا وحيا مع كونه خلاف الظاهر
وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلىإلى ما دونه ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاءبه عز و جل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونا وجوديا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظي منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه ذمن سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود والمقصود أن الذي يصح ذوقا ونقلا وعقلا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليما وأما الثالث فلما كان تكليما مجازيا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى
وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرالما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف
(25/55)
بأول بالواو كما لا يخفى ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيا مطلقا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده فيوحي بأذنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما بما كان بالكلام فتدبر والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة أخرج البخاري وسلم والترمذي عنها أنها قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى ربه سبحانه ليلة الأسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيها التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كلمه عليه الصلاة و السلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر وابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف إلا اعتمادا على الأستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام أما عدم تمامية احتجاجها بأن لا تدركه الأبصار فمشهور وأما عدم تمامية الأحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن صاحب الكشف قدس سره وقال الخفاجي بعد تقدير الأحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة : فإذا لم يره جل وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز و جل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو تقول بجوز أن تقع الرؤية حالا لتكليم وحيا إذا الوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة و السلام تلك الليلة لا يعد تكليما في الدنيا على ما ذكره الشرنبلاني في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام صاحب الكشف منع ظاهر للشرطية في وجه الأستدلال الذي قرره وبعضهم أجاب بأن العام مخصص بغير ما دليل وفي البحر قيل قالت قريش ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى الله عليه و سلم لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله عز و جل فنزلت وماكان لبشر الآية وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فأن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله صاحب الكشف قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالألقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض ومعناه اللغوي يشمل ذلك قال الأمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني : الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الألهام والأشارة والكتب فهو وحي وقال الراغب : أصل الوحي الأشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الرمز والتعريض وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة ببعض الجوارح وبالكتابة وقد حمل على ذلك قوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة فقد
(25/56)
قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضا وحمل عليه قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية وحيا على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالا و من وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى : وعلى جنوبهم والتقدير وما صح أن يكلم أحدا في حال من الأحوال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا وتعقبه أبو حيان فقال : وقوع المصدر حالا لا ينقاس فلا جاء زيد بكاء تريد باكيا وقال منه المبرد ما كان نوعا للفعل نحو جاء زيد مشيا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكاالواقع موقع ضاحكا
وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم على أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال : يكتفي بقيس المبرد وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالا وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضا ألا تراهم فسروا أن يفترى بمفتري وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه وعلى تسليم الأطراد فالمعرفة قد تكون حالا لكونها في معنى النكرة كوحدة والأقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا واختار غير واحد أن وحيا بما عطف منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير الأكلام وحي و من وراء حجاب صفة كلام أو سماع محذوف وصفة المصدر تسد مسدهو الأرسال نوع من الكلام أيضا بحسب المآل والأستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر وقال الزجاج : قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى : أو يرسل رسولا بالنصب فقال : هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى : أيكلمه الله لما يلزم منه أن يقال : ما كان لبشر أن يرسل الله رسولا وذلك غير جائز والمعنى ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بأن يوحى أو أن يرسل وعليه أن يقدر في قوله تعالى : أو من وراء حجاب نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت واختلف في الأستثناء هل هو متصل أومنقطع وأبو البقاء على الأنقطاع وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير وقرأ ابن عبلة أو من وراء حجاب بالجمع وقرأنافع وأهل المدينة أو يرسل رسولا فيوحى برفع الفعلين ووجهوا بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على وحيا أو على ما يتعلق به من وراء بناء على أن تقديره أو يسمع من وراءحجاب وقال العلامة الثاني : إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية علىالحال المفردة وأما إضمار المبتدأ فإنحمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر مايعطف عليه سوى ما كان لبشر الخ وليس بحسن الأنتظام وتعقب أنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناء على أن الجملة الأسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما يناسب حال إرسال الرسول أو يقال : لا نسلم أن العطف على ما كان لبشر ليس بحسن الانتظام وفيه دغدغة لا تخفى وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانا فراسله حنث لاستثنائه تعالى الأرسال من الكلام ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي
إنه علي متعال عن صفات المخلوقين حكيم
51
- يجري سبحانه أفعاله علة سنن الحكمة فيكلم
(25/57)
تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاما وإما خطابا أو إما عيانا وإما خطابا من وراء حجاب على ما يقتضيه الأختلاف السابق في تفسير الآية وكذلك أي ومثل هذا الأيحاء البديع على أن الأشارة لما بعد أوحينا إليك روحا من أمرنا وهو ما أوحي إليه عليه الصلاة و السلام أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية وقيل : أي ومثل الأيحاء المشهور لغيرك أوحينا إليك وقيل : أي ومثل الأيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه الصلاة و السلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالالقاء أم فسر بالكلام الشفاهي وقد ذكر أنه عليه الصلاة و السلام قد ألقى إليه في المنام كما ألقى إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام وألقى إليه عليه الصلاة و السلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه السلام
ففي الكبريت الأحمر للشعراني نقلا عن الباب الثاني من الفتوحات المكية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعطى القرآن مجملا قبل جبريل عليه السلام من غير تفصيل الآيات والسور وعن ابن عباس تفسير الروح بالنبوة
وقال الربيع : هو جبريل عليه السلام وعليه فأوحينا مضمن معنى أرسلنا والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال : أوحي الملك بل أرسله
ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يصعد إلى السماء وهذا القول في غاية الغرابة ولعله لا يصح عن هذين الأمامين وتنوين روحا للتعظيم أي روحا عظيما ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان الظاهران أن ما الأولى نافية والثانية استفهامية في محل رفع على الأبتداء و الكتاب خبر والجملة في موضع نصب بتدري وجملة ما كنت الخ حال من ضمير أوحينا أو هي مستأنفة والمضي بالنسبة إلى زمان الوحي
واستشكلت الآية بأن ظاهرها يستدعي عدم الأتصاف بالايمان قبل الوحي ولا يصح ذلك لأن الأنبياء عليهم السلام جميعا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر باجماع من يعتد به وأجيب بعدة أجوبة الأول أن الأيمان هنا ليس المراد به التصديق المجرد بل مجموع التصديق والاقرار والاعمال فإنه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعا ومنه قوله تعالى : وما كان الله ليضيع ايمانكم والأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركب والمركب ينتفي بانتفاء أجزائه فلا يلزم من انتفاء الأيمان المركب بانتفاء الأعمال انتفاءالأيمان بالمعنى الآخر أعني التصديق وهو الذي أجمع العلماء على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة ولذا عبر بتدري دون أن يقال : لم تكن مؤمنا وهو جواب حسن ولا يلزمه نفي الايمان عمن لا يعمل الطاعات ليكون القول به اعتزالا كمالا يخفى
الثاني أن الايمان إنما يعني به التصديق بالله تعالى وبرسوله عليه الصلاة و السلام دون التصديق بالله عز و جل ودونما يدخل فيه الأعمال والنبيص مخاطب بالايمان برسالة نفيه كما أن أمته صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبون بذلك ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن عليه الصلاة و السلام يعلم أنه رسول الله وما علم ذلك إلا بالوحي فإذا كان الايمان هو التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم ولم يكن هذاالمجموع ثابتا قبل الوحي بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة استقام نفي الأيمان قبل الوحي وإلى هذا ذهب ابن المنير الثالث أن المراد شرائع الأيمان ومعالمه مما لا طريق إليه إلا السمع وإليه ذهب محي السنةالبغوي وقال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام ولم تتبين له عليه الصلاة
(25/58)
والسلام شرائع دينه ولا يخفى أنه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الأيمان على الأعمال وهدحا وهو خلاف المعروف الرابع أن الكلام على تقدير مضاف فقيل التقدير دعوة الأيمان أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الايمان وإليه يشير كلام أبي العالية
والقال الحسين بن الفضل : أي أهل الأيمان أيلا تدري من الذي يؤمن وأنت تدري أنه لا يرتضي هذا إلا من لا يدري الخامس المراد نفي دراية المجموع أيما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب والأيمان فلا ينافي كونه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدري الأيمان وحده ويأباه إعادة لا السادس أن المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد وإليه ذهب علي بن عيسى وهو خلاف الظاهر والظاهر أن المراد استمرار النفي إلى زمن الوحي وظاهر كلام الكشف يميل إلى اعتبار ذلك القيد قال : لعل الأشبه أن الايمان على ظاهره والآية واردة في معرض الأمتنان والأيحاء والألقاء في الروع وإرسال الرسول فالأيمان عرفه بالأول والكتاب بالثاني على أن الآية تدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم عرفهما بعد أن لم يكن عارفا وهو كذلك أما أنه عليه الصلاة و السلام عرفهما بعد الوحي فلا فجاز أن يعرفهما به وجاز أن يعرف واحدا منهما معينا به وقد دل الدليل على أن المعرف به هو الكتاب والايمان بعد العقل وقبل الوحي والتمسك به على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله ضعيف لأنعدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الأثم إنلم يكن تقصيرا انتهى
وأنت تعلم أن المتبادر أنه عليه الصلاة و السلام عرفهما بهد الوحي وأما فيقوله قدس سره في تضعيف التمسك بذلك على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن متعبدا بشرع من قبله أن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد فدق قيل عليه : إنه ساقط لأنه عليه الصلاة و السلام إذا لم يدر شرعا فكيف يتعبد به وقد يجاب بأن مراد المدقق أن الدراية المنفية بمعنى العلم الجازم الثابت المطابق للواقع وعدمها لا يلزمه عدم التعبد إذ يكفي في التعبد بشرع من قبله عليه الصلاة و السلام الظن الراجح ثبوته فلعله كان حاصلا له صلى الله تعالى عليه وسلم
ومثل هذا الظن يكفي المتعبدين اليوم بشرع نبينا عليه الصلاة و السلام فإن أكثرالفروع ظنية ومن يتتبعالأخبار يعلم أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام من الحج والختان وأيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وغير ذلك وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان أحرص الناس على اتباع دين إبراهيم عليه السلام وفي الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أي قبل البعثة يتحنث بغار حراء وفسر التحنث بالتحنف أي اتباع الحنفية وهي دين إبراهيم عليه الصلاة و السلام والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وفي رواية ابن هشام في السير يتحنف بالفاء بدل الثاء نعم فسر أيضا بالتعبد كمافي صحيح البخاري وباتقاء الحنث أي الأثم كالتحرج والتأثم وكل ذلك مما ذكره الحافظ القسطلاني في شرح الصحيح
ثم إن الظاهر أنمن قال : إنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان متعبدا بشرع من قبله ليس مراده أنه عليه الصلاة و السلام كان متعبدا بجميع شرع من قبله بل بما ترجح عنده صلى الله تعالى عليه وسلم ثبوبه والذي ينبغي أن يرجح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه السلام لأنهمن ذريته عليهما الصلاة والسلام وقد كلفت العرب بدينه
وقال بعضهم : إن عبادته صلى الله تعالى عليه وسلم التفكر والأعتبار ولعله أيضا مما ترجح عنده عليه الصلاة و السلام كونه من شريعته عليه السلام وربما يقال : بماعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم لا على ذلك الوجه من
(25/59)
شرع من قبله أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يزل موحى إليه وأنه عليه الصلاة و السلام متعبد بما يوحى إليه إلا أن الوحي السابق على البعثة كان إلقاء ونفثاي الروع وما عمل بما كان من شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا بواسطة ذلك الإلقاء وإذاكان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد أتى الحكم صبيا ابن سنتين أو ثلاث فهو عليه الصلاة و السلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النوع من الأيحاء صبيا أيضا
ومن علم مقامه ص - وصدق بأنه الحبيب الذيكان نبينا وآدم بين الماء والطين لم يستبعد ذلك فتأمل
ولكن جعلناه أي الروح الذي أوحيناه إليك وقال ابن عطية : الضمير للكتاب وقيل : للأيمان ورجح بالقرب وقيل : للكتاب والأيمان ووحد لأن مقصدهما واحد فهو نظير والله ورسوله أحق أن يرضوه
نورا عظيما نهدي بهمن نشاء هدايته من عبادنا وهو الذي يصرف اختياره نحو الأهتداء به والجملة إما مستأنفة أو صفة نورا وقوله تعالى : وأنك لتهدي تقرير لهدايته وبيان لكيفيتها ومفعول لتهدي محذوف ثقة بغايةالظهور أي وإنك لتهدي بذلك النور من تشاء هدايته إلى صراط مستقيم
52
- هو الأسلام وسائر الشرائع والأحكام وقرأ ابن السمقيع لتهدي بضم التاء وكسر الدال من أهدى وقرأ حوشب لتهدي مبنيا للمفعول أي ليهديك الله وقريء لتدعو صراط الله بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى : الذي لهما في السماوات وما في الأرض لتفخيم شأنه وتقريراستقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإنك ونجميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم أيجاب
ألا إلى الله تصير الأمور
53
- أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد المهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الأستقبال وقال في البحر : المراد بها الأستمرار كما في زيد يعطي أي منشأنه ذلك والأول أظهر والله تعالى أعلم
ومما قاله أرباب الأشارات فيبعض الآيات قال سبحانه : لتنذر أم القرى ومنحولها قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده لأنه ص - أول العالمين خلقا ومنه عليه الصلاة و السلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذاكان آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية : وأني وإن كنتابن آدم صورة فلي منه معنى شاهد بأبوتي وقوله سبحانه : ومن حولها يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر ص - كلا حسب استعداده وقيل : في قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير أنه يشير إلى التنزيه والتشبيه وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس سره بمايطول لهمقاليد السماوات والأرض أي مفاتيح سماوات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عز و جلوأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والأنسوالرضا إلى غير ذلك وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوعمن آثار قهره كالنكرة والجحود والأنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك وقد
(25/60)
يجتمع في النفس خزائن وفائدة الأخبار أن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكارالعباد عمن سواه سبحانه في جلب مايريدونه ودفع ما يكرهونه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليهمن ينيب يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتنابه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والأنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد والذين يجادلون في الله من ذبعد ما استجيب له يشير إلى اللذين يجادلون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراءما يزعمون أنه برهان أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لميأذن به الله يشير إلى كفارالنفوس فإنهمشرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوبما لم يرض به الله تعالى من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة الله لطيف بعباده يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى
وروي السلمي عنسيد الطائفة قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربي جسمك بالغذا ويخرج كمن الدنيا بالأيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذ الطف اللطيف بالعبد الضعيف والذين آمنوا وعملوا الصال استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح في روضات الجنات في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنسفي الخلوة والآخرة في روضات الجنة لهمما يشاؤن عند ربهم حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى وهم أقاربه صلى الله تعالى عليه وسلم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضعنهم أبوابه وفي قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا مدنية العلم وعلى بابها رمز إلى ذلك فأفهم الأشارة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدا للتوبة قبلها جودا وكرما وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ : إن تبت فهل يقبلن يالله تعالى فقال : إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة ويزيدهم من فضله إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤيةمما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضل اربانيا وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم استجيبوا لربكم الأستجابة للعوام بالوفاء بعهده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عز و جل وللخواص بالأستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالأعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول والوصال يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعلمن يشاء عقيما قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريد ينفمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له فيغيره بالتخيرج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيما لا مريد له أصلا وماكان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم قال سيدي الشيخ
(25/61)
عبد الوهاب الشعراني في تفسير الآية المذكورة اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد والبشر ما سمى بشرا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة الروح فلما لم يلحق كلمه الله تعالىفي الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحقك الأنبياء هل يهم السلام فلا يتجلىالحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصور ولو لا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه واعلم أن الحقيبة تأبى أن تكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبدا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه السلام صعقا إذ لم يكن له استعداد يقبل به التجلي اللائقب مقامه وثبت نبينا ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي يكون بها الحق سمع عبده وبصره جميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول : ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول : كان عمر من أهلال سماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهو محادثة وإن سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام وقد ورد في المجتهدين أنهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمرما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علما بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناسف هو علم صحيح لكن ليس صادرا عن خطاب وكلامنا إنما هو الخطاب الإلهي المسمى وحيا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كى ما يستفيد به العلم من جاء له
واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء و الأله ام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لأنفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي قطعا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشر اتوهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلىالعبد من غير واسطة ويكون أيضا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال القائه ظاهرا بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والوليلا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء اتلم بشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعلمون بما يرونه تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باقل هذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذاالملهم ولايكون الإلهام إلا في الخير و ألهمها فجوزها على معنى إلهامها إياه لتجنبه كما أن إلهامه اتقواه التع وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم وأما قوله تعالى : أومن وراء
(25/62)
حجاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقى إليه فيفهم ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الألهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذاالحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب
وأما قوله تعالى : أو يرسل رسولا فهوما ينزل به الملك أوما يجيء به الرسول البشري إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علما وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الألقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجودا لصور الحروف اللفظية أو الموقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عز و جل لا غير وقد يقول الولي : حدثني قلبي عن ربي يعني من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الأطالة ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وهو ما به الحياة الطيبة الأبدية ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان قبل الأيحاء
قيل : أشير بهذاالأيحاء في هذه النشأة وكان له صلى الله تعالى عليه وسلم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة و السلام في كينونته إخراجه منها يتجلى كينونته عز و جل وإلا فهو صلى الله تعالى عليه وسلم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون أيحاء وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى : ألا إلى الله تصير الأمور تمت السورة بتوفيق الله عز و جل والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأول وبها والحمد لله تعالى
سورة الزخرف
43 - مكية كما روي عن ابن عباس وحكى ابن عطية إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء وقال مقاتل : إلا قوله تعالى : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا فإنها نزلت ببيت المقدس كذا في مجمع البيان وفي الأتقان نزلت بالسماء وقيل : بالمدينة وعدد آيها ثمان وثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره ووجه مناسبة مفتتحها لمخخم ماقبلها ظاهر
بسم الله الرحمن الرحيم حم
1
- الكلام فيه على نحو ما مر في مفتتح يس والكتاب أي القرآن والمراد به جميعه وجوز إرادة جنسه الصادق ببعضه وكله وقيل : يجوز أن يراد به جنس الكتب المنزلة أو المكتوب في اللوح أو المعنى المصدري وهو الكتابة والخط وأقسم سبحانه بها لما فيها منعظيم المنافع ولا يخفى ما في ذلك والأول على تقدير اسمة حم كونه اسم اللقرآن وإن يراد ذلك أيضا بالكتاب وهو مقسم به إما ابتداء أوعظ فما على حم على تقدير كونه مجرورا بإضمار القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان لكن يلزم على هذا حذف حرف الجر وإبقاء عمله كما في
أشارت كليب بالأكف الأصابع
ومنه أن يقسم بشيئين بحرف واحد لا يلتفت إليه ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد الجملة القسمية المبين
2
- أي المبين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليب كلامهم على أنه من أبان اللازم المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضع لأصول ما يحتاج إليه في أبواب الديانة على أنه من أبان المتعدي
(25/63)
إنا جعلناه قرآنا عربيا جواب للقسم والجعل بمعنى التصيير المعدي لمفعولين لا بمعنى الخلق المعدي لواحد لا لأنه ينافي تعظيم القرآن بل لأنه يأباه ذوق المقام فيه لأن الكلام لم يسبق لتأكيد كونه مخلوقا وما كان إنكارهم متوجها عليه بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنا عربيا مفصل اواردا على أساليبهم لا يعسر عليهم فهم ما فيه ودرك كونه معجزا كما يؤذن به قوله تعالى : لعلكم تعقلون
3
- أي لكي تفهموه وتحيطوه بما فيه من النظر الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية والقسم بالقرآن على ذلك من الأيمان الحسنةالبديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به ولا أهم من وصفه فيقسم عليه كماقال أبو تمام : وثناياك إنها أغريض والقوم وبرق وميض بناء على أن جواب القسم قوله : إنها اغريض واستدل بالآية على أنالقرآن مخلوق وأطالوا الكلام في ذلك وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولانزاع فيها
وأن تتعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الأستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم وأخرج ابن مردويه عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس من حضر موت فقال له : يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله تعالى أمخلق من خلق الله سبحانه قال : بل كلام من كلام الله تعالى أو ما سمعت الله سبحانه يقول : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فقال له : الرجل أفرأيت قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا قال : كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ بالعربية أما سمعت الله تعالى يقول : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ فتأمل فيه وإنه في أم الكتاب أي في اللوح المحفوظ على ما ذهب إليه جمع فإنه أم الكتب السماوية أي أصلها لأنها كلها متقولة منه وقيل : أم الكتاب العلم الأزلي وقيل : الآيات المحكمات والضمير لحم أو للكتاب بمعنى السورة أي أنها واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم وهو كما ترى
وقرأ الأخوان إم بكسر الهمزة لإتباع الميم أو الكتاب فلا تكسر في عدم الوصل لدينا أي عندنا لعلي رفيع الشأن بين الكتب لأعجازه واشتماله على عظيم الأسرار حكيم
4
- ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينسخه غيره أو حاكم على غيره من الكتب وهما خبر ان لإن وفي أم الكتاب قيل متعلق بعلي واللام لما فارقت محلها وتغيرت عن أصلها بطلت صدارتها فجاز تقديم ما في حيزها عليها أو حال منه لأنه صفة نكرة تقدمتها أو من ضميره المستتر و لدينا بدل من أم الكتاب وهما وإن كانا متغايرين بالنظر إلى المعنى متوافقان بالنظر إلى الحاصل أو حال منه أو من الكتاب فإن المضاف في حكم الجزء لصحة سقوطه ولعل المختار كون الظرفين في موضع الخبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة لبيان محل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا ولم يجوزوا كونهما في موضع الخبر لأن لدخول اللام في غيرهما
وأيا ما كان فالجملة المؤكدة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة في حكمها وإما مستأنفة مقررة لعلو شأن القرآن
(25/64)
الذي أنبأ الأقسام به على منهاج الأعتراض في قوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وبعد ما بين سبحانه علو شأن القرآن العظيم وحقق جل وعلا أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب سبحانه ذلك بأنكار أن يكون الأمر بخلافه فقال جل شأنه : أف نضرب عنكم الذكر أي أفنحيه ونبعده عنكم على سبيل الأستعارة التمثيلية من قولهم : ضرب الغرائب على الحوض شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الأبل وذودها عن الحوض إذا دخلت مع غيرها عند الورد ثم استعمل ما كان في تلك القصة ههنا وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم ولو جعل استعارة في المفرد بجعل التنحية ضربا جاز ومن ذلك قول طرفة : أضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس وقول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق : لأضربنكم غرائب الأبل و الذكر قيل المراد به القرآن ويروى ذلك عن الضحاك وأبي صالح والكلام على تقدير مضاف أي إنزال الذكر وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر تفخيما وقيل : بل هو ذكر العباد فيه صلاحهم فهو بمعنى المصدر حقيقة وعن ابن عباس ومجاهدما يقتضيه والهمزة للأنكار والفاء للعطف على محذوف ويقتضيه على أحد الرأيين في مثل هذاالتركيب أي أنهم لكم فننحي الذكر عنكم وقال ابن الحاجب : الفاء لبيان أن ما قبلها وهو جعل القرآن عربيا سبب لما بعدها وهو إنكار أن يضرب سبحانه الذكر عنهم صحفا أي إعراضا وهو مصدر لنضرب من غير لفظه فإن تنحية الذكر إعراض فنصبه على أنه مفعول مطلق على نهج قعدت جلوسا كأنه قيل : أفنصفح عنكم صحفا أو هو منصوب على أنه مفعول له أو حال مؤول بصافحين بمعنى معرضين وأصل الصفح أن تولي الشيء عنقك وقيل : إنه بمعنى الجانب فينصب على الظرفية أي أفنحيينه عنكم جانبا ويؤيد قراءة حسان بن عبد الرحمن الضبعي والسميط ابن عمير وشبيل بن عذرة صحفا بضم الصاد وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح كرسل جمع صفوح بمعنى صافحين وأبو حيان اختار أن يكون مفردا بمعنى المفتوح كالسد والسد
وحكى عن ابن عطية انتصاب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفا ولا يخفى أنه لا يظهر ذلك وأيا ما كان فالمراد إنكار أن يكون الأمر خلاف ما ذكر من إنزال كتاب على لغتهم ليفهموه أن كنتم قوما مسرفين
5
- أي لأن كنتم منهمكين في الأسراف مصرين عليه على معنى أن الحكمة تقتضي ذكركم وإنزال القرآن فلا نترك ذلك لأجل أنكم مسرفون لاتلتفتون إليه بل نفعل التفتم أم لا
وقيل : هو على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتة تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكننا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين
وقرأ نافع والأخوان إن كنتم بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية وإن كانت تستعمل للمشكوك وإسرافهم أمر محقق لكن جيء بها هنا بناء على جعل المخاطب كأنه متردد في ثبوت الشرط شاك فيه قصدا إلى نسبته إلى الجهل بارتكابه الأسراف لتصويره بصورة ما يفرض لوجوب انتفائه وعدم صدوره ممن يعقل وقيل : لا حاجة إلى هذا لأن الشرط الإسراف في المستقبل وهو ليس بمتحقق ورد بأن إن الداخلة على كان لا تقلبه للأستقبال
(25/65)
عند الأكثر ولذا قيل : إ هنا بمعنى إذ وأيد بأن علي بن زيد قرأ به وأنه يدل على التعليل فتوافق قراءة الفتح معنى ولو سلم فالظاهر من حال المسرف المصر على إسرافه بقاؤه على ما هو عليه فيكون محققا في المستقبل أيضا على القول بأنها تقلب كان كغيرها من الأفعال وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه وجوز أن يكون الشرط في موقع الحال أي مفروضا إسرافكم على أنه من الكلام المنصف فلا يحتاج إلى تقدير جواب
وتعقب بأنه إنما يتأتى على القول بأن الوصلية ترد في كلامهم بدون الواو والمعروف في العربية خلافه
وقوله عز و جل : وكم أرسلنا من نبي في الأولين
6
- وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن
7
- تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم عن استهزاء قومه به عليه الصلاة و السلام فقد قيل : البلية إذا عمت طابت و كم مفعول أرسلنا و في الأولين متعلق به أو صفة نبي وما يأتيهم الخ للأستمرار وضميره للأولين وقوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا نوع آخر من التسلية له صلى الله عليه و سلم وضمير منهم يرجع إلى المسرفين المخاطبين لا إلى ما يرجع إليه ضميره ما يأتيهم لقوله تعالى : ومضى مثل الأولين
8
- أي سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير النثل ونصب بطشا على التمييز وجوز كونه على الحال من فاعل أهلكنا أي باطشين والأول أحسن ووصف أولئك بالأشدية لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية وقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم
9
- عطف على الخطاب والآيتان أعني قوله تعالى : وكم أرسلنا اعتراض لأفادة التقرير والتسلية كما سمعت والمراد ولئن سألتهم من خلق العالم ليس ندن خلقه إلى من هو متصف بهذه الصفات في نفس الأمر لا أنهم يقولون هذه الألفاظ ويصفونه تعالى بما ذكر من الصفات ذكره الزمخشري فيما نسب إليه وهذا حسب وله نظير عرفا وهو أن واحدا لو أخبرك الشيخ قال كذا وعني بالشيخ شمس الأئمة ثم لقيت شمس الأئمة فقلت : إن فلانا أخبرني أن شمس الأئمة قال : كذا مع أن فلانا لم يجر على لسانه إلا الشيخ لكنه تذكر ألقابه وأوصافه فكذا ههنا الكفار يقولون : خلقهن الله لا ينكرون ثم أن الله عز و جل ذكر صفاته أي أن الله تعالى الذي يحيلون عليه خلق السماوات والأرض من صفته سبحانه كيت وكيت وقال ابن المنير : إن العزيز العليم من كلام المسؤلين وما بعد من كلامه سبحانه وفي الكشف لا فرق بين ذلك الوجه وهذا في الحاصل فإنه حكاية كلام عنهم متصل به كلامه تعالى على أنه من تتمة وإن لم يكن قد تفوهوا به وهذا كما يقول مخاطبك : أكرمني زيد فنقول : الذي أكرمك وحياك أو الجماعة آخرين حاضرين الذي أكرمكم وحياكم فإنك تصل كلامك بكلامه على أنه من تتمته ولكن لا تجعله من مقوله والأظهر من حيث اللفظ ما ذكره ابن المنير وحينئذ يقع الألتفات في فأنشرنا بعد موقعه ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : لا يضل ربي ولا ينسى إلى قوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى وفي إعادةالفعل في الجوانب اعتناء بشأنه ومطابقته للسؤال من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال : لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالأسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال : العزيز العليم خلقهن الذي جعل لكم الأرض مهدا مكانا ممهدا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها
(25/66)
ولا ينافي ذلك كرتها لمكان العظم وعن عاصم أنه قرأ مهدا بدون ألف وجعل لكم فيها سبلا طرقا تسلكونها في أسفاركم لعلكم تهتدون
10
- أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي والذي نزل من السماء ماء بقدر أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عز و جل والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالاود وميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف وفي البحر بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل والأول أولى فأنشرنا به أي أحيينا بذلك الماء بلدة ميتا خالية عن النماء والنبات بالكلية
وقرأ أبو جعفر وعيسى ميتا بالتشديد وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان قال الجلبي : لا يبعد والله تعالىأعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير ميتا إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية
والألتفات في أنشرنا إلى نون العظمة لأظهار كمال العناية بأمر الأحياء والأشعار بعظم خطره كذلك أي مثل ذلك الأنشار الذي هو في الحقيقة إخراج النبات من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي أنشارا كذلك تخرجون
11
- أيتبعثون من قبوركم أحياء وفي التعبير عن إخراج النبات بالأنشار الذي هو إحيار الموتى وعن إحيائهم بالأخراج تفخيم لشأن الأنبات وتهوين لأمرالبعث وفي ذلك من الرد على منكر ما فيه
وقرأ ابن وثاب وعبد الله بن جبير وعيسى وابن عامر والأخوان تخرجون مبنيا للفاعل
والذي خلق الأزواج كلها أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى وقيل : كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزه عن المقابل هو الله عز و جل وتعقب بأن دعوى إطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر
ولعل من قال : كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر بناه على أن الواجب جل شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلا ولا خارجا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية أو مجردة وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون
12
- أيما تركبونه فما موصولة والعائد محذوف والركوب بالنظر إلى الفلكي تعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى : وإذا ركبوا في الفلك بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه : لتركبوها إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على التعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في ما وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك لتستووا على ظهوره حيث عبر عن القرار على الجميع بالأستواء المخصوص بالدواب والضمير لما تركبون وأفرد رعاية اللفظ وجمع ظهور مع إضافته إلى رعاية لمعناه والظاهر أن لام لتستووا لام كي وقال الحوفي : من أثبت لام للصيرورة جاز له
(25/67)
أن يقول به هنا وقال ابن عطية : هي لام الأمر وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب وقد اختلف في أمره فقيل : إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحتفظ إلا في قراءة شاذة نحو فبذلك فلتفرحوا أو شعر نحو قوله :
لتقم أنت يابن خير قريش
ما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة و السلام : لتأخذوا مصفاكم يحتمل أنه من المروي بالمعنى وقال الزجاج : إنها لغة جيدة وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين
ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم ما قال الزمخشري أن الذكر يتضمن شعور القلب والمراد على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرا باللسان مع شعور من القلب وأما الأعتراف والأستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الأحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وإن كان ذلك التقرير سديدا أيضا ومنه يظهر إيثاره ثم تحمدوا إذا استويتم ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى
ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمرعجب قال سبحانه : وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا أي وتقولواسبحان الذي ذلله وجعله منقادا لنا متعجبين من ذلك وليس الإشارة للتحقير بل لتصوير الحال وفيها مزيد لمعنى التعجب والكلام وإن كان إخبارا على ما سمعت أولا يشعر بالطلب
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مجلز قال : رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلا ركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا فقال : أو بذلك أمرت فقال : فكيف أقول قال : الحمد لله الذي هدانا للأسلام الحمد لله الذي من علينا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثم تقول : سبحان الذي سخر لنا هذا إلى مقرنين وهذا يومي إلى أن ليس المراد من النعمة نعمةالتسخير وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الأسلام
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال : بسم الله فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذاإلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنتقد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له : مم ضحكتيا أمير المؤمنين قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت : يا رسول الله مم ضحكت فقال : يتعجب الرب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا إلى منقلبون وفي حديث أخرجه أحمد وغيره عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعم انها والفلك وذكر بعضهم أنه يقال : إذا ركبت السفينة بسم الله مجراها ومرساها إلى رحيم ويقال : عند النزول منها اللهم
(25/68)
أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين وماكنا له مقرنين
13
- أمطيقين وأنشد قطرب لعمرو ابن معدي كرب : لقد علم القبائل ما عقيل لنا في نائبات بمقرنينا وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه قال ابن هرمة : وأقرنت ما حملتني ولقلما يطلق احتمال الصدياد عد والهجر وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة والقرن الحبل الذي يقرن به قال الشاعر : وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذيسخر ذلك وضبطه لنا
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال : أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه وقريء مقرنين بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف
إنا إلى ربنا لمنقلبون
14
- أي راجعون وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الأنقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يأتي بما ينافيها ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة
وجعلوا له من عباده جزءا متصل بقوله تعالى : ولئن سألتهم إلى آخره فهو حال من فاعل ليقولن بتقدير قد أو بدونه والمراد بيان أنهم مناقضون مكابرون حيث اعترفوا بأنه عز و جل خالق السماوات والأرض ثم وصفوه سبحانه بصفات المخلوقين وما يناقض كونه تعالى خالقا لهما فجعلوا له سبحانه جزأ وقالوا : الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وعبر عن الولد بالجزء لأنه بضعة ممن ولد له كما قيل : أولادنا أكبادنا وفيه دلالة على مزيد استحالته على الحق الواحد الذي لا يضاف إليه انقسام حقيقة ولافرضا ولا خارجا ولا ذهنا جل شأنه وعلا ولتأكيد أمر المناقضة لم يكتف بقوله تعالى : جزأ وقيل من عباده لأنه يلزمهم على موجب اعترافهم أن يكون ما فيهما مخلوقه تعالى وعبده سبحانه إذ هو حادث بعدهما محتاج إليهما ضرورة
وقيل : الجزء اسم للإناث يقال : أجزأت المرأة إذ ولدت أنثى وأنشد قول الشاعر : إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزيء الحرة المدكار أحيانا وقوله : زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أنيابها زجل وجل ذلك الزمخشري من بدع التفاسير وذكر أن ادعاء أن في لغة العرب اسم للأناث كذب عليهم ووضع مستحدث من خول وأن البيتين مصنوعان وقال الزجاج : في البيت الأول لا أدري قديم أم مصنوع
ووجه بعضهم ذلك بأن حواء خلقت من جزء آدم عليه السلام فاستعير لكل الأناث
وقرأ أبو بكر عن عاصم جزأ بضمتين ثم للكلام وإن سيق للفرض المذكور يفهم منه كفرهم لتجسيم الخالق تعالى والأستخفاف به جل وعلا حيث جعلوا له سبحانه أخس النوعين بل إثبات ذلك يستدعي الإمكان
(25/69)
المؤذن بحدوثه تعالى فلا يكون إلها ولا بارثاولا خالقاتعالى عما يقولون وسبحانه عما يصفون وليس الكلام مساقا لتعديد الكفران كما قيل وقوله تعالى : إن الأنسان لكفور مبين
15
- لا يقتضيه فإن المراد المبالغة في كفران النعمة وهي في إنكار الصانع أشد من المبالغة في كفرهم كما أشير إليه و مبين من أبان اللازم أي ظاهر الكفران وجوز أن يكون من المتعدي أي مظهر كفرانه أم انخذ مما يخلق نبات أم مقطوعة وما فيها من معنى بل للأنتقال والهمزة للأنكار والتعجيب من شأنهم وقوله تعالى : واصفاكم بالبنين
16
- إما عطف على اتخذ في حكم الأنكار والتعجب أو حال من فاعله بأضمار قد أو بدونه والألتفات إل خطابهم لتشديد الأنكار إي بل اتخذ سبحانه من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه سبحانه جائزة فرضا أما تفطنهم لما ارتكبتم منالشطط في القسمة وقبح ما ادعيتم من أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزئين وأعلاهما وترك له جل شأنه شرهما وأدناهما فما أنتم إلا في غاية الجهل والحماقة وتنكير بنات وتعريف البنين لقرينة ما عتبر فيهما من الحقارة والفخامة وقوله تعالى : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم
17
- قيل : حال وارتضاه العلامة الثاني على معنى أنهم نسبوا إليه تعالى ما ذكروا من حالهم أن أحدهم إذا بشر به أغتم وقيل : استئناف مقرر لما قبله وجوز عطفه على ما قبله وليس بذاك والألتفات للأيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنهم وتحكي لغيرهم تعجيبا والجملة الأسمية في موضع الحال أيإذا أحدهم بخس ما جعله مثلا للرحمن جل شأنه وهو جنس الإناث لأن الولد لا بد أنيجانس الولد ويماثله صار وجهه أسود في الغاية لسوء ما بشر به عنده والحال هو مملوء من الكرب والكآبة وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذيفيه المرأة فقالت ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا وليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
وقريء مسود بالرفع و مسواد بصيغة المبالغة من اسواد كاحمار مع الرفع أيضا على أن في ظل ضمير المبشر ووجهه مسود أومسواد جملة واقعة موقع الخبر والمعنى صار المبشر مسود الوجه وقيل : الضمير المستتر في ظل ضمير الشأن والجملة خبرها وقيل : الفعل تام والجملة حالية والوجه ما تقدم وقوله تعالى : أو من ينشؤا في الحلية تكرير للأنكار و من منصوبة المحل بمضمر معطوف على جعلوا وهناك مفعول محذوف أيضا أي أجعلوا له تعالى من شأنه أن يتربى في الزينة وهن البنات كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : ولدا فالهمزة لأنكار الواقع واستقباحه
وجوزانتصاب من بمضمر معطوف على اتخذ فالهمزة حينئذ لأنكار الوقوع واستبعاده وإقحامها بين المعطوفين لتذكير ما في أم المنقطعة من الأنكار والعطف للتغاير العنواني أي أو اتخذ سبحانه من هذه الصفة الذميمة ولدا وهو مع ما ذكر من القصور في الخصام أي الجدال الذي لا يكاد يخلو عنه إنسان في العادة غير مبين
18
- غير قادر على تقرير دعواه وإقامته حجته لنقصان عقله وضعف رأيه والجار متعلق
(25/70)
بمبين وإضافة غير لا تمنع عمل ما بعدها فيه لأنه بمعنى النفي فلا حاجة لجعله متعلقا بمقدر وجوز كون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من حاله كيت وكيت ولده عز و جل وجعل بعضهم خبره جعلوه ولدا لله سبحانه وتعالى أو اتخذ هجل وعلا ولدا وعن ابن زيد أن المراد بمن ينشأ في الحلية الأصنام قال : وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ويجعلون الحلي على كثير منها وتعقب بأنه يبعد هذا القول قوله تعالى : وهو في الخصام غير مبين إلا إن أريد بنفي الأبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإبانة كقوله
على لا حب لا يهتدي بمناره
وعندي أن هذا القول بعيد في نفسه وأن الكلام أعني قوله سبحانه : أم اتخذ إلى هنا وارد لمزيد الأنكار في أنهم قوم من عادتهم المناقضة ورمى القول من غير علم وفي المجيء بأم المنقطعة وما في ضمنها من الأضراب دليل على أن معتمد الكلام إثبات جهلهم ومناقضتهم لا إثبات كفرهم لكنه يفهم منه كما سمعت وتسمع إن شاء الله تعالى وقرأ الجحدري في رواية ينشأ مبنيا للمفعول مخففا وقرأ الحسن في رواية أيضا يناشأ على وزن يفاعل مبنيا للمفعول والمناشاة بمعنى الأنشاء كالمغالاة بمعنى الأغلاء وقرأ الجمهور ينشأ مبنيا والآية ظاهرة في أن النشور في الزينة والنعومة من المعايب والمذام وأنه من صفات ربات الحجال فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ويربا بنفسه عنه ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا وإن أراد أن يزين نفسه من باطن بلباس التقوى وقوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أ سموا وقالوا : إنهم أناث قال الزجاج : الجعل في مثله بمعنى القول والحكم على الشيء تقول : زيدا أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به واختار أبو حيان أن المعنى صير وهم في اعتقادهم إناثا اعتراض وارد لإثبات مناقضتهم أيضا وادعاء مالا علم لهم به المؤيد لجعله معتمد الكلام على ما سبق آنفا فإنهم أنثوهم في هذا المعتقد من غير استناد إلى علم فأرشد إلى أنما هم عليه من إثبات الولد مثل ما هم عليه من تأنيث الملائكة عليهم السلام في أنهما سخف وجهل كانا كافرين أولا نعمهما في نفس الأمر كفران أما الأول فظاهر وأما الثاني فللأستخفاف برسله سبحانه أعني الملائكة وجعلهم أنقص العباد رأيا وأخسهم صنفا وهم العباد المكرمون المبرأون من الذكورة والأنوثة فإنهما من عوارض الحيوان المتغذي المحتاج إلى بقاء نوعه لعدم جريان الحمة الله تعالى ببقاء شخصه وليس ذلك عطفا على قوله سبحانه : وجعلوا له من عباده جزأ لما علمت من أن الجملة في موضع الحال من فاعل ليقولن ولايحسن بحسب الظاهر أن يقال : ليقولن خلقهن العزيز العليم وقد جعلوا الملائكة إناثا وقريء جمع عبد وكذا عباد وقيل : عباد جمع عابد كصائم وصيام وقائم وقيام وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والأبنان ونافع عند الرحمن ظرفا وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة والكلام على الأستعارة في المشهور لاستحالة العنديةالمكانية في حقه سبحانه وقرأ أبي عبد الرحمن بالباء مفرد عباد والمعنى على الجمع بإرادةالجنس
وقرأالأعمش عباد بالجمع والنصب حكاها ابن خالويه وقال : هي في مصحف ابن مسعود كذلك وخرج أبو حيان المصب على إضمار فعل أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن وقرأ زيد بن علي أنثا بضمتين ككتب جمع إناثا فهو جمع الجمع وعلى جميع القراءات الحصر إذا سلم أضافي فلا يتم الأستدلال به على أفضلية الملك على البشر
اشهدوا خلقهم أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم فإن ذلكم ما يعلم
(25/71)
بالمشاهدة وهذا كقوله تعالى أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون وفيه تجهيل لهم وتهكم بهم وإنما لم يتعرض لنفي الدلائل النقلية لأنها في مثل هذا المطلب مفرعة على القول بالنبوة وهم الكفرة الذين لا يقولون بها ولنفي الدلائل العقلية لظهور انتفائها والنفي المذكور أظهر في التهكم فافهم وقرأ نافع أأشهدوا بهمزة داخلة على أشهد الرباعي المبني للمفعول وفي رواية أنه سهل هذه الهمزة فجعلها بين الهمزة والواو وهي رواية عن أبي عمرو وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس ومجاهد وفي أخرى أنه سهلها وأدخل بينها وبين الأولى ألفا كراهة اجتماع همزتين ونسبت إلى جماعة والأكتفاء بالتسهيل أوجه وقرأالزهري وناس اشهدوا بغير استفهام مبنيا للمفعول رباعيا فقيل المعنى على الأستفهام نحو قوله :
قالوا تحبها قلت بهرا
وهو الظاهر وقيل : على الأخبار والجملة صفة إناثا وهم وإن لم يشهدوا حلقهم لكن نزلوا لجراءتهم على ذلك منزلة من أشهد أوالمراد أنهم أطلقوا عليهم الإناث المعروفات لهم اللاتي أشهدوا خلقهن لا صنفا آخر من الإناث ولا يخفى ما في كلا التأويلين من التكلف ستكتب في ديوان أعمالهم شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة عليهم السلام وقيل : سألهم الرسول صلى الله عليه و سلم ما يدريكم أنهم إناث فقالوا : سمعنا ذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال الله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسئلون
19
- عنها يوم القيامة والكلام وعيد لهم بالعقاب والمجازاة على ذلك والسين للتأكيد وقيل : يجوز أن تحمل على ظاهرها من الأستقبال ويكون ذلك إشارة إلى تأخير كتابة السيآت لرجاء التوبة والرجوع كما ورد في الحديث إن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيآت فإذا أراد أن يكتبها قال له : توقف فيتوقف سبع ساعات فإن استغفر وتاب لم يكتب فلما كان من شأن الكتابة قرنت بالسين وكونهم كفارا مصرين على الكفر لا يأباه وقرأ الزهري سيكتب بالياء التحتية مبنيا للمفعول وقرأ الحسن كالجمهور إلا أنه قرأ شهاداتهم بالجمع وهي قولهم : إن الله سبحانه جزأ وإن له بنات وإنها الملائكة وقيل : المراد ما أريد بالمفرد والجمع باعتبار التكرار وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجحدري والأعرج سنكتب بالنون مبنيا للفاعل شهادتهم بالنصب والإفراد
وقرأت فرقة سيكتب بالياء التحتية مبنيا للفاعل وإفراد شهادتهم ونصبها أي سيكتب الله تعالى شهادتهم
وقريء يساءلون من المفاعلة للمبالغة وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم عطف على قوله سبحانه : وجعلوا الملائكة الخ إشارة إلى أنه من جنس ادعائهم أنوثة الملائكة في أنهم قالوه من غير علم ومرادهم بهذاالقول على ما قاله بعض الأجلة الأستدلال بنفي مشيئة الله تعالى ترك عبادةالملائكة عليهم السلام على امتناع النهي عنها أو على حسنها فكأنهم قالوا : إن الله تعالى لم يشأ ترك عبادتنا الملائكة ولو شاء سبحانه ذلك لتحق قبل شاء جل شأنه العبادة لأنها المتحققة فتكون مأمورا بها أو حسنة ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة وهو استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا فلذلك جهلوا بقوله سبحانه : ما لهم بذلك القول على الوجه الذي قصدوه منه وحاصله يرجع إلى الإشارة إلى زعمهم أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها أو حسن ما تعلقت به من علم يستند إلى سند ما
إن هم إلا يخرصون
20
- أي يكذبون كما فسره به غير واحد ويطلق الخرص على الحرز وهو شائع
(25/72)
بل قيل : إنه الأصل وعلى كل هو قول عن ظن وتخمين وقوله تعالى : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون
21
- إضراب عن نفي أن يكون لهم علم من طريق العقل إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل فأم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله تعالى : أشهدوا كما قيل لبعده وضمير قبله للقرآن لعلمه من السياق أو الرسول عليه الصلاة و السلام وسين مستمسكون للتأكيد لا للطلب أي بل آتيناهم كتابا من قبل القرآن أو منقبل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ينطق بصحة ما يدعونه فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون وقوله جل وعلا : بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون
22
- إبطال لأن يكون لهم حجة أصلا أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي كالرحلة للجل العظيم الذي يقصد في المهمات يقال : فلان لا أمة له أي لا دين ولا تحلة قال الشاعر :
وهل يستوي ذو أمة وكفور
وقال قيس بن الحطيم : كنا على أمة آبائنا ويقتدى بألأول الآخر وقال الجبائي : الأمة الجماعة والمراد وجدنا آباءنا متوافقين على ذلك والجمهور على الأول وعليه المعول ويقال فيها إمة بكسر الهمزة أيضا وبها قرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والجحدري وقرا ابن عياش أمة بفتح الهمزة قال في البحر : أي على قصد وحال و على آثارهم مهتدون قيل خبران لإن وقيل : على آثارهم صلة مهتدون ومهتدون هوالخبر هذا وجعل الزمخشري الآية دليلا على أنه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء سبحانه الأيمان وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدور اتكلها بمشيئة الله تعالى ووجه ذلك بأن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا : لو شاء الرحمن الخ أي لو شاء جل جلاله منا أن نترك عبادة الأصنام تركناها رد الله تعالى ذلك عليهم وأبطلا عتقادهم بقوله سبحانه : ما لهم بذلك من علم الخ فلزم حقيقة خلافه وهو عين ما ذهب إليه والجملة عطف على قوله تعالى : وجعلوا له من عباده جزأ أو على جعلوا الملائكة الخ فيكون ما تضمنه كفرا آخر ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئته عز و جل ومما سمعت يعلم رده وقيل : في رده أيضا : يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أصل الدعوى وهو جعل الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه وتعالى على ذلك علوا كبيرا دون ما قصدوه من قولهم : لو شاء الخ وما ذكر بعد أصل الدعوى من تتمتها فإنه حكاية شبهتهم المزيفة لأن العبادة للملائكة وإن كانت بمشيئته تعالى لكن ذلك لا ينافي كونها من أقبح القبائح المنهي عنها وهذا خلاف الظاهر وقال بعض الأجلة : إن كفرهم بذلك قالوه على جهة الأستهزاء ورده الزمخشري بالسياق لا يدل على أنهم مستهزئين على الله تعالى قد حكى عنهم على سبيل الذم والشهادة بالكفر أيهم جعلوا له سبحانه جزأ وأنه جل وعلا اتخذ بنات واصطفاهم بالبنين وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا وأنهم عبدوهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا بالنطق به مدحا لهم من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء فبقي أن يكونوا
(25/73)
جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر فإن جعلوا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولوكانت هذه الكلمة كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه : ما لهم بذلك من علم الخ معنى لأن الواجب في من تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح وأماما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولا أولا بل أثبت لهم اعتقادا يتضمن قولا أو فعلا وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله : لو نطقوا الخ لا مدخل له في السياق وليس فيه تعويج البتة من هذاالوجه وكذلك قوله : لم يكن لقوله تعالى : ما لهم الخ معنى مردود لأن الأستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه السلام أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وقد تقدم في البقرة وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه إخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في الكشف
وفيه أيضا أن قولهم : لو شاء الرحمن الخ فهم منه كونه كفرا من أوجه أحدها أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكرا
والثاني أن الكفر والأيمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالا متعلقا بالمبدأ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه
والثالث أنهم دفعوا قول الرسول بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم أنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد سبحانه جحودهم وشاء جل وعلا دخولهم النار فالأنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أنلا يريد إلا ما أمر سبحانه به ولاينهى جل شأنه إلا وهو لا يريده وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية ولهذه النكتة جعل قولهم : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم معتمد الكلام ولم يقل : وعبدوا الملائكة وقالوا : لوشاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى عنهم : لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر وقوله تعالى : ما لهم بذلك من علم يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى وجعلوا له من عباده إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام وقوله سبحانه : إن هم لا يخرصون على هذاالتكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الأنفكاك مع تجويز الحاكم الأنفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإنكان ذلك الحكم في نفسه حقا صحيحا يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعا أو البتة وعندك احتمال نقيضه
وليس هذا رجوعا إلى مذهب من جعل الصدق بطباق هل لمعتقد فافهم على أنه لما كان اعتذارا على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصح اعتذارا أي أنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها وهذا ما آثره
(25/74)
الأمام والعلامة والقاضي والظاهر ما قدمناه وتعقيب الخرص على وجه البيان أو الأستئناف عن قوله تعالى : ما لهم بذلك من علم وقوله تعالى : إن يتبعون إلا الظن في سورة الأنعام دليل على ما أشرنا فقد لاح للمسترشد أن الآية تصلح حجة لأهل السنة لا للمعتزلة وقال في آية سورة الأنعام : إن قولهم هذا إما لدعوى المشروعية ردا للرسل أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بي فعلون المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك
ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى والثاني على ما فيه من حصول المقصود وهو الأعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك فهو يؤكد دفع القدر لا أنه يحققه وإليه الإشارة بقوله تعالى : قل فلله الحجة البالغة ثم إنهم كاذبون في هذاالقول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم وذلك لأن من العلم أن العلم بصفات الله سبحانه فرع العلم بذاته جل وعلا والأيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون ونقل العلامة الطيب ينحوا من الكلام الأخير عن إمام الحرمين عليه الرحمة في الإرشاد أه
وقد أطال العلماء الأعلام الكلام في هذا المقام وأرى الرجل سقى الله تعالى مرقده صيب الرضوان قد مخض كل ذلك وأتى بزبده بل لم يترك من التحقيق شيئا لمن أتى من بعده فتأمل والله عز و جل هو الموفق
وكذلك أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة مطلقا وتشبثهم بذيل التقليد وقوله سبحانه : ما أرسلنا من قبلك من قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون
23
- استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم لأسلافهم وأن متقدميهم أيضا لم يكن لهم سندد منظور إليه وتخصيص المترفين بتلك المقالة للأيذان بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد وقال حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أننهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال : كل نذير من أولئك المنذرين لأمته أو لو جئتكم أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بأهدى بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء وإنما عبر عنها بذلك مجاز معهم على مسلك الأنصاف
وقرأ الأكثرون قل على أنه حكاية أمر ماض أوحى إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل الخ واستظهر في البحر كونه خطابا لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى : قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون
24
- فإنه ظاهر جدا في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلتم به الخ وقد أجمل عند الحكاية للأيجاز كما قرر في قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات
وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة و السلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لأجماعهم عليهم السلام عليه كما في نحو قوله تعالى : كذبت عاد المرسلين تمحل بعيد وأيضا يأباه ظاهر قوله سبحانه فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين
25
(25/75)
فإن ظاهره كون الأنتقام بعذاب الأستئصال وصاحب البحر يحمله على الأنتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء
وقرأ أبي وأبو جعفر وشيبة وابن مقسم والزعفراني وغيرهم أو لو جئناكم بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهىإليه حال المكذبين تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وإرشاد إلى عدم الأكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة و السلام وإذ قال إبراهيم أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة و السلام لأبيه آزر وقومه المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : إنني براء مما تعبدون
26
- وتمسك بالبرهان والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والحسد والأباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا أباهم الأفضل الأعلى الذي يفتخرون بالأنتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد يعيرهم على أنهم مسيئ ونفي ترك اختياره أيضا
وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستة يفيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث
وقرأ الزعفراني والقورصي عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع براء بضم الباء وهو اسم مفرد كطوال وكرام بضم الكاف وقرأ الأعمش بري وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد
وقرأ الأعمش أيضا إني بنون مشددة دون نون الوقاية إلا الذي فطرني استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من أيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أنما مختصة بغير ذوي العلم وأنهلا يناسب التغليب أصلا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز و جل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم وعلى الوجهين محل الموصول النصب وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور بمن وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل ووجهه أنه في معنى النفي لأن معنى أنني براء مما تعبدون لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى : ويأبى الله إلا أن يتم نوره إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضا كأبي وقلما نعم أن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى وأجاز أيضا أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة والتقدير إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك والمسألة خلافية فمن النحويين من قال إن إلا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقا وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة وفي جعل الصلة فطرني تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد لإنه سيهدين
27
- يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للأستقبال لأنه جاء في الشعراء يهدين بدونها والقصة واحدة والمضارع في الموضعين للأستمرار وقيل : بالمراد سيهدين إلى وراء ما هداني إليه أولا فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة وجعلها الضمير المرفوع المستتر لأبراهيم عليه السلام أو لله عز و جل والضمير المنصوب
(25/76)
إلا الله كما روي عن قتادة ومجاهد والسدي ويشعر بها قوله : إنني براء مما تعبدون الخ وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضا كلمة لغة كلمة باقية في عقبه في ذريته عليه السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز و جل
وقرأ حميد بن قيس كلمة بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها في عقبه بسكون القاف تخفيفا و في عاقبه أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلى الله عليه و سلم لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
لعلهم يرجعون
28
- تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فيهم والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الأسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولوا لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه السلام
بل متعت هؤلاء أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وآباءهم بالمد في العمر والنعمة حتى جاءهم الحق دعوة التوحيد أو القرآن ورسول مبين
29
- ظاهر الرسالة بماله من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات والحجج القاطعات والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل : اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الأشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا ما هو سبب للتنصل سببا للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا إلى قوله سبحانه : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائتهم البينة و بل متعت إضراب عن قوله جل شأنه لعلهم يرجعون كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشاغلوا فلم يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي في المناسبة بما قرب من جملة الأضراب أعني لعلهم يرجعون وفي الحواشي الشهابية أنه إضراب عن قوله تعالى : وجعلها الخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعما أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولا وقرأ قتادة الأعمش بل متعت بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الألتفات وإن قيل به في مثله أيضا كأنه تعالى اعتراض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه : وجعلها الخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ المشركين كما إذاقال المحسن على من أساء مخاطبا لنفسه : أنت الداعي لأساءته بالأحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه وقال صاحب اللوامح : هو من كلام إبراهيم عليه السلام ومناجاته ربه عز و جل وقال في البحر : الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلى الله عليه و سلم على معنى قل يا رب متعت والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور وقرأ الأعمش متعنا بنون العظمة
ولما جاءهم الحق لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد قالوا هذا سحر وإنا به كافرون
30
(25/77)
زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاتدة الحق والأستخفاف به فسموا القرآن سحرا وكفروا به واستحقروار صلى الله عليه و سلم وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية وقريء رجل بسكون الجيم عظيم
31
- بالجاه والمال قال ابن عباس : الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل وقال قتادة : الوليد بن المغيرة وعروة بم مسعود الثقفي وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول : لو كان ما يقول محمد صلى الله عليه و سلم حقا لنزل علي أو على ابن مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أو لا أن يكون بشرا ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاؤا بالأنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الأستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليما بل إنكارا كأنه قيل : هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية من التزخرف بالزخارف الدنيوية وقوله تعالى : أهم يقسمون رحمت ربك إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قيل وعليه أكثر المفسرين وفي إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه و سلم من تشريفه عليه الصلاة و السلام ما فيه وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من صفات الربوبية نحن قسمنا بينهم معيشتهم أسباب معيشتهم
وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وسفيان معايشهم على الجمع في الحياة الدنيا قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى : ورفعنا بعضهم فوق بعض في الرزق وسائر مباديء المعاش درجات متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ليستعمل بعضهم بعضا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويستخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لأكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم بصلحهم من متاع الدنية وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخيير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف وقال الراغب : السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته وزعم بعضهم أنه هنا من السخربمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان وقال السمين : إنه مناسب للمقام
وقرأ عمرو بن ميمون وابن محيصن وابن أبي ليلى وأبو رجاء والوليد بن مسلم سخريا بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضا وفي قوله تعالى : نحن قسمنا الخ ما يزهد في الأنكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل
(25/78)
على الله عز و جل والأنقطاع إليه جل جلاله
فاعتبر نحن قسمنا بينهم تلقه حقا وبالحق نزل ورحمت ربك أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين وقيل : الهداية والأيمان وقال قتادة والسدي : الجنة خير مما يجمعون
32
- من حطام الدنيا الدنية فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنيء الفاني
ولو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
33
- استئناف مبين لحقارة متاع ادلنيا ودناءة قدره عند الله عز و جل والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لو لا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة فكراهة الأجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه لا أن كون متاع الدنيا له قدر عندنا والكراهة المذكورة هي وجه الحكمة في ترك تنعيم كل كافر وبسط الرزق عليه فلا محذور في تقديرها وليس ذلك مبنيا على وجوب رعاية المصلحة وإرادة الأيمان من الخلق ليكون اعتزالا كما ظن وكأن وجه كون البسط على الكفار سببا للأجتماع على الكفر مزيد حب الناس للدنيا فإذا رأوا ذلك كفروا لينالوها وهذا على معنى أن الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر فلا يقال : إن كثيرا من الناس اليوم يتحقق الغني التام لو كفر ولو أكره عليه بالقتل وكون المراد بالأمر الواحد الذي يقتضيه كونهم أمة واحدة بمعنى اجتماعهم على أمر واحد الكفر بقرينةالجواب و لبيوتهم بدل اشتمال من قوله تعالى : لمن يكفر واللام فيهما للأختصاص أوهما متعلقان بالفعل لا على البدلية ولام لمن صلةالفعل لتعديه باللام فهو بمنزلة المفعول به ولام لبيوتهم للتعليل فهو بمنزلة المفعول له ويجوز أن تكون الأولى للملك والثانية للأختصاص كما في قولك : وهبت الحبل لزيد لدابته وإليه ذهب ابن عطية ولا يجوز على تقدير اختلاف اللامين معنى البدلية إذ مقتضى إعادة العامل في البدل الأتحاد في المعنى وإلى هذا ذهب أبو حيان وقال الخفاجي : لا مانع من أن يبدل المجموع من المجموع بدون اعتبار إعادة للسقف جمع كرهن جمع رهن وعن الفراء أنه جمع سقفية كسفن جمع سفينة والمعارج جمع معرج وهو عطف على سقفا أي ولجعلنا لهم مصاعد عليها يعلون السطوح والعلالي وكأن المراد معارج من فضة بناء على أن العطف ظاهر في التشريك في القيد وإن تقدم وقال أبو حيان : لا يتعين ذلك وقرأ أبو رجاء سقفا بضم السين وسكون القاف تخفيفا وفي البحر هي لغة تميم
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين والسكون على الأفراد لأنه اسم جنس على الواحد وما فوقه وهو المراد بقرينة البيوت وقريء بفتح السين والقاف وهي لغة في سقف وليس ذلك تحريك ساكن لأنه لا وجه له
وقريء سقوفا وهو جمع سقف كفلوس جمع فلس وقرأ طلحة معاريج جمع معراج ولبيوتهم أي ولجعلنا لبيوتهم وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية أبوابا وسرورا أي من فضة على ما سمعت وقريء سرورا بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفة نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة عليها أي على السرر يتكئون
34
(25/79)
كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء وزخرفا قال الحسن : أي نقوشا وتزاويق وقال ابن زيد : الزخرف أثاث البيت وتجملاته وهو عليهما عطف على سقفا وقال ابن عباس وقتادة والشعبي والسدي والحسن أيضا في رواية الزخرف الذهب وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما وقيل : إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضا ويشير إليه كلام الراغب قال الزخرف الزينة المزوقة ومنه قيل للذهب زخرف وفي البحر جاء في الحديث إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان وقال ابن عطية : الحسن أحمر والشهوات تتبعه ولبعض شعراء المغرب : وصبغت درعك من دماء كماتهم لما رأيت الحسن يلبس أحمرا وهو على هذا عطف على محل من فضة كأن الأصل سقفا من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفا على المحل وجوز عطفه على سقفا أيضا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قريء وما كل ذلك إلا متاع الدنيا وقرأ الجمهور لما بفتح اللام والتخفيف على أن إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى : تماما على الذي أحسن في قراءة من رفع النون وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة لما بكسر اللام والتخفيف على أن إ هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدرالصلة محذوف كما سمعت آنفا
وحقق التركيب في مثله الأتيان باللام الفارقة فيقال : للما متاع لكنها حذفت لظهور إرادةالإثبات كما في قوله : أنا ابن أباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي والآخرة أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحبط بها نطاق البيان عند ربك للمتقين
35
- خاصة لهم والمراد بهم من اتقى الشرك وقال غير واحد : من اتقى ذلك والمعاصي وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فيها وقد أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربةماء وعن علي كرم الله تعالى وجهه الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بالعليه كلب في يد مجذوم وهذا واستدل بعضهم بقوله تعالى : لبيوتهم سقفا على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت ومنيعش أي يتعام ويعرض عن ذكر الرحمن وهو القرآن وإضافته إلى الرحمن للأيذان بنزوله رحمة للعالمين وجوز أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن وأن يكون مصدرا أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه وقرأ يحيى بن سلام البصري يعش بفتح الشين كيرض أي يعم يقال : عشي كرضي إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشي لعارض قال الحطيئة : من تأته تعشوا إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد أي تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة
(25/80)
الغاية موقع وأظهر منه المقصود قول حاتم : أعشوا إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول وقال بعضهم : لم أر أحدا يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعايشت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال : عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشي وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال : عرج أي بالفتح إذاأصابه شيء في رجله وليس بخلقة فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة وقرأ زيد بن علي يعشو بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للأشباع أو على لغة يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش وجوز كون الفعل مجزوما بحذف النون والواو ضمير الجمع وقد روعي فيه معنى من وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر
نقيض له شيطانا أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى
فهو له قرين
36
- دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه وغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال : إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيآت وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي والأعمش ويعقوب وأبو عمرو بخلاف عنه وحماد عن عاصم وعصمة عن الأعمش وعن عاصم والعليمي عن أبي بكر يقيض بالياء على إسناده إلى ضمير الرحمن وقرأابن عباس يقيض بالياء والبناء للمفعول شيطان بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قريء بالرفع وفي الكشاف حق من قرأ من يعشو بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة وجوز على ذلك أيضا أن يكون يقيض مرفوعا لكنه سكن تخفيفا
وفي البحر يجوز أن تكون من موصولة وجزم نقيض تشبيها للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعا في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا قال الشاعر : لا تحفرن بئرا تريد أخا بها فإنك فيها أنت من دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع أن شدهما ابن الأعرابي وهو مذهب للكوفيين وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون وأنهم أي الشياطين الذين قيض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو ليصدونهم أي ليصدون قرناءهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس وجمع ضمير من رعاية للمعنى كما أفرد أولا رعاية اللفظ وفي الأنتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسئلة أضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتهاالعموم حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص وقال إن الشرط يعم والنكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبوالحسن
(25/81)
علي الأبياري شارح كتابه ردا عنيفا وفي هذه الآية للأمام ومن قال بقوله كفاية وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعا في قوله تعالى : وإنهم فإنه عائد إلى الشيطان قولا واحدا ولو لا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع بلا إشكال فهذه نكتة تجد عند سماعها المخالفي هذا الرأي سكتة الكتة الثانية أن فيها ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضا لأنه أعيد الضمير على اللفظ في يعش وله وعلى المعنى في ليصدونهم ثم على اللفظ في حتى إذا جاءنا وقد قدمت أي الذي منع قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى
وكون ضمير إنهم عائدا على الشيطان قولا واحدا نظر فقد قال أبو حيان : الظاهر أن ضمير النصب في أنهم ليصدونهم عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير إنهم على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في أنهم وما بعده فلا تغفل عن السبيل المستبين الذي يدعو إلى ذكر الرحمن ويحسبون أي العاشون أنهم أي الشياطين مهتدون
37
- أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو ويحسب العاشون أن أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطبن مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما
والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضا والجملة حال من مفعول يصدون بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتمالها على ضميريهما أي وأنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه
وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الأستمرار التجددي لقوله تعالى : حتى إذا جاءنا فإن حتى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة قال مخاطبا له : يا ليت بيني وبينك أي في الدنيا وقيل : في الآخرة بعد المشرقين أي بعد كل منهما من الآخر والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج والفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وقنيا كالموصلين للموصل والجزيرة وأضيف البعد إليهما والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذاالمبسوط لعدم الإلباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من أحدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر وإشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضا وقال ابن السائب : لا تغليب والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها فبئس القرين
38
- أي أنت وقيل : أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى
وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو بكر والحرميان وقتادة والزهري والجحدري جاءانا على التثنية أي العاشي والقرين
(25/82)
وقوله تعالى : ولن ينفعكم الخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عز و جل توبيخا وتقريعا وفاعل ينفعكم ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور اليوم أي يوم القيامة إذ ظلمتم بدل من اليوم أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد وفسر ذلك بالتبين قيل يشكل جعله وهو ماض بدلا من اليوم وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
وأورد عليه أن السؤال عائد لأن غذ ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتفصي بعضهم عن الأشكال بأن إذ قد تخرج من المضي إلى الأستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجا بقوله تعالى : فسوف يعلمون إذ الأغلال وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم محتجا بقوله سبحانه : ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه فلتكن هنا للأستقبال وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي
وقال الجلبي : لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي فقد قال سيبويه : إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة
فإن القول لما قالت حذام
وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه وأيضا تعليل النفي بعد يبعد وقال أبو حيان : لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك وقال ابن جني : راجعت أبا علي في هذه المسئلة يعني الإبدال المذكور مرار اوآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه إذ لا يجري عليه عز و جل زمان فكأن إذ مستقبل أو اليوم ماض فصح ذلك ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الأعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان وقال أبو البقاء : التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف للعلم به وقال الحوفي : إذ متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل وإن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلا
ومن الناس من استشكل الآية من حيث أن فيها إعمال ينفعكم الدال على الأستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاضر وإذ وهو للزمان الماضي وأجيب بأنه يدفع الثاني قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الأستقبال والأول بأن اليوم تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعريف الآن وإن كان نوعا منه
وقيل : يدفع بأن الأستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل
وقوله تعالى : أنكم في العذاب مشتركون
39
- تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا
وجوز أن يكون الفعل إليه أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمرالصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسيم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها : يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره بكل مغيب شمس
(25/83)
ولولا كقرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعهم من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم : ربنا آتهم ضعفين من العذاب ولعنهم لعنا كبيرا وقولكم : فآتهم عذابا ضعفا من النار لتتشفوا بذلك واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الأنتفاع بالتعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والطمآن يحسب السراب شرابا
وقرأابن عامر إنكم بكسر العمزة وهو تقوي ما ذكر أولا من إضمار الفاعل وتقديراللام في أنكم معنى ولفظا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلا فيتعين الإضمار ولأن الجملة عليها تكون استئنافا تعليليا في ناس بتقدير اللام لتتوافق القراءتان وقوله تعالى : أفأن تتسمع الصم أو تهدي العمي إنكار تعجيب من أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي يقدر على هدايتهم وهم قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم من العشي عمي مقرونا بالصمم ومن كان في ضلال مبين
40
- عطف على العمي باعتبار تغايرالوصفين أعني العمى والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا ومدارالإنكار هو التمكن والأستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة و السلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدرعلى ذلك إلا الله تعالى وحدهب القسر والإلجاء وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت أفأنت الخ فإما نذهبن بك فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي صدرك وصدورالمؤمنين فأنا منهم منتقمون
41
- لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى : أو نتوفينك فإلينا يرجعون والقرآن يفسر بعضه بعضا وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق بإطلاق الأنتقام وأما تلك الآية فليس فيها ذكره وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة
أو نرينك الذي وعدناهم أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم فأنا عليهم مقتدرون
42
- يحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الأقتدار بعد وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخلف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع وكذا كان إذ لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا منتحصن بالأيمان وقريء نرينك بالنون الخفية فاستمسك بالذي أوحي إليك أنك على صراط مستقيم
43
- تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر له عليه الصلاة و السلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآيات والعمل بها والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعا لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك وقوله تعالى : إنك الخ للأستمساك أو للأمر به
(25/84)
وقرأ بعض قراء الشام أوحى بإسكان اللام وقرأ الضحاك أوحى مبنيا للفاعل وإنه أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن لذكر لشرف عظيم لك ولقومك هم قريش على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد
وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا : لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة و السلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت وإنه لذكر لك ولقومك فكان صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إذا سئل قال لقريش : فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصارعلى ذلك
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بنحاتم قال : كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه : وإنه لذكر لك ولقومك الآية فجعل اذكر والشرف لقومي في كتابه الحديث وفيه فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدي : ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة و السلام كثيرا ما يتلوه هذه الآية وإنه لذكر لك ولقومك الخ وقيل هم العرب مطلقا لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص منهم حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم لبني هاشم أكثر مما يكون لسائر قريش وفي رواية عن قتادة هم مناتبعه صلى الله تعالى عليه وسلم من أمته
قال الحسن : هم الأمة والمعنى وإنه لتذكرة وموعظة لك ولأمتك والأرجح عندي القول الأول وسوف تسئلون
44
- يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه وقال الحسن والكلبي والزجاج : تسئلون عن شكر ما جعله الله تعالى لكم من الشرف قيل إن هذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل إذ لو لم يكن مرغوبا فيه ما أمتن الله تعالى به على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والذكر الجميل قائم مقام الحياة ولذا قيل ذكر الفتى عمره الثاني وقال ابن دريد : وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال آخر إنما الدنيا محاسنها
طيب ما يبقى من الخبر ويحكى أن الطاغية هلاكو سأل أصحابه من الملك فقالوا : له أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعتك الملوك وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن فقال لا الملك هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات يريد محمدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون
45
- أي هل حكمنا بعبادة غير الله سبحانه وهل جاءت في ملة من ملل المرسلين عليهم السلام والمراد الأستشهاد بإجماع المرسلين
(25/85)
علىى التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يكذب ويعاديله والكلام بتقدير مضاف أي واسأل أمم من أرسلنا أو على جعل سؤال الأمم بمنزلة سؤال المرسلين إليهم
قال الفراء : هم إنما يخبرون عن كتب الرسل فإذا سألهم عليه الصلاة و السلام فكأنه سأل المرسلين عليهم السلام وعلى الوجهين المؤل الأمم وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء وهو رواية عن ابن عباس أيضا
وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات وأسأل من أرسلنا إليهم رسلنا قبلك
وأخرج هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال : كان عبد الله يقرأ واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا زعن ابن مسعود أنه قرأ واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبل مؤمني أهل الكتاب وجعل بعضهم السؤال مجازا عن النظر والفحص عن مللهم في سؤال الديار والأطلاع ونحوها من قولهم : سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك
وروي عن ابن عباس أيضا وابن جبير والزهري وابن زيد أن الكلام على ظاهره وأنه عليه الصلاة و السلام قيل له ذلك ليلة الأسراء حين جمع له الأنبياء في البيت المقدس فافهم ولم يسألهم عليه الصلاة و السلام إذ لم يكن في شك وفي بعض الآثار أن ميكال قال لجبريل عليهما السلام : هل سأل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأل وتعقب هذا القول بأن المراد بهذاالسؤال إلزام المشركين وهم منكرون الأسراء وللبحث فيه مجال والخطاب على جميع ما سمعت لنبينا عليه الصلاة و السلام
وفي البحر الذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات قيل له اسأل أيها الناظر أتباع الرسل أجاءت رسلهم بعبادة غير الله عز و جل فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به ولعمري أنه خلاف الظاهر جدا ومما يقضي منه العجب ما قيل : إن المعنى وأسالني أو وأسالنا عمن أرسلنا وعلق اسأل فارتفع من وهو اسم استفهام على الأبتداءوأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافظ كأن سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم ساق السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى من قبلك انتهى واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام الله تعالى المجيد بذلك ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ملتبسا بها إلى فرعون وملائه أشراف قومه وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع فقال لهم إني رسول رب العالمين
46
- إليكم وأريد باقتصاص ذلك تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإبطال قولهم : لو لا نزل هذاالقرآن على رجل من القريتين عظيم لأن موسى عليه السلام مع عدم زخارف الدنيا لديه كان له مع فرعون وهو ملك جبار ما كان وقد أيده الله سبحانه بوحيه وما أنزل عليه والأستشهاد بدعوته عليه السلام إلى التوحيد أثر ما أشير إليه من إجماع جميع الرسل عليهم السلام عليه ويعلم من ذلك وجه مناسبة الآيات لما قبلها وقال أبو حيان : مناسبتها من وجهين الأول أنه ذكر فيما قبل قول المشركين : لو لا نزل الخ وفيه زعم أن العظم بالجاه والمال وأشير في هذه الآيات إلى أن مثل ذلك سبق إليه فرعون في قوله : أليس ليملك مصر الخ فهو قدوتهم في ذلك وقد انتقم منه فكذلك ينتقم منهم الثاني أنه سبحانه لما قال : واسأل الخ ذكر جل وعلا قصة موسى وعيسى عليهما السلام وهما أكثر اتباعا ممن سبق
(25/86)
من الأنبياء وكل جاء بالتوحيد فلم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله تعالى كما اتخذت قريش فناسب ذكر قصتها الآية التي قبلها
فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون
47
- أي فاجأهم الضحك منها أي استهزؤا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها وفي الكشاف جاز أن تجاب لما بإذا المفاجأة لأنفعل المفاجأة مقدر معها وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وقت ضحكهم فالجواب عنده ذلك الفعل وهو العامل في لما وقدر ماضيا لأنه المعروف في جوابها وإذا مفعول به لا ظرف وقال أبو حيان : لا نعلم نحو يا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة الأول إنها حرف فلا تحتاج إلى عامل الثاني أنها ظرف مكان فإن صرح بعد الأسم بعدها بخير له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم هو الناصب لها والتقدير خرجت فنفي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم الثالث أنها ظرف زمان والعامل فيها الخبر أيضا كأنه قيل : ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم : وإذا لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبرا للمبتدأ : فإن كان جثة وقلنا : إذا ظرف مكان كان الأمر واضحا وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف مضاف أي ففي الزمان حضور زيد ثم إن المفاجأة التي أدعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من كلام السابق بل يدل على أنه تكون من الكلام التي هي فيه تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأني الأسد دون ففاجأت الأسد انتهى وقال الخفاجي ما قيل إن نصبها بفعل المفاجأة المقدر هكذا لم يقله أحد من النحاة لا يلتفت إليه وتفصيله في شروح المغنى وما نريهم من آية من الآيات : إلا هي أكبر من أختها أي من آية مثلها في كونها آية دالة على النبوة واستشكل بأنه يلزم كون كل واحدة من الآيات فاضلة ومفضولة معا وهو يؤدي إلى التناقض وتفضيل الشيء على نفسه لعموم آية في النفي وأجيب بأن الغرض من هذاالكلام أنه موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه على معنى أن كل واحدة لكمالها في نفسها إذا نظر إليها قيل هي أكبر من البواقي لاستقلالها بإفادة المقصود على التمام كما قال الحماسي : من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي لسري بها الساري وإذا لوحظ الكل توقف عن التفضيل بينهن ولقد فاضلت فاطمة بنت خرشب الأنمارية بين أولادها الكلمة ربيعة الحفاظ وعمارة الوهاب وأنس الفوارس ثم قالت : أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ثكلتهم أن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها وقال بعض الأجلة : المراد بأفعل الزيادة من وجه أي ما نريهم من آية إلا هي مختصة بنوع من الأعجاز مفضلة على غيرها بذلك الأعتبار ولا ضير في كون الشيء الواحد فاضلا ومفضولا باعتبارين وقد أطال الكلام في ذلك جلال الدين الدواني في حواشيه على الشرح الجديد للتجريد فليراجع ذلك من أراده وفي البحر قيل : كانت آياته عليه السلام من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه وذكر بعضهم في الأكبرية أن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى فيزداد الرجوع انتهى والأولى ما تقدم لشيوع إرادة ذلك المعنى من مثل هذا التركيب وأخذناهم بالعذاب كالسنين والجراد والقمل وغيرها :
(25/87)
لعلهم يرجعون
48
- يرجعوا ويتوبوا عما هم عليه من الكفر وقالوا يا أيه الساحر قال الجمهور : هو خطاب تعظيم فدق كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم على السحر وحكاه في مجمع البيان عن الكلبي والجبائي وقيل : المعنى يا غالب من ساحره فسحره كخاصمه فخصمه فهو خطاب تعظيم أيضا وقيل : الساحر على المعنى المعروف فيه تعودوا دعاءه عليه السلام بذلك قبل ومقتضى مقام طلب الدعاء منه عليه السلام أن لا يدعوه به إلا انهم لفرط حسرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به وقيل : هو خطاب استهزاء وانتقاص دعاهم إليه شدة شكيمتهم ومزيد حماقتهم وروي ذلك عن الحسن
ودفع الزمخشري المنافاة بين هذا الخطاب وقولهم الآتي : أننا لمهتدون بأن ذلك القول وعد منوي إخلافه وعهد معزوم على نكثه معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب وفيه أن الوعد وإن كان منوي الأخلاف لكن إظهار الأخلاف حال التضرع إليه عليه السلام ينافيه لأنهم في استلانة قلبه عليه السلام
وقيل الأظهر أنهم قالوا ياموسى كما في الأعراف لكن حكى الله تعالى كلامهم هناعلى حسب حاله موفق ما في قلوبهم تقبيحا لذلك وتسلية لحبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ويكون ذلك على عكس قوله سبحانه إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وجعل على هذا قولهم الآتي مجمل ما فصل هنالك من الأيمان وإرسال بني إسرائيل فلا يحتاج إلى التزام كون القولين في مجلسين للجمع بين ما هنا وما هناك ولا يخلو عن بعد والألتزام المذكور لا أرى ضررا فيه وقريء يا أيه بضم الهاء ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما عهد عندك أي بعهده عندك والمراد به النبوة وسميت عهدا إما لأن الله تعالى عاهد نبيه عليه السلام أن يكرمه بها وعاهد النبي ربه سبحانه على أن يستقل بأعبائها أو لما فيها من الكلفة بالقيام بأعبائها ومن الأختصاص كما بين المتواثقين أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد أو من العهد الذي يكتسب للولاة كأن النبوة منشور من الله تعالى بتولية من أكرمه بها والباء إما صلة لأدع أو متعلق بمحذوف وقع حالامن الضمير فيه أي متوسلا إليه تعالى بما عهد أو بمحذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب وإما أن تكون للقسم والجواب ما يأتي وهي على هذا للقسم حقيقة وعلى ما قبله للقسم الأستعطافي وعلى الوجه الأول للسببية وإدخال ذلك في الأستعطاف خروج عن الأصطلاح وجوز أن يراد بالعهد الدعوة كأنه قيل : بما عاهدوا الله تعالى مكرما لك من استجابة دعوتك أو عهد كشف العذاب عمن اهتدى وأمر الباء في الوجهين على ما مر وأن يراد بالعهد الأيمان والطاعة أي بما عهد عندك فوفيت به على أنه من عهد إليه أن يفعل كذا أي أخذ منه العهد على فعله ومنه العهد الذي يكتب للولاة و عندك يغني عن ذكر الصلة مع إفادة أنه محفوظ مخزون عند المخاطب والأولى على هذا أن تكون ما موصولة وهذا الوجه فيه كما في الكشف لفظا ومعنى وسياقا على ما لا يخفى عن الفطن
إننا لمهتدون
49
- لمؤمنون ثابتون على الأيمان وهو إما معلق بشرط كشف العذاب كما في قولهم المحكي في سورة الأعراف لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك أو غير معلق ويجب حينئذ أن يكون هذا منهم في مجلس آخر وإن قلنا : لم يصدر منهم طلب الدعاء إلا مرة أو أكثر منها لكن على طرز واحدا قيل هنا : أرادوا من الأهتداء الأيمان وإرسال بني إسرائيل كما سمعت آنفا فلما كشفنا عنهم العذاب أي بدعوته ففي الكلام
(25/88)
حذف أي فدعانا بكشف العذاب فكشفناه عنهم إذا هم ينكثون
50
- فاجأهم نكث عهدهم بالأهتداء أو فاجؤا وقت نكث عهدهم وقرأ أبو حيوة ينكثون بكسر الكاف
ونادى فرعون في قومه يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أي رفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول ولعله جمع عظماءالقبط في محله الذي هو فيه بعد أن كشف العذاب فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط ويعظهم في نفوس مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلام ويتركوه
ويجوز أن يكون إسناد النداء إليه مجازا والمراد أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجاميع الناس وهذا كما يقال بني الأمير المدينة ونادى قل معطوف على فاجأ المقدر ونزل منزلة اللازم وعدي وبقي كقوله : يجرح في عراقيبها نصلي
للدلالة على تمكين النداء فيهم وعندي بملك مصر ضبطها والتعرف فيها بالحكم ولم يرد مصر نفسها بل هي ومايتبعها وذلك من اسكندرية إلى أسوان كما في البحر والأنهار الخلجان التي تخرج من النيل المبارك كنهر الملك ونهر دمياط ونهر تنيس ولعل نهر طولون كان منها إذ ذاك لكنها ندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الأسلام وأراد بقوله من تحتي من تحت أمري
وقال غير واحد كانت أنهار تخرج من النيل وتجري من تحت قصره وهو مشرف عليها وقيل : كان له سرير عظيم مرتفع تجري من تحته أنهار أخرجها من النيل وقال قتادة : كانت له جنان وبساتين بين يديه تجري فيها الأنهار وفسره الضحاك الأنهار بالقواد الرؤساء الجبابرة ومعنى كونهم يجرون من تحته أنهم يسيرون تحت لوائه ويأمرون بأمره وقد أبعد جدا وكذا من فسرها بالأموال ومن فسرها بالخيل وقال : كما يسمي الفرس بحرا يسمى نهرا بل التفاسير الثلاثة منتفاسير الباطنية فلا ينبغي أن يلتفت إليه والواو في وهذه الخ إما عاطفة لهه الأنهار على الملك فجملة تجري حال منها أو للحال فهذه مبتدأ و ألأنهار صفة أو عطف بيان وجملة تجري خبر للمبتدأ وجملة هذه الخ حال من ضمير المتكلم وجوز أن تكون للعطف وهذه تجري مبتدأ وخبر والجملة عطف على اسم ليس وخبرها وقوله : أفلا تبصرون
51
- على تقدير المفعول أي أفلا تبصرون ذلك أي ما ذكر ويجوز أن ينزل منزلة اللازم والمعنى أليس لكم بصر أو بصيرة وقرأ عيسى تبصرون بكسر النون فتكون الياء الواقعة مفعولا لا وحذوفة وقرأ فهد بن القصر يبصرون بياء الغيبة ذكره في الكامل للهزلي والساجي عن يعقوب ذكره ابن خالويه ولا يخفى ما بين افتخار اللعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد وعن الرشيد أنه لما قال هذه الآية قال : لأولينها يعني مصر أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان على وضوئه وعن عبد الله ابن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال : هي القرية التي أفتخر بها فرعون حتى قال : أليس لي ملك مصر والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثني عنانه أم أنا خير مع هذه البسطة والسعة في الملك والمال من هذا الذي هو مهين أي ضعيف حقير أو مبتذل ذليل فهو من المهانة وهي القلة أو الذلة ولا يكاد يبين
52
- أي الكلام والجمهور أنه عليه السلام كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة لكن اللعين بالغ
ومن ذهب إلى أن الله تعالى كان أجاب سؤاله حل عقدة من لسانه فلم يبق فيه منها أثر قال : المعنى ولا يكاد يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي إلا أنه قدره له على الأفصاح باللفظ وهو افتراء عليه عليه السلام ألا ترى إلى
(25/89)
مناظرته له ورده عليه وإفحامه إياه وقيل : عابه بما كان به عليه السلام من الحبسة أيام كان عنده وأراد اللعين أنه عليه السلام ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن وإبانة الكلام أم على ما نقل عن سيبويه والخليل متصلة وقد نزل السبب بعدها منزلة المسبب على ما ذهب إليه الزمخشري والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع أم خير موضع أم تبصرون
وإيضاح ذلك أن فرعون عليه اللعنة لما قدم أسباب البسطة والرساسة بقوله أليس لي الخ وعقبه بقوله أفلا تبصرون استقصارا لهم وتنبيها على أنه من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين قال في مقابلة : أم أنا خير بمعنى أم تبصرون أني أنا المقدم المتبوع وفي العدول تنبيه على أن هذا الشق هو المسلم لا محالة عندكم فكأنه يحكيه عن لسانهم بعدما أبصروا وهو أسلوب عجيب وفن غريب وجعله الزمخشري من أنزال السبب مكان المسبب لأن كونه خيرا في نفسه أي محصلا له أسباب التقدم والملك سبب لأن يقال أن تخير منه وقولهم : أنت خير سبب لكونهم بصراء وسبب السبب قد يقال له سبب فلا يرد ما يقال إن السبب قولهم : أنت خير لا قوله : أنا خير وقال القاضي البيضاوي : إنه من إنزال المسبب منزلة السبب لأن عملهم بأنه خبر مستفاد من الأبصار وفيه أن المذكور أنا خير لا أم تعلمون أني خير وله أن يقول : ذلك يغني غناه لأنه جعله مسلما معلوما ما عندهم فقال : أم أنا خير لاأم تعلمون كما سلف ولا يخفىأن ما ذكره الزمخشري أظهر كذا في الكشف وقال العلامة الثاني في تقرير ذلك : إن قوله : أنا خير سبب لقولهم من جهة بعثه على النظر في أحواله واستعداده لما ادعاه وقوله : أنت خير سبب لكونهم بصراء عنده فأنا خير سبب له بالواسطة لكن لا يخفى أنه سبب للعلم بذلك به وأما بحسب الوجود فالأمر بالعكس لأن إبصارهم سبب لقولهم أنت خير فتأمل وبالجملة إن ما بعد أم مؤول بجملة فعلية معلولة لفظا ومعنى ما سمعت ونحو ذلك من حيث التأويل أدعوتموهم أم أنتم صامتون أي أم صمتم وقوله :
أمخدج اليدين أم أتمت
أي أم متما وقيل : حذف المعادل لدلالة المعنى عليه : والتقدير أفلا تبصرون أنا خير الخ وتعقب بأن هذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا نحو أيقول زيد لا أي لا يقول فأما حذفه دون لا فليس من كلامهم وجوز أن يكون في لبكلام طي على نهج الأحتباك والمعنى أهو خير مني فلا تبصرونما ذكرتكم به أم أنا خير منه لأنكم تبصرونه ولا ينبغي الألتفات إليه وجوز غير واحد كون أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة التي للتقدير كأن اللعين قال أثر ما عدد أسباب فضله ومباديء خيريته : أثبت عندكم واستقر لديكم أني خير وهذه حالي من هذاالخ ورجحه بعضهم لما فيه من عدم التكلف في أمر المعادل اللازم أولا لحسن في المتصلة وقال السدي وأبو عبيدة : أم بمعنى بل فيكون قد انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير كقول الشاعر : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح وقال أبو البقاء : إنها منقطعة لفظا متصلة معنى وأراد ما تقدم من التأويل وليس فيه مخالفة لما أجمع عليه النحاة كما توهم وجملة لا يكاد يبين معطوفة على الصلة أو مستأنفة أو حالية وقريء أما أنا خير بإدخال الهمزة على ما النافية وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه يبين بفتح الياء من بان إذا ظهر فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب كناية عن تمليكه قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسودده
(25/90)
فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا وهذا من اللعين لزعمه أن الرياسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة وقرأ الأعمش أساور ورويت عن أبي وعن أبي عمر وجمع أسور فهو جمع الجمع وقرأ الجمهور أساورة جمع أساور بمعنى السوار والهاء عوض من ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق
وقد قرا أساوير عبد الله وأبي في الرواية المشهورة وقرأ الضحاك ألقى مبنيا للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب أو جاء معه الملائكة مقترنين
53
- من قونته به فاقترن وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناء على هذا وفسر أيضا بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والأقتران مجاز أو كناية عن الأعانة
ولذا قال ابن عباس : يعينونه على من خالفه وقيل : عن التصديق ولو لا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة وهو على الأول حسي وعلى الثاني معنوي وقيل : متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين وعن قتادة متتابعين
فاستخف قومه فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها ومعنى الخفة السرعة لأجابته ومتابعته كما يقالهم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أيوجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الأستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محوداوفي نسبته ذلك للقوم تجوز فاطاعوه فيما أمرهم به إنهم كانوا قوما فاسقسن
54
- فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي فلما أسفؤنا أي أسخطونا كما قال علي كرم الله تعالى وجهه وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل
وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه : إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبه تعالى وعلى ذلك قال عز و جل : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وقال سبحانه : من يطع الرسول فقد أطاع الله وعليه قيل : المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه والسلف لا يؤولون يقولون : الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا : أي احزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل
وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الأنفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الأنتقام فمتى كان ذلك من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقع انقبض فصار حزنا ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يوقي عليه أظهره غيضا وغضبا ومنازع من لا يقوي عليه أظهره حزنا وجزعا وبهذا النظر قال الشاعر :
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب
انتهى وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من آسف
انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين
55
- في الميم فجعلناهم سلفا قال ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة أي متقدمين إلى النار
وقال غير واحد : قدوة للكفار الذين بعدهم يعتقدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم والكلام
(25/91)
على الأستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير وقيل : جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضا
وقرأ أبو عبد الله وأصحابه وسعيد بن عياض والأعمش والأعرج وطلحة وحمزة والكسائي سلفا بضمتين جمع سليف كفريق لفظا ومعنى سمع القاسم بن معن العرب تقول : مضى سليف من الناس يعنون فريقا منهم وقيل : جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد والأعرج أيضا سلفا ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبج والجمع سلفان كصردان ويضم
ومثلا للآخيرن
56
- أي عظة لهم والمراد بهم الكفار بعدهم والجار متعلق على التنازع بسلفا ومثلا ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التيسير مسير الأمثال ومعنى كونهم مثلا للكفار أن يقال لهم مثلكم مثل قوم فرعون ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر ولما ضرب ابن مريم مثلا الخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم فقد روي أن عبد الله ابن الزبعري قبل إسلامه قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سمعه يقول : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى : إذا قومك منه يصدون
57
- فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلا وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جبلة وضجيج فرحا وجدلا والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل بمعنى المثال أي جعله مقياسا وشاهدا على إبطال قوله عليه الصلاة و السلام : إن آلهتهم من حصب جهنم وجعل عيسى عليه السلام نفسه مثلا من باب الحج عرفة
وقرأ أبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب وابن عامر ونافع والكسائي يصدون بضم الصاد من الصدود وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وقيل بلوغه تواترها والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية وقيل : المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الأعراض
وقال الكسائي والفراء يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان بمعنى واحد مثل يعرشون ويعرشون ومعناها يضجون وجوز أن يكون يعرضون وقالوا تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه بما يغتربه السفهاء آلهتنا خير أم هو أي ظاهر عندك أن عيسى عليه السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وأيانا فيها وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الأستفهام والهمزة الأصلية وسهل باقي السبعة الثانية بين بين
(25/92)
وقرأ الأعمش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر والظاهر أنه على حذف الأستفهام وقوله تعالى : ما ضربو هلك إلا جدلا بل هم قوم خصمون
58
- إبطال لبطالهم إجمالا لا اكتفاء بما فصل في قوله تعالى : إن الذين سبقت وتنبيها على أنه لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمي ويصم أي ما ضربوا لك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج فجدلا منتصب على أنه مفعول لأجله وقيل هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين وقرأ ابن مقسم جدالا بكسر الجيم وألف بعد الدال وقوله تعالى : إن هو أي ما عيسى ابن مريم إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب كلام حكيم مشتمل على ما شتمل عليه قوله تعالى : إن الذين سبقت ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضا بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى وقوله تعالى : وجعلناه مثلا أي أمرا عجيبا حقيقيا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة لبني إسرائيل
59
- حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك مالم نجعل لغيره في زمانه كلام أجعل فيه وجه الأفتتان به وعليه ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطا وتفريطا وقوله سبحانه : ولو نشاء لجعلنا الخ تذييل لوجه دلالته على القدرةوأن الأفتتان من عدمالتأمل وتضمين للأنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا منكم يا رجال ملائكة كما ولدنا عيسى من غير أب في الأرض يخلفون
60
- أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفا ونسلا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدا كما تخلق إبداعا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والأنتساب إليه سبحانه وتعالى بالنبوة وجوز أن يكون معنى لجعلنا الخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و ملائكة مفعول ثان أوحال وقيل : من للبد لكما في قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة وقوله :
ولم تذق من البقول الفستقا
أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد والمراد بيان كمال قدرته تعتالى لا التوعد بالأستئصال وإنتضمنه فإنه غير ملائم للمقام وقيل : لا مانع من قصدهما نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك ما قرر أولا
وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى : إن هو إلا عبد الخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه : إنكم وما تعبدون الخ وإن تقريره إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوما أهلا للنار وآخرين أهلا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل
(25/93)
نفسا هداها أه
وعلى ما ذكرنا أن الكلام في أبطال قد تم عند قوله تعالى : خصمون وما بعد لماسمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى : ولو نشاء الخ لنفي العتراض ليس بشيء وروي أن ابن الزبعري قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين سمع قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم فقال عليه الصلاة و السلام : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال : خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت الآية أو نزلت هذه الآية وأنكر بعضهم السكون وذكر أن أبن الزبعريي حين قال للنبي عليه الصلاة و السلام : خصمتك رد عليه صلى الله عليه و سلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل وروي محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعري قال له عليه الصلاة و السلام : أنت قلت : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال : نعم أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى وهذا أثبت من الخبر الذي قبله وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعري أهذا لنا الخ وقوله عليه الصلاة و السلام : هو لكم الخ بأنه ليس بثبت
وذكر من أثبته أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إن ما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملا بما تقتضيه كلمة ما لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند الحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة و السلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الأشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبودين بما جاء في خبر محيي السنة منقوله عليه الصلاة و السلام : بل هم يعبدون الشيطان كما نطق به قوله تعالى : سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن الآية وقد تقدمما ينفعك تذكره فتذكرو في الدر المنثور أخرج الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لقريش : إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كنت صادقا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه : ولما ضرب ابن مريم مثلا الخ والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات وقيل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب قالوا : نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت فالمثل ما في قوله تعالى : إن مثل عيسى الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقا بشرا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم : أآلهتنا خير أم هو فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم إلها مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون ثم قال سبحانه : ولو نشاء لجعلنا منكم دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر
(25/94)
على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرقفي ذلك بين المخلوقات والدا وإبداعا فلا يصلح القسمان للآلهية وفي رواية عن ابن عباس وقتادةأنه لما نزل قوله تعالى : إن مثل عيسى الآية قالت قريش : ما أراد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى
ومعنى يصدون يضجعون ويضجرون والضمير في أم هو لنبينا عليه الصلاة و السلام وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين آلهتهم الأستهزاء به عليه الصلاة و السلام وقوله تعالى : ولو نشاء الخ ردوا تكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحي إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله تعالى عليه وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضا على درجة المعبودية بقوله سبحانه : ولو نشاء الخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة و السلام في قوله تعالى : أم هو مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه : إن هو إلا عبد وفيه من فكالنظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل الرواية عن الخبر غير ثابتة وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم : الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا : ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكرا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز و جل فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيت نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي وقوله تعالى : ولو يشاء الخ عليه كما في الوجه الثاني وأنه أي عيسى عليه السلام لعلم للساعة أي أنه بنزوله شرط من أشراطها أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة منن الأمور الواقعة في الساعة وأيا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة
وقرأ أبي لذكر وهو مجاز كذلك
وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وزيد بن علي وقتادة ومجاهد والضحاك ومالك بن دينار والأعمش والكلبي قال ابن عطية وأبو نصرة لعلم بفتح العين واللامأي لعلامة
وقرأ عكرمة قال ابن خالويه وأبو نصرة لا لعلم معرفا بفتحتين والحصر إضافي وقيل : باعتبار أنه أعظم العلامات وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينزلن ابن مريم حكما عدلا فل يكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقي عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد وفي رواية وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين مصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام وفيه ويهلك المسيح الدجال وفي أخرى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم وفي رواية فأمكم منكم قال ابن ذئب تدري ما أمكم منكم قال : تخبرني قال : فأمكم بكتاب ربكم عز و جل وسنة نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في
(25/95)
صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول : إنما أقيمت لك
وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعا لتوهم نزوله ناسخا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك وفيبعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنيةيقال لها أفيق وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قبل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموتو يدفن في الحجرة الشريفة النبوية وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفارني وعن الحسن وقتادة وابن جبير أن ضمير إنه للقرآن لما أن فيه الأعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضا وضعفب أنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق وقالت فرقة : يعود على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة و السلام : بعثت أنا والساعة كهاتين وفيه من البعد ما فيه
وكأن هؤلاء يجعلون ضمير أم هو وضمير إن هو له صلى الله عليه و سلم أيضا وهو كما ترى فلا تمترن بها فلاتكن في وقوعها واتبعون أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي وقيل : هو قول الرسول صلى الله عليه و سلم مأمورا من جهته عز و جل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني هذا أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على الضمير في إنه له صراط مستقيم
61
- موصول إلى الحق ولا يصدنكم الشيطان عن اتباعي إنه لكم عدو مبين
62
- أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية ولما جاء عيسى بالبينات بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الأنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادةالجميع قال لبني إسرائيل قد جئتكم بالحكمة أي الأنجيل كما قال القشيري والماوردي وقال السدي بالنبوة وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل وقال أبو حيان : أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع وقال الضحاك أي بالموعظة ولأبين لكم متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين لكم ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالأهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه وفي الأرشاد هو عطف على مقدر ينبيء عنه المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه و سلم في قصة تأبير النخل أنتم أعلم بأمور دنياكم
وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلا وبعضها مفوض للأجتهاد قال أبو عبيدة : المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحل عليه السلام لهم لحوم الأبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت وقال مجاهد : بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة وقال قتادة : لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام فاتقوا الله من
(25/96)
مخالفتي وأطيعون
63
- فيما أبلغه عنه تعالى إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع صراط مستقيم
64
- لا يضل سالكه وهو إما من تتمة كلام عيسىعليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام
فاختلف الأحزاب الفرق المحتزبة من بينهم من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام وقيل : المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام وقد اختلفوا فرقا ملكانية ونسطورية ويعقوبية فويل للذين ظلموا من المختلفين وهم الذين لم يقولوا : إنه عبد الله ورسوله من عذاب يوم أليم
65
- هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي
وهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون
66
- الضمير لقريش وأن تأتيهم بدل من الساعة والأستثناء مفرغ وجوز جعل إلا بمعنى غير والأستفهام للأنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه
ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه : وهم لا يشعرون لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك وقيل : يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون وفيه ما فيه وقيل : ضمير ينظرون للذين ظلموا وقيل : للناس مطلقا وأيد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تقوم الساعة والرجل ان يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة و السلام هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ألا خلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
67
- الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضره والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عز و جل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى واعتبار الأنقطاع لأن الخل حال كونه خلا محال أن يصير عدوا
وقيل : المعنى الأخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم المجتنبين إخلاء السوء والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي وفي الثاني هو من اتقى صحبة الأشرار
والأستثناء فيهما متصل وجوز أن يكون يومئذ متعلقا بالأخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي خلف وعقبة بن أبي معيط يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون
68
- حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي الخ أو فأقول : لهم بناء على أن المنادي هو الله عز و جل تشريفا لهم وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا يفزع فينادي مناديا يا عباد الخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى الذين آمنوا بأياتنا وكانوا مسلمين
69
- فييأس منها الكفار فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة والأول أو فقمن أوجه عديدة
والموصول إما صفة للمنادى أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه وجملة وكانوا مسلمين حال من ضمير آمنوا بتقدير أو بدونه وجوز عطفها على الصلة ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ لأن المراد بالإسلام
(25/97)
هنا الأنقياد والأخلاص ليفيد ذكره بعد الأيمان فإذا جعل حالا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الأيمان وكان تدل على الأستمرارأيضا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف وكذا الحال المفردة بأن يقال : الذين آمنوا بآياتنا مخلصين وقرأ غير واحد من السبعة يا عبادي بالياء على الأصل والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص وحمزة والكسائي وقرأ ابن محيصن لا خوف بالرفع من غير تنوين والحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى وابن عمر ويعقوب بفتحها من غير تنوين أدخلوا أنتم وأزواجكم نساؤكم المؤمنات فالأضافة للأختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهن تحبرون
70
- تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى : تعرف وجوهكم نضرة النعيم أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهوالزينة وحسن الهيئة وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه وقال الزجاج : أيتكرمون كراما يبالغ فيه والحبرة بالفاتح المبالغة في العمل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفرادها هنا يطاف عليهم بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به بصحاف من ذهب وأكواب كذلك والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة وقيل : أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكلية
والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عورة له هذامعنى قول مجاهد لا إذن له وهو على ما روي عن قتادة دون الأبريق وقال : بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع كثرة والثاني جمع قلة وقد تظاهرت الأخبار بكثرة الصحاف أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صفحتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يحد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولايتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين وفي حديث رواه عكرمة إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهبو خيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صفحة في كل صفحة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لو سمع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا وروي ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضا وإذا كان ذلك للأدنى فما ظنك بالأعلى رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه
وأما أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف وفيها أي في الجنة ما تشتهيه الأنفس من فنون الملاذ وتلذ الأعين أي تستلذ وتقر بمشاهدته وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم وقال بعض الأجلة : إن قوله تعالى : يطاف عليهم بصحاف دل على الأطعمة وأكواب على الأشربة ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه : وفيها ما تشتهيه الأنفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم
(25/98)
فكني عنه بقوله عز و جل وتلذ الأعين ولهذاقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما رواه النسائي عن أنس : حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني الصلاة وقال قيس بن ملوح : ولقد هممت بقتلها من حبها كيما تكون خصيمتي في المحشر حتى يطول علي الصراط وقوفنا وتلذ عيني من لذيذ المنظر ويوافق هذا قول الأمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغنس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بني الزمخشري قوله : هذا حصر لأنواع النعم أما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين وتعقبه في الكشف فقال : فيه نظر لانتفاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس فإن قيل : إنها من القسم الأول قلنا : مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيما لتنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين وحذف الموصول مثل في ذلك شائع ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولا و ألأ في الأنفس والأعين للأستغراق على ما قيل ولا فرق بين جمع القلة والكثرة
ولعل من يقول بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدأ والمنتهى يقول : بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة وقيل : هي للعهد وقيل : عوض عن المضاف إليه أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم وجمع النفس الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان الإخلاء وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر
وفي الأخبار أيضا ما هو ظاهر في العموم أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه عن بريدة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : هل في الجنة خيل فإنها تعجبني قال : أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت فقال له رجل : إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل فقال : يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك
وأخرج أيضا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال : هو أصح من الأول وجاء نحوه أيضا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده ولا يشكل على العموم أن اللواطة مثلا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهى بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة
واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول فقد أخرج الإمام أحمد وهناد والدارمي وعبد بن حميد وابن ماجة وابن حيان والترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة فقال عليه الصلاة و السلام : إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي
(25/99)
وذهب طاوس وإبراهيم النخعي ومجاهد وعطاء وإسحاق بن إبراهيم إلى الثاني فقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد وفي حديث لقيط الطويل الذيرواه عبد الله بن الإمام أحمد وأبو بكر بن عمرو وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم والطبراني وابن حبان ومحمد بن إسحاق ابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وجماعة من الحفاظ وتلقاه وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده : لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت : يا رسول الله أو لنا فيها يعني الجنة أزواج أو منهن مصلحات قال : المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أنلا توالد
وقال مجاهد وعطاء قوله تعالى : ولهم فيها أزواج مطهرة أي مطهرة من الولد والحيض والغئط والبول ونحوها وقال إسحاق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق : إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي وتعقب بأن إذا لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل لو اشتهى وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدا
وقال السفاريني في البحور الزاخرة : حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروي عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل ليولد له وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو سهل فيما نقله الحاكم : إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ وفيه غير إسناد وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الأخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة ولا ينافي ذلك ما في حديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة و السلام : مثل لذاتكم في الدنيا ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعا بين الأخبار ثم إن التوالد ليس على سبيل الأستمرار بل هو تابع للأشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء وما قيل : إنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يبقى في الجنة فينشيء الله تعالى لها خلقا يسكنهم إياها ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادةمن الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه
وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين بحذف الضمير العائد على ما من الجملتين المتعاطفتين وفي مصحف عبد الله ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين بالضمير فيهما والقراءة في الأول دون الثانية لأبي جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وحفص وأنتم فيها أي في الجنة وقيل : في الملاذ
(25/100)
المفهومة مما تقدموه و كما ترى خالدين
71
- دائمون أبد الآبدين والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى : لا خوف عليكم ونودوا بذلك إتماما للنعمة وإكمالا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال ولله تعالى رد القائل : وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا للمرء خير من نعيم زائل وعن النصر أباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والأتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فأنتم إذا أنتم وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولا أوليا وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الألتفات وأنه للتشريف وقال الطيبي : ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والألتفات وتقديم الظرف في وأنتم خالدون لتقف على ما لا يكتنهه الوصف وتلك الجنة مبتدأ وخبر وقوله تعالى : التي أورثتموها صفة الجنة وقوله سبحانه بما كنتم تعلمون
72
- متعلق أورثتموها وقيل : تلك الجنة مبتدأ وصفة و التي أورثتموها الخبر والجار بعده متعلق به وقيل : تلك مبتدأوالجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر
والأشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى : ادخلوا الجنة وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل والباء للمقابلة وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقيلهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية وقال بعض : الأستعارة تمثيلية
وجوز أن تكون مكنية وقيل : الأرث مجاز مرسل للنيل والأخذ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضا وأيا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عز و جل والمراد بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لن يدخل أحدكم الجنة عمله ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الأستقلال والسببية التامة فلا تعارض
وأخرج هناد وعبد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال : تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل وقريء ورثتموها لكم فيها فاكهة كثيرة بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الأفراد فقط منها تأكلون
73
- أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا وفي الحديث لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية والتقديم للحصر الأضافي وقيل لرعاية الفاصلة
ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثر همفي الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم وقيل : إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عوانا نظرهم مقصور على الأكل والشرب وتعقب بأنه تام وللصوفية كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله عز و جل إن المجرمين
(25/101)
أي الراسخين في الأجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل : إن الكفار في عذاب جهنم خالدون
74
- وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى : الذين آمنوا بآياتنا فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلة والخوارج ولايضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم ولا يخفى ما فيه والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده لا يفتر عنهم أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذاسكنت قليلا والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقا وهم فيه أي في العذاب وقرأ عبد الله فيها أي في جهنم ملبسون
75
- حزينون من شدةالبأس قال الراغب : الإبلاس الحزن المعترض من شدةالبأسومنه اشتق إبليس فيما قيل
ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أب ليس فلأن إذا سكت وانقطعت حجته انتهى وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين
76
- لسوء اختيارهم و هم ضمير فصل فيفيد التخصيص وقرأ عبد الله وأبوزيد الظالمون بالرفع على أن هم مبتدأ وهو خبره وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر وقال أبو زيد : سمعتهم يقرؤن تجدوه عند الله هوخير وأعظم برفع خير وأعظم وقال قيس بن ذريح : تحن إلى ليلى وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر وقال سيبويه : بلغتنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدا هو خير منك يعني بالرفع ونادوا أي من شدة العذاب
وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون : ادعوا مالكا فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته ومرادهم سل ربك أنيقضي علينا حتى نستريح وإضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للأنكار وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمني للموت من فرط الشدة وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأسعليهم وعلمهم أنهلا خلاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقات الشدة ما بهم وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الأسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وابن وثاب والأعمش يا مال بالترخيم على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار يا مال بالترخيم أيضا لكن على لغة من لم ينتظر
قال ابن جني : وللترخيم في هذاالموضع سر وذلك أنهم لعظم ما همفيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا منموضع الأختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى : ما أشغل أهل النار على الترخيم مشيرا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجيب وفيها معنى الصيد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الألتفات إلى الترخيم وترك النداءعلى الوجه الأكثر في الأستعمال وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله :
(25/102)
يحيي رفات العظام باللية
والحق يا مال غير ما تصف بل للعجز وضيق المجال عن الأتمام كما يشاهد في بعض المكروبين قال أي مالك إنكم ماكثون
77
- مقيمون في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به
وذكر بعض الأجلةأن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالأنقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار ويمكن أن يكون وجه الأستهزاء التعبير بماكثون من حيث أنه يشعر بالأختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة
قال ابنعباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة وقال نوف : بعد مائة وقيل ثمانين وقيل أربعين
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون
78
- خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم ولا مانع من خطابه سبحانه الكفرة تقريعا لهم وقيل : هو من كلام بعض الملائكة عليهم السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار
وفيه بحث وقيل : في قال ضميره تعالى فالكل مقوله عز و جل وقيل : إن قوله تعالى إنكم ماكثون خاتمة حال الفريقين وقوله سبحانه لقد الخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الأيمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلكدون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان أكثركم فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه وقد يقال : الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأنمن الأتباع من يكفر تقليدا وقريء لقد جئتكم وقوله تعالى : أم أبرموا أمرا كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم و أم منقطعة وما فيها معنى بل للأنتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للأنكار فإن أريد بالأبرام الأحكام حقيقة فهي لأنكار الوقوع واستبعاده وإن أريد الأحكام صورة فهي لأنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا مبرمون
79
- كيدنا حقيقة لا هم أو فإنا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون والآية إشارة إلى ماكان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة و السلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عز و جل من تدميرهم وقيل : هو من تتمة الكلام السابق والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم فإنكان ذاك خطابا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين وإن كان خطابا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم فكأنه قيل : فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم وإظهار أمرك وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم ولا يغني عنهم شيئا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا
(25/103)
القيل للشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم و يؤيده ما ذكر أولا على ما قيل قوله تعالى : أميحسبون أنا لا نسمع سرهم لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرا قد أخفوه في ناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد ونجواهم أي تناجيهم وتحادثهم سرا
وقال غير واحد : السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي بلى نسمعهما ونطلع عليهما ورسلنا الذين يحفظون عليهم أعمالهم لديهم ملازمون لهم يكتبون
80
- أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التيمن جملتها ما ذكر
والمضارع للأستمرار التجددي وهو مع فاعله خبر و لديهم حال قدم للفاصلةأو خبر أيضا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بلى أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة ولايبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الأطلاع فيكتبوه
ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قريش ان وثقفي أوثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد : إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت أم يحسبون الآية
وقيل : إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عز و جل منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه قل أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما لبسوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
81
- أي لذلك الولد وكان بمعنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها و أول أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم وجوز اعتبار ذلك مطلقا والمراد إظهار الرغبة والمسارعة والمنساق إلى الذهن الأول
ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة و السلام أعلم الناس بشؤنه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز وأحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجبه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والأنقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه وهذا نفي لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي فإنه في الحقيقة قياسي استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلى الله عليه و سلم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه وذلك نظير قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لكنه جيء بأن دون لو جعل ما في حيزها بمنزلة ما لا يقطع بعدمه على طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والأفحام
(25/104)
وفي الكشف أن الآية مبالغة من حيث أنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة و السلام لما يدعونه ولدا محالا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببا عن محال ثم نفي للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلى الله عليه و سلم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه ونحوها ذكر في الآية مرويا عن قتادة والسدي والطبري
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة و السلام أول العابدين كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أول من ينكر ذلك عليهم و والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد وقد خفى ذلك علىالإمام فنفي صحة هذا الوجه وتكلف بعضهم فقال : إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقواعلى ذلك الزعم يكون النبي صلى الله عليه و سلم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة وقيل : إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو أن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله والأنصاف أن الأرتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدا منهم أن العابدين منعبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء ومنه قوله :
وأعبد أن أهجو كليبا بدارم
وقول الآخر : متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما أيإن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عز و جل وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى فأنا أول العابدين فقال : أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد وأيد ذلك بقراءة السلمي واليماني العبدين جمع عبد كحذر وحذرين وهو المعروف في معنى أنف وقلما يقال فيهعابد ومن هنا ضعف ابن عرفة هذاالوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم وذكر الخليل في كتاب العين أنه قريء العبدين بسكون الباء تخفيف العبدين بكسرها وقال أبو حاتم : العبد بكسر الباء الشديد الغضب وقال أبو عبيدة : العرب تقول عبدني حقي أي جحدني وروي عن الحسن وابن زيد وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس وقتادة والسدي أيضا أن إن نافية ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال ذلك وعبد ووحد و كان عليه للأستمرار المقصود استمرار النفي لا نفي الأستمرار والفاء للسببية وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها وزعم مكي أنه لا يجوز لأيهامه نفي الولد فيما مضى وهوكما ترى
وقرأ عبد الله وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي كما قال القاضي ولد بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما
سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون
82
- أيعن وصفهم أو الذي يصفونه
(25/105)
به من كونه سبحانه له ولد وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم ألأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملكوته تعالى وربوبيته عز و جل كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزأ منه سبحانه وهو ينافي وجوب الوجود وفي تكرير ذلك الأسم الجليل تفخيم لشأن العرش فذرهم فدعهم غير ملتفت إليهم حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي يخوضوا في أباطيلهم ويلعبوا في دنياهم فإن ما هم فيهمن الأقوال والأفعال ليس إلا من باب الجهل والجزم لجواب الأمر حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون
83
- وهو يوم القيامة عند الأكثرين وعن عكرمة وجماعة أنه يوم بدر وقد وعدوا الهلاك فيه وقريب منه تفسيره بيوم الموت وقيل : ينبغي تفسيره به دون يوم القيامة لأن الغاية للخوض واللعب إنما هو يوم الموت لانقطاعهما بالموت وانتظر للأكثرين بأن يوم القيامة هو اليوم الموعود وبه سمي في لسان الشرع وتفسيره بذاكم خالف للمعروف ولما بعد من ذكر الساعة وما ذكر من أمر الأنقطاع مدفوع بأن الموت وما بعده في حكم القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته ومثله قد يراد به الدلالة على طول المدة معقطع النظر عن الأنتهاء فيقال : لا يزال في ضلالة إلى أن تقوم القيامة
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو يلقوا مضارع لقي والآية قيل منسوخة بآيةالسيف وهو الذيفي السماء إله وفي الأرض إله الظرفان متعلقان بإله لأنه صفة بمعنى معبود من أله بمعنى عبد وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو إله وذلك عائد الموصول وحذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه
وقال غير واحد : الجار متعلق بإله باعتبار ما ينبيء عنه منمعنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه بالمعبود بالحق وهذا كتعلق الجار بالعلم المشتهر بصفة نحو قولك : هو حاتم في طيء حاتم في تغلب وعلى هذا تخرج قراءة عمر وعلي وعبد الله وأبي والحكم بن أبي العالي وبلال بن أبي بردة وابن يعمر وجابر وابن زيد وعمر بن عبد العزيز وأبو شيخ الهنائي وحميد وابن مقسم وابن السمقيع وهو الذيفي السماء الله وفي الأرض الله فيعلق الجار بالأسم الجليل باعتبارالوصف المشتهر به واعتبر بعضهم معنى الأستحقاق للعبادة وعلل ذلك بأن العبادة بالفعل لا تلزم وجوز كون الجار والمجرور صلة الموصول و إله خبر مبتدأ محذوف أيضا على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه سبحانه في السماء على سبيل الألهيةلا على معنى ألأستقرار
واختير كون إله في هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف على كونه خبرا آخر للمبتدأ المذكور أو بدلا من الموصول أو من ضميره بناء على تجويزه لأن إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفةإذا أفادت ما لم يستفد أولا كما هنا جائز حسن على ما قال أبو علي في الحجة لأن البيان ههنا أتم وأهم فلذا رجح مع ما فيه من التقدير وحينئذ فلا فاصل أجنبي بين المتعاطفين ولا يجوز كون الجار والمجرور خبر مقدما وإله مبتدأ مؤخرا للزوم خلو الجملة عن عائد مع فساد المعنى وفي الآية نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاص الألهية به عز و جل لما فيها من تعريف طرفي الأسناد والموصول في مثل ذلك كالمعرف بالأداة وللأعتناء بكل من إلهيته تعالى في السماء وإلهيته عز و جل في الأرض قيل وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ولم يقل : وهو الذي في السماء وفي الأرض إله أو هو الذي في السماء والأرض إله وحديث الأعادة قيل مما لا يجري ههنا لأن القاعدة أغلبية كأكثر قواعد العربية
وقال بعض الأفاضل : يجوز إجراء القاعدة فيه والمغايرة بين الشيئين أعم من أن تكون بالذات أو بالوصف
(25/106)
والأعتبار والمراد هنا الثاني ولا شك أن طريق عبادة أهل السماء غير طريق عبادة أهل الأرض على ما يشهد به تتبع الآثار فإذا كان إله بمعنى معبود كان معنى الآية أنه تعالى معبود في السماء على وجه ومعبود في الأرض على وجه آخر وإنكان بمعنى التحير فيه فالتحير في أهل السماء غير التحير في أهل الأرض فلا جرم تكون أطوارهم مخالفة لأطوار أهل الأرض ومن ذلك اختلاف علومهم فإن علوم أهل الأرض إن كانت ضرورية فأكثرها مستندة إلى إلى الحس وإن كانت نظرة كانت مكتسبةمن النظر فإذا انسد طريق النظر والحس عجوزا وتحيروا ولا كذلك أهل السماء لتنزههم عن الكسب والحس فتحيرهم على نحو آخر أو نقول التحير في إدراك ذاته تعالى وصفاته إنما ينشأ من مشاهدة آثار عظمته وكمال قدرته سبحانه ولا شك أنتلك الآثار في السماء أعظم من الآثار في الأرض وعليه فيجوز أن يكون الإله بمعنى المتحير فيه ويكون مجازا عن عظيم الشأن من بابذكر اللازم وإرادة الملزوم فيكون المعنى أنه تعالى عظيم الشأن في السماء على نحو وعظيم الشأنفي الأرض على نحو آخر أه ولا يخلو عن شيء كما لا يخفى وهو الحكيم العليم
84
- كالدليل على النفي والأختصاص المشار إليهما فإنمن لا يتصف بكمال الحكمة والعلملا يستحق الإلهية
وتبارك الذي لهملك السماوات والأرضوما بينهما كالهواء ومخلوقات الجو المشاهدة وغيرها وعنده علم الساعة أي العلم بالساعة أي الزمان الذي تقوم القي فيه فالمصدر مضاف لمفعوله والساعة بمعناها اللغوي وهو مقدار قليل من الزمان ويجوز أن يراد بها معناها الشرعي وهو يوم القيامة والمحذور مندفع بأدنى تأمل وفي تقديم الخبر إشارة إلى استئثاره تعالى بعلم ذلك وإليه ترجعون
85
- للجزاء والألتفات إلى الخطاب للتهديد وقرأ الأكثر بياء الغيبة والفعل في القراءتي مبني للمفعول وقريء بفتح تاء الخطاب والبناء للفاعل وقريء تحشرون بتاء الخطاب أيضا والبناء للمفعول ولا يملك الذين يدعون أي ولا يملك آلهتهم الذي يدعونهم من دونه الشفاعة كمازعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عز و جل وقريء تدعون بتاء الخطاب والتخفيف والسلمي وابن وثاب بها وشد الدال إلا من شهد بالحق الذي هو التوحيد وهم يعلمون
86
- أي يعلمونه والجملة في موضع الحال وقيد بها لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعول عليها وجمع الضمير باعتبار معنى منكما أن الأفراد أولا باعتبار لفظه والمراد به الملائكة وعيسى وعزير وأضرابهم صلاة الله تعالى وسلامه عليهم والأستثناء قيل : متصل إن أريد بالذين يدعونمن دونه كل ما يعبد من دون الله عز و جل ومنفصل إن أريد بذلك الأصنام فقط وقيل : هو منفصل مطلقا وعلل بأن المراد نفي الآلهة الباطلة الشفاعة للكفرة ومن شهد بالحق منها لا يملك الشفاعة لهم أيضا وإنما يملك الشفاعة للمؤمنين فكأنه قيل على تقدير التعميم : ولا يملك الذين يدعونهم من دون الله تعالى كائنين ما كانواالشفاعة لهم لكنمن شهد بالحق يملك الشفاعة لمنشاء الله سبحانه من المؤمنين فالكلام نظير قولك : ما جاء القوم إلي إلا زيدا جاء إلى عمرو فتأمل
وقال مجاهد وغيره : المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم وجعل الأستثناء عليه متصلا و المستثنى منه محذوفا كأنه قيل : ولا يملك هؤلاءالملائكة وأضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن أيقان وإخلاص
(25/107)
ومثله في حذف المستثنى منه قوله : نجا سالم والنفس منه بشرقة ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا أي ولم ينج شيء إلا جفن سيف واستدل بالآية على أن العلم مما لا بد منه في الشهادة دون المشاهدة
ولئن سألأتهم من خلقهم أي سألت العابدين أوالمعبودين ليقولن الله لتعذر المكابرة في ذلك من فرط ظهوره ووجه قولا لمعبودين ذلك أظهر من أن يخفى فأنى يؤفكون
87
- فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره سبحانه ويشركونه معه عز و جل مع إقرارهم بأنه تعالى خالقهم أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك والفاء جزائية أي إذا كان الأمر كذلك فأنى الخ والمراد التعجب من إشراكهم مع ذلك وقيل : المعنى فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك فهو تعجب من عبادة غيره وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم وأيا ما كان فهو متعلق بما قبله من التوحيد والأقرار بأنه تعالى هو الخالق وأما كون المعنى فكيف أوأين يصرفون عن التصديق بالبعث مع أن الأعادة أهون من الأبداء وجعله متعلقا بأمر الساعة كما قيل فيأباه السياق
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو تؤفكون بتاء الخطاب وقيله يا ربإن هؤلاء قوم لا يؤمنون
88
- بجر قيله وهي قراءة عاصم وحمزة والسلمي وابن وثاب : والأعمش وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد والحسن وقتادة ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة
وقرأ الجمهور بنصبه واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه على لفظ الساعة في قوله تعالى وعنده علم الساعة أي عنده علم قيله والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل : يعلم الساعة ويعلم قيله والرفع على عطفه على علم الساعة على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جني وجميع الأوجه للزجاج وضمير قيله عليها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المفهوم من قوله تعالى ولئن سألتهم والقيل والقال مصادر درجات بمعنى واحد والمندى وما في حيزه مقول القول والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشك من عدم أيمان أولئك القوم وفي ألإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وتبر منهم لسوء حالهم والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم وقيل : الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وأيصال فعله إليه محذوفا والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه إن هؤلاء الخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير قيله كما سبق والكلام إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة و السلام وتعظيم دعائه و التجائه إليه تعالى والواو عنده للعطف أعني اطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الأعتراضية الواو كالمضمحل عنها ذمعنى العطف وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وأيمن الله واضح الوجه على الأوجه الثلاثة وأما في غيرها كالقيل هنا فلا يخلوعن ضعف وقيل : الجر على أن الواو واو القسم والجواب محذوف أي لننصرنه أو لنفعلن بهم ما نشاء حكاه في البحر وهو كما ترى وقيل : النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم
(25/108)
وأفعالهم وقيل هيا رب الخ وليس بشيء وقيل : هو على العطف على مفعول يعلمونأ عني الحق أي يعلمون الحق وقيل الخ وهو قول لا يكاد يعقل وعن الأخفش أنه على العطف على سرهم ونجواهم ورد بأنه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وأنا لا نسمع قيله الخ وهو منتظم أتم انتظام وعنه أيضا أنه على إضمار فعل من القيل ناصبله علىالمصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود وقال الرسول والجملة معطوفة على ما قبلها ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى فافصح به وقال العلامة الطيبي في توجيه إنه قوله تعالى : ولئنسألتهم تقدير هو قلنا لك : ولئن سألتهم الخ وقلت : يا رب يأسا من أيمانهم وإنما جعل غائبا على طريقا لألتفات لأنه كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم فاقد نفسه للتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده وقيل : الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فأنى يؤفكون وقد قال الرسول يا رب الخ وحاصله فأنى يؤفكون وقد شكاالرسول عليه الصلاة و السلام إصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر وقيل : الرفع على الأبتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسموع أو متقبل فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيل هوالجملة حال أومعطوفة ولا يخفى ما في ذلك والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج والأعتراض عليه هين وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني منقوله تعالى وإليه ترجعون إلى يؤفكون يصلح اعتراضا لأنقوله سبحانه وعنده علم الساعة مرتبط بقوله تعالى : حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون على ما لا يخفى والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى : وإليه ترجعون إلى قوله عز و جل : وهم يعلمون متصل بقوله تعالى : وعنده علما لساعة اتصالا لعصا بلحاها وقوله تعالى ولئن سألتهم خطاب لمن يتأتى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستخقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه فأنى يؤفكون وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى : وعنده علم الساعة وأن الفاصل متصل بهما اتصالا لا يجعل موقعه ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن وللك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين وأن حمل ولئنسألتهم على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة و السلام وسلامته من إضمار القول قبل قوله تعالى : ولئن سألتهم مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه أه وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام وقرأ أبو قربة يا رب بفتح الباء ووجه ظاهر فاصفح فأعرض عنهم ولا تطمع في أيمانهم وأصل الصفح ليصفحة العنق فكني به عن الأعراض
وقل لهم سلام أيأمري سلام تسلم منكم ومتاركة فليس ذلك أمرا بالسلام عليهم والتحية وإنما هو أمر بالمتاركة وحاصله إذا أبيتم القبول فأمري التسليم منكم واستدل بعضهم بذلك على جواز السلام على الكفار وابتدائهم بالتحية أخرج ابن أبي شيبة عن شعيب بن الحجاب قال : كنت مع علي بن عبد الله البارقي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه قال شعيب : فقلت : إنه يهودي أو نصراني فقرأ على آخر سورة الزخرف وقيله يا رب إلى الآخر وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف
(25/109)
تقول أنتفي ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال : ما أرى بأسا أن نبتدئهم قلتلم قال : لقوله تعالى : فاصفح عنهم وقل سلام ومما ذكرنا يعلم ضعفه وقال السدي : المعنى قل خيرا بدلا من شرهم وقال مقاتل : اردد عليهم معروفا وحكى الماوردي أن قل ما تسلم به منشرهم والكل كما ترى والحق ما قدمنا فسوف يعلمون
89
- حالهم السيئة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله سبحانه لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه و سلم وقرأ أبو جعفر والحسن والأعرج ونافع وهشام تعلمون بتاء الخطاب على أنه داخل في حيز قل وإنأريد من الآية الكف عن القتال فهي منسوخة وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليستب منسوخة والله تعالى أعلم
سورة الدخان
44 - مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى إننا كاشفواالعذاب قليلا إنكم عائدون وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين
واختلافها على ما فيم جمعا لبيان أربع آيات حم وإن هؤلاء ليقولون كوفي شجرة الزقوم عراقي شامي والمدني الأولفي البطون عراقي مكي والمدني الأخير ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عز و جلختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الأنذار الشديد وذكر سبحانه هنا كقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم : يا ربإن هؤلاء قوم لا يؤمنون وهنا نظيره فيما حكى عن أخيه موسى عليهم الصلاة والسلام بقوله تعالى فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون وأيضا ذكر فيما تقدم لإأفصح عنهم وقل سلام وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام إني عذبت بربي وربكم أن ترجعون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون وهوقريب من قريب إلى غير ذلك وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج الطراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان وورد بفضلها أخبار
أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له وفي رواية للبيهقي وابن الضريس عنه مرفوعا من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال من قرأ سورة الدخان في ليلة غفرله ما تقدم من ذنبه وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أو يوم جمعة بني الله له بيتا في الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم حم
1
- والكتاب المبين
2
- الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة
أنا أنزلناه أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعول عليه في ليلة مباركة هي ليلة القدر على ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد وابن زيد والحسن وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم وقال عكرمة وجماعة : هي ليلة النصف من شعبان وتسمى ليلة الرحمة والليلة المباركة وليلة الصك وليلة البراءة ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة
(25/110)
والصك كذلك أن الله عز و جل يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصكفي هذه الليلة وظاهر كلامهمهنا أن البراءة وهي مصدر بريء براءة إذا تخلص تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك وفي المغرب بريء من الديون والعيب براءة ومنه البراءة لخط الأبراءوالجمع براءات وبراوات عامية أه
وأكثر أهل اللغة على أنه يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن كان من باب المجاز الواسع
قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر بريء براءة وأما البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فتسميتها بذلك إما على أنها من بريء من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخليت منه فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلى وقيل أصله أن الجاني كان إذا جني وعفا عنه الملك كتب له كتاب أمان مما خافه فكان يقال : كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولى الأمر وأمثالهم أه
وذكروا في فضل هذه الآية أخبار كثيرة منها ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول : ألا مستغفر فأعفر له ألامسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر وما أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه وعن عائشة قالت : فقدمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعارأسه إلى السماء فقال يا عائشة : أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله قلت : ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض انسائك فقال : إن الله عز و جل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب وما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعد لعشر ينحجة مبرورة وصيام عشرين سنة مقبولا وروي في ذلك حديثا طويلا عن علي الله تعالى وجهه وقد أخرجه البيهقي ثم قال : يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكرو في رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها وذكروا عدة أخبار في أن الآجار تنسخ فيها وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى وفي البحر قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو من مجازفة والله تعالى أعلم والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذاعن ابن جرير وغيره وذكر أن المحل الذي أنزله فيه تلك السماء المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال : نزل القرآن جملة على جبريل عليه السلام وكان جبريل عليه السلام يجيء به بعد إلى النبيصص
وقال غير واحد : المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز في الطرف أو النسبة واستشكل ذلكبأن
(25/111)
ابتداء السنة المحرم أو شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه اعتبر التاريخ في حياته عليه الصلاة و السلام إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وهو الأصح وقد كان الوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة و السلام على المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو ليلة البراءة من شعبان
وأجيب بأن ابتداء الوحي كان ماما في شهر ربيع الأول ولم يكن بإنزال شيء من القرآن والوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم الأثنين لسبع عشرة خلت منشهر رمضان وقيل لسبع منه وقيل لأربع وعشرين ليلة منه وأنت تعلم كثرة اختلاف ألأقوال في هذاالمقام فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه
واختلف في أول ما نزل منه ففي صحيح مسلم أنه يا أيها المدثر وتعقبه النووي في شرحه فقال : إنه ضعيف بل باطل والصواب أن أولما نزل على الأطلاق اقرأ باسم ربك كما صرح به في حديث عائشة وأما يا أيها المدثر فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر
وأماقول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر أه والكلام في ذلك مستوفي في الأتقان فليرجع إليه من أراده
ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية باجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أولما فيها من ذلك وتقدير الأرزاق وفصل الأقضية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام الشفاعة له عليه الصلاة و السلام وهذا بناء على أنها ليلةالبراءة فقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله تعالى شراد البعير وأيا ما كان فدق قيل : إن التعليل إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من ألأعمال ونحوها وزاد بعضهم أو يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من العرش
والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة أخرى وجملة إنا أنزلناه جواب القسم وفي ذلك مبالغة نحوما في قوله :
وثناياك أنها إغريض
وقوله تعالى : إنا كنا منذرين
3
- استئناف المقتضى للأنزال وقوله تعالى : فيها يفرق كل أمرحكيم
4
- استئناف أيضا لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل : أنزلناه لأن منشأنناا لأنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي الكلام لف ونشر واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين مما لا داعي إليه وقيل : إن جملة فيها يفرق الخ صفة أخرى لليلة ومابينهما اعتراضلا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به فصلا وقيل إن قوله تعالى إنا كنا منذرين هو جواب القسم ومابينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعما أنه لا يجوز جعل إنا أنزلناه جواب المافيه من القسم بالشيء على نفسه
واعترض بأن قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم يكون حينئذ من تتمة الأعتراض فلا يحسن تأخره عن
(25/112)
المقسم عليه ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف بياني متعلق بما قبلكما سمعت آنفا فلا يليق الفصل أيضا كما لا يخفى على من له ذوق سليم وما ذكر من حديث القسم بالشيء على نفسه فقد أشرنا إلى جوابه وقيل أن قوله سبحانه : إنا كنا منذرين جواب آخر للقسموف تعدد المقسم عليه غير عطفو لم نر من تعرض له ومعنى يفرق يفصل ويلخص والحكيم بمعنى المحكم لأنه لا يبد لو لا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه مايشاء ويثبت
وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمرعليها حقيقة ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه فتجوز في النسبة وقيل : إن حكيم للنسبة كتأمرو لابن وقد أبه مسبحا الأمر
وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك : يكتب من أم الكتاب في ليلةالقدر ما يكون في السنة منرزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال : كنت عند الحسن فقال له رجل : يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي قال : إي والله إنه الفيكل رمضان وإنها لليلة يفرق في كل أمر حكيم فيها يقضيا لله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها وروي هذاالتعميم عن غير واحد من السلف
وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة القدر ريجاء بالديوان الأعظم السنةإلى السنة فيغفر الله تعالى لمن يشاءألا ترى أنه عز و جل قال رحمة من ربك وفيه بحث وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال : إن الليلة المباركة هي ليلة البراءة أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أه قال في الآية : في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من ألأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد وفي كثير من الأخبار الأقتصار على قطع ألآجال أخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الأيمان عن الزهري عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخفش قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى وأخرج الدين وريفي المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في ليلة النصف من شعب ان يوحي الله تعالى إلى ملك الموت بقبض كل نفسير يد قبضها في تلك السنة ونحوه كثير وقيل : يبد أن في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلةالقدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل عليه السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة ألأعمال إلى إسماعيل عليه السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقتضي الأقضي كله اليلة النصفة من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين منش واعترض بما ذكر على الأستدلال بالظواهر على أن الليلة المذكورة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا يخدش الظواهر نعم حكى عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر وسيأتي إن شاء الله عز و جل الكلام في هذاالمقام مستوفي على أتم وجه في تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق
وقرأ الحسن والأعرج يفرق بفتح الباء وضم الراء كل بالنصب أي يفرق الله تعالى وقرأ
(25/113)
زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري عنه نفرق بالنون كل بالنصب وفيما ذكر أبو على الأهواز يعنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب كل ورفع حكيم على أنه الفاعل بيفرق وقرأ الحسنو زائدة عن الأعمش يفرق بالتشديد وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين كالحريري إن الفرق مختصب المعاني والتف بالأجسام
أمرا من عندنا نصب على الأختصاص وتنكي والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق ليسب شيء والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي بهذا الأمر أمرا فخيما حاصلا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان فخامته ومدحه وجوز كونه حالا منضمير أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من أمر نفسه وصح مجيء الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرةالمضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف وقول السمين : إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غيرالمواضع المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزاء في جواز الأستغناء عنه بأن يقال : يفرقأمر حكيم على إرادة عموم النكرة في الإثبات كما في قوله تعالى : علمت نفس ما أحصرت وقيل : حال من كل وأيا ماكان فهو مغاير ل الحال لوصفه بقوله تعالى : من عندنا فيصح وقوعه حالا من غير لغوية فيه
وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن السليم وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمرالذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرا من عندنا والجملة بيان لقوله سبحانه : يفرق الخ وقيل ذ : إما أن يكون نصبا على المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجاب هو كذلك أمره عز و جل به كأنه قيل : يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر وأما أن يكون على الحالية من فاعل أنزلنا أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل وفيجعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا تجوز فيه فخامة وتعقب ذلك في الكشف فقال : فيه ضعف للفصل بالجملتين وصاحبها على الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة على الأول
ووجهه أن تخصب القرآن ولا يجعل قوله تعالى : فيها يفرق علة للأنزال في الليلة بل هو تفصيل في قوله سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة مباركة على معنى فيها أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا
وقال الخفاجي في أمر الفصل : إنه لا يضرك ذلك الفاصل على الأعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي
وجوز بعضهم على تقدير أن يراد بالأمر ضد النهي كونه مفعولا له والعامل فيه يفرق أو أنزلنا أو منذرين
وقرأ زيد بن علي رضي عنهما أمر بالرفع وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الأختصاص لأن الرفع عليه فيها وقوله تعالى : إنا كنا مرسلين
5
- رحمة من ربك تعليل ليفرق أو لقوله تعالى : أمرا من عندنا ورحمة مفعول به لمرسلين وتنويها للتفخيم والجار المجرور في موضع الصفة لها وأيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله سبحانه : مايفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ومايمسك فلا مرسل له من بعده والمعنى على ما في الكشاف يفصل في هذه الليلة كل أمر لأن من عادتنا أننرسل رحمتنا وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي أن المقصود الأعلى الأصلي بالذات من ذلك الرحمة
(25/114)
أوتصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه : أمر امن عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية
وفي الكشاف أن قوله : يفصل الخ أو تصدر الأوامر الخ تبيين لمعنى التعليل على التفسير في يفرق لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو بمعنى يؤمر والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله : أو تصدرالاوامر من عندنا لالوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرا فإن تعلقه بأمرا إنما يصح إذ انصب على الأختصاص وإذ ذاك ليس الأمرما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر وإنما يعلل فعله حال مؤكدة فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه بأمرا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له أيضا انتهى
والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل واعتبار العادة في بيان المعنى جاء من كنا فإنه يقال : كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولأفادة ذلك عدل عن إنا مرسلون إلا خضر وقوله سبحانه : من ربك وضع فيه الظاهر موضع الضمير والأصل منا فجيء بلفظ الرب مضافا إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه تخصيص الخطاب به صلى الله تعالى عليه وسلم تشريفا له عليه الصلاة و السلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة
وقال الطيبي : خص الخطاب برسوله عليه الصلاة و السلام والمراد العموم والأصل من ربكم وجيء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتني عليه التعليل الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى : إن كنتم موقنين وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى أن صحة التعليل تأبى ذلك
وجوز أن يكون قوله تعالى : إنا كنا مرسلين بدلا من قوله سبحانه : إنا كنا منذرين الواقع تعليلا لأنزال الكتاب بدل كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار ويكون رحمة حينئذ مفعولا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولا له ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعل ينال أنذار ويطابقه فاعل ينال إرسال لم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل بل أوجب كونها مفعولا به ليصح إذ لو قيل : فيها تفصيل كل شأن حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه جملة مستأنفة أي هي رحمة تعليلا للأرسال فيلائم القول بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى إنا كنا مرسلين إنا كنا فاعلين الإرسال وقال بعض أجلة المحققين : أن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل ليكون الكلام على نسقفي التعليل غب التعليل ولما ذكر في الحالة المقتضية للأبدال ولوقوع الفصل وأشار على ما قيل بما ذكر في الحالة المقتضة للأبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه في حكم السقوطه هنا ليس كذلك وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد وقوله : لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل
(25/115)
منه بأنه الفاصلغي أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر وجوز كون رحمة مصدر الرحمتنا مقدر وكونها حالا من ضمير مرسلين وكونها بدلا من أمرا فلا تغفل إنه هو السميع لكل مسموع في سمع أقوال العباد العليم
6
- لكل معلوم فيعلم أحوالهم وتوسيط الضمير مع تعريف الطرفين لإفادةا والجملة تحقيق لربوبيته عز و جل وإنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته وفي تخصيص السميع العليم على ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا الرحمة بأنواع الشكر رب السماوات والأرض وما بينهما بدلمن ربك أو بيان أو نعت
وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله إن كنتم موقنين
7
- أي إن كنتم ممن عنده شيء من الأيقان وطرف من العلوم اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى ما يتعلق به وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الأيقان علمتم كونه سبحانه رب السماوات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات دليلا وحينئذ يلزم كما لقول بما يقتضيه مما ذكر أولا ويجوز أن يكون مفعوله مقدرا أي إن كنتم موقنين في إقرار كم إذا سئلتم عمن خلق السماوات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن والجواب أيضا محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما تقدم لظهور اقتضائه إياه وجعل غير واحد الجواب على الوجهين تحقق عندكم ما قلناه ولم يجوز جعله مضمون رب السماوات الخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أملم يوقنوا فلا معنى لجعله دالا عليه وكذا جعله مضمون ما بعد من هذا مما لا يحسن باعتبار العلم أيضا
وفي هذا الشرك تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم وهو مراد من قال : إنه من باب تنزيل العالم منزلةالجاهل لعدم جريه على موجب العلم قيل : ولا يصحأن يقال : إنهم نزلوا منزلة الشاكين لم كان قوله سبحانه بعد : بل هم في شك ولا أدري بأسا في أن يقال : إنهم نزلوا أولا كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وأن أقروا بأنه عز و جل رب السماوات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته وإشراكهم به تعالى شأنه
وجوز أن يكون موقنين مجازا عن مردين اليقان والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مردين الأيقان فاعلموا ذلك وفيه بعد وأما جعل إن نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا يخفى لا إله إلا هو جملة مستأنفة مقررة لما قبلها وقيل : خبر لمبتدأ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو وجملة المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك وقيل : خبر آخر لإن على قراءة رب السماوات بالرفع وجعله خبرا وقيل : خبر له على تلك القراءة وما بينهما اعتراض يحي ويميت مستأنفة كما قبلها وكذا قوله تعالى ربكم ورب آبائكم الأولين
8
- بإضمار مبتدأ أو بدل من رب السماوات على تلك القراءة أو بيان أو نعت له وقيل : فاعل ليميت وفي يحيي ضمير راجع إليه والكلام باب التنازع أو إلى رب السماوات وقيل : يحيي ويميت خبر آخر لرب السماوات وكذا ربكم وقيل : هما خبران لإن وقرأ ابن أبي إسحاق واين محيصن والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى وعيسى بن سليمان وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلا من ربالسماوات على قراءة الجر وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي بالنصب على المدح
بل هم في شك إضراب إبطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه وتنوين شك للتعظيم أي
(25/116)
في شك عظيم يلعبون
9
- لا يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عنجدر وإذعان بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبرلهم
وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة والألتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم والفاء في قوله تعالى : فارتقب لترتيب الأرتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما يوجب ذلك حتى أي فانتظر لهم يوم تأتي السماء بدخان مبين
10
- أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جداير بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانا ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به وقال القتبي : يسمى دخان اليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان وقال بعض العرب : نسمي الشر الغالب دخانا ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه وأريد به هناالجدب ومعناه الحقيقي معروف وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخن اننحو غراب وأغربة وغربان وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا : دواخن كأنه جمع داخنة تقديرا وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف لهوالمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله ذلك اليوم وبالسماء جهةالعلو وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطاره اولم يسند إليه عز و جل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقها لمتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى أنعمت عليهم غير المغوب عليهم وتفسير الدخان بما فسرناه به مروي عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج
وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرج أحمد والبخاري وجماعة عن مسروق قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني تركت رجلا في المسجد يقول هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان الخ : يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئةالزكام فغضب وكان متكئا فجلس ثم قال : من علم منكم علما فل يقل به ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم فأن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم وسأحدثكم عن الدخان إن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبطوا عن الأسلام قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف قحطو جهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئةالدخان من الجوع فأنزل الله تعالى فارتقب إلى أليم فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقيل : يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة و السلام فسقوا فأنزل الله تعالى إنا كاشفواالعذاب قليلا إنكم عائدون الخبر وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال : لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس إدبار قال : اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذته مسنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(25/117)
فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا النا : اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقىالناس حولهم قال : فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث وظاهره يدلكما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة فالآية مك وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين وقد تقدمما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين
وأخرج ابن أبي حاتممن طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان : كان في يوم فتح مكة في البحر عنه أنه قال يوم تأتي السماء وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال : كان يوم فتح مكة دخان وهو قول الله تعالى فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما وقال علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وزيد بن علي والحسن : أنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزك فيه ليس فيه خصاص
وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعأ أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبي نتسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين وقال : يملأ مابين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأما الكافر فيكون بمنزلة السكر انيخرج منخريه وأذنيه ودبره فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان
وحكى السفاريني في الب الزاخرة عن ابن مسعود أنه كان يقول : هما دخان ان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشقم سامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس ولا أظن صحة هذه الرواية عنه
وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله وقيل : المراد بيوم تأتي السماءالخيوم القيا أن يراد به الشدة والشر مجازا وأن يراد به حقيقته
وقال الخفاجي : الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى : تأتي السماء إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماءلأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها وأنت تعلم أنه لا مانع من القولب أن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهةالعل وسلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثل ابل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه : ثم استوى إلى السماء وهي دخان ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانا
هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أو لالأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينتفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقبب قوله تعالى شأنه فارتقب يوم الخ للدلالة على أنهم
(25/118)
أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران يغشى الناس أي يحيط أنهم والمراد بهم كفار قريش ومن جعل الدخان ما هو من أشراط الساعة حمل الناس على من أدركه ذلك الوقت ومن جعل ذلك يوم القيامة حمل الناس على العموم والجملة صفة أخرى للدخان
وقوله تعالى هذا عذاب أليم
11
- ربينا كشف عنا العذاب إنا مؤمنون
12
- في موضع نصب بقول مقدر وقع حالا أيقائلين أو يقولون هذا الخ والإشارة للتفخيم وقيل : يجوز أن يكون هذا عذاب أليم إخبارا منه عز و جل تهويلا للأمر كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذبيح إن هذالهو البلاء المبين فهو استئناف أو اعتراض والأشارة بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه وما تقدم أولى وقوله سبحانه : ربنا إلى آخره كما صرح به غير واحد من المفسرين وعد منهم بالأيمان إن كشف جل وعلا عنهم العذاب فكأنهم قالوا : ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل إظهار المزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروايات أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وناشده الرحم وواعده أن دعاهم وزال ما بهم آمنوا والمراد بقوله سبحانه وتعالى
أنى لهم الذكرى نفي صدقهم في الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الأيمان عند كشف العذاب عنهم
وقد جاءهم رسولمبين
13
- أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الأتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات التي تخز لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك ثم تولوا عنه أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة و السلام وهو هو والجملة عطف على قوله تعالى : و قد جاءهم إلى آخره وعطفها على قوله سبحانه : ربنا الخ لأنه على معنى قالوا : ربنا الخ ليس بذاك وثم للأستبعاد والتراخي الرتبي والأفهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب الأقبال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا مع ذلك في حقه عليه الصلاة و السلام
معلم مجنون
14
- أي قالوا تارة : يعلمه عداس غلام رومي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقولون بعضهم كذا وآخرون كذا ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد قبائحهم وقرأ رزين بن حبيش معلم بكسر اللام فمجنون صفة وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه ص -
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون
15
- جواب من جهته تعالى عن قولهم وأخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن كشفنا عنكم العذاب كشفا قليلا أو زمانا قليلا عدتهم والمراد على ما قيل عائدون إلى الكفر وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الأيمان فإما أن يكون وعدهم منزلا منزلة أيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات على الكفر أو على الأقرار والتصريح به وقال قتادة : هذا توعد بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدا ومن قال : إن الدخان يوم القيامة قال إن قوله سبحانه : إنا كاشفوا إلى آخره وعد بالكشف على نحو قوله عز و جل : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ومن قال المراد به ما هو من إشراط الساعة قالب إمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الإشراط بل جاء في
(25/119)
بعض الآثار أنه يمكث أربعين يوما وليلة فيكشف عنهم فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الأستقامة لا قيل فيه ولا قال وقوله سبحانه : وقد جاءهم الخ قوي الملائمة له وهو بعيد الملاءمة للقول المروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعلا لأسناد من باب إسناد حال البعض إلى الكل أو حملالناس على الكفار الموجودين في ذلك الوقت والأمر على القول بانه ما كان في فتحمكة أهون إلا انه مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل يوم نبطش البطشة الكبرى هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب ومجاهد والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وقتادة وعطية وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة قال : قال ابن عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول : هي يوم القيامة ونقل في البحر حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن وقتادة أيضا
والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى : إنا منتقمون
16
- أي إنا ننتقم يوم إذ إنا منتقمون وقيل لمنتقمون ورده الزجاج وغيره بأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها وقيل لعائدون على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش
وقيل بكاشفواالعذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرا وقيل بدل من يوم تأتي الخ
وقريء نبطش بضم الطاء وقرأ الحسن وأبو رجاء وطلحة بخلاف عنه نبطش بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة عليهم السلام على أن يبطشون بهم أو نمكنهم من ذلك فالمفعول بهمحذوف للعلم وزيادة التهويل وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقا على طريقة أنبتك منباتا وقال ابن جني وأبو حيان : هي منصوبة بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشةالكبرى وقال ابن جني : ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأبه نه قيل : نقوي البطشةالكبرى عليه ونمكنها منهم كقولك : يوم نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم وفي القاموس بطش به يبطش ويبطش أخذه بالعنف والسطوة كأبطشه والبطش الأخذ الشديد في كل شيء والبأس أه فلا تفعل ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون أي امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم على أنه من فتن الفضة عرضها على النار فيكون بمعنى الأمتحان وهو استعارة والمراد ملناهم معاملة الممتحن ليظهر حالهم لغير أو أوقعناهم في الفتنة على أنه بمعناه المعروف والمراد بالفتنة حينما يفتن بهالشخص أييغتر ويغفل عما فيه صلاحه كمافي قوله تعالى : إنما أموالكم وأولاد كمفتنة وفسرت هنا بالإمهال وتوسيع الرزق
وفسر بعضهم الفتنة بالعذاب ثم تجوز به عن المعاصي التي هي سبب وهو تكلف ما لا داعي له
وقريء فتنا بتشديد التاء إما لتأكيد معناه المصدري أو لتكثير المفعول أو الفعل
وجاءهم رسول كريم
17
- أي مكرم معظم عند الله عز و جلأو عند المؤمنين أو عنده تعالى وعندهم أو كريم في نفسه متصف بالخص الا لحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا وقال الراغب : الكرم إذاوصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه ونقل عن بعض العلماء أن الكرم كالحرية إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة
وقال الخفاجي أصل معنى الكريم جامع المحامد والمنافع وادعى لذلك أن تفسيره به أحسن من تفسيره بالتفسيرين السابقين
(25/120)
أن أدوا إلى عباد الله أطلقوهم وسلموهم إلى والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون مستعبدهم والتعبير عنهم بعباد الله تعالى للأشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه والإداء مجاز عما ذكر وهذا كقوله عليه السلام فأرسل معنى بنا إسرائيل ولا تعذيبهم وروي ذلك عن ابن زيد ومجاهد وقتادة أو أدوا إلى حق الله تعالى من الأيمان وقبول الدعوة يا عباد الله على أن مفعول أدوا أدوا محذوف وعباد منادى وهو عام لبني إسرائيل والقبط والإداء بمعنى الفعل للطاعة وقبول الدعوى وروي هذا عن ابن عباس وأن عليهما قيل مصدرية قبلها حرف جر مقدر متعلق بجاءهم أي بأن أدوا وتعقب بأنه لا معنى لقولك : جاءهم بالدية إلى وحمله على طلب التادية إلى لا يخلو عن تعسف ورد بأنه بتقدير القول وهو شائع مطرد فتقديره بأن قال أدوا إلي ولا يخلو عن تكلف ما ومع هذا الأمر مبني على جواز وصل المصدرية بالأمر والنهي وهو غير متفق عليه نعم الأصح الجواز
وقيل : هي مخففة من الثقيلة وتعقب حينئذ يقدر معها ضمير الشأن ومفسره لا يكون إلا جملة خبرية وأيضا لا بد أن يقع بعدها النفي أو قد أو السين أو لو يتقدمها فعل قلبي ونحوه وأجيب بأن مجيء الرسول يتضمن معنى فعل التحقيق كالأعلام والفصل المذكور غير متفق عليه فقد ذهب المبرد تبعا للبغاددة إلى عدم اشتراطه والقول بأنه شاذ يصان القرآن عن مثله غير مسلم واشتراط كون مفسر ضمير الشأن جملة خبرية فيه خلاف على ما يفهم من كلام بعضهم ولم يذكر في المغنى في الباب الرابع في الكلام على ضمير الشأن إلا اشتراط كون مفسره جملة ولم يشترط فيها الخبرية ولم يتعرض لخلاف نعم قال في الباب الخامس : النوع الثامن اشتراطهم في بعض الجملة الخبرية وفي بعضها الإنشائية وعد من الأول خبران وضمير الشأن لكنه قال بعد : وينبغي من ذلك في خبري أن وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا خففت فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى والخامسة أن غضب الله عليها في قراءة من قرأ أن وغضب بالفعل والأسم الجليل فاعل
وحقق بعض الأجلة أن الأخبار عن ضمير الشأن بجملة إنشائية جائز عند الزمخشري أو هي مفسرة وقد تقدم ما يدل على القول دون حروفه لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة وكأن التفسير المقدر أي جاءهم بالدعوة وهي أن إلى عباد الله إني لكم رسول أمين
18
- وأن لا تعلوا على الله ولا تستكبروا عليه سبحانه بالأستهانة بوحيه جل شأنه ورسوله عليه السلام وأن كالتي قبلها والمعنى على المصدرية بكفكم عن العلو على الله تعالى أني آتيكم بسلطان مبين
19
- تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو موضحة صدق دعواي وآتيكم على صيغة الفاعل أو المضارع ولا يخفى حسن ذكر الأمين مع الأداء والسلطان مع العلاء وذكر أن في الأول ترشيحا للأستعارة المصرحة أو المكنية بجعلهم كأنهم مال للغير في يده أمره بدفعه لمن يؤتمن عليه وفي الثانية تورية عن معنى الملك مرشحة بقوله ولا تعلوا وقرأت فرقة أني بفتح الهمزة فقيل هو أيضا على تعليل النهي بتقدير اللام وقيل : هو متعلق بما دخله النهي نظير قولك لمن غضب من قول الحق له لا تغضب لأن قيل لك الحق وإني عذت بربي وربكم أي التجأت إليه تعالى وتوكلت عليه جل شأنه أن ترجمون
20
- من أن ترجموني أن تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني وروي هذا عن قتادة وجماعة قيل لما قال : أن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل فقال ذلك وفي البحر أن هذا كان قبل أن يخبره عز و جل بعجزهم عن رجمه بقوله
(25/121)
سبحانه : فلا يصلون إليكما والجملة عطف على الجملة المستأنفة وقرأ أبو عمرو والأخوان عت بإدغام الذال في التاء وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون
21
- فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضون لي بسوء فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم وقيل : المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني ففي الكلام حذف الجواب وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام والأعتزال عليه عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان فدعا ربه بعد أن أصروا على تكذيبه عليه السلام أن هؤلاء قوم مجرمون
22
- أي بأن هؤلاء الخ بتقدير الباء صلة الدعاء كما يقال دعا بهذا الدعاء وفيه اختصار كأنه قيل : أن هؤلاء مجرمون تناهي أمرهم في الكفر وأنت أعلم بهم فافعل بهم ما يستحقونه قيل كان دعاؤه عليه السلام اللهم عجل لهم ما يستحقون بإجرامهم وقيل : قوله ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين إلى قوله فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وإنما ذكر الله سبحانه السبب الذي استوجبوا به الهلاك ليعلم منه دعاؤه والإجابة معا وإن دعاءه على يأس من أيمانهم وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والحسن في رواية وزيد بن علي بكسر همزة أن وخرج على إضمار القول أي قائلا أن هؤلاء الخ فأسر بعبادي وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط ليلا بقطع من الليل والكلام بإضماء القول أما بعد الفاء أي فقال أسر الخ فالفاء للتعقيب والترتيب والقول معطوف على ما قبله أو قبلها كأنه قيل قال : أو فقال أن كان الأمر كما تقول : فأسر الخ فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وهو جوابه مقول القول المقدر مع الفاء أو بدونها على أنه استئناف والأضمار الأول أولى لقلة التقدير مع أن تقدير أن لا يناسب إذ لا شك فيه تحقيقا ولا تنزيلا وجعلها بمعنى إذا تكلف على تكلف وأبو حيان لا يجيز حذف الشرط وإبقاء جوابه في مثل هذا الموضع وقد شنع على الزمخشري في تجويزه وقرأ نافع وابن كثير فأسر بوصل الهمزة من سرى
أنكم متبعون
23
- يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم فالجملة مستأنفة لتعليل الأمر بالسري ليلا ليتأخر العلم به فلا يدركون والتأكيد لتقدم ما يلوح بالخبر واترك البحر رهوا أي ساكنا كما قال ابن عباس يقال رها البحر يرهو رهوا سكن ويقال : جاءت الخيل رهوا أي ساكنة قال الشاعر : والخيل تمزع رهوا في أعنتها كالطير ينجو الشؤبوب ذي البرد ويقال أفعل ذلك رهوا أي ساكنا على هينة وأنشد غير واحد للقطامي في نعت الركاب : يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الإعجاز تتكل والظاهر أنه مصدر في الأصل يؤول باسم الفاعل وجوز أن يكون بمعنى الساكن حقيقة وعن مجاهد رهوا أي منفرجا مفتوحا قال أبو عبيدة رها الرجل يرهو رهوا فتح بين رجليه وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا أي ذا سنامين فقال : سبحان الله تعالى رهو بين سنامين قالوا : أراد فرجة واسعة والظاهر أيضا أنه مصدر مؤول أو فيه مضاف مقدرأي ذا فرجة قال قتادة : أراد موسى عليه السلام بعد أن جاوزالبحر هو ومنمعه أن يضربه بعصاه حتى ياتئم كما ضربه أولا فانفلق لئلا يتبعه فرعون وجنوده فأمر بأن يتركه رهوا أي مفتوحا منفرجا أو ساكنا على هيئته قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ولا
(25/122)
يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم وذلك قوله تعالى : إنهم جند مغرقون
24
- فهو تعليل للأمر بتركه رهوا وقيل : رهوا سهلا وقيل : يابسا وقيل : جددا وقيل : غير ذلك والكل بيان لحاصل المعنى وزعم الراغب أن الصحيح أن الرهو السعة من الطريق ثم قال : ومنه الرهاء المفازة المستوية ويقال لكل جوبة مستوية يجتمع فيها الماء رهوا ومنه قيل : لا شفعة في رهو والحق أن ما ذكره من جملة إطلاقاته وأما أنه الصحيح فلا وقريء أنهم بالفتح أي لأنهم كم تركوا أي كثيرا تركوا بمصر من جنات وعيون
25
- وزروع ومقام كريم
26
- حسن شريف في بابه وأريد بذلككما رويعن قتادة المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر أنه أريد به المنابر وروي ذلك عن مجاهد وابن جبير أيضا وقيل : السرر في الحجال والأول أولى وقرأ ابن هرمز وقتادة وابن السمقيع ونافع في رواية خاجة مقام بضم الميم ونعمة أي تنعم قال الراغب : النعمة بالفتح التنعم وبناؤها بناء المرء من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة بالكسر الحالة الحسنة وبناؤها بناء التي عليها الأنسان كالجلسة والركبة وتقال للجنس الصادق بالقليل والكثير واختير ههنا تفسير النعمة بالشيء المنعم به لأنه أنسب للترك وهي كثيرا ما تكون بهذا المعنى
وقرأ أبو رجاء ونعمة بالنصب وخرج بالعطف على كم وقيل : هي معطوفة على محل ما قبلها كأنه قيل : كم تركوا جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعمة كانوا فيها فاكهين
27
- طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ففاكه كلابن وتامر وقال القشيري : لاهين وقرأ الحسن وأبو رجاء فاكهين بغير ألف والفاكه يستعمل كثيرافي المستخف المستهزيء فالمعنى مستخفين بشكر النعمة التي كانوا فيها
وقال الجوهري : فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان مزاحا والفكه أيضا الأشر كذلك قال الزجاج : المعنى الأمر كذلك والمراد التأكيد والتقرير فيوقف على ذلك فالكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أو الجار والمجرور كذلك وقيل : الكاف في موضع نصب أي نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه وقول الكلبي : أي كذلك أفعل بمن عصاني ظاهر فيما ذكر وقال الزمخشري : الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الأخراج أي المفهوم مما تقدم أخرجناهم منها وأورثناها قوما آخرين
28
- عطف على تركوا والجملة معترضة فيما عدا القول الأخير وعلى أخرجناهم فيه وقيل : الكاف منصوبة على معنى تركوا تركا مثل ذلك فالعطف على تركوا بدون اعتراض وهو كما ترى والمراد بالقوم الآخرين بنوا إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا ويفسر ذلك قوله تعالى الشعراء : كذلك وأورثناها بني إسرائيل وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملوكها وبه قال الحسن : وقيل : المراد بهم غير بني إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك القبط وإليه ذهب قتادة قال : لم يرد في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر ولا أنهم ملكوها قط وأول ما في سورة الشعراء بأنه من باب ومايعمر من معمر ولا ينقص من عمره وقولك : عندي درهم ونصفه فليس المراد خصوص ما تركوه
(25/123)
بل نوعه وما يشبهه والأيراث الإعطاء وقيل : المراد من إيراثها إياهم تمكينهم من التصرف فيها ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر كما كانوا فيها أولا وأخذ جمع بقول الحسن وقالوا لا اعتبار بالتواريخ وكذا الكتب التي بيد اليهود اليوم لما أن الكذب فيها كثير وحسبنا كتاب الله تعالى وهو سبحانه أصدق القائلين وكتابه جل وعلا مأمور من تحريف المحرفين فما بكت عليهم السماء والأرض مجازعن عدم الأكتراث بهلاكهم والأعتداد بوجودهم وهواستعارة تمثيلية تخييلية شبه حالموتهم لشدت هو عظمته بحال من تبكى عليه السماء والأجرام العظام وأثبت له ذلك والنفي للأثباتفي التجوز كما حقق في موضعه وقيل : هي استعارة مكنية تخييلية بأنشبه السماء والأرض بالأنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن حالهما في عدم تغير حالهما وبقائها على ما كانا عليه بحالمن لم يبك وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك قال يزيد بنمفرغ : الريح يبكي شجوه والبرق يلمع في غمامه وقال النابغة : بكى حارث الجولان من فقد ربه وحوران منه خاشع متضائل أراد بهما مكانين معروفين وقال جرير : لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز : الشمس طالعة ليست بكل سفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا تعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته قالجار الله : كان رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار فتبكيه الشمسوالشمس غالبة في البكاء لأن العدل أفضل من صلاة الليل والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفا لها مجازا وفيه أن الكسف بالمعنى المذكورة غير واضح وتخلل تبكي غير مستفضح وفي حواشي الصحاح الشمس كاسفة ليست بطالعة
وفيها أن نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه منباب آتيك الشمس والقمر أي وقتهما كأنه قيل : تبكي ما يطلع النجوم والقمر وفيه أن مثل هذا الظرف مسموع لا يثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى الواضح وقيل : التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف وفيه أنه مما لا يكاد يفهم والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه
وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس قال قال : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من عبد إلا وله في السماء باب ان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية فما بكت عليهم السماء والأرض وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملا صالحا فتفقدهم فتبكي عليهم ولميصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولامن عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم
(25/124)
وأخرج البيهقيفي شعب الأيمان والحاكم وصححه وغي عن ابن عباس قال : إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ الآية وأخرج ابن المنذر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا فما بكت الخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل
ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوي الجماد اتشعورا لائقا بحالها لميحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء حقيقيا لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضا
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافه وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه وأخرج عن سفيان الثوري قال : كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه وقيل : إن الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماءوهم الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين
وروي هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم وما كانوا لما جاء وقت هلاكهم منظرين
29
- ممهلين إلى وقت آخرأو إلى القيامة بل عجل لهم في الدنيا ولقد نجينا بني إسرائيل بما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا من العذاب المهين
30
- من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستحيائه نساءهم علىالخسف والضيم من فرعون بدل من العذاب على حذف المضاف والتقدير من عذاب فرعون أو جعله عليه اللعنة عين العذاب مبالغة وجوز أن يتعلق بمحذوف يقع حالا أيكائنا من جهة فرعون وقيل : متعلق بمحذوف واقع صفة أيكائنا أو الكائن من فرعون ولا بأس بهذا إذا لم يعد ذلك من حذف الموصول مع بعض صلته
وقرأ عبد الله من عذاب المهين على إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء وقرأ ابن عباس من فرعون على الأستفهام لتهويل العذاب أي هل تعرفون من فرعون في عتوه وشيطنته فما ظنكم بعذابه وقيل : لتحقير فرعون بجعله غير معلوم يستفهم عنه النكرة لما فيه في القبائح التي يعهد مثلها وما بعد يناسب ما قبلكما لا يخفى
وأيا ما كان فالظاهر أن الجملة استئناف وقيل : إنها مقول قول مقدر هو صفة للعذاب وقدر المقول عنده إن كان تعريف العذاب للعهد ومقول إنكان للجنس فلا تغفل إنه كان عاليا متكبرا من المسرفين
31
- في النشر والفساد والجار والمجرور إما خبر ثان لكان متكبرامغرقا في الأسراف وإما حال من الضمير المستتر في عاليا أي كان متكبرا في حال إغراقه في الإسراف ولقد اخترناهم أي اصطفينا بني إسرائيل وشرفناهم على علم أي عالمين باستحقاقهم ذلك أو مع علم منا بمايفرط منهم في بعض الأحوال وقيل : عالمين بما يصدر منهم من العدل والأحسان والعلم والأيمان ويرجع هذا إلى ما قيل أولا فإن العدل وما معه من أسباب الأستحقاق وقيل : لأجلعلم فيهم وتعقب أنه ركيك لأن تنكير العلم لا يصادف محزه
وأجيب بأنه للتعظيم ويحسن اعتباره علة للأختيار على العالمين
32
- أي عالمي زمانهم كماقال مجاهد وقتادة فالتعريف للعهد أو الأستغراق العرفي فلا يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه و سلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس
(25/125)
على الأطلاق وجوز أن يكون للأستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية وقيل : المراد اخترناهم للأيحاء على الوجه الذي وقع وخصصناهم به دون العالمين وليس بشيء ومما ذكرنا يعلم أنه ليس في الآية تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد لأن الأول متعلق بمحذوف وقع حالا والثاني متعلق بالفعل كقوله : ويوما على ظهرالكثيب تعذرت علي وآلتحلفة لمتحلل وقيل : لأن كل حرف بمعنى وآتيناهم من الآيات كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم وبعضها وأن أرتيها موسى عليه السلام يصدق عليه أنهم أتوه لأن ما للنبي لأمته ما فيه بلاءمبين
33
- أي نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون وفي فيه إشارة إلى أن هنا كأمور أخرى ككونه معجزة إن هؤلاء كفار قريش لأن الكلام فيهم وذكر قصة فرعون وقومه استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم في الأصرار على الضلالة والأنذار على مثل ما حلبهم وفي اسم الأشارة تحقير لهم ليقولون
34
- إن هي إلا موتتنا الأولى أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتتة الأولى المزيلة للحياة ال ومانحن بمنشرين
35
- أي بمبعوثين بعدها وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك : حج زيد الحجة الأولى ومات
قال الأسنوري في التمهيد : الأول في اللغة ابتداءالشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون كما تقول : هذا أول ما اكتسبه فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتس بكذا ذكره جماعة منهم الواحد يفي تفسير هو الزجاج
ومنفروع المسئلة ما لو قال : إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنتطالق إذا ولدته وإن لمتلد غيره بالأتفاق قال أبو علي : اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أو لا أن يكون بعده آخر وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره أه ومنه يعلم ما في بعضهم : إن الأول يضايف الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلاشبهة والمثال إن صح فإنما هو فيمن نوي تعدد الحج فاخترمته المنية فلحجه ثان باعتبار العز ممن قصور الأطلاع وأنه لا حاجةإلى أن يقال : أنها أولى بالنسبة إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما قال ابن المنير أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص معانيها فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقال : جاءني رجل وامرأة أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة وقيل : أنه قيل لهم أنكم تموت ونموتة تتعقبها حياة كما تقدمت كم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قوله عز و جل وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فقالوا إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلا لا على إنكارهم لا سيما والتعريف في الأولى تعريف عهد وقوله تعالى : الموتة الأولى تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان والمعهود الموتة التي تعقبها الحياة الدنيوية ولذلك استشهد بقوله تعالى : وكنتم أمواتا الخ فليس اعتبار الوصف عدولا عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير وقوله في الأعتراض أيضا : إن الموت السابق على الحياة
(25/126)
الدنيوية لا يعبر عنه بالموتة لأن فيها لمكان بناءالمرة إشعارا بالتجدد والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال صاحب الكشف ثم أنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة في قوله تعالى : لا ذيوقون فيها الموتإلا الموتة الأولى تفسيرها بذلك هنا لأن أيقاع الذوق عليها هنا كقرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة مذوق ومع هذا كله الأنصاف إن حمل الموتة الأولى أيضا على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا
وقيل : إنه موعد وابعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله تعالى عنهم إنهي إلا موتتنا الأولى رد للموتة الثانية وفي قوله سبحانه وما نحن بمنشرين نفي لحياة القبرض منا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية النشر ضرورة فأتوا بآياتنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول صلى الله عليه و سلم والمؤمنين أي لإاتوا لناب من مات من آبائنا إن كنتم صادقين
36
- في وعدكم ليدل ذلك على صدقكم ودلالة الأيقان إما لمجرد الأحياء بعد الموت وإما بأن يسألوا عنه قيل : طلبوا من الرسول عليه الصلاة و السلام أن يدعوا الله تعالى فيحيي لهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة النبوة والبعث إذ كان كبيرهم ومستشارهم في النوازل أهم خير في القوة والمنعة أم قومتبع هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كرب وكان رجلا صالحا أخرج عائشة قالت : كان تبع رجلا صالحا ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما وأخرج أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تسبوا تبعا فأنه كان قد أسلم وأخرجا بن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال : سألت كعبا عن تبع فأني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا فقال : إن تبعا رجلا من أهل اليمن ملكا منصورا فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس أنه هادم الكعبةفقال له الأحبار : ما هذا الذي تحدثبه نفسك فإن هذاالبيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال : إن هذالله تعالى وأنا أحق منحرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرما فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا حتى قدم على قومه فدخل عليه أشرافهم فقالوا : يا تبع أنت سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين وجئت على غيره فاخترمنا أحد أمرين إما أن تخلينا وملكنا وتعبد ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثتو بينهم يومئذ نار تنزل من السماء فقال الأحبار عند ذلك : اجعل بينك وبينهم النار فتواعد القوم جميعا على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء بالأصنام وعمارها وقدموا جميعا إلى النار وقامت الرجال خلفهم بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعا لها فنكص أصحاب الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلم الآخرون قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل بتبع الموت استخل أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقةواحدة وفي رواية عن ابن عباس أن تبعا لما أقبل من الشرق بعد أن حير الحيرة أي بناها ونظم أمرها وهيبكسر الحاء المهملة وياء ساكنة مدينة بقربا لك
(25/127)
وبنى سمر قند وهي مدينة بالعجم معروفة وقيل : إنه هدمه او قصد المدينة وكان قد خلف بها حين سافر ابنا له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليلف أعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام فبينما هوعلى ذلك إذ جاءه كعب وأسد ابنا عم من قريظةحبران وأخبراه أنه يحال بينك وبينما تريد فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد صلى الله عليه و سلم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة و معهم نفر من اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل : ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وذهب وفضةبمكة وأرادته ذيلهلا لأنهم عرفوا أنه ما أراده احد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا : ما نعلم لله عز و جل بيتا في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه مسجداو أنسكعنده وأحلق رأسك وما أرادالقوم إلا هلا ككفأ كرمه وكساه وهو أو من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم وفي رواية أنه قال للحبرين حين قالا ما قالا : وأنتما ما يمنعكما من ذلك فقالا : أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنهلكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماءالتي يريقونها عن نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحروحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكر و ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل وقيل : إنه أراد تخريب البيت فرمى بداء عظيم فكف عنه وكساه
وأخرجا بن عساكر عن ابن إسحاق أن تبعا أرى في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهير هو جعل لهبابا ومفتاحا وفي رواية أنه قال أيضا : ولا تقربوه دما ولا ميتا ولاتقربه حائض وفي نهاية ابن الأثير في الحديث أن تبعا كسى البيت المسوح فانتفضا لبيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه الخصف فلم يقبله ثم كساه الأنطاع وفي موضع آخر منها أن أول من كسى الكعبة كسوة كاملة تبعكساها الأنطاع ثم كساها الوصائل والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء والمراد شيء منسوخ من الخوص على ما هو الظاهر وقيل : أريد به ههنا الثياب الغلاظ جدا تشبيها المذكور والمعافر برود من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها والميم زائدة والوصائل ثياب حمر مخططة يمانية والمسوح جمع مسح بكسرالميم وسكون المهلة أثواب من شعر غليظة والأنطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك بسط من أديم وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبي بن كعب قال : لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود فقال : إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب فقال له : شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم : أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من نبي إسماعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار هجرته إلى أن قال : قال وما صفته قال : رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع : ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون خرابها على يدي وذكر أبو الرياشي أنه آمن بالنبيص قبل أن يبعث بسبعمائة سنة وقيل : بينه وبين مولده عليه الصلاة و السلام ألف سنة والقولان يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه السلام وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البي وآمن بما جاء به عيسى بن مريم وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام والأول أشهر
(25/128)
ومن حديث عباد بن زياد المروي أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرخ نبي بمكة يكون قراره بهذا البلد يعني المدينة اسمه أحمد وأخبره أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج : أقيموا به البلد فإن خرجفيكم فوازر وهو إن لم يخرج فأوصوا بذلك أولادكم وقال في شعره : حدثت أن رسول المليك يخرج حقا بأرض الحرم ولو مد دهري إلى دهره لكنت وزيرا له وابنعم وفي البحر بدل البيت الأول : شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم وفيه أيضا رواية عن ابن إسحاق وغيره أنه كتب أيضا كتاب او كان فيه أما بعد فإني آمنت بك و بكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الاسلام فإن إدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فأني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد وكتب عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه و سلم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج وامره أن يدفعه للنبي عليه الصلاة و السلام إن أدركه
ويقال : إنه بنى له دارا في المدينة يسكنها إذا أدركه النبي وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبي أيوب خالد بن زيد وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا إليه أولا ولما ظهر النبي عليه الصلاة و السلام دفعوا الكتاب إليه فلما قريء عليه قال : مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات
وجاء أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى صلاة الجنازة وكذا على البراء بن معرور بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة و السلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد فرضت تلك السنة وكون هذا هو تبع الأول ويق الله الأكبر هو المذكور في غير ما كتاب وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدر ونفي شرحه لقصيدة ابن عبدون أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضا ثلثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعا وستين سنة وقال ابن قتيبة حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديسا وكان ملكه خمسا وعشرين سنة والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه فإن تبعا يقال لمن ملك اليمن مطلقا كما يقال لملك الترك خاقان والروم قيصر والفرس كسرى أولا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضر موتكما في القاموس أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضر موتكما ذكره الطيبي والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من أحاط خبر التواريخ وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن أفريقيس ابن أبرهة أحد التبابعة أيضا كان قبل تبعا لمذكور بكثير قال : إن شمر خرج نحو العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند أه
وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن كند في لغة أهل أذربيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء وذكر علامة عصره الملا أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في كتابه شرح ذات الشفاء أن تبعا الذي ذكر سابقا هو ابن حسان وأنه ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة : إنه ابن كليكرب
(25/129)
وفي شرح قصيدة ابن عبدون أن الرائش لقب الحرثبن بدر أحد التابعية وهو قبل أسعد المتقمد ذكره بزمان طويل جدا وهو أيضا ممن ذكر نبينا صلى الله عليه و سلم في شعره فقال : ويملك بعدهم رجل عظيم نبي لا يرخص في الحرام يسمى أحمدا ياليت أني أعمر بعد مخرجه بعام ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم وبالجملةالأخبار مضطربة في أمر التابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب تواريخ الأمم : ليسفي التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون ومدتهم ألفان وعشرو
وقال بعض : إن مدتهم ثلاثةآلاف واثنان وثمانون بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال والقدرالمعول عليه ههنا أن تبعا المذكور هو أسعد أبو كرب وأنه كان مؤمنا بنبينا ص - وكان على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكن نبيا وحكاية نبوته عن ابن عباس رضعنهما لا تصح وأخباره بمبعثه ص - لا يقتضيا لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية
وما روي من أنه عليه الصلاة و السلام قال : ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبيلم يثبت نعم روي أبو داود والحاكم أنه عليه الصلاة و السلامقال : ما أدري أذو القرنين هو أم لا وليس ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين ليس بنبي على الصحيح ثم إن الطظاهر أنه عليه الصلاة و السلام دري بعد أنه ليس ذا القرنين
وقال قوم : ليس ال4مراد بتبعها هنا رجلا واحداإ ملوك اليمن وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه ومعنى تبع متبوع فهو فعل بمعنى مفعول يجيء هذا اللفظ فاعلكما قيل للظل تبع لأنه يتبع الشمس ويقال لملوك اليمن أقيال من يقيل فلان أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدي بهم وقيل : سمي ملكهم قيل النفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت
والذي منقبلهم أي قبل قوم تبع كعاد وثمود أو قبل قريش فهو تعميم بعد تخصيص أهلكناهم استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير المستتر في الصلة أو خبر عن الموصولإن جعل مبتدأ ولم يعطف على ما قبله إنهم كانوا مجرمين
37
- تعليل لأهلاكهم أي أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريشا لإهلاك لأجرامه
وماخلقنا السماوات والأرض وما بينهما أيما بين الجنسين وهو شامل لما بين الطبقات
وقرأ عبيد بن عمير وما بينهمن فالضمير لمجموع السماوات والأرض لاعبين
38
- أي عابثين وهو دليل على وقوع الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها ماخلقناهما أي وما بينهما إلا بالحق استثناءمفرغ من أعم الأحوال أيما خلقناهما ملتبسين بشيء من الأشياء إلا ملتبسين بالحق فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل وجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول والباء للملابسة فيهما وجوز أن
(25/130)
تكون للسببية والأستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الأيمان والطاعة والبعث والجزاء والملابسة أظهر ولكن أكثرهم لا يعلمون
39
- تذييل وتجهيل فخيم لمنكري الحشر توكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولهذا قال المؤمنون : ربنا ما خلقت هذاباطلاسبحانك فقنا عذ إن يوم الفصل أي فصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل بالجزاء أو فصل الشخص عن أحبابه وذوي قرابته ميقاتهم وقت وعدهم أجمعين
40
- وقريء ميقاتهم بالنصب على أنه اسم إن والخبر يوم الفصل أيإن ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل وليس مثل إن حراسنا أسدا يوم لا يغني بدل من يوم الفصل أو عطف بيان عند من لا يشترط المطابقة تعريفا وتنكيرا وجوز نصبه أعني مقدرا وأن يكون ظرفا لما دل عليه الفصل لا له للفصل بينه وبينه بأجنبي وهو مصدرلا يعمل إذا فصل لضعفه أو له على قول من اغتفر الفصل غذا كان المعمول ظرفا كاب الحاب والرضي وجوز أبو البقاء كونه صفة لميقاتهم وتعقب بأنه جامد نكرة لأضافته للجملة فكيف يكون للمعرفة مع أنه لا يصح بناؤه عند البصريين إذا أضيف إلى جملة صدرها معرب وهو المضارع أي يوم لا يجزي مولى عن مولى شيئا من الأغناء أي الأجزاء فشيئا منصوب على المصدرية ويجوز كونه مفعولا به ويغني بمعنى يدفع وينفع وتنكير شيئا للتقليل والمولى الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة على أموره فيدخل في ذلك ابن العم والحليف والعتيق والمعتق وغيرهم وذكرالخفاجي أنه من الولاية وهي التصرف فيشمل كل من يتصرف في آخر لأمر ما كقرابة وصداقة وهو قريب مما ذكرنا وأيا ما كان فليس ذلك من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد ولو سلم أن هناك مشتركا استعمل في أكثر من معنى كانت الآية دليلالابن الهمام عليه الرحمة جواز ذلك في النفي فيقال عنده : مارأيت عينا ويرادالعين الباصرة وعين الذهب وغير من نفي إغناء المولى نفي إغناء غيره من باب أولى
ولاهم ينصرون
41
- الضمير عند جمع للمولىالأول والجمع باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي تعمدون الثاني لأنه أفيد وأبلغ حالا لمولى الثانين معلوم من نفي الأغناء السابق ولأنه إذا لم ينصر من استند إليه فكيف هو وأيضا وجه جمع الضمير فيه أظهر وجوز عوده على الثاني للدلالة على أنه لا ينصره غير مولاه وهو في سياق النفي وإن لم يكن في ذلك بمرتبة الأول نعم قيل في وجه الجمع : عليهما : إن النكرة في سياق النفي تدل على كل فرد فلا يرجع الضمير لها جمعا
وأجيب بأنه لا يطرد لأنها قد تحمل على المجموع بقرينة عود ضمير الجمع عليها ولعل الأولى عود الضمير على المولى المفهوم من النكرةالمنفية وقال بعض : لو جعل الضمير للكفار كضمير ميقاتهم كثرت الفائدة وقلت المؤنة فتأمل إلا أنهم من رحم الله في محل رفع على أنه بدل من ضمير ينصرون أو في محل نصب على الأستثناء منه أي لا يمنعمن العذاب إلا من رحمه الله تعالى وذلك بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه
وجوز كونه بدلاأو استثناء من مولى وفيه كما في الأول دليل على ثبوت الشفاعة لكن الرجحان للاول لفظا ومعنى والأستثناء من أي كان متصل وقال الكسائي : إنه منقطع أي لكن من رحمه الله تعالى
(25/131)
فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ولا إلى ناصر ينصره ولا وجه له مع ظهور الأتصال نعم إنه لا يأتى على كون الأستثناء من الضمير وكونه راجعا للكفار فلا تغفل
إنه هو العزيز الغالب الذي لا ينصر من أراد سبحانه تعذيبه الرحيم
42
- لمن أراد أن يرحمه عز و جل
إن شجرة الزقوم
43
- مر معنى الزقوم في الصافات وقريء شجرة بكسر الشين طعام الأثيم
44
- أي الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه دون ما يعمه والعاصي المكثر من المعاصي ثم إن المراد به جنس الكافر لا واحد بعينه وقال ابن زيد وسعيد بن جبير : إنه هنا أبو جهل وليس بش ولا دليل على ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور عن أبي مالك من أن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزبد فيقول : ترقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت إن شجرةالزقوم طعام لما لا يخفى ومثله ما قيل : إنه الوليد وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن عوف بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا إن شجرةالزقوم طعام الأثيم فقال الرجل طعام اليثيم فرددهاعليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر قال : نعم قال : فافعل وأخرج الحاكم وصححه وجماعة عن أبي الدرداء أنه وقع له مثل ذلك فلما رأى الرجل أنه لا يفهم قال : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر
واستدل بذلك على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذاكانت مؤدية معناها وتعقبه القاضي أبو بكر في الأنتصار بأنه أراد أني نبه على أنه لا يريد اليتيم بل الفاجر فينبغي أن يقرأ الأثيم وأنت تعلم أن هذا التأويل لا يكاد يتأتى فيما روي عن ابن مسعود فإنه كالنص في تجويز الأبدال لذلك الرجل وأبعد منه عن التأويل ما أخرجا بن مردويه عن أبي أنه كان يقريء رجلا فارسي إذا قرأ عليه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم قال : طعام اليتيم فمر به النبي ص - فقال : قل له طعام الظلام فقالها ففصح بها لسانه وفي الباب أخبار كثيرة جياد الأسانيد كخبر أحمد من حديث أبي هريرة أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيم
وكخبره من حديث أبي بكرة كلهأ شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحوق ولك تعالى وأقبل وأسرع وعجل إلى غير ذلك لكن الطحاوي : إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والظب واتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسرالكتابة والحفظ وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون ولعله إن تحقق إبدال من أحد من الصحابة رضى الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة و السلام يقال : إنه كان منه قبل الأطلاع على النسخ ومتى لم يجز إبدال كلمة مكان كلمة مؤدية معناها مع الأتحاد عربية فعدم جواز ذلك مع الأختلاف عربية فارسية مثلا أظهر وماروي عن الأمام أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه من أنه يرى جواز قراءة القران بالفارسية بشرط إداءالمعاني علىكما فقد صح عنه خلافه وقد حقق الشرنبلالي عليه الرحمة هذه المسئلة في رسالة مفردة بما لا مزيد عليه وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك فتذكر والطعام ما يتناول منه من الغذاء وأصله مصدر فلذا خبرا عن المؤنث ولم يطابق وجوز أن يكون ذلك من بابقوله : إنارة العقل مكسوف بطوع هوى وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
(25/132)
فكأنه قيل : إن الزقوم طعام الأثيم كالمهل عكر الزيت كما روي عن ابن عمر رضعنهما وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره عن أبي سعيد مرفوعا وفيه فإذا قرب إلي وجهه يعني الجهنمي سقطت فروة وجهه وربما يؤيد بقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل معقوله سبحانه : فكانت وردة كالدهان وقال بعض : عكر القطران وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصديد ومنه ما فيحديث أبي بكر رضى عنه ادفنوني في ثوبي هذين فإنما هما للمهل والتراب روايةأخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنهما أذيب من ذهب أو فضةأو حديد أو رصاص وروي ذلك عن ابن مسعود قيل : وسمي ذلك مهلا لأنه يمهل في النار حتى يذوب فهو من المهلب معنى السكون و وادعى بعضهم الأشتراط وقد جاء استعماله في كل ما سمعت وقرأ الحسن كالمهل بفتح الميم وهو لغة فيه والجارو المجرور أوالكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان حال الطعام أي هو كالمهل أو مثل المهل وقوله عز و جل : يغلي في البطون
45
- خبر ثان لذلكا وقيل : حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور فيكون وصفا للطعام أيضا وقال أبو عبيد : هوحال من المهل وقيل : صفة له لأن أل فيه للجنس نحو أمرعلى اللئيم يسبني ويعتبر داخلا في التشبيه وأنت تعلم أن غليان الطعام في البطن فيه مبالغة أما التشبيه بمهل يغلي في البطن فلا وقيب كالمهل أو الكاف خبر ثان لإن وجملة يغلي في البطون حال الزقوم أو الطعام أو وتعقب بأنه منع مجيء الحال من المضاف إليه في غير صور مخصوصة ليس هذا منها ومنع مجيئه من الخبر ومن المبتدأ وأجيب بأن هذا بناء على جواز مجيء الحال من الخبر ومن المبتدأ والمضاف في حكمه وأن ما ذكر من الصور التي يجيء الحال فيها من المضاف إليه لأن المضاف كالجزء في جواز إسقاطه ولا يخفى أنه بناء على ضعيف وقيل : كالمهل خبر ثان والجملة حال من ضمير الشجرة المستتر فيه والتذكير باعتبار كونها طعام الأثيم أو لاكتسابها إياه مما أضيفت إليه نظير ما سمعت في البيت آنفا وهو تكلف مستغني عنه وقيل : الجملة على ذلك خبر مبتدأ محذوف ضمير الطعام أو الزقوم فإن كانت الجملة حينئذ مستأنفة فالبحث هين وإن كانت حالية عاد ما مر آنفا ولا أراك تظنه هينا وقيل : كالمهل حال من طعام وحاله معلوم وبالجملة الوجوه في إعراب الآية كثيرة وأنا أختار منها ما ذكرته أولا
وقرأ عمروبن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وطلحة والحسن في رواية وأكثرالسبعة تغلي بالتاء الفوقية فكالمهل خبر ثان لإن و دملة تغلي خبر ثالث واتحاد المبتدأ والخبر متكفل باتحاد القراء تين معنى فافهم ولا تغفل
كغلي الحميم
46
- صفة مصدر محذوف أي غليا كغلي الحميم وجوز أن يكون حالا والحميم ما هو في غاية الحرارة خذوه على إرادةالقول والمقول له الزبانية أي ويقال لهم خذوه فاعتلوه فجروه بقهر
قال الراغب : العتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر وبعضهم يعبر بالثوب بدلا لشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الأمساك بعنف وقال اتل أعمش ومجاهد : معنى اعتلوه اقصفوه كما يقصف الحطب والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه والمعنى الأول هو المشهور وقرأ زيد بن علي والحجازيان وابن عامر ويعقوب فاعتلوه
(25/133)
بضم التاء وروي ذلك عن الحسن وقتادة والأعرج على أنه من باب قعد وعلى قراءةالجمهور من باب نصر وهما لغتان إلى سواء الجحيم
47
- أيوسطه وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه بالنسبةإليه
ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم
48
- كأن أصله صبوا فوق رأسه الحميم ثم قيل : صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين الحميم وهو مترتب عليه ولجعله مصيوباك المحسوس ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف وزيد من للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية ذقان كانت العزيز الكريم
49
- أي ويقال : أو قولوا له ذلك استهزاء وتقريعا على ما كان يزعمه
أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال : لمانزلت خذوه فاعتلوه إلى سواءالجحيم قال أبو جهل : ما بين جبليها رجلأ عز ولا أكرم مني فقال الله تعالى : ذق الخ
وأخرجا لأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي ص - : ما تستطيع لي أنت ولاصاحبك من شيءلقد علمت أنني أمنع أهل بطحاء وأنا الكريم فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ذق إنك أنت العزيز الكريم وروي أن اللعين قال يوما : يا معشر قريش أخبروني ما اسمي فذكرت له ثلاثةأسماء عمر والجلاس وأبو الحكم فقال : ما أصبتم اسمي ألا أخبركم به قالوا : بلى قال : اسمي العزيز الكريم فنزلت إن شجرة الزقوم الآيات وهذا ونحوه لا يد لأيضاع لى تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعى دعواه كذلك يوم القيامة وقيل : المعنى ذق إنك العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئا والذوق مستعار للإدراك
وقرأالحسنبن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على المنبرو الكسائي أنك بفتح الهمزة على معنى لأنك
أن هذا أي العذاب أو الأمرالذي أنتم فيه ما كنتم به تمترون
50
- تشكون وتمارون فيه وهذا ابتداء كلام منه عز و جل أو من مقول القول والجمع باعتبارالمعنى لما سمعت أن المراد جنس الأثيم
إن المتقين في مقام في موضع قيام والمراد بالقيام الثبات والملازم كما في قوله تعالى : ما دمت عليه قائما ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازمل مكانه وهو مراد من قال : في مقام أي موضع إقامة
وقرأعبد الله بن عمر رضعنهما وزيد بن علي وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر مقام بضم الميم ومعناه موضع إقامة وعلى ما قررنا ترجع القراء تان إلى موضع واحد
أمين
51
- يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف عما هو من شأنه ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو إسناد مجازي كما في نهر جار وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية وقال ابن عطية : فعيل بمعنى مفعول أي مأمون في هو ليس بذاك وجوز أن يكون للنسبة أي ذي أمن في جنات وعيون
52
- بدلمن مقام بإعادةالجار أوالجار والمجرور بدل منا والمجرو وظرفية العيون للمجاورة والظاهر
(25/134)
أنه بدل اشتمال لاكل وبعض و في ذلك دلالة علة نزاهة مكانهم واشتماله على ما يستلذ من المآكل والمشارب
يلبسون من سندس واستبرق خبر ثان أو حال من الضمير في الجار والمجرور أو استئناف والسندس فالثعلب : الرقيق من الديباج والواحدة سندسة والأستبرق غليظه وقال الليث : هو ضرب من البزيونيت خذ من المعز ولم يختلف أهل اللغة في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم
وفي الكشاف الأستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر قال الخفاجي : ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقا ثم خص بغليظ الديباج وعرب وقيل : إنه عربي من البراقة وأيد بقراءته بوصل الهمزة وهو كما ترى
وذكر بعضهم أن السندس أصله سندس ومعناه منسوب إلىالسند المكان المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سينا وقد مرالكلام في ذلك فتذكر ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم لا ينافي كونه عربيا مبينا وقد صاحب الكشف عن جار الله أنه قال : الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي لسان كان تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا ههنا ثم قال صاحب الكشف : يريد أن كون استبر أعجميا لا يلزمه أن يكون استبرق كذلك وقرأابن محيصن واستبرق فعلا ماضيا كما في البحر والجملة حينئذ قيل معترضة وقيل : حال من سندس والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقاته ومزيد حسنه متقابلين
53
- في مجالسهم ليستأنس بعضه مببع كذلك أي الأمر كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف والمراد تقرير ما مر وتحقيقه ونقل عن جار الله أنه قال : والمعنىفيه أنه لميستوف الوصف وأنه بمثا لا يحيط به الوصف فكأنه قيل : الأمر نحو ذلك وما أشبهه
وأراد علىما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في عرفي العرب والعجم وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم مثل ذلك وقوله تعالى : وزوجناهم على هذا عطف على الفعل المقدر وعلى ما قبل على يلبسون والمراد على ما قال غير واحد وقرناهم بحورعين
54
- وفسر بذلك قيل لأن الجنةليس فيها تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنىالمشهور وقيل : لمكان الباء وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه وفيه بحث فإن الأخفش جوز الباء فيه فيقال : زوجته بامرأة فتزوجبها وأزدشنوءة يعدونه بالباء أيضا وفي القاموس زوجته امرأة وتزوجت امرأة وبها أو هي قليلة ويعلم مما ذكر أنقول بعض الفقهاء زوجته بها خطأ لا وجهله ويجوز أن يقال : إن ذلك التفسير لأن الحور العين في الجنة ملكي مين كالسراريف ادلنيا فلا يحتاجا لأمر إلى العقد عليهن على أنه يمكن أن يكون في الجنةعقد وإن لم يكن فيها تكليف
وقد أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال : زوجناهم أنكحناهم ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمروالنهي لكن لا يجدون في الفعلوالترككلفة نعم المشهور أن لا تكليف فيها وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلا والحور جمع حوراء وهي البيضاء كما روي عن ابن عباس والضحاك وغيرهما وقيل : الشديدة سواد العين وبياضها وقيل : الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة كلها كما في الظباء فلا يكون في الأنسان إلا مجازا وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن الحوراءالتي يحار فيها الطرف والعين جمع عيناء وهي عظيمةالعينين وأكثرالأخب تدل على أنهن
(25/135)
لسن نساء الدنيا وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامةقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلق الحورالعين من زعفران وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أنس بن مالك مرفوعا نحوه وأخرج ابن المبارك عن زيد ابن أسلم قال : إن الله تعالىلم يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسلك وكافور وزعفران
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عائشة قالت : قال رسول الله صحور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم السلام وهذاإن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزأ مما خلقن منه وقيل : المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنىالذي سمعت بل هن أجمل من الحورالعين أعني انساء المخلوقات في الجنةمن زعفران أو غيره ويعطي الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات وقد يضم إلى ذلك ما شاءالله تعالى من نساء متن ولم يتزوجن ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو لأولهم إن لم يكن طلقها في ادلنيا أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقا معها أقوال صحح جمع منها لأول وتعطى زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى وقد ورد أن آسيةامرأة فرع تكون زوجة نبينا محمد ص -
وقرأ عكرمة بحور عين بالإضافةوهي علىمعنى من أي بالحور من العين وفي قراءة عبد الله بعيسعين والعيساء البيضاء تعلوها حمر يدعون فيها بكل فاكهة يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان آمنين
55
- من الضرر أي ضرر كان وهو حال من ضمير يدعون وكونه حالا من الضمير في قوله سبحانه : في جنات بعيد وأبعد منه جعل يدعون حينئذ صفةالحور والنون فيه ضميرالنسوة وزنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم المناسبة للسياق
وقوله تعالى : لا يذوقون فيهاالموت إلا الموتة الأولى جملة مستأنفةأو حالية وكأنه أريد أن يقال : لا يذوقون فيهاالموت البتةفوضع الموت الأولىموضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقهافي المستقبل فهو من باب التعليقبال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونهاونظير القائل لمن يستسقيه : لا أسقيك إلاالجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى ومثله قوله عز و جل : ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف فالأستثناء متصل والدخول فرضي للمبالغة وضمير فيها للجنات وقيل : هو متصل والمؤمن عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق الموتة الأولى في الجنة وقيل : متصل وضمير فيها للآخرة والموت أول أحوالها ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز وقيل : الأستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا والأصل اتصالا لأستثناء وقال الطبري : إلا بمعنى بعد والجمهور لم يثبتوا هذاالمعنى لها وقال ابن عطية : ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري
وقال أبو حيان : ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنىبسوى ويتسق وفائدة الوصف تذكير حال ادلنيا
والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد ههنا من أن الموتة الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أني ذوقوه في الجنةفكيف استثنيت وقيل : إن السؤال مبني على الأستثناء من النفي إثبات فيثبت للمستثنى الحكم المنفي عن المستثنى منه ومحال أني ثبت للموتة الأولى الماضية اذل وقفي الجنة وأما على قول من
(25/136)
جعله تكلما بالباقي بعد الثنيا والمعنى لا يذوقون سوى الموتة الأول من الموت فلاذ إشكال فتأمل وقرأ عبيد ابن عمير لا يذاقون مبنيا للمفعول وقرأ عبد الله لا يذوقون فيها طعم الموت وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت أخرج البزاز والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابرابن عبد الله قال : قيل يا رأينا أهل الجنة قال لا النوم أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون
ووقاهم عذاب الجحيم
56
- وقرأ أبو حيوة ووقاهم مشدد القاف على المبالغة في التثكير في الوقايةلأن التفعيل لزياد المعنةلا للتعديةلأن الفعل متعد قبله فضلا من ربك أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه تعالىفهو نصب على المصدرية وجوز فيه أن يكون حالا ومفعولا له وأيا ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم الإثابةعليه سبحانه وتعالى وقريء فضل بالرفع أي ذلك فضل ذلك هوالفوز العظيم
57
- لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره فإنم ايسرناه أي فإن ماسهلنا القرآن بلسانك أيبلغتك وقيل : المعنى أنزلناه على لسان كبلا كتابة لكونك أميا وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيرا لما سلف مشروحا فيها فالمعنىذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون
58
- أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه فارتقب أي وأن لم يتذكرواف ما يحلبهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء الخ إنهم مرتقبون
59
- منتظرون ما يحلبك كما كما قالوا : نتربصبه ريب المنون وقيل : معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكما وقيل هو مشاكلة والمعنى أنه مصائرون للعذاب وفي الآية من الوعد له صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى وقيل : فيها الأمر بالمتركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل
ومن بالإشارة في الآيات ما ذكروه في قوله تعالى ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون إلى آخر القصةمن تطبيق ذلك على ما في الأنفس وهو مما يعلم مما ذكرناه في باب الإشارة من هذاالكتاب غير مرة فلا نطيل به وقالوا في قوله تعالى وماخلقناالسماوات والأرض وما بينهما لاعبين ماخلقناهماإلا بالحق إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عز و جل : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وأفصح بعضهم فقال : الحق هو عز و جل والباء للسببية أي ماخلقناهما إلا بسبب أن تكون مرياالظهور الحق جل وعلا ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد رق الزجاج وراقت الخمر فتشاكلا وتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر والعبارة ضيقة والأمر ما وراء العقلوالسكوت أسلم وقالوا في شجرة الزقوم : هي شجرةالحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أحد أسوأ حال وأخبث طعم وقالوا الموتة الأولى ما كانفي الدنيا بقتل النفس بسيف ال في الجهاد الأكبروهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حتى أبدا الحياةالطيبة التيلا يمازجها شيء منماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوزالعظيم والله تعالى يقولالحق وهو سبحانه يهدي السبيل
(25/137)
سورةالجاثية
وتسمى سورة الشريعة وسورةالدهركما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها وهي مكية قال ابن عطية : بلا خلاف وذك الماوردي إلا قل للذين آمنوا يغفروا الآية فمدنية وحكىهذاالأستثناء في جمال القراء عن قتادة وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في حم هل هي آية مستقلة أولا ومناسبة أوله الآخر ما قبلها في غاية الوضوح
بسم الله الرحمن الرحيم
حم
1
- إن جعل اسما للسورةفحمله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم وقوله تعالى : تنزيل الكتاب خبر بعد خبر أنه مصدر أطلق علىالمفعول مبالغة وقوله سبحانه : من الله العزيزالحكيم
2
- صلته أو خبرثالث أو حال من تنزيل عاملها معنىالإشارة أو من الكتاب الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف وقيل : حم مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضا أو تأويل تنزيل بمنزل والإضافةمن الصفة لموصوفها واعتبار المبالغة أولى أي به تنزيل الخ وتعقب بأن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الأنتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الأخبارية وجوز جار الله جعل حم مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم و تنزيل المذكور خبره و من الله صلته وفيه إقامةالظاهر مقام المضمر إيذانا بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله ولهذا لما لم يزاع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى : كتاب فصلت ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة وإن أريد الكتاب كله فللأشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان تنزيل خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتد أخ4بره الظرف بعده على ما قاله جار الله وقيل : حم مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه و تنزيل نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى : إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين
3
- وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية وجوز أن يكون تنزيل الكتاب من الله مبتدأ وخبر او الجملة جواب القسم وهوخلاف الظاهر وقيل : يقدر حم على كونه مقسما به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون تنزيل نعتا له غيرمقطوع وعلى سائرالأوجه قوله سبحانه : العزيزالحكيم نعت للأسم الجليل
وجوزالإمام كونه صفةللكتاب إلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه وأوجبه أبو حيان لما في الثاني من الفصل بين الصفةوالموصوف الغيرالجائز
وقوله عز و جل : إن في السماوات الخ يجوزأن يكون بتقدير مضاف أيإن في خلق السماوات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا ويناسبه قوله عز و جل :
(25/138)
وفي خلقكم إلى آخره ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون علىأحد وجهين أحدهما إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلىهذا يكون قوله سبحانه وفيخلقكم من عطف الخاص على العام والثاني أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال : إنفي خلقهما لآيات وإن كان المعنى آي لا إليه و في خلقكم خبر مقدم وقوله سبحانه : وما يبث من دابة عطف على خلق وجوز في ما كونها مصدريةوكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه
وجوز عطفه على الضميرالمتصل المجرور بالأضافة وما موصولة لا غير علىالظاهر وهو مبني علىجواز العطف المتصل المجرور من غيرإعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين ويونس والأخفش قال أبوحيان : وهو الصحيح واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين ومذهب سيبويه وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرورا بالحرف أو بالأضافة لشدة الأتصال فأشبه العطف على بعض الكلمة
وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالأضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصاله فيه اشتداده مع الحرف وأجاز الجرمي والزيادي العطف إذا أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بكأنت وزيد ذوقوله تعالى آيات مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة علىجملة إنفي السماوات الخ وقرأ أبي وعبد الله لآيات باللام كذا في البحر ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب فإن كان منصوبا فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردةالكثيرة وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه وحسن زيادتها هنا تقدم أن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله : إن الخلافة بعدهم لذميمة وخلائف ظرف لمما أحقر وقرأ زيد بن علي آية بالأفراد وقرأالأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب آيات بالجمع والنصب على أنها عطف على آيات السابق الواقع اسما لأن و في خلقكم معطوف على في السماوات فكأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون
4
- أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء علىما هي عليه واختلاف الليل والنهار بالجر على إضمار في وقد قرأ عبد الله بذكره وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله : إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل وقريء بالرفع على أنه مبتدأ خبره آيات بعد والمراد باختلافهما تعاقبهما أوتفاوتهما طولاوقصرا وقيل : اختلافهما في أن أحدهما نور والآخر ظلمة وماأنزل الله عطف على اختلاف من السماء جهة العلو وقيل : السحاب وقيل : الجرم المعروف بضرب من التأويل
من رزق من مطر وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز ولولم يؤل صح لأنه في نفسه رزق أيضا
فأحيا به الأرض بأن أخرج منها أصناف الزرعوالثمرات والنبات والسببية عادية اقتضتهاالحكمة
(25/139)
بعد موتها يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوةالتنمية عنها وتصريف الرياح من جهة إلىأخرى ومن حال إلى حالأ وتأخيره عن إنزالأ المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للأيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدألإنشاء المطر بل له و لسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار
وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى وتصريف الريح بالأفراد آيات لقوم يعقلون
5
- بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني في اختلاف على ما سمعت والجملة معطوفة علىما قبلها
وقيل : إن اختلاف بالجر عطف على خلقكم المجرور بفي قبل هو آيات عطف على آيات السابق المرفوع بالأبتداء وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين ومن الناس من يمنعةوهم أكثر البصريين ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين ومنهم من يفصل فيقول : وهو جائز في نحو قولك : في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك : زيد في الدار وعمرو الحجرة لأن الأوليلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجارمن غير عوض وتمام الكلام في هذه المسألة في محله وقيل : إن اختلاف عطف على المجرور قبله و آيات خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإنتقدمه ذكر جار
وقال أبو البقاء : آيات مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد وأيضا فيه الفصل بين المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز تعقيداينا في فصاحة القرآن العظيم وقرأ آيات هنا بالنصب من قرأها هناكبه فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات وقيل : العاطف في قوله تعالى واختلاف عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إنوه ومبني على جواز العطف على معمولي عاملين وقال أبو البقاء : هي منصوبة على التأكيد والتكريرلاسم إننحو إن بثوبك دم او بثوب زيد دما ومر آنفاما فيه
وقال بعضهم : إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها وذكر أبو حيان في الأرتشاف في الكلام على أن إن من خير الناس أو خيرهم زيد ابن محمد بن يحيى الزيد يذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا و إن خيرهم زيد وقد أقرالشاطبي تخريج النصب في الآيةعلى ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر
وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغنى : إنه بعيد والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في اختلاف وحينئذ لا يخفىحاله وسائرالقراءات مرويةهنا عمن رويت عنه فيما تقدم وتنكير آيات في الآيات للتفخيم كما وكيفا والمعنى إن المنصفين من العباد إذانظروا في السماوات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا وإذانظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى احالأ وهيئة
(25/140)
إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريفا لرياح جنوبا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في الكشاف ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل
وفي الكشف أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الأيقان مرتبة خاصة في الأيمان ثم العقل لما كان مدارهما أي الأيمان و الأيقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الأيقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك فيتحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم منوجه آخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هومننوعه ثم جنسه منسائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإنكان النظر في السماء أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هوالمطلوب ههنا ثم النظر إلى الأختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث أنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والأعتبار كلما تجدد هذا والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلىالنظر في الأول لأن السماوات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه وكذلك النظر في الثالث يضطر النظر في الأولين أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكو جامعا انتهى وهو كلام نفيس جدا
وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل : أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقلمن أن تكونوا منزمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالأختيار حقيقي والمغايرة بين ما هنا وما فيسورة البقرة أعني إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل تلك آيات الله مبتدأ وخبر وقوله تعالى : نتلوها عليك حال عاملها معنى الإشارة نحو هذا بعلي شيخا على المشهور وقيل : هوالخبر و آيات الله بدل أو عطف بيان وقوله سبحانه : بالحق حال من فاعل نتلوها أو من مفعوله أي نتلوها محقين أوملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أوالسورة أو ما ذكر قبل من السماوات والأرض وغيرهما فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها وفسرت بالسرد أي نسردها عليك
وقال ابن عطية : الكلام بتقدير مضاف أين تلوا شأنها وشأن العبرة بها وقريء يتلوها بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه ص - بواسطة الملك عليه السلام فبأي حدي بعد الله وآياته يؤمنون
6
- هو من باب قولهم : أعجبني زيد وكرمه يريد وأعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الأعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون وفيه
(25/141)
دلالةعلى أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز و جل وجعل تنلوها حالا مع ضميرالتعظيم ثم تكرير الأسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبوحيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلىباب البدل لأن تقدير كرم زيد إنمأ يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل هذا قلب لحقائق النحو وإنما المعنى في المثال أن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جارالله
ومن تعمق لا يرى أنه قائل بالأقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلىما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان فإن قلت : إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور وعلى فرض تسليمه فدلالته علىما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة
أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات ههنا بإذنه تعالى أومرضية له عز و جل وجعل كأنه المقصود بالنسبة وكني بها عن ذلك الأختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غابر البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين
وقال الواحدي : أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث وقوله سبحانه : وآياته عطف عليه لتغاير هما إجمالا وتفصيلا لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء وإنأريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرآن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول وقال الضحاك : أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة حديث وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة
وقرأابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي تؤمنون بالتء الفوقانية وهوموافق لقوله تعالى : وفي خلقكم بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك
وقرأ طلحة توقنون بالتاء الفوقانية والقاف من الأيقاف ويل لكل أفاك كثير الأفك أي الكذب أثيم
7
- كثير الأثم والآية نزلت في أبي جهل وقيل : في النضر بن الحرث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغلبه الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضى كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا و أثيم صفة أفاك وقوله تعالى : يسمع آيات الله صفة أخرى له وقيل استئناف وقيل حال من الضميرفي أثيم
(25/142)
وقوله سبحانه تتلى عليه حال من آيات الله ولم يجوز جعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا يقرأ والظاهر أن المراد بتتلى الآيات لأنه المناسب للأستبعاد المدلول عليه بقوله عز و جل ثم يصر فإن لاستبعاد الأصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام ونظير ذلك في الأستبعاد قول جعفر بن علية : لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها والأصرار على الشيء ملازمته وعدم الأنفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم ويقال : صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر والحمار ولا يقا لأذنيه على ما في الصحاح وكأن معناه حينئذ صار أذنيه
والمراد هنا يقيم على كفره وضلاله مستكبرا على الأيمان بالآيات وهو حال من ضمير يصر وقوله سبحانه كأن لم يسمعها حال بعد حال أو حال من ضمير مستكبرا وجوز الأستئناف و كأن مخففة من كأن بحذف إحدىالنون واسمها ضمير الشأن وقيل : لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها فبشره بعذاب أليم
8
- على إصراره ذلك والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيرا كان أو شرا وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل
تحية بينهم ضرب وجيع
وإذا علم من آياتنا شيئا وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها
اتخذوها هزوا بادر إلى الأستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الأستهزاء بما بلغه وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعابد ويجدله محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك نحو اعتراض ابن الزبعريفي قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ومغالطته رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله على ما بعض الروايات : خصمتك فضمير اتخذها على الوجهين للآيات والفرق بينهما أن شيئا على الثاني فيه تخصيص لقرينة اتخذها هزوا إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دست للباقي فيقول : الكل من هذاالقبيل وفرق بين الوجهين أيضا بأن في الأول الأتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى وقيل : الأستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الأستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقوله العتاهية : نفسي بشيء من الدنيا معلقة الله والقائم والمهدي يكفيها يعني الشيء وأراد عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال وقرأ قتادة ومطر الورق علم بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول أولئك إشارة إلى كنأفاك من حيث الأتصاف بما ذكر من القبائح والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى : كل حزب بما لديهم فرحون كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد وأداةالبعد للأشارة إلى بعد منزلتهم في الشر
لهم بسبب جناياتهم المذكورة عذاب مهين
9
- وصف العذاب بالأهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم
(25/143)
بآيات الله عز و جل من ورائهم جهنم أيمن قدامهم لأنهم متوجهون إليها أومن خلفهم لأنهم معرضون عن الألتفات إليها والأشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والأنهماك في شهواتها والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهةالتي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام وقيل في توجيه الخلفية : إن جهنم لما كانت تتحقق لهم بعد الأجل جعلت كأنه اخلفهم ولا يغني عنهم ولا يدفع ما كسبوا أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد شيئا من عذاب الله تعالىأو شيئا من الأغناء على أن شيئا مفعول بهأو مفعول مطلق ولا ما اتخذوا أي الذي اتخذوه من دون الله أولياء أي الأصنام
وجوز أن تفسر ما بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة والأول أظهر وجوز في ما في الموضعين أن تكون مصدرية وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغنار الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناءالأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم وفيه تهكم ولهم فيما وراءه ممن جهنم عذاب عظيم
10
- لا يقادر قدره هذا أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ما قبل كيسمع آيات الله وإذا علم من آياتنا وتلك آيات الله نتلوها هدى في غايةالكمال من الهداية كأنه نفسها والذين كفروا بآيات ربهم يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظشع حالهم وجوز أن يراد بالآيات ما يشمله وغيره
ولهم عذاب من رجز من أشد العذاب أليم
11
- بالرفع صفة عذاب أخر للفاصلة
وقرأ غير واحد من السبعة ألأيم بالجر على أنه صفة رجز وجعله صفة عذاب أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أني لتفت إليه وقيل : على قراءةالرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاسة والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس و المراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى وتنوين ذاب في المواقع الثلاثة للتفخيم ورفعه إما على الإبتداء وإما على الفاعلية للظرف الله الذي سخر لكم البحر بأن جعله أملس السطح يطفو عليهما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه لتجري الفلك فيه بأمره بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمال يراد بها وقيل : بتكوينه تعالى أو بإذنه عز و جل وسياق الأمتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنت مراكبوها
ولتبتغوا من فضله بالتجارة والغوص والصيد وغيرها ولعلكم تشكرون
12
- ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك وهذا أعني الله الذيسخر الخ ذكرت تميما للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكرغالبا للكافرأيضا فكأنه قيل : تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكرمن الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والأيقان والشكر جميعا حال
(25/144)
من ما في السماوات وما في الأرض أو توكيد له وقوله تعالى : منه حال من ذلك أيضا والمعنى سخرهذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه وجوز فيه أوجه أخر الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل جم حينئذ حال من الضميرالمستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل : جميعا على ما كان ويلاحظ في تصويرالمعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده إلى ما تقدم بقيد جميعا والجملةعلى القولين استئناف جيء بهت أكيدا لقوله تعالى : سخر أي أنه عز و جل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك الثاني أني جعل ما في السماوات مبتدأ ويكون هو خبره و جميعا حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون وسخرلكم تأكيدا للأول أي سخر وسخر وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنةعلي وجملة ما في السماوات الخمس تأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة
واعتراض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود وإن أريد التأكيد الأصطلاحي كما قيل به قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلاسوف تعلمون فهو مخالف لما ذكرها بن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم وقال الرضي : يكون بالفاء أيضا وهو ههنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الأتصال واعترض أيضا بأن فيه حذف مفعول سخر من غير قرينة وهذا كما ترى الثالث أن يكون ما في الأرض مبتدأ و منه خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق
وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رض عنهم ألم يكن يفسر هذه الآية ولعله إنصع محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال فيهاكل شيء وهو من الله تعالى
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذروالحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاصف سألهم خلق الخلق قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال : فمم خلق هؤلاء قال : لا أدري ثم أتى الرجل عبدالله بن الزبير فسأله فقال مثل عبد الله بن عمرو فأتىابن عباس رضعنهما فسأله مم خلق الخلق قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال : فمم خلق هؤلاء فقرأ ابن عباس وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز و جل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلال ماخ فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه الباريء لا إله غيره ولا خالق سواه أه وعليه جمع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية : إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن
(25/145)
العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والأنبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيمومها لأنه جلوعلا الأول الباطن الممدل تلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولاكونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هوالعماء الذي هوالوجود المفاض فأراد ابن عباس أن الأشياء جميعا منه تعالى أي من نوره سبحانه المضاف الذي هو العماء والوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جل شأنه وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى : الله خالق كل شيء لكن السؤال إنما بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أنما يفهمه السائل من تلاوته رضعنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله : ما كان ليأتي بهذا الخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى : الله خالق كل شيء فلا يظهر حينئذ وجه لقوله كل من ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه أه وعليه عامة أهل الوحدة وأجاب الأولون بأن مراد ابن عباس قطع التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأمرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لميهتد إليه ابن الزبير وابن عمرو ولا يعكر على هذا قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك وقد أورد الحسين بن علي ابن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن قوله تعالى فيعيسى عليه السلام : وروحا منه يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون
وحكى أبو الفتح وصاحب اللوامح عن ابن عباس وعبدالله بن عمرو والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤا منة بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعولأ له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خال ويهلكن قال أبوحاتم : إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس : إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها
وقرا مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضمك التاء على تقدير هو أو هيمنة وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي إنعامه وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي كما تقول : كرم الملك أنعشي أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى وجوز الفاعلية في قراءته الأولى وتذكيرالفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير إن في ذلك أي فيما ذكر لآيات عظيمة الشأن كثيرة العدد لقوم يتفكرون
13
- في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جل شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الأيمان والأيقان والشكر
قل للذين آمنوا يغفروا حذف المقول لدلالة يغفروا عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهما غفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله أي يعفوا ويصفحوا عن
(25/146)
عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بإعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم : أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أو لا يأمولون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين وعددهم الفوز فيها والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها
وقال بعضهم : لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش وحكى النحاس والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة فهم أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر فيكونها مكية كأخواتها وإرادة فهم أن يبطش بهبعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الأنتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوالأ أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه
وهذاأولى في الجواب من أن يقال : إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه نعم قيل : إن النبي صوأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبي غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حسبك قال : غلام قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى مل أقرب النبي صلى الله عليه و سلم وقرب أبي بكر رضعنه فقال ابنأبي : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكل فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالىالآية وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل علىأنها مدنية وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال : إن فنحاصا اليهودي قال : لما أنزل الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية ليجزي قوما بما يكسبون
14
- تعليل للأمر بالمغفرة وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الأشتقاق والأستعمال في نحو يا ابن القوم
وفي هذا التنكير كما لالتعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهوالغافر ههنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والأغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية و ما في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيآتهم التي من جملتها أيذاؤهم المؤمنين والتكير للتحقير : وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أوبما يصدر عنه تعالى بالذات وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع وتعقب بأنه أكثر تكلما وأشد تمحلا والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال : كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قاريء هذه الآية فقال : ليجزي عمر بما صنع وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش
(25/147)
وأبو خليد وابن عامر وحمزة والكسائي لنجزي بنون العظمة وقريء ليجزي بالياء والبناء للمفعول قوم بالرفع على أنه نائب الفاعل وقرأ شيبة وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا إنهما نصبا قوما وروي ذلك عن عاصم واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول : ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل ههنا ولا يجيز ذلك الجمهور وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزي هو أي الجزاء ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح وأجازه الكوفيون على خلاف في الأطلاق والأستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى 3المجزي به كما في قوله تعالى : جزاؤهم عند ربهم جنات عدن وأضمر لدلالة السياق كما فيقوله سبحانه ولأبويه والمفعول الثاني في باب أعطي يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو علىأن قوما منصوب بأعني أو جزى مضمرالدلالة المجهول علىأن ثم جازيا واختاره أبو حيان و ليجزي حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ثم إلى ربكم مالك أموركم ترجعون
15
- فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب وهوالتوراة على أن التعريب للعهد وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والأنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه السلام من التوراة لأن إيتاء الكتاب مطلقا منة والحكم القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان أو الفقه في ادلين ويقال : لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية والنبوة حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم السلام ما لم يكثر في غيرهم ورزقناهم من الطيبات المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى وفضلناهم على العالمين
16
- حيث آتيناه مما لم نؤت غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلى الله عليه و سلم عليهم منوجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب وقيل : المراد بالعالمين عالم و زمانهم
وآتيناهم بينات من الأمر دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صص وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة و السلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم فما اختلفوا في ذلك الأمر إلامن بعد ما جاءهم العلم بحقيقة الحال فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجب الرسوخه بغيا بينهم عدواة وحسدالا شكا فيه إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة بالمؤاخذة والجزاء فيما كانوا فيه يختلفون
17
- من أمر الدين ثم جعلناك على شريعة أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها
(25/148)
فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز و جل وقال الراغب : الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال : قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث أن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر وأعني بالري ما قال بعض الحكماء : كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب وبالتطهر ما قال عز و جل : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والظاهر هنا المعنى اللغوي والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن من الأمر أي أمر الدين وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى فأتبعها ولاتتبع أهواء الذين لا يعلمون
18
- أي آراء الجهال التابعة للشهوات والمراد بهم ما يعم كل ضال وقيل : هم جالة قريظة والنظير وقيل : رؤساء قريش كانوا يقولون له صلى الله عليه و سلم : ارجع إلى دين آبائك
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا من الأشياء أو شيئامن الإغناء أن أتبعهم والجملة مستأنفة مبنية لعلة النهي وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم
والله ولي المتقين
19
- الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والأعراض عما سواه عز و جل بالكلية هذا أيالقرآن بصائر للناس فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب وقيل : الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ وجمع الخبر على الوجهي باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ و اتباع مصدر مضاف في عم ويخبر عنه بمتعدد أيضا وقريء هذه أي الآيات وهدى جليل من ورطة الضلالة ورحمة عظيمة لقوم يوقنون
20
- من شأنهم الإيقان بالأمور أم حسب الذين اجترحوا السيئات إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان الظالمين والمتقين و أم منقطعة وما فيها من معنى بل للأنتقال من البيان الأول إلىالثاني والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه والأجتراح الأكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم وقال الراغب : الأحتراج اكتساب الأثم وأصله من الجراحة كما أن الأقتراف من قرف القرحة والظاهر تفسيرها ههنا بالأكتساب لمكان السيئات والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر وقوله تعالى : أن نجعلهم ساد مسد مفعولي الحسبان والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول وقوله سبحانه : كالذين آمنوا وعملوا الصالحات مفعوله الثاني وقوله عز و جل : سواء بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل وقوله تعالى : محياهم ومماتهم فاعل سواء أجرى مجرى مستو كما قالوا : مررت برجل سوا هو والعدم وضمير الجمع للمجترحين والمعنى على إنكار حسبان جعل محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاهم فإنهم مرحومون حياة لا موتا وجوز أن يكون سواء حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها
(25/149)
وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك نعم يجوز أم يكون كالذين جار او مجرورا في موضع المفعول الثاني و سواء حالا من الضمير المستتر فيه وقيل : يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني وكون الكاف أو الجار والمجرور حالامن هذاالضمير وما ذكر أولا أظهر وأولى وجوز كون ضمير الجمع في محياهم ومماتهم للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في كالذين لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة وجوز أن يكون المعنة على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان وقيل : به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضا
ولم يجو المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذا لمثل هو المشبه و سواء جار على المشبه والمشبه به
وقرأجمهور القراء سواء محياهم ومماتهم يرفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للأبتداء بها والضمير للمجترحين والجملة قيل : بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمالأ أو بدل بعض وأياما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك وأورد عليه شواهد قال أبو حيان : لا يتعين فيها البدل وقال محدمبن عبد الله الأشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو : لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي
وظاهره أنه لا يجوز الإبدال ههنا وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما ذكرنا وفيه بحث لا يخفى والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلامن الكاف وهو إمام في العربية لكن أفاد صاحب الكشف أنه أراد بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذلك لفظا قال : لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا و كالذين حال من ضمير نجعلهم ولا يخفى عليك ما عليه وما له وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل : حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد وتعقب بأن فيه اكتفاء الأسميةالحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل : وقيل : استئناف يبين المقتضآ للأنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون وجوز أن تكون بيان الوجه الشبه المجمل وإذاكان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكاروالتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلا للأنكار في المعنى د الاعلى عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك
(25/150)
موتا وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل
وقرأ الأعمش سواء بالنصب محياهم ومماتهم به أيضا وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما ايما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما سواء أو نجعلهم هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه وحمزة رضي الله تعالى عنه والمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هوأفضل في الدنيا فنزلت الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات الخ
وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر يستنبط منها تباين حالي المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال : قرأت ميم ادلاري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى أم حسب الذين الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهوعند المقام
وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خثيم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية أم حسب الذين الخ فلم يزل يرددها حتى أصبح وكان الفضيل بن عيا يقول لنفسه إذاقرأها : ليت شعري من أي الفريقين أنت
وقال ابن عطية : إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالأيمان ويحتمل أن تكون المعادلة بالأجتراح وعمل الصالحات ويكون الأيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها
ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال : نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد ساء ما يحكمون
21
- أيساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود
ويجوز أني كو لأنشاء ذمهم علىأن ساء بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرالضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك وخلق الله السماوات والأرض بالحق كأنه دليل على إنكار حسابهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى : سواء محياهم ومماتهم استئنافا وذلك من حيث أن خلق العالم بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما ولتجزىكل نفس بما كسبت عطف على بالحق لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة أما علىالأول فظاهر وأما على فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل وما موصولة أو مصدرية أي ليجزي كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها وهم أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون
22
- بنقص ثواب وتضعيف عذاب والجملة في موضع الحال وتسمية ذلك ظلمامع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز و جل كان ظلما
(25/151)
فالكلام على الأستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلما
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الأستعارة والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك مما يقضي منه العجب وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقالأ : المفعول الأول من اتخذ والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل فمن يهديه والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحرث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئاإلا ركبه وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه
وقال أوهب : إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته وقالأ سهل التستري : هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك وفي الحديث العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى
قال أبو عمران موسى بن عمران الأشبيلي الزاهد : فخالف هواها وأعصها إن من يطع هوى نفسه ينزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع وقد ذم ذلك جاهلية أيضا ومنه قول عنترة : إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها ولعل الأمر غني عن تكثير النقل
وقرأ الأعرج وأبو جعفر إلهة بتاء التأنيث بدل هاء الضمير وعن الأعرج أنه قرأ آلهة بصيغة الجمع
قال ابن خالويه : كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه فالظاهر أن آلهة بمعناها من غي تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوي مثله في قوله :
هو أي مع الركب اليمانين مصعد
وأضله الله أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل على علم حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه
ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو كقوله تعالى وما اختلفوا إلا منبهدما جاءهم العلم وختم على سمعه وقلبه بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات
وجعل على بصره غشاوة مانعة الأستبصار والأعتبار والكلام على التمثيل وقرأ عبد الله والأعمش غشاوة بفتح الغين وهي لغة ربيعة والحسن وعكرمة وعبد الله أيضا بضمها وهي لغة عكيلة وأبو حنيفة وحمزة والكسائي وطلحة ومسعود بن صالح والأعمش أيضا غشوة بفتح الغين وسكون الشين وابن مصرف والأغمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين فمن يهديه من بعد الله أي من بعد إضلاله تعالى إياه وقيل : المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه أفلا تذكرون
23
- أي ألا تلاحظون فلا تذكرو وقرأ الجحدري تذكرو بالتخفيف والأعمش تتذكرون بتاءين على الأصل وقالوا بيان لأحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل
(25/152)
غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة ما هي أي ما الحياة إلا حياتنا ادلنيا إلى نحن فيها ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوالأ فيكون المستثنى من جنس المستثى منه أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعمال أحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافا بعد أداة الأستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة ادلنيا نموت ونحيا حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحيي في النظم الجليل للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك وقيل : أرادوا بالموت عدمك الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك وقيل : أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية مجازا كأنهم قالوا : نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا وقيل : أرادوأ يموت بعضنا ويحيا بعض على التجوز في الإسناد وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ونحيا بضم النون وما يهلكنا إلا الدهر أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد ولهم في ذلك كلام طويل وقال الراغب : الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة ودهر فلان مدة حياته ويقال : دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر ههنا مصدر
وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقالأ : دهرا أيغلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز و جل وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى وإشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون وجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى عما يقولو علوا كبيرا والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير ولا يبعد أن يكو الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة وقد جا النهي عن سب الدهر أخرج مسلم لا يسب أحدكم الدهر فإن اللههو الدهر وأبو داود والحاكم وقالأ : صحيح على شرط مسلم قالالله عز و جل : يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة ادلهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره والحاك وقال : صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عز و جل : استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وادهراه وأنا الدهر والبيهقي لا تسبوا الدهر قال الله عز و جل : أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز و جل
وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا
(25/153)
وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه ولا حرام فضلا عن كونه كبيرة والذي يتجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكلاهة أوالله عز و جل فلا كلام في الكفر ومثله إذاأراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمالأ الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضا الكلاهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قالأ بعض الأجلة نما هو بطريق التجوز
ومن الناس من قالأ : إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب وفيه نظر لأن اعتقاد ذلك كفر وليس الكلام فيه وأنكر بعضهم كون ما في حديث أبي داود والحاكم فأني أنا ادله بضم الراء وقال : لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان يرويه فإني أنا الدهر بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم عيرالأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل والمعنى أن الله تعالى هوالدهر أي المصرف المدبر المفيض لما يحدث وفيه بعد
وقراعبد الله إلا دهر وتأويله إلا دهر يمر وما لهم بذلك أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر من علم مستند إلى عقل أو نقل إن هم إلآيظنون
24
- ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم وإذاتتلى عليهم آياتنا الناطقة بالحق من جملة البعث بينات واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له ما كان حجتهم بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى : إلا أن قالوا ائتوا بآياتنا إن كنتم صادقين
25
- أي في أنا نبعث الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه منقبيل
تحتية بينهم ضرب وجيع
أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة والمراد نفي أن يكولهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في ادلنيا امتناعه بعد لتمتنع ألإعادة إذا قامت القيامة والخطاب في ائتوا وكنتم للرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلى الله تعالى عليه وسلم من البعث طالبون من الكفرة الأقرار به وجوز أن يكون له عليه الصلاةوالسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائعين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة
وقال ابن عطية : ائتوا وكنتم من حيث المخاطبة له صلى الله تعالى عليه وسلم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة و السلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام وهو كما ترى
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روي عنه عبد الحميد وعاصم فيما روي هارون وحسين عن أبي بكر عنه حجتهم بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل وجواب إذا ما كان الخ ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفي بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرط وهو سر قول أبي حيان : إن إذا خالفت أدوات الشرط بأنها جوابها إذا كان
(25/154)
منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافا لابن هشام واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق ولعل من قالأ بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره ثم إن المعنى على الأستقبال لمكان إذا أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك
قل الله يحييكم ابتداء ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحججلا ادلهر كما تزعمون ثم يجمعكم إلى يوم القيامة أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة لا ريب فيه أي في جمعكم فإن قدر على البدء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والأتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
26
- استدراك من قوله تعالى : لا ريب فيه وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها علىأ ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما ولله ملك السماوات والأرض بيان للأختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما عز و جل أثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص
ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون
27
- قال الزمخشري : العامل في يوم تقوم يخسر ويومئذ بدلمن يوم تقوم وحكاه ابن عطية عن جماعة وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في يومئذ عوض عن الجملة المضاف إليها والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل تقوم الساعة فيقال : ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له ولذا قيل : إنه بالتأكيد أشبه وقول أبي حيان : إن كان بدلا وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنىالوقت الذي هو جزء من يوم قيامة الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة وقالت فرقة : العامل في يوم تقوم ما يدل عليه الملك قالوا : وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبد لهما فكأنه قيل ولله ملك السماوات والأرض يوم تقوم الساعة و يومئذ منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العرض وقيل : يجوز أن يكو عطفا على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل : لله ملك السماوات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى و المبطلون الداخلون في الباطل ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر وترى كل أمة من الأمم المجموعة جاثية باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره وعن ابن عباس جاثية مجتمعة وعنقتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثي أي تراب مجتمع وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش والخطاب في ترى لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام وهي
(25/155)
بصرية و جاثية حالأ وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كان مفعولا ثانيا وقريء جاذية بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ كل أمة تدعى إلى كتابها إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله وقيل : المراد كتاب تنبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أولا وحكى ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظاهر العموم وقيل : المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه وقرأ يعقوب كل بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول وجملة تدعى صفة وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف ويقال مثل ذلك فيما إذا كان الجملة حالا وإذاكان الرؤية علمية وجملة تدعى مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد وجعله تأكيدا مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في الكشف غير مستحسن اليوم تجزون ماكنتم تعلمون
28
- مقول قول مقدر هو حال أو خبر بعد خبر
وفيالكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم الخ أوهو من المجاز وقوله تعالى : هذا كتابنا إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ والإشارة إلى الكتاب التي تدعى إليه الأمة المقول لها ذلك وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جل شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل : ويأباه نستنتج إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه والأظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر وقوله سبحانه ينطق عليكم أي يشهد عليكم بالحق من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو مستأنف و بالحق حال من فاعل ينطق وقوله تعالى : إنا كنا نستنسخ إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب ماكنتم تعملون
29
- في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة وحقيقةالنسخ كتابة من أصل ينظ فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في البحر وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال : أكتب قال : ما أكتب قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرامثم ألزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وعلىالكتاب خزانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فنى الرزق وانقطع الأمر وانقطعو انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الأستنساخ إلا من أصل وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رض عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ذما سمعت ثم قال : هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب وكون الأستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل نستنسخ بننسخ
(25/156)
كما لا يخفى وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم في رحمته إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى : ينطق عليكم ب أو يجزون من الوعد والوعيد والمراد بالرحمة الجنة مجازا و الظرفية على ظاهرها وقيل : المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر ذلك الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى : هو الفوز المبين
30
- الظاهر كونه فوز الا فوز وراءه
وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ : ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر وحذف اكتفاء بالمقصود وهوالمقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البح حدث عنه حذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوتة الآيات تستلزم أتيان الرسل معنى وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير والتقدير فيقال لهم : ألم تكن الخ فليس هناك سوى حذف القول وفي الكشف لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابه الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها فاستكبرهم عن الأيمان بها وكنتم قوما مجرمين
31
- قوما عادتهم الأجرام وإذا قيل إن وعد الله أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك حق أي كائن هو أو متعلقة لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الظرف أو في النسبة
وقرأالأعرج وعمرو بن قائد وإذاقيل أن بفتح الهمزة على لغة سليم والساعة لا ريب فيها برفع الساعة في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة الساعة لا ريب فيها عطف على الجملةالسابقة وقرأ حمزة والساعة بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش وأبي عمرو وأبي حيوة وعيسى والعبسي والمفضل وذكر أمر الساعة وأنها لا ريب فيوقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء بأمر البعث المقصود بالقام قلتم لغاية عتوكم : ما تدري ما الساعة أي أي شيء هي استغرابا لها جداك ما يؤذن به جمع ما ندري مع الأستفهام
إن نظن إلا ظنا استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا : لا يجوز تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال : ما ضربت إلاضربا لأنه بمنزلة ما ضربت إلاضربت وقال الرضي : إن الأستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالأستثناء وليس مصدر نظن محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه وكذا يقال في ما ضربت إلا ضربا نحوه وهذا مراد من قال : إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه واختلفوا في حله فقيل : إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئ يصح الأستثناء ويتغاير مورد النفي والأيجاب من حيث التقدير والتجوز في الأستثناء من العام المقدر وجعل نظن في معنى نفعل لا نفعل الظن كأنه قيل : ما نفعل فعلا إلا الظن وكذا يقال في أمثاله ومنها قوله الأعشى : وحل به الشيب أثقاله ومااغتره الشيب إلااغتر
(25/157)
وارتضاه صاحب الكشف وقيل : ما تظن بتأويل مانعتقد ويكون ظنا مفعولا به أي ما نعتقد شيئا إلا ظنا وارتضاه أبو حيان وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون وأجيب بأن الأعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة وقال الرضي : إن ما ضربت إلا ضربا يحتمل التعدد من حيثتوهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك وتقول ضربت ضربا فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملا للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره وحاصله أن الضرب لما أحتمل قيل التأكيد والأستثناء فعلا آخر حمل على العموم بقرينة الأستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئا إلا ضربا وهكذا ما نظن إلا ظنا وهذا كالمتحد مع ما ذكرناه أولا ورد بأن الأستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا يكفي فيه الأحتمال المحقق فضلا عن المتوهم
وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده وذهب ابن يعيش وأبو البقاء على القلب والتقديم والتأخير والأصل إن نحن إلا نظن ظنا وحكى ذلك عن المبرد وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب : ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال : الأصل ليس إلاالطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا في موضع الخبر لها ورده الرضي وقالأ : إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخل بالفصاحة
والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملو ليس معاملة ما فأهملوها لانتقاض النفي بإلا وقيل ظنا مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا
وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن وإسمها وخبرها وإبقاء المصدر ذلك لا يجوز وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفافه مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في البحر لا مؤكد وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير وتعقب بأن قوله تعالى : وما نحن بمستيقنين
32
- يأباه فإن مقابل الأستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده وقيل : والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها فقولهم ذلك رد لهذا ولعل المثبتين لأنفسهم الظن من غير أيقان بأمر الساعة غير القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كائمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا
ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول : إن هي إلا حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا وقيل : الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها اذلاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل
تم الجزء الخامس والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس والعشرون وأوله وبدا 26
(25/158)
بسم الله الرحمن الرحيم وبدا لهم أي ظهر لهم حينئذ سيآت ما عملوا أي قبائح أعمالهم أي عقوباتها فإن العقوبة تسوء صاحبها وتقبح عنده أو سيآت أعمالهم أي أعمالهم السيآت على أن تكون الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والكلام على تقدير مضاف أي ظهر لهم جزاء ذلك أو أن يراد بالسيآت جزاؤها من باب إطلاق السبب على المسبب وقيل : المراد ظهر لهم الجهات السيئة الغير الحسنة عقلا لأعمالهم أي جهات قبحها العقلي التي خفيت عليهم في الدنيا بتزيين الشيطان وهو قول بالحسن والقبح العقليين في الأفعال و ما موصولة وجوز أن تكون مصدرية فلا تغفل وحاق أي حل بهم ما كانوا به يستهزءون
33
- من الجزاء والعقاب
وقيل اليوم ننساكم نترككم في العذاب من باب إطلاق السبب على المسبب لأن من نسي شيئا تركه أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالي به على أن ثم استعارة تمثيلية وجوز أن يكون استعارة مكنية في ضميرة الخطاب
كما نسيتم في الدنيا لقاء يومكم هذا أي كما تركتم عدته وهي التقوى والإيمان به أو كما لم تبالوا أنتم بلقائه ولم تخطروه ببال الذي يطرح نسا منسيا وجوز أن يكون التعبير بنسيانه لأن علمه مركوز في فطرتهم أو لتمكنهم منه بظهور دلائله ففي النسيان الأول مشاكلة وإضافة لقاء إلى يوم من إضافة المصدر إلى ظرفه فهي على معنى في المفعول مقدر أي لقاءكم الله تعالى وجزاءه سبحانه في يومكم هذا وقال العلامة التفتازاني : لقاء يومكم كمكر الليل من باب المجاز الحكمي فلذا أجرى المضاف إليه مجرى المفعول به وإنما لم يجعل من إضافة المصدر إلى المفعول به حقيقة لأن التوبيخ ليس على نسيان لقاء اليوم نفسه بل نسيان ما فيه من الجزاء
وقال بعض الأجلة : لا يخفى أن لقاء اليوم يجوز أن يكون كناية عن لقاء جميع ما فيه وهو أنسب بالمقام لأن السياق لإنكار البعث ومأواكم النار وما لكم من ناصرين
34
- ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها
ذلكم العذاب بأنكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله هزوا أي مهزوءا بها ولم ترفعوا لها رأسا وغرتكم الحياة الدنيا فحسبتم أن لا حياة سواها فاليوم لا يخرجون منها أي النار وقرأ الحسن وابن وثاب وحمزة والكسائي لا يخرجون مبنيا للفاعل والألتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانةبهم أو بنقلهم من مقام الخطابة إلىغيابة النار وجوز أن يكون هذا ابتداء كلام فلا التفات
ولا هم يستعتبون
35
- أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه أي يزيلوا عتبه جل وعلا وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا يطلب منهم إرضاؤه عز و جل لفوات أوانه وقد تقدم في الروم والسجدة أوجه أخر في ذلك فتذكر فلله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين
36
- تفريع على ما احتوت عليه السورة الكريمة وقد احتوت على آلاء الله تعالى وأفضاله عز و جل واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية
(26/2)
وانطوت على البراهين الساطعة والنصوص اللامعة في المبدأ والمعاد واللام للأختصاص وتقديم الخبر لتأكيده وتعريف الحمد للأستغراق أو الجنس والجملة إخبار عن الإستحقاقه تعالى لما تدل عليه وجوز أن يراد الإنشاء وتمام الكلام قد تقدم في الفاتحة وفي التفريع المذكور على ما قال بعض الأجلة إشارة إلى أن كفرهم لا يؤثر شيئا في ربوبيته تعالى ولا يسد طريق إحسانه ورحمته عز و جل
ومن يسد طريق العارض الهطل
وإنما هم ظلموا أنفسهم وإجراء ما أجرى من الصفات الدالة على إنعامه تعالى عليه عز و جل كالدليل على استحقاقه تعالى الحمد واختصاصه به جل وعلا وقوله تعالى : رب العالمين بدل مما قبل وفي تكرير لفظ الرب تأكيد وإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل بطريق الأصالة وقرأ ابن محيصن برفعه على المدح بلإضمار هو وله الكبرياء فيه من الأختصاص ما في لله الحمد والكبرياء قال ابن الأثير : العظمة والملك وقال الراغب : الترفع عن الأنقياد وقيل : هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود وقوله تعالى : في السماوات والأرض في موضع الحال أو متعلق بالكبرياء والتقييد بذلك لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيه والإظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء وفي الحديث القدسي الكبرياء ردائي والعظمةإزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة وهو ظاهر في عدم الكبرياء والعظمة فلا تغفل وهو العزيز الذي لا يغلب الحكيم
37
- في كل ما قضى وقدر وفي هذه الجمل إرشاد على ما قيل إلى أوامر جليلة كأنه قيل : له الحمد فاحمدوه تعالى وله الكبرياء فكبروه سبحانه وهو العزيز الحكيم فأطيعوه عز و جل وجعلها بعضهم مجازا أو كناية عن الأوامر المذكورة والله تعالى أعلم هذا ولم أظفر من باب الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمؤنة نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه من جعله إشارة إلى وحدة الوجود وقد مر ما ينبغي عن نقله والله عز و جل ولي التوفيق
سورة الأحقاف
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء واستثنى بعضهم قوله تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله الآية فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت في قصة إسلام عبد الله بن سلام وروي ذلك عن محمد بن سيرين
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد ابن وقاص أنه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل وفي نزولها فيه رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول : هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى الله عليه و سلم واستثنى بعضهم والذي قال لوالديه الآيتين وزعم مروان
(26/3)
من لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أباه وهو في صلبه إنهما نزلتا في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فكذبته عائشة وقالت : كذبت مروان مرتين والله ما هو به ولو شئت أن اسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض أي قطعة من لعنة الله تعالى وفي رواية أنها قالت : إنما نزلت في فلان بن فلان وسمت رجلا آخر واستثنى آخر ووصينا الإنسان الآيات الأربع كما حكاه في جمال القراء وحكى أيضا استثناء فاصبر كما صبر أولوا العزم الآية ونقله في البحر عن ابن عباس وقتادة وكذا نقل فيه عنهما استثناء قل أرأيتم الخ وتمام الكلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى وآيها خمس وثلاثون في الكوفي وأربع وثلاثون في غيره والأختلاف في حم وتسمى لمجاوزتها الثلاثين ثلاثين أخرج أحمد بسند جيد عن ابن عباس قال : أقرأ بي رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة من آل حم وهي الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين وروي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأها على وجهين
أخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة الأحقاف فسمعت رجلا يقرؤها خلاف ذلك فقلت : من أقرأكها قال : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غير ذا فأتينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا قال : بلى فقال الآخر : ألم تقرئني كذا وكذا قال : بلى فتمعر وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالأختلاف
وأنت تعلم أن ما تواتر هو القرآن ووجه اتصالها أنه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد وذم أهل الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد فقال عز و جل : بسم الله الرحمن الرحيم حم
1
- تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
2
- الكلام فيه كالذي تقدم في مطلع السورة السابقة ما خلقنا السماوات والأرض بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الأستقرار فيهما وما بينهما من المخلوقات إلا بالحق استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية وفيه من الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى وجوز كونه مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خلقنا أو من مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به وأجل مسمى عطف على الحق بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى وقدر لأن الخلق إنما يلتبس به لا بالأجل نفسه والمراد بهذا الأجل كما قال ابن عباس يوم القيامة فإنه ينتهي إليه أمور الكل وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وقيل : مده البقاء المقدر لكل واحد ويؤيد الأول قوله تعالى : والذين كفروا عما أنذروا معرضون
3
- فإن أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم وجوز كون ما مصدرية أي عن إنذارهم بذلك الوقت على إضافة المصدر إلى مفعوله الأول القائم مقام الفاعل والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجازون عنده
(26/4)
الحال أنهم غير مؤمنين به معروضون عنه غير مستبعدين لحلوله قل توبيخا لهم وتبكيتا أرأيتم أخبروني وقريء أرأيتكم ما تدعون ما تعبدون من دون الله من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر والموصول مفعول أول لأرأيتم وقوله تعالى : أروني تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضا وقوله تعالى : ماذا خلقوا جوز فيه أن تكون ما اسم استفهام مفهولا لا مقدما لخلقوا و ذا زائدة وأن تكون ماذا اسما واحدا مفعولا مقدما أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبر مقدما و ذا اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخرا وجملة خلقوا صلة الموصول أي ما الذي خلقوه وعلى الأولين جملة خلقوا مفعول ثان لأرأيتم وعلى ما بعدهما جملة ماذا خلقوا وجوز أن يكون الكلام من باب الأعمال وقد أعمل الثاني وحذف مفعول الأول واختاره أبو حيان وقيل : يحتمل أن يكون أروني بدل اشتمال من أرأيتم وقال ابن عطية : يحتمل أرأيتم وجهين كونها متعدية و ما مفعولا لها وكونها منبهة لا تتعدى و ما استفهامية على معنى التوبيخ وهذا الثاني قاله الأخفش في أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة
وقوله تعالى : من الأرض تفسير للمبهم في ماذا خلقوا قيل : والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوات وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقا ولعله أولى أم لهم شرك أي شركة مع الله سبحانه في السماوات أي في خلقها ولعل الأولى فيها أيضا أن تفسر بالعلويات و أم جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه فقد نفي أولا مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالا وثانيا مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من آجزاء العالم العلوي ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه : في السماوات مع أنه لا شركة فيها وفي الأول أيضا لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلية ليست كذلك لتمليكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة
قيل : الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل أم المتصلة لوجود دليله والتقدير الهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السماوات وهو كما ترى وقوله تعالى : أئتوني بكتاب إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإيمان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند علقي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب إلهي كائن من قبل هذا الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم أو أثارة من علم أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة فالإثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم : سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه
وقال القرطبي : هي بمعنى الإسناد والرواية ومنه قول الأعشى : إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده وقيل : هي العلامة وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أثارة من علم قال : الخط وروي ذلك أيضا موقوفا على ابن عباس وفسر بعلم الرمل كما في حديث أبي هريرة مرفوعا
(26/5)
وكان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم وفي رواية عن الحبر أنه قال : أو أثارة من علم خط كان يخطه العرب في الأرض وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور وفي ذلك كلام يطلب من محله وفي البحر قيل : إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط في التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأفواههم ودلائلهم والتنوين للتقليل و من علم صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم إن كنتم صادقين
4
- في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافهما تبين بطلانها وقريء إثارة بكسر الهمز وفسرت بالمنظرة فإنها تثير المعاني وقيل : وذلك من باب الأستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة مما يثور من الغبار الناثر من حركات الفرسان وقرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي والأعمش وعمرو بن ميمون أثرة بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر وعلي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وقتادة أيضا بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي إسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤخر من علم وروي عنه أيضا أنه قرأ إثرة بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إنكار لأن يكون أضل من المشركين وذكر بعض الفضلاء أن المراد نفي أن يكون أحد يساويهم في الضلالة وإن كان سبك التركيب لنفي الأضل وقد مر ما يتعلق بذلك فتذكر أي هو من كل ضال حيث ترك دعاء المجيب القادر المستجمع لجميع صفات الكمال كما يشعر بذلك الأسم الجليل ودعا من ليس شأنه الأستجابة له وإسعافه بمطلوبه إلى يوم القيامة أي ما دامت الدنيا وظاهره أنه بعدها تقع الأستجابة وليس بمراد لتحقق ما يدل على خلافه فهذه الغاية على ما في الأنتصاف من الغايات المشعرة أن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالمباين حتى كأن الحالين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الإستجابة والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الإستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم كما ينطق به ما بعد فهو من وادي قوله تعالى : في سورة الزخرف بل متعت هؤلاء وآباءهم الآية ونحوه قوله سبحانه في إبليس : إن عليك لعنتي إلى يوم الدين وقد يقال : المراد بهذه الغاية التأبيد كما قيل في قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات وقولهم : ما دام ثبير وقال بعضهم : لا إشكال في الآية لأن الغاية مفهوم فلا تعارض المنطوق وفيه بحث ففي الدرر والينبوع عن البديع أن الغاية عندنا من قبيل إشارة النص لا المفهوم
وقال الزركشي في شرح جمع الجوامع : ذهب القاضي أبو بكر إلى أن الحكم في الغاية منطوق وادعى أن أهل اللغة صرحوا بأن تعليق الحكم بالغاية موضوع على أن ما بعدها خلاف ما قبلها لأنهم اتفقوا على أنها ليست كلاما مستقلا فإن قوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره وقوله سبحانه : حتى يطهرن لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام وذلك أن المضمر إما ضد ما قبله أولا والثاني باطل لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فيقدر حتى يطهرن فاقربوهن حتى تنكح زوجا غيره فتحل قال : والمضمر بمنزلة الملفوظ فإنه إنما
(26/6)
يضمر لسبقه إلى ذهن العارف باللسان وعليه جرى صاحب البديع من الحنفية فقال : هو عندنا من دلالة الإشارة لا من المفهوم لكن الجمهور على أنه مفهوم ومنعوا وضع اللغة لذلك انتهى ويعلم من هذا أن قوله في التلويح : إن مفهوم الغاية متفق عليه لا يخلو من الخلل وهم عن دعائهم الضمير الأول لمفعول يدعوا أعني من لا يستجيب والثاني لفاعله والجمع فيهما باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها أي والذين يدعون من لا يستجيبون لهم عن دعائهم إياهم غافلون
5
- لا يسمعون ولا يدرون أما إن كان المدعو جمادا فظاهر وأما إن كان من ذوي العقول فإن كان من المقبولين المقربين عند الله تعالى فلاشتغاله عن ذلك بما هو فيه من الخير أو كونه في مجل ليس من شأن الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي للبعد كعيسى عليه الصلاة و السلام اليوم أو لأن الله تعالى يصون سمعه ذلك لأنه لكونه مما لا يرضى الله تعالى يؤلمه لو سمعه وإن كان من أعداء الله تعالى كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله تعالى فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر وقيل : لأن الميت ليس من شأنه السماع ولا يتحقق منه سماع إلا معجزة كسماع أهل القليب وفي هذا كلام تقدم بعضه وإن كان حيا فإن كان بعيدا مثلا فالأمر ظاهر وإن كان قريبا سليم الحاسة فقيل : الكلام بالنسبة إليه بعد تأويل الغفلة بعدم السماع وعلى التغليب لندرة هذا الصنف
ومن الناس من أول الغفلة بعدم الفائدة وتعقب بأنه حينئذ لا يكون لوصفهم بالغفلة بعد وصفهم بعدم الأستجابة كثيرة فائدة واعتبر بعضهم التغليب من غير تأويل بمعنى أنه غلب من يتصور منه الغفلة حقيقة على غيره وهذا كالتغليب في التعبير عن تلك الآلهة بما هو موضوع لأن يستعمل في العقلاء وإن كانت الآية في عبدة الأصنام ونحوها مما لا يعقل تجوز في الغفلة وكان التعبير بما هو للعاقل لأجراء العبدة إياها مجرى العقلاء
وقال بعضهم : على جعلها في عبدة الأصنام إن وصفها بما ذكر من ترك الإستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها فتدبر ولا تغفل وإذا حشر الناس عند قيام القيامة كانوا أي المعبودين لهم أي العابدين أعداء شديدي العداوة وكانوا أي المعبودين أيضا بعبتادتهم أي بعبادة الكفرة إياهم كافرين
6
- مكذبين والأمر ظاهر في ذوي العقول وأما في الأصنام فقد روي أن الله تعالى يخلق لها إدراكا وينطقها فتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولا حيث قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ورجعوا الشفاعة منهم وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه فمعنى كانوا لهم أعداء كانوا لهم ضارين وما ذكرناه في بيان الضمائر هو الظاهر وقيل : ضمير هم المرفوع البارز والمستتر في قوله تعالى : وهم عن دعائهم غافلون للكفرة الداعين وضمير دعائهم لهم أو للمعبودين والمعنى أن الكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب لهم غافلون لا يتأملون ما عليهم في ذلك وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه وفي الضمائر بعد نحو ذلك والمعنى إذا حشر الناس كالكفار أعداء لآلهتهم الباطلة لما يرون من ترتب العذاب على عبادتهم إياها وكانوا لذلك منكرين أنهم عبدوا غير الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم
(26/7)
أنهم يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين وتعقب بأن السياق لبيان حال الآلهة معهم لا عكسه ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم وتسميته كفرا خلاف الظاهر وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات أي واضحات أو مبينات ما يلزم بيانه قال الذين كفروا للحق أي الآيات المتلوه ووضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصول موضع المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر والضلالة
وجوز كون المراد بالحق بالنبوة أو الإسلام فليس فيه موضوعا موضع الضمير والأول أظهر واللام متعلقة بقال على أنها لام العلة أي قالوا لأجل الحق وفي شأنه وما يقال في شأن شيء مسوق لأجله وجوز تعلقه بكفروا على أنه بمعنى الباء أو حمل الكفر على نقيضه وهو الإيمان فإنه يتعدى باللام نحو أنؤمن لك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى لما جاءهم أي في وقت مجيئه إياهم ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل : بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا : هذا سحر مبين
7
- أي ظاهر كونه سحرا وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده أم يقولون افتراه إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدا على الله تعالى فإن الكذب خصوصا عليه عز و جل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة وما في أم المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الإفتراء مع قولهم : هو سحر لعجزهم عنه والضمير المنصوب في افتراه كما قال أبو حيان للحق الذي هو الآيات المتلوة وقال بعضهم : للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه
قل إن افتريته على الفرض فلا تملكون لي من الله شيئا أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الأفتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز و جل عن معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف افتيرته وأتعرض لعقابه فجواب إن في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه هو أعلم بما تفيضون فيه بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحر تارة وافتراه أخرى واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولا كان أو فعلا مجاز مشهور وأصلها إسالة الماء يقال : أفاض الماء إذا أساله وما أشرنا إليه من كون ما موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون ما مصدرية وضمير فيه للحق أو للقرآن كفى به شهيدا بيني وبينكم حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر و به في موضع الفاعل بكفى على أصح الأقوال و شهيدا حال و بيني وبينكم متعلق به أو بكفى وهو الغفور الرحيم
8
- وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم جل شأنه ليتداركوا أمورهم قل ما كنت بدعا من الرسل أي بديعا منهم يعني لست مبتدعا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها فقد قيل : إنهم كانوا
(26/8)
يقترحون عليه عليه الصلاة و السلام آيات عجسيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر الله تعالى عليه وسلم أن يقول لهم ذلك ونظير بدع الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها وجوز إبقاؤه على أصله وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة بدعا بفتح الدال وخرج على أنه جمع بدعة كسدرة وسدر والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والإخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضا
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم دين قيم ولحم زيم أي متفرق قال في البحر : ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال : ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح أما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض وأما قول العرب : مكان سوى وماء روى ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر وعن مجاهد وأبي حيوة بدعا بفتح الباء وكسر الدال وهو صفة كحذر
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين على التفصيل كما قيل
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية : أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلى الله عليه و سلم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجا الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا أم المخسوف بها خسفا ثم أوحي إليه وإذ قلنا لك أن ربك أحاط بالناس يقول سبحانه : أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة و السلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا يقول : أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة و السلام في أمته : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته وعن الكلبي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى نكون على هذا فقال : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفهت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخل وشجر وحكى في البحر عن مالك ابن أنس وقتادة وعكرمة والحسن أيضا وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة وخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية : نسختها الآية التي في الفتح يعني ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فخرج صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين : هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى في سورة الأحزاب وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وقال سبحانه : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى : قل إن قلنا : إنه هناك للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير
وقال أبو حيان : هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة و السلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة وقال الإمام : أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبيا ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه
(26/9)
شاكا في أنه هل هو مغفور له أم لا وبأنه لا شكل أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء وقد قال الله تعالى فيهم : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكا في أنه هل هو من المغفورين أم لا وقد يقال : المراد أيضا أنه عليه الصلاة و السلام ما يدري ذلك على التفصيل وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة و السلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالا بل في إعلامه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة و السلام بأحوال زيد مثلا في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو كذلك وهكذا توقف
وفي صحيح البخاري وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن أم العلاء وكانت بايعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون : رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام وما يدريك أن الله تعالى أكرمه أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم قالت أم العلاء : فو الله ما أزكى بعده أحدا وفي رواية ابن حيان والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض طب : أبا السائب نفسا إنك في الجنة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما يدريك قالت : يا رسول الله عثمان بن مظعون قال : أجل وما رأينا إلا خيرا والله ما أدري ما يصنع بي وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة : هنيئا لك ابن مظعون لجنة فنظر إليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نظر مغضب وقال : وما يدريك والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت : يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال : أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال : وذلك قبل أن ينزل ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به وما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الإبتلاء والأمتحان والذي اختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كانت الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك الأمور الدنيوية أو الأخروية واعتقد أنه صلى الله عليه و سلم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤنه والعلم بأشياء يعد العلم بها كما لا ما لم يؤته أحد غيره من العالمين ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلا في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده ولا أرى حسنا قول القائل : إنه عليه الصلاة و السلام يعلم الغيب واستحسن أن يقال بدله : إنه صلى الله عليه و سلم أطلعه الله تعالى على الغيبأو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات وقد سمعت خطيبا على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمعة قال بأعلى صوت : يا باز أنت أعلم بي من نفسي وقال لي بعض : إني لأعتقد أن الشيخ قدس سره يعلم كل شيء مني حتى منا بت شعري ومثل ذلك مما لا ينبغيأن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف ينسب إلى سواه فليتق العبد مولاه وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون ردا أيضا على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصداق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتا ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين هذا والظاهر أن 0 ما استفهامية مرفوعة المحل بالأبتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين وجوز أن تكون ما موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد
(26/10)
والجملة بعدها صلة وأن تكون حرفا مصدريا فالمصدر مفعول أدري والإستفهامية أقصى لحق مقام التبري عن الدراية و لا لتذكير النفي المنسحب على ما يفعل الخ وتأكيده ولو لا اعتبار الإنسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون لا لأنه ليس محللا للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة من في قوله تعالى ما يود الذين كفروا أن ينزل عليكم من خير لانسحاب النفي فإنه إذا ودادة التنزيل انتفى التنزيل وزيادة الباء في قوله سبحانه ألم يروا أن الله خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر لانسحاب النفي على أن مع ما في حيزها ولو لاه ما زيدت الباء في الخبر وقيل : الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر وقيل : ولا بكم وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة يفعل بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز و جل أن أتبع إلا ما يوحى إلي أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلى الله عليه و سلم على اتباع الوحي والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره وهذا جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه الصلاة و السلام من الغيوب والخطاب السابق للمشركين
وقيل : عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم والأول أوفق لقوله تعالى : وما أنا إلا نذير أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إلي مبين
9
- بين الإنذار بالمعجزات الباهرة والحصر إضافي وقرأ ابن عمير يوحى على البناء للفاعل قل أرأيتمإن كان أي ما يوحى إلي من القرآن وقيل : الضمير للرسول وفيه أن الظاهر لو كان المعنى عليه كنت من عند الله لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وكفرتم به الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرط اهتماما بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على كان كما في قوله تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به وكذا الواو في قوله تعالى : وشهد شاهد من بني إسرائيل إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع شهد فآمن واستكبرتم معطوف على مجموع كان وما معه مثله في المفردات هو الأول والآخر والظاهر والباطن والمعنى إن اجتمعكونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاهد فإيمانه مع استكباركم عن الإيمان وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي أرأيتم وضمير به عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحى من القرآن أو الرسول وعن الشعبي أنه للرسول ولعله يقول في ضمير كان أيضا كذلك وكذا في ضمير على مثله لئلا يلزم التفكيك وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن وتنوين شاهد للتفخيم وكذا وصفه بالجار والمجرور أي شهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شؤن الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى : وإنه لفي زبر الأولين على وجه وكذا قوله سبحانه : إن هذا لفي الصحف الأولى والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر وقيل : على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لأعجازه يشهد لنفسه بذلك وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة وعلى تقدير كون الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فسر المثل بموسى عليه السلام
(26/11)
والفاء في قوله تعالى : فآمن أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتبا على شهادته له بمطابقته للوحي ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر بأدنى التفات وقوله تعالى : واستكبرتم أأي عن الإيمان معطوف على ما أشرنا إليه على شهد شاهد وجوزكونه معطوفا على آمن لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفا على الشرط ولا تكرار في استكبرتم لأن الأستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها وقوله تعالى : إن الله لا يهدي القوم الظالمين
10
- أي الموسومين بهذا الوصف استئناف بياني في مقام التعليل للأستكبار عن الإيمان ووصفهم بالظلم للأشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولا أرأيتم محذوفان أيضا لدلاله المعنى عليهما والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين والجواب فقد ظلمتم وقال ابن عطية : في أرأيتم يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولا ويحتمل أن تكون جملة إن كان الخ سادة مسد مفعوليها وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء ورده أبو حيان بأن الجملة الأستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدمت على الفاء وإلا تأخرت ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة فآمن وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد وقوله سبحانه : إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقيل : التقدير فمن المحق منا ومنكم ومن المبطل وقيل : تهلكون وقيل : هو فآمن واستكبرتم أي فقد آمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان وأكثرها كما ترى
والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن سيرين والضحاك وعكرمة في رواية ابن سعد وابن عساكر عنه وفي الكشف في جعله شاهدا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية وتحقيقه أنه نزل سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف شهد وما بعده على قوله تعالى : كان من عند الله وكفرتم ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه : كما أنزلنا على المقتسمين أي أنذر قريشا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية ومصب الإلزام في قوله تعالى : فآمن كأنه قيل : أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس ففيه الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الإيمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الإيمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالما بما في التوراة وهذا يصلح جوابا مستقلا من غير نظر إلى الأول فافهم وقول من قال : الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ عبد الله خصوصا وعلى الوجهين لا بد من تأويل قول سعد وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل وشهد شاهد بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل : هو من النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى
وتعقب قوله : إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكبتها وكون
(26/12)
الشاهد ابن سلام لمكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه السلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال : أبيتم فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلقه فقال : كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منكولا من أبيك ولا من جدك قال : فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا : كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا ابن سلام فأنزل الله تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل الآية وروي حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر وهو أيضا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال : يا رسول الله ابعث إليهم يعني اليهود فاجعل بينك وبينهم حكما من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة و السلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليا فقال لهم : اختاروا رجلا من أنفسكم يكون حكما بيني وبينكم قالوا : فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون : لنشهد أنه رسول الله وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه قل أرأيتم الآية وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادةالشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان والذي رأيته في الإستيعاب في ترجمة عبد الله أنه ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله والله تعالى أعلم
ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها لم ير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في المدينة وأسلم إذ قذفها عليه الصلاة و السلام أو قبل وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي فما أكذب اليهود أبهتهم لعنهم الله تعالى وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن وطائفة مثلها
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة و السلام وقد تقدم أنه كان يدعى مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول : إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد وأريد عدم إرادة الخصوص بأن شاهد في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم وأنا أقول : بكون التنوين في
(26/13)
شاهد للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام والخطابات فيها مطلقا لكفار مكة وربما يظن عن بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك وهم المعنيون أيضا بالذين كفروا في قوله تعالى : وقال الذين كفروا إلى آخره وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة : للذين آمنوا أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في قال الذين كفروا للحق
وقيل : هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم : لو كان أي ما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم من القرآن وقيل : الإيمان خيرا ما سبقونا إليه ولولاه لقالوا بسبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة أخرى من المؤمنين أي قالوا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم
وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الألتفات وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له وكون المشافهين طائغة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار وصهيب وبلال وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني ولذا قالوا : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة فكان رضي الله تعالى عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها وقال الذين كفروا الآية ولعلهملم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث وقال أبو المتوكل : أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك وقال الكلبي والزجاج قال ذلك بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حينأسلم ابن سلام وأصحابه منهم ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون قال فيها كنادي في قوله تعالى : ونادى أصحاب الأعراف وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم وإذ لم يهتدوا به أي بالقرآن وقيل : بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم و إذ على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل عليه السابق واللاحق أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم واستكبارهم وقوله تعالى : فسيقولون هذا إفك قديم
11
- أي يتحقق منهم هذا القول والطعن حينا فحينا كما يؤذن بذلك صيغة المضارع مسبب عن العناد والأستكبار وإذا جاز مثل حينئذ الآن أي كان ذلك حينئذ وأسمع الآن بدليل قرينة الحال فهذا أجوز والإشارة إلى القرآن العظيم وقولهم : ذلك فيه كقولهم : أساطير الأولين ولم يجوز أن يكون فسيقولون عاملا في الظرف لتدافع دلالتي المضي والأستقبال وإنما لم يجعله من قبيل فسوف يعلمون إذ الأغلال نظما للمستقبل في سلك المقطوع كما اختاره ابن الحاجب في الأمالي لأن المعنى ههنا كما في الكشف على أن عدم الهداية محقق واقع لا أنه سيقع البتة ألا ترى إلى قوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا بعد ما بين استكبارهم وعنادهم كيف ينص على
(26/14)
أنهم مجادلون معرضون عن القرآن وتدبره غير مهتدين ببشائره ونذره
وقال بعضهم : الظرف معمول لسيقولون والفاء لا تمنع عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما ذكره الرضي والتسبب المشعرة به عن كفرهم و سيقولون بمعنى قالوا والعدول إليه للأشعار بالأستمرار وتعقب بأن ذلك مع السين بعيد وقيل : إذ تعليلية للقول وتعقب بأنه معلل بكفرهم كما آذنت به الفاء وقدر بعضهم العامل المحذوف قالوا ما قالوا ورجحه على التقديرالسابق وليس براجع عليه كما لا يخفى على راجح ومن قبله أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى : كتاب موسى قدم للأهتمام وجوز الطبرسي كون كتاب معطوفا على شاهد والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله وجعل ضمير قبله للقرآن أيضا وليس بشيء أصلا وقوله سبحانه : إماما ورحمة حال من الضمير في الخبر أو من كتاب عند من جوز الحال من المبتدأ وقيل : حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إماما وهو كما ترى
والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتديبه في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى بالأمام ورحمته من الله سبحانه لمن آمن به وعمل بموجبه وقوله تعالى : وهذا أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون كتاب مبتدأ خبر وقوله عز و جل : مصدق نعت كتاب وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية وقريء مصدق لما بين يديه والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة وأيا ما كان فالكلام رد لقولهم : هذا إفك قديم وإبطال له والمعنى كيف يصح كونه إفكا قديما وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية وقوله تعالى : لسانا عربيا حال من ضمير كتاب المستتر في مصدق أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة وعامله على الأول مصدق وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الأشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا كما دل على أنه حق على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى
هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحيانا ينكرون إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام مطلقا وفي الكشف وجه تقديم الخبر في قوله تعالى : ومن قبله كتاب موسى أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إماما ورحمة كأن إنزال التوراة كذلك وليس من تقديما لأختصاص بل لأن العناية والأهتمام بذكره ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الأعتراض من حال كتاب موسى عليه السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وإن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول وهو بالحقيقة إعادة للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دل فيه على أن كونه مصدقا كاف شهد شاهد بني إسرائيل أولا وإن قيل : نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل : ومن قبله لا من بعده لكان وجها موفي فيه حق الأختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية
(26/15)
وجوز كون لسانا مفعولا لمصدق والكلاك بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة و السلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقا وإعجازه وجوز على المفعولية كون هذا إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ويراد بلسانا عربيا القرآن ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم والأصل وهو مصدق لسانا عربيا وقيل : هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى وقرأ الكلبي ومن قبله بفتح الميم كتاب موسى بالنصب وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعلم قدر وكذا كتاب أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى
لينذر الذين ظلموا متعلق بمصدق وفيه ضمير للكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة و السلام ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء وشيبة والأعرج وأبي جعفر وابن عامر ونافع وابن كثير في رواية لتنذر بتاء الخطاب فإنه لا يصلح بدون تكلف لغير الرسول والتعليل صحيح على الكل ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز وبشرى للمحسنين
12
- عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل وقال الزمخشري : وتبعه أبو البقاء هو محل النصب معطوف على محل لينذر لأنه مفعول له وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر والنصب ناشيء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه وحكى في إعرابه أوجها فقال : قيل معطوف على مصدق وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى وقيل : منصوب بفعل محذوف معطوف على ينذر أي ويبشر بشرى وقيل : منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى والظاهر أن المحسنين في مقابلة الذين ظلموا والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنون وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى المحسنين ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا : ربنا الله ثم استقاموا وقيل : المحسنين دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى : الذين ظلموا ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والأستقامة في الدين التي هي منتهى العمل و ثم للتراخي الرتبي فالعمل متراخي الرتبة عن التوحيد وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه فلا خلاف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون
13
- من فوات محبوب والمراد استمرار النفي والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الأبتداء فلا تدخل في خبرليت ولعل وكان وإن كانت أسماؤها موصولات وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسيره ما ذكرنا فليراجع أولئك الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين أصحاب الجنة خالدين فيها حال من المستكن في أصحاب وقوله تعالى : جزاء منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء والجملةاستئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى : أولئك أصحاب الجنة في معنى جازيناهم بما كانوا يعملون
14
- من الحسنات والقابلية ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا نزلت كماأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
(26/16)
إلى قوله تعالى : وعد الصدق الذي كانوا يوعدون
وإحسانا قيل : مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى ألزمنا وقيل : منصوب على المصدر على تضمين وصينا معنىأحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا وقيل : صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان وقيل : مفعول لهأي وصيناه بهما لأحساننا إليهما وقال ابن عطية : إنه منصوب على المصدر الصريح و بوالديه متعلق بوصينا أو به وكأنه عني يحسن إحسانا وهو حسن لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجارب إحسانا بأنه لا يصلح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول : أحسنت لزيد ولا تقول : أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون أحكامه مختصا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الأسم الجامد فيه باعتبار المعنى المصدري وقد قالوا : إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياءإليه
والجار والمجرور محمول عليه وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كلا تأخذكم بهما رأفة ومعرفة نحو فلما بلغ معه السعي وتأويل كل ذلك تكلف وأيضا قوله : لأن أحسن لا يتعدى بالباء الخ فيه منع ظاهر وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال : وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا ولعل التنوين للتفخيم أي إحسانا عظيما والإيصاء والصوية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم : أرض واصية متصلة النبات ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأن وقتها لأول وقتها وعد عقولهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز و جل والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدا وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقىالسمع وهو شهيد
وقرأالجمهور حسنا بضم الحاءوإسكان السيم أي فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى إحسانا فالأقوال السابقة تجري فيه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى حسنا بفتح السين وعن عيسى حسنا بضمهما
حملته أمه كرها ووضعته كرها أي ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد والحسن وقتادة وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تجد له ثقلا وقرأ شيبة وأبو جعفر والحرميان كرها بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف وقيل : المضموم اسم والمفتوح مصدر
وقال الراغب : قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال : لا تحسنهذه القراءة لأن الكره بالفتح الغضب والغلبة وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراآت بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه وحمله وفصاله أي مدة حمله وفصاله وبتقدير هذا المضاف يصح حمل قوله تعالى : ثلاثون شهرا على المبتدأ من غير كره
والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة
(26/17)
ويعقوب والجحدري وفصله أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى وقيل : الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهي بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنهلا يفيد ذلك وفي الوصف تطويل و والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها ولذا أعتني الشارع ببرها فوق الأعتناء ببر الأب فقد روي أن رجلا قال : يا رسول الله من أبر قال : أمك قال : ثم منقال : أمكقال : ثم من قال : أمك قال : ثم منقال أباك وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك واستدلبها علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة من العلماء على أن أقل مدةالحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى : حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء قال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت أمرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك
وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه وقال ابن سينا في الشفا : بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحملولدا نبتت أسنانه وحكى عن أرسطو أنه قال : أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة أشهرة وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر وتحقق ارتباط حكم النسب بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لم يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به حتى إذا بلغ أشده غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله وبلغ أربعين سنة الظاهر أنه بلوغ الأشد وقال بعضهم : إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد
وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد وفي الحديث إن الشيطان يجر يده من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول يأبى وجه لا يفلح وأخرج أبو الفتح الأزدي من طرق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار وعلى ذلك قول الشاعر : إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر وقيل : لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين وذهب الفخر إلى خلافه مستدلا بأن عيسى ويحيى عليهما السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما وهو ظاهر كلام السعد حيث قال : من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام إلى آخر ما قال
وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا آتيناه الحكم صبيا بأنهما أخبار عما سيحصل لهما
(26/18)
لا عما حصل بالفعل ومثله كثير في الآيات وغيرها والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوع وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن إتباع الصغير وإن كبر فضلا كالرقيق والأنثى وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبي ناصص قال رب أوزعني أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله وقرأ البزي أوزعني بفتح الياء أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم وقيل : إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى واعترض على التعليل بابن عمر وأسامة بن زيد وغيرهما ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب : إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلى الله تعالى عليه وسلم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبيء وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال : رب أوزعني الخ وأن أعمل صالحا ترضاه التنوين للتفخيم والتكثير والمراد بكونه مرضيا له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الأعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالما من غوايء لعدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك : وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية وأصلح لي في ذريتي أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم كما في قوله :
فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي على أن أصلح نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي وقيل : عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي الطف بي في ذريتي والأول أحسن قال ابن عباس : أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه ودعا أيضا فقال أصلح لي ذريتي فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إني تبت إليك عما لا ترضاه أو يشغل وإني من المسلمين
15
- الضين أخاضوا أنفسهم لك أولئك إشارة إلى الإنسان والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالمعنى المحكي عنه وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو درجته أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة
الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا من الطاعات فإن المباح حسن لا يثاب عليه ونتجاوز عن سيئاتهم لتوبتهم المشار إليها بأني تبت وإلا فعند أهل الحق أن مغفرة الذنب مطلقا لا تتوقف على توبة في أصحاب الجنة
(26/19)
كائنين في عداهم منتظمين في سلكهم وقيل : في بمعنى مع وليس بذاك وعد الصدق مصدر لفعل مقدروهو مؤكد لمضمون الجملة قبله فإن قوله سبحانه : نتقبل ونتجاوز وعد منه عز و جل بالتقبل والتجاوز
الذي كانوا يوعدون
16
- عن ألسنة الرسل عليهم السلام وقريء يتقبل بالياء والبناء للمفعول و أحسن بالرفع على النيابة مناب الفاعل وكذا يتجاوز عن سيآتهم
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بالياء فيهما مبنيين للفاعل وهو ضميره تعالى شأنه و أحسن بالنصب على المفعولية والذي قال لوالديه عند دعوتهما إياه للإيمان أف لكما صوت يصدر عنالمرء عند تضجره وفيه قراآت ولغات نحو الأربعين وقد نبهنا على ذلك في سورة الإسراء واللام لبيان الؤفف له كما في هيت لك والموصول مبتدأ خبره أولئك الذين حق عليهم القول والمراد به الجنس فهو في معنى الجمع ولذا قيل : أولئك وإلى ذلك أشار الحسن بقوله : هو الكافر العاق لوالديه المنكر للبعث ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرر غير مرة وزعم مروان عليه ما يستحق أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وردت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين يعني معاوية في يزيد رأيا حسنا يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف لكما فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم أباك فسمعت عائشة فقالت : مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا كذبت والله فيه فنزلت في فلان بن فلان
وفي رواية تقدمت رواها جماعة وصححها الحاكم عن محمد بن زياد أنها كذبته ثلاثا ثم قالت : والله ما هو به تعني أخاها ولو شئت أن اسمي الذي أنزلت فيه لسميته إلى آخر ما مر وكان ذلك من فضض اللعنة أغاضة لعبد الرحمن وتنفيرا للناس عنه لئلا يلتفتوا إلى ما قاله وما قال إلا حقا فأين يزيد الذي تجل اللعنة عنه وأين الخلافة
ووافق بعضهم كالسهيلي في الأعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعبير لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره والإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول أتعداني أن أخرج أبعث من القبر بعد الموت وقرأ الحسن وعاصم وأبو عمرو في رواية وهشام أتعداني بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وقرأ نافع في رواية وجماعة بنون واحدة وقرأ الحسن وشيبة وجعفر بخلاف عنه وعبد الوارث عن أبي عمرو وهارون بن موسى عن الجحدري وبسام عن هشام أتعدانني بنونين من غير أدغام ومع فتح الأولى كأنهم فروا من اجتماع الكسرتين والياء ففتحوا للتخفيف وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط وقال بعضهم : فتح نون التثنية لغة رديئة وهون الأمر هنا الأجتماع وقرأالحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك أخرج مبنيا للفاعل من الخروج وقد خلت القرون من قبلي أي مضت ولم يخرج منها أحد ولا بعث فالمراد إنكار البعث كما قيل :
(26/20)
ما جاءنا أحد يخبر أنه في جنة لما مضى أو نار وقال سليمان الدمشقي : أراد وقد خلت القرون من قبلي مكذبة بالبعث فالكلام كالأستدلال على نفي البعث
وهما يستغيثان الله أي يقولان : الغياث بالله تعالى منك والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجا إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال : العياذ بالله من كذا أو يطلبان من الله عز و جل أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث ويلك آمن أي قائلين أو يقولون له ذلك أصل ويل دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن ما هو مرتكب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثا على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه وقيل : إن ذلك لأن فيه إشعارا بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه وأيا ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك إن وعد الله حق أي البعث إضافة الوعد إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على خطئه في إسناد الوعد إليهما وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد أن بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق ورجح الأول بأن فيه توافق القرائتين فيقول مكذبا لهما ما هذا الذي تسميانه وعد الله تعالى إلا أساطير الأولين
17
- أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة أولئك القائلون ذلك وقيل : أي صنف هذا المذكور بناء على زعم خصوص الذي وليس بشيء
الذي نحق عليهم القول وهو قوله تعالى لإبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقد مر تمام الكلام في ذلك ورد بهذا على من زعم أن الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر لأنه رضي الله تعالى عنه أسلم وجب عنه ما قيل وكان من أفاضل الصحابة ومن حق عليه القول هو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا
وقيل : الحكم هنا على الجنس فلا ينافي خروج البعض من أحكامه الأخروية وقيل : غير ذلك مما لا يلتفت إليه
في أمم قد خلت من قبلهم في مقابلة أصحاب الجنة فهو مثله إعرابا ومبالغة ومعنى وقوله تعالى : من الجن والإنس بيان للأمم إنهم جميعا كانوا خاسرين
18
- قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رءوس أموالهم باتباع الشيطان والجملة تعليل للحكم بطريق الأستئناف وقرأ العباس عن أبي عمرو أنهم بفتح الهمزة على تقدير لأنهم واستدل بقوله عز و جل : في أمم قد خلت الخ على أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس وفي البحر قال الحسن في بعض مجالسه : الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت ولكل من الفريقين المذكورين في قوله تعالى : أولئك الذين نتقبل عنهم وفي قوله سبحانه : أولئك الذين حق عليهم القول وإن شئت فقل في الذين قالوا ربنا الله والذي قال لوالديه أف درجات مما عملوا أي من جزاء ما عملوا فالكلام بتقدير مضاف والجار والمجرور صفة درجات و من بيانية أو ابتدائية و ما موصولة أي من الذين عملوه من الخير والشر أو مصدرية أي من عملهم الخير والشر ويجوز أن تكون من تعليلية بدون تقدير مضاف والجار والمجرور كما تقدم والدرجات جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود ودركا إذا اعتبرت بالحدود ولهذا قيل : درجات الجنة ودركات النار
(26/21)
والتعبير بالدرجات كما قال غير واحد على وجه التغليب لاشتمال كل على الفريقين أي لكل منازل ومراتب سواء كانت درجات أو دركات وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به لا سيما وقد ذكر جزااؤهم مراراوجزاء المقابل مرة وليوفيهم أعمالهم أي جزاء أعمالهم والفاعل ضميره تعالى وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه لنوفيهم بنون العظمة وقرأ السلمي يتاء فوقية على الإسناد للدرجات مجازا وهم لا يظلمون
19
- بنقص ثواب وزيادة عقاب وقد مر الكلاام في مثله غير مرة والجملة حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أي يعذبون بها من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا عرضت الناقة على الحوض فإن معناه أيضا كما قالوا : عرضت الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروف أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحوه وههنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الأعتبار وفي الأنتصاف إن كان قولهم : عرضت الناقة على الحوض مقلوبا فليس قوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار كذلك لأن الملجيء ثم اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك : عرضت الأسرى على الأمير وربما يقال : لا مانع من تنزيلها منزلة المدرك إن لم تكن حينئذ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري : إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرض عن الماء فاشتاقت إليها المناهل وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب وقال أبو حيان لا ينبغي حمل القرآن على القلب إن الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر وإذا كان المعنى صحيحا واضحا بدونه فأي ضرورة تدعو إليه والمثال المذكور لا قلب فيه أيضا فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرص أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرضت الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور وأنت تعلم مما ذكرنا أولا أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه وأن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف أن العرض مطلقا لا يقتضي ذلك وإنما المقتضى له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعروض يتحرك إلى المعروض عليه قال أنه الأصل ومن لم ينظر إلى الأعتبار وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلا من القولين على الأصل وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا
(26/22)
الأعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس
والظرف منصوب بقوله تعالى : أذهبتم طيباتكم إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم في حياتكم الدنيا باستيفائها واستمعتم بها فلم يبق لكم بعد شيء منها وهو عطف تفسير لأذهبتم وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والحسن والأعرج وابن كثير آذهبتم بهمزة بعدها مدة مطولة وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام ز زابن كثير في رواية زعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف والأستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاما محضالم تدخل الفاء في قوله سبحانه : فاليوم تجزون عذاب الهون أي الهوان وكذلك قريء بما كنتم في الدنيا تستكبرون في الأرض بغير الحق بغير استحقاق لذلك وقد مر بيان سر في الأرض وبما كنتم تفسقون
20
- أي تخرجون من طاعة الله عز و جل أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين وفي البحر أريد بالأستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب وقريء تفسقون بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف أخرج سعيد بن منصور ز وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهما فقال ما هذا الدرهم قال : أريد أن أشتري به لأهلي لحما قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية أذهبتم طيباتكم حياتكم الدنيا واستمعتم بها
وأخرج ابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو نعيم في الحلية عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوما بزيت وربما وافقناه مأدوما بسمن وربما وافقناه مأدوما بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض أي الطري وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه : إني والله ما أجهل عن كراكر واسمنة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوما بأمر فعلوه فقال عز و جل : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسمنة جمع سنام معلاوف والصلاء بالكسر والمدالشواء والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضا وقيل : هي الحملان المشوية وقيل : اللحم المشوي المنضج وأنشدوا الجرير : يكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالصلائق والصناب وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت
(26/23)
أنهلم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبي من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلون طيباتهم في حياتهم الدنيا والمسح بكسر فسكون ثوب من شعر غليظ والقلبي تثنية قلب بضم فسكون السوار والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب اليمانية فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو أطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز
قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلى الله عليه و سلم في معرفة بين الأمة وفي البحر بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا قال ابن عباس رضي عنهما : وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة أو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه فاليوم تجزون عذاب الهون ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء بهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه و سلم : واذكر لكفار مكة أخا عاد هودا عليه السلام غ نذر قومه بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم بالأحقاف جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن قاله ابن زيد وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما بين عمان ومهرة وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام وقال ابن إسحاق : مساكنهم من عمان إلى حضرموت وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت أرم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في أرم وبيان الحق فيها
وقد خلت النذر أي الرسل كما هو المشهور وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر
وجوز كون النذر جمع نذير بمعنى الإنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه من بين يديه أي من قبله عليه السلام ومن خلفه أي من بعده وقريء به ولو لا ذلك لجاز العكس والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه فمعنى من خلفه من بعد إنذاره وعطف من خلفه أي من بعده على ما قبله إما من باب
علفتها تبنا وماء باردا
وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلتالنذر من بين يديه وتأتي من خلفه وقيل إنه مشاكلة وقيل : إنه من قبيل الإستعارة بالكناية وإما لأدخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز وجوز أن
(26/24)
يقال : المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين والجملة إما حال من فاعل أنذر أي إذ أنذر معلما إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بأعلامه إياهم وهو قريب من أسلوب قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل وهي حال أيضا على تفسير ابن عباس وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله وأما اعتراض بين المفسر أعني أنذر قومه وبين المفسر أعني قوله تعالى : ألا تعبدوا إلا الله فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل : واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيها على أنه إنذار ثابت قديما وحديثا اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى : واذكر ويؤكد قوله سبحانه : انذر قومه ولذلك توسط وهو أيضا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالا فإنه حينئذ قيد تابع وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف وجوز بعضهم العطف على أنذر أي واعلمهم بذلك وهو كما ترى وجعلت أن مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله
إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم
21
- صفة يوم وعظمه مجاز عن كونه مهولا لأنه لازم له وكون اليوم مهولا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليلي للنهي ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم قالوا أجئتنا استفهام توبيخي لتأفكنا أي لتصرفنا كما قال الضحاك من الإفك بمعنى الصرف وقيل : أي لتزيلنا بالإفك وهو الكذب عن آلهتنا أي عن عبادتها فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك في الدنيا إن كنت من الصادقين
22
- في وعدك بنزوله بنا قال إنما العلم أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك عند الله وحده لا علم لي بوقت نزوله والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله لأنه لو قدر عليه وأراده كان له به في الجملة فنفي علمه المدلول عليه بالحصر نفي لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عز و جل ويدعو به
وبهذا التقرير علم مطابقة جوابه عليه السلام لقولهم : أئتنا فيأتيكم به في وقته المقدر له وأبلغكم ما أرسلت به من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إذ تنتهوا عن الشرك وقرأ أبو عمرو أبلغكم من الإبلاغ
ولكن أراكم قوما تجهلون
23
- شأنكم الجهل ومن آثار ذلك أنكم تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب والفاء في قوله تعالى : فلما رأوه عارضا فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه وضمير النصب قيل راجع إلى ما في بما تعدنا وكون المرئى هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة وجوز الزمخشري أن يكون مبهما يفسره عارضا وهو إما تمييز وإما حال ثم قال : وهذا الوجه أعرب أبين وأظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول في الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعدم الإبهام والإيضاح غب التعمية
وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب نحو ربه رجلا لقيته وفي باب نعم
(26/25)
وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره قلا نعلم أحدا ذهب إليه وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضمير اولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء ومنه قول الشاعر : يامن رأى عارضا أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد وقول الأعشى يامن رأى عارضا قد بت أرمقه كأنما البرق في حافاته الشعل مستقبل أوديتهم أي متوجه أوديتهم وفي مقابلتها وهي جمع واد وأفعلة في جمع فاعل الاسم شاذ نحو ناد وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى : قالوا هذا عارض ممطرنا ولذلك وقعا صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الأختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة
بل هو ما استعجلتم به أي من العذاب والكلام على إضمارالقول قبله أي قال هود بل هو الخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قريء كذلك وقدره بعضهم قل بل هو الخ للقراءة به أيضا والأحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو الخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى وقريء بل ما استعجلتم أي بل هو وقرأ قوم مااستعجلتم بضم التاء وكسر الجيم ريح بدل من ما أو من هو أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو ريح فيها عذاب أليم
24
- صفة ريح لكونه جملة نكرة وكذا قوله تعالى تدمر أي تهلك كل شيء من نفوسهم وأموالهم أو مما أمرت بتدميره بأمر ربها ويجوز أن يكون مستأنفا وقرأ زيد بن علي تدمر بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم وقريء كذلك أيضا إلا أنه بالياء ورفع كل على أنه فاعل يدمر وهو من دمر دمارا أي هلك والجملة صفة والعائد محذوف أي بها أو الضمير من ربها ويجوز أن يكون استئنافا كما في قراءة الجمهور وأراد البيان أن لكلم مكن وقتا منوطا بأمر بارئه لا يتقدم ولا يتأخر ويكون الضمير من ربها لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عز و جل ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم فصيحة أي فجأتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وجعلها بعضهم فاء التعقيب على القول بإضمار القول مسندا إليه تعالى وادعى أنه ليس هناك قول حقيقة بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريث وهو كما ترى وقرأ الجمهور لا ترى بتاء الخطاب إلا مساكنهم بالنصب والخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى إلا مساكنهم أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم وقرأ أبو رجاء ومالك بن دينار بخلاف عنهما والجحدري والأعمش وابن أبي إسحاق والسلمي لا ترى بالتاء من فوق مضمومة إلا مسكنهم بالرفع وجمهور النحاة على أنه لا يجوز التأنيث مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول ذي الرمة :
(26/26)
كأنه جمل هم وما بقيت إلاالنحيزة والألواح والعصب وقول الآخر وعزاه ابن جني لذي الرمة أيضا : بري النحز والأجرال ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع وبعضهم يجيزه مطلقا وتمام الكلام فيه في محله وقرأ عيسى الهمداني لا يرى بضم الياء التحتية إلا مسكنهم بالتوحيد والرفع وروي هذا عن الأعمش ونصر بن عامر وقريء لا ترى بتاء فوقية مفتوحة إلا مساكنهم مفردا منصوبا وهو الواحد الذي أريد به الجمع أو مصدر حذف مضافه أي آثار سكونهم كذلك أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي القوم المجرمين
25
- أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى فلما رأوه الآية أول ما عرفوا أنه عذاب ما رأوا ما كان خارجا من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوا لهم أنين فأمر الله تعالى الريح فكشف عنهم الرمل وطرحتم في البحرفهو قوله تعالى : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم
وروي أن أول من أبصر العذاب امرأة منهم رأت ريحا فيها كشهب النار وروي أن هودا عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع وعن ابن عباس أنه عليه السلام اعتزل ومن معه حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين به الجلود وتلذه الأنفس وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وكانت كما أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عمرو بن ميمون تجيء بالرجل الغائب ومر في سورة الأعراف مما يتعلق بهم ما مر فارجع إليهم إن أردته ولما أصابهم من الريح ما أصابهم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو إذا عصفت الريح
أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وعبد بن حميد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا أخليت السماء تغير لونه صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذ امطرت سرى عنه فسألته فقال عليه الصلاة و السلام : لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا ولقد مكناهم أي قررنا عادا وأقدرناهم و ما في قوله تعالى : فيما إن مكناكم فيه موصولة أو موصوفة و إن نافية أي في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمال وسائر مباديء التصرفات كما في قوله تعالى : وكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ولم يكن النفي بلفظ ما كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلط المعنى ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ما ماعلى أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فرارا من كراهة التكرار وعابوا على المتنبي قوله : لعمرك ماما بان منك لضارب بأقتل مما بان منك لعائب أي ما الذي بان الخ يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب وذلك للضارب وكان يسعه أن يقول : إن ما بان وإدخال الباء للنفي لا للعمل على أن أعمال إن قد جاء عن المبرد وقيل : إن شرطية محذوفة
(26/27)
الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وقيل : إنها صلة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية فهي في الآية مثلها في قوله : يرجى المرء ما أن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في مواضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الأعتبار وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما خلقتله ويعرفوا بكل منهاما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شئون منعمها عز و جل ويداوموا على شكره جل شأنه فما أغنى عنهم سمعهم حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل ولا أبصارهم حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم ولا أفئدتهم حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى من شيء أي شيئا من الإغناء و من مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل
وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل و ما في ما أغنى نافية وجوز كونها استفهامية وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة من في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح ورد بأنهم قالوا : تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والأستفهام وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدركبه وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر وأيضا مسموعهم من الرسل متحد
إذ كانوا يجحدون بآيات الله ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى : ما أغنى وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازا لاستواء مؤدي الظرف والتعليل في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى يلحق بمعانيهما الوضعية وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون
26
- من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الأستهزاء ويقولون : فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصاديق ولقد أهلكنا ما حولهم يا أهل مكة من القرى كحجر ثمود وقرى قوم صالح والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها لقوله تعالى : وصرفنا الآيات أي كررناها لعلهم يرجعون
27
- وأمر ما سهل والترجي مصروف لغيره تعالى أو لعل للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة فلو لا نصرهم فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه الذي اتخذوا أي آلهتهم الذين اتخذوهم
من دون الله قربانا آلهة والضمير الذي قدرناه عائدا هو المفعول الأول لاتخذوا و ىلهة هو المفعول الثاني و قربانا بمعنى متقربا بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقربا بها إلى الله عز و جل حيث كانوا يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى و هؤلاء شفعاؤنا عند الله وفي الكلام تهكم بهم
وأجاز الحوفي كون قربانا مفعولا من أجله وأجاز هو أيضا وابن عطية ومكي وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لاتخذوا وجعل آلهة بدلا منه وقال في الكشاف : لا يصح ذلك لفساد المعنى ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال : تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به وأراد كما في الكشف
(26/28)
أنه إذا جعل مفعولا ثانيا يكون المعنى فلو لا نصرهم اتخذوهم قربانا بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قربانا إليهم وهو معنى فاسد واعترض عليه بجعل دون بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى : وادعوا شهداءكم من دون الله وبأنه قد قيل : إن قربانا مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الأتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه واتخاذهم قربانا ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عز و جل ويقربوهم إليه سبحانه فزمان الأتخاذ ليس زمان التقرب البتة وحينئذ إن كان مستقرا حالا لزم ما لزم في الأول
ولا يجوز أن يكون معمول قربانا لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملا كالقارورة وإن كان فيها معنى القرار وفيه نظر وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الأمتناع على أن قوله تعالى بعد بل ضلوا الخ ينادي على فساد ذلك ارفع النداء وقال بعضهم في امتناع كون قربانا مفعولا ثانيا و آلهة بدلا منه : إن البدل وإنكان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم : اتخذوهم من دون الله قربانا أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله تعالى في ذلك وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال : الله تعالى يتقرب به أي يرضاه تعالى والتوسل به جل وعلا وقال الطيبي إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة علة زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل
وقريء قربانا بضم الراء بل ضلوا عنهم أي غابوا عنهم وفيه تهكم بهم أيضا كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور وذلك أي ضلال آلهتهم عنهم إفكهم أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم وما كانوا يفترون
28
- أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثرما كانوا يفترونه على الله عز و جل وقيل : ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الأتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف وقرأ ابن عباس في رواية أفكهم بفتح الهمزة والإك والأفك مصدران كالحذر والحذر وقرأ ابن الزبير والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان بن مرة ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضا أفكهم بثلاث فتحات على أن إفك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الأتخاذ أي ذلك الأتخاذ صرفهم عن الحق وما كانوا قيل على عطف ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها
وأبو عياض وعكرمة أيضا كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير وابن الزبير أيضا وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه آفكهم بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل وحكى في البحر أنه قريء أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك وقرأ ابن عباس فيما روي قطرب وأبو الفضل الرازي آفكهم اسم فاعل من إفك أي وذلك الأتخاذ صارفهم عن الحق وقريء وذلك إفكمما كانوا يفترون والمعنى ذلك بعض
(26/29)
ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالأفك بمعنى الأختلاق فلا تغفل
وإذا صرفنا إليك نفر من الجن أي أمهلناهم إليك ووجهناهم لك والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة في المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال والأخذ من النفير لا يدل على الأختصاص بهم بل ولا بالناس لأطلاقه على الجن هنا
والجار والمجرور صفة نفرا وقوله تعالى : يستمعون القرآن حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع ولذا قريء صرفنا بالتشديد للتكثير و إذ معمولة لمقدر لا عطف على أخاذ عاد أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرا من الجن مقدرا استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجعلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث أنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به من جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وآمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب ووقوعها أثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكي عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضا كما قال تعالى : قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل أن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد وسيأتي في حقيقتهم
فلما حضروه أي القرآن عند تلاوته وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز وقيل : الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند تلاوته له ففيه التفات قالوا أي قال بعضهم لبعض أنصتوا اسكتوا لنسمعه وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم فلما قضي أتم وفرغ عن تلاوته وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله قضى بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأيد بذلك عود ضمير حضروه إليه عليه الصلاة و السلام
ولوا إلى قومهم منذرين
29
- مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم فقيل : إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام وقيل : من نينوى وهي أيضا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو وأصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة و السلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا
(26/30)
له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم
وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا : أنصتوا فلما قضى وفرغ صلى الله تعالى عليه وسلم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن
وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلى الله تعالى عليه وسلم بهم شجرة وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة ثلاثة من أهل حران وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسي ومسي وشاصر وماصر والأردوانيان وسرق والأحقم بميم آخره وفي رواية عن كعب الأحقب بالياء وذكر صاحب الروض بدل حسي ومسي ومنشيء وناشيء
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر : كانوا تسعه عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رسلا إلى قومهم والخبر السابق يدل على أنه صلى الله عليه و سلم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن علقمة قال قلت لابن مسعود : هل صحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد قال : ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا : استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فهذا يدل على أنه عليه الصلاة و السلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم
وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال : قمت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة الجن وأخذت أداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال : فخط لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال : قم ههنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال لي : هل معك من وضوء قلت : نعم ففتحت الأداوة فإذا هو نبيذ فقلت : ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت : من هؤلاء يا رسول الله قال : جن نصيبين فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن وقد أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن الخبر أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك فقد أخرج أبو نعيم والواقدي عن كعب الأحبار قال : انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والأردوانيان والأحقب جاءوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لساعة من الليل بالحجون
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية : هم اصثنا عشر ألفا من جزيرة الموصل وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضا وأن السورة التي قرأها صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم اقرأ باسم ربك ونقل في
(26/31)
البحر عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة و السلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال : فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا : لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد وأخرج أبو نعيم في الدلائك والواقدي عن أبي جعفر قال : قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة وفي معناه ما قيل : كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مكث بمكة يوحي إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر
وقيل : كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء قالوا أي عند رجوعهم إلى قومهم يا قومنا إنا سمعنا كتابا جليل الشأن أنزل من بعد موسى ذكروه دون عيسى عليهما السلام لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن وكان عيسى عليه السلام مأمور بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله وقال عطاء : لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذا قالوا ذلك وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه السلام وانتشار أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن ومن هنا قال أبو حيان : إن هذا لا يصح عن ابن عباس مصدقا لما بين يديه من التوراة أو جمع الكتب الإلهية السابقة يهدي إلى الحق من العقائد الصحيحة وإلى طريق مستقيم
30
- من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص
يا قومنا أجيبوا داعي الله أرادوا به ما سمعوه من الكتاب ووصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالعداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا به أي بداعي الله تعالى أو بالله عز و جل يغفر لكم من ذنوبكم أي بعض ذنوبكم قيل : وهو ما كان خالص حقه عز و جل فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان وتعقبه ابن المنير بأن الحربي إذا نهب الأموال وسفك الدماء ثم حسن إسلامه جب إسلامه إثم ما تقدم بلا إشكال ثم قال ويقال : إنه لم يرد وعد المغفرة للكافرين على تقدير الإيمان في كتاب الله إلا مبعضة وهذا منه فإن لم يكن لإطراده كذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافرين قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة جملة الذنوب وقد ورد في حق المؤمنين كثيرا ورده صاحب الأنصات بأن مقام ترغيب الكافر في الإسلام بسط لا قبض وقد أمر الله تعالى أن يقول لفرعون : قولا لينا وقد قال تعالى : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وهي غير مبعضة و ما للعموم لا سيما وقد وقعت في الشرط
وقال بعض أجلة المحققين : إن الحربي وإن كان إذا أسلم لا تبقى عليه تبعة أصلا لكن الذمي إذا أسلم تبقى عليه حقوق الآدميين والقوم كما نقل عن عطاء كانوا يهودا فتبقى عليهم تبعاتهم فيما بينهم إذا أسلموا جميعا من غير حرب فلما كان الخطاب معهم جيء بما يدل على التبعيض وقيل : جيء به لعدم علم الجن بعد بأن الإسلام يجب إثم ما قبله مطلقا وفيه توقف وقد يقال : أرادوا بالبعض الذنوب السالفة ولو لم يقولوا ذلك لتوهم المخاطبون أنهم إن أجابوا داعي الله تعالى وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر وقيل : من زائدة أي يغفر لكم ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم
31
- معد للكفرة وهذا ونحوه يدل على أن الجن
(26/32)
مكلفون ولم ينص ههنا على ثوابهم إذا أطاعوا وعمومات الآيات تدل على الثواب وعن ابن عباس لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها ولعل الأقتصار هنا ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب والمقام مقام الإنذار فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب وقيل : لا ثواب لمطيعيهم إلا النجاة من النار فيقال لهم : كونوا ترابا فيكونون ترابا وهذا مذهب ليث بن أبي سليم وجماعة ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال النسفي في التيسير : توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل
وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمنين الجن حول الجنة في ربض وليسوا فيها وقيل : يدخلون الجنة ويلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذة ما يصيبه بنو آدم من لذائذهم قال النووي في شرح صحيح مسلم : والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما وهذا مذهب الحسن البصري ومالك ابن أنس والضحاك وابن أبي ليلى وغيرهم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض إيجاب للأجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال : يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة
وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب منأقطار أو دخل في أعماقها وقوله تعالى : وليس له من دونه أولياء بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى من فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد على الآحاد ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عامر أنه قرأ وليس لهم بضمير الجمع فإنه لمن باعتبار معناها وكذا الجمع في قوله سبحانه : أولئك بذلك الأعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعي الله في ضلال مبين
32
- أي ظاهر كونه ضلالا بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه أو لم يروا الهمزة للإنكار والواو على أحد القولين عطف على مقدر دخله الأستفهام يستدعيه المقام والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن أي لم يتعب بذلك أصلا من عيي كفعل بكسر العين ويجوز فيه الإدغام بمعنى تعب كأعيا وقال الكسائي : أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز والتحير في الأمر وأنشدوا : عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامة أي لم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه واختار بعضهم عدم الفرق وقرأ الحسن ولم يعي بكسر العين وسكون الياء ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة كما قالوا في بقي بفتح القاف وألف بعدها وهي لغة طيء ولما بنى الماضي على فعل مفتوح العين بني مضارعه على يفعل مكسورها فجاء يعيي فلما دخل الجازم حذف الياء فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين فسكنت الياء وقوله تعالى : بقادر في حيز الرفع لأنه خبر أن
(26/33)
والباء زائدة فيه وحسن زيادتها كون كا قبلها في حيز النفي وقد أجاز الزجاج ما ظننت أن أحدا بقائم قياسا علىهذا قال أبو حيان : والصحيح قصر ذلك على السماع فكأنه قيل هنا : أو ليس الله بقادر على أن يحيي الموتى ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى : بلى إنه على كل شيء قدير
33
- تقريرا للقدرةعلى وجه عام يكون كالبرهان على المقصود ولذا قيل : إن هذا مشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول فكأنه قيل : أحياء الموتى شيء وكل شيء مقدور له فينتج أن أحياء الموتى مقدور له وبلزومه أنه تعالى قادر على أن يحيي الموتى
وقرأ الجحدري وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج بخلاف عنه ويعقوب يقدر بدل بقادر بصيغة المضارع الدال على الأستمرار وهذه القراءة على ما قيل موافقة أيضا للرسم العثماني
ويوم يعرض الذين كفروا على النار ظرف عامله قول مضمر مقوله تعالى : أليس هذا بالحق أي ويقال : يوم يعرض الخ والظاهر أن الجملة معترضة وقيل : هي حال والتقدير وقد قيل وفيه نظر وقد مر آنفا الكلام في العرض بطوله والإشارة إلى ما يشاهدونه حين العرض من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه وقيل : هي إلى العذاب بقرينة التصريح به بعد وفيه تهكم بهم وتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده وقولهم : وما نحن بمعذبين
قالوا بلى وربنا تصديق بحقيقته وأكد بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالأعتراف بحقية ذلك كما في الدنيا وإني لهم وعن الحسن أنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل
قال قذفوا العذاب بما كنتم تكفرون
34
- بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا ومعنى الأمر الإهانة بهم فهو تهكم وتوبيخ وإلا لكان تحصيلا للحاصل وقيل : هو أمر تكويني والمراد إيجاب عذاب غير ما هم فيه وليس بذاك والفاء في قوله تعالى : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة فاصبر وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف هذه الجملة على أخبار في الآخرة وقال : المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل : هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تحف إلا الله عز و جل والعزم يطلق على الجد والأجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه و من بيانية كما في فاجتنبوا الرجس من الأوثان والجار والمجرور في موضع الحال من الرسل فيكون أولوا العزم صفة جميعهم وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي فاصبر كما صبر الرسل المجدون والمجتهدون في تبيليغ الوحي لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز و جل عليهم بواسطة أو بدونها وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبي ومقاتل وقتادة وأبي العالية وابن جريج وإليه ذهب أكثر المفسرين أن من للتبعيض فألوا العزم بعض الرسل عليهم السلام واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال فقال الحسن بن الفضل : ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام لأنه سبحانه قال بعدذكرهم : فبهداهم أقتده وقيل : تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلا وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد
(26/34)
به من الذبح ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء وموسى عليه السلام قال له قومه : إنا لمدركون فقال : إن معنى ربي سيهدين وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يصنع لبنة وقال : إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها وقيل : سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام وقيل : ستةوهم الذين أمرو بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال : هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويعقوب ويوسف وأيوب وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعب وموسى عليهم السلام
وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال وقول الجلال السيوطي : إن أصحهاالقول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر وابن عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال : أولو العزم نوح والخليل الممجد وموسى وعيسى والحبيب محمد مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسي نبينا عليه الصلاة و السلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلى الله تعالى عليهم وسلم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة و السلام أن يصبر كصبر نفسه ولا يكاد يصح ذلك وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح وإبراهيم وهود ورسول الله صلى الله عليه و سلم رابع لهم ولعل الأولى في الآبة القول الأول وإن صار أولوا العزم بعد مختصا بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقا كما صبر أخوانك الرسل قبلك ولا تستعجل لهم أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم كأنهم يوم يرون ما يدعون من العذاب لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يسيرة من نهار لما يشاهدون من شدة العذاب وطوا مدته وقرأ أبي من النهار وقوله تعالى : بلاغ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة وأيد تفسير بلاغ بتبليغ بقراءة أبي مجلز وأبي سراج الهذلي بلغ بصيغة الأمر له صلى الله تعالى عليه وسلم وبقراءة أبي مجلز أيضا في رواية بلغ بصيغة الماضي من التفعيل واستظهر أبو حيان كون الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى : متاع قليل وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ خبره قوله تعالى : لهم السابق فيوقف على ولا تستعجل ويبتدأ بقوله تعالى : لهم وتكون الجملة التشبيهيةمعترضة بين المبتدأ والخبر والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب وهو ضعيف جدا لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر تعلق لهم بتستعجل وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى بلاغا بالنصب بتقدير بلغ بلاغا أو بلغنا بلاغا أو نحو ذلك وقرأ أيضا بلاغ بالجر على أنه نعت لنهار
فهل يهلك إلا القوم الفاسقون
35
- الخارجون عن الأتعاظ أو عن الطاعة وفي الآية من الوعيد والإنذار
(26/35)
ما فيها وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه يهلك بفتح الياء وكسر اللام وعنه أيضا يهلك بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها وقرأ زيد بن ثابت نهلك بنون العظمة من الإهلاك القوم الفاسقين بالنصب وهذه الآية أعني قوله تعالى : كأنهم إلى ألآخرجاء في بعض الآثار ما يشعر بأن لها خاصيةمن بين آي هذه السورة وأخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إليه إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين
سورة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
وتسمى سورة القتال وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى : وكأين من قرية إلى آخره فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليه وقال : أنت أحب بلاد الله تعالى إلي وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولو لا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعني ما نزل في سفر الهجرة من المكي اصطلاحا كما كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان ابن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام وعدة آيها أربعون في البصري وثلاثونفي الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما والخلاف في قوله تعالى : حتى تضع الحرب أوزارها وقوله تعالى : لذة للشاربين ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآهر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : نزلت سورة محمد آية في بني أمية ولا أظن صحة الخبر نعم لكفار بني أمية الحظ الأوفر من عمومات الآيات التي في الكفار كما أن لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم المعلى والرقيب من عمومات الآيات التي في المؤمنين وأكثر من هذا لا يقال سوى أني أقول : لعن الله تعالى من قطع الأرحام وآذى الآل
بسم الله الرحمن الرحيم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد قال في الكشف : والأول أظهؤ لأن الصد عن سبيل الله هو الإعراض عما أتى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى : قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله فيطابق قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد زكثير من الآثار تؤيد الثاني وفسر الضحاك سبيل الله ببيت الله عز و جل وقال : صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك
(26/36)
والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة وقال ابن عباس : هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في صدوا المطعمون يوم بدر الكبرى وكأنه عني من يدخل في العموم دخولا أوليا فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل وأول من أطعم منهم على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الأبل ثم صفوان ابن أمية نحر تسعا بعسفان ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عتبة بن ربيعة نحر عشرا ثم مقيس الجمحي بالأواء نحر تسعا ثم العباس نحر عشرا والحرث بن عامر نحر تسعا وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا ومقيس تسعا ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم وقيل : كانوا ستة نفر نبيه ومنبه ابنا الحجاج وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والحرث ابنا هشام وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل وحكيم بن حزام وزمعة بن الأسود والعباس بن عبد المطلب وصفوان بن أمية وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يوما الأحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا ينافي عد أبي سفيان أن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت وقال مقاتل : وهم اثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرنهم بالكفر وقيل : هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام
والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : أضل أعمالهم
1
- أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلا لا بمعنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه عز و جل حكم ببطلانها وضياعها أو أريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم
وجوز أن يكون المعنى جعلوها أضلالا أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد ومن قال الآية في المطعمين وأضرابهم قال : المعنى أبطل جل وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كالأنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة و السلام وغيره بنصر رسوله صلى الله عليه و سلم وإظهار دينه على الدين كله ولعله أوفق بما بعده وكذا بما قيل أن الآية نزلت ببدر
والذين آمنوا وعملوا الصالحات قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار وفسر رضي الله تعالى عنه الذين كفروا بأهل مكة قريش وقال مقاتل : هم ناس من قريش وقيل : مؤمنوا أهل الكتاب وقيل : أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص وآمنوا بما نزل على محمد من القرآن وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وأنه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى : وهو الحق من ربهم وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى : ذلك الكتاب وقولك : حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الصابت وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة و السلام لكونه ناسخا لا ينسخ
(26/37)
وهذا يقتضي الأعتناء به ومنه جاء التأكيد وأيا ما كان فقوله تعالى من ربهم حال من ضمير الحق وقرأ زيد بن علي وابن مقسم نزل مبنيا للفاعل والأعمش أنزل معدي بالهمزة مبنيا للمفعول وقريء أنزل بالهمز مبنيا للفاعل ونزل بالتخفيف كفر عنهم سيآتهم أي سترها بالإيمان والعمل الصالح والمراد أن الها ولم يؤاخذهم بها وأصلح بالهم
2
- أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد وتفسير البال بالحال مروي عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضا أو ماله خطر وعليه قول الراغب : البال الحال التي يكترث بها ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : كل امر ذي بال الحديث ويكون بمعنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه وهو كما في البحر أيضا مما لا يثنى ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بالات ذلك إشارة إلى ما مر من الأضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الخق والمراد بالحق معناهما المشهور
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد تفسير الباطل بالشيطان وفي البحر قال مجاهد : الباطل الشيطان وكل ما يأمر به و الحق هو الرسول والشرع وقيل : الباطل ما لا ينتفع به وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف و بأن الخ في محل نصب على الحال والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبسا بهذا السبب
والعامل في الحال إما معنى الإشارة وإما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأن مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكابا للحذف من غير داع له والجار والمجرور أعني من ربهم في موضع الحال على كل حال والكلام أعني قوله تعالى : ذلك بأن إلى قوله سبحانه : من ربهم تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول ويسميه علماء البيان التفسير ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه
به الفرسان فوق خيولهم كما فجعت تحت الستور العواتق تساقط من أيديهم البيض حيرة وزعزع عن أجيادهن المخانق فإن فيه تفسيرا على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام كذلك أي مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله أي يبين للناس أي لأجلهم أمثالهم
3
- أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيب والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والأضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق لعمل المؤمنين وتكفير السيآت مثلا لفوزهم والأشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق وجوز كون ضمير أمثالهم للناس والفاء في قوله تعالى : فإذا لقيتهم الذين كفروا لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم
(26/38)
وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب فضرب الرقاب وقال الزمخشري : لقيتم من اللقاء وهو الحرب و ضرب نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل اضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدمالمصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك مما أضيف إلى معموله وأجيب وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو وليس منها نحو ضربا زيدا على ما نص عليه ابن عصفور
وذكر غير واحد أن فيماذكر اختصارا وتأكيدا ولا كلام في الأختصار وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد وقال الحمصي في حواشي التصريح : إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار بمنزلة الفعل الذي سد مسده فلا يكون مؤكدا بل كل مصدر صار بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكدا ولا مبينا لنوع ولا عدد و ضرب الرقاب مجاز مرسل عن القتل وعبر به عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن تصويرا له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين أنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب حتى إذا أثخنتموهم أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلط مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة والمراد حتى إذا أكثرتم قتلهم وتمكنهم من أخذ من لم يقتل فشدوا الوثاق أي فأسروهم واحفظوهم فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد إثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدى لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراحونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه والإثخان عليه مجاز أيضا و الوثاق في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به وقريء الوثاق بالكسر وهو اسم لذلك ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به ولعل المراد بيان المراد هنا
فإما منا بعد وإما فداء أي فأما تمنون منا وإما تفدون فداء والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق وحذف الناصب للمصدر في مثل ذلك وأجيب أيضا ومنه قوله : لأجهدن فأما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل وجوز أبو البقاء كون كل من منا و فداء مفعولا به لمحذوف أي أو لو هم منا أو أقبلوا منهم فداء وليس كما قال أبو حيان إعراب نحوي وقرأ ابن كثير في رواية شبل وأما فدى بالفتح والقصر كعصا وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فأديته قال الشهاب : ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى وفي الكشف نقلا عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبينه على الكسر إذا جاور لام الجر خاصة لأنه اسم فعل بمعنى الدعاء وأنشد الأصمعي بيت النابغة
مهلا فذاءلط
وهذا الكسر مع التنوين
(26/39)
كما صرح به في البحر وظاهر الآية على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال : أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يقتله فقال ابن عمر : ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى : حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء وفي حكم الأسارى خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتا منها تخاطب النبي صلى الله عليه و سلم : ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المعيط المحنق ولأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجيء كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئا وإن شاء أسترقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد إلا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالأسلام ولكن يجوز استرقاقهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الإستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم ولا يفادي بالأسارى في أحدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأمنه يعود الأسير الكافر حربا علينا ودفع حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط والضرر أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين
والرواية الأخرى عنه أنه يفادي وهو قول محمد وأبي يوسف والإمام الشافعي ومالك وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم وهذه رواية السير الكبير قيل : وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة وقال أبو يوسف : تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها وعند محمد تجوز بكل حال ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للأنتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا يدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زبانية ترجيح
ثم أنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد وابن جرير عن عمران ابن محيصن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم أيضا عن إياس ابن سلمة عن أبيه سلمة قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الغد في السوق فقال : يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نفله أبو بكر إياها فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا ثم لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الغد في السوق فقال : يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك فقلت : هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة ولا يفادي بالأسير إذا أسلم وهو
(26/40)
بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علنيا وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة قيل : استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنفية ومالك وأحمد وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع ما ذكره ابن أبي إسحاق بسنده وأبو داود من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنائه عليهما فلما رأى النبي صلى الله عليه و سلم ذلك رق لهما رقة شديدة وقال لأصحابه : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها ففعلوا ذلك مغتبطين به ورواه الحاكم وصححه وزاد وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد أدخل عليه أن يخلي زينب إليه ففعل ومن صلى الله عليه و سلم على ثمامة أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة و السلام : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتني يعني أسارى بدر لتركتهم له فإنه صلى الله عليه و سلم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا
واستدل أيضا بالآية التي نحن فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء والظاهر أن المراد بالمن الإطلاق مجانا وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر وبعض النفوس يجد طعم الالاء أحلى من هذا المن
وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوخة بقوله تعالى : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة
والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور وقال العلامة ابن الهمام : قد يقال إن ذلك يعني ما في سورة براءة في حق غير الأسارى بدليل جواز الأسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم وما ذكره في جواز الأسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب حتى تضع الحرب أوزارها أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره قال الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود موضونة تساق إلى الحرب عيرا فعيرا وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية ويجوز أن يكون في الحرب استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا وكلام الكشاف أميل
(26/41)
إليه وقيل : هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزا في النسبة الإضافية وتغليبا لها على الكراع وإسناد الوضع للحرب مجازي أيضا وليس بذاك وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلا والمراد حتى تنقضي الحرب وقال : يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله :
فألقت عصاها واستقر بها النوى
فإنه كني به عن انقضاء السفر والإقامة وقيل : الأوزار جمع وزر بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي وتضع بمعنى تترك مجازا وإسناده للحرب مجاز أو بتقدير مضاف والمعنى حتى تضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار بمعنى الآثام إلى الحرب و حتى عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله : غاية للضرب والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب وليس هذا بدلا من الأول ولا تأكيدا له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معا أو للمجموع من قوله تعالى : فضرب الرقاب الخ بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وقيل : بنزول عيسى عليه السلام وروي ذلك عن سعيد بن جبير والحسن وفي الحديث ما يؤيده أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة ابن نفيل قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل فقال : يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولا تزال الخيل معقودافي نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج وهي عند من يقول : لا من ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر يجعل تعريفه للعهد والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس
وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل ذلك أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى : فضرب الرقاب الخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى ههنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم ولو يشاء الله لانتصر منهم لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف ولكن ليبلو بعضكم ببعض ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر مالهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعالجهم عز و جل ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه واللام متعلقة بالفعل المقدر الذي ذكرناه والذين قتلوا في سبيل الله استشهدوا
وقرأ الجمهور قاتلوا أي جاهدوا والجحدري بخلاف عنه قتلوا بفتح القاف والتاء بلا ألف وزيد ابن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى والجحدري أيضا قتلوا بالبناء للمفعول وشد التاء
(26/42)
فلن يضل أعمالهم
4
- فلن يضيعها سبحانه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه يضل مبنيا للمفعول أعمالهم بالرفع على النيابة عن الفاعل وقريء يضل بفتح الياء من ضل أعمالهم بالرفع على الفاعلية والآية قال قتادة : كما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ أعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وإن الحرب سجال لنا عزي ولا عزي لكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقزن وأما قتلاكم ففي النار يعذبون ومنه يعلم وجه قراءة قتلوا بصيغة التفعيل سيهديهم سيوصلهم إلى ثواب تلك الأعمال من النعيم المقيم والفضل العظيم وهذا كالبيان لقوله سبحانه : فلن يضل أعمالهم أو سيثبت جل شأنه في الدنيا هدايتهم والمراد الوعد بأن يحفظهم سبحانه ويصونهم عما يورث الضلال وحبط الأعمال وهو كالتعليل لذلك ويجوز أن يكون كالبيان له أيضا
ويصلح بالهم
5
- أي شأنهم قال الطبرسي : المراد إصلاح ذلك في العقبي فلا يتكرر مع ما تقدم لأن المراد به إصلاح شأنهم في الدين والدنيا فلا تغفل ويدخلهم الجنة عرفها لهم
6
- في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه أو استئناف كما قال أبو البقاء والتعريف في الآخرة أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال : يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله تعالى لهم منها لا يخطؤن كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا وفي الحديث لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا وذلك بإلهام منه عز و جل وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال : بلغنا أن الملك الذي كان بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه
وورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا له إلى منزله فيها وقيل : إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف وقيل : تعريفها تحديدها يقال : عرف الدار وأرفها أي حددها أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة وقيل : أي شرفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها وعن ابن عباس في رواية عطاء وروي عن مؤرج أي طيبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة ههنا ومنه طعام معرف أي مطيب وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل وعن الجبائي أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وعلى هذا المراد قيل : اشتقاقه من قبل رؤيته كما تهوى الجنان بطيب الأخبار يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله أي دينه ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا على أن الكلام هلى تقدير مضاف بل أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة فنصرته سبحانه نصرة رسوله إذ هو جل شأنه وعلا المعين الناصر وغيره سبحانه المعان المنصور ينصركم على أعدائكم ويفتح لكم ويثبت أقدامكم
7
- في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام والمراد يقويكم أو يوفقكم للدوام على الطاعة
(26/43)
وقرأالمفضل عن عاصم ويثبت مخففا والذين كفروا فتعسا لهم من تعس الرجل بفتح العين تعسا أي سقط على وجهه وضده انتعش أي قام من سقوطه وقال شمر وابن شميل وأبو الهيثم وغيرهم : تعس بكسر العين ويقال : تعسا له ونكسا على أن الأول كما قال ابن السكيت بمعنى السقوط على الوجه والثاني بمعنى السقوط على الرأس وقال الحمصي في حواشيه على التصريح : تعس تعسا أي لا نتعش من عثرته ونكسا بضم النون وقد تفتح إما في لغة قليلة وإما اتباعا لتعسا والنكس بالضم عود المرض بعد النقه ويراد بذلك الدعاء وكثر في الدعاء على العاثر تعسا له وفي الدعاء له أي انتعاشا وإقامة وأنشدوا قول الأعشى يصف ناقة : كلفت مجهولة نفسي وشايعني همي عليها إذا ما آلها لمعا بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أولى لها من أن أقول لعا وقال ثعلب وابن السكيت أيضا التعس الهلاك ومنه قول مجمع بن هلال : تقول وقد أفردتها من حليلها تعست كما أتعستني يا مجمع وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والأنحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت : تعست كمنع وإذا حكيت قلت : تعس كسمع ويقال : تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعيا فيجري الأمثال إذا قصد به ذلك والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلا فنحو تعسا له جملتان
وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد ولابن هشام كلام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك
واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة فقال ابن عباس : أي بعدا لهم وابن جريج والسدي أي حزنا لهم والحسن أي شتما لهم وابن زيد أي شقاء لهم والضحاك أي رغما لهم وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم وقال غير واحد : أي عثورا وانحطاطا لهم وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الأقدام في حق المؤمنين وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك
وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين الأول كونه مفعولا مطلقا لفعل محذوف كما تقدم والثاني مفعولا به لمحذوف أي فقضي تعسا لهم وقدر على الأول القول أي فقال : تعسا لهم والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل الذين مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبرا له وهي لأنشاء الدعاء والإنشاء لا يقع خبرا بدون تأويل فأما أن يقدر معها قول أو تجعل خبرا بتقدير قضي وجعل قوله تعالى : وأضل أعمالهم
8
- عطفا على ما قدر
وفي الكشف المراد من قال : تعسا لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولا وذلك لأنه لا يدعى على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عز و جل وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس ولم يجعل العطف على تعسا لأنه دعاء و أضل أخبار ولو جعل دعاء أيضا عطفا على تعسا على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى
وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضا فإن قيل بصحة الأخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغني عما قاله بالكلية ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط
(26/44)
وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب لتعسا أي اتعس الله الذين كفروا او تعس الله الذين كفروا تعسا لما سمعت عن القاموس وقد حكى أيضا عن أبي عبيدة والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى : وربك فكبر ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط وقيل : يقدر الفعل مضارعا معطوفا على قوله تعالى : يثبت أي ويتعس الذين الخ والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس ونظيره قوله تعالى : وإياي فارهبون أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال وفيه مقال
ذلك أي ما ذكروا من التعس والإضلال بأنهم بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى : والذين كفروا الخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولا أوليا لذلك فأحبط لأجل ذلك أعمالهم
9
- التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها وذكر الإحباط مع ذكر الأضلال المراد هو منه إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال أفلم يسيروا في الأرض أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبيء عن أخبارهم وقوله تعالى : دمر الله عليهم استئناف بياني كأنه قيل : كيف كانت عاقبتهم فقيل : أهلك ما يختص من النفس والأهل والمال يقال : دمره أهلكه ودمر عليه أهلك ما يختص به فدمر عليه أبلغ من دمره وجاءت المبالغة من حذف المفعول وجعله نسيا منسيا بكلمة الأستعلاء وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه وللكافرين أي لهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أمثالها أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة وقيل : يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كان يستخفونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل أشد من الهلاك بسبب عام وقيل : المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل : دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها ذلك إشارة إلى ثبوت أمثال عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء وقيل : إشارة إلى النصر وهو كما ترى بأن الله مولى الذين آمنوا أي ناصرهم على أعدائهم وقريء ولي الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم
11
- فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب ولا يناقض هذا قوله تعالى : ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق لأن المولى هناك بمعنى المالك فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية والذين كفروا يتمتعون أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل ويأكلون كما تأكل الأنعام الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما
(26/45)
يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبها أكل الأنعام وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلا مثل أكل الأنعام والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم وقوله تعالى : والنار مثوى لهم
12
- أي موضع إقامة لهم حال مقدر من واو يأكلون
وجوز أن يكون استئنافا وكان قوله تعالى : يتمتعون ويأكلون في مقابلة قوله سبحانه : وعملوا الصالحات لما فيه من الإيماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين وقال بعض الأجلة : في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيا وذكر التمتع والمثوى ثانيا دليلا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى : والنار مثوى لهم وخولف بين الجملتين فعلية وإسمية للإيذان بسبق الرحمة والأعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون
وكأين بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ وقوله تعالى : من قرية تمييز لها وقوله سبحانه : هي أشد قوة من قريتك صفة لقرية كما أن قوله عز و جل : التي أخرجتك صفة لقريتك وقد حذف عنهما المضاف وأجري أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى : أهلكناهم أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازا وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلى الله عليه و سلم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلى الله تعالى عليه وسلم بما عاملوه فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى له عليه الصلاة و السلام بالهجرة منها ونظير ذلك أقد مني بلدك حق لي عليك وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما ومجازا في الظرف مستعملا في معنى الحمل على القدوم واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم والشيخ يقول في مثل ذلك : إن المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التخليص وذب عنه القال والقيل وتمام الكلام هناك والكلام في الآية على طرز ذاك ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة و السلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها وعلى طريقته قول النابغة : كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم
(26/46)
وقوله تعالى : فلا ناصر لهم
13
- بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى : فأغشيناهم فهم لا يبصرون ولا نسلم أن اسم الفاعل يعمل حقيقة في الماضي والآية تسلية له صلى الله عليه و سلم فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولو لا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك فأعدي الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه وكأين من قرية الخ وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر
أفمن كان على بينة من ربه تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة الكل منهما من الحال والهمزة لإنكار استوائهما أو لأنكار كون الأمر ليس كما ذكر والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قؤيء بدونها و من عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى : كمن زين له سوء عمله عبارة عن أضدادهم من المشركين
وأخرج جماعة عن ابن عباس أن من كان على بينة من ربه هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و من زين له سوء عمله هم المشركون وروي عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه وقيل : ومثله كون من الأولى عبارة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وعن المؤمنين والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله الشيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح واتبعوا في ذلك العمل السيء وقيل : بسبب ذلك التزيين أهواءهم
14
- الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدل عليها وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى من كما أن إفراد الأولين باعتبار لفظها مثل الجنة التي وعد المتقون إلى آخره استئناف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة آنفا للمومنين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إلى جريانها من تحتها وعبر عنهم بالمتقين إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيآت والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شميل : تقديره ما تسمعون وقوله عز و جل : فيها أنهار إلى آخره مفسر له وقال سيبويه : تقديره فيما يتلى عليهم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدما وفيها أنهار الخ لذلك بيان المثل وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعي هذه الأوصاف وليس بذاك ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر وقيل : هو مذكور فقيل هو قوله تعالى : فيها أنهار الخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخبر إلى رابط
وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ مثل زائد زيادة اسم في قول من قال :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل : الجنة فيها أنهار الخ وليس بشيء : وقيل الخبر قوله تعالى الآتي :
(26/47)
كمن هو خالد في النار وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله والسلمي أمثال الجنة أي صفاتها قال ابن جني : وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا أنه قريء مثال الجنة ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به
من ماء غير آسن أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح والمصدر أسون وأسن بكسر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي وأسن الرجال بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليهأو دار رأسه ومنه قول الشاعر : قد أترك القرن مصفرا أنامله يميد في الريح ميد المائح الأسن وقرأ ابن كثير وأهل مكة أسن على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة وقرأ يسن بالياء قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه لم يمحض ولم يصر قارصا ولا حاذرا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم وأنهار من خمر لذة للشاربين أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أو مصدر نعت بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك وقرئت بالرفع على أنها صفة أنهار وبالنصب على أنها مفعول له كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا وأنهار من عسل مصفى مما يخالفه فلا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان وغيره وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها
وبدي بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغنى عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إليه ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب وقتال سعيد بن جبير : إنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل وأخرج ابن جرير عن سعد قال : سألت أبا إسحاق عن قوله تعالى : من ماء غير آسن فقال : سألت عنه الحرث فحدثني أن ذلك الماء تنسيم وقال بلغني : إنه لا تمسه يد وإنه يجيء الماء حتى يدخل الفم
وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وإنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل
وأخرج الحرث بن أبي أسمامة في مسنده والبيهقي عن كعب قال : نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخيار ونحوها ثم أنها صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية
(26/48)
لا يتعاصاها شيء ولهم فيها مع ما ذكر من فنون الأنهار من كل الثمرات أي أنواع كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى : فيهما من كل فاكهة زوجان وقيل : من زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات ومغفرة مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة وجوز أن يكون عطفا على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازا عن رضوان الله عز و جل وقد يقال : المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصرا عليه ولعله أولى مما قالوه وتنوين مغفرة للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها وقوله تعالى : من ربهم متعلق بمحذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الغخامة الذاتية الإضافية أي كائنة من ربهم وقوله عز و جل : كمن هو خالد في النار خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جري به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى : والنار مثوى لهم وجوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه : كمن زين له سوء عمله وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من علي بينة في الآخرة تقريرا لأنكار المساواة وفيه بعد وذهب جار الله إلى أنه خبر مثل الجنة وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى : أفمن كان الخ والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير وفائدة التعرية عن حرف الإنكار إن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر : أفرح إن أرزأ الكرام وإن أورث ذودا شصائصا نبلا فإن كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له : أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحت كل إنكار وجعل قوله تعالى : فيها أنهار كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود ولهذا لم يتخلل العاطف بينهما وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك و أنهار فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الإسمية حال لعدم الواو فيها وقد صرحوا بأن الأكتفاء فيها بالضمير غير فصيح واعتبارها فعلية بتقدير الظرف استقر لا يخفى حاله وقيل : في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجيء الفضلات وهي أم الإنكار وأيضا هو حال من الجنة من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضا تكلف وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني قال في الكشف : وهو الوجه والتقدير هي فيها أنهار وكأنه قيل : إنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار فالأستئناف ههنا بمنزلة قولك : وهي كذا وكذا اعتراضا لما في لفظ المثل من الإشعار بالوصف العجيب وليس خبر الجملة السابقة وهو كمن هو
(26/49)
خالد في النار مورد السؤال ليعترض بوقوع الأستئناف قبل مضيه وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن فيها أنهار جملة برأسها والجواب أن تقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا ثم حذف ولهذا قال : في السؤال كأن قائلا قال : وما مثلها ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه أمثال بالجمع فيقال : التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار ويقدر المضاف الأول جمعا للمطابقة ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل كم هو خالد خبر لمثل الجنة : هذا هو الوجه اللائح المناسب للمساق
وقال ابن المنير : في الأنتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلي ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا ليتعادل والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار ومن هذا النمط قوله تعالى : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله الخ وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك والضمير المفرد أعني هو راجع إلى من باعتبار لفظها كما أن ضمير الجمع في قوله سبحانه : وسقوا ماء حميما راجع إليها باعتبار معناها والمراد وسقوا ماء حارا مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم فقطع أمعاءهم
15
- من فرط الحرارة
وروي أنه إذا أدنى منهم شوي وجوههم وامتازت فروة رؤسهم شربوه قطع أمعاءهم وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث ومنهممن يستمع إليك هم المنافقون وإفراد الضمير باعتبار اللفظ كما أن جمعه بعد باعتبار المعنى قال ابن جريج : كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعنونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم أي لأولي العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقيل : هم الواعدون لكلامه عليه الصلاة و السلام الراعون له حق رعايته من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ماذا قال آنفا أي مالذي قال قبيل هذا الوقت ومقصودهم من ذك الأستهزاء وإن كان بصورة الأستعلام وجوز أن يكون مرادهم حقيقة الأستعلام إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ولذلك ذموا والأول أولى قيل : قالوا ذلك لابن مسعود وعن ابن عباس أنا منهم وقد سميت فيمن سئل وأراد رضي الله تعالى عنه أنه من الذين أوتوا العلم بنص القرآن وما أحسن ما عبر عن ذلك و آنفا اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي بل استأنف وأتنف وذكر الزجاج أنه من استأنفت الشيء إذا ابتدأته وكان أصل معنى هذا أخذت أنفه أي مبدأه وأصل الأنف الجارحة المعروفة ثم يسمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه وذكر غير واحد أن آنفا من ذلك قالوا : إنه للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها من الأنف بمعنى المتقدم وقد استعير من الجارحة لتقدمها على الوقت الحاضر وقيل : هو بمعنى زمان الحال وهو على ما ذهب إليه الزمخشري نصب على الظرفية ولا ينافي كونه اسم فاعل كما في باديء فإنه اسم فاعل غلب على معنى الظرفية في الأستعمال وقال أبو حيان : الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف وأوجب نصبه على الحال من فاعل قال أي ماذا قال مبتدئا أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه وإلى ذلك يشير كلام الراغب ز وقرأ ابن كثير آنفا على وزن فعل أولئك الموصوفون بما ذكر
(26/50)
الذين طبع الله على قلوبهم فعدم توجههم نحو الخير واتبعوا أهواءهم
16
- فتوجهوا نحو كل ما لا خير فيه فلذلك كان منهم ما كان
والذين اهتدوا إلى طريق الحق زادهم أي الله عز و جل هدى بالتوفيق والإلهام والموصول يحتمل الرفع على الأبتداء والنصب بفعل محذوف يفسره المذكور و هدى مفعول ثان لأن زاد قد يتعدى لمفعولين ويحتمل أن يكون تمييزا والأول هو الظاهر وتنوينه للتعظيم أي هدى عظيما وما أتيتهم تقواهم
17
- أي أعطاهم تقواهم إياه جل شأنه بأن خلقها فيهم بناء على ما يقوله الأشاعرة في أفعال العباد أو بأنخلق فيهم قدرة عليها مؤثرة في فعلها بإذنه سبحانه على ما نسبه الكوراني إلى الأشعري وسائر المحققين في أفعال العباد من أنها بقدرة خلقها الله تعالى فيهم مؤثرة بإذنه تعالى وقول بعضهم : بأن جعلهم جل شأنه متقين له سبحانه يمكن تطبيقه على كل من القولين وقال البيضاوي : أي بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها فالإيتاء عنده مجاز عن البيان أو الإعانة أو هو على حقيقته جزائها لأنها سببه أو فيه مضاف مقدر وليس في شيء من ذلك ما يأباه مذهب أهل الحق وذكر الزمخشري الثاني والثالث من ذلك واختار الطيبي الأول من هذين الأثنين وقال : هو أوفق لتأليف النظم الكريم لأن أغلب هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل فقوبل أولئك الذين طبع الله على قلوبهم بقوله سبحانه : والذين اهتدوا زادهم هدى لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر وقوله تعالى واتبعوا أهواءهم بقوله جل وعلا : وآتاهم تقواهم فيحمل على كمال التقوى وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه سبحانه بشراشره وهو التقوى الحقيقية المعنية بقوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه وفي الترفع عن متابعة الهوى النزوع إلى المولى والعزوب عن شهوات الحياة الدنيا ثم في إسناد إيتاء التقوى إليه تعالى وإسناد متابعة الهوى إليهم إيماء إلى معنى قوله تعالى حكاية : وإذا مرضت فهو يشفين وتلويح إلى متابعة الهوى مرض روحاني وملازمة التقوى دواء إلهي انتهى
وما ذكره من التقابل جار فيما ذكرناه أيضا وكذا يجري التقابل على تفسير إيتاء التقوى ببيان ما يتقون لأشعار الكلام عليه بأن ما هم فيه ليس من ارتكاب الهوى والتشهي بل هو أمر حق مبني على أساس قوي وتفسير ذلك بإعطاء جزاء التقوى مروي عن سعيد بن جبير وذهب إليه الجبائي والكلام عليه أفيد وأبعد عن التأكيد من غير حاجة إلى حمل التقوى على أعلى مراتبها وأمر التقابل هين فإنه قد يقال إن قوله تعالى اهتدوا في مقابلة اتبعوا أهواءهم وقوله سبحانه : زادهم هدى في مقابلة طبع الله على قلوبهم فليتدبر وقيل : فاعل زادهم ضمير قوله صلى الله عليه و سلم المفهوم من قوله تعالى ومنهم من يستمع إليك وقوله سبحانه : ماذا قال آنفا وكذا فاعل آتاهم أي أعانهم أو بين لهم والإسناد مجازي ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وأيضا إذا كان قوله تعالى : زادهم هدى في مقابلة قوله سبحانه : طبع الله على قلوبهم فالأولى أن يتحد فاعله مع فاعله ويجري نحو ذلك على ما قاله الطيبي لئلا يلزم التفكيم وجوز أن يكون ضميرا عائدا على قول المنافقين فإن ذلك مما يعجب منه المؤمن فيحمد الله تعالى على إيمانه ويزيده بصيرة في دينه وهو بعيد جدا بل لا يكاد يلتفت إليه
فهل ينظرون إلا الساعة أي القيامة وقوله تعالى : أن تأتيهم بغتة أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل
(26/51)
اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكير إلا إتيان الساعة نفسها وقوله تعالى : فقد جاء أشراطها أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي : فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا فقد جعلت أشراط أوله تبدو وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مباديء إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم وظاهر الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقا أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد قيل : ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لأتيان الساعة بغتة ليس إلا لبيان الواقع وقال بعض المحققين : هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور إمارات الشيء سبب لانتظاره وفي جعله تعليلا للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجيء الإشراط إلا بتأويل وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالأنتظار لأتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضا فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل وقوله تعالى : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكريهم
18
- على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجيء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤا وجحودا وفي الإرشاد وقوله تعالى : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر كقوله سبحانه : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى أي فكيف لهم ذكراهم على أن أنى خبر مقدم و ذكراهم مبتدأ و إذا جاءتهم اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة وقيل : أنى خبر مقدم لمبتدأ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة إن تأتيهم على أنه شرط مستأنف جزاؤه فأنى لهم الخ أي أن تأتيهم الساعة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها وإن هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء
وفي الكشف إذا على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين إذا جاءتهم و إن تأتهم وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذا لمجرد الظرفية
وقرأ الجعفي وهارون عن أبي عمرو بغتة بفتح الغين وشد التاء قال صاحب اللوامح : وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس ابن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر وقال الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وأن يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم
وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة والظاهر أن المراد بأشراط الساعة علاماتها التي كانت واقعة
(26/52)
وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى وأراد عليه الصلاة و السلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب الوسطى طولا فينا وهكذا فيه صلى الله تعالى عليه وسلم وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة و السلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم
وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول بعثت أنا والساعة جميعا وإن كادت لتسبقني وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلى الله عليه و سلم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقا فكثيرة الفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها ألا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتدا بها وكنزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة غير ذلك وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رؤس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقا وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وإن يوسد الأمر إلى غير أهله وإن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع إلى ما يطول ذكره
ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن وأطلع على أحوال الأزمان رأي أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول وقصارى ما ينبغي أن يقال : أن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة و السلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف أي شيء فقال والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير ولا ينبغي أن يقال : إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف : الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة عليها ألف وبني الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعث آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك
وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال : بقي منها كذا ومنهم من قال : يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال : تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى ونقله السفاريني في البحور الزاخرة في علوم الآخرة وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة أولها ما أخرجه الحكيم الترمذي
(26/53)
في نوادر الأصول بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم وساق بقية الحديث وفيه وأطولهم مكثا فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة الحديث وتعقبه السفاريني بقوله : ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم وغيره وخرجه الإسماعيلي مطولا وقال الدارقطني في كتاب المختلف : هو حديث منكر وذكر علله ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه وقد يرد عليه بأنه مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومئتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفا وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي ولا يكاد يقال : إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عز و جل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها
وحكى الشيخ محيي الدين قدس سره عن إدريس عليه السلام وقد اجتمع معه اجتماعا روحانيا وسأله عن العالم أنه قال : نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدث الذاتي ولا يدثر عندهم وذهب الملا صدر الدين الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقا بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع النبلة ويدثر مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الأثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت
ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان أدمانوس وحوانوس وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستا وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعضالإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذا من قوله تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وقوله سبحانه لا تأتيكم إلا بغتة بناء على أن عدة حروف بغتة بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل : هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوي خير الدين الرملي ويجيء آخر ويقول : هي أكثر من ذلك أيضا ويعتبر بسط الحروف على
(26/54)
نحو ما قالوا في اسم محمد صلى الله عليه و سلم إنه متضمن عدة المرسلين عليه السلام وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير فاعلم أنه لا إله إلا الله مسبب عن مجموع القصة من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى : هل ينظرون كأنه قيل : إذا علمت أن الأمر كما ذكر سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فأثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلى الله عليه و سلم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة و السلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا باطلب السعادة وقال بعض الأفاضل : إن الثبات أيضا حاصل له عليه الصلاة و السلام فأمره بذلك صلى الله عليه و سلم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده وتعقب بأن المراد بالثبات الأستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة و السلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة والأمر في قوله تعالى : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات قيل على معنى الثبات أيضا وجعل الأستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والأعتراف بالتقصير لأنه صلى الله عليه و سلم معصوم أو مغفور لا مصر ذاهل عن الأستغفار وقيل : التحقيق أنه توطئة لما بعده من الأستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة والنبي صلى الله عليه و سلم كان يكثر الأستغفار أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة وأخرج النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه و سلم في المجلس يقول : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة وفي لفظ التواب الغفور إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة
والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة و السلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين وقد ذكروا أن لنبينا صلى الله عليه و سلم في كل لحظة عروجا إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبا بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة و السلام : إنه ليغان على قلبي الحديث وفيه أقوال أخر وقوله تعالى : وللمؤمنين على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة و السلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلى الله عليه و سلم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم وقيل : وفي حذف المضاف وتعليق الأستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكان ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها وجوز بعضهم كون الأستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاما فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته
وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول : المشهور أن إلا للأستثناء والأسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر لا محذوف واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه وأجيب بمنع كونه شرطا مطلقا
(26/55)
بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وههنا قد فهمت بقرينة الأستثناء ثانيتهما أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب
وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفيا وإيجابا لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم لا لبيب على أنه لو قيل : إن البدل في الأستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه
واستشكل أمر الخبر بأنه إن قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل : ولصعوبة هذا الإشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل إلا الله مبتدأ و لا إله خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ وأيضا لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة
وقال بعض الأفاضل : لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الأعتراض كما لا يخفى وقال بعضهم : إن الخبر هو إلا الله أعني إلا مع الأسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفرده فكيف يصدق حينئذ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال : إن ذلك بناء على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد والوجه كما قيل أن يقال : إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولا لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلا حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره
وقال بعضهم : لا خبر للا هذه أصلا على ما قاله بنو تميم فيها وأورد عليه أنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال : إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا اللجنس فإذا قلنا : لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه إن تركب الكلام من الحرف والأسم مما ليس إليه سبيل وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه والشريف العلامة قدس سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناء على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفا انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة الأعلى هذا التقدير بمعنى غير لا مجال لكونها للأستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناء على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيدا لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال : إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الأستثناء لما عرفت من الفرق بين
(26/56)
الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للأستثناء لما أفاد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في أفراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلا عنه أو صفة كما في قوله : وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفردان كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء وعندي أن ما ذكر في نفي كون إلا للأستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر ثم إنه قيل : إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير أن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية أعني قولنا كل ما يعتبر فردا له سوى هذا الفرد فهو منتف ولا استبعاد في شيء من ذلك
وذهب الكثير إلى تقدير الخبر موجود وأجاب عن الأشكال بأنه يلزم نفي الأمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلا واجب الوجود فيصير المعنى لا معبود بحق موجود إلا الله وإذ ليس موجودا ليس ممكنا لأنه لو كان ممكنا لكان واجبا بناء على المقدمة القطعية فيكون موجودا وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله تعالى فلا يكون التلفظ بالكلمة نصا على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجودا بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجودا بالذات لم يكن مستحقا للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجبا لذاته
وقد قرر الجواب بوجهين آخرين الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من وجهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضروريا للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضروريا له تعالى فيكون الوجود ضروريا له سبحانه تحقيقا للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه الثاني أن لا إله موجود بالأمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالأستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة وأورد على التقريرين أنهما إنما بتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالأستثناء فلا يجري فيهما أحكام التناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي وأيضا جعل الله موجود بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل وقيل : يمكن أن يقال الخبر المقدر هو الموجود مطلقا سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى وقيل : يجوز تقديره ممكن ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن إلا له واجب الوجود وإمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم
(26/57)
اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل وقال بعضهم الخبر المقدر مستحق للعبادة فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله ولامحذور فيه واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد من خذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف وأجيب بأنها كنار على علم لأن الإله بمعنى المعبود واستحقاقها ويؤيد ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة
واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالأمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وأيضا يمكن أن يقال : المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفى إمكان إله مستحق للعبادة أيضا غيره عز و جل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل ورد بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما
وتعقب بأن فيه على أن الإله لا يكون إلا واجب الوجود وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين ومن المحققين من قال : إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا نعم ربما يقال : إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في المنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الأتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان
والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرض الأتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي وبالجملة إن الأتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة ولما كانت القضية سالبة صدقت وإن لم يوجد الموضوع ولعل التحقيق في هذا المقام أن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الأصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الله تعالى علم من ظاهر الإيمان حاله الإيمان ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة و السلام وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الأعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم
ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الأشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفي إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله
(26/58)
غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نقسه لا نفي وجوده عنه بعيد فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضا باعتبار رفع الوجود عنه وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي الماهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفي ماهية ما باعتبار نفسها وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الأتصاف به ما لا يتناهى فلا بد من الأنتهاء إلى اتصاف منتصف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعا للتسلسل وقيل : الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك وأما غيرها فتارة وتارة فتدبر و إلا على التقدير المذكور للأستثناء ورفع الأسم الجليل على ما سمعت من المشهور وقيل : هي فيه بمعنى غير صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود
واعترض بأن المقصود من الكلام أمران نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للأستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق أما إن كانت بمعنى غير فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون أثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفي به بحث لأن ذلك إن كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافا للدقاق والصيرفي من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية ومنصور بن أحمد من الحنابلة وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنفية رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلا وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عز و جل على تقدير كون إلا للأستثناء غير مجمع عليه أيضا فإن الأستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وجعل الإثبات في كلمة التوحيد بعرف الشرع وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام وماله وما عليه في كتب الأصول فلا تغفل وتمام الكلام فيما يتعلق بإعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها إما منطوقا أو بالأستلزام ومراتب أربع الأولى توحيد الألوهية الثانية توحيد الأفعال الثالثة توحيد الصفات وإن شئت قلت : توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها بعض المحققين الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت : توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم وببيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقه على ما يتبادر إلى الأذهاب وذهب إليه المعظم قصر الألوهية على الله تعالى قصرا حقيقا أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات أما الأول الذي هو قصر الحالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله عز و جل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء فإن كل من لا يكون خالقا لكل شيء لا يكون نافعا ضارا على الإطلاق وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق لأن العبادة هي الطاعة والأنقياد والخضوع ومن لا يملك نفعا ولا ضرا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد له فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلا لا يستحق أن يعبد وهو ظاهر لكن الذي يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار
(26/59)
على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا ممتنع الأنفكاك ومنتفية عن غيره كذلك وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عز و جل واجب الوجود وإن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصورا عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب و أما دلالتها على أنه عز و جل واجب الوجود فلأن الألوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقا وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتا ممتنع الأنفكاك سرمدا فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتا ممتنع الأنفكاك سرمدا ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجودا لذاته وهو المعنى بواجب الوجود لذاته وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتا مستمرا ممتنع الأنفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب
وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجودا ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقا أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجبا وجوده لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب أو يقال : إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الإحياء : كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام : يا عبيد الدنيا وقال نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم : تعس عبد الدينار نفس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له وقال في باب الزهد منه : من طلب غير الله تعالى فقد عبده وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه وقال في الباب الثالث من كتاب العلم منه كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبودا قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم : أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى انتهى
ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما في الوجود حقيقة إلا الله : ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عز و جل بوجه آخر وهو أن إلا بمعنى غير بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجها إلى الغير ونفي الغير توحيد عندهم وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتب التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام : وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت من قالها صادقا من قلبه دخل الجنة وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة و السلام قال : لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر وكذا الحيث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم السلام وجاء من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله
(26/60)
دخل الجنة أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا وبالجملة إن فضلها لا يحصى وأنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى وقد ألقت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك
بقي ههنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونه شرعيا أو عقليا أما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد : لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور ويتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا إن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأي الأصحاب وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال أما كون النظر مقدورا فظاهر وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به وظاهر كلام السيد السند في شرح المواقف إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضا والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره والعضد في شرحه وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع والجلال المحلى في شرحه وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه : محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات البينات بقوله : إن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله عالى غير مسلم عند الشارح وغيره ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقوله : كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما يجب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله : ووجود الباري تعالى الخ يتعلق بمعرفته عز و جل إلى آخر ما قال نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي والآمدي : إنه يجب لالنظر في مسائل الأعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى وقالوا في ذلك لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : فاعلم أنه لا إله إلا الله وقد علم ذلك وقال تعالى للناس : واتبعوه لعلكم تهتدون ويقاس عير الوحدانية عليها ولا يتم الأستدلال إلا بضم توقف حصول السقين على النظر وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسئلة ثانيها قول العنبري إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لها لأنه عليه الصلاة و السلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه
والمراد أنه عليه الصلاة و السلام كان يكتفي بذلك نظرا إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الأذعان تحكي الحال الواقعية ولا شك أن لا إله إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لموضمونهما على وجه الأذعان وعدم كونه معتقدا في نفس الأمر احتمال عقلي والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب وثالث الأقوال أنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرم النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلا والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطا لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف فيفهم من بعض
(26/61)
عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطا لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الأشتراط عن طائفة من المتكلمين مع رده
وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الأشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري وقال التاج السبكي : التحقيق أنه إن كان التقليد أخذا بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول : إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير إثم لحصول المقصود ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليدا أو ضرورة فالنظر عليه متعين ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها
ويكفي دليلا للصحة اكتفاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كأجلاف العرب وإن أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له ولو كان الأستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما عملوا سائر الواجبات ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين ولم ينقل أنهم أمروا أحدا منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة و السلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان ويشهد لذلك ما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم أي العوام وأجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبرج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها وحكاية الأعرابي أن كانت مسوقة للأستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة والجلال المحلى ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال : إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة و السلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم : اجعل الآلهة
(26/62)
الها واحدا أن هذا لشيء عجاب
إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقول بعضهم في بعض الحروب : أعل هبل أعل هبل وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال : إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال ثالثهما أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلى الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض أنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا تعقبه العلامة الكوراني فقال : فيه بحث أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السماوات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليست من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول : إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل ناظر مصيبا فإذا لم يكن موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول : ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا : ممنوع لقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للأسلام وقد روي مرفوعا أنه صلى الله عليه و سلم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة و السلام : نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح فصرح صلى الله عليه و سلم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه
وفي الباب المائة والأثنين والسبعين والمائة والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة : من أشد الناس غلوا وانحرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيا إذ ظهر من عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد لا بل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده تارة بتنبه في الباطل لا يمكن التعبير
(26/63)
عنه وتارة رؤيا في المنام وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته وتارة بقرينة حال فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم جاحدا له منكرا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال : والله ما هذا وجه كذاب وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم وجاء آخر فقال : أنشدك الله بعثك الله نبيا فقال صلى الله عليه و سلم : بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الإعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإن الله تعالى عالمبعلم وقادر بقدرة كلاهما زائل عن الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين ولست أقول : لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال : والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها أه
وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلى الله عليه و سلم فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة و السلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى الله عليه و سلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا لإإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في شرح المقاصد من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا وقد صرحوا أن التكليف بما ليس بإختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الأختيارية وإن التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الأختياري فالأيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به وما مراد السعد ومن
(26/64)
وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنهامكلف بها كما يشير إليه قوله : ولا مخرج عنه لأحد من المكلفين وكون ذلك مكلفابه باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الأستعداد لأفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر نعم لست أنكر إن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمي نحو هذه المعرفة تقليدية وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه وأذهب إلى أن النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشيء عن الأستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلم من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب وكما يحتمل عقلا أن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم به قبل عروض شبهة ولعل هذا الأحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع
وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الأستدلال بقوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم : إن العلم لا يحصل بالنظر وقد سمعت ما فيه ويقوي ذلك إذا قلنا : إن علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والأستمرار على ما هو صلى الله تعالى عليه وسلم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم وقد يقال : يجوز أن يكون الأستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث أنه أمر بالعلم بالوحدانيةفلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه باعتبار ما يحصل هو منه والظاهر أنه النظر
وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الأعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة وأما النظر في معرفة الله تعالى أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا فقيل : يتعين أن يكون المراد به النظر في الألة العقلية فقط ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقا إليها لاستلزامه الدور وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم به وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها صادقا في دعواه الرسالة وعلمه بذلك
(26/65)
موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقا له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلها على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيا عالما مريدا قادرا وهو من معرفة الإله سبحانه فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة و السلام لزم الدور كما ترى نعم إذا قيل : إن المكلف بعد ما آمن بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واعتقد اعتقادا جازما بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاما صحيحا لا غبار عليه ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة و السلام لأن التحصيل من حيث أن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة و السلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم
والله يعلم متقلبكم في الدنيا ومثواكم
19
- في الآخرة وخص المتقلب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائما نحو معاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جل شأنه به والترهيب عما ينهاهم عز و جل عنه على طريق الكناية وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض وقال الطبري : وغيره : متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم وقيل : متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منازلكم وقيل : تقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار
واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة ونحوه ما قيل : المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها
وقرأ ابن عباس متقلبكم بالنون ويقول الذين آمنوا حرصا على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون لو لا نزلت سورة أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد فلو لا تحضيضية وعن ابن مالك أن لا زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء
فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال أي بطريق الأمر به والمراد بمحكمة مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة وقيل : محكمة بالحلال والحرام
وقريء نزلت سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع سورة على الفاعل
وقرأ زيد بن علي نزلت كذلك إلا أنه نصب سورة محكمة وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة و سورة محكمة نصب على الحال وقرأ هو وابن عمير وذكر مبنيا للفاعل وهو ضميره تعالى
(26/66)
القتال بالنصب على أنه مفعول به رأيت الذين في قلوبهم مرض أي نفاق وقيل : ضعف في الدين ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره والمراد تشخص أبصارهم جنبا وهلعا وقيل : يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة و السلام وقيل : من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون : لو لا أنزلت سورة في معنى الجهاد فإذا أنزلت وأمر فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى : فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس والظاهر ما ذكرناه أولا من أن القائلين هم الذين أخلصوا في إيمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمر المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم وقد جوز هو أيضا إرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولا عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهرمقام المضمر وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى : لو لا أنزلت سورة إنزال سورة مطلقا حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ وروي نحوه عن ابن جريج أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية : كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك الخ
فأولى لهم
20
- تهديد ووعيد على ما روي عن غير واحد وعن أبي علي أن أولى فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أوليل وهو غير منصرف للعلمية والوزن فالكلام مبتدأ وخبر
واعترض بأن الويل غير متصرف فيه ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصول البتة وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه ثم قيل : إن الأشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله : تكلفني ليلى وقد شط وليها واعادت عواد بيننا وخطوب يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل : هلاكا أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك وهذا كما غلب بعداا وسحقا في الهلاك وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به وفي الصحاح عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد
فعادى بين هاديتين منها وأولي أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد قال ثعلب : ولم يقل أحد في أولي أحسن مما قاله الأصمعي وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق وقريب منه ما قيل : إنه فعل ماض وفاعله ضميره عز و جل واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عز و جل الهلاك لهم والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي ومن فسره بقرب جوز الأمرين وقيل : هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر وقيل : هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر وقال الرضي : هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه والتركيب مبتدأ وخبر أيضا واستدل بما حكى أبو زيد من قولهم : أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل
(26/67)
فعلى وأنه علم وليس بفعل ثم قال : بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم يتصرف وليس اسم فعل أيضا بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنيا مثله وتعقب بأنه لا مانع من كون أولاة لفظا آخر بمعناه فلا يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلا وجاء أول أفعل تفضيل وظرفا كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان وقيل : الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدأ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير ههنا العقاب أولى لهم وروي ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى : طاعة وقول معروف كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين أما الخبر وتقديره خير لهم أو أمثل وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل وإما لمبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة أي الأمر المرضي لله تعالى طاعة وقيل : أي أمرهم طاعة معروفة وقول معروف أي معلوم حاله أنه خديعة وقيل : هو حكاية قولهم قبل الأمر بالجهاد أي قالوا أمرنا طاعة ويشهد له قراءة أبي يقولون طاعة وقول معروف وذهب بعض إلى أن أولي أفعل تفضيل مبتدأ و لهم صلته واللام بمعنى الباء وطاعة خبر كأنه قيل فأولى بهم من النظر إليك نظر المغشي عليه من الموت طاعة وقول معروف وعليه لا يكون كلاما مستقلا ولا يوقف على لهم ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل : إن طاعة صفة لسورة في قوله تعالى فإذا أنزلت سورة والمراد ذات طاعة أو مطاعة وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لحيولة الفصل الكثير بين الصفة والموصوف فإذا عزم الأمر أي جد والجد أي الأجتهاد لأصحاب الأمر إلا أنه أسند إليه مجازا كما في قوله تعالى : إن ذلك من عزم الأمور ومنه قول الشاعر :
قد جدت الحرب بكم فجدوا
والظاهر أن جواب إذا قوله تعالى : فلو صدقوا الله وهو العامل فيها ولا يضر اقترانه بالفاء ولا تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها في مثله كما صرحوا به وهذا نحو إذا جاء الشتاء فلو جئتني لكسوتك وقيل : الجواب محذوف تقديره فإذا عزم الأمر كرهوا أو نحو ذلك قاله قتادة وفي البحر من حمل طاعة وقول معروف علىأنهم يقولون ذلك خديعة قدر فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا ولعل من يجعل القول السابق للمؤمنين في ظاهر الحال وهم المنافقون جوز هذا التقدير أيضا وقدر بعضهم الجواب فأصدق وهو كما ترى وأيا ما كان فالمراد فلو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد ولعلهم أظهروا الحرص عليه كالمؤمنين الصادقين وقيل : في قولهم : طاعة وقول معروف وقيل : في إيمانهم لكان أي الصدق خيرا لهم
21
- مما ارتكبوه وهذا مبني على ما في زعمهم من أن فيه خيرا وإلا فهو في نفس الأمر لا خير فيه
فهل عسيتم خطاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الألتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع وهل للأستفهام والأصل فيه أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي أن تفسدوا في الأرض وتطعوا أرحامكم تناحرا على الولاية وتكالبا على جيفة الدنيا والمتوقع كل من يقف على حالهم إلا الله عز و جل إذ لا يصح منه سبحانه ذلك والأستفهام أيضا بالنسبة إلى غيره جل وعلا فالمعنى إنكم لما عهد منكم من الأحوال الدالة على الحرص على
(26/68)
الدنيا حيث أمرتهم بالجهاد الذي هو وسيلة إلى ثواب الله تعالى العظيم فكرهتموه وظهر عليكم ما ظهر أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف حالكم يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض الخ
وفسر بعضهم التولي بالإعراض عن الإسلام لازم أي فهل عسيتم أن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب في الإعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد ويؤيد الأول قراءة بعض وليتم مبنيا للمفعول وكذا قراءته عليه الصلاة و السلام على ما ذكر في البحر عن علي كرم الله تعالى وجهه ورويس ويعقوب توليتم بالبناء للمفعول أيضا بناء على أن المعنى تولاكم الناس واجتمعوا على موالاتكم والمراد كنتم فيهم حكاما وقيل : المعنى تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم واستظهر أبو حيان تفسيره بالإعراض إلا أنه قال : المعنى إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم لأن من أرحامكم كثيرا من المسلمين فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من الرحم
وتعقب بأن حمل الإفساد على الإفساد بعدم المعونة فيه خفاء وكذا الإتيان بأن عليه دون إذا من حيث أن الإعراض عن امتضال أمر الله تعالى في القتال كالمحق من أولئك المنافقين فتأمل و أن تفسدوا خبر عسى و أن توليتم اعتراض وجواب أن محذوف يدل عليه ما قبله وزعم بعضهم أن الأظهر جعل إن توليتم حالا مقدرة وفيه أن الشرط بدون الجواب لم يعهد وقوعه حالا في غير أن الوصلية وهي لا تفارق الواو وإلحاق الضمائر بعسى كما في سائر الأفعال المتصرفة لغة أهل الحجاز وبنو تميم لا يلحقونها به ويلتزمون دخوله على أن والفعل فيقولون الزيدان عسى أن يقوما والزيدون عسى أن يقوموا وذكر الإمام هاتين اللغتين ثم قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم وعسى أنا أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه كان مقصوده حكاية لغة ثالثة هي انفصال الضمير فنحن لا نعلم أحدا من نقلة اللسان العربي ذكرها وإن كان غير ذلك فليس فيه كثير جدوى
وقرأ نافع عسيتم بكسر السين المهملة وهو غريب وقرأ أبو عمرو وفي رواية وسلام ويعقوب وأبان وعصمة تقطعوا بالتخفيف مضارع قطع والحسن تقطعوا بفتح التاء والقاف وشد الطاء وأصله تتقطعوا بتاءين حذفت أحدهما ونصبوا أرحامكم على إسقاط الحرف أي في أرحامكم لأن تقطع لازم أولئك إشارة إلى المخاطبين بطريق الألتفات إيذانا بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن درجة الخطاب ولو على جهة التوبيخ وحكاية أقوالهم الفظيعة لغيرهم وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : الذين لعنهم الله أي أبعدهم من رحمته عز و جل فأصمهم عن استماع الحق لتصامهم عنه لسوء اختيارهم وأعمى أبصارهم
23
- لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق وجاء التركيب فأصمهم ولم يأت فأصم آذانهم كما جاء وأعمى أبصارهم أو وأعماهم كما جاء فأصمهم قيل : لأن الأذن لو أصيبت بقطع أو قلع لسمع الكلام فلم يحتج إلى ذكر الأذن والبصر وهو العين لو أصيب لامتنع الأبصار فالعين لها مدخل في الرؤية والأذن لا مدخل لها في السمع انتهى وهو كما ترى
وقال الخفاجي : لأنه إذا ذكر الصمم لم يبق حاجة إلى ذكر الآذان وأما العمى فلشيوعه في البصر
(26/69)
والبصيرة حتى قيل : إنه حقيقة فيهما وهو ظاهر ما في القاموس فإذا كان المراد أحدهما حسن تقييده
وقيل في وجه ذلك بناء على كون العمى حقيقة فيما كان في البصر أن نحو أعمى الله أبصارهم بحسب الظاهر من باب أبصرته بعيني وهو يقال في مقام يحتاج إلى التأكيد ولما كان أولئك الذين حكى حالهم في أمر الجهاد غير ظاهر إعماؤهم ظهور إصمامهم كيف وفي الآيات السابقة ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالمسموع من القرآن وهو من آثار إصمامهم وليس فيها ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالآيات المرئية المنصوبة في الأنفس والآفاق الذي هو من آثار إعمائهم ناسب أن يسلك في كل من الجملتين ما سلك مع ما في سلوكه في الأخير من رعاية الفواصل وهو أدق مما قبل هذا والأرحام جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وهي على ما في القاموس القرابة أو أصلها وأسبابها وقال الراغب : الرحم رحم المرأة أي بيت منبت ولدها ووعاؤه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة ويقال للأقارب ذوو رحم كما يقال لهم أرحام وقد صرح ابن الأير بأن ذا الرحم يقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء والمذكور في كتبها تفسيره بكل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة وعدوا من ذلك أولاد الأخوات لأبوين أو لأب وعمات الآباء وظاهر كلام الأئمة في قوله عليه الصلاة و السلام من ملك ذا رحم محرم فهو دخول الأبوين والولد في ذي الرحم لغة حيث أجمعوا على أنهم يعتقون على من ملكهم لهذا الخبر وإن اختلفوا في عتق غيرهم وصرح ابن حجر الهيثمي في الزواجر بأن الأولاد في الأرحام وظاهر عطف الأقربين على الوالدين في الآية يقتضي عدم دخولهما في الأقارب فلا يدخلون في الأرحام لأنهم كما قالوا الأقارب وكلام فقهائنا نص في عدم دخول الوالدين والولد في ذلك حيث قالوا : إذا أوصى لأقاربه أو لذوي قرابته أو لأرحامه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم ولا يدخل الوالدان والولد وأما الجد وولد الولد فنقل أبو السعود عن العلامة قاسم عن البدائع أن الصحيح عدم دخولهما واختاره في الأختيار وعلله بأن القريب من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره وتكون الجزئية منعدمة وفي شرح الحموي أن دخولهما هو الأصح وفي متن المواهب وأدخل أي محمد الجد والحفدة وهو الظاهر عنهما وذكر أن مثل الجد الجدة وقد يقال : إن عدمدخول الوالدين والولد في ذلك وكذا الجد والحفدة عند من يقول بعدم دخولهم ليس لأن اللفظ لا يصدق عليهم لغة بل لأنه لا يصدق عليهم عرفا وهم اعتبروا العرف كما قال الطحاوي في أكثر مسائل الوصية وفي جامع الفصولين أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف وما ذكره في المعراج من خبر من سمي والده قريبا عقه لا يدل على أنه ليس قريبا لغة بل هو بيان حكم شرعي مبناه أن ذلك إيذاء للوالد وحطا من قدره عرفا وهذا كما لو ناداه بإسمه وكان يكره ذلك وأمر العطف في الآية الكريمة سهل لجواز عطف العام على الخاص كعطف الخاص على العام فالذي يترجح عندي أن الأرحام كما صرحوا به الأقارب بالقرابة الغير السببية والمراد بهم ما يقابل الأجانب ويدخل فيهم الأصول والفروع والحواشي من قبل الأب أو من قبل الأم وحرمة قطع كل لا شك فيها لأنه على ما قلنا رحم والآية ظاهرة في حرمة قطع الرحم وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطعها ووجوب صلتها ولاينبغي التوقف في كون القطع كبيرة والعجب من الرافعي عليه الرحمة كيف توقف في قول صاحب الشامل : أنه من الكبائر وكذا تقرير النووي قدس سره على توقفه واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة : ينبغي أن تختص بالإساءة وقال غيره : هي ترك
(26/70)
الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة واسطة بينهما والصلة إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان ونظر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق بأن يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرما صغيرة فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة وإن الأبوين أعظم من بقية الأقارب ثم قال : فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم أن المراد بالأول أن يفعل مع أحد الأبوين ما يتأذى به فإن كان التأذي ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير وبالثاني قطع ما ألف القريب منه سابق الصلة والإحسان بغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب وتأذيها فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه منه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم له في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الأبوين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه ريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيادة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكونه أحوج أو أصلح فعدم الإحسان إلى القريب أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي عليه وواضح أن القريب لو ألف مننه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر وأما عذر الزيادة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة أن كلا فرض عين وتركه كبيرة وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه والظاهر أنه إذا ترك الزيادة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت والأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين وأما قول الزركشي : صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا ويكفي مشابهتهما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية وكالأكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر انتهى المراد منه ولو قيل : إن الصغيرة تعد كبيرة لو فعلت مع القريب لكنها دون ما لو فعلت مع أحد الأبوين لم يبعد عندي لتفاوت قبح السيئات بحسب الإضافات بل لا يبعد على هذا أن يكون قبح قطع الرحم متفاوتا باعتبار الشخص القاطع وباعتبار الشخص المقطوع متى سلم التفاوت فليقل به في العقوق ويكون الأم أقبح من عقوق الأب وكذا عقوق الولد الذي يعبأ به أقبح من عقوق الولد الذي لا يعبأ به ويتفرع من ذلك ما يتفرع مما لا يخفى على فقيه واستدل بالآية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على منع بيع أم الولد روي الحاكم في المستدرك وصححه وابن المنذر عن بريدة قال : كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فسأل فقيل : جارية من قريش تباع أمها فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار فلم يمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم القطيعة قالوا : لا قال : فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ فهل عسيتم إن توليتم أن
(26/71)
تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ثم قال : وأي قطيعة أقطع من أن اتباع أم امريء فيكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب في الآفاق أن لاتباع أم حر فإنها قطيعة رحم وأنه لا يحل واستدل بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق نقل البرزنجي في الأشاعة والهيثمي في الصواعق إن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال كيف لا يلعن من لعنه الله تعالى في كتابه فقال عبد الله قد قرأت كتاب الله عز و جل فلم أجد فيه لعن يزيد فقال الإمام أن الله تعالى يقول : فهم عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله الآية وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد انتهى
وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا بالوصف وفي ذلك خلاف فالجمهور على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا حيا أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل
وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي المعين لحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح وفي رواية إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح واحتمال أن يكون لعن الملائكة عليهم السلام إياها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا : لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد وإن بحث به معه ولده الجلال البلقيني
وفي الزواجر لو استدل لذلك يخبر مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله من فعل هذا لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه انتهى
وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة فقد روي الطبراني بسند حسن اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكطة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل والطاقة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل الحسين على جده وE واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه وإن تفاصيله آحادا وفي الحديث ستة لعنتهم وفي رواية لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله وفي رواية الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي وقد جزم بكفره وصرح بلعنه وصرح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى وقال العلامة التفتازاني : لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله تعالى وعلى أنصاره وأعوانه وممن صرح بلعنه الجلال السيوطي عليه الرحمة وفي تاريخ ابن الوردي وكتاب الوافي بالوافيات أن السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي والحسين رضي الله تعالى عنهما والرؤس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلما رآهم نعب غراب فأنشأ يقول : لما بدت تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤس على شفا جيرون نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني
(26/72)
يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر كجدة عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما وهذا كفر صريح فإذا صح عنه فقد كفر به ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه
ليت أشياخي
الأبيات وأفتى الغزالي عفا الله عنه بحرمة لعنه وتعقب السفاريني من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه الله تعالى فقال : المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا ففي الفروع ما نصه ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه ونص أحمد خلاف ذلك وعليه الأصحاب ولا يجوز التخصيص باللعنة خلافا فالأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما وقال شيخ الإسلام : يعني والله تعالى أعلم ابن تيمية ظاهر كلام أحمد الكراهة قلت : والمختار ما ذهب إليه الجوزي وأبو حسين القاضي ومن وافقهما انتهى كلام السفاريني وأبو بكر بن العربي المالكي عليه من الله تعالى ما يستحق أعظم الفرية فزعم أن الحسين قتل بسيف جده صلى الله تعالى عليه وسلم وله من الجهلة موافقون على ذلك كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا
قال الجوزي : عليه الرحمة في كتابه السر المصون من الأعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا : إن يزيد كان على الصواب وأن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة وألزم الناس بها ولقد فعل في ذلك كل قبيح ثم لو قدرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بود كلها توجب فسخ العقد ولا يميل إلى ذلك الأكل جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة هذا ويعلم من جميع ما ذكره اختلاف الناس في أمره فمنهم من يقول : هو مسلم عاص بما صدر منه مع العترة الطاهرة لكن لا يجوز لعنه ومنهم من يقول : هو كذلك يجوز لعنه مع الكراهة أو بدونها ومنهم من يقول : هو كافر ملعون ومنهم من يقول : إنه لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه وقائل هذا ينبغي أن ينظم في سلسلة أنصار يزيد وأنا أقول : الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدقا برسالة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل نبيه عليه الصلاة و السلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذ ذاك ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسمعهم إلا الصبر ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولو سلم أن الخبيث كان مسلما فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ولو لم يتصور أن يكون له مثل من الفاسقين والظاهر أنه لم يتب واحتمال توبته أضعف من إيمانه ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة فلعنة الله عز و جل عليهم أجمعين وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدين ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجلي عبد الباقي أفندي العمري الموصل وقد سئل عن لعن يزيد اللعين : يزيد على لعني عريض جنابه فاغدو به طول المدى ألعن اللعنا ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذلك الضليل فليقل : لعن الله عز و جل من رضى رقتل
(26/73)
الحسين ومن آذى عترة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بغير حق من غضبهم حقهم فإنه يكون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أوليا في نفس الأمر ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المار ذكره وموافقيه فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوزون لعن من رضي بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد أفلا يتدبرون القرآن أي لا يلاحظونه ولا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات أم على قلوب أقفالها
24
- تمثيل لعدم وصول الذكر إليها وانكشاف الأمر لها فكأنه قيل : أفلا يتدبرون القرآن إذ وصل إلى قلوبهم أم لم يصل إليها فتكون أم متصلة على مذهب سيبويه وظاهر كلام بعض اختياره
وذهب أبو حيان وجماعة إلى أنها منقطعة وما فيها من معنى بل للأنتقال من التوبيخ بترك التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر والهمزة للتقرير وتنكير القلوب لتهويل حالها وتفظيع شأنها وأمرها في القساوة والجهالة كأنه قيل : على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها في القساوة وقيل : لأن المراد قلوب بعض منهم وهم المنافقون فتنكيرها للتبعيض أو للتنويع كما قيل وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة وقريء إقفالها بكسر الهمزة وهو مصدر من الأفعال و أقفلها بالجمع على أفعل
إن الذين ارتدوا على أدبارهم أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر قال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم وفي إرشاد العقل السليم هم المنافقون الذين وصفوا فيما سلف بمرض القلوب وغيره من قبائح الأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة و السلام من بعد ما تبين لهم الهدى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة القاهرة
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن قتادة أنه قال : هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب يعرفون بعث النبي صلى الله عليه و سلم ويجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ثم يكفرون به عليه الصلاة و السلام وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : إن الذين ارتدوا الخ اليهود ارتدوا عن الهدى بعد أن عرفوا أن محمداصص نبي والمختار ما تقدم وأيا ما كان فالموصول اسم إن وجملة قوله تعالى : الشيطان سول لهم خبرها كقولك : إن زيدا عمرو مر به أي سهل لهم ركوب العظائم من السول بفتحتين وهو الأسترخاء استعير للتسهيل أي لعده سهلا هينا حتى لا يبالي به كأنه شبه بإرخاء ما كان مشدودا وقيل : أي حملهم على الشهوات من السول وهو التمني وأصله حملهم على سؤلهم أي ما يشتهونه ويتمونه فالتفعيل للحمل على المصدر كغربه إذا حمله على الغربة إلا أنهم جعلوا المصدر بمعنى اسم المفعول ونقل ذلك عن ابن السكيت
واعترض بأن السول بمعنى التمني من السؤال فهو مهموز والتسويل واوي ومعناه التزيين فلا مناسبة لا لفظا ولا معنى فالقول باشتقاق سول منه خطا ورد بأن السول من السؤال وله استعمالان فيكون مهموزا وهو المعروف ومعتلا يقال سأليسأل كخاف يخاف وقالوا منه : يتساولان بالواو فيجوز كون التسويل من السول على هذه اللغة أو هو على المشهورة خفف بقلب الهمزة ثم التزم ونظيره تدير من الدار لاستمرار
(26/74)
القلب في ديار وكذلك تحيز لاستمرار القلب في حيز ويكون مآل المعنى على هذا حملهم على الشهوات
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما سول لهم مبنيا للمفعول وخرج ذلك على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سول لهم وجوز تقديره سول كيده لهم فحذف الضمير المجرور مقامه فارتفع واستتر قيل : وهو أولى لأنه تقدير في وقت الحاجة ولا يخفى أن الأول أقل تكلفا
وأملي لهم
25
- ومد لهم الشيطان في الأماني والآمال ومعنى المد فيها توسيعها وجعلها ممدودة بنفسها أو بزمانها بأن يوسوس لهم بأنكم تنالون في الدنيا كذا مما لا أصل له حتى يعوقهم عن العمل وأصل الإملاء الإبقاء ملاومة من الدهر أي برهة ومنه قيل : المعنى وعدهم بالبقاء الطويل وجعل بعضهم فاعل أملي ضميره تعالى والمعنى أمهلهم ولم يعالجهم بالعقوبة وفيه تفكيك لكن أيد بقراءة مجاهد وابن هرمز والأعمش وسلام ويعقوب وأملي بهمزة المتكلم مضارع أملي فإن الفاعل حينئذ ضميره تعالى على الظاهر والأصل توافق القرائتين وجوز أن يكون ماضيا مجهولا من المزيد سكن آخره للتخفيف كما قالوا في بقي بقى بسكون الياء
وعلى الظاهر جوز أن تكون الواو للأستئناف وأن تكون للحال ويقدر مبتدأ بعدها أي وأنا أملي لئلا يكون شاذا كقمت وأصك وجهه وجوزت الحالية في قراءة الجمهور أيضا على جعل الفاعل ضميره تعالى فحينئذ تقدر قد على المشهور وقرأ ابن سيرين والجحدري وأبو عمرو وعيسى وأملي بالبناء للمفعول فلهم نائب الفاعل أي أمهلوا ومد في أعمارهم وجوز أن يكون ضمير الشيطان والمعنى أمهل الشيطان لهم أي جعل من المنظرين إلى يوم القيامة لأجلهم ففيه بيان لاستمرار ضلالهم وتقبيح حالهم ذلك إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم لا إلى الإملاء كما نقل عن الواحدي ولا إلى التسويل كما قيل لأن شيئا منهما ليس مسببا من القول الآتي وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : بأنهم أي بسبب لنهم قالوا يعني المنافقين للذين كرهوا ما نزل الله هم بنو قريظة والنضير من اليهود الكارهين لنزول القرآن على النبي عليه الصلاة و السلام مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله على أحد منهم سنعطيكم في بعض الأمر أي في بعض أموركم وأحوالكم وهو ما حكي عنهم في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لأخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصركم وقيل : في بعض ما تأمرون به كالتناصر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : القائلون اليهود الكافرون به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما وجدوا نعته الشريف في كتابهم والمقول لهم المنافقون كان اليهود يعدونهم النصرة إذا أعلنوا بعداوة رسول الله عليه الصلاة و السلام وقيل : القائلون أولئك اليهود والمقول لهم المشركون كانوا يعدونهم النصرة أيضا إذا حاربوا وتعقب كلا القولين بأن كفر اليهود به عليه الصلاة و السلام ليس بسبب هذا القول ولو فرض صدوره عنهم رأى القائل بل من حيث إنكارهم بعثه عليه الصلاة و السلام وقد عرفوه كما عرفوا أبناءهم وآباءهم ومنه يعلم ما في قول بعضهم : إن القائلين هم المنافقون واليهود والمقول لهم المشركون وما فسرنا به الآية الكريمة مروي عن الحبر رضي الله تعالى عنه والله يعلم إسرارهم
26
- أي خفاءهم ما يقولونه لليهود أو كل قبيح ويدخل ذلك دخولا أوليا وقرأ الجمهور أسرارهم بفتح الهمزة أي يعلم الأشياء التي يسرونها ومنها قولهم
(26/75)
هذا الذي أظهره سبحانه لتفضيحهم وقال الإمام : الأظهر أن يقال المراد يعلم سبحانه ما في قلوبهم من العلم بصدق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه ما لا يخفى والجملة اعتراض مقرر لما قبله متضمن للوعيد والفاء في قوله سبحانه : فكيف إذا توفتهم الملائكة لترتيب ما بعدها على ما قبلها وكيف منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظرف كأنه قيل : يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة وقيل : مرفوع على أنه خبر لمبتدأمحذوف أي فكيف حالهم أو حيلتهم إذا توفتهم الخ وزعم الطبري أن التقدير فكيف علمه تعالى بأسرارهم إذا توفتهم الخ وليس بشيء ووقت التوفي هو وقت الموت والملائكة عليهم السلام ملك الموت وأعوانه وقرأ الأعمش توفاهم بالألف بدل التاء فاحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا حذف منه أحد تاءيه والأصل تتوفاهم يضربون وجوههم وأدبارهم
27
- حال من الملائكة وجوز كونه حالا من ضمير توفتهم وضعفه أبو حيان وهو على ما قيل تصوير لتوفتهم على أهوال الوجوه وأفظعها وإبراز لما يخافون منه ويجبنون عن القتال لأجله فإن ضرب الوجوه والأدبار في القتال والجهاد مما يتقي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره والكلام على الحقيقة عنده ولا مانع من ذلك وإن لم يحس بالضرب من حضر وما ذلك إلا كسؤال الملكين وسائر أحوال البرزخ
والمراد بالوجه قيل العضوان المعروفان أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال : يضربون وجوههم وأستاههم ولكن الله سبحانه كريم يكنى وقال الراغب وغيره : المراد القدام والخلف وقيل : وقت التوفي وقت سوقهم في القيامة إلى النار والملائكة ملائكة العذاب يومئذ وقيل : هو وقت القتال الملائكة ملائكة النصر تضرب وجوههم أن ثبتوا وأدبارهم إن هربوا نصرة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكلا القولين كما ترى ذلك التوفي الهائل بأنهم أي بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله من الكفر والمعاصي وكرهوا رضوانه نا يرضاه عز و جل من الإيمان والطاعات حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع إخوانهم اليهود : ما أسخط الله كتمان نعت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ورضوانه ما يرضيه سبحانه من إظهار ذلك وهو مبني على ما تقدم إخبار عن اليهود وقد سمعت ما فيه ولما كان اتباع ما أسخط الله تعالى مقتضيا للتوجه ناسب ضرب الوجه وكراهة رضوانه سبحانه مقتضيا للأعراض ناسب ضرب الدبر ففي الكلام مقابلة بما يشبه اللف والنشر فأحبط لذلك أعمالهم
28
- التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات وجوز أن يراد ما كان بعد أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا يها
أم حسب الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون الذين فصلت الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدارا لما نعي عليهم بقوله تعالى : أن لن يخرج الله أضغانهم
29
- فأم منقطعة وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها والأضغان جمع ضغن وهو الحقد وقيده الراغب بالشديد وقد ضغن بالكسر وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا الأحقاد ويقال : أضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك وأنشد الأحمر
كأنه مضطغن صبيا
وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب وأصل الكلمة من الضغن وهو الألتواء والأعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء قال بشر : كذت الضغن تمشي في الرقاق وأنشد الليث
(26/76)
إن قناتي من صليب اتالقنا ما زادها التثقيف إلا ضغنا والحقد في القلب يشبه به وقتال الليث وقطرب الضغن العداوة قال الشاعر :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق وشيد الأضغانا وهذا لا ينافي الأول لأن الحقد العداوة لأمر يخفيه المرء في قلبه والإخراج مختص بالأجسام والمراد به هنا الإبراز أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أنه لن يبرز الله تعالى إلى أحقادهم ويظهرها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فتبقى مستورة والمعنى إن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الأحتمال
ولو نشاء إراءتك إياهم لأريناكهم أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية فلعرفتهم بسيماهم تفريع لمعرفته صلى الله تعالى عليه وسلم على تعريف الله عز و جل ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم والإلتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة والسيما العلامة والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها ولام فلعرفتهم كلام لأريناكهم الواقعة في جواب لو لأن المعطوف على الجواب جواب وكررت في المعطوف للتأكيد وأما التي في قوله تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول فواقعة في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية ولحن القول أسلوب من أساليبه مطلقا أو المائلة عن الطريق المعروفة كأن يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام ولذا سمي خطأ الأعراب به لعدوله عن الصواب وقال الراغب : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة اراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا وأما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء :
منطق صائب وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا وإياه قصد بقوله تعالى : ولتعرفهم في لحن القول وفي البحر يقال : لحنت له بفتح الحاء ألحن لحنا قلت له قولا لا يفهمه عنك ويخفى على غيره ولحنه هو بالكسر فهمه والحنته أنا إياه ولاحنت الناس فأطنتهم وقيل : لحن القول الذهاب عن الصواب وعن ابن عباس لحن القول هنا قولهم ما لنا أن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا أن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة : إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضا يتكلمون بما يشعر بالأتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم : إنا معكم والجملة إنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يعرفهم بذلك وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفى بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة و السلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق وفي دعواه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعرفهم بسيماهم أشكال فإن لو ظاهر عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول وكأنه حمله على أنه وعد الوقوع دال على الأمتناع فيما سلف ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات ولا تنحصر السيما بالكتابة
(26/77)
بل تكون بغيرها أيضا مما يعرفهم به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يعرف القائف حال الشخص بعلامات تدل عليه وكثيرا ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه إن صح أن بعض الأولياء قدست أسرارهم كان يعرف البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقول أشم من فلان رائحة الطاعة ومن فلان رائحة المعصية ومن فلان رائحة الإيمان ومن فلان رائحة الكفر ويظهر الأمر حسبما أشار فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتلك المعرفة أولى وأولى ولعلها بعلامات وراء طور عقولنا والنور المذكور في خير اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى متفاوت الظهور بحسب القابليات وللنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتمة وذكروا من علامات النفاق بغض علي كرم الله تعالى وجهه
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا ببغضهم على بن أبي طالب وأخرج هو وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري ما يؤيده وعندي أن بغضه رضي الله تعالى من أقوى علامات النفاق فإن آمنت بذلك فياليت شعري ماذا تقول في يزيد الطريد أكان يحب عليا كرم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه ولا أظنك في مرية من أنه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشد البغض وكذا يبغض ولديه الحسن والحسين على جدهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدل على ذلك الآثار المتواترة معنى وحينئذ لا مجال لك من القول بأن اللعين كان منافقا وقد جاء في الأحاديث الصحيحة علامات للنفاق غير ما ذكر كقوله عليه الصلاة و السلام : علامات المنافق ثلاث الحديث لكن قال العلماء هي علامات للنفاق العملي لا الإيماني وقيل : الحديث خارج مخرج التنفير عن اتصاف المؤمن المخلص بشيء منها لما أنها كانت إذ ذاك من علامات المنافقين واستدل بقوله تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول من جعل التعريض بالقذف موجب الحد ولا يخفى حاله والله يعلم أعمالكم
30
- فيجازيكم عليها بحسب قصدكم وهذا على ما قيل وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين وقيل : وعيد للمنافقين وإيذان لهم بأن المجزي عليه ما يقصدونه لا ما يعرضون أو يورون به واستظهر أنه خطاب عام فهو وعد ووعيد وحمل على العموم قوله تعالى : ولنبلونكم بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين على مشاق التكاليف علما فعليا يتعلق به الجزاء وفي معناه ما قيل : أي حتى يظهر علمنا وقال ابن الحاجب في ذلك : العلم يطلق باعتبار الرؤية والشيء لا يرى حتى يقع يعني على المشهور وهو هنا بمعنى ذلك أو بمعنى المجازاة والمعنى حتى نجازي المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم
31
- فيظهر حسنها وقبيحها والكلام كناية عن بلاء أعمالهم فإن الخبر حسنه وقبيحه على حسب المخبر عنه فإذا تميز الحسن عن الخبر القبيح فقد تميز المخبر عنه وهو العمل كذلك وهذا أبلغ من نبلو أعمالكم والظاهر عموم الأخبار وجوز كون المراد بها أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم للمؤمنين على أن إضافتها للعهد ونبلو أخبار إيمانكم وموالاتكم فيظهر صدقها وكذبها وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة المسندة إلى ضمير العظمة بالياء وقرأ رويس ونبلو بالنون وسكون الواو والأعمش بسكونها وبالياء فالفعل مرفوع بضمة مقدرة بتقدير ونحن نبلو والجملة حالية وجوز أن يكون منصوبا كما في قراءة الجمهور سكن للتخفيف كما في قوله :
أبى الله أن أسمو بام ولام أب
إن الذين كفروا وصدوا الناس عن سبيل الله وشاقوا الرسول صاروا في شق غير شقه والمراد
(26/78)
عادوه من بعد ما تبين لهم الهدى لما شاهدوا من نعته عليه الصلاة و السلام في التوراة أو بما ظهر على يديه صلى الله عليه و سلم من المعجزات ونزل عليه عليه الصلاة و السلام من الآيات وهم بنو قريظة والنظير أو المطعمون يوم بدر وقد تقدم ذكرهم وقيل : أناس نافقوا بعد أن آمنوا لن يضروا الله بكفرهم وصدهم شيئا من الأشياء أو شيئا من الضرر أو لن يضروا رسول الله صلى الله عليه و سلم بمشاقته شيئا وقد حذف المضاف لتعظيمه عليه الصلاة و السلام بجعل مضرته وما يلحقه كالمنسوب إلى الله تعالى وفيه تفظيع مشاقته صلى الله تعالى عليه وسلم
وسيحيط أعمالهم
32
- في مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله عليه الصلاة و السلام فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم ونحو ذلك وجوز أن يراد أعمالهم التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم
33
- قيل : إن بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منوا بذلك فنزلت فيهم هذه وقوله تعالى : يمنون عليم أن أسلموا ومن هنا قيل المعنى لا تبطلوا أعمالكم بالمن وبالأسلام وعن ابن عباس بالرياء والسمعة وعنه أيضا بالشك والنفاق وقيل بالعجب فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقيل : المراد بالأعمال الصدقات أي تبطلوها بالمن والأذى وقيل : لا تبطلوا طاعاتكم بمعاصيكم أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه في الآية : من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى وأخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم فخافوا أن يبطل الذنب العمل ولفظ عبد ابن حميد فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كنا معاشر أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش فكما إذا رأينا من أصحاب شيئا منها قلنا : قد هلك حتى نزلت هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له واستدل المعتزلة بالآية على أن الكبائر تحبط الطاعات بل الكبيرة الواحدة تبطل مع الأصرار الأعمال ولو كانت بعدد نجوم السماء وذكروا في ذلك من الأخبار ما ذكروا وفي الكشف لا بد في هذا المقام من تحرير البحث بأن يقال : إن أراد المعتزلة أن نحو الزنا إذا عقب الصلاة يبطل ثوابها مثلا لا دليل عليه نقلا وعقلا بل هما متعادلان على ما دل عليه صحاح الأحاديث وكفى بقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره حجة بالغة وإن أرادوا أن عقابه قد يكبر حتى لا يعاد له صغار الحسنات فهذا صحيح والكلام حينئذ في تسميته أحباطا ولا بأس به لكن عندنا أن هذا الأحباط غير لازم وعندهم لازم وهو مبني على جواز العفو وهي مسئلة
(26/79)
أخرى وأما الكبيرة التي تختص بذلك العمل كالعجب ونحو المن والأذى بعد التصدق فهي محبطة لا محالة اتفاقا وعليه يحمل ما نقل من الآثار ومن لا يسميه إحباطا لأنه يجعله شرطا للقبول والأحباط أن يصير الثواب زائلا وهذا لا يتأتى إذا لم يثبت له ثواب فله ذلك وهو أمر يرجع إلى الأصطلاح انتهى وهو من الحسن بمكان وإعادة الفعل في وأطيعوا الرسول للأهتمام بشأن إطاعته عليه الصلاة و السلام إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله امتنعوا عن الدخول في الأسلام وسلوك طريقه أو صدوا الناس عنه ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم
34
- نزلت في أهل القليب كما قيل وحكمها عام كما قال غير واحد في كل من مات على كفره وهو ظاهر على التفسير الأول لصدوا عن سبيل الله وأما على التفسير الثاني له فقيل عليه : إن العموم مع تخصيص الكفر بصد الناس عن الإسلام محل نظر ويفهم من كلام بعض الأجلة أن العموم لأن مدار عدم المغفرة هو الأستمرار على الكفر حسبما يشعر اعتباره قيدافي الكلام فتدبر واستدل بمفهوم الآية بعض القائلين بالمفهوم على أنه تعالى قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه فلا تهنوا أي إذا علمتم أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبتهم فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ولا تظهروا ضعفا فالهاء فصيحة في جواب شرط مفهوم مما قبله وقيل : هي لترتيب النهي على ما سبق من الأمر بالطاعة وتدعوا إلى السلم عطف على تهنوا داخل في حيز النهي أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خورا وإظهارا للعجز فإن ذلك إعطاء الدنية وجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن فيضعف المصدر المسبوك على مصدر متصيد مما قبله كقوله : لا تنه عن خلق وتأتي مثله
واستدل ألكيا بهذا النهي على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة وعلى تحريم ترك الجهاد إلا عند العجز وقرأ السلمي وتدعوا بتشديد الدال من ادعى بمعنى دعا وفي الكشاف ذكر لا في هذه القراءة ولعلي ذلك رواية أخرى وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش : وعيسى وطلحة وحمزة وأبو بكر السلم بكسر السين وأنتم الأعلون أي الأغلبون والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور والجملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الأنتهاء وكذا قوله تعالى : والله معكم أي ناصركم فإن كونهم الأغلبين وكونه عز و جل ناصرهم من أقوى موجبات الأجتناب عما يوهم الذل والضراعة
وقال أبو حيان : يجوز أن يكونا جملتين مستأنفتين أخبروا أو لا أنهم الأعلون وهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها وهي كون الله تعالى معهم ولن يتركم أعمالكم
35
- قال : ولن يظلمكم وقيل : ولن ينقصكم وقيل : ولن يضيعها وهو كما قال أبو عبيد والمبرد من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبته ماله وذهبت به قال الزمخشري : وحقيقته ألإهمن قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام وفيه هنا من الدلالة على مزيد لطفالله تعالى ما فيه ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله والظاهر على ما ذكره أنه لا بد من تضمين وترته معنى السلب ونحوه ليتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وفي الصحاح أنه من الترة وحمله على نزع الخافض أي جعلته موتورا لم يدرك ثاره في ذلك كأنه نقصه فيه وجعله نظير دخلت البيت أي فيه وهو سديد أيضا
وجوز بعضهم يتر ههنا متعديا لواحدا و أعمالكم بدل من ضمير الخطاب أي لن يتر أعمالكم من ثوابها
(26/80)
والجملة قيل معطوفة على قوله تعالى : معكم وهي وإن تقع حالا استقلالا لتصديرها بحرف الأستقبال المنافي للحال على ما صرح به العلامة التفتازاني وغيره لكنه يغتفر التابع ما لا يغتفر في غيره وقيل : المانع من وقوع المصدرة بحرف الأستقبال حالا مخالفته للسماع وإلا فلا مانع من كونها حالا مقدرة مع أنه يجوز أن تكون لن لمجرد تأكيد النفي والظاهر أن المانعين بنوا المنع على المنافاة وإنها إذا زالت باعتبار أحد الأمرين فلا منع لكن قيل : إن الحال المقصود منها بيان الهيئة على الحال الذي هو أحد الأزمنة والمنافاة إنما هي بين هذا الحال والأستقبال وهذا نظير ما قال مجوزو مجيء الجملة الماضية حالا بدون قد وما لذلك وما عليه في كتب النحو وإذا جعلت الجملة قبل مستأنفة لم يكن إشكال في العطف أصلا
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا ثبات لها ولا اعتداد بها وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم أي ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون ولا يسألكم أموالكم
36
- عطف على الجزاء والأضافة للأستغراق والمعنى إن تؤمنوا لا يسألكم جميع أموالكم كما يأخذ من الكافر جميع ما له وفيه مقابلة حسنة لقوله تعالى : يؤتكم أجوركم كأنه قيل : يعطكم كل الأجور ويسألكم بعض المال وهو ما شرعه سبحانه من الزكاة وقول سفيان بن عيينة أي لا يسألكم كثيرا من أموالكم إنما يسألم ربع العشر فطيبوا أنفسكم بيان لحاصل المعنى وقيل : أي لا يسألأكم ما هو ما لكم حقيقة وإنما يسألأكم ما له عز و جل وهو المالك لها حقيقة وهو جل شأنه المنعم عليكم بالأنتفاع بها وقيل : أي لا يسألكم أموالكم لحاجته سبحانه إليها بل ليرجع اتفاقكم إليكم وقيل : أي لا يسألكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من أموالكم أحرا على تبليغ الرسالة كما قال تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ووجه التعليق عليها غير ظاهر وفي بعضها أيضا ما لا يخفى إن يسألكموها أي أموالكم فيحفكم فيجهدكم بطلب الكل فإن الإخفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال : أحفاه في المسئلة إذا لم يترك شيئا من الإلحاق وأحفى شاربه استأصله وأخذه أخذا متناهيا وأصل ذلك على ما قال الراغب : من أحفيت الدابة جعلته حافيا أي منسحج الحافر والبعير جعلته منسج الفرسن من المشي حتى يرق تبخلوا جواب الشرط والمراد بالبخل هنا ترك الأعطاء إذ هو على المعنى المشهور أمر طبيعي لا يترتب على السؤال ويخرج أضغانكم
37
- أي أحقادكم لمزيد حبكم للمال وضمير يخرج لله تعالى ويعضده قراءة يعقوب ورويت أيضا عن ابن عباس ونخرج بالنون مضمومة وجوز أن يكون للسؤال أو للبخل فإنه سبب إخراج الأضغان والأسناد على ذلك مجازي وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويخرج بالرفع على الأستئناف وجوز جعل الجملة حالا بتقدير وهو يخرج وحكاها أبو حاتم عن عيسى وفي اللوامح عن عبد الوارث عن أبي عمرو ويخرج بالياء التحتية وفتحها وضم الراء والجيم أضغانكم بالرفع على الفاعلية
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب بن المتوكل واليماني وتخرج بتاء التأنيث ورفع أضغانكم وقريء ويخرج بضم الياء التحتية وفتح الراء أضغانكم رفعا على النيابة عن الفاعل وهي
(26/81)
مروية عن عيسى إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن فالواو عاطفة على مصدر متصيد أي يكن بخلكم وإخراج أضغانكم
ها أنتم هؤلاء أي أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون بما تضمنه قوله تعالى : إن يسألكموها الخ والجملة مبتدأ وخبر وكررت ها التنبيهية للتأكيد وقوله سبحانه : تدعون لتنفقوا في سبيل الله الخ استئناف مقرر ومؤكد لذلك لاتحاد محصل معناهما فإن دعوتهم للأنفاق هو سؤل الأموال منهم وبخل ناس منهم هو معنى عدم الأعطاء المذكور مجملا أولا أو أصله لهؤلاء على أنه بمعنى الذين فإن اسم الإشارة يكون موصولا مطلقا عند الموفيين وأما البصريون فلم يثبتوا اسم الإشارة موصولا إلا إذا تقدمه ما الأستفهامية باتفاق أو من الأستفهامية باختلاف والإنفاق في سبيل الله تعالى هو الأنفاق المرضي له تعالى شأنه مطلقا فيشمل النفقة للعيال والأقارب والغزو وإطعام الضيوف والزكاة وغير ذلك وليس مخصوصا بالأنفاق للغزو أو بالزكاة كما قيل
فمنكم من يبخل أي ناس يبخلون ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه فلا يتعدى ضرر بخله إلى غيرها يقال : بخلت عليه وبخلت عنه لأنه البخل عنه لأن البخل فيه معنى المنع ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف والأضرار فناسب أن يعدي بعن للأول وبعلى للثاني وظاهر أن من منع المعروف عن نفسه فإضراره عليها فلا فرق بين اللفظين في الحاصل وقال الطيبي : يمكن أن يقال يبخل عن نفسه على معنى يصدر البخل عن نفسه لأنها مكان البخل ومنبعه كقوله تعالى : ومن يوق شح نفسه وهو كما ترى والله الغني لا غيره عز و جل وأنتم الفقراء الكاملون في الفقر فيما يأمركم به سبحانه فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المذاق التي لا تقتضي الحكمة أيضا لها بدون ذلك فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم وقوله تعالى : وإن تتولوا عطف على قوله سبحانه : إن تؤمنوا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما غيركم يخلق مكانكم قوما آخرين وهو كقوله تعالى : يأت بخلق جديد ثم لا يكونوا أمثالكم
38
- في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما
وثم للتراخي حقيقة أو لبعد المرتبة عما قبل والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس فقد أخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه الآية وإن تتولوا الخ فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونون أمثالنا فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس
وجاء في رواية ابن مردويه عن جابر الدين بدل الإيمان وقيل : هم الأنصار وقيل : أهل اليمن وقيل : كندة والنخع وقيل : العجم وقيل : الروم وقيل : الملائكة وحمل القوم عليهم بعيد في الأستعمال وحيث صح الحديث فهو مذهبي
والخطاب لقريش أو لأهل المدينة قولان والظاهر أنه للمخاطبين قبل والشرطية غير واقعة فعن الكلبي شرط في الأستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم والله تعالى أعلم ومما قاله بعض أرباب الأشارة في بعض الآيات يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم نصرة الله تعالى من العبد على وجهين صورة ومعنى أما نصرته تعالى في الصورة فنصرة دينه جل شأنه بإيضاح الدليل وتبيينه وشرح فرائضه وسننه وإظهار معانيه وأسراره وحقائقه بالجهاد عليه وإعلاء كلمته وقمع أعدائه وأما نصرته في المعنى فبا فناء الناسوت
(26/82)
في اللاهوت ونصرة الله سبحانه للعبد على وجهين أيضا صورة ومعنى أما نصرته تعالى للعبد في الصورة فبإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظاهر المعجزات والآيات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم ثم بالأمر بالجهاد الأصغر والأكبر وتوفيق السعي فيهما طلبا لرضاه عز و جل وأما نصرته تعالى له في المعنى فبإفناء وجوده في وجوده سبحانه بتجلي صفات جماله وجلاله مثل الجنة التي وعد المتقون يشير إلى جنة قلوب أرباب الحقائق الذين اتقوا عما سواه جل وعلا فيها أنهار من ماء غير آسن هو ماء الحياة الروحانية لم يتغير بطول المكث وأنهار من لبن وهو العلم الحقاني الذي هو غذاء الأرواح أو لبن الفطرة التي فطر الناس عليها لم يتغير طعمه بحموضة الشكوك والأوهام أو الأهواء والبدع وأنهار من خمر لذة للشاربين وهي خمر الشوق والمحبة : يقولون لي صفها فأنت بوصفها خبير أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ونور ولا نار وروج ولا جسم وأنهار من عسل وهو عسل الوصال مصقى عن كدر الملال وخوف الزوال ولهم فيها من كل الثمرات اللذائذ الروحانية ومغفرة من ربهم ستر لذنب وجودهم كما قيل
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
كمن هو خالد في النار نار الجفاء وسقوا ماء حميما وهو ماء الخذلان فقطع أمعاءهم من الحرمان ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم وهي ظلمة في وجودهم تدرك بالنظر الألهي قيل : المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف بنور التحقيق والنبي عليه الصلاة و السلام ينظر بالله عز و جل وقيل : كل من رزق قرب النوافل ينظر به تعالى لحديث لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث وحينئذ يبصر كل شيء ومن هنا كان الأولياء الكاملين يرى على ما حكي عنه أعمال العباد حين يعرج بها وسبحان السميع البصير اللطيف الخبير
سورة الفتح
نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا قي المدينة نفسها وهو الصحيح أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة و السلام يوم الأثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما وقيل : عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة و السلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مرويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلى الله عليه و سلم من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة و السلام على الناس وهو على راحلته وفي رواية ابن سعد عنه
(26/83)
ما يدل على أنها بضجنان ونقل ذلك عن البقاعي وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار والمكي ما نزل قبل الهجرة وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد وبدر وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر وهي تسع وعشرون آية بالأجماع ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه وقد ذكر أيضا في الأولى الأمر بالأستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم وإن تتولوا الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الأستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال : نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروي ذلك عن ابن عباس وأنس والشعبي والزهري قال ابن عطية : وهو الصحيح وأصل الفتح إزالة الإغلاق وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح وسمي ذلك الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى أدخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سببا لفتح مكة قال الزهري : لم يكن أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الأسلام قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤا إلى مكة في عشرة الآف ففتحوها والتسمية على الأول من باب الأستعارة التبعية كيفما قررت وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه مثل تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعا من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لأنسان وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه عز و جل مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجد وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة و السلام ما فيه لا يقال قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول : ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقا له تعالى أو لغيره عز و جل كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كان كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازا وإليه حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما
(26/84)
وقال المحقق ميرزاجان : يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للأسناد إلى ما هو له فاستعملت في الأسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الأستعارة التمثيلية والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه ما فيه ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازا عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة وقد خفى كون ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة و السلام أخرج البيهقي عن عروة قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في أخراجكم أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله بالأمور منا وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة و السلام لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل
وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول وقيل : الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحا كما يشعر به الخبر وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والأخبار به بذلك الأعتبار
وقال بعض المحققين : لعل المقصود بالأفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا وأقول : قد صرحوا بأنه كثيرا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو رب إني وضعتها أنثى رب وهن العظم مني لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها ههنا الأمتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول
وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وإن المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي وبعضهم يقول هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية وتحقيقه في موضعه
والتأكيد بأن للأعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للأنكار وقيل : لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحا ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك وقال مجاهد : المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدنية كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام وكان خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال ابن إسحاق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام بحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها
(26/85)
ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست وجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة : إن غزوة خيبر كانت سنة خمس وهم وقول ابن سعد وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري أنها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ ولعل الأصل كانت حنين فحرمت ومع هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم والتأكيد بأن وتكرير الحكم للأعتناء والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعا يوم النزول بناء على ما روي عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلا على المشهور أو الأول نحو إني أراني أعصر خمرا ولا يضر اختلافهما في الفعلية والأسمية وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ به بلده وطهر حرمه واستبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس بعده في دين الله عز و جل أفواجا وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجا وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف وقد خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روي عن الزهري وروي عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك وكان معه صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمين عشرة آلاف وقيل : إثنا عشر ألفا والجمع ممكن وكان الفتح عند الشافعي صلحا وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ولعدم قسمة الدور بين الغانمين وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد وقوله عليه الصلاة و السلام : أحلت لي ساعة من نهار ولا يسمى ذلك التأمين صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشا لم يلتزموا وترك القسمة لا يستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم
وأقام عليه الصلاة و السلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي وتسع عشرة في رواية بعض وتمام الكلام في كتب السير واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه : ها أنتم هؤلاء تدعون الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم وأيضا لما قال سبحانه : وأنتم الأعلون والله معكم بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين وأيضا لما قال تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم كان ذلك في فتح مكة ظاهرا حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى الصلح بل أتى صنايد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك ورجع بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعد فتح مكة يجيء صريحا في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيدا بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيسا والتأسيس خير من التأكيد ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضا وللبحث في ذلك مجال وإن والتكرير لما تقدم وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى
(26/86)
بالأعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل : إن إسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وهذا خلاف الظاهر والمشهور أن في الكلام مجازا عقليا وفيه الأحتمالات السابقة
وقال بعض المحققين : يمكن أن يقال : لعل الإرادة ههنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل كما في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة الآية وقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله عند أكثر الأئمة ومثل هذا التأويل قيل : مطرد في الأفعال الأختيارية وزعم بعضهم أن الفتح مجاز عن تيسيره وذكر بعض الصدور في توجيه التأكيد بأن ههنا أنه قد يجعل غير السائل بمنزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر وصرحوا بأن الملوح لا يلزم أن يكون كلاما وقد ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه عليه الصلاة و السلام رأى في المنام أنه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة آمنين فصار المقام مقام أن يتردد في الفتح فألقي إليه عليه الصلاة و السلام الكلام مؤكدتا كما يلقى إلى السائل كذلك وجوز أن يكون لرد الإنكار بناء على تحققه من المشركين فإنهم كانوا يزعمون أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يستولي على مكة كما يستول عليها من أراد الإستيلاء عليها قبله عليه الصلاة و السلام وهو كما ترى وذكر بعض أجلة القائلين بأن المراد به فتح مكة أن الكلام وعد بفتحها فقيل إن الجملة حينئذ إخبار وقيل : إنها إنشاء واستشكل بما صرح به الرضي من أن الجمل الإنشائية منحصرة بالأستقراء في الطلبية والإيقاعية والوعد ليس شيئا منهما أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن مجرد قولك لأكرمنك مثلا لا يقع به الإكرام وقال بعض الصدور أن كلامهم مضطرب في كون الوعد إنشاء أو إخبار ويمكن التوفيق بأن يقال : أصل الوعد إنشاء لأنه إظهار أمر في النفس يوجب سرور المخاطب وما يتعلق به الوعد وهو الموعود إخبار نظيره قول النحاة كأن لأنشاء التشبيه مع أن مدخولها جملة خبرية
وقال الخفاجي : هذا ناشيء من عدم فهم المراد منه فإن قيل : المراد من لأكرمنك مثلا إكرام في المستقبل فهو خبر بلا مرية وإن قيل : معناه العزم على إكرامه وتعجيل المسرة بإعلامه فهو إنشاء وأقول لا يخفى أن الأخبار أصل للأنشاء وقد صرح بذلك العلامة التفتازاني في المطول وليست هيئة المركب دالة على أنه إنشاء وليس فيه ما يدل بمادته على ذلك فيمكن أن يقال : إنه إخبار قصد به تعجيل المسرة وإن ذلك لا يخرجه عن الأخبار نظير ما قيل في قوله تعالى : رب إني وضعتها أنثى ونحوه فتدبر والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه وفيه من تسلية قلوب الأصحاب وتسليتهم حيث صاروا محزونين غاية الحزن من تأخير الفتح ما فيه وهذا التعبير من قبيل الأستعارة التبعية على ما حققه السيد السند في حواشي المطول حيث قال : أعلم أن التعبير عن المضارع بالماضي وعكسه يعد من باب الأستعارة بأن يشبه غير الحاصل بالحاصل في تحقق الوقوع ويشبه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين واجب المشاهدة ثم يستعار لفظ أحدهما للآخر فعلى هذا تكون استعارة الفعل على قسمين أحدهما أن يشبه الضرب الشديد مثلا بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل ضرب ضربا شديدا والثاني أن يشبه الضرب المستقبل بالضرب في الماضي مثلا في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب المعنى المصدري أعني الضرب موجودا في كل واحد من المشبه والمشبه به لكنه قيد في كل منهما بقيد يغاير الآخر فصح التشبيه لذلك
وقال المحقق ميرزاجان يمكن توجيه الأستعارة ههنا بوجه آخر وهو أن يشبه الزمان المستقبل بالزمان الماضي ووجه الشبه أنه كما أن الثاني ظرف أمر محقق الوقوع كذلك الزمان الأول واللفظ الدال على الزمان الثاني وهو لفظ
(26/87)
الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالا على الزمان المستقبل مستعملا فيه ومن البين أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الأستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الأستعارة في الفعل كما كانت الأستعارة في الفعل بواسطة المصدر والفرق أن هذه الأستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته لا يقال : الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لأجزؤه لأنا نقول : يجري هذا الأحتمال في الأستعارة التبعية المشهورة بأن يقال : الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب
فإن قلت : المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت : لفظ الزمان الماضي أيضا كذلك فلا فرق ولو سلم نقول في كل منهما : نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له ولا يبعد أن يسمى مثل هذا تبعية والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه ولعلهم إنما جعلوا الأستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الأعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان حتى تصير الأستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضا في كون الصيغة والهيئة جزأ للفظ تأمل وأيضا الهيئة ليست جزأ مستقلا كالمصدر وأيضا الهيئة ليست لفظا والأستعارة قسم للفظ ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى وفيه بحث وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الأستعارة التبعية ومال إلى أن الهيئة محتجا بما نقله من شرح المختصر العضدي ومن شرح الشرح للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلوا عن فائدة
والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ لكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعيا بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الأستعارة وقول الصدر في الفرق : إن العلاقة في الأستعارة ملحوظة حين الأطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للأنتقال وليست ملحوظة حين الأستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعا فافهم وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي ههنا على حقيقة بناء على أن الفتح مجاز عن تيسسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلا بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة و السلام سأل ربه تعالى بقوله : يسر لي أمري أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى : قد أوتيت سؤلك يا موسى ولم يباشر بعد شيئا وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في الكشاف وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وإن منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمرا تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة وقيل غير ذلك واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان وتعقب بأن تحقق
(26/88)
هذا مع القول بأن الأزلي مدلول عسير جدا وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم وأجاب بعضهم بأن العسر لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له وليس كذلك عندهم بل هي دلالة الأثر على المؤثر ولا يلزم من اعتبار شيء في الأثر اعتباره في المؤثر ولا يخفى أن كون الدلالة دلالة الأثر على المؤثر خلاف الظاهر وقال ابن الصدر في ذلك : إن اشتمال الكلام اللفظي على المضي والحضور والأستقبال إنما هو بالنظر إلى زمان المخاطب لا إلى زمان المتكلم كما إذا أرسلت زيدا إلى عمرو تكتب في مكتوبك إليه إني أرسلت إليك زيدا مع أنه حين ما تكتبه لم يتحقق الإرسال فتلاحظ حال المخاطب وكما تقدر في نفسك مخاطبا وتقول : لم تفعل الآن كذا وكان قبل ذلك كذا ولا شك أن هذا المضي والحضور والأستقبال بالنسبة إلى زمان الوجود المقدر لهذا المخاطب لا بالنسبة إلى زمان المتكلم بالكلام النفسي لكونه متوجها لمخاطب مقدر لا يلاحظ فيه إلا أزمنة المخاطبين المقدرين وما اعتبره أئمة العربية من حكاية الحال الماضية واعتبار المضي والحضور والأستقبال في الجملة الحالية بالقياس إلى زمان الفعل لا زمان التكلم قريب منه جدا انتهى وللمحقق ميرزاجان كلام في هذا المفام يطلب من حواشيه على الشرح العضدي
وقيل : المراد بالفتح فتح الروم على إضافة المصدر إلى الفاعل فإنهم غلبوا على الفرس في النزول وكونه فتحا له عليه الصلاة و السلام لأنه أخبر عن الغيب فتحقق ما أخبر به في ذلك العام ولأنه تفاءل به لغلبة أهل الكتاب المؤمنين وفي ذلك من ظهور أمره صلى الله تعالى عليه وسلم ما هو بمنزلة الفتح قيل : ففي الفتح استعارة لتشبيه ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم بالفتح وقيل : لا تجوز فيه وإنما التجوز في تعلقه به عليه الصلاة و السلام وقيل : لا تجوز أصلا والمعنى فتحنا على الروم لأجلك وأنت تعلم أن حمل الفتح على ما ذكره في نفسه بعيدا جدا
وأورد عليه أن فتح الروم لم يكن مسببا على الجهاد ونحوه فلا يصح ما ذكروه في توجيه التعليل الآتي وعن قتادة أن فتحنا من الفتاحة بالضم وهي الحكومة أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت وهو بعيد أيضا وقيل : المراد به فتح الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم بالأسلام والنبوة والدعوة والحجة والسيف وقريب منه ما نقله الراغب من أنه فتحه عز و جل له عليه الصلاة و السلام بالعلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى ثواب والمقامات المحمودة وأمره في البعد كما سبق وأيا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح وتقديم لك على المفعول المطلق أعني قوله تعالى : فتحا مبينا
1
- مع أن الأصل تقديمه على سائر المفاعيل كما صرح به العلامة التفتازاني للأهتمام بكون ذلك لنفعه عليه الصلاة و السلام وقيل : لأنه مدار الفائدة و مبين من أبان بمعنى بأن اللازم أي فتحا بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل
ليغفر لك الله مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفرة على الفتح من حيث أن فيه سعيا منه صلى الله عليه و سلم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز و جل وفي شرح المقاصد للعلامة التفتازاني أن من بعض أدلتهم أي الأشاعرة ومن وافقهم على هذا المطلب يفهم أنهم أرادوا عموم السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم ثم قال : الحق أن بعض
(26/89)
أفعاله تعالى معلل بالحكم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث وذكر الأصفهاني في شرح الطوالع في هذه المسئلة خلافا للمعتزلة وأكثر الفقهاء وأنا أقول : بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث والتزام تأويل جميعها خروج عن الأنصاف ما يذكره الحاضرون من ألأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى على من طالع كتب السلفين عليهم الرحمة وفي الكشاف لم يجعل الفتح علة للمغفرة لكن لجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين الدارين وأغراض العاجل والآجل وحاصله كما قال العلامة أن الفتح لم يجعل علة لكل من المتعاطفات بعد اللام أعني المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر بل لاجتماعها ويكفي في ذلك أن يكون له دخل في حصول البعض كإتمام النعمة والنصر العزيز وتحقيقه كما قال إن العطف على المجرور باللام قد يكون للأشتراك في متعلق اللام مثل جئتك لأفوز بلقياك وأحوز عطاياك ويكون بمنزلة تكرير اللام وعطف على جار ومجرور وقد يكون للأشتراك في معنى اللام كجئتك لتستقر في مقامك وتفيض علي من أنعامك أي لاجتماع الأمرين ويكون من قبيل جاءني غلام زيد وعمرو أي الغلام الذي لهما واستظهر دفعا لتوهم أنه إذا كان المقصود البعض فذكر الباقي لغو أن يقال : لا يخلو كل منهما أن يكون مقصودا بالذات وهو ظاهر أو المقصود البعض وحينئذ فذكر غيره إما لتوقفه عليه أو لشدة ارتباطه به أو ترتبه عليه فيذكر للأشعار بأنهما كشيء واحد كقوله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وقولك : أعددت الخشب ليميل الحائط فأدعمه ولا زمت غريمي لأستوفي حقي وأخليه وظاهر كلام الزمخشري أن المقصود فيما نحن فيه تعليل الهيئة الأجتماعية فحسب فتأمل لتعرف أنه من أي الأقسام هو واعلم أن المشهور كون العلة ما دخلته اللام لا ما تعلقت به كما هو ظاهر عبارة الكشاف لكن حقق أنها دخلت على الغاية صح أن يقال : ما بعدها علة ويراد بحسب التعقل وأن يقال : ما تعلقت به على بحسب الوجود فلا تغفل وزعم صاحب الغنيان أن اللام ههنا هي لام القسم وكسرت وحذف النون من الفعل تشبيها بلام كي ورد بأن القسم لا تكسر ولا ينصب بها فإنه لم يسمع والله ليقوم زيد على معنى ليقومن زيد وانتصر له بأن الكسر قد علل بتشبيهها بلام كي
وأما النصب فله أن يقول فيه : بأنه ليس نصبا وإنما هو الحركة التي تكون مع وجود النون بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف وأنت تعلم أنه لا يجدي نفعا مع عدم السماع هذا والألتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات قيل : للأشعار بأن كل واحد مما انتم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه عز و جل من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته جل شأنه
وقال الصدر لا يبعد أن يقال : إن التعبير عنه تعالى في مقام المغفرة بالأسم الجليل المشعر بصفات الجمال والجلال يشعر بسبق مغفرته تعالى على عذابه وفي البحر لما كان الغفران وما بعده يشترك في إطلاقه الرسول عليه الصلاة و السلام وغيره لقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله سبحانه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي وقوله تعالى : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وقوله عز و جل : يهدي من يشاء وقوله تبارك وتعالى : إنهم المنصورون وكان الفتح مختصا بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أسنده الله تعالى إلى نون العظمة تفخيما لشأنه وأسند تلك الأشياء إلى الأسم الظاهر وضميره
(26/90)
وهو كما ترى وإن قاله الإمام أيضا وأقول : يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالأسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة مما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم ولا يعترض بأن النصر كالفتح وقد أسند إلى الأسم الجليل لما لا يخفى عليك وتقديم لك على المفعول الصريح أعني قوله تعالى : ما تقدم من ذنبك وما تأخر لما مر غير مرة و ما للعموم والمتقدم والمتأخر للأحاطة كناية عن الكل والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة و السلام فهو من قبيل حسنات الأبرار سيآت المقربين وقد يقال : المراد ما هو ذنب في نظره العالي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده تعالى كما يرمز إلى ذلك الأضافة
وقال الصدر : يمكن أن يكون قوله تعالى : ليغفر الخ كناية عن عدم المؤاخذة أو من باب الأستعارة التمثيلية من غير تحقق معاني المفردات وأخرج ابن المنذر عن عامر وأبي جعفر أنهما قالا : ما تقدم في الجاهلية وما تأخر في الأسلام وقيل ما تقدم من حديث ماريةوما تأخر من امرأة زيد وليس بشيء مع أن العكس أولى لأن حديث امرأة زيد متقدم وفي الآية ما عهد من حاله صلى الله تعالى عليه وسلم من كثرة العبادة ما يدل على شرف مقامه إلى حيث لا تحيط به عبارة وقد صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزلت صام وصلى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له : أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك أو ما تأخر فقال عليه الصلاة و السلام : أفلا أكون عبدا شكورا ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد وغير ذلك مما أفاضه تعالى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم من النعم الدينية والدنيوية ويهديك صراطا مستقيما
2
- في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود قيل : إن أصل الأستقامة وإن كان حاصلا قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصل قبل وينصرك الله إظهار الاسم الجليل مع النصر قيل : لكونه خاتمة العلل أو الغايات ولأظهار كمال العناية بشأنه كما يعرب عنه إردافه بقوله تعالى : نصرا عزيزا
3
- وقال الصدر : أظهر الأسم في الصدر وهنا لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أشير بإسناد المغفرة والنصر إلى صريح اسمه تعالى إلى أن الله عز و جل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة وقال الإمام : أظهرت الجلالة هنا إشارة إلى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى كما قال تعالى : وما النصر إلا من عند الله وذلك لأن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى : وما صبرك إلا بالله لأنه سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب والعزيز بحسب الظاهر هو المنصور وحيث وصف به النصر فهو إما للنسبة وإن كان المعروف فيها فاعلاكلا بن وفعالا كبزاز أي نصرا فيه عز ومنعة أو فيه تجوز في الأسناد من باب وصف المصدر بصيغة المفعول وهو المنصور هنا نحو عذاب أليم في قول لا الفاعل وهو الناصر لما قيل من عدم مناسبته للمقام وقلة فائدته إذ الكلام في شأن المخاطب المنصور لا المتكلم الناصر وفيه شيء وقيل : الكلام بتقدير مضاف أي عزيز صاحبه وهو المنصور وفيه تكلف الحذف والإيصال
وقد يقال : يحتاج إلى شي مما ذكر إذ لا مانع من وصف النصر بالعزيز على ما هو الظاهر بناء على أحد معاني العزة
(26/91)
وهو قلة الوجود والمنال والمعنى ينصرك الله نصرا يقل وجود مثله ويصعب مناله وقد قال الراغب بهذا في قوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز ورأيت ذلك للصدر بعد أن كتبته من الصدر فتأمل ولا تكن ذا عجز
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين بيان لما أفاض سبحانه عليهم من مباديء الفتح والمراد بالسكينة الطمأنينة والثبات من السكون أي أنزلها في قلوبهم بسبب الصلح وإلا من إظاهرا لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها
وقال الراغب : إنزال الله تعالى نعمته على عبد إعطاؤه تعالى إياها وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه وقيل : أنزل من نزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزله غيره فالمعنى حط السكينة في قلوبهم فكان منزلا لها ومأوى وقيل : السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما روي أن عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال : إن السكينة لتنطق على لسان عمر وأمر الأنزال عليه ظاهر جدا
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل وغيرها عن ابن عباس أنه قال : السكينة هي الرحمة وقيل : هي العقل ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب وقيل : هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : هي من سكن إلى كذا مال إليه أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الشرائع وأرجح التفاسير هنا على ما قال الخفاجي : الأول وما ذكره بعضهم من أن السكينة شيء له رأس كرأس الهرة فما أراه قولا يصح ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم أي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها على أن الإيمان لما ثبت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة تجدده وازدياده فاستعير له ذلك ورشح بكلمة مع وقيل : ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم ومن قال : الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه أي الإيمان المركب من ذلك وغيره يزيد وينقص ولم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلا له وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي الفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص ونقل ذلك عن الشافعي ومالك وقال البخاري : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم وأما الثاني فلكترة النصوص في هذا المعنى منها الآية المذكورة ومنها ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا : يا رسول الله إن االإيمان يزيد وينقص قال : نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار ومنها ما روي عن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به واعترض بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده
ما أو لا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل
(26/92)
من مقولة الكم وإنما هو كيف أو انفعال أو إضافة وتعلق بين العالم والمعلوم أو صفة ذات إضافة والأشهر أنه كيف فمتى صح ذلك وقلنا بمغايرة الشدة والضعف للزيادة والنقص فلا بأس بحملهما في النصوص وغيرها على الشدة والضعف وذلك مجاز مشهور وإنكار اتصاف الإيمان بهما يكاد يلحق بالمكابرة فتأمل وذكر بعضهم هنا أن الإيمان الذي هو مدخول مع هو الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله الإيمان الأستدلالي فكأنه قيل : ليزدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري وفيه من الخفاء ما فيه ولله جنود السماوات والأرض يدبر أمرها كيفما يريد فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع سبحانه بينهما السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ومن قضية ذلك ما وقع في الحديبية وكان الله عليما مبالغا في العلم بجميع الأمور حكيما
4
- في تقديره وتدبيره عز و جل
وقوله سبحانه ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السماوات والأرض له جل شأنه من معنى التصرف والتدبير وقد صرح بعض الأفاضل بأنه كناية عنه أي دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله تعالى في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة فالعلة في الحقيقة معرفو النعمة وشكرها لكنها لما كانت سببا لدخول الجنة أقيم المسبب مقام السبب
وقيل : متعلق بفتحنا وقيل : بإنزل وتعلقه بذلك مع تعلق اللام الأخرى به مبني على تعلق الأول به مطلقا والثاني مقيدا وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين وإلا فلا يتعلق بعامل واحد حرفا جر بمعنى واحد من غير اتباع وقيل : متعلق بينصرك وقيل : بيزداد وقيل : بجميع ما ذكر إما على التنازع والتقدير أو بتقدير ما يشتمل ذلك كفعل سبحانه ما ذكر ليدخل الخ وقيل : هو بدل من ليزداد بدل اشتمال فإن إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة وكذا ما عطف عليه مستلزم لزيادة الإيمان وبدل الأشتمال يعتمد على ملابسة ما بين المبدل والمبدل منه بحيث يشعر أحدهما بالآخر غير الكلية والبعضية ولعل الأظهر الوجه الأول وضم المؤمنات ههنا إلى المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور لأجل الجهاد والفتح على أيديهم وكذا في موضع يوهم الأختصاص يصرح بذكر النساء ويقال نحو ذلك فيما بعد كذا قيل وأخرج ابن جرير وجماعة عن أنس قال : أنزلت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال : لقد أنزلت على آية هي أحب إلي مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا : هنيئا مريئا يا رسول الله قد بين الله عالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات حتى بلغ فوزا عظيما
ويكفر عنهم سيئاتهم أي يغطيها ولا يظهرها والمراد بمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها وتقديم الأدخال في الذكر على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلوب إلا على كذا قال غير واحد ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة على أن المعنى يدخلهم الجنة ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم فلا تمر لهم ببال ولا يذكرونها أصلا لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشم وقد مر مثل ذلك
وكان ذلك أي ما ذكر من الأدخال والتكفير عند الله فوزا عظيما
5
- لا يقادر قدره لأنه منتهى ما تمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر و عند الله حال من فوزا لأنه صفة النكرة إذا قدمت عليها
(26/93)
الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بالنتفاء شيء من الأعمال والجماعة إنما يقولون : إنها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الأنتفاء إلا انتفاء الكمال وهو قادح في أصل الإيمان
وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام : إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثؤتها واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكا
ودفع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنها لا شك معها وممن وافق النووي على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وكصير من المتكلمين الإيمان لا يزيد ولا ينقص واختاره إمام الحرمين واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والأذعان وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوة قلة وكثرة وأجابو عما تمسك به الأولون بوجوه منها ما أشرنا إليه أولا من أن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والأوقات وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه بل يتجدد أمثاله فتقع للنبيي عليه الصلاة و السلام متوالية ولغيره على الفترات فثبتت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم أكثر والزيادة بهذا المعنى قيل مما لا نزاع فيها
واعترض بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك ومنها ما أشرنا إليه ثانيا من أن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به والصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين آمنوا أولا بما آمنوا وكانت الشريعة لم تتم وكانت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شكل في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصره صلى الله تعالى عليه وسلم لإمكان الأطلاع على التفاصيل في غيره من العصور أيضا ومنها أن يحتاج زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نور الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي وقيل : وهذا إنما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التصديق الزيادة والنقص لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظواهر على حالها وقال الخطابي : الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص وعمل وهو يزيد وينقص واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص فإذا نقص ذهب واعترض أنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب
ودفع بأن مراده أن الأعتقاد باعتبار أول مراتبه يزيد ولا ينقص لا أن الأعتقاد مطلقا كذلك وذهب جماعة منهم الأمام الرازي وإمام الحرمين إلى أن الخلاف لفظي وذلك بحمل قول النفي على أصل الإيمان وهو التصديق فلا يزيد ولا ينقص وحمل قول الإثبات على ما به كماله وهو الأعمال فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان والحق أنه حقيقي لما سمعت عن الإمام النووي ومن معه من أن التصديق نفسه يزيد وينقص
وقال بعض المحققين : إن الزيادة والنقص من خواص الكم والتصديق قسم من العلم ولم يقل أحد بأنه
(26/94)
أعربت حالا وكونه يجوز فيه الحالية إذا تأخر عن عظيما لا ضير فيه كما توهم أي كائنا عند الله تعالى أي في علمه سبحانه وقضائه جل شأنه والجملة اعتراض مقرر لما قبله وقوله عالى : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات عطف على يدخل أي وليعذب المنافقين الخ لغيظهم من ذلك وهو ظاهر على جميع الأوجه السابقة في ليدخل حتى وجه البدلية فإن الأشتمال تصححه الملابسة كما مر وازدياد الإيمان على ما ذكرنا في تفسير مما يغيظهم بلا ريب وقيل : إنه على هذا الوجه يكون عطفا على المبدل منه وتقديم المنافقين على المشركين لأنهم أكثر ضررا على المسلمين فكان في تقديم تعذيبهم تعجيب المسرة
الظآنين بالله ظن السوء أي ظهر الأمر الفاسد المذموم وهو أنه عز و جل لا ينصر رسوله صلى الله عليه و سلم والمؤمنين وقيل : المراد به ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة نت الشرك أو غيره عليهم دائرة السوء أي يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دائرة السوء بالضم والفرق بينه وبين السوء بالفتح على ما في الصحاح أن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر بمعنى المساءة
وقال غير واحد : هما لغتان بمعنى كالكره والكره عند الكسائي وكلاهما في الأصل غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جري مجرى الشر ولما كانت الدائرة هنا محمودة وأضيفت إلى المفتوح في قراءة الأكثر تعين على هذا أن يقال : إن ذاك على تأويل أنها مذمومة بالنسبة إلى من دارت عليه من المنافقين والمشركين واستعمالها في المكروه أكثر وهي مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل وإضافتها على ما قال الطيبي من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة وفي الكشف الإضافة بمعنى من على نحو دائرة ذهب فتدبر
والكلام إما إخبار عن وقوع السوء بهم أو ادعاء عليهم وقوله تعالى : وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم عطف على ذلك وكان الظاهر فلعنهم فأعد بالفاء في الموضعين لكنه عدل عنه للأشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل في الوعيد به من غير اعتبار للسببية فيه وسآءت مصيرا
6
- جهنم ولله جنود السماوات والأرض ذكر سابقا على أن المراد أنه عز و جل المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته فلذلك ذيل بقوله تعالى : عليما حكيما وههنا أريد التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم لذا ذيل بقوله تعالى : وكان الله عزيزا حكيما
7
- فلا تكرار كما قال الشهاب وقيل : إن الجنود جنود رحمة وجنود عذاب والمراد به هنا الثاني كما ينبيء عنه التعرض لوصف العزة
إنآ أرسلناك شاهدا أي على أمتك لقوله تعالى : ويكون الرسول عليكم شهيدا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة شاهدا على أمتك وشاهدا على الأنبياء عليهم السلام أنهم قد بلغوا ومبشرا بالثواب على الطاعة ونذيرا
8
- بالعذاب على المعصية لتؤمنوا بالله ورسوله الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وأمته كقوله سبحانه : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهو من باب التغليب غلب فيه المخاطب على الغيب فيفيد أن النبي عليه الصلاة و السلام مخاطب بالإيمان برسالته لأمة وهو كذلك وقال الواحدي : الخطاب في أرسلناك للنبي صلى الله عليه و سلم وفي لتؤمنوا لأمته فعلى هذا إن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفا أي لتؤمنون بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال أو للأمر على طريقة فبذلك فلتفرحوا على قراءة التاء الفوقانية فقيل هو على معنى قل لهم : لتؤمنوا الخ وقيل : هو للأمة على أن خطابه صلى الله عليه و سلم منزل منزلة خطابهم فهو عينه ادعاء واللام متعلقة بأرسلنا ولا يعترض
(26/95)
عليه بما قرره الرضي وغيره من أنه يمتنع أن يخاطب في كلام واحد اثنان من غير عطف أو تثنية أو جمع لأنه بعد التنزيل لا تعدد وجوز أن يكون ذلك لأنهم حينئذ غير مخاطبين في الحقيقة فخطابهم في حكم الغيبة وقيل : الأمتناع المذكور مشروط بأن يكون كل من المخاطبين مستقلا أما إذا كان أحدهما داخلا في خطاب الآخر فلا امتناع كما يعلم من تتبع كلامهم وحينئذ يجوز أن يراد خطاب الأمة أيضا من غير تغليب والكلام في ذلك طويل وما ذكره سابقا سالم عن القال والقيل وتعزروه أي تنصروه كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعا وأخرجه جماعة عن قتادة والضمير لله عز و جل ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه و سلم وتوقروه أي تعظموه كما قال قتادة وغيره والضمير له تعالى أيضا وقيل : كلا الضميرين للرسول صلى الله عليه و سلم وروي عن ابن عباس وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في تعزروه للرسول عليه الصلاة و السلام لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى : وتسبحوه لله سبحانه وتعالى ولا يخفى أن الأولى كون الضميرين فيما تقدم لله تعالى أيضا لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة أي وتنزهوا الله تعالى أو تصلوا له سبحانه من السبحة بكرة وأصيلا
9
- غدوة وعشيا والمراد ظاهرهما أو جميع النهار ويكنى عن جميع الشيء بطرفيه كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة أعني لتؤمنوا وما بعده بياء الغيبة وعن ابن مسعود وابن جبير كذلك إلا أنهماقرآ ويسبحوا الله بالأسم الجليل مكان الضمير وقرأ الجحدري تعزروه بفتح التاء الفوقية وضم الزاي مخففا وفي رواية عنه فتح التاء وكسر الزاي مخففا وروي هذا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وقريء بضم التاء وكسر الزاي مخففا وقرأ ابن عباس ومحمد بن اليماني تعززوه بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزا وذلك بالنسبة إليه سبحانه بجعل دينه ورسوله صلى الله عليه و سلم كذلك وقريء وتوقروه من أوقره بمعنى وقره إن الذين يبايعونك يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية وهي مفاعلة من البيع يقال : بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له بما رضخ له وكثيرا ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ وما وقع للمؤمنين قيل يشير إلى ما في قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية إنما يبايعون الله لأن المقصود من بيعة الرسول عليه الصلاة و السلام وإطاعته إطاعة الله تعالى وامتثال أوامره سبحانه لقوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه مشاكلة أو هو صرف مجاز وقريء إنما يبايعون لله أي لأجل الله تعالى ولوجهه والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لله يد الله فوق أيديهم استئناف مؤكد لما قبله لأنه عبارة عن المبالغة قال في الكشاف لما قال سبحانه : إنما يبايعون الله أكده على طريقة التخييل فقال تعالى : يد الله فوق أيديهم وأنه سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه و سلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما وفي المفتاح أما حسن الأستعارة التخييلية فبحسب حسن الأستعارة بالكناية متى كانت
(26/96)
تابعة لها كما في قولك : فلان بين أنياب المنية ومخالبها تم إذا انضم إليها المشاكلة كما في يد الله الخ كانت أحسن وأحسن يعني أن في اسم الله تعالى استعارة بالكناية تشبيها له سبحانه وتعالى بالمبايع واليد استعارة تخييلية مع أن فيها أيضا مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس وامتناع الأستعارة في اسم الله تعالى إنما هو في الأستعارة التصريحية دون المكنية لأنه لا يلزم إطلاق اسمه تعالى على غيره سبحانه وروي الواحدي عن ابن كسيان اليد القوة أي قوة الله تعالى ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي ثق بنصرة الله تعالى لك لا بنصرتهم وإن بايعوك
وقال الزجاج : المعنى يد الله في الوفاء فوق أيديهم أو في الثواب فوق أيديهم في الطاعة أو يد الله سبحانه في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة وقيل : المعنى نعمة الله تعالى عليهم بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم وهي مبايعتهم إياك منها وفيه شيء من قوله تعالى : قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وكل ذلك تأويلات ارتكبها الخلف وأحسنها ما ضكر أولا والسلف يمرون الآية كما جاءت مع تنزيه الله عز و جل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون : إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأني ذلك وهيهات هيهات وجوز أن تكون الجملة خبرا بعد خبر لإن وكذا جوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل في يبايعونك وفي جواز ذلك مع كونها إسمية غير مقترنة بالواو كلام فمن نكث نقض العهد فإنما ينكث على نفسه فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه وروي الزمخشري عن جابر بن عبد الله أنه ما نكث أحد البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا والذي نقله الطيبي عن مسلم يدل على أن الرجل لم يبايع لا أنه بايع ونكث قال : سئل جابر كم كانوا يوم الحديبية قال : كنا أربع عشر مائة فبايعناه وعمر رضي الله تعالى عنه آخذه بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم ولعل هذا هو الأوفق لظاهر قوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك الآية
وقرأ زيد بن علي ينكث بكسر الكاف ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما
10
- هو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويقال : وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه وأوفى لغة تهامة ومنه قوله تعالى : أوفوا بالعقود والموفون بعهدهم وقريء بما عهد ثلاثيا وقرأ الجمهور عليه بكسر الهاء كما هو الشائع وضمها حفص هنا قيل : وجه الضم إنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه ووجه الكسر رعاية الياء وكضا في إليه وفيه وكذا فيما إذا كان قبلها كسرة نحو به ومررت بغلامه لثقل الأنتقال من الكسر إلى الضم وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام وأيضا إبقاء ما كان على ما كان ملائم للوفاء بالعهد وإبقاؤه وعدم نقضه وقد سألت كثيرا من الأجلة وأنا قريب عهد بفتح فمي للتكلم عن وجه هذا الضم هنا فلم أجب بما يسكن إليه قلبي ثم ظفرت بما سمعت والله تعالى الهادي إلى ما هو خير منه وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح وزيد بن علي فسنؤتيه بالنون
سيقول لك المخلفون من الأعراب قال مجاهد وغيره ودخل كلام بعضهم في بعض المخلفون من الأعراب هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم استنفرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(26/97)
حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلى الله تعالى عليه وسلم وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة و السلام يستقبل عددا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتخلفوا وقالوا : نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا : لن يرجع محمد عليه الصلاة و السلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك و المخلفون جمع مخلف قال الطبرسي : هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدوم و الأعراب في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذر إليك شغلتنا عن الذهاب معك أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال
وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان شغلتنا بتشديد الغين المعجمة للتكثير فاستغفر لنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان وهو كناية عن كذبهم فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلا من سيقول غير ظاهر والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة و السلام وكذا راجع لما تضمنه استغفر الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم أو تسمية ذلك كذبا ليس لعدم مطابقة نسبة الأعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطايقته الواقع بحسب الأعتقاد وفرق بين الأمرين قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا و أراد بكم نفعا أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم ومنه لا أملك رأس البعير وملكت إذا شددت عجنته وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما وإذا قلت : لا أملك كان نفيا للأستطاعة والطاقة إمساكا ومنعا فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم الخ واللام من لكم إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الأستطاعة مختصة بهم لأجلهم من الله حال من النكرة أعني شيئا مقدمة وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازا عنه أو مضمنا إياه واللام زائدة كما في ردف لكم و من متعلقة بيملك كما قيل والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف
وقرأ حمزة والكسائي ضرا بضم الضاد وهو لغة فيه وحالصل معنى الآية قل لهم إذ لا يدفع ضره ولا نفعه فليس الشغل بالأهل والمال عذرا فلا ذاك يدفع الضر إن أراده عز و جل ولا مغافضة العدو وتمنع
(26/98)
النفع إن أراد بكم نفعا وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديدا بقوله تعالى : بل كان الله بما تعملون أي بكل ما تعملونه خبيرا
11
- فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه : بل ظننتم إلى قوله تعالى : بورا وفي الأنصاف أن قوله تعالى : فمن يملك الخ لفا ونشرا والأصل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أو من يحرمكم النفع أن أراد بكم نفعا لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى : فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه ومنه قوله عليه الصلاة و السلام في بعض الحديث : إني لأملك لكم شيئا يخاطب عشيرته وأمثاله كثير وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوأ أو أراد بكم رحمة فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمن فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى والوجه ما ذكرناه أولا في الآية وفي تسمية مثل هذا لفا ونشرا نظرا ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع وقال شيخ الإسلام أبو السعود : المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى بل كان الله بما تعملون خبيرا فإنه إضراب عما قالوه وبيان لكذبه بعد بيان فساد صدقه انتهى وهو كلام أو هي من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة والظاهر أن كلا من الأضرابات الثلاثة مقصود قال شيخ الإسلام : إن قوله تعالى : بل ظننتم الخ بدل من كان الله الخ مفسر لما فيه من الأبهام وفي البحر أنه بيان للعلة في تخلفهم أي بل ظننتم أن لن ينقلب أي لن يرجع من ذلك السفر الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أي عشائرهم وذوي قرباهم أبدا بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فحسبتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما يصيبهم فلأجل ذلك تحلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة والأهلون جمع أهل وجمعه جمع السلامة على خلاف القياس لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل ويجمع على أهلات بملاحظة تاء التأنيث في مفرده تقديرا فيجمع كتمرة وتمرات ونحوه أرض وأرضات وقد جاء على ما في الكشاف أهلة بالتاء ويجوز تحريك عينه أيضا فيقال : أهلات بفتح الهاء وكذا يجمع على أهال كليال وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع وقيل : هو إطلاق منه في الجمع الوارد على خلاف القياس وإلا فاسم الجمع شرطه عند النحاة أن يكون على وزن المفردات سواء كان له مفرد أم لا وقرأ عبد الله إلى أهليهم بغير ياء والآية ظاهرة في أن لن ليست للتأييد ومن زعم إفادتها إياه جعل أبدا للتأكيد وزين أي حسن ذلك أي الظن المفهوم من ظننتم في قلوبكم فلو تسمعوا في إزالته فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
(26/99)
والمؤمنين وقيل : الإشارة إلى المظنون وهو عدم انقلاب الرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين إلى أهليهم أبداأي حسن ذلك في قلوبهم فأحببتموه والمراد من ذلك تقريعهم ببغضهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين والمناسب للسياق ما تقدم وقريء زين بالبناء للفاعل بإسناده إلى الله تعالى أو إلى الشيطان وظننتم ظن السوء وهو ظنهم السابق فتعريفه للعهد الذكرى وأعيد لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو هو عام فيشمل ذلك الظن وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم رسالته عليه الصلاة و السلام فإن الجازم بصحتها لا يحرم فكره حول ما ذكره من الأستئصال فذكر للتعميم بعد التخصيص
وكنتم في علم الله تعالى الأزلي قوما بورا
12
- أي هالكين لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم مستوجبين سخطه تعالى وعقابه جل شأنه وقيل : أي فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم والظاهر على ما في البحر أن بورا في الأصل مصدر كالهلك ولذا وصف به المفرد المذكر في قول ابن الزبعري : يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور والمؤنث حكى أبو عبيدة امرأة بور والمثنى والمجموع وجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وعائد وعوذ وبازل وبزل وعلى المصدرية هو مؤول باسم الفاعل وجوز أن تكون كان بمعنى صار أي وصرتم بذلك الظن قوما هالكين مستوجبين السخط والعقاب والظاهر إبقاؤها على بابها والمضي باعتبار العلم كما أشرنا إليه وقيل : أي كنتم قبل الظن فاسدين وقوله تعالى : ومن لم يؤمن بالله ورسوله الخ كلام مبتدأ من جهته عز و جل وجل غير داخل في الكلام الملقن مقرر لبوارهم ومبين لكيفيته أي ومن لم يصدق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم كدأب هؤلاء المخلفين فإنا أعتدنا هيأنا للكافرين سعيرا
13
- نارا مسعورة موقدة ملتهبة وكان الظاهر لهم فعدل عنه إلى ما ذكر إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره لمكان التعليق بالمشتق
وتنكير سعير للتهويل لما فيه من الأشارة إلى أنها لا يمكن معرفتها واكتفاء كنهها وقيل : لأنها نار مخصوصة فالتنكير للتنويع و من يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون شرطية والعائد من الخبر أو من جواب الشرط هو الظاهر القائم مقام المضمر ولله ملك السواوات والأرض فهو عز و جل المتصرف في الكل كما يشاء يغفر لمن يشاء أن يغفر له ويعذب من يشاء أن يعذبه من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه تعالى وتعذيبه جل وعلا وجودا وعدما وكان الله غفورا رحيما
14
- مبالغا في المغفرة لمن يشاء ولا يشاء سبحانه إلا لمن تقتضي الحكمة المغفرة له ممن يؤمن به سبحانه ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأما من عداه من الكافرين المجاهرين والمنافقين فهم بمعزل من ذلك قطعا وفي تقديم المغفرة والتذييل بكونه تعالى غفورا بصيغة المبالغة وضم رحيما إليه الدال على المبالغة أيضا دون التذييل بما يفيد كونه سبحانه معذبا مما يدل على سبق الرحمة ما فيه
وفي الحديث كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت غضبي وهذا السبق على ما أشار إليه في أنوار التنزيل ذاتي وذلك لأن الغفران والرحمة بحسب الذات والتعذيب بالعرض وتبعيته للقضاء والعصيان المقتي لذلك وقد صرح غير واحد بأن الخير هو المقضي بالذات والشر بالعرض إذ لا يوجد جزئي إلا وهو
(26/100)
متضمن لخير كلي وفصل ذلك في شرح الهياكل وقال بعض الأجلة المراد بالسبق في الحديث كثرة الرحمة وشمولها وكذا المراد بالغلبة الواقعة في بعض الروايات وذلك نظير ما يقال : غلب على فلان الكرم ومن جعل الرحمة والغضب من صفات الأفعال لم يشكل عليه أمر السبق ولم يحتج إلى جعله ذاتيا كما لا يخفى والآية على ما قال أبو حيان لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة وقيل : لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره عليه الصلاة و السلام لهم وفسر الزمخشري من يشاء الأول بالتاء والثاني بالمصر ثم قال : يكفر سبحانه السيآت باجتناب الكبائر ويغفر الكبائر بالتوبة وهو اعتزال منه مخالف لظاهر الآية وقال الطيبي يمكن أن يقال : إن قوله تعالى : ولله ملك السماوات الخ موقعه موقع التذييل لقوله تعالى : ومن لم يؤمن بالله ورسوله الآية على أنه يقدر له ما يقابله من قوله ومن آمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للمؤمنين الجنان مثلا فلا يقيد شيء مما يقيده ليؤذن بالتصرف التام والمشيئة والأعراب والغفران الكامل والرحمة الشاملة فتأمل ولا تغفل سيقول المخلفون المذكورون من الأعراب فاللام للعهد وقوله تعالى : إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ظرف لما قبله لا شرط لما بعده والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين ولم نقف على خلاف في في ذلك وأيد بأن السين تدل على القرب وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية كما علمت فإرادتها كالمتعينة وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا وخص سبحانه ذلك بهم أي سيقولون عند إطلاقهم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها طمعا في عرض الدنيا لما أنهم يرون ضعف العدو ويتحققون النصرة ذرونا نتبعكم إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها يريد أن يبدوا كلام الله بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية وحاصله يريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى والجملة استئناف لبيان مرادهم بذلك القول وقيل : يجوز أن تكون حالا من المخلفين وهو خلاف الظاهر ولا ينافي خبر التخصيص إعطاؤه عليه الصلاة و السلام بعض مهاجري الحبشة القادمين مع جعفر وبعض الدوسيين والأشعريين من ذلك وهم أصحاب السفينة كما في البخاري فإنه كان استنزالا للمسلمين عن بعض حقوقهم لهم أو أن بعضها فتح صلحا وما أعطاه عليه الصلاة و السلام فهو بعض مما صالح عليه وكل هذا مذكور في السير لكن الذي صححه المحدثون أنه لا صلح فيها
وقال الكرماني : إنما أعطاهم صلى الله عليه و سلم برضا أصحاب الوقعة وأعطاهم من الخمس الذي هو حقه عليه الصلاة و السلام وميل البخاري إلى الثاني وحمل الله تعالى على وعده بتلك الغنائم لهم خاصة هو الذي عليه مجاهد وقتادة وعامة المفسرين وقال ابن زيد : كلام الله قوله سبحانه وتعالى : قل لن تخرجوا معي أبدا ووافقه الجبائي على ذلك وشنع عليهما غير واحد بأن ذلك نازل في المخلفين في غزوة تبوك من المنافقين وكانت الغزوة يوم الخميس في رجب سنة تسع بلا خلاف كما قال القسطلاني والحديبية في سنة ست كما قاله ابن الجوزي وغيره وهذه إنما نزلت بعيد الأنصراف من الحديبية كما علمت وأيضا قال في البحر : قد غزت مزينة وجهينة من هؤلاء المخلفين بعد هذه المدة معه عليه الصلاة و السلام وفضلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب وفي الكشف لعل القائل بذلك أراد أن هؤلاء المخلفين لما كانوا منافقين مثل المخلفين عن تبوك كان
(26/101)
حكم الله تعالى فيهم واحدا ألا ترى أن المعنى الموجب مشترك وهو رضاهم بالقعود أول مرة فكلام الله تعالى أريد به حكمه السابق وهو المنافق لا يستصحب في الغزو ولم يرد أن هذا الحكم منقاس على ذلك الأصل أو الآية نازلة فيهم أيضا فهذا ما يمكن في تصحيحه انتهى وقال عما في البحر : الذين غزوا بعد لم يغزوا حتى أخلصوا ولم يبقوا منافقين والله تعالى أعلم وقرأ حمزة والكسائي كلم الله وهو اسم جنس جمعي واحده كلمة قل إقناطا لهم لن تتبعونا أي لا تتبعونا فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة والمراد نهيهم عن الأتباع فيما أرادوا الأتباع فيه في قولهم : ذرونا نتبعكم وهو الأنطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة وقيل : المراد لا تتبعونا مادمتم مرضى القلوب وعن مجاهد كان الموعد أي الموعد الذي تغييره تبديل كلام الله تعالى وهو موعده سبحانه لأهل الحديبية أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم فكأنه قيل : لن تتبعونا إلا متطوعين وقيل : المراد التأييد والظاهر السياق الأول كذلكم قال الله من قبل أي من قبل أن تهيأتم للخروج معنا وذلك عند الأنصراف من الحديبية فسيقولون للمؤمنين عند سماع هذا النهي بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم وهو إضراب عن كونه بحكم الله تعالى أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا وقرأ أبو حيوة تحسدوننا بكسر السين بل كانوا لا يفقهون لا يفهمون إلا قليلا
15
- أي إلا فهما قليلا وهو فهمهم لأمور الدنيا وهو رد لقولهم الباطل في المؤمنين ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم وهو الجهل المفرد وسوء الفهم في أمور الدين وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى وإثباتهم الحسد لأولئك السادة من الجهل وقلة التفكر قل للمخلفين من الأعراب كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذم وإشعار بشناعة التخلف ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري بنو حنيفة مسيلمة وقومه أهل اليمامة وعليه جماعة وفي رواية عنه زيادة أهل الردة وروي ذلك عن الكلبي وعن رافع بن خديج إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة أنهم أريدوا بها وعن عطاء ابن أبي رباح ومجاهد في رواية وعطاء الخراساني وابن أبي ليلى هم الفرس وأخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن ابن عباس وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية : دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لقتال فارس أعراب المدينة جهينة ومزينة الذين كان النبي صلى الله عليه و سلم دعاهم للخروج إلى مكة وقال عكرمة وابن جبير وقتادة : هم هو أزن ومن حارب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في حنين وفي رواية ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة التصريح بثقيف مع هوازن وفي رواية الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : هم هوازن وبنو حنيفة وقال كعب : هم الروم الذي خرج إليهم صلى الله تعالى عليه وسلم عام تبوك والذين بعث ليهم في غزوة بيوتة وأخرج سعيد ابن منصور وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال : هم فارس والروم وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : البارز يعني الأكراد كما في الدر المنثور وأخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن مجاهد قال : أعراب فارس وأكراد العجم وظاهرالعطف أن أكراد العجم ليسوا من أعراب فارس وظاهر إضافة أكراد إلى العجم يشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلا من الناس يقال لهم
(26/102)
أكراد من غير إضافة إلى عرب أو عجم وللعلماء اختلاف في كونهم في الأصل عربا أو غيرهم فقيل : ليسوا من العرب وقيل منهم قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان في ترجمة المهلب بن أبي صفرة ما نصه : حكي أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الأستيعاب في كتابه القصد والأمم في أنساب العرب والعجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البر : لعمرك ما الأكراد أبناء فارس ولكنه كرد بن عمرو بن عامر انتهى وفي القاموس الكرد بالضم جيل من الناس معروف والجمع أكراد وجدهم كرد بن عمرو مزيقيا ابن عامر ماء السماء انتهى وعامر هذا من العرب بلا شبهة فإنه ابن حارثة الغطريف بن أمرء القيس البطريق ابن ثعلبة بن مازن ويقال له الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويسمى عامرا وهو الأكثر ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وقيل : من مولد هود وقيل : هو هود نفسه وقيل : ابن أخيه وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن نبت بن إسماعيل والذي رجحه ابن حجر أن قبائل اليمن كلها ومنها عمرو مزيقيا من ولد إسماعيل عليه السلام ويدل له تبويب البخاري باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ذكر ذلك السيد نور علي السمهودي في تاريخ المدينة وفيه أن الأنصار الأوس والخزرج من أولاد العنقاء بن عمرو ومزيقيا المذكور له ثلاثة عشر ولدا ذكروا منهم ثعلبة المذكور وحارثة والد خزاعة وجفنة والد غسان ووداعة وأبو حارثة وعوف وكعب ومالك وعمران وكرد كما في القاموس انتهى
وفائدة الخلاف تظهر في أمور منها الكفاءة في النكاح والعامة لا يعبدونهم من العرب فلا تغفل والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب وليس من أولاد عمرو المذكور إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلا وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال : إنهم من ذرية خالد بن الوليد وآخرون يقال : أنهم من ذرية معاذ بن جبل وآخرون يقال : إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب وآخرون يقال : أنهم من بني أمية ولا يصح عندي من ذلك شيء بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم وكذا في جلالة حسبهم وبالجملة الأكراد مشهور بالياس وقد كان منهم كثير من أهل الفضل بل ثبت لبعضهم الصحبة وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم : جابان والد ميمون روي ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بن هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غير مرة حتى بلغ عشرا وذكر الحديث وقد أخرج نحوه الطبراني في المعجم الصغير عن ميمون الكردي عن أبيه أيضا وهو أتم منه ولفظه سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقى الله يوم القيامة وهو زان وأيما رجل استدان
(26/103)
دينا لا يريد أن يؤدى إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقى الله وهو سارق ويكنى ميمون هذا بصير بفتح الموحدة وقيل : بالنون وهو كما في التقريب مقبول هذا وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة
وقال أبو حيان : الذي أقوله إن هذه الأقوال تمثيلات من قالها لا تعيين القوم وهذا وإن حصل به الجمع بين تلك الأقوال خلاف الظاهر وقوله تعالى : تقتلونهم أو يسلمون على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لهما فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير ويدل لذلك قراءة أبي وزيد بن علي أو يسلموا بحذف النون لأن ذلك للناصب وهو يقتضي أن أو بمعنى إلا أي إلا أن يسلموا فيفيد الحصر أو بمعنى إلى أي إلى أن يسلموا والغاية تقتضي أنه لا ينقطع القتال بغير الأسلام فيفيده أيضا كما قيل : والجملة مستأنفة للتعليل كما في قولك : سيدعوك الأمير يكرمك أو يكبت عدوك قال في الكشف : ولا يجوز أن تكون صفة لقوم لأنهم دعوا إلى قتال القوم لا أنهم دعوا إلى قوم موصوف بالمقاتلة أو الأسلام
وجوز بعضهم كونها حالية وحاله كحال الوصفية وأصل الكلام ستدعون إلى قوم أولي بأس لتقاتلوهم أو يسلموا إلى الأستئناف لأنه أعظم الوصلين ثم فيه أنهم فعلوا ذلك وحصلوا الغرض فهو يخبر عنه واقعا
والأعتراض بأنه يلزم أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق إخباره تعالى ونحن نرى الأنفكاك بأن يتركوا سدى أو بالهدنة فينبغي أن يؤول بأنه في معنى الأمر على ما في أمالي ابن الحاجب غير سديد لأن القوم مخصوصون لا عموم فيهم وكان الواقع أنهم قوتلوا إلىأن أسلموا سواء فسر القوم ببني حنيفة أو بثقيف وهوازن أو فارس والروم على أن الأسلام الأنقياد فما انفك الوجود عن أحدهما بل وقعا وأما امتناع الأنفكاك فليس من مقتضى الوضع ولا الأستعمال بل ذلك في الكلام الأستدلالي قد يتفق
وأطال الطيبي الكلام في هذا المقام ثم قال : الذي يقتضيه المقام ما ذهب إليه صاحب التحبير من أن يسلمون عطف على تقاتلونهم أما على الظاهر أو بتقديرهم يسلمون ليكون من عطف الأسمية على الفعلية وحينئذ تكون المناسبة أكثر إذ تخرج الجملة إلى باب الكناية والمعنى تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون وقد وضع فيه أو يسلمون موضع أولا تقاتلونهم لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة والأستدعاء عليه ليس إلا للأختبار و أو للترديد على سبيل الأستعارة وفيه ما فيه وشاع الأستدلال بالآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووجه ذلك الإمام فقال : الداعي في قوله تعالى : ستدعون لا يخلو من أن يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو الأئمة الأربعة أو من بعدهم لا يجوز الأول لقوله سبحانه قل لن تتبعونا الخ ولا أن يكون عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه لأنه إنما قاتل البغاة والخوارج وتلك المقالة للأسلام لقوله عز و جل : أو يسلمون ولا من ملك بعدهم لأنهم عندنا على الخطأ وعند الشيعة على الكفر ولما بطلت الأقسام تعين أن يكون المراد بالداعي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم ثم أنه تعالى أوجب طاعته وأوعد على مخالفته وذلك يقتضي إمامته وأي الثلاثة كان ثبت المطلوب أما إذا كان أبا بكر فظاهر وأما إذا كان عمر أو عثمان فلأن إمامته فرع إمامته رضي الله تعالى عنه وتعقب بأن الداعي كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويشعر بذلك السين قوله : لا يجوز لقوله سبحانه : لن تتبعونا الخ فيه أن لن لا تفيد التأييد على الصحيح وظاهر السياق يدل على أن
(26/104)
المراد به لن تتبعونا في الأنطلاق إلى خيبر كما سمعت عن محيي السنة أو هو مقيد بما روي عن مجاهد أو بما حكى عن بعض وقال أبو حيان : القول بأنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بصحيح فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة وحضروا حرب هوازن معه عليه الصلاة و السلام وحضروا معه صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا في سفرة تبوك انتهى ولا يخفى أن هذا إذا صح ينفي حمل النفي على التأييد
ومن الشيعة من اقتصر في رد الأستدلال على الدعوة في تبوك وتعقب بأنه لم يقع فيها ما أخبر الله تعالى به في قوله سبحانه : تقاتلونهم أو يسلمون ومنهم من زعم أن الداعي علي كرم الله تعالى وجهه وزعم كفر البغاة والخوارج عليه رضي الله تعالى عنه وأنه لو سلم إسلامهم يراد بالأسلام في الآية الأنقياد إلى الطاعة وموالاة الأمير وفيه ما لا يخفى والأنصاف أن الآيةلا تكاد تصح دليلا على إمامة الصديق رضي الله تعالى عنه إلا إن صح خبر مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ودون ذلك خرط القتاد ونفي بعضهم صحة كون المراد بالقوم فارسا والروم لأن المراد في قوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون على ما سمعت وفارس مجوس والروم نصارى فلا يتعين فيهم لأحد الأمرين من المقاتلة والأسلام إذ يقبل منهم الجزية وكذا اليهود ومشركو العجم والصائبة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال : يتعين كونهم مرتدين أو مشركي العرب لأنهم الذين لا يقبل منهم إلا الأسلام أو السيف ومثل مشركي العرب مشركو العجم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فعنده لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس وأنت تعلم أن من فسر القوم بذلك يفسر الأسلام بالأنقياد وهو يكون بقبول الجزية فلا يتم له النفي فلا تغفل فإن تطيعوا الديلمي فيما دعاكم إليه يؤتكم الله أجرا حسنا هو على ما قيل الغنيمة في الدنيا والجنة في الأخرى وإن تتولوا عن الدعوة كما توليتم من قبل في الحديبية يعذبكم عذابا أليما
16
- لتضاعف جرمكم وهذا التعذيب قال في البحر : يحتمل أن يكون في الدنيا وأنيكون في الآخرة ويحتمل عندي وهو الأوفق بما قبله على ما قيل كونه فيهما ولا بأس بكون كل من الإيتاء والتعذيب في الآخرة بل لعله المتبادر لكثرة استعمالها في ذلك ولا يحسن كون الأمرين في الدنيا ولا كون الأول في الآخرة أو فيها وفي الدنيا والثاني في الدنيا فقط ليس على الأعمى حرج أي إثم ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج أي في التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة وليس في نفي ذلك عنهم نهي لهم عن الغزو بل قالوا : إن أجرهم مضاعف في الغزو وقد غزا ابن مكتوم وكان أعمى رضي الله تعالى عنه وحضر في بعض حروب القادسية وكان يمسك الراية وفي البحر لو حصر المسلمون فالفرض متوجه بحسب الوسع في الجهاد ومن يطع الله ورسوله فيما ذكر من الأوامر والنواهي
يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول عن الطاعة يعذبه عذابا أليما
17
- لا يقادر قدره والمعنى بالوعد والوعيد هنا أعم من المعنى بهما فيما سبق كما ينبيء عن ذلك التعبير بمن هنا بضمير الخطاب هناك وقيل في الوعيد يعذبه الخ دون يدخله نارا ونحوه مما أظهر في المقابلة لقوله تعالى : يدخله جنات الخ اعتناء بأمره من حيث أن التعذيب يوم القيامة عذابا أليما يستلزم إدخال النار وإدخالها لا يستلزم ذلك وأعتني
(26/105)
به لأن المقام يقتضيه ولذلك جيء به كالمكرر مع الوعيد السابق ويكفي في الأشارة إلى سبق الرحمة إخراج الوعد ههنا كالتفصيل لما تقدم والتعبير هناك بإيتاء الأجر الحسن الظاهر في الأستحقاق مع إسناد الإيتاء إلى الأسم الجليل نفسه فتأمل فلمسلك الذهن اتساع وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة وابن عامر ونافع ندخله ونعذبه بالنون فيهما ولما ذكر سبحانه حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر عز و جل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه عليه الصلاة و السلام بقوله تعالى : لقد رضي الله تعالى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة وهم أهل الحديبية إلا جد بن قيس فإنه كان منافقا ولم يبايع
وأصل هذه البيعة وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها : لقد رضي الله تعالى الخ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث خراشا بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة ابن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له : الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمرا لا يريد قتالا فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول صلى الله عليه و سلم فدعا عمر رضي الله تعالى عنه ليبعثه فقال : يا رسول الله إن القوم قد عرفوا عداوتي لهم وغلظي عليهم وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي أو أوذيت فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه وأنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان فأرسله إلى قريش وقال : أخبرهم أنا لم نأت بقتال وإنما جئنا عمارا وادعهم إلى الأسلام وأمره عليه الصلاة و السلام أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى قريبا يظهر دينه بمكة فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشا فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقال رضي الله تعالى عنه : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاحتسبوه فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال عليه الصلاة و السلام : لا نبرح حتى نناجز القوم ونادى مناديه عليه الصلاة و السلام ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمره بالبيعة فأخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبايعوه قال جابر كما في صحيح مسلم وغيره : بايعناه صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال : بايعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تحت الشجرة قيل : على أي شيء تبايعون يومئذ قال : على الموت وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان أخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يبايع الناس وكان أول من بايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يومئذ أبان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن وقيل : سنان بن أبي سنان وروي الأول البيهقي في الدلائل عن الشعبي وأنه قال للنبي عليه الصلاة و السلام : أبسط يدك أبايعك فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : علام تبايعني قال : على ما في نفسك وفي حديث جابر الذي أخرجه مسلم أنه قال : بايعناه عليه الصلاة و السلام وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده ولعل ذلك ليس في مبدأ البيعة وإلا ففي صحيح البخاري عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله إلى
(26/106)
فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك فيبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر رضي الله تعالى عنه يستلئم للقتال فأخبره أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وصح أنه صلى الله عليه و سلم ضرب بيده اليمنى على يده الأخرى وقال : هذه بيعة عثمان ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله تعالى عنه وجماعة من المسلمين وكانت عدة المؤمنين ألفا وأربعمائة على الأصح عند أكثر المحدثين ورواه البخاري عن جابر وروي عن سعيد بن قتادة قال : قلت لسعيد بن المسيب بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول : كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد : حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وتابعه أبو داود وروي أيضا عن عبد الله بن أوفى قال : كان أصحاب الشجرة ألفا وثلثمائة وعند أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفا وسبعمائة وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة وحكى ابن سعيد أنهم ألف وخمسمائة وعشرون وجمع بين الروايات بأنها بناء على عد الجميع أو ترك الأصاغر والأتباع والأوساط أو نحو ذلك وأما قول ابن إسحاق : إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر : تنحر البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم كأبي قتادة لم يكن أحرم أصلا والشجرة كانت سمرة والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فأمر بقطعها خشية الفتنة بها لقرب الجاهلية وعبادة غير الله تعالى فيهم
وفي الصحيحين من حديث طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت : ما هذا المسجد قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال : حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله عليه الصلاة و السلام تحت الشجرة قال : فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ثم قال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأيكم أعلم والرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدى بنفسه وهو مع عن إنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وما في الآية من هذا القسم والمعنى الموجب للرضا فيها هو المبايعة وإذا ذكر مع العين بالياء فقيل رضيت عن زيد بإحسانه كانت الباء للسببية وجاز أن تكون صلة وتتعين للسببية مع مقابلة نحو سخطت عليه بإساءته وهو مع الباء نحو رضيت به يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ فتقول رضيت بقضاء الله تعالى ربا وقاضيا وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضي بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى إمارة فلان والأول أكثر استعمالا وإذا استعمل مع اللام تعدى بنفسه كقولك : رضيت لك التجارة وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا عن الأستحماد وإما لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك مبالغة في أنه في نفسه مرضي محمود وأنك تختار له ما تختار لنفسك وهذا أبلغ ثم هو في حق الحق تعالى شأنه محال عن الخلف قالوا : لأنه سبحانه لا تحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو عندهم مجازا إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وأمامن أسماء الأفعال إذا فسر بالأثابة وكذا إذا أريد الأستحماد وفي البحر أن العامل بإذ في الآية هو رضي وهو
(26/107)
هنا بمعنى إظهار النعم عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات ليتقيد بالزمان وأنت تعلم أن السلف لا يؤولون مثل ذلك ويثبتونه له تعالى على الوجه اللائق به سبحانه ويصرفون الحدوث الذي يستدعيه التقييد بالزمان إلى التعلق ثم أن تقييد الرضا بزمان المبايعة يشعر بعليتها له فلا حاجة إلى جعل إذ للتعليل والتعبير لاستحضار صورة المبايعة وقوله سبحانه : تحت الشجرة إما متعلق بيبايعونك أو بمحذوف هو حال من مفعوله وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة وأنها لم تكن عن خوف منه عليه الصلاة و السلام ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ويكفي فيما ترتب على ذلك ما أخرج أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة وقد قال عليه الصلاة و السلام ذلك عند حفصة فقالت : بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت : وإن منكم إلا واردها فقال عليه الصلاة و السلام قد قال الله تعالى : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا
وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم : أنتم خير أهل الأرض فينبغي لكل من يدعي الأسلام وتعظيمهم والرضا عنهم وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم وعثمان منهم بل كانت يد رسول الله صلى الله عليه و سلم له رضي الله تعالى عنه كما قال أنس خيرا من أيديهم لأنفسهم فعلم ما في قلوبهم أي من الصدق والأخلاص في مبايعتهم وروي نحو ذلك عن قتادة وابن جريج وعن الفراء وقال الطبري ومنذر بن سعيد : من الإيمان وصحته وحب الدين والحرص عليه قيل : من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم واستحسنه أبو حيان والأول عندي أحسن
وهو عطف على يبايعونك لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك وجوز عطفه على رضي بتأويله بظهر علمه فيصير مسببا عن الرضا مترتبا عليه فأنزل السكينة عليهم أي الطمأنينة والأمن وسكون النفس والربط على قلوبهم بالتشجيع وقيل : بالصلح وليس بذاك والظاهر أنه عطف على علم
وفي الأرشاد أنه عطف على رضي الله تعالى وظاهر كلام أبي حيان الأول وحيث استحسن تفسير ما في القلوب بما سمعت آنفا : إن السكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى وقال مقاتل : فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله تعالى عليه وسلم على الموت فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا وتفسر السكينة بتذليل قلوبهم ورفع البيعة عنها ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره وأثابهم فتحا قريبا
18
- قال ابن عباس وعكرمة وقتادة وأبن أبي ليلى وغيرهم : هو فتح خيبر وكان غب انصرافهم من الحديبية وقال الحسن : فتح هجر والمراد هجر البحرين وكان فتح في زمانه صلى الله عليه و سلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر والفتح لا يستدعي سابقة الغزو كما علمت مما سبق في تفسيره فسقط قول الطيبي معترضا على الحسن : إنه لم يذكر أحد من الأئمة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم غزا هجرا نعم إطلاق الفتح على مثل ذلك قليل غير شائع بل قيل هو معنى مجازي له وقيل : هو فتح مكة والقرب أمر نسي وقرأ الحسن ونوح القاري وآتاهم أي أعطاهم
ومغانم كثيرة يأخذونها هي مغانم خيبر كما قال غير واحد وقسمها عليه الصلاة و السلام كما
(26/108)
في حديث أحمد وأبي داود والحاكم وصححه عن مجمع بن جارية الأنصاري فأعطي للفارس سهمين وكان منهم ثلثمائة فارس وللراجل سهما وقيل : مغانم هجر وقرأ الأعمش وطلحة ورويس عن يعقوب ودبلة عن يونس عن ورش وأبو دحية وسقلاب عن نافع والأنطاكي عن أبي جعفر تأخذونها بالتاء الفوقية والألتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الأمتنان وكان الله عزيزا غالبا حكيما
19
- مراعيا لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه وعدكم الله مغانم كثيرة هي ما قال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ما وعد الله تعالى المؤمنين من المغانم إلى يوم القيامة تأخذونها في أوقاتها المقدرة لكل واحدة منها فجعل لكم هذه أي مغانم خيبر وكف أيدي الناس عنكم أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فنكصوا وقال مجاهد : كف أيدي أهل مكةبالصلح وقال الطبري : كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر وقال زيد بن أسلم وابنه المغانم الكثيرة الموعودة مغانم خيبر والمعجلة البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح والجمهور على ما قدمناه والمناسبة لما مر من ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الخطاب وغيره بطريق الغيبة كقوله تعالى : لقد رضي الله تعالى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تقتضي على ما نقل عن بعض الأفاضل أن هذا جاء على نهج التغليب وإن احتمل تلوين الخطاب فيه وذكر الجلبي في قوله تعالى : فجعل لكم هذه الخ أنه إن كان لها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر لا تكون السورة بتمامها نازلة من مرجعه صلى الله تعالى عليه وسلم من الحديبية وإن كان قبله علىأنها من الأخبار عن الغيب فالأشارة بهذه لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة والتعبير بالمضي للتحقق انتهى واختير الشق الأول وقولهم : نزلت في مرجعه عليه الصلاة و السلام من الحديبية باعتبار الأكثر أو على ظاهره لكن يجعل المرجع اسم زمان ممتد وتعقب بأن ظاهر الأخبار يقتضي عدم الأمتداد وأنها نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة فلعل الأولى اختيار الشق الثاني والأشارة بهذه إلى المغانم التي أثابهم إياها المذكورة في قوله تعالى : وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وهي مغانم خيبر وإذا جعلت الأشارة إلى البيعة كما سمعت عن زيد وابنه وروي ذلك عن ابن عباس لم يحتج إلى تأويل نزولها في مرجعه عليه الصلاة و السلام من الحديبية ولتكون آية للمؤمنين الضمير المستتر قيل : للكف المفهوم من كف والتأنيث باعتبار الخبر وقيل : للكفة فأمرالتأنيث ظاهر
وجوز أن يكون لمغانم خيبر المشار إليها بهذه والآية الأمارة أي ولتكون إمارة للمؤمنين يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان أو يعرفون بها صدق الرسول صلى الله عليه و سلم في وعده إياهم فتح خيبر وما ذكر من المغانم وفتح مكة ودخول المسجد الحرام واللام متعلقة إما بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل أو بما تعلق به علىأخر محذوفة من أحد الفعلين السابقين أي فجعل لكم هذه أو كف أيدي الناس عنكم لتنتفعوا بذلك ولتكون آية فالواو كما في الأرشاد على الأول اعتراضية وعل الثاني عاطفة وعند الكوفيين الواو زائدة واللام متعلقة بكف أو بجعل ويهديكم بتلك الآية صراطا مستقيما
20
- هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وتذرون
(26/109)
وأخرى عطف على هذه في فجعل لكم هذه فكأنه قيل لكم هذه المغانم وعجل لكم مغانم أخرى وهي مغانم هوازن في غزوة حنين والتعجيل بالنسبة إلى ما بعد فيجوز تعدد المعجل كالأبتداء بشيئين وقوله تعالى : لم تقدروا عليها في موضع الصفة ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها وقوله تعالى : قد أحاط الله بها في موضع صفة أخرى لأخرى مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته عز و جل بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى قدرتهم والأحاطة مجاز عن الأستيلاء التام إلى قد قدر الله تعالى عليها وايتولى فهي في قبض قدرته تعالى يظهر عليها من أراد وقد أظهركم جل شأنه عليها وأظفركم بها وقيل : مجاز عن الحفظ أي قد حفظها لكم ومنعها من غيركم بقوله سبحانه : وكان الله على كل شيء قديرا
21
- أوفق بالأول وعموم قدرته تعالى لكونها مقتضى الذات فلا يمكن أن تتغير ولا أن تتخلف وتزول عن الذات بسبب ما كما تقرر في موضعه فتكون نسبتها إلى جميع المقدورات على سواء من غير اختصاص ببعض منها دون بعض وإلا كانت متغايرة وجوز كون أخرى منصوبة بفعل يفسره قد أحاط الله بها مثل قضي
وتعقب بأن الأخبار بقضاءالله تعالىبعد اندراجها في جملة الغنائم الموعود بها بقوله تعالى : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ليس فيه مزيد فائدة وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وأورد أن المغانم الكثيرة الموعودة ليست معينة ليدخل فيها الأخرى ولو سلم فليس المقصود بالأفادة كونها مقضية بل ما بعد فتدبر وجوز كونها مرفوعة بالأبتداء والجملة بعدها صفة وجملة قد أحاط الخ خبرها واستظهر هذا الوجه أبو حيان وقال بعض : الخبر محذوف تقديره ثمت أو نحوه وجوز الزمخشري كونها مجرورة بإضمار رب كما في قوله
وليل كوج البحر أرخى سدوله
وتعقبه أبو حيان بأن فيه غرابة لأن رب لم تأت في القرآن العظيم جارةمع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف تضمر هنا وأنت تعلم أن مثل هذه الغرابة لا تضر هذا وتفسير الأخرى بمغانم هوازن قد أخرجه عبد بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس واختاره غير واحد وقال قتادة والحسن : هي مكة وقد حاولوها عام الحديبية ولم يدركوها فأخبروا بأن الله تعالى سيظفرهم بها ويظهرهم عليها وفي رواية أخرى عن ابن عباس والحسن ورويت عن مقاتل أنها بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون وهو غير ظاهر على تفسير المغانم الكثيرة الموعودة فيما سبق بما وعد الله تعالى به المسلمين من المغانم إلى يوم القيامة وأيضا تعقبه بعضهم بأن لم يقدروا عليها يشعر بتقدم محاولة لتلك البلاد وفوات دركها المطلوب مع أنه لم تتقدم محاولة
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : هي خيبر وروي ذلك عن الضحاك وإسحاق وابن زيد أيضا وفيه خفاء فلا تغفل ولو قاتلكم الذين كفروا أي من أهل مكة ولم يصالحوكم كما روي عن قتادة وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنهم حليفا أهل خيبر أسد : وغطفان وقيل : اليهود وليس بذاك لولوا الأدبار أي لانهزموا فتولية الدبر كناية عن الهزيمة ثم لا يجدون وليا يحرسهم وذكر الخفاجي أن الخارس أحد معاني الولي وتفسيره هنا بذلك لمناسبته للمنهزم وقال الراغب : كل من ولي أمر آخر فهو وليه وعليه فالحارس ولي لأنه أمر المحروس والتنكير للتعميم أي لا يجدون فردا ما من الأولياء ولا نصيرا
22
- ولا فردا ما من الناصرين ينصرهم وقال الإمام : أريد : بالولي من ينفع باللطف وبالنصير
(26/110)
من ينفع بالعنف سنة الله التي قد خلت من قبل نصب عل المصدرية بفعل محذوف أي سن سبحانه غلبة أنبيائه عليهم السلام سنة قديمة فيمن مض من الأمم كما قال سبحانه : لأغلبن أنا ورسلي عل ما هو المتبادر من معناه ولعل المراد أن سنته تعال أن تكون العاقبة لأنبيائه عليهم السلام لا أنهم كلما قاتلوا الكفار غلبوهم وهزموهم ولن تجد لسنة الله تبديلا
23
- تغييرا وهو الذي كف أيديهم عنكم أي كفار مكة وفي التعبير بكف دون منع ونحوه لطف لا يخف وأيدكم عنهم ببطن مكة يعني الحديبية كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وقد تقدم أن بعضها من حرم مكة وأن يسلم فالقرب التام كاف ويكون إطلاق بطن مكة عليها مبالغة من بعد أن أظفركم مظهرا لكم عليهم فتعدية الفعل بعل لتضمنه ما يتعد به وهو الأظهار والأعلاء أي جعلكم ذوي غلبة تامة أخرج الأمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في آخرين عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية هبط عل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية وهو الذي كف الخ وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن معقل قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن إلى أن قال : فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا إلى وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ الله تعالىبأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أماا فقالوا : لا فخلى سبيلها فأنزل الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم الخ
وأخرج أحمد وغيره عن سلمة بن الأكوع قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا إلى الصلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في ظلها فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل ما للمهاجرين قتل بن زنيم فاخترطت سيفي فاشتددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم وجعلته في يدي ثم قلت : والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي في عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجاء عمي عامر برجل يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنزل الله تعالى : وهو الذي كف الخ وهذا كله يؤيد ما قلناه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن أبزي قال : لما خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالهدى وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمي : يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع فبعث إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى فنزل بها فأتاه عينه أن عكرمة ابن أبي جعل قد جمع عليك في
(26/111)
خمسمائة فقال لخالد بن الوليد : يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله يا رسول الله ارم بي إن شئت فبعثه على خيل فلقيه عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله تعالى وهو الذي الآية وفي البحر أن خالدا هزمهم حتى دخلوا بيوت مكة وأسر منهم جملة فسيقوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم والخبر غير صحيح لأن إسلام خالد رضي الله تعالى عنه بعد الحديبية قبل عمرة القضاء وقيل بعدها وهي في السنة السابعة
وروي ابن إسحاق وفيره أن خالدا كان يوم الحديبية على خيل قريش في مائتي فارس قدم بهم إلى كراع الغميم فدنا حتى نظر إلى أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم بخيله فقام بإزاره وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله عليه الصلاة و السلام بأصحابه صلاة الخوف وعن ابن عباس أن أهل مكة أرسلوا جملة من الفوارس في الحديبية يريدون الوقيعة بالمسلمين فأظهرهم الله تعالى عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت وأنكر بعضهم ذلك والله تعالى أعلم بصحة الخبر
وقيل : كان هذا الكف يوم فتح مكة واستشهذ الإمام أبو حنيفة بما في الآية من قوله تعالى : من بعد أن أظفركم بناء على القول لفتح مكة عنوة واعترض القول المذكور والأستشهاد بالآية بناء عليه أما الأول فلأن الآية نزلت قبل فتح مكة وتعقب بأنه إن أريد أنها نزلت بتمامها قبله فليس بثابت بل بعض الآثار يشعر بخلافه وإلا فلا يفيد مع أنه يجوز أن يكون هذا إخبارا عن الغيب كما قيل ذلك في غيره من بعض آيات السورة وأما الثاني فلأن دلالتها على العنوة ممنوعة فقد قال الزمخشري : الفتح هو الظفر بالشيء سواء كان عنوة أو صلحا والفرق بين الظفر على الشيء والظفر به من حيث الأستعلاء وهو كائن لأنهم اصطلحوا وهم مضطرون ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه مختارون وفيه دغدغة لا تخفى وكذا فيما تعقب به الأول
وبالجملة هذا القول وكذا الأستشهاد بما في الآية بناء غير بعيد إلا أن أكثر الأخبارالصحيحة وكذا ما بعد يؤيد ما قلناه أولا في تفسير الآية وكان الله بما تعملون بعملكم أو بجميع ما تعملونه ومنه العفو بعد الظفر بصيرا
24
- فيجازيكم عليه وقرأ أبو عمر و يعملون بياء الغيبة فالكلام عليه تهديد للكفار
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام أن تصلوا إليه وتطوفوا به والهدى بالنصب عطف على الضمير المنصوب في صدوكم أي وصدوا الهدى وهو ما يهدي إلى البيت قال الأخفش : الواحدة هدية ويقال للأنثى هدى كأنه مصدر وصف به وفي البحر إسكان داله لغة قريش وبها قرأ الجمهور وقرأ ابن هرمز والحسن وعصمة عن عاصم واللؤلؤي وخارجة عن أبي عمرو وبكر الدال وتشديد الياء وذلك لغة وهو فعيل بمعنى مفعول على ما صرح به غير واحد وكان هذا الهدى سبعين بدنة على ما هو المشهور وقال مقاتل : كان مائة بدنة وقرأالجعفي عن أبي عمرو الهدى بالجر على أنه عطف على المسجد الحرام بحذف المضاف أي ونحر الهدى وقريء بالرفع على إضمار وصد الهدى وقوله سبحانه : معكوفا حال من الهدى على جميع القراآت وقيل : علىقراءة الرفع يجوز أن يكون الهدى مبتدأ والكلام نحو حكمك مسمطا وقوله تعالى : ونحن عصبة على قراءة النصب وهو كما ترى والمعكوف المحبوس يقال : عكفت الرجل عن حاجته حبسته عنها وأنكر أبو علي تعدية عكف وحكاها ابن سيده والأزهري وغيرهما وظاهر ما في الآية
(26/112)
معهم وقوله تعالى : أن يبلغ محله بدل اشتمال من الهدى كأنه قيل : وصدوا بلوغ الهدى محله أو صدوا عن بلوغ الهدى أو وصد بلوغ الهدى حسب اختلاف القراآت وجوز أن يكونمفعولا من أجله للصد أي عن بلوغ الهدى أو وصد بلوغ الهدى حسب اختلاف القراآت وجوز أن يكون مفعولا من أجله للصد أي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون مفعولا من أجله مجرورا بلام مقدرة لمعكوفا أي محبوسا لأجل أن يبلغ محله ويكون الحبس من المسلمين وأن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو من أو عن أي محبوسا من أو عن أن يبلغ محله فيكون الحبس من المشركين على ما هو الظاهر ومحل الهدى مكان يحل فيه نحره أي يسوغ أو مكان حلوله أي وجوبه ووقوعه كما نقل عن الزمخشري والمراد مكان المعهود وهو مني أما على رأي الشافعي رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه لمن منع حيث منع فيكون قد بلغ محله بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم ومن معه ولذا نحروا هناك أعني في الحديبية وأما على رأيأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه الحرم مطلقا وبعض الحديبية حرم عنده وقد رووا أن مضارب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت في الحل منها ومصلاه في الحرم والنحر قد وقع فيما هو حرم فيكون الهدى بالغا محله غير معكوف عن بلوغه فلا بد من إرادة المعهود ليتسنى ذلك وزعم الزمخشري أن الآية دليل لأبي حنيفة على أن الممنوع محل هديه الحرم ثم تكلم بما لا يخفى حاله على من راجعه ومنالناس من قرر الأستدلال بأن المسجد الحرام يكون بمعنى الحرم وهم لما صدوهم عنه ومنعوا هديهم أن يدخله فيصل إلى محله دل بحسب الظاهر على أنه محله ثم قال : ولا ينافيه أنه عليه الصلاة و السلام نحر في طرف منه كما لا ينافي الصد عنه كون مصلاه عليه الصلاة و السلام فيه لأنهم منعوهم فلم يتمنعوا بالكلية وهو كما ترى
والأنصاف أنه لا يتم الأستدلال بالآية على هذا المطلب أصلا وطعن بعض أجلة الشافعية في كون شيء من الحديبية من الحرم فقال : إنه خلاف ما عليه الجمهور وحدود الحرم مشهورة من زمن إبراهيم عليه السلام ولا يعتد برواية شذ بها الواقدي كيف وقد صرح بخلاف البخاري في صحيحه عن الثقات والرواية عن الزهري ليست بثبت انتهى ولعل من قال : بأن بعضها من الحرم استند في ذلك إلى خبر صحيح ومن قواعدهم أن المثبت مقدم على النافي والله تعالى أعلم ولو لا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم صفة رجال ونساء على تغليب المذكر على المؤنث وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبي جمعة جنبذ بن سبع تسعة نفر سبعة رجال وهو منهم وامرأتين وقوله تعالى : أنتطؤهم بدل اشتمال منهم وجوز كونه بدلا من الضمير المنصوب في تعلموهم واستبعده أبو حيان والوطء الدوس واستعير هنا للأهلاك وهي استعارة حسنة واردة في كلامهم قديما وحديثا ومن ذلك قول الحرث بن وعلة الذهلي : ووطئتنا وطأ على حنق وطء المقيد نابت الهرم وقوله صلى الله عليه و سلم من حديث : وإن آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج وقوله عليه الصلاة و السلام : اللهم اشدد وطأتك على مضر فتصيبكم منهم أي من جهتهم معرة أي مكروه ومشقة مأخوذ من العر والعرة وهو الجرب الصعب اللازم وقال غير واحد : هي مغفلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكره والمراد بها هنا على ما روي عن منذر ابن تعيير الكفار وقولهم في المؤمنين : أنهم قتلوا أهل دينهم وقيل : التأسف عليهم وتألم النفس مما أصابهم
وقال ابن زيد : المأثم بقتلهم وقال ابن إسحاق : الدية قال ابن عطية : وكلا القولين ضعيف لأنه لا إثم ولا دية
(26/113)
في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب : وقال الطبري هي الكفارة وتعقب بعضهم هذا أيضا بأن في وجوب الكفارة خلافا بين الأئمة وفي الفصول العمادية ذكر في تأسيس النظائر في الفقه قال أصحابنا : دار الحرب تمنع وجوب ما يندريء بالشبهات لأن أحكامنا لا تجري في دارهم وحكم دارهم لا يجري في دارنا وعند الشافعي دار الحرب لا تمنع وجوب ما يندريء بالشبهات بيان ذلك حربي أسلم في دار الحرب وقتل مسلما دخل دارهم بأمان لا قصاص عليه عندنا ولا دية وعند الشافعي عليه القصاص وعلى هذا لو أن مسلمين متسامنين دخلا دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه وعند الشافعي عليه ذلك ثم ذكر مسئلة مختلفا فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فقال : إذا قتل أحد الأسيرين صاحبه في دار الحرب لا شيء عليه عند أبيحنيفة وأبييوسف إلا الكفارة لأنه تبع لهم فصار كواحد من أهل الحرب وعند محمد تجب الدية لأن له حكم نفسه فاعتبر حكم نفسه على حدة انتهى
ونقل عن الكافي أن من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون ثم لا يضمن شيئا إن كان عمدا وإن كان خطأ ضمن الكفارة دون الدية انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله والزمخشري فسر المعرة بوجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير وهو كما ترى
بغير علم في موضع الحال من ضمير المخاطبين في تطؤهم قيل ولا تكرار مع قوله تعالى لم تعلموهم سواء كان أن تطؤهم بدل اشتمال من رجالونساء أو بدلا من المنصوب في لم تعلموهم أما على الثاني فلأنحاصل المعن ولو لا مؤمنونلم تعلموا وطأتهموإهلاكهم وأنتمغير عالمين بإيمانهملأن احتمال أنهم يهلكون من غير شعور مع إيمانهم سبب الكف فيعتبر فيه العلمان فمتعلق العلم في الأولالوطأة وفي الثاني أنفسهم باعتبار الإيمان وأما عل الأولفلأنقوله تعالى : بغير علم لما كان حالا من فاعل تطؤهم كانالعلم بهم راجعا إل العلم باعتبار الإهلاك كما تقولأهلكته من غير علم فلا الإهلاك من غير شعور ولا العلم بإيمانهم حاصل والأمران لكونهما مقصودين بالذات صرح بهما وإن تقاربا أو تلازما في الجملة
وجوزأن يجعل لم تعلموهم كناية عن الأختلاط كما يلوح إليه كلام الكشاف وفيه ما يدفع التكرار أيضا وفيه بحث يدفع بالتأمل وجوز أن يكون حالا من ضمير منهم وأن يكون متعلقا بتصيبكم أو صفة لمعرة قيل : وهو عل معن فتصيبكم منهم معرة بغير علم من الذي يعركم ويعيب عليكم يعني إن وطئتموهم غير عالمين لزمكم سبة من الكفار بغير علم أي لا يعلمون أنكم معزورون فيه أوعل معن لم تعلموا أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم منكم أي فتقتلوهم بغير علم منكم أو تؤذوهمبغير علم فافهمولا تغفل وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه والمعن عل ما سمعتأولا لو لا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني الكفار جاهلين فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم وحاصله أنه تعال ولو لم يكف أيديكم عنهم لانجر الأمر إل إهلاك مؤمنين بين ظهرانيهم فيصيبكم من ذلك مكروه وهو عز و جل يكره ذلك
وقال ابن جريج : دفع الله تعالى عن المشركين يوم الحديبية بأناس من المسلمين بين أظهرهم وظاهر الأول على ما قيل أن علة الكف صون المخاطبين عن إصابة المعرة وظاهر هذا أن علته صون أولئك المؤمنين عن الوطء والأمر فيه سهل وقوله تعالى : ليدخل الله في رحمته علة لما يدل عليه الجواب المحذوف علىما اختاره في الإرشاد كأنه قيل : لكنه سبحانه كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته
(26/114)
الواسعة من يشاء وهمأولئك المؤمنون وذلك بأمنهم وإزالة استضعافهم تحت أيدي المشركين وبتوفيقهم لأقامة مراسم العبادة على الوجه الأتم والتعبير عنهم بمن يشاء دون الضمير بأن يقال : ليدخلهم الله رحمته للأشارة إلى أن علة الأدخال المشيئة المبنية على الحكم الجمة والمصالح وجعله بعضهم علة لما يفهم من صون من بمكة من المؤمنين والرحمة توفيقهم لزيادة الخيروالطاعة بإبقائهم علىعملهم وطاعتهم وجوزأن يراد بمن يشاء بعض المشركين ويراد بالرحمة الأسلام فإن أولئك المؤمنين إذا صانهم الكف المذكور أظهروا إيمانهم لمعاينة قوة الدينفيقتدى بهم الصائرون للأسلام واستحسن بعضهم كونه علةللكف المعلل بالصون
وجوز أن يراد بمن يشاء المؤمنون فيراد بالرحمة التوفيق لزيادة الخير والمشركون فيراد بها الأسلام وبين وجه التعليل بأنهمإذا شاهدوا منع تعذيبهم بعد الظفر عليهم لاختلاط المؤمنين بهم اعتناء بشأنهمرغبوا في الأسلام والأنخراط في سلك المرجومين وإن المؤمنين إذا علموامنع تعذيب المشركين بعد الظفر عليهم لاختلاطهم بهم أظهروا إيمانهم فيقتدى بهم وقال : لا وجه لجعل اللام مستعارة من معنى التعليل لما يترتب على الشيء لأنه عدول عن الحقيقة المتبادرة من غير داع وما يظن من أنتعليل الكف بما ذكر مع أنه معلل بالصون فاسد لما فيه من اجتماع علتين على معلول واحد شخصي فاسد لأن العلل إذا لم تكن تامة حقيقية لا يضر تعددها وما هنا كذلك
هذا وجعل ذلك علة لما دل عليه الجواب علىما سمعت أولا أولى عندي لما فيه من شدة التحام النظم الجليل وحمل من يشاء على المؤمنين المستضعفين دون بعض المشركين أوفق بقوله تعالى : لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما
25
- والتنزيل التفرق والتميز وجوزفي ضمير تزيلوا كونهللمؤمنين المذكورين فيما سبق أي لو تفرق أولئك المؤمنون والمؤمنات وتميزوا عن الكفار وخرجوا منمكة ولم يبقوا بينهم لعذبنا الخ وكونه للمؤمنين والكفار أي لو افترق بعضهم من بعض ولم يبقوا مختلطين لعذبنا الخ
واختار غير واحد الأول فمنهم للبيان والمراد تعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما قال مجاهد وغيره وإلا لم يكن للو موقع والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى : لو تزيلوا كالتكرار لقوله تعالى : لولا رجال لأن مرجعهما في المعنى شيء واحد ويكونلعذبنا هو الجواب للولا السابقة واعترضه أبو حيان بأنالتغاير ظاهر فلا يكون تكرارا ولامشابها وأجيب بأن كراهة زطئهم لعدم تميزهم عن الكفار الذي هو مدلول الثاني فيكون كبدل الأشتمال ويكفي ذلك في كونه كالتكرار وقال ابن المنير : إنما كان مرجعهما واحدا وإن كانت لو لا تدل على امتناع لوجود و لو تدل على امتناع لامتناع وبين هذين تناف ظاهر لأن لو لا ههنا دخلت على وجود ولو دخلت على تزيلوا وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود ثبوت فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه قال : وكان جدي يختار هذا الوجه ويسميه تطرية وأكثر ما يكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى بناء الآخر على الأولفمرة يطرى بلفظه ومرةبلفظ آخر يؤدي مؤداه انتهى
وأنتتعلم أن في حذف الجواب دليلا على شدة غضب الله عالى وأنه لو لا حق المؤمنين لفعن بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس ومنه يعلم أن ذلك الوجه أرجح من جعل لو تزيلوا بمنزلة التكرار للتطرية فتطرية الجواب وتقويته أولى وأوفق لمقتضى المقام واختار الطيبي الأول ايضا معللا له بأنه حينئذ يقرب من باب الطرد والعكس لأن التقدير لو لا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهملوقع ما كان جزاء لكفرهم وصدهم ولو حصل
(26/115)
التمييز وارتفع لحصل التعذيب ثم أن تقدير الجواب ما تقدم عند القائلين بالحذف هو الذي ذهب إليه كثير وجوزبعضهم تقديره لعجل لهمما يستحقون وجعل قوله تعالى : هم الذين كفروا الخ فكأنه قيل : هم الذين كفروا واستحقوا التعجيل في إهلاكهم ولو لا رجال مؤمنون الخ لعجل لهم ذلك وهو أيضا أولى من حديث التكرار وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم وأبو حيوة وابن عون لو تزايلوا على وزن تتفاعلوا
وفي الآية على ما قال الكيا دليل على أنهلا يجوز خرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى من المسلمين وكذلك رمي الحصون إذا كانوابها والكفار إذا تترسوا بهم وفيه كلام في كتب الفروع إذا جعل الذين كفروا منصوب باذكر على مفعولية أو بعذبنا على الظرفية أو بصدوكم كذلك وقيل : بمضمر هو أحسن الله تعالىإليكموأيا ما كان فالذين فاعل جعل ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليل الحكم به والجعل إما بمعنى الألقاء فقوله تعالى : في قلوبهم الحمية متعلق به أو بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف هو مفعول ثان له أي جعلوا الحمية راسخة في قلوبهم ولكونها مكتسبة لهم من وجه نسب جعلها إليهم وقال النيسابوري : يجوز أن يكونفاعل جعل ضمير الله تعالى و في قلوبهم بيان لمكان الجعل ومآل المعنى إذ جعل الله في قلوبهم الذين كفروا الحمية وهو كما ترى والحمية الآنفة يقال : حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار منه
وقال الراغب : عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل : حميت على فلان أي غضبت عليه وقوله تعالى : حمية الجاهلية بدل من الحمية أي حمية الملة الجاهلية أوالحمية الناشئة من الجاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها وقوله تعالى : فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين عطف على جعل على تقدير جعل إذ معمولا لا ذكر والمراد تذكير حسن صنيع الرسول عليه الصلاة و السلام والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع المشركين وعلى ما يدل عليه الجملة الأمتناعية على تقدير جعلها ظرفا لعذبنا كأنه قيل : فلم يتزيلوا فلم نعذب فأنزل الخ وعلى مضمر عامر فيهاعلى الوجه الأخيرالمحكي ويكون هذا كالتفسير لذلك وأماعلىجعلها ظرفا لصدوكم فقيل : العطف على جعل وقيل : على صدوكم وهو نظير الطائر فيغضب زيد الذباب والأولى من هذه الأوجه لا يخفى والسكينة الأطمئنان والوقار روي غير واحد أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج بمن معه إلى الحديبية حتى إذا كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا من خزاعة يخبره عن قريش وسار عليه الصلاة و السلام حتى كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه فقال : إن قريشا جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فاستشار الناس في الأغارة على ذراري من أعانهمفقال أبو بكر : الله تعالىورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال صلى الله عليه و سلم : امضوا على اسم الله فسار حتى نزل بأقصى الحديبية فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فقال له إني قد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا قريبا معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال عليه الصلاة و السلام : إنالم نجيء لقتال أحد ولكن معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادواوأن أظهرني الله تعالى
(26/116)
عليهم دخلوا الأسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلتهم وبهم قوة فما تظن قريش فو الله لا أزالأجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهره الله تعالى أو تنفرد هذه السالفة فقال بديل : سأبلغهم ما تقول فبلغهم فقال عروة ابن مسعود الثقفي لهم : دعوني آته فأتاه عليه الصلاة و السلام فقال له نحو ما قال لبديل وجرى من الكلام ما جرى ورأى من احترام الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعظيمهم إياه ما رأى فرجع إلى أصحابه فأخبرهمبذلك وقال لهم : إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قال عليه الصلاة و السلام : هذافلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعث واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فرجع وأخبر أصحابه فقال رجل يقال له مكرز بن حفص : دعوني آته فلما أشرف قال عليه الصلاة و السلام : هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو وأخو بني عامر بن لؤي فقال صلى الله عليه و سلم : قد سهل لكم من أمركموكان قد بعثه قريش وقالوا له : أئت محمدا فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة فلما انتهى إليه عليه الصلاة و السلام تكلم فأطال وانتهى الأمر إلى الصلح وكتابة كتاب في ذلك فدعا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليا كرم الله تعالىوجهه فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اكتب باسمك اللهم فكتبها ثم قال : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال عليه الصلاة و السلام : والله إني لرسول الله وإنكذبتموني أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو صلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يامن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وإن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وإن محمدا يرجع عن مكة عامه فلايدخلها وأنهإذا كان عام قابل خرج أهلمكة فدخلها بأصحابه فأقام بها ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب لا يدخلها بغيرها
وظاهر هذا الخبر أنسهيلا لم يرض أنيكتب محمد رسول الله قبل أن يكتب وجاء في رواية أنهكتب فلم يرض فقال النبي عليه الصلاة و السلام لعلي كرم الله تعالى وجهه : امحه فقال : ما أنا بالذي أمحاه وجاء هذا في رواية للبخاري ولمسلم وفي رواية للبخاري في المغازي فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وكذا أخرجه النسائي وأحمد ولفظه فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب مكان رسول الله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وتمسك بظاهر هذه الرواية كما في فتح الباري أبو الوليد الباجي على أن النبي عليه الصلاة و السلام كتب بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب ووافقه على ذلك شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء افريقية والجمهور على أنه عليه الصلاة و السلام لم يكتب وإن قوله : وأخذ الكتاب وليس يحسن أنيكتب لبيان أنه عليه الصلاة و السلام احتاج لأنيريه علي كرم الله تعالى وجهه موضع الكلمة التي امتنع منمحوها لكونه كان لا يحسن الكتابة وقوله : فكتب بتقدير فمحاها فأعاد الكتاب لعلي فكتب أو أطلق فيه كتب علي أمر بالكتابة وتمام الكلام
(26/117)
في محله فكانت حميتهم على ما في الدر المنثور عن جماعة أنهم لم يقروا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رسول ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بين المسلمين والبيت وقدهم المؤمنون لذلك أن يبطشوا بهم فأنزل الله تعالىسكينته عليهم فتوقروا وحملوا وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في حمية الجاهلية : حمت قريش أن يدخل عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا : لا يدخلها علينا أبدا وقال ابن بحر : كما في البحر حميتهم عصبيتهم لآلهتهم والآنفة أن يعبدواغيرها وفي توسيط علي بين الرسول والمؤمنين إيماء إلى أنهأنزل على كل سكينة لائقة به
ووجه تقديم الإنزال على الرسول عليه الصلاة و السلام لا يخفى وقال الإمام : في هذه الآية لطائف معنوية وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين المؤمنين والكافرين حيث باين بين الفاعلين إذ فاعل جعل هو الكفار وفاعل أنزل هو الله تعالى وبين المفعولين إذ تلك حمية وهذه سكينة وبين الإضافتين إضافة الحمية إلى الجاهلية وإضافة السكينة إليه تعالى وبين الفعلين جعل وأنزل فالحمية مجعولة في الحال كالعرض الذي لا يبقى والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فإنزالها والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا بالأضافة إلى الجاهلية والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله عز و جل والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو ويدل على المقابلة والمجازاة تقول : أكرمني زيد فأكرمته فيدل على أن إنزال السكينة لجعلهم الحمية في قلوبهم حتى أن المؤمنين لم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله عالىانتهى وهو مما لا بأس به وألزمهمكلمة التقوى هي لا إله إلا الله كما أخرج ذلك الترمذي وعبد الله بن أحمد والدارقطني وغيرهم عن أبيبن كعب مرفوعا وكما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع كذلك وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن حمران أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه إلا حرم على النار فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أناأحدثكم ما هي كلمة الأخلاص التي ألزمها الله سبحانه محمكدا وأصحابه وهي كلمة التقوى التي ألاص عليها نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمه أبا طالب عند الموتشهادة أن لا إله إلا الله وروي ذلك أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه على ما نقل أبو حيان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير في آخرين وأخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء الخراساني بزيادة محمد رسول الله وأضيفت إلى التقوى لأنها بها يتقي الشرك ومن هنا قال ابن عباس فيما أخرجه ابن المنذر وغيره : هي رأسكل تقوى وظاهر كلام عمر رضي الله تعالى عنه أن ضمير هم في ألزمهم للرسول عليه الصلاة و السلام ومن معه وإلزامهم إياها بالحكم والأمر بها وأخرج عبد الرزاق والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وجماعة عن علي كرم الله عالى وجهه أنه قال : هي لا إله إلا الله والله أكبر وروي عن ابن عمر أيضا نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن المسور بن مخرمة : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعن عطاء ابن أبي رباح ومجاهد أيضا أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن الزهري قال : هي بسم الله الرحمن الرحيم وضم بعضهم إلى هذامحمد رسول الله والمراد بإلزامهمإياها اختيارها لهم دونمن عدل عنها باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله وقيل : هي الثبات والوفاء بالعهد ونسبه الخفاجي إلى الحسن وإلزامهم إياه أمرهم به وإطلاق الكلمة على الثبات على العهد والوفاء به قيل : لما أن كلا يتوصل به إلى
(26/118)
الغرض وهو نظير ما قيل في إطلاق الكلمة على عيسى عليه السلام من أن ذلك لأم كلا منهما يهتدى به وجعلت الأضافة على كونها بمعنى الثبات من باب إضافة السبب إلى المسبب فهي إضافة لأدنى ملابسة وجوز أن تكون اختصاصية حقيقية بتقدير مضاف أي كلمة أهل التقوى وأريد بالعهد على ما يقتضيه ظاهر سبب النزول عهد الصلح الذي وقع بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أهل مكة وقيل : ما يعم ذلكوسائر عهودهم معه عز و جل
(26/119)
وأنت تعلم أن الوجه المذكور في نفسه غير ظاهر ومثله ما قيل : المراد بالكلمة قولهم في الأصلاب : بلى مقرين بوحدانيته جل شأنه وبالألزام والوفاء بها وقيل : هي قول المؤمنين سمعا وطاعة حين يؤمرون أو ينهون والظاهر عليه كون الضمير للمؤمنين وأرجح الأقوال في هذه الكلمة ما روي مرفوعا وذهب إليه الجم الغفير ولعل ما ذكر في الأخبار السابقة من باب الأكتفاء والمراد لا إله إلا الله محمد رسول الله
وكانوا عطف على ما تقدم أو حالمنالمنصوب في ألزمهم بتقدير قد أو بدونه والظاهر في الضمير عوده كسابقه كما اقتضاه كلام عمر رضي الله تعالى عنه على الرسول والمؤمنين واستظهر بعضهم عوده على المؤمنين وكأنه اعتبرالأول عائدا عليهم أيضا وهو مما لا بأس فيه ولعله اعتبر الأقربية فالمعنى وكان المؤمنونفي علم الله تعالى أحق بها أي بكلمة التقوى وأفعل لزيادة الحقية في نفسها أي متصفين بمزيد استحقاق لها أو على ما هو المشهورفيه والمفضل عليه محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالىاختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : من اليهود والنصارى وقيل من جميع الأمم لأنهمخير أمة أخرجت للناس
وحكى المبرد ان الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد منهم أن يقول : لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرةواحدةلا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك وكان قائلها يمد بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركا بذكر الله تعالى وقد جعل الله عز و جل لهذه الأمة أن يقولوها متى شاءوا وهو قوله تعالى : وألزمهم كلمة التقوى أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا وكانوا أحق بها وهذا مما لم يثبت وجوزالإمام كون التفضيل بالنسبة إلى غير كلمةالتقوى أي أحق بها من كلمة غير كلمة تقوى وقال : وهذاكما تقول زيد أحق بالأكرام منه بالأهانة وقولك إذا سئل شخص عن زيد بالطب أعلم أو بالفقه : زيد أعلم بالفقه أي من الطب وفيه غفلة لا تخفى وأهلها أي المستأهل لها وهو أبلغ من الأحق حتى قيل بينه وبين الأحق كما بين الأحق والحق وقيل : إن أحقيتهمبها من الكفار تفهم رجحانهم رجحانا ما عليهم ولاتثبت الأهلية كما إذا اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح لكن أحدهما أبعد عن الستحقاق فيقال للأقرب إليه إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال : الحبس أهون من القتل ولدفع توهم مثل هذا فيما نحن فيه قال سبحانه : وأهلها وقيل : أريد أنهم أحقبها في الدنيا وأهلهابالثواب في الآخرة قيل : في الآية تقديم وتأخير والأصل وكانوا أهلها وأحق بها وكذلك هي في مصحف الحرث بن سويد صاحب ابن مسعود وهو الذي دفن مصحفه لمخالفته الأمام أيام الحجاج وكان منكبار تابعي الكطوفة وثقاتهم وقيل : ضمير كانوا عائد على كفار مكة أي وكان أولئك الكفار الذين جعلوا في قلوبهم الحمية أحق بكلمة التقوى لأنهم أهل حرم الله تعالى ومنهم رسوله صلى الله عليه و سلم وقد تقدم إنذارهم لو لا ما سلبوا من التوفيق وفيه ما فيه سواء رجع ضمير ألزمهم إلى كفار مكة أيضا أم لا وأظن في قائله نزعة رافضية دعته إلى ذلك لكنه لا يتم به غرضه وقيل : ضمير كانوا للمؤمنين إلا أن ضميري
(26/0)
بها وأهلها للسكينة وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع وقيل : هما لمكة أي وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها وأشعر بذكر مكة ذكر المسجد الحرام في قوله تعالى : وصدوكم عن المسجد الحرام وكذا محل الهدى في قوله سبحانه : والهدى معكوفا أنيبلغ محله وفيه ما لا يخفى وكان الله بكل شيء عليما
26
- فيعلم سبحانه حق كل شيء واستئهاله لما يستأهله فيسوق عز و جل الحق إلى مستحقه والمستأهل إلى مستأهله أو فيعلم هذا ويعلم ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إنزال السكينة والرضا بالصلح فيكون تذييلا لجميع ما تقدم
لقد صدق الله رسوله الرءيا رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه عليه الصلاة و السلام رأى وهو في الحديبية والأول أصح أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه و سلم حق فلما تأخر ذلك قال على طريق الأعتراض عبد الله ابن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت
وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الأستكشاف ليزداد يقينه وفي رواية إن رؤياه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما كانت ملكا جاءه فقال له : لتدخلن الخ والمعنى لقد صدقه سبحانه في رؤياه على أنه من باب الحذف والإيصال كما في قولهم : صدقني سن بكره وتحقيقه أنه تعالى أراه الرؤيا الصاديقة
وقال الراغب : الصدق يكون بالقول ويكون بالفعل وما في الآية صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق سبحانه رؤيته وفي شرح الكرماني كذب يتعدى إلى مفعولين يقال : كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين انتهى وفي البحر صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدا الحديث وصدقته في الحديث وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر والمشهور ما أشرنا إليه أولا بالحق صفة لمصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق أي بالفرض الصحيح والحكمة البالغة وهو ظهور حال المتزلزل في الإيمان والراسخ فيه ولأجل ذلك أخر وقوع الرؤيا إلى العام القابل أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام وجوز كونه حالا من الأسم الجليل وكونه حالا من رسوله وكونه ظرفا لغوا لصدق وكونه قسما بالحق الذي هو من أسمائه عز و جل أو بنقيض الباطل وقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام عليه جواب القسم والوقف على الرؤيا وهو على جميع ما تقدم جواب قسم مقدر والوقف على الحق أي والله لتدخلن الخ وقوله سبحانه : إن شاء الله تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد وبه ينحل ما يقال : إنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق منه بالمشيئة وفي معنى قول ثعلب : استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون
وفيه تعريض بأن وقوع الدخول من مشيئته تعالى لا من جلادتهم وتدبيرهم وذكر الخفاجي أنه قد وضع فيه الظاهر موضع الضمير وأصله لتدخلنه لا محالة إلا إنشاء عدم الدخول فهو وعد لهم عدل به عن ظاهره لأجل التعريض بهم والإنكار على المعترضين على الرؤيا فيكون من باب الكناية انتهى وقد أجيب عن السؤال بغير ذلك فقيل : الشك راجع إلى المخاطبين وفيه شيء ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى وقال الحسين بن الفضل :
(26/120)
أنالتعليق راجع إلى دخولهم جميعا وحكى ذلك عن الجبائي وقيل : إنه ناظر إلىالأمن فهو مقدم من تأخير أي لتدخلنه حال كونكم آمنين من العدو إن شاء الله وردهما في الكشف فقال : أما جعله قيد دخولهم بالأسر أو الأمن ففيه أن السؤال بعد باق لأن الدخول المخصوص أيضا خبر من الله تعالى وهو ينافي الشك وليس نظير قول يوسف عليه السلام : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين إذ لا يبعد أن لا يعرف عليه السلام مستقر الأمر من الأمنأو الخوف فأما أن يؤول بأن الشك راجع إلى المخاطبين أو بأنه تعليم والثاني أولى لأن تغليب الشاكين لا يناسب هذا المساق بل الأمر بالعكس ودفع وروده على الحسين بأن المراد أنه في معنى ليدخلنه من شاء الله دخوله منكم كناية عن أن منهم من لا يدخله لأن أجله يمنعه منه فلا يلزم الرجوع لما ذكر
وقيل : هو حكاية لما قاله ملك الرؤيا له صلى الله عليه و سلم وإليه ذهب ابن كسيان أو لما قاله عليه الصلاة و السلام لأصحابه ورده صاحب التقريب بأنه كيف يدخل في كلامه تعالى ما ليس منه بدون حكاية ودفع بأن المراد أن جواب القسم بيان للرؤيا وقائلها في المنام الملك وفي اليقظة الرسول صلى الله عليه و سلم فهي في حكم المحكي في دقيق النظر كأنه قيل : وهي قول الملك أو الرسول لتدخلن الخ وأنت تعلم أن هذاوإنصحح النظم الكريم لا يدفع البعد وقد اعترض به على ذلك صاحب الكشف لكنه ادعى إن كونه حكاية ما قاله الرسول عليه الصلاة و السلام أقل بعدا من جعله من قول الملك وقال أبو عبيدة وقوم منالنحاة : إن بمعنى إذ وجعلوا منذلك قوله تعالى : وأنتمالأعلون إن كنتم مؤمنين وقوله صلى الله عليه و سلم في زيارة القبور : أنتم السابقون وأناإن شاء الله بكم لاحقون والبصريون لا يرتضون ذلك وقوله تعالى : محلقين رءوسكم ومقصرين حالكآمنينمن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين من قوله تعالى : لتدخلن إلا أن آمنين حال مقارنة وهذا حالمقدرة لأن الدخول في حالالأحرام لا في الأحرام الحلق والتقصير وجوز أن يكون حالا من ضمير آمنين والمراد محلقا بعضكم رأس بعض ومقصرا آخرون ففي الكلام تقدير أو فيه نسبة ما للجزء إلى الكل والقرينة عليه أنه لا يجتمع الحلق وهو معروف والتقصير وهو أخذ بعض الشعر فلا بد من نسبة كل منهمالبعض منهم وقوله تعالى : لا خافون حالمن فاعل لتدخلن أيضا لبيان الأمن بعد تمام الحج و آمنين فيما تقدم لبيان الأمن وقت الدخول فلا تكرار أو حال من الضمير المستتر في آمنين فإن أريد به معنى آمنين كان حالا مؤكدة وإن أريد لا تخافون تبعة في الحلق أو التقصير ولا نقص ثواب فهو حال مؤسسة ولا يخفى الحالإذا جعل حالا منالضمير في محلقين أو مقصرين وجوز أن يكوناستئنافا بيانيا في جواب سؤال مقدر كأنهقيل : فكيف الحال بعد الدخول فقيل : لا تخافون أي بعد الدخول
واستدل بالآية علىالحلق غير متعين في النسك بل يجزيء عنه التقصير وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء أخوج الشيخان وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول الله والمقصرين قال : اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا قالوا : يا رسول الله والمقصرين قال : والمقصرين وأما في النساء فقد أخرج أبو داود والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير والسنة في الحلق أن
(26/121)
يبدأ بالجانب الأيمن فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس أنه رأى النبيصص قال للحلاق هكذا وأشار بيده إلى جانب الأيمنوإن يبلغ به إلى العظمين كما قال عطاء
وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنهما كانا يقولان للحلاق أبدا بالأيمن وأبلغ بالحلق العظمين واستدل بالآية أيضا على أن التقسير بالرأس دون اللحية وسائر شعر البدن إذ الظاهر أن المراد ومقصرين رؤسكم أي شعرها لظهور أن الرؤس أنفسها لا تقصر فعلم ما لم تعلموا الظاهر عطفه على لقد صدق فالترتيب باعتبار التعلق الفعلي بالمعلوم أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية لتقديم ما يشهد للصدق علما فعليا وقيل : الفاء للترتيب الذكري فجعل لأجل هذا العلم من دون ذلك أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام آمنين الخ وقيل : أي من دون فتح مكة والأول أظهر وهذا أنسب بقوله تعالى : فتحا قريبا
27
- وهو فتح خيبر كما قال ابن زيد وغيره والمراد بجعله وعده تعالى وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا وتستروح قلوب المؤمنين إلى تيسر وقوعها
وقال في الكشاف : ما لم تعلموا أي من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل وفيه أمران الأول أن فتح مكة لم يقع في العام الذي قاله بل في السنة الثامنة والتجوز في العام القابل أو تأويل الفتح بدخول المؤمنين مكة معتمرين لا يخفى حاله الثاني إباه الفاء عما ذكر لأن علمه تعالى بذلك متقدم على إرادة الرؤيا قطعا
وأجيب عن هذا بالتزام كون الفاء للترتيب الذكري أو كون المراد فأظهر معلومه لكم وهو الحكمة فتدبر
ونقل عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الفتح القريب في الآية هو بيعة الرضوان وقال مجاهد وابن إسحاق : هو فتح الحديبية ومن الغريب ما قيل : إن المراد به فتح مكة مع أنه لم يكن دخول الرسول عليه الصلاة و السلام وأصحابه دون مكة على أنه مناف للسياق كما لا يخفى
هو الذي أرسل رسوله بالهدى أي ملتبسا به على أن الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من المفعول والتباسه بالهدى بمعنى هاد وقيل : أي مصاحبا للهدى والمراد الدليل الواضح والحجة الساطعة أو القرآن وجوز أن تكون الباء للسببية أو للتعليل وهما متقاربان والجار والمجرور متعلق بأرسل أي أرسله بسبب الهدى أو لأجله ودين الحق وبدين الأسلام والظاهر أن المراد به ما يعم الأصول والفروع وجوز أن يراد بالهدى الأصول وبدين الحق الفروع فإن من الرسل عليهم السلام من لم يرسل بالفروع وإنما أرسل بالأصول وتباينها والظاهر أن المراد بالحق نقيض الباطل وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي ودين الله الحق وجوز الإمام غير ذلك أيضا ليظهره على الدين كله ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده أي ما يدان به من الشرائع والملل فيشمل الحق والباطل وأصل الإظهار جعل الشيء على الظهر كني به عن الإعلاء وعن جعله باديا للرائي ثم شاع في ذلك حتى صار حقيقة عرفية وإظهاره على الحق بنسخ بعض أحكامه المتبدلة بتبديل الأعصار وعلى الباطل ببيان بطلانه وجوز غير واحد ولعله الأظهر بحسب المقام أن يكون إظهاره على الدين بتسليط المسلمين على جميع أهل الأديان
(26/122)
وقالوا : ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون ويكفي في ذلك استمرار ما ذكر زمانا معتدا به كما لا يخفى على الواقفين على كتب التواريخ والوقائع وقيل : إن تمام هذا الأعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي رضي الله تعالى عنه حيث لا يبقى حينئذ دين سوى الأسلام ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر إما لنحو ما سمعت وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة وكفى بالله شهيدا
28
- على ما عده عز و جل من إظهار دينه على جميع الأديان أو القتح كائن لا محالة أو كفى بالله شهيدا على رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه عليه الصلاة و السلام ادعاها وأظهر الله تعالى المعجزة على يده وذلك شهادة منه تعالى عليها واقتصر على هذا الوجه الرازي وجعل ذلك تسلية عما وقع من سهيل بن عمرو إذ لم يرض بكتابة محمد رسول الله وقال ما قال
وجعل بعض الأفاضل إظهار المعجزة شهادة منه تعالى على تحقق وعده عز و جل ولا يظهر إلا بضم إخباره عليه الصلاة و السلام به
محمد رسول الله أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد على أن الأسم الشريف خبر مبتدأ محذوف و رسول الله عطف بيان أو نعت أو بدل والجملة استئناف مبين لقوله تعالى : هو الذي أرسل رسوله وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء الله تعالى قراءة ابن عامر في رواية رسول بالنصب على المدح وقوله تعالى : والذين معه مبتدأ خبره قوله سبحانه : أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال أبو حيان : الظاهر أن محمد رسول الله مبتدأ وخبر والجملة عليه مبنية للمشهود به أما على كونه الرسالة فظاهر وأما على كونه محقق الوعد فقيل : لأن كينونة ما وعد لازمة لكونه عليه الصلاة و السلام رسول الله إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق
وجوز كون محمد مبتدأ و رسول تابعا له والذين معه عطفا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى : أشداء الخ وقرأ الحسن أشداء رحماء بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال والعامل فيهما العامل في معه فيكون الخبر على هذا الوجه جملة تراهم الآتي وكذا خبر الذين على الوجه الأول والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهيد الحديبية وقال الجمهور : جميع أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم و أشداء جمع شديد و رحماء جمع رحيم والمعنى أن فيهم غلظة وسدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على أخوانهم المؤمنين وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه اكتفى بالوصف الأول لربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر فيتوهم الفظاعة والغلظة مطلقا فدفع بإرادف الوصف الثاني ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الأخوان ونحوه قوله تعالى : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وعلى هذا قوله : حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب وقد كما روي عن الحسن من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء أخرج أبو داود عن البراء قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا التقي المسلمان
(26/123)
فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما وفي رواية الترمذي ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا وفي الأذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء وأما ما اعتاد الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به فإن أصل المصافحة سنة وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة وأطال الشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره الكلام في ذلك وأما المعانقة فقال الزمخشري : كرهها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذلك التقبيل قال : لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده ورخص أبو سيف عليه الرحمة المعانقة ويؤيدها ما روي عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال : سمعت رجلا يقول لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له قال : لا قال : أفيلتزمه ويقبله قال : لا قال : أيأخذ بيده ويصافحه قال : نعم وفي الأذكار التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه ومكروه كراهة تنزيه في غيره وللأمرد الحسن حرام بكل حال
أخرج الترمذي وحسنه عن عائشة قالت : قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله وزاد رزين في حديث أنس السابق بعد قوله : ويقبله قال : لا إلا أن يأتي من سفره وروي أبو داود سئل أبو ذر هل كان صلى الله تعالى عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه قال : ما لقيته قط لا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلى الله عليه و سلم أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين وقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا وأخرجا هما وأحمد وابن حبان والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : لا تنزع الرحمة إلا من شقي ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع وقرأ يحيى بن يعمر أشدا بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله :
لا بد من صنعا وإن طال السفر
وقوله تعالى : تراهم ركعا سجدا خبر آخر للذين أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه و ركعا سجدا حال من المفعول والمراد تراهم مصلين والتعبير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل والتعبير بالمضارع للأستمرار وهو استمرار عرفي ومن هنا قال في البحر : هذت دليل على كثرة منهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا أي ثوابا ورضا والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول تراهم أو منالمستتر في ركعا سجدا أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل : ماذا يريدون بذلك فقيل : يبتغون فضلا الخ
وقرأ عمرو بن عبيد ورضوانا بضم الراء سيماهم أي علامتهم وقريء سيماؤهم بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر : غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
(26/124)
وجاء سيماء بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو وهي مبتدأ خبره قوله تعالى : في وجوههم أي في جباههم أو هي على ظاهرها وقوله سبحانه : من أثر السجود حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي ونفنة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسن زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك رضي الله تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث من مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ وما روي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تعلبوا صوركم أي لا تسموها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر وقول ابن عمر وقد رأى رجلا بأنفه أثر السجود : إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذلك محض رياء ونفاق يستعاذ بالله تعالى منه والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عز و جل وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال : كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال : لقد أفسد هذا وجهه أما والله ما هي السيما التي سمى الله تعالى ولقد صليت على وجهي منذر ثمانين سنة ما أثر السجود بين عيني وربما يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدا لذلك فنفي أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمى الله تعالى ونظيره ما حكى عن بعض المتقدمين قال : كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض
وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال : هذه السيما ندري الطهور وتراب الأرض وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال : ليس له أثر في الوجه ولكنه الخشوع وفي رواية هي الخشوع والتواضع وقال منصور : سألت مجاهدا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل قال : لا وقد يكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبا من الحجارة وقيل : هي صفرة الوجه من سهر الليل وروي ذلك عن عكرمة والضحاك وروي السلمي عن عبد العزيز المكي ليس ذاك هو النحول والصفرة ولكنه يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجي أو حبشي وقال عطاء : والربيع بن أنس : هو حسن يعتري وجوه المصلين وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : السمت الحسن وعن بعضهم ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم والذاهبون إلى هذه الأقوال قائلون : إن المراد علامتهم في وجوههم وهم في الدنيا وقال غير واحد : هذه السيما في الآخرة أخرج البخاري في تاريخه وابن نصر عن ابن عباس أنه قال في الآية : بياض يغشى وجوههم يوم القيامة وأخرج ابن نصر وعبد بن حميد وابن جرير هم الحسن مثله وأخرجوا عن عطية العوفي قال : موضع السجود أشد وجوههم بياضا وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : سيماهم في وجوههم من أثر السجود النور يوم القيامة ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة
(26/125)
لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتتم خصه النبي صلى الله عليه و سلم بالذكر وإذا صح الحديث فهو مذهبي وقرأابن هرمز إثر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهو لغة في أثر وقرأ قتادة من آثار بالجمع ذلك إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة وما فيه من البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته في الفضل وقيل : البعد باعتبار المبتدأ أعني أشداء ولو قيل هذا لتوهم أن المشار إليه هو النعت الأخير أعني سيماهم في وجوههم من أثر السجود وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : مثلهم أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال وقوله سبحانه وتعالى : في التوراة حال من مثلهم والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل عطف على مثلهم الأول كأنه قيل : ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل وتكرير مثلهم لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها وقريء الأنجيل بفتح الهمزة وقوله عز و جل : كزرع أخرج شطئه الخ تمثيل مستأنف أي هم أو مثلهم كزرع الخ فالقوف على الأنجيل وهذا مروي عن مجاهد وقيل : مثلهم الثاني مبتدأ وقوله تعالى : كزرع الخ خبره فالوقف على التوراة وهذا مروي عن الضحاك وأبي حاتتم وقتادة وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى : كزرع الخ كقوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر دار هؤلاء مقطوع مصبحين فعلى الأول والثالث مثلهم في التوراة ومثلهم في الأنجيل شيء واحد إلا أنه على الأول أشداء على الكفار رحماء بينهم الخ وعلى الثالث كزرع أخرج شطأه الخ وعلى الثاني مثلهم في التوراة شيء وهو أشداء الخ ومثلهم في الأنجيل شيء آخر وهو كزرع الخ
واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الأشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتا لاسم الأشارة نحو ذلك الكتاب وفيه أن الحصر ممنوع والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه كما قال الراغب أشطاء وقال قطرب : شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان وقال الكسائي والأخفش : طرفه وأنشدوا : أخرج الشطء على الثرى ومن الأشجار أفنان الثمر وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير وقال صاحب اللوامح : شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما وفي البحر أشطأ الزرع أفرخ والشجرة أخرجت غصونها
وفي القاموس الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه جمعه شطوء وشطأ كمنع شطأ وشطوأ أخرجها ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه أشطاء وأشطأ أخرجها أه وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان شطأه بفتح الطاء وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي كذلك وبالمد وقرأ زيد بن علي كذلك أيضا وبألف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصورا وإن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا كما قالوا في المرأة والكمأة المرأة والكماة وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه وقرأ أبو جعفر شطه بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء ورويت عن شيبة ونافع والجحدري وعن الجحدري أيضا شطوه بإسكان الطاء وواو بعدها قال أبو الفتح : هي لغة أو بدل من الهمزة فآزره أي أعانه وقواه قاله الحسن وغيره قال الراغب : وأصله من شد الأزار
(26/126)
كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز و جل بعيد وضمير منهم لمن عاد عليه الضمائر السابقة و من للبيان مثلها في قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان وليس مجيئها كذلك مخصوصا بما إذا كانت داخلة على ظاهر كما توهم صاحب التحفة الأثني عشرية في الكلام على قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض فقال : حمل من للبيان إذا كان داخلا على الضمير مخالف لاستعمال العرب وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال : لو ادعى هذات الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد
ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى : لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عند القائلين بأن ضمير تزيلوا للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم فإنمدحهم السابق بما يدل على الأستمرار التجدي كقوله تعال : تراهم ركفا سجدا ووصفهم بما يدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه : والذين معه أشداء على الكفار يأبى التبعيض والأرتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين ويزيد زعمهم هذا سقوطا عن درجة الأعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السماوات والأرض ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت الصفة إلا قليل منهم وإذا قلنا : إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة و السلام في الحديبية كما يشعر به والذين معه لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة و السلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الأرتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعال وجهه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع العلم بالنص عل خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكيف يكون ذاك ارتداد واتلله عز و جل حين رضي عنهم علم أنهم يفعلونه والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقا لأجلها خلاف ظاهر الآية والظاهر ما نفي ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلا كالأرتداد والعياذ بالله تعال وبالجملة جعل من للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة وفي التحفة الأثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد قلوب المؤمنين نورا عل نور ويا سبحان الله أين جعل من للتبعيض من دعو الأرتداد ولكن من يضلل الله فما له من هاد وتأخير منهم هنا عن عملوا الصالحات وتقديم منكم عليه في ية النور التي ذكرناها نفا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حت لا ينعزلوا بالفسق وقال ابن جرير : منهم يعني الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الأسلام إل يوم القيامة فأعاد الضمير عل معن الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده
هذا وفي المواهب أن الإمام مالكا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم يغيضونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر ووافقه كثير من العلماء انتهى وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال : من أصبح من الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم وفي كلام عائشة
(26/127)
يقال : أزرته أي شددت أزاره ويقال : آزرت البناء وأزرته قويت أسافله وتأزر النبات طال وقوي
وذكر غير واحد أنه إما من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهي الأعانة وفي البحر آزر أفعل كما حكى عن الأخفش وقول مجاهد وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر وتعقب بأن هذه شهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير من أن السرقسطي نقله عن المارني لكنه قال : يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه وأنشد لامريئ القيس
بمحنية قد آزر الضال نبتها بحر جيوش غانمين وخيب وجعل ما في الآية من ذلك وهو مروي أيضا عن السدي قال : آزره صار مثل الأصل في الطول والجمهور على ما نقل أولا والضمير في آزره للشطء والمنصوب للزرع أي فقوي ذلك الشطء الزرع والظاهر أن الأسناد في أخرج وآرز مجازي وكون ذلك من الأسناد إل الموجب وهو حقيقة عل ما ذهب إليه السالكوتي في حواشيه عل المطول حيث قال في قولهم : سرتني رؤيتك هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند اتلرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخف حاله وقرأ ابن ذكواه فأزره ثلاثيا وقريء فأزره بشد الزاي أي فشد أزره وقواه فاستغلظ فصار من الدقة إل الغلظ وهو من باب استنوق الجمل ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه وأوثر الأول لأن المساق بنبيء عن التدرج فاستو عل سوقه فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور وقرأ ابن كثير سوقه بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة قيل : وهي لغة ضعيفة ومنذلك قوله :
أحب المؤقدين إل موس
يعجب الزراع بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره والجملة في موضع الحال أي معجبا لهم وخصهم تعال بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهو أحر أن يعجب غيرهم وهنا تمك المثل وهو ضربه الله تعال للصحابة رضي الله تعالى عنهم قلوا في بدء الأسلام ثم كثروا واستحكموا فترق أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير وابن المنذر وعن الضحاك وابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة وذكرا عنه أنه قال أيضا : مكتوب في الأنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وفي الكشاف هو مثل ضربه الله تعال لبدء ملة الأسلام وترقيه في الزيادة إل أن قوى واستحكم لأنالنبي صلى الله عليه و سلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها وظاهره أن الزرع هو النبي صلى الله عليه و سلم والشطء أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون مثلا له عليه الصلاة و السلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكن وجهة وروي الثاني عن الواقدي وفي خبرأخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه
وقوله تعال : ليغيظ بهم الكفار عة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعال لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك وقيل : علة لما بعده من قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا وعمكلوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما
29
- فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر على
(26/128)
رضي الله تعالى عنها ما يشير إليه أيضا فقد أخرج الحاكموصححه عنها في قوله تعالى : ليغيظ بهم الكفار قالت : أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أمروا بالأستغفار لهم فسبوهم وعنبعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلىمعين منالصحابة رضي الله تعالى عنهم فعن عكرمة أنه قال : أخرج شطأه بأبيبكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين
وأخرج ابن مردويه والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس محمد رسول الله والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا علي كرم الله تعالى وجهه يبتغون فضلا من الله ورضوانا طلحة والزبير سيماهم في وجوههم من أثر السجود عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح ومثلهم في الأنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره بأبيبكر فاستغلظ بعمر فاستوى على سوقه بعثمان يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار بعلي كرم الله تعالى وجهه وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جميع أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضا في قوله تعالى : كزرع قال : أصل الزرع عبد المطلب أخرج شطأه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فآزره بأبي بكر فاستغلظ بعمر فاستوى على سوقه بعثمان ليغيظ بهم الكفار بعلي رضي الله تعالى عنه وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخرج ما في الآية عليها وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة و السلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من شطأه أوفى منحظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة و السلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضا ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققوا أهل السنة والجماعة في مسئلة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
ومن باب الإشارة في بعض الآيات إنا فتحنا لك فتحا مبينا يشير عندهمإلى فتح مكة العماء بإدخال الأعيان الثابتة ظاهرة بنور الوجود فيها أي إظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة و السلام على أن لام لك للتعليل وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يرونه من قوله سبحانه : لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك وقيل : يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة و السلام إلى حضرة ربوبيته عز و جل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الأسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلى الله عليه و سلم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا ويتم نعمته عليك بإثبات جميع حسنات العالم في صحيفتك إذ كنتالعلة في إظهاره ويهديك صراطا مستقيما بدعوةالخلق على وجه الجمع والفرق وينصرك الله على النفوس الأمارة ممن تدعوهم إلى الحق نصرا عزيزا قلما يشبهه نصر ومن هنا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعا وكان علماء أمته كأنبياءبني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته عليه الصلاة و السلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأرواحهم والمراد ليجمع لك هذه الأمورفلا تغفل هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين فسروها بشيء يجمع نورا وقوة وروحا بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة
(26/129)
ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش وقالوا : لا تنزلالسكينة إلا في قلب نبي أو ولي ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم فيحصل لهمالإيمان العياني والإيمان الأستدلالي البرهاني إنا أرسلناك شاهدا على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق ومنهنا أحاط صلى الله عليه و سلم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة و السلام شاهد خلق جميعها ومن هذا المقام قال عليه الصلاة و السلام : كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ومبشرا ونذيرا إذ كنتأعلم الخلق بصفات الجمال والجلال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلى الله عليه و سلم وبقائه عز و جل وأيد ذلك بقوله سبحانه : يد الله فوق أيديهم سيقول لك المخلفون المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الأمارة من الأعراب من سكان بوادي الطبيعة شغلتنا أموالنا وأهلونا العوائق والعلائق فاستغفر لنا اطلب من الله عز و جل ستر ذلك عنا ليتأتى لنا السير يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها : رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا أي هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئا بل كان الله بما تعملون خبيرا فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والأنس إلى ما كانواعليه من إدراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة وظنهم ظن السوء بالله تعالى وشؤنه عز و جل وكنتم في نفس الأمر قوما بورا هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الأستعداد سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات ذرونا نتبعكم دعونا نسلك مسلككم لننال منالكم يريدون أن يبدلوا كلام الله في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم قل لن تتبعونا كذلكم قال الله حكم وقضى من قبل إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة فسيقولون منكرين لذلك بل تحسدوننا ولهذا تمنعوننا عن الأتباع بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ولذلك نسبوا الحسد وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية قل للمخلفين من الأعراب ستدعون ولا تتركون سدى إلى قوم أولي بأس شديد وهم النفس وقواها وتقاتلونهم أو يسلمون ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم فإن تطيعوا الداعي يؤتكم الله أجرا حسنا من أنواع المعارف والتجليات وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما وهو عذاب الحرمان والحجاب ليس على الأعمى وهو من لم ير في الدار غيره ديارا حرج في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك ولا على الأعرج وهو من فقد شيخا كلاما سالما عن عيب في كيفية التسليك والإيصال حرج في ترك السلوك أيضا وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السلوك على يد ناقص ولا على المريض بمرض العشق والهيام حرج في ذاك أيضا لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الأنفراد عن الأهل والمال ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا محمد رسول الله والذين معه أشداء على اتلكفار أعداء الله عز و جل في مقام الفرق رحماء فيما بينهم لقوة مناسبة بعضهم
(26/130)
بعضا فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال سيماهم في وجوههم من أثر السجود له عز و جل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السما خلع الأنوار الإلهية قال عامر بن عبد قيس : كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة سترا لصفاتهم بصفاته عز و جل وأجرا عظيما وهو أن يتجلى لهم بأعظم تجلياته وأفكل شيء دونه جلاله ليس بعظيم وسبحانه من إله رحيم وملك كريم
سورة الحجرات
مدنية كما قال الحسن وقتادة وعكرمة وغيرهم في مجمع البيان عن ابن عباس إلا آية وهي قوله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ولعل من يعتبر ما أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده من طريق الأعمش عن علقمة عن عبد الله قال : ما كان يا أيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة وما كان يا أيها الناس فبمكة يقول بمكية استثنى والحق أن هذا ليس بمطرد وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية وهي ثماني عشرة آية بالأجماع ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهمامدنيتين مشتملتين على أحكام وتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه فتتحت بالذين آمنوا وتلك تضمنت تشريفات له صلى الله تعالى عليه وسلم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة و السلام وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر لأنه عز و جل ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه قال سبحانه وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخ فربما من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهي عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وتصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ورادع عن الأخلال به
و تقدموا من قدم المتعدي ومعناه جعل الشيء قادما أي متقدما على غيره وكان مقتضاه أن يتعدى إلىمفعولين لكن الأكثر في الأستعمال تعديته إلى الثاني بعلى تقول : قدمت فلانا على فلان وهو هنا محتمل احتمالين الأول أن يكون مفعوله نسيا والقصد فيه إلى نفس الفعل وهو التقديم من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ولا نظر إلى أن المقدم ماذا هو على طريقة قوله تعالى : هو الذي يحيي ويميت وقولهم : يعطي ويمنع فالمعنى لا تفعلوا التقديم ولا تتلبسوا به ولا تجعلوه منكم بسبيل والثاني أن يكون قد حذف مفعوله قصدا إلى تعميمه لأنه لاحتماله لأمور لو قدر أحدها كان ترجيحا بلا مرجح يقرد أمرا عاما لأنه أفيد مع الأختصار فالمعنى لا تقدموا أمرا من الأمور والأول قيل أوفى بحق المقام لأفادته النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني ورجح الثاني بأنه أكثر استعمالا وبأن في الأول تنزيل المتعدي منزلة اللازم وهو خلاف الأصل والثاني سالم منه والحذف وإن كان خلاف الأصل أيضا أهون من التنزيل المذكور لكثرته بالنسبة إليه وبعضهم لم يفرق بينهما لتعارض الترجيح عنده وكون مآل المعنى عليهما العموم المناسب للمقام وذكر أن في الكلام تجوزين أحدهما في
(26/131)
بين الخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان فلأن ما بين العضوين فتجوز بذلك على الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيمانهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي سيده في سيره حيث لا مصلحة فالمراد من لا تقدموا بين يدي الله ورسوله لا تقطعوا أمرا وتجزموا به وتجترؤا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم به ويأذنا فيه وحاصله النهي عن الأقدام على أمر من الأمور دون الأحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة
وجوز أن يكون تقدموا من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه ويعضده قراءة ابن عباس وأبيحيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم لا تقدموا بفتح التاء والقاف والدال وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال أعرف اللغتين وأشهرهما لا يقال : الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل مكنزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في مالك يوم الدين فليكن الظرف ههنا بمنزلة مفعول التقدم مغنيا غناه والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حسا فهو أوفق للأستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس فتخرج لا تقدموا على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم إلا بلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرء أن تجعل أحدا إما نفسك أو غير متقدما بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجانا للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها كيفما اتفق فافهم ولا تغفل
وجوز أن يكون بين يدي الله ورسوله من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة و السلام فكأنه قيل : لا تقدموا بين يدي رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيمه عليه الصلاة و السلام والإيذان بجلالة محله ومزيد اختصاصه به سبحانه وأمر التجوز عليه على حاله وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده فإن الكلام مسوق لاجلاله عليه الصلاة و السلام وإذا كان استحقاق هذا الأجلال لاختصاصه بالله جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي الله عز شأنه أدخل في النهي وأدخل وإن جعل مقصودا بنفسه على ما مر فالنهي عن الأستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقا من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة وعليه تفسير ابن عباس على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال : أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة وكذا ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردوبه عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا
ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة و السلام أريد به ما ينقله عنه تعالىولفظه أيضا وما اللفظ من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان المعنى من الوحي أو إذ كلام كل واحد من الله تعالى والرسول عليه الصلاة و السلام وما أخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن مجاهد أنه قال في ذلك : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام ابن عباس ويكون مؤيدا له وبعضهم يروي أنه قال : لا تفتاتوا على الله تعالى
(26/132)
شيئا حتى يقصه على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجعل مؤيدا لكلام ابن عباس أيضا وفسر التقدم بين يدي الله تعالى لأن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة و السلام مكشوف المعنى ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة
وفي الدر المنثور بعد ذكر المروي عن مجاهد حسبما ذكرنا قال الحافظ : هذا التفسير على قراءة تقدموا بفتح التاء والدال وهي قراءة لبعضهم حكاها الزمخشري وأبو حيان وغيرهما وكأن ذلك مبني على أن تقدموا على هذه القراءة من قدم كعلم إذا مضى في الحرب ويأتي من باب نصر أيضا إذ الأفتيات وهو السبق دون ائتمار من يوتمر أنسب بذلك
واختار بعض الأجلة جعله من قدم من سفره من باب علم لا غير كما يقتضيه عبارة القاموس وعليه يكون قدم شبه تعجيلهم في قطع الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر من سفره إيذانا بشدة رغبتهم فيه نحو وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا واختلف في سبب النزول فأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال : قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : أمر القعقاع بن معبد وقال عمر رضي الله تعالى عنه : بل أمر الأقرع ابن حابس فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : ما أردت إلا خلافي فقال عمر رضي الله تعالى عنه : ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله حتى انقضت الآية وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن أن أناسا ذبحوا قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم النحر فأمرهم عليه الصلاة و السلام أن يعيدوا ذبحا فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا الخ وفي الكشاف عنه أن أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأهرهم صلى الله عليه و سلم أن يعيدوا ذبحا آخر والأول ظاهر في أن النزول بعد الأمر والذبح قبل الصلاة يستلزم الذبح قيل رسول الله عليه الصلاة و السلام لأنه صلى الله عليه و سلم كان ينحر بعدها كما نطقت به الأخبار وإلى عدم الأجزاء قبل ذهب الإمام أبو حنيفة والأخبار تؤيده وأخرج الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن البراء قال : ذبح بردة ابن نيار قبل الصلاة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبدلها فقال : يا رسول الله ليس عندي إلا جذعة فقال صلى الله عليه و سلم : اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أول ما تبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح قبل الصلاة الحديث وفي السئلة كلام طويل محله كتب الفروع فراجعه إن أردته وعن الحسن أيضا لما استقر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فهوا أن يبتدءوه بالمسئلة حتى يكون عليه اتلصلاة والسلام المبتديء وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا وكذا لكان كذا زكذا فكره الله تعالى ذلك وقدم فيه
وقيل : بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا لهم إلى بني عامر لأنهم أعن من سليم فقتلوهما وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : بئسما صنعتم كانا من سليم أي كانا من أهل العهد لأنهم كانوا معاهدين والسلب ما كسوتهما فوداهما
(26/133)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ونزلت أي لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال : إن ناسا كانوا يقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين ىمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وفي رواية عن مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت قد بنتته في اليوم الذي يشك فيه فقال للجارية : اسقيه عسلا فقلت : إني صائم فقال : قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم وفيه نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا الخ فالمعنى كما في المعالم لا صوموا قبل صوم نبيكم وأول هذا صاحب الكشف فقال : الظاهر عندي أنها اسدلت بالآية على أنه ينبغي أن يتمثل أمر النب صلى الله تعالى عليه وسلم ونهيه وقد نهي عليه الصلاة و السلام وفيه نزلت أي ف مثل هذا لدلالتها على وجوب الأتباع والنهي عن الأستبداد إذ لا يلوح ذلك التفسر على وجه ينطبق على يوم الشك وحده لا بتكلف وهذا نظير ما نقل عن ابن مسعود في جواب المرأة التي اعترض عليه أنها قرأت كتاب الله وما وجدت اللعن على الواشمة كما ادعاه رضي الله تعالى عنه من قوله : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما رأيت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت : بلى قال : فإنه نهى عنه وأنتتعلم بعد الرواية الأولى عن هذا التأويل ويعلم من هذه الروايات وغرها أنهم اختلفوا أيضا في تفسير التتقدم وفي كثير منها تسره بخاص وقال بعضهم : إن الآية عامة ف كل قول وفعل ويدخل فيها أنه إذا جرت مسئلة في مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسبقوه في الجواب وأن لا يمشي إلا للحاجة وأن يستأتي في الأفتتاح بالطعام ورجح بأنه الموافق للسياق ولما عرف في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وفي الكلام عليه بناء على ما قاله الطيبي مجاز باعتبار القدر المشترك الصادق على الحقيقة أيضا دون التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس ويسمى في الأصول بعموم المجاز وفي الصناعة بالكناية لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أضا ومن هنا جوز إرادة لا تمشوا بين يديه صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر عله الرحمة أنه على هذا القول مفعول بل توجه النهي إلى نفس الفعل فتأمل وحتج بالآة على اتباع الشرع ف كل شء وهو ظاهر مما تقدم وربما احتج بها ثقاة القاس وهو كما قال الكا باطل منهم نعم قال الجلال السوط : حتج بها على تقدم النص على القاس ولعله مبن على أن الفعل بالنص أبعد منالتقدم بن د الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم واتقوا الله أ ف كل ما تأتون وتذرون من الأقوال والأفعال الت من جملتها ما نحن فه إن الله سمع لكل مسموع ومنه أقوالكم علمم
1
- بكل المعلمومات ومنها أفعالكم فمن حقه أن تق وراقب ا أها الذن آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه والأشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الأعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه الصلاة و السلام بصوته وقرأ ابن مسعود لا ترفعوا بأصواتكم بتشديد ترفعوا وزيادة الباء وقد شدد الأعلم الهذلي في قوله : رفعتت عيني بالحجا زالي أناس بالمناقب
(26/134)
والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون وهو نظير قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربى أضعافا مضاعفة
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أي جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم فالأول نهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة و السلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : الأول مخصوص بمكالمته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة و السلام كأنه قيل : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم ويفهم أيضا وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة و السلام فأيا ما كان يكونالمآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلى الله عليه و سلم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها ومنهنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة : والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لأكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى
وفي رواية أنه قال : يا رسول الله والله لااكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى وكان إذا وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة و السلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه و سلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه وقيل : معنى ولا تجهروا له بالقول الخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه وكان الظاهر أن يقال مثلا : ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضا
أن تحبط أعمالكم تعليل لما قبله من التهين على طرق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهي عنه وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهي عنه ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التتي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوطذ لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهي في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الأداء إلى حبوط العمل وقراءة ابن مسعود وزيد بن علي فتحبط بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الأحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبلها وقوله تعالى : وأنتم لا تشعرون
2
- حال من فاعل تحبط ومفعول تشعرون محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقا قد تحبط الأعمال الصالحة ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري :
(26/135)
قد دلت الآية على أمرين هائلين أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام ما يحبط عمل المؤمن والثاني أن في أعماله ما لا يدري أنه محبط ولعله عند الله تعالى محبط
وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الأطلاق ومعلوم أن حكمالنهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والقاعدة المختارة أن إيذاؤه عليه الصلاة و السلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أولا حماية للذريعة وحسما للمادة ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة و السلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهرا يميزه وإن كان فلا ينفق تمييوه في كثير من الأحيان وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه : أن يحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون وإلا فلو كان على ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقومه سبحانه : وأنتم لا تشعرون موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا فعلى كلا حاليه الأحباط به محقق إذن فلا موقع لأدعام الكلام بعد الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا ثم قال عليه الرحمة : وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الأجلال والأعظام ثانيهما أن إيذاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كفر وهذا قد نص عليه ائمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ولا تقبل توبته فما أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى
وحاصل الجواب أن لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي الحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الأستهانة فنهاهم عز و جل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون وقيل : يمكن نظرا للمقام أن ينزل إذا هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظا إجلالا لمجلسه صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الأحباط كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت إلى قوله سبحانه : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ومعنى وأنتم لا تشعرون عليه وأنتم لا تشعرون إن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي ولا يتم بدون الأول وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب ولا تكونن ظهيرا للكافرين مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف وقال أبو حيان : إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا عل عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه و سلم وغض البصر عنده أن لو فعل ذلك كأنه قيل : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها ولا يخف ما في الشق الثاني من التكلف البارد ثم إن من الجهر ما لم يناوله النهي بالأتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو أرهاب عدو أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أواستهانة ففي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولي المسلمون يوم حنين : ناد أصحاب السمرة فناد بأعل صوته أين أصحاب السمرة وكان رجلا صيتا يروي أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه
(26/136)
فأسقطت الحوامل لشدة صوته وفيه يقول نابغة بني جعدة : زجرا أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم فقال : لأنها ألفت صوته وروي البخاري ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلى الله عليه و سلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو وما شأن ثابت اشتك قال سعد : إنه جاري وما علمت له بشكو فأتاه سعد فقال : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بل هو من أهل الجنة وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما شأن ثابت قالوا : يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه فسأله ما شأنك قال : يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلى الله عليه و سلم : لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي وهو أيضا أجل من أن يكون ممن كان يقصد الأستهانة والإيذاء لرسول الله صلى الله عليه و سلم برفع الصوت وهم المنافقون الذين نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي ابن العجلان أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال : ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة و السلام : أما ترضى أن تعيش حميدا أو تقتل شهيدا وتدخل الجنة قال : رضيت ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى الله عليه و سلم
واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم وعند قراءة حديثه عليه الصلاة و السلام لأن حرمته ميتا كحرمته حيا وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والأستهانة لمن يحرم إيذاؤه والأستهانة به مطلقا لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى
وقوله تعال : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله الخ ترغيب في الأنتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الأخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي أولئك أشارة إلى اتلموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهومبتدأ خبره الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى والجملة خبر إن وأصل معنى الأمتحان التجربة والأختبار والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى المرين بعلاقة اللزوم أي أنهم مرن الله تعالى قلوبهم للتقوى وفي الكشف الأمتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للأضطلاع والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الأسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين الله تعالى لهم وكأنه إنما
(26/137)
اعتبر ذلك لأنه لا يجوز إرادة المعنى الموضوع له هنا فلا يصح كونه كناية عند من يشترط فيها إرادة الحقيقة ومن اكتفى فيها بجواز الإرادة وإن امتنعت في محل الأستعمال لم يحتج إلى ذلك الأعتبار واختار الشهاب كون الأمتحان مجازا عن الصبر بعلاقة اللزوم وحاصل المعنى عليه كحاصله على الكناية أي أنهم صبر على التقو أقوياء عل مشاقها أو المراد بالأمتحان المعرفة كما حكي عن الجبائي مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب والمعن عرف الله قلوبهم للتقو وإسناد المعرفة إليه عز و جل بغير لفظها غير ممتنع وهو في القرآن الكريم شائع وعلى أن الصحيح جواز الأسناد مطلقا لما في نهج البلاغة من إطلاق العارف عليه تعالىى : وقد ورد الحديث أيضا على ما ادعاه بعض الأجلة واللام صلة لمحذوف وقع حالا من قلوبهم أي كائنة للتقوى مختصة بها فهو نحو اللام في قوله : وقصيدة رائقة ضوعتها أنت لها أحمد من بين البشر وقوله : أعداء من لليعملات على الوجى وأضياف ليل بيتوا للنزول أو هي صلة لامتحن باعتبار معنى الأعتياد أوالمراد ضرب الله تعالى قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى أي لتظهر ويعلم أنهم متقون إذ لا تعلم حقيقة التقوى إلا عند المحن والأصطبار عليها وعلى هذا فالأمتحان هو الضرب بالمحن واللام للتعليل على معنى أن ظهور التقوى هو الغرض والعلة وإلا فالصبر عل المحنة مستفاد من التقو لا العكس أو المراد أخلصها للتقوى أي جعلها خالة لأجل التقوى أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقو فيها حق كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى وهذا أبلغ وهو استعارة من امتحان الذهب وإذابته لخلص أبرزه من خبثه ونق أو تمثيل وتفسير امتحن بأخلص رواه ابن جرير وجماعة عن مجاهد وروي ذلك أيضا عن الكعبي وأبي مسلم وقال الواحدي : تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الأخلاص لدلالة الأمتحان عليه وليس بذاك واختار صاحب الكشف ما نقل عنه أولا فقال : الأول أرجح الوجوه لكثرة فائدته من الكناية والأسناد والدلالة على أن مثل هذا الغض لا يتأتى إلا ممن هو مدرب للتقوى صبور عليها فتأمل لهم في الآخرة مغفرة لذنوبهم وأجر عظيم
3
- لغضهم أصواتهم عند النبي عليه الصلاة و السلام ولسائر طاعاتهم وتنكير مغفرة وأجر للتعظيم ففي وصف أجر بعظيم مبالغة في عظمه فإنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجملة لهم الخ مستأنفة لبيان جزاء الغاضين إحمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين والمبتدأ اسم الأشارة المتضمن لما جعل عنونا لهم والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الأعتداد بغضهم والأرتضاء له وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وإن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك وقيل الجملة خبر ثان لإن بذاك والآية قيل : أنزلت في الشيخين رضي الله تعالى عنهما لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار بعد نزول الآية السابقة وفي حديث الحاكم وغيره عن محمد بن ثابت بن قيس أنه قال بعد حكاية قصة أبيه وقوله : لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنزل الله تعالى إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله الآية
وأنت تعلم أن حكمها عام ويدخل الشيخان في عمومها وكذا ثابت بن قيس وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما أنزل الله تعالى أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقو قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(26/138)
: منهم ثابت بن قيس بن شماس إن الذين ينادونك من وراء الحجرات من خارجها خلفها أو قدامها عل أن وراء من المواراة والأستثناء فما استتر عنك فهو وراء خلفا كان أو قداما كان إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك فالوراء بالنسبة إل من في الحجرات كا كان خارجها لتواريه عمن فيها وقال بعض أهل اللغة غن وراء من الأضداد فهو مشترك لفظي عليه ومشترك معنوي على الأول وهو الذي ذهب إليه الآمدي وجماعة
و الحجرات جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط وتسمى حظيرة الأبل وهي ما تجمع فيه وتكون محجورة بحطب ونحوه حجرة أيضا فهي بمعنى اسم المفعول كالغرفة لما يغرف باليد من الماء وفي جمعها هنا ثلاثة أوجه ضم العين اتباعا للفاء كقراءة الجمهور وفتحها وبه قرأ أبو جعفر وشيبة وتسكينها للتخفيف وبه قرأ ابن أبي عبلة
وهذه الأوجه جائزة في جمع كل اسم جامد جاء على هذا الوزن والمراد حجرات نسائه عليه الصلاة و السلام وكانت تسعة لكل منهم حجرة وكانت كما أخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني من جرد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود وأخرج البخاري في الأدب وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال : رأيت الحجرات من جريد النخل مغشي من خارج بمسوح الشعر وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت ست أو سبع أذرع وأحرز الببت الداخل عشرة أذرع وأظن السمك بين الثمان والسبع
وأخرجوا عن الحسن أنه قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد الرسول عليه الصلاة و السلام وبكى الناس لذلك وقال سعيد بن المسيب ومئذ : والله لوددت أنهم تركوها على حالها لينشو أناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ف حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها وقال نحو ذلك أبو إمامة بن سهل بن حنيف وفي ذكر الحجرات كناية عن خلوته عليه الصلاة و السلام بنسائه لأنها معدة لها ولم يقل : حجرات نسائك ولا حجراتك توقيرا له صلى الله تعالى عليه وسلم وتحاشيا عما يوحشه عليه الصلاة و السلام ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من وراءها فيكون القصد إلى الأستغراق العرفي إلى جميع حجرات نسائه صلى الله عليه و سلم أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة و السلام عل أن الأستغراق إفرادي لا شمولي مجموعي ولا أنه من مقابلة الجمع المقتضية لانقسام الآحاد عل الآحاد لأن من ناداه صلى الله عليه و سلم من وراء حجرة منها فقد ناداه من وراء الجميع عل ما قيل وعل هذا يكون إسناد النداء من إسناد فعل الأبعاض إل الكل وقيل : إن الذي ناد رجل واحد كما هو ظاهر خبر أخرجه الترمذ وحسنه وجماعة عن البراء بن عازب وما أخرجه أحمد وابن جرر وأبو القاسم البغو والطبران وابن مردوه بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه أت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا محمد اخرج إلينا فلم يجبه عليه الصلاة و السلام فقال : يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال : ذاك الله فأنزل الله تعال إن الذين ينادونك الخ وعليه يكون الإسناد إل الكل لأنهم رضوا بذلك وأمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم وظاهر الآية أن المناد جمع وكذا جمع من الأخبار وسنذكر إن شاء الله تعال بعضا منها وحمل
(26/139)
الحجرات عل الجمع الحقيقي هو الظاهر الذي عليه غير واحد مكن المفسرين وجوز كون الحجرة واحدة وهي التي كان فيها الرسول عليه الصلاة و السلام وجمعت إجلالا له صلى الله تعالى عليه وسلم على أسلوب حرمت النساء سواكم وأيضا لأن حجرته عليه الصلاة و السلام لأنها أم الحجرات وأشرفها بمنزلة الكل على نحو أحد الوجهين في قوله تعال : ومن أظلم ممن منع مساجد الله
وفرق الزمخشري بين من وراء الحجرات بإثبات من وراء الحجرات بإسقاطها بأنه على الثاني يجوز أن يجمع المنادي والمنادى الوراء وعلى الأول لا يجوز ذلك وعلله بأن الوراء يصير بدخول من مبتدأ الغاية ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد واعترضه في البحر بأنه قد صرح الأصحاب في معاني من أنها تكونلابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد وأن الشيء الواحد يكون محلا لهما ونسبوا ذلك إلى سيبويه وقالوا : إن منه قولهم : أخذت الدرهم من زيد فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معا قالوا ك فمن تكون في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط وفي بعض المواضع لابتداء الغاية انتهائها معا
وصاحب التقريب بقوله : فيه نظر لأن المبدأ والمنتهي إما المنادى والمنادى على ما هو التحقيق أو الجهة فإن كان الأول جاز أن يجمعها الوراء في إثبات من وفي إسقاطها لتغاير المبدأ والمنتهى وإن كان الثاني فالجهة إما ذات أجزاء أو عديمتها فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات من أيضا باعتبار أجزاء الجهة وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما لا في إثبات من ولا في إسقاطها لاتحاد المورد ورد الأول بأن محل الأنتهاء هو المتكلم ليس إلا كما ذكره ابن هشام في المغنى وذكر أن ابن مالك قال إن من في المثال للمجاوزة والثاني غير قادح في الفرق على ما ذكره صاحب الكشف قال : الحاصل أن المبدأ الجهة باعتبار تلبسها بالفاعل لأن حرف الأبتداء دخل على الجهة والفعل مما ليست المسافة داخلة في مفهومه فيعتبر الأمران تحقيقا لمقتضى الفعل والحرف ولما أوقع جميع الجهة مبدأ لم يجز أن يكون منتهى سواء كان منقسما أو لا ثم لما كان الوراء مبهما لم يكن مثل سرت من البصرة إلى جامعها إذ لا يتعين بعضها مبدأ وبعضها منتهى على أن ذلك أيضا إذا أطلق يجب أن يحمل على أن المنتهى غير البصرة أما إذا عينت فيجوز مع تجوز والأصل عدمه إلا بدليل ثم هذا الجواز فيما كانت النهاية مكانا أيضا أما إذا اعتبرت باعتبار التلبس بالمفعول فلا وإذا لم يذكر حرف الأبتداء لم يؤد هذا المعنى
فهذا فرق محقق ومنه يظهر أن المذكور في التقريب من النظر غير قادح وما ذكر من أن التحقيق أن الفعل يبتديء من الفاعل وينتهي إلى المفعول ويقع في الظرف وأن من وراء الحجرات ووراءها كلاهما ظرف كصليت من خلف الإمام وخلفه ومن قبل اليوم وقبله ومعنى الأبتداء محقق والفرق تعسف ظاهر في أن من زائدة لا فرق بين دخولها وخروجها وهو خلاف الظاهر وإلا لما اختلفوا في زيادتها في الأثبات لشيوع نحو هذا الكلام فيما بينهم ومتى لم تكن زائدة فلا بد من الفرق بين الكلامين لا سيما إذا كانا من كلامه عز و جل فتدبر والتعبير عن النداء بصيغة المضارع مع تقدمه على النزول لاستحضار الصورة الماضية لغرابتها
والموصول اسم إن وجملة قوله تعالى : أكثرهم لا يعقلون
4
- خبرها وتكرار الأسناد للمبالغة والمراد أنهم لا يجرون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب لا سيما مع أجل خلق الله تعالى وأعظمهم عنده سبحانه صلى الله عليه و سلم وكثيرا ما ينزل وجود الشيء منزلة عدمه لمقتض والحكم على الأكثر دون الكل بذلك لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب بل نادى لأمر ما على ما قيل وجوز أن يكون المراد بالقلة التي يدل عليها نفي الكثرة
(26/140)
العدم فإنه يكنى بها عنه وتعقبه أبو حيان بأن ذلك في صريح القلة لا في المفهوم من نفي الكثرة وكان هؤلاء من بني تميم كما صرح به أكثر أهل السير أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن ابن عباس قال قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا منهم الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب بن زرارة وقيس بن عاصم وقيس بنت الحرث وعمرو بن الأهتم المدينة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق معهم عيينة ابن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سوأة حتى أتوا منزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف يا محمد اخرج إلينا ثلاثا فخرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين نحن أكرم العرب فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كذبتم بل مدح الله تعالى الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقالوا : إنا أتيناك لنفاخرك فذكره بطوله وقال في آخره : فقال التميميون والله إن هذا الرجل لمصنوع له لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا وفاه شاعره فكان أشعر من شاعرنا وفيهم أنزل الله تعالى إن الذين ينادونك من وراء الحجرات من بني تميم أكثرهم لا يعقلون هذا في القراءة الأولى
وذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق الخبر بطوله وعد منهم الأقرع بن حابس وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتح مكة وحنينا والطائف وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم في ظهورهم وأن خطيبهمعطارد بن حاجب وخطيبه صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس وشاعرهم الزبرقان بن بدر وشاعره عليه الصلاة و السلام حسان بن ثابت وذكر الخطبتين وما قيل من الشعر وأنه لما فرغ حسان قال الأقرع : وأبي أن هذا الرجل لمؤتي له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا وأنه لما فرغوا أسلموا وجوزهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأحسن جزائزهم وأرسل لعمرو جائزته كالقوم وتعقب ابن هشام الشعر بعض التعقب وفي البحر أيضا ذكر الخبر بطوله مع مخالفته كلية لما ذكره ابن إسحاق وفيه أن الأقرع قام بعد أن أنشد الزبرقان ما أنشد وأجابه حسان بما أجاب فقال : إني والله لقد جئت لأمر وقد قلت شعرا فاسمعه فقال : أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفوناعند ذكر المكارم وأنا رؤس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لحسان : قم فأجبه فقال : بني دارم لا تفخروا إن فخركم يصير وبالا عند ذكر المكارم هلبتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه فكان قوله عليه الصلاة و السلام : أشد عليهم من جميع ما قال حسان ثم رجع حسان إلى شعره فقال : فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن يقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ولا تفخروا عند النبي بدارم وإلا ورب البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصوارم
(26/141)
فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ثم دنا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام : ما يضرك قبل هذا انتهى و وهذا ظاهر في أن إسلام الأقرع يومئذ ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين كانتا قبل ذلك وتقدم عن ابن إسحاق أن الأقرع شهدهما مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويتوهم منه أنه كان مسلما غذ ذاك فيتناقض مع هذا بل في أول كلام ابن إسحاق وآخره ما يوهم التناقض والمذكور في الصحاح أنه وكذا عيينة كان إذا ذاك مع المؤلفة قلوبهم
وقد روي ابن إسحاق نفسه عن محمد بن إبراهيم أن قائلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أصحابه يوم قسمة ما أفاء الله تعالى عليه يوم حنين : يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة وتركت جعيل ابن سراقة الضمري فقال : أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه وجاء ما يدل على أنهم من بني تميم مرفوعا
أخرج ابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن قوله تعالى : إنالذين ينادونك الخ فقال : هم الجفاة من بني تميم لو لا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله تعالى عليهم أن يهلكهم وفي الصحيحين ما يشهد بأنهم من أشد الأمة على الدجال وجعله أبو هريرة أحد أسباب حبهم وظاهر كثير من الأخبار أن سبب وفودهم المفاخرة وقال الواقدي وهو حاطب ليل : إن سببه هو أنهم جهروا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عيينة ابن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فقدم رؤساؤهم بسبب إسرائهم ويقال : قدم منهم سبعون أو ثمانون رجلا في ذلك منهم عطارد والزبرقان وقيس بن عاصم وقيس بن الحرث ونعيم بن سعد والأقرع بن حابس ورياح بن الحرث وعمرو ابن الأهتم فدخلوا المسجد وقد اذن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليخرج إليهم فجعل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل ثم ذكر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أجازهم كل رجل اثنتي عشرة أوقية وكساء ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه انتهى ولعل زيادة جائزته لما نيل منه أيضا فقد ذكر ابن إسحاق أن عاصم بن قيس كان يبغض عمرا فقال : يا رسول الله إنه قد كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وازري به فقال لما بلغه ذلك يخاطب قيسا : ظللت مفترش الهلباء تشتمني عند الرسول فلم تصدق ولم تصب سدناكم سؤددا رهوا وسؤددكم باد نواجذه مقع على الذنب وروي عن عكرمة عن اتبن عباس أنهم ناس من بني العنبر أصاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي عليه الصلاة و السلام فجعلوا يقولون : يا محمد اخرج إلينا وذكر الخفاجي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسابهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة و السلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلى الله عليه و سلم فأطلق النصف وفادى
(26/142)
الباقي وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم ويقال : إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن ابن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهرا في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناسا آخرين وفي القاموس العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيرا لهم من الأستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلى الله عليه و سلم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسئول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناء على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة و السلام الجميع من غير فداء فأن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضيا
وضمير كان للمصدر الدالعليه صبروا كما في قولك : من كذب كان شرا له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل : خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل : لا خبر له وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء لو على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به وجوز كون ضمير كان لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته
وأوثرت حتى هنا على إلى لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعنية وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم : إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقيا له نحو سلام هي حتى مطلع الفجر ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفيها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلى الله عليه و سلم أمر لازم ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الأنتهاء إليه فإن الخروج لما جعله الله تعالى غاية كان كذلك في الواقع وإلى هذا ذهب الزمخشري وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره واعترض عليه بقوله : عينت ليلة فما زلت حتى نصفها راجيا فعدت يؤسا وأجيب بأنه على تسليم أنه من كلام من يعتد به مع أنه نادر شاذ لا يرد مثله نقضا مدفوع بأن معنى عينت ليلة عينت وقتا للزيارة وزيارة الأحباب يتعارف فيها أن تقع في أول الليل فقوله : حتى نصفها بيان لغاية الوقت المتعارف للزيادة الذي هو أول الليل والنصف ملاق له وهو أولى من قول ابن هشام في المغنى : أن هذا ليس محل الأشتراط إذ لم يقل : فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى عليه وحاصله أن الأشتراط مخصوص فيما إذا صرح بذي الغاية إذ لا دليل على هذا التخصيص وخفاء عدم الأكتفاء يتقديم ليلة في صدر البيت نعم ما ذكر من أصله لا يخلو عن كلام كما أشير إليه كلام صاحب الكشف ولذا قال الأظهر : إنه أوثر حتى تخرج اختصارا لوجوب حذف أن ووجوب الأظهار في إلى مع أن حتى أظهردلالة على الغاية المناسبة للحكم وتخالف ما بعدها وما قبلها ولهذا جاءت للتعليل دون إلى وفي قوله تعالى : إليهم إشعار بأنه عليه الصلاة و السلام لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم فليس زائدا بل قيد لا بد منه والله غفور رحيم
5
- بليغ المغفرة والرحمة فلذا اقتصر سبحانه على
(26/143)
النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كان مقتضى ذلك أن يعذبهم أو يهلكهم أو فلم تضق ساحة مغفرته ورحمته عز و جل عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا ويشير إلى هذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للقرع بعد أن دنا منه عليه الصلاة و السلام وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله : ما يضرك ما كان قبل هذا وفي الآيات من الدلالة على قبح سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه و سلم ما لا يخفى ومن هذا وأمثاله تقتطف ثمر الأنباب وتقتبس محاسن الآداب كما يحكى عن أبي عبيد وهو في الفضل هو أنه قال : ما دققت بابا على عالم حتى يخرج في وقت خروجه ونقله بعضهم عن القاسم ابن سلام الكوفي ورأيت في بعض الكتب أن الحبر ابن عباس كان يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القةن العظيم عنه فيقف عند الباب ولا يدق الباب عليه حتى يخرج فاستعظم ذلك أبي منه فقال له يوما : هلا دققت الباب يا ابن عباس فقال : العالم في قومه كالنبي في أمته وقد قال الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة و السلام : ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم وقد رأيت هذه القصة صغيرا فعملت بموجبها مع مشايخي والحمد لله تعالى على ذلك
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أخرج أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحرث بن أبي ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدعاني إلى الأسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الأسلام وإداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا لإبان كذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحرث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحرث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة و السلام فدعا سروات قومه فقال لهم : رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان وقت لي يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة و السلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحرث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إن الحرث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البعث إلى الحرث فأقبل الحرث بأصحابه حتى إذا استقبله الحرث وقد فصل عن المدينة قالوا : هذا الحرث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم قالوا : إليك قال : ولم قالوا : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحرث على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي قال : لا والذي بعثك بالحق مارأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزل يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم إلى قوله سبحانه : حكيم وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : أتى
(26/144)
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا نبي الله حيا من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكان حديث عهد بالأسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة و السلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال : أرمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تجعل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد : ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق إذن مؤذنهم فصلوا فقال : لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئا من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤنه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا : ما هذا قالوا : خالد بن الوليد قالوا : يا خالد ما شأنك قال : أنتم والله شأني أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقيل له : إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا : نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبدا فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم وأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا الآية قال الحسن : فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها المرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء والرواية السابقة أصح وأشهر وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة وأن النبي عليه الصلاة و السلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال والقائل بذلك قال : إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع والخطاب بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا شامل للنبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعده إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم : فسق الرطب إذا خرج عن قشره قال الراغب : والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة
ووصف الأنسان به على ما قال ابن الأعرابي لم يسمع في كلام العرب والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروءة بناء مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الأخلال بالمروءة والمشهور الأقتصار في تعريفه على الأخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل والتبين طلب البيان والتعرف وقريب منه التثبيت كما في قراءة ابن مسعود وحمزة والكسائي فثبتوا وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم نزلت الآية : التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان وتنكير فاسق للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ وهو كما في القاموس الخبر وقال الراغب : لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن وقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئا عظيما وما له قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين ولما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل
(26/145)
مافرط من الوليد إلا في الندرة قبل : إن جاءكم بحرف الشك وفي النداء يا أيها الذين آمنوا دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب لا يزني الزاني وهو مؤمن والمؤمن لا يكذب واستدل بالآية على أنالفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافا للشافعي وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد وقرره الأصلويون بوجهين احدهما أنه لو لم يقبل خبره لما كان عدم قبوله معللا بالفسق وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير إذ لو كان معللا به اقتضى حصوله به مغ أنه حاصل قبله لكونه معللا بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد مردودا وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به ثانيهما أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا لأن الظن يعمل به هنا واتلقول بالواسطة منتف والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطا على ما قرر في الأصول نعم قال ابن الحاجب وعضد الدين : قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكرا من ذلك الآية المذكورة ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافا كثيرا مذكورا في محله
واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وههنا قد انتفى الفسق ظاهرا ونحن نحكم به فلا يجب التثبت
وتعقب بأنا لا نسلم أنه ههنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبر به أو بتزكية خبير به له قال العضد : إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالتفاق فيرد بها على من قال : إنهم كلمهم عدول ولا يلحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة وهذا أحد أقوال في المسئلة وقد ذهب إليه الكثر من العلماء السلف والخلف وثانيها أنهم وكغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين وثالثها أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حيث قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها ورابعها أنهم عدول إلا من قاتل عليا كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الأمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون : إن من طرأ منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عمل بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يضر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار فلا يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقا بأنه مات على الفسق ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقا لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف
(26/146)
فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومزيد ثناء الله عز و جل عليهم كقوله سبحانه وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا وقوله سبحانه : كنتم خير أمة أخرجت للناس إلى غير ذلك وحينئذ إن أريد بقوله : إن من الصحابة من ليس بعدل إن منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي والقاضي ومنهم من قبلها أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الأعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية وكذا من اعتقد بحجية الألهام وقد قال عليه الصلاة و السلام : نحن نحكم بالظاهر وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذب على غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فاحترازه من الكذب عليه الصلاة و السلام أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيبا أو ترهيبا كالكرامية أو ترويجا لمذهبه كابن الراوندي وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية يقولا كذلك الشهادة ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود والحديث خص منه خبر الكافر وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضى للتثبت فيراد به ما هو أمارة الكذب لا ما هو أمارة الصدق فافهم وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب
وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لطهور التحريم عنده ولذا قال : أحده وأقبل شهادته وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ
أن تصيبوا تعليل للأمر بالتبين أي فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا قوما أي قوم كانوا بجهالة ملتبسين بجهالة ومآله جاهلين حالهم فتصبحوا فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به على ما فعلتم في حقهم نادمين
6
- مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم القامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الأنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء وفي الكشف التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب وإن تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك
واعلموا أن فيكم رسول الله عطف على ما قبله و أن بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعلموا
(26/147)
باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز و جل : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في فيكم الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ وصيغة المضارع للأستمرار فلو لامتناع استمرار طاعته عليه الصلاة و السلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور وكون المراد استمرار الأمتناع نظير
قيل في قوله تعالى : ولا هم يحزنون من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك وفي الكلام إشعار بأنهم ينوا بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة و السلام بين أظهرهم فقيل : واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت وفيه مبالغات من أوجه : أحدهما إيثار لو ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات والثاني ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجنه مع التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضا فضلا عن الوقوع والثالث ما في النعت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة والرابع ما في تعميم الخطاب والجري به غير الكمل من التمريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الأطلاق فيقع هو ويقع غيره في النعت والإرهاق واعلموا جلالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات وقوله عز و جل : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان استدراك على ما يقتضيه الكلام فإن لو يطيعكم خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكور والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل : ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى والإشارة بقوله تعالى أولئك هم الراشدون
7
- إليهم وفيه نوع من الألتفات والخطاب فيه للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة و السلام ما هم فيه من صبق الرشاد أي إصابة الطريق السوي فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم برآء لأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان الخ وهذا أولى من جعل لو يطيعكم الخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضا سديدا لشيوع التصرف في الأواخر في مثله وجعله بعضهم استدراكا بيانيا عذرهم فيما بدر منهم ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك والمناسب لما بعد ما ذكرناه
(26/148)
وجوز غير واحد من المعربين أن لو يطيعكم استئناف على معنى أنه لما قيل واعلموا أن فيكم رسول الله دالا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة و السلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله تعالى شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضمرة فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويوميء إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة وهو حسن لو لا أن واعلموا كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعا على الأستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط وأيضا يفوت التعريض وأن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام هذا وكره يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه مقابلته لحبب أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر و الكفر تغطية نعم الله تعالى بالجحود و الفسوق الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم والعصيان الأمتناع عن الأنقياد وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت والكلام أعني قوله تعالى : ولكن الله الخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمالالمرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيآت على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا وقيل : الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف العرب والعجم والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله وإليه الإشارة في قوله تعالى : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل فضلا من الله ونعمة تعليل للأفعال المستندة إليه عز و جل في قوله سبحانه : ولكن الله حبب الخ وما في البين اعتراض وجود كونه تعليلا للراشدين وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدا له أو لا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلا حبب إليكمالإيمان فضلا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال : أولئك هم الراشدون فضلا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلا أو لأنالرشد ههنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدا إذ هو مطاوع أرشد وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه : يريكم البرق خوفا وطمعا فيتحد الفاعل ويصح النصب وجوز كونه مصدرا لغير فعله منصوب أما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل الله تعالى وإنعامه وقيل : مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلا والله عليم مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حكيم
8
- يفعل كل ما يفعل من أفضال وأنعام وغيرهما بموجب الحكمة
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا أي تقاتلوا وكان الظاهر اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى : فأصلحوا بينهما أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم الله عز و جل والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظهما ثانيا على
(26/149)
عكس المشهور في الأستعمال والنكتة في ذلك ما قيل : إنهمأولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير وقرأ ابن أبي عبلة اقتتلتا بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير اقتتلا بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان فإن بغت إحداهما تعدت وطلبت العلو بغير الحق على الأخرى ولم تتأثر بالنصيحة فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء أي ترجع إلى أمر الله أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري حتى تفي بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجيء بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى بفي مضارع وفي شذوذا وفي تعليق القتال بالموصول للأشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها فإن فاءت أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذرا من قتالكم فأصلحوا بينهما بالعدل بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر وتقييد الأصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى : وأقسطوا أي أعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون إن الله يحب المقسطين
9
- فيجازيهم أحسنالجزاء وفي الكشاف في الأصلاح بالعدل والقسط تفاصيل إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت وأن كانت ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد ابن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت وأما التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الأصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد والذي ذكروا من أن الفرض أماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط قال في الكشف لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى : فإن فاءت لأنه من ضرورات التوبة فأعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال : والأولى على قول الجمهور أن يقال : الأصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي القائي هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال : قيل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال : إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله تعالى فيهم وإن طائفتان الآية وفي رواية أن النبي عليه الصلاة و السلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبي بن سلوان فقال ما قال فرد عليه عبد الله ابن رواحة رضي الله تعالى عنه فغضب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم فاطلحوا وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبي أوسيا
(26/150)
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله عز و جل والخطاب فيها على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الأصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة و السلام : يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة قال : الله تعالى ورسوله أعلم قال : لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها ذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيرا إلىى مقامتلتهما وإنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة وإطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا علىى سبيل البغي منهما جميعا والتصدي لآزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة وقيل : الخطاب لمن يتأتى منه الأصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني وإن طائفتان الخ إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعال يعني بها معاوية ومن معه الباغين عل علي كرم الله تعالى وجهه وصرح الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجا بأن عليا كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته لقتالهم دون الجهاد والحق أن ذلك ليس عل إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجعل الطائفتين الباغة والمبغي عليها من المؤمنين نعم الباغي عل الأمام ولو جائرا فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان والمعتزلة يقولون في مثله : إنه فاسق مخلد في النار أنمات بلا توبة والخوارج يقولون : إنه كافر والإمامية أكفروا الباغي عل علي كرم الله تعال وجهه المقاتل له واحتجوا بما روي من قوله صلى الله عليه و سلم له : حربك حربي وفيه بحث وقرأ ابن مسعود حت يفيئوا إل أمر الله فإن فاؤا فخذوا بينهم بالقسط إنما المؤمنون إخوة استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالأصلاح وإطلاق الأخوة عل المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالأخوة من حيث انتسابهم إل أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان والفاء في قوله تعالى : فأصلحوا بين أخويكم للإيذان بأن الأخوة الدينية موجبة للأصلاح ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الأصلاح والتحضيض عليه وتخصيص الأثنين بالذكر لأثبات
(26/151)
وجوب الأصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه وقيل : المراد بالأخوين الأوس والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمى كلا منهما أخا لاجتماعهم في الجد الأعلى وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن بخلاف عنه إخوانكم جمعا على وزن غلمان
وقرأ ابن سيرين إخوتكم جمعا على وزن غلمة وروي عبد الوارث عن أبي عمرو القراآت الثلاث قال أبو الفتح : وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك ويغلب الأخوان في الصداقة والأخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر واتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي منجملتها ما أمرتم به من الأصلاح والظاهر أن هذا عطف على فأصلحوا وقال الطيبي : هو تذييل للكلام كأنه قيل : هذا الأصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل ويجوز أن يكون عطفا على فأصلحوا أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا الله تعالى من أن تتهاونوا فيه لعلكم ترحمون
10
- أي لأجل أن ترجموا على تقواكم راجين أن ترحموا عليها يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم أي منكم من قوم آخرين منكم أيضا فالتنكير في الموضعين للتبعيض والسخر الهزؤ كما في القاموس وفي الزواجر النظر إلى المسخور منه بعين النقص وقال القرطبي : السخرية الأستحقار والأستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الأشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته وقال بعض : هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته واختير أنه احتقاره قولا أو فعلا بحضرته على الوجه المذكور وعليه ما قيل المعنى : لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم ولا يضر فيه اشتمالها عل نهي النساء عن السخرية كما لا يضراشتمالها عل نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها : كأنه لسان كلب فنزلت وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وقيل غير ذلك وقوله عز و جل : عسى أن يكونوا خيرا منهم تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين فرب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضا عسى أن يصير المحتقر اسم مفعول عزيزا ويصير المحتقر ذليلا فينتقم منه فهو نظير قوله : لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه : ولآ نساء أي ولا يسخر نساء من المؤمنات من نساء
(26/152)
منهن عسى أن يكن أي المسخورات خيرا منهن أي من الساخرات وعلى هذا جاء قول زهير : وما أدري وسوف اخال أدري أقوم آل حصن أم نساء وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب : إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما نعت به فشاع في جماعة الرجال وأما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من ابنية الجموع لغلبته في المفردات ووجه الأختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى : الرجال قوامون على النساء وقد يراد به الرجال والنساء تغليا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والأناث وقيل : المراد بهم الذكور أيضا ودل عليهن بالألتزام العادي لعدم الأنفكاك عادة والنساء على ما قال الراغب وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك بمنزلة تعدد الساخر والمسخور منه وقيل : لأنالنهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة وعموم الحكم لعموم علته و عسى في نحو هذا التركيب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية وقيل : إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلا باعتبارين أو محله الرفع والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر
وقرأ عبد الله وأبي عسوا أن يكونوا وعسين عن أن يكن فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة وفيه الخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الأسم أو الخبر وقيل : هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار ولا تلمزوا أنفسكم لا يعيب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه نضير تلمزوا للجميع بتقدير مضاف و أنفسكم عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم وقوله سبحانه : ولا تقتلوا أنفسكم وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا سواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص لإفادة الشمول كشارب الخمر فاسق مذموم ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا ومنهم منيقول : السخرية الحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل : اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالأشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالأنتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم ففي الحديث اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس وتعقب بأنه لا دليل على الأختصاص
(26/153)
وقال الطيبي : هو من دليل الخطاب لكن أن في هذا الوجه تعسفا والوجه الآخر يعني ما تقدم أوجه لموافقته لا يسخر قوم من قوم وإنما المؤمنون إخوة ولا يغتب بعضكم بعضا وفي الكشف أخذ الأختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل : ولا تلمزا من هو صفتكم من الإيمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والأختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل : لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل والأنصاف أن المتبادر ما تقدم وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلزمون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فأنفسكم على ظاهره والتجوز في تلمزوا أطلق فيه المسبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى : ولا تنابزوا وكونه من التجوز في الأسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما في الحديث من الكبائر أن يشتم الرجل والديه وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا
وقرأ الحسن والأعرج وغبيد عن أبي عمرو لا تلمزوا بضم الميم ولا نابزوا بالألقاب أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب قال في القاموس : التنابز التعاير والتداعي باللقاب ويقال نبزه وينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب
وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح والنبز في الذم خاصة وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب ومن الغريب ما قيل التنابز الترامي أي لا تتراموا باللقاب ويراد به ما تقدم والمنهي عنه هو التقليب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا
قال النووي : اتفق العلماء على تحريم تلقيب الأنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد روي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليسمع فأتى يوما وهو يقول : تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال لرجل : تنح فلم يفعل فقال : من هذا فقال الرجل : أنا فلان فقال : بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت ولا تنابزو بالألقاب وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيآت ثم تاب منها وراجع الحق فنهي الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله وعن ابن مسعود هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي وعن الحسن نحوه ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي
(26/154)
يا يهودية بنت يهوديين فقال لها : هلا قلت : إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم لا تنابزوا بالألقاب على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما ومعنى قوله تعالى : بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان بأبي الفسق كقولهم : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن
و الاسم هنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا وفيها تسميته فسوقا وقيل : بعد الإيمان أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان وهذا خلاف الظاهر وذكر الزمخشري له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة وقيل : معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعدما اتصفوا بضده فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر وقيل : هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم أو بجميع ما تقدم من النهي وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر
ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين : سليمان العمش وواصل الأحدب وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة : تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الأستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الأستخفاف كافية في الجواز ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن سليمان الذي يقال له الأعمش هذا وغوير بين صيغتي تلمزوا وتنابزوا لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر وقيل : قيل تنابزوا لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم ويعلم من الآية أن التقليب ليس محرما على الأطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه وقد لقب أبو بكررض عنه بالعتيق لقوله عليه الصلاة و السلام له : أنت عتيق الله من النار وعمر رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه وحمزة رضي الله تعالى عنه بأسد الله لماأن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به وخالد بسيف الله لقوله صلى الله عليه و سلم : نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة وألقاب علي كرم الله عال وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير ذكر بالقبيح المكروه منها حرام
(26/155)
ويراعى فيه المعنى بخلاف العلم ولذلك قال الشاعر : وقلما أبصرت عيناك ذا لقب
إلا ومعناه إن فتشت في لقبه بدخولها في لكن الشائع في غير ذلك وفي الحديث كنواأولادكم قال عطاء : مخافة الألقاب وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أشيعوا الكنى فإنها سنة ولنا في الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع إليه ومن لم يتب عما نهي عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر فأولئك هم الظالمون
11
- بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاةللمعنى يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن أي تباعدوا منه وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له وتنكير كثيرا ليحتاط في كل ظن ويتأمل حت يعلم أنه من أيالقبيل فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعاشية ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عز و جل ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين ففي الحديث إن الله عال حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء وعن عائشة مرفوعا من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول : اجتنبوا كثيرا من الظن ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى خانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولا يعبث بالشباب أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض أخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن صنع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ولا تظن بكلمة خرجت من امريء مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ومنعرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ومن كتم سره كانت الخيرة في يده وما كافيت منعصى الله تعالىفيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه وعليك بأخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ولا تهاون بالخلف فيهينك الله تعالى ولا تسألن عما لم يكون ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه وعليك بالصدق وإن قتلك واعتزل عدوك واحذر صديقفك إلا الأمين إلا من خشي الله تعالى وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب
وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنتاليوم في زمان اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت واعلم أن ظن السوء إن كان اختياريا فالأمر واضح وإذا لم يكن اختياريا فالمنهي عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه يريد به سوءا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص وهو محمل خبر إن من الحزم سوء الظن وخبر الطبراني احترسوا من الناس بسوء الظن وقيل : المنهي عنه الأسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه وإلا فالأمر الغير الأختياري نفسه لا يكون مورد التكليف وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل : ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه قال : إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت
(26/156)
فلا تحقق وإذا تطيرت فامض أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان إن بعض الظن إثم تعليل بالأمر بالأجتناب أولموجبه بطريق الأستئناف التحققي والأثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال قال الشاعر : لقد فعلت هذي النوى بي فعلة أصاب النوى قبل الممات أثامها والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمالأي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعا : وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول : إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام وأنإثم من باب علم ووثم من باب ضرب وإنه ذكره في باب الهمزة في الأساس والواوي متعد وهذا لازم
ولا تجسسوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه تفعل منالجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه واستعمال التفعل للمبالغة وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين ولاتحسسوا بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولهذا يقال لمشاعر الأنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار وقيل : التجسس بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن وقيل : الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك وقيل : الأول في الشر والثاني في الخير وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقا وعدوه منالكبائر
أخرج أبو داود زابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نادى بذلك حتى أسمع العواتق في الخدر وأخرج أبو داود وجمكاعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا فقال ابن مسعود : قد مهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به
وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر عن التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال : يا عدو الله أظننت أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية فقال : وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه : ولا تجسسوا وقد تجسست وقال الله تعالى : وأتوا البيوت من أبوابها وقد تسورت وقال جل شأنه : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ودخلت على بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه : فهل عندكممن خيران عفوت عنك قال : نعم فعفا عنه وخرج وتركه
وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه : إن فلانا لا يصحو فقال : انظر إلى الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال : قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر : والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنتبهذا فقال : يا ابن الخطاب وأنتبهذا ألم ينهك الله عالى أن تتجسس فعرفها عمر فانطلق وتركه وذكر أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جازا احتجاجا
(26/157)
بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي أيضا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر : وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال : أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى : ولا تجسسوا فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم ولعل القصة إن صحت غير واحدة ومنالتجسس على ما قال الأوزاعي الأستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضا
ولا يغتب بعضكم بعضا أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : أتدرون ما الغيبة قالوا : الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت لو كان أخي ما أقول قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم
والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والأشارة ونحوهما إذا أدت مؤدي النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير بنقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الأفهام وهي بالفعل كأنتمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم واحتج على ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم : اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس وما ذكره لا يعول عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر وقال البيهقي : ليس بشيء ولو صح محمول على فاجر معلن بفجوره والمراد بقولنا غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرا في مجلس الذكر أولا وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بين أن تكونفي غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد وقد يقال : شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهو لما كان عن ترك ما يسجد له عمدا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى الأستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء وإسناد الفعل إلى أحد إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة وتمثيل الأغتياب بأكل لحم الأنسان وجعل المأكول أخا للكل وميتا وتعقيب ذلك بقوله تعالى : فكرهتموه حملا على الأقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها وفي المثل السائر كني عن الغيبة بأكل الأنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الأعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل والفاء في فكرهتموه فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي أن صح ذلك أو أعرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولايمكنكم إنكار كراهته والجزائية باعتبار التبين والضمير المنصوب للأكل
(26/158)
وقيل : للحم وقيل : للميت وليس بذاك وجوز بكونه للأغتياب المفهوم مما قبل والمعنى فأكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل وعبر بالماضي للمبالغة وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد وانتصاب ميتا على الحالمن اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان
وقرأأبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة فكرهتموه بضم الكاف وشد الراء ورواها الخدريعن النبي صلى الله عليه و سلم وقوله تعالى : واتقوا الله قيل عطف على محذوف كأنه قيل : امتثلوا ما قيل لكمواتقوا الله وقال الفراء التقدير إن صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر وقال أبو علي الفارسي لما قيل لهم أيحب أحدكم الخ كان الجواب بلا متعينا فكأنهم قالوا : لا نحب فقيل لهم فكرهتموه ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر وقيل : هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبرلفظا أمرمعني كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك : وقوله سبحانه : إن الله تواب رحيم
12
- تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمناتقى واجتنب ما نهى عنه وتاب مما فرط منه وتواب أي مبالغ في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفاسي رضي الله تعالى كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا : ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخباء مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطلب لهما أداما فانطلق فأتاه فقال : يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال : ما يصنع أصحابك بالآدام قد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالا : والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال : إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت
وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقالا : إن هذالتئوم فأيقظاه فقالا : ائت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقل له أن أبا بكر وعمر يقرآنك السلامويستأدمانك فقال : إنهما ائتدما فجاءا فقالا : يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما فقالا : استغفر لنا يا رسول الله قال : مراه فليستغفر لكما وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما إن تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل : هذا والآية دالة على حرمة الغيبة وقد نقل القرطبي وغيره الجماع عل أنهامن الكبائر وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنهامن الصغائر وهو عجيب منهمالكثرة ما يدل عل أنها منالكبائر وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة إنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم وتعقب بأن فشوا المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل على أن الأصرار
(26/159)
عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهوكبيرة بالأجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في عظم الحرج السابق مع أن هذا الدليل لا يقاوم الدلائل الكثيرة ولعل الأولى في الأستدلال على ذلك ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال : بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول ولا يتم أيضا فقد قال ابن الأثير : المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراده لا أنه في نفسه غير كبير كيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه فالحق أنها من الكبائر نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرا نحو عيب الملبوس والدابة ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا ليحله فيخرج عن مظلمته وقال الحسن : يكفيه الأستغفار عن الأستحلال واحتج بخبر كفارة من اعتبته أن تستغفر له وأفتي الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والأستغفار وجزم ابن الصباغ بذلك وقال : نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأكلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره وقال الزركشي : هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحوا أثر الذنب بالكلية على الفور وما ذكر في غير الغالب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الأستغفار ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما
قال في الخادم : الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الأستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيا والمجنون مجنونا ويسقط حق الله تعالى بالندم وهل يكفي الأستحلال من الغيبة المجهولة أم لا وجهان والذي رجحه في الأذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الأنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة وكلام الحليمي وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن منسمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة ويؤيد الأول خبر أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال : إني تصدقت بعرضي على الناس
ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال : هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل الإيذاء وتنقيص خلق الله تعالى وتضييع الوقت بما لا يعني والأولى تقتضي التحريم والثانية الكراهة والثالثة خلاف الأولى وأما اذلمي فكما لمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله
وقد روي ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى
(26/160)
وتكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروها
وقال ابن المنذر في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في تفسير الغيبة : ذكرك أخاك بما يكره : فيه دليل على أن من ليس أخا لك من اليهود والنصارى وسائر الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر وذلك الدليل كما لا يخفى قد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظم له قدرة على إزالة ظلمه أي تخفيفه الثاني الأستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته الثالث الأستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك والأفضل أن يبهمه
الرابع تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمنصفين والمتصدين لأفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعا بل تحب وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزويج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي ومنذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للستقامة والخامس أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربة الخمر ظاهرا فيجوز ذكرهم بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر
السادس للتعريف بنحو لقب كالأعور والأعمش فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره نعم الأولى ذلك إنسهل ويقصد التعريف لا التنقيص وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولوعون ويقولون : هي صابون القلوبوإن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما قال ابن عباس وعلي بن الحسن رضي الله تعالى عنهم : الغيبة آدام كلام الناس نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى
وما أحسن ما جاء به الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله : جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه : ولا تجسسوا ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاعتياب وقال ابن حجر عليه الرحمة : إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في ومن لم يتب لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في اجتنبوا ختمت به في فاتقوا الله إلى الخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى : ومن لم يتب الخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالسخرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الأخفاء وعدم العلم به غالبا انتهى فلا تغفل
يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله :
(26/161)
الناس في عالم التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء وجوز أن يكون المراد هنا إنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبيء عنه ما بعد وقيل : هو تقرير للأخوة المانعة عن الأغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمة للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر
وجعلناكم شعوبا وقبائل الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون والبطن تجمع الأفخاذ والفخذ تجمع الفصائل فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسميت الشعوب لأنالقبائل تشبعت منها وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة ونظم ذلك بعض الأدباء فقال : قبيلة فوقها شعب وبعدها عمارة ثم بطن تلوه فخذ وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ولا سداد لسهم ماله قذذ وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال : أقصد الشعب فهو أكثر حي عددا في الحساب ثم القبيلة ثم يتلوهما العمارة ثم البطن ثم الفخذ وبعد الفصيلة ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرنا قليله وحكى أبو عبيدة عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل : وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي ومنهم أبو عبيدة وكان خارجيا وقد ألف كتابا في مثالب العرب وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة
وقيل : الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان وقال قتادة ومجاهد والضحاك : الشعب النسب إلا بعد والقبيلة الأقرب وقيل : الشعوب الموالي والقبائل العرب وقال أبو روق : الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم لتعارفوا علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل والحصر مأخوذ منالتخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان وقرأ الأعمش لتتعارفوا بتاءين على الأصل ومجاهد وابن كثير في رواية وابن محيصن بإدغام التاء في التاء وابن عباس وأبان عن عاصم لتعرفوا بكسر الراء مضارع عرف قال ابن جني : والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله :
وما علم الأنسان إلا ليعلما
أي لعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه
(26/162)
واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض وقوله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الأستئناف الحقيقي كأنه قيل : إن الأكرم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز و جل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى وقرأ ابن عباس أن بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل : لم لا تتفاخروا بالأنساب فقيل : لأن أكرمكم عند اللهتعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها
وفي البحر أن ابن عباس قرأ لتعرفوا وأنأكرمكم بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون أن أكرمكم الخ معمولا لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى وأما أن كانتلام كي فلا يظهر المعنى إذ ليس جعلهم شعوبا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولا لتعرفوا محذوفا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام أن تكون لام كي أه وهو كما ترى
إن الله عليم بكم وبأعمالكم خبير
13
- بباطن أحوالكم وروي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحرث بن هشام وعتاب بن أسيد وقالا : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت
وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة و السلام وقال : إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى ونزلت وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه عن الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا : يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا فأنزل الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى الآية
قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة و السلام قال : أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت يا أيها الناس الآية في ذلك وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة و السلام فاشتراه رجل فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يراه عند كل صلاة ففقده فسألأعنه صاحبه فقال : محموم فعاده ثم سأل عنه أيام فقال : هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار أخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وعبد بن حميد والترمذي وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لمك يجد مناخا فنزل على أيدي فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان برتقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى إلى قوله تعالى : خبير ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأخرج البيهقي وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت قالوا :
(26/163)
بلى يا رسول الله قال : فليبلغ الشاهد الغائب وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بابآئها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه وأخرج أحمد وجماعة نحوه لكن ليس فيه فمن أتاكم الخ
وأخرج البزاز عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكون أهون على الله من الجعلان وأخرج اتلطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله وم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعا
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعل والبغوي وابن قانع والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من انتسب إلى تسعة باء كفار يريد بهم عزا وكبرا فهو عاشرهم في النار وأخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي النلس أكرم قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا : ليس عن هذا نسألك قال : فعن معادن العرب تسألوني قالوا : نعم قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الأسلام إذا فقهوا والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب وأن ليس للأنسان إلا ما سعى وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعال الواحد فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارا للثواب عند الله عز و جل ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقو وبها تكمل النفس وتتفاضل الأشخاص وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط وبنو إسرائيل أفضل من القبط وأخرج مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال : قال صلى الله عليه و سلم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة فشرف العرب على العجم مثلا ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتي في كتابه مبلغ الأرب في فضائل العرب لا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع ثم إن أشرف العرب نسبا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينتسبون إلى النبي صلى الله عليه و سلم كما صرح به جمع من الفقهاء وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كل ابن انثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأناعصبتهم وأنا أبوهم ونوزع في صحة ذلك ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن وتعقب وليس المر موقوفا على ما ذكر لظهور دليله وقد أخرج أحمد والحاكم في المستدركعن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه قال : قال صلى الله عليه و سلم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وأن الأنساب كلها تنقطع وم القيامة غير نسبي وسبي وصهري وحديث بضعة فاطمة رضي الله تعالى عنها
(26/164)
مخرج في صحيح اليخاري أيضا قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلى الله عليه و سلم وهذا غاية الشرف لأولادها وعدم انقطاع نسبه صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلى نسبي وصهري والذهبي وإن تعقبه بقوله : فيه ابن وكيع لا يعمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن ويعلم مما ذكر ونحوه كما قال المناوي عظيم نفع الأنساب إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة و السلام لأهل بيه على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة و السلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا حرصا على إرشادهم وتحذيرا لهم من أن يتكلموا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب ورعاية المقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة و السلام بقوله : لا أغني عنكم من الله شيئا والمراد لا أغني عنكم شيئا بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه عالى لكم وهو عليه الصلاة و السلام لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بتمليك الله تعالى والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف
فعلى هذا لا بأس بقول الرجل : أنا من ذرية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرا واحتقار مسلم وعلى ما ذكرناه أولا جاء قوله عليه الصلاة و السلام إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل الحديث وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب إلى غير ذلك ومع شرف الأنتساب إليه عليه الصلاة و السلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلا عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وربما ينكر نسبه وعليه قيل لشريف سيء الأفعال : قال النبي مقال صدق لم يزل يحلو لدى الأسماع والأفواه إن فاتكم أصل امريء ففعاله تنبيكم عن أصله المتناهي وأراك تسفر عن فعال لم تزل بين الأنام عديمة الأشباه وتقول إني من سلالة أحمد أفأنت تصدق أم رسول الله ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم غير أنه كان فاسقا ظاهر الفسق وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يوما من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال : يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك
(26/165)
في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك ولهذا ونحوه قيل : ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله أي لا ينفع في الأمتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها وقيل : بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة وقيل : كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جدا حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهليا وتدخل الجنة فقال : لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني بأهلي وقيل : إذا قيل للكلب ياباهلي عوى الكلب من شؤم هذا النسب ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر فإن النص أعني إن العرب بعضهم أكفاء لبعض لم يفصل مع أنه صلى الله عليه و سلم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق وليس كل بأهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال : مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس فمتى عدوا الباهلية عارا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل وهذا نظير ما ذكروا إذا اشترى الشخص دارا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل منالعلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاما أما جاهلية فأظهر من أن يبرهن عليه وأما إسلاما فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك والثوري والكرخي من الحنفية وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترط فيها كون الإمام قرشيا وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي ولا اعتبار بضراز وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس وقال الشافعية : فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك ومع هذا كله فالتقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه الصلاة و السلام في ابنه كنعان : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح وقوله عليه الصلاة و السلام : سلمان منا أهل البيت فالحزم اللائق بالنسب أن يتقي الله ويكتسب منالخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدا وعلق على جيد الحسناء عقدا ولا يكتفي لمجرد الأنتساب إلى جدود سفلوا ليقال له : نعم الجدود لكن بئس ما خلفوا وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالأبرة من كل كمال ويقول : كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه ومن هنا قيل : وأعجب شيء إلى عاقل أناس عن الفضل مستأخره
(26/166)
إذا سئلوا ما لهم من علا أشاروا إلى أعظم ناخره وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري : أقول لمن غدا في كل وقت يباهينا بأسلاف عظام أتقنع بالعظام وأنت تدري بأن الكلب يقنع بالعظام وما الطف قوله : لم يجدك الحسب العالي بغير تقي مولاك شيئا فحاذر واتق الله وأبغ الكرامة في نيل الفخار به فأكرم الناس عند الله اتقاها وأكثر ما رأينا ذلك الأفتخار البارد عند أولاد مشائخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم عن فضلاء البرية واحتقروا أناسا فاقوهم حسبا ونسبا وشرفوهم أما وأبا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد ولولا خشية السأم لآطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم
قالت الأعراب آمنا قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الأسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدونبذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة و السلام وقيل : هم مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا : آمنا فاستحقينا الكرامة فرد الله تعالى عليهم وأيا ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما صرح به قتادة وغيره وإلحاق الفعل علامة التانيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل : لا تبالي بجمعهم كل جمع مؤنث والنكته في اعتباره ههنا الأشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى : وقال نسوة قل لم تؤمنوا إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة ولكن قولوا أسلمنا فإن الأسلام انقياد ودخول في العلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن اسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أو لا وبأنهم الممتنون أن صدقوا ثانيا فالأصل في الأرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب وفيه حمل له عليه الصلاة و السلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه
ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية : أولئك هم الصادقون تعريضا بأن الكذب منحصر فيهم وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لا سيما من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المبعوث
(26/167)
للدعوة إلى الإيمان وعلى أن إفادة لم تؤمنوا لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى ثم قوبل بقوله سبحانه : ولكن قولوا أسلمنا كأنه قيل : قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل : ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى وفيه تلويح بأن إسلامهم هو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل أسلمتم لكان ذلك موهما أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال : القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم وقيل : الآية احتباك والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف ولما يدخل الإيمان في قلوبكم حال من ضمير قولوا كأنه قيل : قولوا أسلمنا مادمتم على هذه الصفة وفيه إشارة إل توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكررا مع قوله تعالى : لم تؤمنوا وقيل : الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضا لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالأجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافا لأبي حيان و لم لا تفيد شيئا من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتا للقول المأمور به وإن تطيعوا الله ورسوله بالأخلاص وترك النفاق لا يلتكم من أعمالكم لا ينقصكم شيئا من أجورها أو شيئا من النقص يقال لاته يليته ليتا إذا نقصه ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو لا يألتكم من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتا وهي لغة أسد وغطفان قال الحطيئة : أبلغ سراة بني سعد مغلغلة
جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء وحكى أبو عبيدة ألات يليت إن الله غفور لما فرط من المطيعين رحيم
14
- بالتفضل عليهم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الأرتياب متراخيا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لأفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل : آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم يحدث لهم ارتياب ثانيا والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني وقال بعض الأجلة : عطف عدم الأرتياب على الإيمان من باب ملائكته وجبريل تنبيها على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه وأوثر ثم على الواو للدلالة على أنهذا الأصل حديثه وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدا عل طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينا بعد حين ولا بأس بأن يجعل ترشيحا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرا نبه عل أنه ليس تغاير ما بين الأستمرار والحدوث بل تغايرشيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنافآنا أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان والفرق بين الأستمرارين أن الأستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى : قالوا ربنا الله ثم استقاموا أي استمر بذلك إيمانهم مع الأرتياب وعلى الثاني الأستمرار معتبر في الجزء الأخير وهذا الوجه أوجه وأيا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب
(26/168)
وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله في طاعته عز و جل على تكثر فنونها من العبادات البدتية المدحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا كالحج والجهاد وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى وجوز بأن يقال : قدم الأموال لحرص الكثير عليهما حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرا إلى التعريض بأولئك حيث أنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاؤا وأظهروا الأسلام حبا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى جاهدوا بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة هم الصادقون
15
- أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب روي أنه لما نزلت الآية جاؤا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى : قل أتعلمون الله بدينكم أي أتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم آمنا فتعلمون من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر وقيل : إنه تعدى به لتضمين معنى الأحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث أنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى : والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض حال من مفعول تعلمون وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى وقوله سبحانه : والله بكل شيء عليم
16
- تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان يمنون عليك أنأسلموا أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته وقال الراغب : هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها وأن أسلموا في موضع المفعول ليمنون لتضمينه معنى الأعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم ويقال نحو ذلك في قوله تعالى : قل لا تمنوا علي إسلامكم فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم وجوز أبو حيان أن يكون أن أسلموا مفعولا منأجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان أي ما زعمتم في قولكم آمنا فلا ينافي هذا قوله تعالى : قل لم تؤمنوا أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق
وقرأ عبد الله وزيد بن علي إذ هداكم بإذ لتعليلية وقريء إن هداكم بإن الشرطية إن كنتم صادقين
17
- أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم ولا يخف ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعال إسلاما إظهارا لكذبهم في قولهم : آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الأمتنان ونفي سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانا فلما منوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة و السلام : يعتدون عليك بما ليس جديرا بالأعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم : لا تعتدوا على إسلامكم أي حديثكم المسمى إسلاما عندي لا إيمانا ثم قال تعالى : بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وفي قوله تعالى : إسلامكم بالأضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به
(26/169)
وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة وللتنبيه على أن المراد بالإيمان المعتد به لم يضفه عز و جل ونبه سبحانه بقوله جل وعلا : إن كنتم صادقين على أن ذلك كذب منهم واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى : إن الله يعلم غيب السماوات والأرض أي ما غاب فيهما والله بصير بما تعملون
18
- أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم وذلك ليدل على كذبهم وعلى إطلاعه عز و جل خواص عباده من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه رضي الله تعالى عنهم وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم يعلمون بياء الغيبة والله تعالى أعلم
ومن باب الأشارة في بعض الآيات يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبأ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها أنتصيبوا قوما من القلوب وصفاتها بجهالة فتصبحوا صباح يوم القيامة على ما فعلتم نادمين فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها واعلموا أن فيكم رسول الله الخ يشير إلى رسول الألهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها ويشير قوله تعالى : فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتتى تفيء إلى أمر الله إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفي عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عز و جل إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم إشارة إلى رعاية حق الأخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم يشير إلى ترك الأعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الأحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره قالت الأعراب آمنا إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت إليه هذا ونسأل الله التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه
سورة ق وتسمى سورة الباسقات
وهي مكية وأطلق الجمهورذلك وفي التحرير عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى : ولقد خلقنا السماوات والأرض الآية فهي مدنية نزلت في اليهود وآيها خمس وأربعون بالأجماع ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز و جل هذه السورة بما يتعلق بذلك وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة وفي رواية ابن ماجة وغيره عن قبطة بن مالك أنه عليه الصلاة و السلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ في العيد بقاف
(26/170)
واقتربت وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت : ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا تعلموا ق والقرآن المجيد وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور
بسم الله الرحمن الرحيم ق والقرآن المجيد
1
- ذي المجد والشرف من باب النسب كلا بن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في إن رحمة الله قريب وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب أما غير الإلهية فظاهر وأما الإلهية فلا عجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها وقال الراغب : المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الأبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوة والأخروية ويجوز أن يكون وصفه بذلك كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله فالأسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالىوعند الناس فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه او فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعن مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته وأكثر ما تقدم في قوله تعالى : صلى الله عليه و سلم والقرآن ذي الذكر يجري ههنا حتى أنه قيل : يجوز أن يكون ق أمرا من مفاعلة قفا أثره أي تبعه والمعنى اتبع القرآن واعمل بما فيه ولم يسمع مأثورا ومثله ما قيل : إنه أمر بمعنى قف أي قف عندما شرع لك ولا تجاوزه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ومن وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال : وذلك قوله عالى : والبحر يمده من بعده سبعة أبحر وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات وأبو الشيخ عنه أيضا أنه قال : خلق الله تعالى جبلا يقال له قاف محيطا بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية : قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضا قال : هو جبل محيط بالأرض وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال : ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه وتعقبه ابن حجر الهيتي فقال : يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي في حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف إلى آخر ما تقدم ثم قال : وكما يندفع بذلك قوله : لا وجود له يندفع قوله : ولا يجوز اعتقاد الخ لأنه أن أراد بالدليل مطلق الإمارة فهذه عليه أدلة أو الأمارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى والذي أذهب
(26/171)
ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كانت جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان وأمر الزلزلة لا يتوقف على ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الأنصاف والله تعالى أعلم
واختلف في جواب القسم فقيل : محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل : والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذرا بالبعث ونحو ما قيل : هو إنك لمنذر وقيل : ما ردوا أمرك بحجة
وقال الأخفش والمبرد والزجاج : تقديره لتعبثن وقيل : هو مذكور فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وحذفت اللام لطول الكلام وعنه أيضا وعن ابن كسيان ما يلفظ من قول وقيل : إن في ذلك لذكرى وهو اختيار محمد بن علي الترمذي وقيل : ما يبدل القول لدي وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وما ذكر أولا هو المعول عليه و بل للأضراب عما ينبيء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل : إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول وقيل : التقدير إنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة وقيل : هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل : ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم ونبه بقوله تعالى : بل عجبوا عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه
قال في الكشف : وهو وجه حسن و أن جاءهم بتقدير لأن جاءهم ومعنى منهم من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار وقيل عائد على الناس وليس بذاك
وقوله تعالى : فقال الكافرون هذا شيء عجيب
2
- تفسير لتعجبهم لكونه مقارنا لغاية الأنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة و السلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للأشعار بتعينهم بما أسند إليهم وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضا على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الأنكارية ودل عليه السياق أيضا لأنه دل على أن ثم منذرا به ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه
ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرعهم وأما للأيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز و جل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا وقوله تعالى : إذا متنا وكنا ترابا تقرير للتعجب وتأكيد للأنكار أو بيان لموضع تعجبهم والعامل في إذا مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين
(26/172)
الحياة حينئذ وقوله سبحانه : ذلك إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع رجع بعيد
3
- أي عن الأوهام أو العادة أو الأمكان وقيل : الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها والأشارة عليه إلى أئذا متنا الخ والجملة من كلام الله تعالى والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم وناصب إذا حينئذ ما ينبيء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا ترابا بعثنا وقد يقال : : أنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جوابا له فهو دليل أيضا على المقدر فالقول بأنه إذا كان الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب إذا مندفع نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان : أنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثاب والأعمش وابن عتبة عن ابن عامر إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبرا قال في البحر : وأضمر جواب إذا أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقا إذا كان جملة إسمية وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد وقيل : ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس وقتادة وقوله تعالى : وعندنا كتتاب حفيظ
4
- تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه
هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم وفي البعث لذلك بناء على أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والقوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملا عليه ويكون مرجحا للحكم المذكور ويندفع التحكم
وحاصل الرد أن الله تعالى علم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكمله فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فلا يلزم التحكم ويكون ذلك نظير انحفاظ وحدة الصورة الخيالية فينا بعد غيبة المحسوس عن الحس كما إذا رأينا شخصا فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانيا فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقا وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعا ولا ينكره إلا مكابر وقال بعض الأشاعرة : إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من
(26/173)
الموجد وهو الله تعالى وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر اكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه
وأيضا لا يتم عند القائلين بعدم رؤية الله سبحانه المعدومات مطلقا إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزا ذاتيا فلا ترد عليهم الشبهة السابقة وقد يقال : إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقا خاصا بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الأمتياز ويندفع التحكم ويقال على مذهب الحكماء : إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية والسالفة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية معادا وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفا وربما يدعى الأسلامي المستتفلس أن في قوله تعالى : وعندنا كتاب حفيظ رمز إلى ذلك وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام ثم إن البعث لا يتوافق على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه : أئذا متنا وكنا ترابا إشارة إلى ذلك وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس من الأنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة وليس نصا في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبق على العظيمة وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وخر ما يخلق بل كذبوا بالحق لما جاءهم إضراب أتبع الأضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا وكون التكذيب المذكور أفظع قيل : من حيث أن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضا وهو البعث وغيره وقيل : لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء عل أن من الجائز أن يكون قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة و السلام خاصة وقيل : المراد بالحق الأخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم وقيل : المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى : ق والقرآن المجيد وجعل كبدل البداء من الأضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجيء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وإن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل وقرأ الجحدري لما بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك : كتبه لخمس خلون مثلا و ما مصدرية أي
(26/174)
بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم فهم في أمر مريج
5
- مضطرب من مرج الخاتم في أصبعه إذا قلق من الهزال والإسناد مجازي كما في عيشة راضية مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبيء عنه قولهم : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وإنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة و السلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واتبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك أفلم ينظروا أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث إلى السماء فوقهم بحيث يشاهدونها كل وقت قيل : وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوي يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف
وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء وقال بعض الأفاضل في هذا المقام : إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلا وكذا كون السماوات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدا لمن وصل إليه وإنرؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها ملونة به وبكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائه ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون بل قيل : إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقعر وغيره وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذ يؤولونها وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع أككذاب بعضه بعضا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء وأنا أقول : لا بأس بتأويل ظاهر تأويلا قريبا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية وأرى الأنصاف من الدين ورد القول احتقارا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين هذا وحمل بعض السماء ههنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا كيف بنيناها أحكمناها ورفعناها بغير عمد وزيناها للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام وما لها من فروج
6
- أي من فتوق وشقوق والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابا وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل
وقيل ههنا أفلم ينظروا بالفاء وفي موضع آخر أو لم ينظروا بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالأستدلال عليه وجيء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادهم فكأنه قيل : النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام واحتج بقوله سبحانه ما لها من فروج للفلاسفة على امتناع الخرق وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امناعه على أنك قد سمعت المراد بذلك ولا يضر كونه ليس معنى
(26/175)
حقيقيا لشيوعه والأرض مددناها بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم وألقينا فيها رواسي جبالا ثوابت تمنعها من اليد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى : رواسي أن تميد بكم وهو ظاهر في عدم حركة الأرض وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكلا الفلاسفة الموجودين اليوم ووافقتهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا وأنبتنا فيها من كل زوج صنف بهيج
7
- حسن يبهج ويسر من نظر إليه تبصرة وذكرى لكل عبد منيب
8
- راجع إلى ربه وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها و تبصرة وذكرى علتان للأفعال السابقة معنى وإن انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الأستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا وقال أبو حيان : منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى
وقرأ زيد بن علي تبصرة وذكرة بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى وقوله تعالى : ونزلنا من السماء ماء مباركا أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج سهيج وهو عطف على أنبتنا وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده فأنبتنا به أي بذلك الماء جنات كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجار ذات ثمار وحب الحصيد
9
- أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما فالأضافة لما بينهما من الملابسة و الحصيد بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه بالذات والنخل عطف على جنات وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجمع وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل باسقات أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللوائح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل ونصبه على أنه حال مقدرة وروي قطبة بن مالك عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قرأ باصقات بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أو قاف لها طلع نضيد
10
- منضود بعضه فوق بعض والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسقات على التداخل وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور طلع مرتفع به على الفاعلية وقوله تعالى : رزقا للعباد أي ليرزقهم علة لقوله تعالى : فأنبتنا وفي تغليله بذلك بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والأستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق وجوز أن يكون رزقا مصدرا من معنى أنبتنا لأن الأنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسا وأن يكون حالا بمعنى مرزوقا وأحيينا به أي بذلك الماء بلدة ميتا أرضا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت وأنبتت وتذكير ميتا لأن البلدة بمعنى البلد والمكان وقرأ أبو جعفر وخالد ميتا بالتثقيل كذلك الخروج
11
جملة
(26/176)
قدم فيها للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الأحياء وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالأحياء وعن أحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الأنبات وتهوين لأمر البعث وتتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الأبتداء و الخروج خبر ونقل عن الزمخشري أنه قال : كذلك الخبر وهو الظاهر ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال : ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة والكاف واقع موقع مثل في قولك : مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف
وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها وفي ذلك أيضا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتهديد للكفرة وأصحاب الرس هو البئر التي لم تبن وقيل : هو واد وأصحابه قيل : هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام وقيل : قوم حنظلة بن صفوان وثمود
12
- وعاد وفرعون أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده وهذا كما تسمي القبيلة تميما مثلا باسم أبيها وإخوان لوط
13
- قيل : كانوا من أصهاره عليه السلام فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب وأصحاب الأيكة قيل : هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغيطة فسموا بها وقوم تبع الحميري وكان مؤمنا وقومه كفرة ولذا لم يذم هو وذم قومه وقد سبق في الحجر والدخان والفرقان تمام الكلام فيما يتتعلق بما في هذه الآية
كل كذب الرسل أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم وإفراد الضمير لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والأنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى تكذيب قومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث وإل ذلك كان يدعوهم تبع
فحق وعيد
14
- أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب أفعيينا بالخلق الأول استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة والعي بالأمر العجز عنه لا التعب قال الكسائي : تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر وهذا هو المعروف والأفضح وإن لم يفرق بينهما كثير والهمزة للأنكار والفاء للعطف على مقدر ينبيء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل : أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الأعادة وجوز الأمام أن يكونالمراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه : أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن ويؤيده قوله تعالى بعد : ولقد خلقنا الأنسان الخ وهو كما ترى وعن الحسن الخلق
(26/177)
الأول آدم عليه السلام وليس بالحسن وقرأ ابن أبي عبلة والوليد بن مسلم والقورصي عن أبيجعفر والسمسار عن شيبة وأبو بحر عن نافع أفعينا بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال : عي في عي وحي في حي فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الأدغام فقال : عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يفكون وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت نا ضمير نصب فالعرب جميعهم على الأدغام نحو ردنا زيد بل هم في لبس من خلق جديد
15
- عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل : إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لأنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل : منالخلق الثاني تنبيها عل مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه : جديد وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ والتعظيم ليس راجعا إل الخلق من حيث هو هو حت يقال : إنه أهون من الخلق الأول بل إل ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو هو وقال بعض المحققين : نكر لأنه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما وجوز أن يكون التنكير للأبهام إشارة إل أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الأستدلال عل تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الأعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبق زمانين ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني عل القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي وضمير به لما وهي موصولة والباء صلة توسوس وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك ويجوز أن تكون ما مصدرية والضمير للأنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الأنسان قائما به الوسوسة فالمحدث هو الأنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد : وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
16
- أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال و حبل الوريد مثل في فرط القرب كقولهم : مقعد القابلة ومقعد الأزار قال ذو الرمة على ما في الكشاف :
والموتأدنى لي من حبل الوريد
والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الأراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء و الوريد عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا وفي الخنصر الأسلم
والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقا يقال له وريد ففي الكشاف الوريد أن عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل وقيل : هو بمعنى مفعوللأن الروح الحيواني يرده يشير إلى هذا قول الراغب : الوريد عرق متصل بالكبد والقلب
(26/178)
وفيه مجري الروح وقال في الآية : أي نحن أقرب إليه من روحه وحكى ذلك عن بعضهم أيضا غذ يتلقى المتلقيان هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة إذا قيل : ظرف لا قرب وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملا في غيرها فاعلا أو مفعولا به أي هوسبحانه أعلم بحال الأنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به وفيه إيذان بأنه عز و جل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الأشهاد وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله تعالى بعلمه من زيادة لطف في الأنتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات وجوز أن تكون إذا لتعليل القرب وفيه ان تعليل قربه عز و جل العلمي باطلاع الحفظة الكتبة بعيد واختار بعضهم كونها مفعولا به لا ذكر مقدرا لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف والكلام مسوق لتقرير قدرته عز و جل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل عن اليمين وعن الشمال قعيد
17
- أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ومنه قوله : رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوى رماني وقال المبرد : إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه والقعيد عليهما قعيل بمعنى مفاعل مجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم وذهب الفراء إلى أن قعيدا يدل على الأثنين والجمع وقد أريد منه هنا الأثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير واعترض أن فعيلا يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل : هما على الناجذين فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعا إن الله لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما وقيل : على العاتقين وقيل : على طرف الحنك عند العنفقة وفي البحر إنهم اختلفوافي ذلك ولا يصح فيه شيء وأنا أقول أيضا لم يصح عنديأكثر مما أخبر الله تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر الكتب حقيقي : علم ذلك مفوض إلى الله عز و جل وأقول الظاهر أنهما في سائر أحوال الأنسان عن يمينه وعن شماله
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه قال : إن قعد فأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فأحدهما أمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ما يلفظ من قول ما يرى به من فيه خيرا كان أو شرا وقرأ محمد بن أبي معدان ما يلفظ بفتح الفاء إلا لديه رقيب ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين وإن كان شرا فهو صاحب الشمال عتيد
18
- معدمهيا لكتابة ما أمربه من الخير أو الشر وتخصيص القول بالذكر لأثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الأمام مالك وجماعة : يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض وفي شرح الجوهرة للقاني مما يجب اعتقاده أنلله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولا كانت أو عملا أو اعتقادا هما كانت أو عزما أو تقريرا أختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئا فعلوه قصدا وتعمدا أو ذهولا ونسيانا صدر
(26/179)
منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب أخرج البيهقي في الشعب عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وأن لم يخرج القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكما من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال : إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام أسقني الماء وقال بعضهم : يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محي منها المباحات وكتب ثانيا ماله ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجها للجمع بين القولين القول بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحو عن ابن عباس أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله : أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به ما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلا كان على حمار فعثر به فقال : تعست فقال صاحب اليمين : ما هي بحسنة فأكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فأكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فأكتبه وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعا وفيه فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه شيئا وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة ومثل الأستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضا ملكان يكتبان ماله وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ماله الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة
وفي شرح الجوهرة الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجه للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذللك في الملائكة عليهم السلام قال اللقاني بعد نقله : ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكى عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح الحفظة على الملائكة ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل
وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في الملكين مع الأنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمنا
(26/180)
أخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به : قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى : سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان : أنقيم في الأرض فيقول الله تعالى : أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين فيقول : قوما على قبر عبدي فسبحاني وأحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا
وقال الحسن : الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه
قال بعضهم : إن ملك الحسنات يتبدل تنويها بشأن الطائع وملك السيآت لا يتبدل سترا على العاصي في الجملة والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا : يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في الأخلاص وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة ابن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الملائكة يصضعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوح الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبد وأنا رقب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال : ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك أكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول : ا رب إنه لم يعمله فيقول : سبحانه وتعالى إنه نواه وقد يقال : إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المنوية جمعا بين الأخبار وجاء أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والأقامة من الحسنات
أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني في الأفراد والطبراني والبهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من أحد من المسلمين يبتلي ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشددا في وثاقي وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما وفي بعض الآثار ما دل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين ثم إن الملائكة الذين مع الأنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين فعن عثمان أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم ملك على الأنسان فذكر عشرين ملكا قاله المهدوي في الفصيل وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله غير الكاتبين بلا خلاف وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك الله تعالى أعلم بصحة ذلك
وروي ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال : وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلا ولا نهارا وقوله تعالى :
(26/181)
وجاءت سكرة الموت بالحق إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لاقوه فخذوا جذركم والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع و سكرة الموت شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهمايصيب العقل بما يصيب وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الأستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا وليس بذاك والباء إما للتعدية كما في قولك : جاء الرسول بالخبر والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام وقيل : حقيقة الأمر وجليةالحال من سعادة الميت وشقاوته وقيل : بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الأنسان خلق له وأما للملابسة كما في قوله تعالى : تنبت بالدهن أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر وقيل : بالحكمة والغاية الجميلة وقريء سكرة الحق بالموت والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الأنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه وقيل : الباء بمعنى مع وقيل : سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن الحق من أسمائه عز و جل والأضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا ويوافق ذلك ما أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول : لآ إله إلا الله إن للموت سكرات وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم ابن محمد عن عائشة أيضا قالت : لقد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت ذلك أي الحق ما كنت منه تحيد
19
- أي تميل وتعدل فالأشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للأنسان مطلقا والأشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة وإنما جيء بقوله تعالى ولقد خلقنا الأنسان لأثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأ قوله سبحانه وتعالى : لقد كنت في غفلة الخ يناسب خطاب هؤلاء وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى
وأما حديث مقابلتهم فقد أخذ فيه حيث قال عز و جل : وأزلفت الجنة الآيات وقال بعض الأجلة : الأشارة إلى الموت والخطاب للأنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا
وقال الطيبي : إن كان قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت متصلا بقوله سبحانه : بل هم في لبس من خلق جديد وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر وإن كان متصلا بقوله تعالى : ولقد خلقنا الأنسان فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر والألتفات لا يفارق الوجهين والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك : وجاءت كل نفس الخ وتفصيله بقوله تعالى : ألقينا في جهنم كل كفار عنيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد وفيه ما يعلم مما قدمنا وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد عن ذلك فقال : الخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحكاه لصالح بن كسيان فقال والله من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال : أخالفهما جميعا
(26/182)
هو للبر والفاجر وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم أخرج ابن سعد عن عروة قال : لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت : يا عين فأبكى للوليد بن الوليد بن المغيرة كأن الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وأخرج أحمد وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال : لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت أعاذل ما يغني الحذر عن الفتى إذا حشر جت يوما وضاق بها الصدر فقال أبو بكر : ليس كذلك يا بنية ولكن قولي : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل فقال رضي الله تعالى عنه : بل جاءت سكرة الموت الخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى
ونفخ في الصور أي وقت البعث ذلك إشارة إلى النفخ المفهوم من نفخ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد
20
- أي يوم إنجاز الوعيد الواقع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود وجوز أن تكون الأشارة إلى الزمان المفهوم من نفخ فإن الفعل كما يدل على الحث يدل على الزمان وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء ولكن قيل عليه : أن الأشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للأنسان مطلقا مع أنه يوم الوعد أيضا بالنسبة إليه للتهويل
وجاءت كل نفس من النفوس البرة والفاجرة كما هو الظاهر معها سائق وشهيد
21
- وإن اختلفت كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها وروي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد وكلاهما كما ترى وقيل : الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا وعن ابن عباس والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الأنسان وتعقبه ابن عطية بقوله : وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي وقوله تعالى : كل نفس يعم الصالحين وقيل : السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها وقيل : السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد وفيه أيضا ما تقدم آنفا عن ابن عطية وقال أبو مسلم : السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف وقال أبو حيان : الظاهر أن سائق وشهيد اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع وفي الحديث لا يسمع مدى صوت المؤذن أنس ولا جن ولا شيء إلا شهيد له يوم القيامة و معها صفة نفس أو كل وما بعده
(26/183)
فاعل به لاعتماده أو معها خبر مقدم وما بعده مبتدأ والجملة في موضع الصفة واختبر كونها مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعى العلم به وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم
وقال الزمخشري محل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالأضافة إلى ما هو في حكم المعرفة فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل : كل النفوس يعني أنه هذا أصله وقد عدل عنه في الأستعمال للتفرقة بين كل الأفرادي المجموعي ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعد قواعد العربية وقد قال عليه في البحر : إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتديء في النحو ثم أنه لا يحتاج إليه فإن الأضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها وأيضا كل تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل وقرأ طلحة محا سائق بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقلبتا حاء كما قالوا : ذهب محم يريدون معهم وقوله تعالى : اقد كنت في غفلة من هذا محكي بإضمار قول والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد فقيل : يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس وصالح بن كسيان وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها وقيل : الجملة محكية بإضمار قول هو صفة لنفس أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها : لقد كنت والمراد بالغفلة الذهول مطلقا سواء كان بعد العلم أم لا وما من أحد إلا وله غفلةما من الآخرة وما فيها وجوز الأستئناف على عموم الخطاب أيضا وقرأ الجحدري لقد كنت بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله :
يا نفس إنك باللذات مسرور
على تأويلها بالشخص ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكي كما لا يخفى
فكشفنا عنك غطاءك الغطاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو الغفلة والأنهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها وجعل ذلك غطاء مجازا وهو إما غطاء الجسد أو العينين وعلى كليهما يصح قوله تعالى : فبصرك اليوم حديد
22
- أي نافذ لزوال المانع للأبصار أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطائك الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون ولعمري أنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق وفي البحر وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث وقرأ الجحدري وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف عنك وما بعده على خطاب النفس ولم ينقل صاحب اللوامح الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال : لم أجد عنه في لقد كنت الكسر فإن كسر فيه أيضا فذاك وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ كل وحمل الكسر فيما بعده على معناه لأضافته إلى نفس وهو مثل قوله تعالى : فله أجره وقوله سبحانه بعده فلا خوف عليهم انتهى وقال قرينه
(26/184)
أي شيطانه المقبض له في الدنيا كما قال مجاهد وفي الحديث ما من أحد إلا وقد وكل قرينه من الجن قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير هذا ما لدي عتيد
23
- إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بأغوائي وإضلالي ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي : قال قرينه ربنا ما أطغيته لأن هذا نظير قول الشيطان : ولاضلنهم وقوله : ووعدتكم فأخلفتكم وذاك نظير قوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
وقال قتادة وابن زيد : قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيرا إليه : هذا ما لدي حاضر وقال الحسن : هو كاتب سيئاته يقول مشيرا إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض وقيل : قرينه هنا عمله قلبا وجوارح وليس بشيء و ما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أو موصولة والظرف صلتها و عتيد خبر بعد خبر لاسم الأشارة أو خبر لمبتدأ محذوف وجوز أن يكون بدلا من ما بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو أن ما الموصولة لابهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخمصين وقرأ عبد الله عتيدا بالنصب على الحال ألقينا في جهنم كل كفار خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد بناء على أنهما اثنان لا واحد جامع للوصفين أو للملكين من خزنة النار أو لواحد على أن الألف بدل من نون التوكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف وأيد بقراءة الحسن القين بنون التوكيد الخفيفية وقيل : أن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين فكثر على ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وفقا وأسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الأثنين وما في الآية محمول على ذلك كما حكى عن الفراء أو على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل بأن يكون أصله ألق ألق ثم حذف الفعل الثاني وأبقي ضميره مع الفعل الأول فثني الضمير للدلالة على ما ذكر كما في قوله : فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا وحكى ذلك عن المازني والمبرد ولا يخف بعده ولينظر هل هو حقيقة أو مجاز والأظهر أنه خطاب لاثنين وهو المروي عن مجاهد وجماعة وأيا ما كان فالكلام عل تقدير القول كما مر والألقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح أي اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم والنعمة عنيد
24
- مبالغ في العناد وترك الأنقياد للحق وقريب منه قول الحسن : جاحد متمرد وقال قتادة أي منحرف عن الطاعة يقال : عند عن الطريق عدل عنه وقال السدي : المشاق من العند وهو عظم يعرض في الحلق وقال ابن بحر : المعجب بما عنده مناع للخير مبالغ في المنع للمال عن حقوقه المفروضة قال قتادة ومجاهد وعكرمة : يعني الزكاة وقيل : المراد بالخير الأسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه : من دخل منكم في الأسلام لم أنفعه بشيء ما عشت والمبالغة باعتبار كثرة بني أخيه وباعتبار تكرر منعه لهم
وضعف بأنه لو كان المراد ذلك كان مقتضى الظاهر مناع عن الخير وفي البحر الأحسن عموم الخير في المال
(26/185)
وغيره معتد ظالم متخط للحق متجاوز له مريب
25
- شاك في الله تعالى ودينه وقيل : في البعث
الذي جعل مع الله إلها آخر مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره فألقينا في العذاب الشديد
26
- بتأويل فيقال في حقه ألقياه أو لكونه في معنى جواب الشرط لا يحتاج للتأويل أو بدل من كل كفار أو من كفار وقوله تعالى : فألقيناه تكرير للتوكيد فهو نظير فلا تحسبنهم بعد قوله تعالى : ولا تحسبن الذين يفرحون والفاء ههنا للأشعار بأن الألقاء للصفات المذكورة أو من باب وحقك ثم حقك ينزل التغاير بين المؤكد والمؤكد والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي ولا يدعى التغاير الحقيقي لأن التأكيد يأباه وقول أهل المعاني : أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف ليس على إطلاقه بسديد والنحويون على خلافه فقد قال ابن مالك في التسهيل : فصل الجملتين في التأكيد بثم إن أمن اللبس أجود من وصلهما وذكر بعض النحاة الفاء والزمخشري في الجاثية الواو أيضا وجعلوا ذلك من التأكيد الأصطلاحي ولو جعل العذاب الشديد نوعا من عذاب جهنم ومن أهوله فكان من باب ملائكته وجبريل دون تكرير لكان كما قال صاحب الكشف حسنا
وجوز أن يكون مفعولا بمضمر يفسره فألقياه وقال ابن عطية : أن يكون صفة كفار وجاز وصفه بالمعرفة لتخصصه بالأوصاف المذكورة وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز وصف النكرة بالمعرفة ولو وصفت بأوصاف كثيرة قال قرينه أي الشيطان المقيض له وإنما استؤنفت هذه الجملة استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنها جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى : ربنا ما أطغيته فإنه مبني على سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال : هو أطفغائي فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة عل الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه : ولكن كان هو بالذات في ضلال بعيد
27
- من الحق فاعنته عليه بالأغواء والدعوة إليه من غير قسر ولا إلجاء فهو كما قدمنا نظير وما كان لي عليكم من سلطان الخ قال استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى فقيل : قال عز و جل : لا تختصموا لدي أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك وقد قدمت إليكم بالوعيد
28
- على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطمعوا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة والجملة حال فيها تعليل للنهي ويلاحظ معنى العلم لتحصل المقارنة التي تقتضيها الحالية أي لا تختصموا لدي عالمين أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لابليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم فاتبعتموه معرضين عن الحق والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى وهو لازم يعدى بالباء وجوز أن يكون قدمت واقعا على قوله تعالى : ما يبدل القول لدي الخ ويكون بالوعيد متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول قدم عليه أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي والأظهر استئناف هذه الجملة وفي لدي على ما قال الأمام وجهان الأول أن يكون متعلقا بالقول أي ما يبدل القول الذي عندي
الثاني أن يكون متعلقا بالفعل قبل أي لا يقع التبديل عندي قال : وعلى الأول في القول الذي لديه تعالى وجوه أحدهما قوله تعالى : ألقينا باعتذارهم أن يبدل ويقول سبحانه : لاتلقيا فرد عليهم
(26/186)
ثانيها قوله سبحانه لإبليس : لأملأن الخ ثالثها ألا يعاد مطلقا رابعها القول السابق يوم خلق العباد هذا سعيد وهذا شقي وعلى الثاني في معنى وجوه أيضا أحدها لا يكذب لدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى فلا يفيد قولكم أطغاني شيطاني وقول الشيطان : ربنا ما أطغيته ثانيها لو أردتم أن لا أقول : فألقياه كنتم أبدلتم الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي ثالثها لا يبدل القول الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم : ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله : ربنا ما أشركنا وقوله : ربنا آمنا والمشهور أن ليد متعلق بالفعل على أن المراد بالقول ما يشمل الوعد والوعيد
واستدل به بعض من قال بعدم جواز تخلفهما مطلقا وأجاب من قال بجواز العفو عن بعض المذنبين بأنذلك العفو ليبس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد وقال بعض المحققين : المراد نفي أن يوقع أحد التبديل لديه تعالى في علمه سبحانه أو يبدل القول الذي عمله عز و جل فإن ما عنده تبارك وتعالى هو ما في نفس الأمر وهو لا يقبل التبديل أصلا وأكثر الوعيدات معلقة بشرط المشيئة على ما يقتضيه الكرم وإن لم يذكر على ما يقتضيه الترهيب فمتى حصل العفو لعدم مشيئة التعذيب لم يكن هناك تبديل ما في نفس الأمر فتدبره فإنه دقيق وما أنا بظلام للعبيد
29
- وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه وفيه إشارة إلى أن تعذيب من يعذب من العبيد إنما هو عن استحقاق في نفس الأمر وقد تقدم تمام الكلام في هذه الجملة فتذكر
يوم تقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد
30
- أي اذكر أو أنذر يوم الخ فيوم مفعول به لمقدر وقيل : هو ظرف لظلام وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب بنفخ كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم وعليه يشار بذلك إلى يوم نقول لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لا سيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل : ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ
وهذا الوجه كما قال في الكشف : فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضا على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلى على سبيل فرضه ممتدا واقعا ذلك في جزمه منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت
وقال أبو حيان : هو بعيد جدا قد فصل عليه بين العامل والمعمول بحمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما وكذا في نظير ذلك من اشتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع ههنا فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا
وقال الرماني : الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم وليس بشيء
وقال غير واحد : هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتليء ولا تقبل الزيادة فالأستفهام للأنكار أي لا مزيد على امتلائها وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد والحسن وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أومجازا عن الأستكثار وقيل : المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو فالأستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم
واستشكل دعوى أن فيها فراغا بأنه مناف لصريح قوله تعالى : لأملأن جهنم الآية وأجيب بأنه
(26/187)
لا منافاة لأن الأمتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال : إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أنذلك باعتبار حالين فالفراغ في الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتليء هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتليء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشيء الله لها خلفا آخر فيسكنهم في فضول الجنة
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتليء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله تعالى ينشيء لها خلقا وأول أهل التأويل ذلك فقال النضر بن شميل : إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى : قدم صدق وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ولعل في الأخبار ما ينافيه
وقال ابن الأثير : قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى ويبعده ما في حديث أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعا فيلقى فيها أي النار أهلها فتقول : هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز و جل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول : قدني قدني وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد والأضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك وقيل : وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل : يأتيها أمر الله تعالى فيكفها من طلب المزيد
(26/188)
وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية أن القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال وقيل : أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر : تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أوتحت رجلي وهذان القولان أولى مما تقدم والله تعالى أعلم والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعل إعلال المبيع
وقرأ الأعرج وشيبة ونافع وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش يوم يقول بياء الغيبة وقرأ عبد الله والحسن والأعمش أيضا يقال مبنيا للمفعول
وأزلفت الجنة للمتقين أخذ في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي غير بعيد
31
- أي في مكان غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم وفيه مبالغة ليست في التخلية عن الظرف فغير بعيد صفة لظرف متعلق بأزلفت حذف فقام مقامه وانتصب انتصابه ولذلك لم يقل غير بعيدة وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية والأصل وأزلفت إزلافا غير بعيد قال الإمام : أي
(26/0)
على قدرتنا وإن يكون حالا من الجنة قصد به التوكيد كما تقول : عزيز غير ذليل لأن العزة تنافي الذل ونفي مضاد الشيء تأكيد إثباته وفيه دفع توهم أن تجوزا أو شوبا من الضد ولم يقل : غير بعيدة عليه قيل : لتأويل الجنة بالبستان وقيل : لأن البعيد على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي في المؤنث والمذكر كالزئير والصليل فعومل معاملته وأجري مجراه وقيل : لأن فعيلا بمعنى فاعل قد يجري مجرى فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الأمران وللأمام في تقريب الجنة أوجه منها طي المسافة التي بينها وبين المتقين مع بقاء كل في مكانه وعدم انتقاله عنه ولكرامة المتقين قيل : أزلفت الجنة للمتقين دون وأزلف المتقون للجنة ومنها أن المراد تقريب حصولها والدخول فيها دون التقريب المكاني وفيه ما فيه ومنها أن التقريب على ظاهره والله عز و جل قادر على ذنقل الجنة من السماء إلى الأرض أي إلى جهة السفل أو الأرض المعروفة بعد مدها وقول بعض : إن المراد إظهارها قريبة منها على نحو إظهارها للنبي صلى الله عليه و سلم في عرض حائط مسجده الشريف على ما فيه منزع صوفي هذا ما توعدون إشارة إلى الجنة والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غيرقصد لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي وقوله سبحانه : ولما رأى المؤمنونالأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر وقيل : هو إشارة إلى الثواب وقيل : إلى مصدر أزلفت والجملة بتقدير قول وقع حالا من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون أو اعتراض بين المبدل منه أعني للمتقين والبدل أعني الجار والمجرور وفيه بعد
وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يوعدون بياء الغيبة والجملة على هذه القراءة قيل : اعتراض أو حالمن الجنة وقال أبو حيان : هي اعتراض والمراد هذا القول هو الذي وقع الوعد به وهو كما ترى وقوله تعالى : لكل أواب أي رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار أو من للمتقين على أن يكون الجار والمجرور بدلا من الجار والمجرو حفيظ
32
- حفظ ذنوبه حتى رجع عنها كماروي عن ابن عباس وسعيد بن سنان وقريب منه ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال : قال لي مجاهد : ألا أنبئك بالأواب الحفيظ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله تعالى منه
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : أي حفيظ لما استودعه الله تعالى منحقه ونعمته وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير كنا نعد الأواب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أن يقوم قال : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا وقيل : هو الحافظ لتوبته من النقض ولاينافيه صيغة أواب كما لا يخفى وقوله تعالى شأنه : من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب
33
- بدل من كل المبدل منالمتقين أو بدل ثان من المتقين بناء على جواز تعدد البدل والمبدل منه واحد وقولأبي حيان : تمكرر البدل والمبدل منه واحد لا يجوز في غير بدل البداء وسره أنه في نية الطرح فلا يبدل منه مرةأخرى غير مسلم وقد جوزه ابن الحاجب في أماليه ونقله الدماميني في أول شرحه للخزرجية وأطال فيه وكون المبدل منه في نية الطرح ليس على ظاهره أو بدل من موصوف أواب أي لكل شخص أواب بناء على جواز
(26/189)
حذف المبدل منه وقد جوزه ابن هشام في المغنى لا سيما وقد قامت صفته مقامه حتى كأنه لم يحذف ولم يبدل من أواب نفسه لأنه أوابا صفة لمحذوف كما سمعت فلو أبدل منه كان للبدل حكمة فيكون صفة مثله و من اسم موصول والأسماء الموصولة لا يقع منها صفة إلا الذي على الأصح وجوز بعض الوصف بمن أيضا لكنه قول ضعيف أو مبتدأ خبره ادخلوها بتأويل يقال لهم ادخلوها لمكان الأنشائية والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى بالغيب متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خشي أو منمفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه سبحانه وهو غائب عنه أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد وقيل : الباء للآلهة والمراد بالغيب القلب لأنه مستور أي من خشي الرحمن بقلبه دون جوارحه بأن يظهر الخشية ليس في قلبه منها وليس بشيء
والتعرض لعنوان الرحمانية للأشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز و جل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهمبسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه وقال الأمام : يجوز أن يكون لفظ الرحمن إشارة إلى مقتضى الخشية لأن معنى الرحمن واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو سبحانه في الدنيا رحمن حيث أوجدنا ورحيم حيث أبقانا بالرزق فمن يكون منه الوجود ينبغي أن يكون المخشي وما تقدم أولى
والباء في قوله تعالى : بقلب للمصاحبة وجوز أن تكون للتعدية أي أحضر قلبا منيبا ووصف القلب بالأنابة مع أنها يوصف بها صاحبه لما أن العبرة رجوعه إلى الله تعالى وأغرب الأمام فجوز كون الباء للسببية فكأنه قيل : ما جاء إلا بسبب آثار العلم في قلبه أن لا مرجع إلا الله تعالى فجاء بسبب قلبه المنيب وهو كما ترى وقوله تعالى : بسلام متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوها والباء للملابسة والسلام إما من السلامة أو من التسليم أي ادخلوها ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بتسليم وتحية من الله تعالىوملائكته ذلك إشارة إلى الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور يومالخلود
34
- البقاء الذي لا انتهاء له أبدا أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت السلام بتقدير مضاف أيضا أي ذلك يوم إعلام الخلود أي الأعلام به لهم ما يشاءون من فنون المطالب كائنا ما كان فيها متعلق بيشاؤن وقيل : بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته ولدينا مزيد
35
- هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومنه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة أنه تمر السحابة بهم فتقول : ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم وأخرج البيهقي في الرؤية والديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : ولدينا مزيد قال : يتجلى لهم الرب عز و جل
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن أنس أنه قال في ذلك أيضا : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة وجاء في حديث أخرجه الشافعي في الأمام وغيره أن يوم الجمهة يدعى يوم المزيد وقيل : المزيد أزواج من الحور العين عليهن تيجان أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب وعلى كل سبعون حلة وإن الناظر لينفذ بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك وقيل : هو مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وكم أهلكنا قبلهم أي كثيرا
(26/190)
أهلكنا قبل قومك من قرن قوما مقترنين في زمن واحد هم أشد منهم بطشا أي قوة كما قيل أو أخذا شديدا في كل شيء كعاد وقوم فرعون فنقبوا في البلاد ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب وغيره وأنشدوا للحرث بن حلزة : نقبوا في البلاد منحذر الموت وجالوا في الأرض كل مجال ولامريء القيس : وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالأياب وروي وقد طوفت وأخرج الطستي عن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال : هو هربوا بلغة اليمن وأنشد له الحرث المذكور نسبه لهدى بن زيد وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله ومنه قوله تعالى : وبعثنا منهماثني عشر نقيبا وأما قولهم : كلب نقيب فهو بمعنى منقوب أي نقبت غلصمته ليضعف صوته والفاء علىتفسير التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل : اشتد بطشهم فنقبوا وقيل : هي على ما تقدم أيضا للسببية والعطف على أهلكنا على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد هل من محيض
36
- على إضمار قول هو حال من واو نقبوا أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالىأو من الموت أو على جزاء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هوكلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي لهم مخلص من الله عز و جل أو من الموت وقيل : ضمير نقبوا لأهلمكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم
وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن سيار وأبيحيوة والأصمعي عن أبي عمرو فنقبوا على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير والأصل توافق القرائتين وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب وقرأ ابن عباس أيضا وعبيد عن أبيعمرو فنقبوا بفتح القاف مخففة والمعنى كما في المشددة وقريء بكسر القاف خفيفة منالنقب محركا وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير قالالراجز : أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم ونقب الأقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤل المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أو نقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضا وقد يستغنى عن التقدير بجعل الأسناد مجازيا إن في ذلك أي الأهلاك أو ما ذكر في السورة لذكرى لتذكرة وعظة لمن كان له قلب أي قلب واع يدرك الحقائق فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم وفيالكشف لمن كان الخ تمثيل أو ألقي السمع أي أصغى إلى ما يتلى عليه منالوحي وهو شهيد
37
- أي حاضر على أنه من الشهود بمعنى الحضور والمراد به المتفطن لأن غير المتفطن منزل منزلة الغائب فهو إما
(26/191)
استعارة أو مجاز مرسل والأول أولى وجوز أن يكون من الشهادة وصفا للمؤمن لأنه شاهد على صحة المنزل وكونه وحيا من الله تعالى فيبعثه على حسن الأصغاء أو وصفا له من قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس كأنه قيل : وهو من جملة الشهداء أي المؤمنين من هذه الأمة فهو كناية على الوجهين وجوز على الأول منهما أن لا يكون كناية على أن المراد وهو شاهد شهادة عن إيقان لا كشهادة أهل الكتاب
وعن قتادة المعنى لمن سمع القرآن من أهل الكتاب وهو شاهد على صدقه لما يجده في كتابه من نعته والأنسب بالمساق وإلا ملأ الأخذ من الشهود والوجه جعل وهو شهيد حالا من ضمير الملقى لا عطفا على ألقى كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد والمراد أن فيما فعل بسوالف الأمم أو في المذكور إماما من الآيات لذكرى لأحدى طائفتين من له قلب يقفه عن الله عز و جل ومن له سمع مصغ مع ذهن حاضر أي لمن له استعداد القبول عن الفقيه إن لم يكن فقيها في نفسه و أو لمنع الخلو من حيث أنه يجوز أن يكون الشخص فقيها ومستعدا للقبول من الفقيه وذكر بعضهم أنها لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع أو إلى فقيه متعلم أو إلى عالم كامل الأستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكلتيه وأزال الموانع بأسرها فتأمل
وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهسم أو القي مبنيا للمفعول السمع بالرفع على النيابة عن الفاعل والفاعل المحذوف إما المعبر عنه بالموصول أولا وعلى الثاني معناه لمن ألقى غيره السمع وفتح أذنه ولم يحضر ذهنه وأما هو فقد ألقى وهو شاهد متفطن محضر ذهنه فالوصف أعني الشهود معتمد الكلام وإنما أخرج في الآية بهذه العبارة للمبالغة في تفطنه وحضوره وعلى الأول معناه لمن ألقى سمعه وهو حاضر متفطن ثم قدر موصول آخر بعد أو فذو القلب والملقى غير أن شخصا ولو لم يقدر جاز أن يكونا شخصين وأن يكونا شخصا باعتبار حالين حال تفطنه بنفسه وحال إلقائه السمع عن حضور إلى متفطن بنفسه لأن من يتناول كل واحد واحد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات في ستة أيام تقدم الكلام فيها وما مسنا وما أصابنا بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر منلغوب
38
- تعب ما فالتنوين للتحقير وهذا كما قال قتادة وغيره رد علىجهلة اليهود زعموا أنه تعالى شأنه بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا
وعن الضحاك أن الآية نزلت لما قالوا ذلك ويحكى أنهم يزعمون أنه مذكور في التوراة وجملة وما مسنا الخ تحتمل أن تكون حالية وأن تكون استئنافية وقرأالسلمي وطلحة ويعقوب لغوب بفتح اللام بزنة القبول والولوع وهو مصدر غير مقيس بخلاف مضموم اللام فاصبر على ما يقولون أي ما يقول المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الأستبعاد والأنكار فإن من قدر على خلق العالم في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء قادر علىبعثهم والأنتقام منهم أو على ما يقول اليهود من مقالة الكفر والتشبيه
والكلام متعلق بقوله تعالى : ولقد خلقنا الخ على الوجهين وفي الكشف أنه على الأول متعلق بأول
(26/192)
السورة إلى هذا الموضع وأنه أنسب من تعلقه بلقد خلقنا الآية لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض إلى ههنا على ما لا يخفى على المسترشد
وأنت تعلم أن الأقرب تعلقه على الوجهين بما ذكرنا وسبح بحمد ربك أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الأخبار بوقوع البعث وعنوصفه عز و جل بما يوجب التشبيه أو نزهه عن كل نقص ومنه ما ذكر حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها
قبل طلوع الشمس وقبل الغروب
39
- هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة ومنالليل مفعول لفعل محذوف يفسره فسبحه باعتبار الأتحاد النوعي والعطف للتغاير الشخصي أي وسبحه بعض الليل فسبحه أو مفعول لقوله تعالى : سبحه على أن الفاء جزائية والتقدير مهما يكن من شيءفسبحه بعض الليل وقدم المفعول للأهتمام به وليكون كالعوض عن المحذوف ولتتوسط الفاء الجزائية كما هو حقها ولعل المراد بهذا البعض السحر فإن فضله مشهور وأدبار السجود
40
- وأعقاب الصلاة جمكع دبر بضم فسكون أو دبر بضمتين
وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة وشبل والحرميان ادبار بكسر الهمزة وهو مصدر تقول : أدبرت الصلاة أدبارا أنقضت وتمت والمعنى ووقت انقضاء السجود كقولهم : آتيك خفوق النجم وذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم وعليه فالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر قاله قتادة وابن زيد والجمهور وأخرجه الطبراني في الأوسط وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعا ومن الليل صلاة العتمة وأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات أخرجه ابن جرير عن ابن زيد وقال ابن عباس : الصلاة قبل الطلوع الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن اللل العشاءان وأدبار السجود النوافل بعد الفرائض وف رواية أخرى عنهالوتر بعد العشاء وفي أخرى عنه أيضا وعن عمر وعلي وابنه الحسن وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي ركعتان بعد المغرب وأخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا وقال مقاتل : ركعتان بعد العشاء يقرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد وقيل : من الليل صلاة العشاءين والتهجد وعن مجاهد صلاة الليل وفيه احتمال العموم لصلاة العشائين والخصوص بالتهجد وهو الأظهر واستمع أمر بالأستماع والظاهر أنه أريد به حقيقته والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من أهوال يوم القيامة وبين ذلك بقوله تعالى : يوم يناد المناد إلى آخره وسلك هذا لما في الأبهام ثم التفسير من التهويل والتعظيم لشأن المخبر به وانتصب يوم بما دل عليه ذلك يوم الخروج أي يومينادي المنادي يخرجون من القبور وقيل : المفعول محذوف تقديره نداء المنادي وقيل : تقديره نداء الكافرين بالويل والثبور و يوم ظرف لذلك المحذوف وقيل : لا يحتاج ذلك إلى مفعول والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا وقيل : معنى استمع انتظر والخطاب لكل
(26/193)
سامع وقيل : للرسول عليه الصلاة و السلام و يوم منتصب على أنه مفعول به لاستمع أي انتظر يوم ينادي المنادي فإن فيه تبين صحة ما قلته كما تقول لمن تعده بورود فتح : استمع كذا وكذا والمنادى على ما في بعض الآثار جبريل عليه السلام ينفخ إسرافيل في الصور وينادي جبريل يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والشعور المتقطعة إن الله يأمرك أن تجتمعي لفصل الحساب وأخرج ابن عساكر والواسطي في فضائل بيت المقدس عن يزيد بن جابر أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيقول : يا أيتها العظام النخرة إلى آخره فيكون المراد بالمنادى هو عليه السلام وفي الحواشي الشهابية الأول هو الأصح من مكان قريب
41
- هو صخرة بيت المقدس على ما روي عن يزيد بن جابر وكعب وابن عباس وبريدة وقتادة وهي على ما روي عن كعب أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا
وفي الكشاف أنها أقرب إليها بإثني عشر ميلا وهي وسط الأرض وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل إلا بوحي ثم إن كونها وسط الأرض مما تأباه القواعد في معرفة العروض والأطوار ومن هنا قيل : المراد قريب ممن يناديهم فقيل : ينادي من تحت أقدامهم وقيل : من منابت شعورهم فيسمع من كل شعرة يا أيتها العظام النخرة الخ ومن الناس من قال : المراد بقربه كون النداء منه لا يخفى على أحد بل يستوي في سماعه كل أحد والنداء في كل ذلك على حقيقته وجوز أن يكونفي الإعادة نظيركن في الأبتداء على المشهور فهو تمثيل لأحياء الموتى بمجرد الإرادة ولا نداء ولا صوت حقيقة ثم إن ما ذكرناه من أنالمنادي ملك وأنه ينادي بما سمعت هو المأثور وجوز أن يكون نداؤه بقوله للنفس : ارجعي إلى ربك لتدخلن مكانك من الجنة أو النار أو هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار وأن يكون المنادي هو الله تعالى ينادي احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أو ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مكع قوله تعالى : ادخلوها بسلام أو خذوه فغلوه أو أي شركائي أو غير ذلك وأن يكون غيره تعالى وغير الملك من المكلفين ينادي يا مالك ليقض علينا ربك أو أفيضوا علينا منالماء أو مما رزقكم الله أو غير ذلك والمعول عليه ما تقدم يوم يسمعون الصيحة وهي النفخة الثانية ويوم بدل من يوم ينادي الخ والعامل فيهما ما دل عليه ذلك يوم الخروج كما تقدم وجوز أن يكونظرفا لما دل عليه ذلك و يوم ينادي غير معمول له بل لغيره على ما مر وأن يكون ظرفا لينادي وقوله تعالى : بالحق في موضع الحال من الصيحة أي يسمونها ملتبسة بالحق الذي هو البعث وجوز أن يكون الحق بمعنى اليقين والكلام نظير صاح بيقين أي وجد منه الصياح بقينا لا كالصدى وغيره فكأنه قيل : الصيحة المحققة وجوزأن يكون الجار متعلقابيسمعون على أن المعنى يسمعون بيقين وأن يكون الباء للقسم و الحق هو الله تعالى أي يسمعونالصيحةأقسم بالله وهو كما ترى ذلك أي اليوم يوم الخروج
42
- من القبور وهو من أسماء يوم القيامة
وقيل : الأشارة إلى النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر أو الكلام على حذف مضاف أي ذلك النداء نداء الخروج أو وقت ذلك النداء يومالخروج أنا نحن نحيي ونميت في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد وإلينا المصير
43
- الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا
يوم تشقق الأرض عنهم بدل بعد بدل ويحتمل أن يكون ظرفا للمصير أي إلينا مصيرهم في ذلك اليوم
(26/194)
أولما دل عليه ذلك حشر أي يحشرون يوم تشقق وقرأ نافع وابن عامر تشق بشد الشين وقريء تشقق بضم التاء مضارع شققت على البناء للمفعول و تنشق مضارع انشقت وقرأزيد بن علي تتشقق بتاءين وقوله تعالى : سراعا مصدر وقع حالا من الضمير في عنهم بتأويل مسرعين والعامل تشقق وقيل : التقدير يخرجون سراعا فتكون حالا من الواو والعامل يخرج وحكاه أبو حيان عن الحوفي ثم قال : يجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يوم تشقق أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية : تمطر السماء عليهم حتى تنشق الأرضعنهم وجاء إن أول من تنشق عنه الأرض رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر وعمر ثم أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة وتلا ابن عمر يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر بعث وجمع علينا يسير
44
- أي هين وتقديم الجار والمجرور لتخصيصه اليسر به عز و جل فإنه سبحانهالعالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن نحن أعلم بما يقولون من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة وغير ذلك مما لا خير فيه وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه و سلم وتهديد لهم وما أنت عليهم بجبار أي ما أنتمسلط عليهم تقسرهم على الإيمان أوتفعل بهم ما تريد وأنما أنت منذر فالباء زائدة في الخبر و عليهم متعلق به
ويفهم من كلام بعض الأجلة جواز كون جبار من جبره على الأمر قهره عليه بمعنى أجبره لا منأجبرهإذ لم يجيء فعال بمعنى مفعل من أفعل إلا فيما قل كدراك وسراع وقالعلي بن عيسى : لم يسمع ذلك إلا في دراك
وقيل : جبار من جبر بمعنى أجبر لغة كنانة وإن عليهممتعلق بمحذوف وقع حال أي ما أنت جبار تجبرهمعلى الإيمان واليا عليهم وهو محتمل للتضمين وعدمه فلا تغفل وقيل : أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم وعليه قيل : الآية منسوخة وقيل : هي منسوخة على غيره أيضا بآية السيف فذكر بالقرآن منيخاف وعيد
45
- فإنه لا ينتفع به غيره وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وما أنسب هذا الأختتام بالأفتتاح بقوله سبحانه : ق والقرآن المجيد هذا وللشيخ الأكبر قدس سره في قوله تعالى : بل هم في لبس منخلق جديد ولغير واحد منالصوفية في قوله سبحانه : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد كلام أشرنا إليه فيما سبق ومنهم منيجعل ق إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات والله من ورائهم محيط وقيل : هو إشارة إلى مقامات القرب وقيل : غير ذلك وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
تم والحمد لله الجزء السادس والعشرون ويليه إن شاء الله الجزء السابع والعشرون وأوله سورة الذاريات 27
(26/195)
سورة الذاريات
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يحك في ذلك خلاف وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد ومناسبتها لسورة ق لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام علىأن ما وعدوا من ذلك لصادق وأن الجزاء لواقع وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل
بسم الله الرحمن الرحيم والذاريات ذروا
1
- أي الرياح التي تذروا التراب وغيره من ذرا المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه فالحاملات وقرا أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر
فالجرايات يسرا أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن فالمقسمات أمرا
4
- هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضعنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
أخرج البزاز والدارقطني في الأفراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضعنه فقال : أخبرني عن الذاريا ذروا قال : هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله ص - يقوله ما قلته قال : فأخبرني عن الحاملات وقرا قال : هي السحاب ولو لا أني سمعت رسول الله ص - يقوله ما قلته قال : فأخبرني عن الجاريات يسرا قال : هي السفن ولو لا أني سمعت رسول الله ص - يقوله ما قلته فأخبرني عن المقسمات أمرا قال : هي الملائكة ولو لا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأدعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضعنه ما أخا له إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس
ويدلهذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع
وفي رواية عن ابن عباس أن الحاملات هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم وقيل : هي الحوامل من جميع الحيوانات وقيل : الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز و جل وقيل : هي الكواكب
(27/2)
التي تجري في منازلها وكلها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه وقيل : هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة وقيل : الذاريات النساء الولود فإنهن يذرن الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا وقيل : الذاريات هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها وقيل : الحاملات الرياح الحاملة للسحاب وقيل : هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا وقيل : الجاريات الرياح تجري في مهابها وقيل : المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد وقيل : هي الكواكب السبعة السيارة 2وهو قول باطل لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد وفي صحيح البخاري عن قتادة خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى به فمن تأول فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم وزاد رزين وما لا يعلم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة وعن الربيع مثله وزاد والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم ذكره صاحب جامع الأصول وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها كما تذر وما نتذروه تثير السحاب وتحمله وتجري في الجو جريا سهلا وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار والمعول عليه ما روي عن عمر رضعنه سامعا له من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر وإليه كما عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين وقول الأمام بعد نقله له عن الأمير : الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع علىالرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له وجهل منه بما رواه المسيب من الخبر الدال علىأن ذلك تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأين منه الأمام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
وقول صاحب الكشف : إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكورا ورتبة باعتبار تفوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز و جل وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كلمنا من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح وقيل : الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منها وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره وقيل : إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر
ونصب ذروا على أنه مفعول مطلق ووقرا على أنه مفعول به وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا و يسرا على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه و أمرا على أنه مفعول به وهو واحد الأمور وقد أريد به الجمع لم يعبر به لأن الفرد أنسب برءوس الآي مع ظهور الأمر وقيل على أنه حال أي مأمورة والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة وقرأ أبو عمرو وحمزة والذاريات ذروا بإدغام التاء في الذال وقريء وقرا بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله كما أفاده كلام الزمخشري وناهيك
(27/3)
به إماما في اللغة وعلى هذا هو منصوب علىأنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو علىأنه مفعول مطلق لحاملات من معناها كأنه قيل : فالحاملات حملا وقوله تعالى شأنه : إنما توعدون لصادق
5
- وإن الدين لواقع
6
- جواب للقسم و ما موصولة والعائد محذوف أيإن الذي توعدونه أوتوعدون به ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد وأن يكون مضارع أو عد ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ولأن المقصود التخويف والتهويل وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقه تحقق وقوعه وفي الكشاف وعد صاقد كعيشة راضية و الدين الجزاء ووقوعه حصوله والأكثرون على أن الموعود هو البعث وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها منحيث أنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود والسماء ذات الحبك
7
- أي الطرق جمع حبيكة كطريقة أو حباك كمثال ومثل ويقال : حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح وعليه قول زهير يصف غديرا : مكلل بأصول النجم تنسبه ريح خرق لضاحي مائه حبك وحبك الشعر لآثاره تثنيه وتكسره وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على حدة الصانع وقدرته وعمله وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع : ذات الخلق المستوي الجيد وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان وقيل : ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم : حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها وفرس محبوك المعاقم وهي المفاصل أي محكمها وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر وعن الحسن حبكها نجومها والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشي حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل : ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته أو متقنة البنيان أو صفيقة أو ذات طرق معقولة ظاهر وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير لسائر السماوات فممراتها باعتبار المسامتة طرق وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناءاعلى أن السماوات شفاقة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : هي السماء السابعة وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ملك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال
(27/4)
ونعيم عن أبي عمرو الحبك بإسكان الباء زنة القفل وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة وبرق وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء كالأبل وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا وأبو مالك والحسن ابو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء كالسلك وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع قاله في البحر وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما كالجبل قال أبو الفضل الرازي فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرهما ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال : هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الأنتقال من خفة إلى ثقل عل عكس ضرب مبنيا للمفعول وقال صاحب اللوامح : هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى
وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة وقال أبو حيان : الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحاء لحركة تاء ذات في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين
إنكم لفي قول مختلف
8
- أي متخالف متناقض في أمر الله عز و جل حيث تقولون : إنهجل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادةالأصنام معه سبحانه وفي أمر الرسول ص - فتقولون : تارة إنه مجنون وأخرى إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا وفي أمر الحشر فتقولون : تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالأيمان به واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيآتها أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة أو ليست قوية محكمة أو ليس فيها ما يوينها بل فيها ما يشينها من التناقض يؤفك عنهمن أفك
9
- أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الإيمان به لدلالة الكلام السابق عليه وقال الحسن وقتادة : عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقال غير واحد : عن القرآن والكلام السابق مشعر بكل من صرف الذي لا أشد منه وأعظم ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيبل : يصرف عنه المروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الأطلاق في المقام الخطابيله مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي في الموصول وهو قريب من قوله تعالى : فغشيهم من اليم ما غشيهم وفيل : المراد يصرف عنه في الوجود الخارجي من صرف عنه في علم الله تعالى وقضائه سبحانه وتعقب بأنه ليس في تذكيره فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس في المبالغة السابقة وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عز و جل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهومبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين أقسم سبحانه بالذاريات علىأن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك
(27/5)
ومنهم جاحد ثم قال جلا وعلا : يؤفك على الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلائم الكلام وقيل : يجوز أن يكون الضمير لقول مختلف وعن للتعليل كما في قوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وقوله : ينهون عن أكل وعن شرب مثل المها يرتعن فيخصب أي يصرف بسبب ذلك القول المختلفمن أراد الأسلام قال الزمخشري : حقيقته يصدر إفكهم عن القول المختلف وهذا محتمل لبقاء عن على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال : المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق الله تعالى للسلام من غلبت سعادته وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الأستعمالأ في الأفك الصرف منخير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر واستظهر العموم فيما سبق أيضا والقول المختلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة و السلام وقول الكفار بنقيض ذلك وقرأ ابن جبير وقتادة من أفك مبنيا للفاعل من أفك الناس عنه وهم قريش وقرأ زيدبن علي يأفك عنه من أفك أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب وقريء يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما أييحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا قتل الخراصون
10
- أي الكذابون من أصحاب القول المختلف وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوزبه عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأله وقال الراغب : حقيقةذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له : خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه الظنوالتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه وكل من قال قولا على هذاالنحو قد يسمى كاذباوإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى : إذاجاءك المنافقون الآية انتهى
وفيه بحث وحقيقة القتل معروفة والمراد بقتل الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيق
وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري : وإنما كان القتل بمعنى اللعنهنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك وقريء قتل الخراصين أي قتل الله الخراصين الذين هم في غمرة في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه ساهون
11
- غافلون عما أمروا به فالمراد بالسهو مطلق الغفلة
يسئلون أي بطريق الأستعجال استهزاءا أيان يوم الدين
12
- معمول ليسألون علىأنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول أو لقول مقدر أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء وقدرالوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في أيان ولا ضمير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى : فارتقب يوم تأتيالسماء صار ملحقا بالزمانيات وكذلك كل يومله أن مثل يوم العيد والنيروز وهذا
(27/6)
جار في عرفي العرب والعجم علىأنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان علىما فضل في مكانه وقريء أيان بكسر الهمزة وهي لغة يوم هم على النار يفتنون
13
- أي يحرقون وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحوذلك و يوم نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الأسمية بعده أي يقع يوم الدين يوم هم على النار الخ وقال الزجاج : ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع أو كائن يوم الخ وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير وهي الجملة الأسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل أي هو يوم هم الخ والضمير قيل : راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو سيقولون لله في جواب من رب السماوات والأرض لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع وجوابه الأصلي في يوم كذا وإذاقلت : وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى فالتقدير يوم الجزاء يوم تعذيب الكفار ويؤيد كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني يوم هم بالرفع وزعم بعض النحاة أن يوم بدل من يوم الدين وفتحته على قراءة الجمهور بناء و يوم ما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاءا وحكى على المعنى ولو حكي على اللفظ لقيل : يوم نحن على النار نفتن وهو في غاية البعد كما لا يخفى وقوله تعالى : ذوقوا فتنتكم بتقدير قول وقع حالا من ضمير يفتنون أي مقولا لهم ذوقوا فتنتكم أي عذابكم المعد لكم وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب كالكفر فتنة وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل : ذوقوا كفركم أي جزاء كفركم أو يجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى هذا الذي كنتم به تستعجلون
14
- جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الإستهزاء وجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم بتأويل العذاب وفيه بعد إن المتقين في جنات وعيون
15
- لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخذين ماآتاهم ربهم أي قابلين لكل ما أعطاهم عز و جل راضين به على معنىإن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منه تعالى عليهم واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد ونصب آخذين على الحال من الضمير في الظرف إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا محسنين
16
- أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون
17
- الخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى : كانوا قبل ذلك محسنين حصل بها تفسيره أو أنها جملةلا محل لها من الأعراب مفسره كسائر الجمل التفسيرية وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : آخذين ما آتاهم ربهم من الفرائض إنهم كانوا قبل ذلك محسنين أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون ولا أظن صحة نسبته لذلك الحبر ولا يكاد تجعل جملة كانوا الخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها وسيأتي إن شاء الله تعالى
و الهجوع النوم وقيده الراغب بقوله : ليلا وغيره بالقليل و ما إما مزيدة فقليلا
(27/7)
معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي هجوعا قليلا و من الليل صفة أو لغو متعلق بيهجعون و من للأبتداء وجملة يهجون خبر كان أو قليلا صفة لظرف محذوف أي زمانا قليلا و من الليل صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل قليلا وهو خبر كان و من الليل حال من الموصول مقدم كأنه قيل : كانوا قد قل المقدارالذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار من الليل وإما مصدرية فالمصدر فاعل قليلا وهو خبر كان أيضا و من الليل بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم أو حال من المصدر و من للأبتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف وذهب بعضهم إلى أن من على زيادة ما بمعنى في كما في قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمهة واعتراض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في من الليل كونه صفة أو بيانا للقليل لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكىالطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره يهجعون وجوز أن يكون ما يهجعون على ذلك الأحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل : كان هجوعهم قليلا وهو بعيد وجوز في ما أن تكون نافية و قليلا منصوب بيهجعون والمعنى كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحبونه كله ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد ورده الزمخشري بأن ما النافية لا يعملما بعدها فيما قبلها لأن لها صدرالكلام وليس فيهاالتصرف الذيفي أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو عوتب بلا جرم ولم ولن لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين وفي شرح الهادي أن بعض النحاةأجازه مطلقا وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه واستدل عليه بقوله :
ونحن عن فضلك ما استغنينا
نعميرد على ذلكأن فيه كما في الأنتصاف خللا من حيث المعنىفإن طلب قيام الليل غيرمستثنى منه جزع للهجوع وإن قلغير ثابتفي الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعيأن من ذهب إلى ذلك يقول : بأنه كان ثابتا في الشرع فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية : كان ذلك إذا أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة فاقرءوا ما تيسر منه وقال الضحاك : كانوا قليلا في عددهم وتم الكلام عند قليلا ثم ابتدأ من الليل ما يهجعون على أن ما نافية وفيهما تقدم مع زيادة تفكيك للكلام ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب قليلا على الظرفية و من الليل صفةقيل : وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناءا على أنه القليل من النوم وقوله تعالى : قليلا و من الليل لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها
والغرض من الآيةأنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا قال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون نمنه إلا قليلا وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا وفسر أنس بن مالك الآية كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم فقال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الأقتصارعلى ذلك وبالأسحار هم يستغفرون
18
- أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الأستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالأستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه
وفي الآيةمن الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى وحملا لاستغفار على حقيقته المشهودة هو الظاهر وبه قال الحسن
(27/8)
أخرج عنه ابن جرير وغيره أنه قال : صلوا فلما كان السحر استغفروا وقيل : المراد طلبهم المغفرة بالصلاة وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : يستغفرون يصلون وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا ولا أراه يصح وأخرج أيضا عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن آخرالليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله تعالى يقول : وبالأسحارهم يستغفرون وهو يحتمل لذلك التفسير والظاهر وفي أموالهم حق أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله عز و جل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما
للسائل الطالب منهم والمحروم
19
- وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس
أخرج ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل : فمن المسكين قال الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس وقيل : هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان وقال زيد بن أسلم : هو الذي اجتيحت ثمرته وقيل : من ماتت ماشيته وقيل : من ليس له سهم في الأسلام وقيل : الذي لا ينمو له مال وقيل : غير ذلك قال في البحر : وكذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه وأنا بقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقول وقال منذر بن سعيد هذا هو الحق هو الزكاة المفروضة وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة وقيل : أصل فريضة الزكاة بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم والجمهور على الأول
وفي الأرض آيات دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقة والجمع على ظاهره وعلى الثاني نفس الأرض والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها والظرفية من ظرف الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته عز و جل للموقنين
20
- للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة وقرأ قتادة آية بالأفراد وفي أنفسكم أي في ذواتكم آيات إذ ليسفي العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهمة والتركيبات العجمية والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى وقيل : أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع ورواه عطاء عن ابن عباس وقيل : سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر أفلا تبصرون
21
- أي ألا تنظرون فلاتبصرون بعين البصيرة وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية وقيل : في الأخير وفي السماء رزقكم أي تقديره وتعيينه أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع
(27/9)
والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مباديء الرزق إلى غير ذلك فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجوب المسبب وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهي سماء لغة والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن أرزاقكم على الجمع
وما توعدون
22
- عطف على رزقكم أي الذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك ما توعدون الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف وقال بعضهم : هو الجنة وهي على ظهر السماء تحت العرش وقيل : أمر الساعة وقيل : الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها وقيل : إنه مستأنف خبره
فورب السماء والأرض إنه لحق علىأن ضمير إنه لما وعلى ما تقدم فإما له أو للرزق أو لله تعالى أو للنبي ص - أو للقرآن أو للذين في إن الدين لواقع أو لليوم المذكور في أيان يوم الدين أو لجميع المذكور أماما أقوال واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جريج أي أن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق مثل ما أنكم تنطقون أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا شكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس : إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع ونصب مثل على الحالية من المستكن في لحق وهو لا يتعرف بالأضافة لتوغله في التنكير أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم وقيل : إنه مبني على الفتح فقال المازني : لتركبه مع ما حتى صارا شيئا واحدا نحو ويحما وأنشدوا لبناء الأسم معها قول الشاعر : أثور ما أصيدكم أم ثورين أمهذه الجماء ذات القرنين وقال غيره : لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت موصوفة بمعنى شيء أو موصولة بمعنى الذي و أنكم الخ خبر مبتدأ محذوف أي هو أنكم الخ والجملة صفة أو صلة أو هو أن بما في حيزها إن جعلت ما زائدة وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة لحق أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم مثل بالرفع وفي البحر أن الكوفيين يجعلون مثلا ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيز ونزيد مثلك بالنصب وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قاتل الله قوماأقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي علي قعود فقال : ممن الرجل قلت من بني أصمع قال : من أين أقبلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال : اتل علي فتلوت والذاريات فلما بلغت وفي السماء رزقكم قال : حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرها وولي فلما حججت مع الرشيد طفقت أكوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذاالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال : وهل غير هذا فقرأت فورب السماء والأرض لحق فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتىحلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين قالها
(27/10)
ثلاثا وخرجت معها نفسه
هل أتك حديث ضيف إبراهيم فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد وفي الكشف فيه رمز إلى أنه لما فرغمن إثبات الجزاء لفظا للقسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مدمجا فيه صدق المبلغ وقضىالوطر من تفصيله مهد لأثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالأتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه : هل أتاك الخ وضمن فيه تسليته عليه الصلاة و السلام بتكذيب قومه فله بسائر آياته وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى : وفي موسى عطفا على قوله سبحانه : وفي الأرض آيات وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجي بالأصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم والترجيح مع الأول انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بقوله سبحانه : وفي موسى الضيف في الأصل مصدر بمعنىالميل لذلك يطلق على الواحد والمتعدد قيل : كانوا اثني عشر ملكا وقيل ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفا لأنهم في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية المكرمين
24
- أي عند الله عز و جل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام : بل عباد مكرمون أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار وقرأ عكرمة المكرمين بالتشديد إذ دخلوا عليه ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل أو للضيف أو لمكرمين إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد أو منصوب بإضمار اذكر فقالوا سلاما أي نسلم عليك سلاما وأوجب في البحر حذف الفعل لأن المصدر ساد مسده فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها وقال ابن عطية : يتجه في سلاما قالوا : على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا : تحية وقولا معناه سلام ونسب إلى مجاهد وليس بذاك
قال سلام أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالأبتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن منتحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام وقيل : سلام خبر مبتدأ محذوف أي أمري سلام وقرئا مرفوعين وقريء سلاما قال سلما بكسر السين وإسكان اللام والنصب والسلم السلام وقرأ ابن وثاب والنخعي وابن جبير وطلحة سلاما قال سلم بالكسر والإسكان والرفع وجعله في البحر على معنى نحن أو أنت مسلم قوم منكرون
25
- أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الأسلام أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس و قوم خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته : أنا لا أعرف تريد عرف لي نفسك وصفها وذهب بعض المحققين إلى أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله في نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله
(27/11)
عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة
فراغ إلى أهله أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه نقل أبو عبيدة أنه لا يقال : راغ إلا إذا ذهب على خفية وقال : يقالأ روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى قال ابن المنير : وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى وقال الراغب : الروغ الميل على سبيل الأحتيال ومنه راغ الثعلب وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالأحتيال ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا وتشعر الفاء عليه السلام بادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرامن أن يمنعه الضيف أو يصير منتظرا فجاء بجعل هو ولد القرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا سمين
26
- ممتليء الجسد بالشحم واللحم يقال : سمن كسع سمانة بالفتح وسمنا كعنب فهو سامن وسمين وكحسن السمين خلقه كذا في القاموس وفي البحر يقال : سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر واسم الفاعل والقياس سمن وسم وقالوا : سامن إذا حدث له السمن انتهى والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذفت ثقة بدلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة المجيء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذة فجاء به وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذاورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هيء من الطعام قبل وروده وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منها لأكرمهم به
فقر إليهم بأ وضعه لديهم وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه قال ألا تأكلون
27
- قيل : عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف وقيل : إنكار لعدم تعرضهم للأكل وفي بعض الآثار أنهم قالوا : إنها لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام : إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا : وما هو قال : أن تسموا الله تعالى عند الأبتداء وتحمدوه عز و جل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله تعالى خليلا فأوجس منهم خيفة فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة و السلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشرير يدونه فإن أكل الضيف أمنة ودليل على أن بساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والأمتناع منه وحشة موجبة لظن الشر وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف قالوا لا تخف إنا رسل الله تعالى عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم وعلى ما روي عن الحبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام وقيل : مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما بإطلاع الله تعالى إياهم عليه أو إطلاع ملائكته الكلام الكاتبين عليه وإخبارهم به أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن وبشروه وفي سورة الصافات وبشرناه أي بواسطتهم بغلام
(27/12)
هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهوالحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود والقصة واحدة وقال مجاهد : إسماعيل ابن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح عليم
28
- عند بلوغه واستوائه وفيه تبشير بحياته كانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي يختص بها الأنسان الكامل لاالصورة الجميلة والقوة ونحوهما وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازيها فضيلة وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجبالسرور وعن الحسن عليم نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنه ملائكة من حيث بشروه بغيب
فأقبلت امرأته سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الأدبار عن الملائكة وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة ههنا تصححها وقيل : أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني فيصرة في صيحة من الصرير قاله ابن عباس وقال قتادة وعكرمة : صرتها رنتها وقيل : قولها أوه وقيل : يا ويلتي وقيل : في شدة وقيل : الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء وإلى هذا ذهب ابن بحر قال : أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظراإلى الملائكة عليهم السلام والجار والمجرور في موضع الحال أو المفعول به إن فسر أقبلت بأخذت قيل : إن في عليه زائدة كما في قوله :
يخرج في عراقيبها نصلي
والتقدير أخذت صيحة وقيل : بل الجاروالمجرور موضع الخبرلأن ألفعل حينئذ من أفعال المقاربة فضحكت وجهها قال مجاهد : ضربت بيدها على جبهتها وقالت : يا ويلتاه وقيل : إنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياة وقيل : إنها لطمته تعجيبا وهو فعل النساء إذا تعجبين من شيء وقالت عجوز أي أنا عجوز عقيم
29
- عاقر فكيف ألد وعقيم فعيل قيل : بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس قالوا كذلك أي مثل ذلك القول الكريم اليذ أخبرنا به قال ربك وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز و جل لاأنا نقوله من تلقاء أنفسنا وروي أن جبريل عليه السلام قال لها : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة إنه هو الحكيم العليم
30
- فيكون قوله عز و جل وفعله سبحانه وتقنا لا محالة وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر وإنما لم يذكر ههنا اكتفاءا بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك اكتفاءا بما ذكر ههنا وفي سورة هود
قال أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر فما خطبكم أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أيها المرسلون
31
- قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين
32
- يعنون قوم لوط عليه السلام لنرسل عليهم أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة
(27/13)
حجارة من طين
33
- أي طين متحجر وهو السجيل وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردافإن بعض الناس يسمي البرد حجارة مسومة معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها وقيل : أعلمت بأنها من حجارة العذاب وقيل : بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا وقيل : مسومة مرسلة من أسمت الأبل في المرعى ومنه قوله تعالى : ومنه شجر فيه تسيمون عند ربك أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عز و جل والمراد إنها معلمة في أول خلقها وقيل : المعنى إنها في علم الله تعالى معدة للمسرفين
34
- المجاوزين الحدفي الفجور و أل عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين ووضع الظاهر موضع الضمير ذما لهم بالأسراف بعد ذمهم بالأجرام وإشارة إلى علة الحكم وقوله تعالى : فأخرجنا إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليهم السلام من الكلام والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل : فقاموا منه وجاءوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فأسر بأهلك الخ من كان فيها أي فيقرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها
من المؤمنين
35
- ممن آمن بلوط عليه السلام فما وجدنا فيها غير بيت أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى : من المسلمين
36
- فالكلام بتقدير مضاف وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازا والمراد ذبهم كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد لوط وابنتاه وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير أنه قال : كانوا ثلاثة عشر واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للأستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الأتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا فالأستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الأخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى : من كان أولا و غير بيت ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ من كان وأين كان إلى غير ذلك ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم علىما قاله الراغب وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال : ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا من كان فيها من المؤمنين فما وجد ملائكتنا فيها غير بيت من المسلمين أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل
وتركنا فيها أي في القرى آية علامة دالة على ما أصابهم من العذاب قال ابن جريج : هي أحجار كثيرة منضودة وقيل : تلك الأحجار التي أهلكوا بها وقيل : ماء منتن قال الشهاب : كأنه بحيرة طبرية وجوز أبو حيان كون ضمير فيها عائدا على الأهلاكة التي أهلكوها فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة والظاهر هو الأول للذين يخافون العذاب الأليم
37
- أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها
(27/14)
ولا يعدونها آية وفي موسى عطف على وتركنا فيها بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى والجملة معطوفة على الجملة أو هو عطف على فيها بتغليب معنى عامل الآية أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو
علفتها تبنا وماءا باردا لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه وفي موسى فقول أبي حيان لا حاجة إلى إضمار تركنا لأنه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الأول فيه بحث وقيل : في موسى خبر لمبتدأ محذوف أي وفي موسى آية وجوز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى : وفي الأرض وما بينهما اعتراض لتسليته عليه الصلاة و السلام على ما مر وتعقبه في البحر بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله إذ أرسلناه قيل : بدل من موسى وقيل : هو منصوب بآية وقيل : بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا وقيل : بتركنا
إلى فرعون بسلطان مبين
38
- هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر فتولى بركنه فأعرض عن الأيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه والتولي به كناية عن الإعراض والباء للتعدية لأن معناه ثني عطفه أو للملابسة وقال قتادة : تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه وقيل : تولى بقوته وسلطانه والركن يستعار للقوة كما قال الراغب وقريء بركنه بضم الكاف إتباعا للراء وقال ساحر أي هو ساحر أو مجنون
39
- كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا أو بغير اختياره فيكون جنونا وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله فأو للشك وقيل : للإبهام وقال أبو عبيدة : هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال : إن هذا لساحر عليم وقال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وأنت تعلم أن اللعين يتلون تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواو فأخذناه وجنوده فنبذناهم طرحناهم غير معتدين بهم في اليم في البحر والمراد فأغرقناهم فيه وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى وهومليم
4
- أيآتبما يلام عليه من الكفر والطغيان فالأفعال هنا للأتيان بما يقتضي معنى ثلاثية كأغراب إذا أتى أمرا غريبا وقيل : الصيغة : للنسب أو الأسناد للسبب وهو كما ترى وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام وفي عاد إذ أرسلنا على طرز ما تقدم عليهم الريح العقيم
41
- الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة فعيل بمعنى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة وقال بعضهم وهو حسن سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم
(27/15)
حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم وفعيل قيل : بمعنى فاعل أو مفعول وهذه الريح كانت الدبور لما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا والمعول عليه ما ذكرنا أولا ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح ما تذر من شيء ما تدع شيئا أتت عليه جرت عليه إلا جعلته كالرميم
42
- الشيء البالي من عظم أو نبات أو غير ذلك من رم الشيء بلى ويقال للبالي : رمام كغراب وأرم أيضا لكن قال الراغب : يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي والرمة بالضم الحبل البالي وفسره السدي هنا بالتراب وقتادة بالهشيم وقطرب بالرماد وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب والجملة بعد إلا حالية والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو غير ذلك وروي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل منعاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين
43
- أخرج البيهقي في سننه عن قتادة أنه ثلاثة أيام وإليه ذهب الفراء وجماعة قال : تفسيره قوله تعالى : تمتعوا في داركم ثلاثةأيام واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى : فعقروها فقال تمتعوا الخ وقوله تعالى : فعتوأ عن أمر ربهم يدلعلى أن العتو مؤخر وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل : وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية أخذ في بيان كونه آية فقيل فعتوا عن أمر ربهم أي فاستكبروا عن الأمتثال به إلىالآخر فالفاء للتفصيل قال في الكشف وهو الظاهر من هذا المساق وكذلك قوله تعالى : فتولى بركنه مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان وإن كان هناك لا مانع من الترتيب على الإرسال وذلك لأنه جيء بالظرف مجيء الفضلة حيث جعل فيه الآية والقصة من توليهم إلا هلاكهم انتهى وقال الحسن هذا أي القوا لهم تمتعوا حتى حين كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالأيمان بما جاءبه والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ثم عتوا بعد ذلك قال في البحر ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال : قال بعض المفسرين المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب انتهى وما تقدم أبعد مغزى فأخذتهم الصاعقة أي أهلكتهم روي أن صالحا عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام وقال لهم تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء وقيل صيحة منها فهلكوا وقرأ عمر وعثمان رضعنهما والكسائي الصعقة
(27/16)
وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا أو الصيحة وهم ينظرون
44
- إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها وقال مجاهد : ينظرون بمعنى ينتظرون أيهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب فما استطاعوا من قيام كقوله تعالى : فأصبحوا في دارهم جاثمين وقيل : هو من قولهم : ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه وروي ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي أو كناية شاعت التحقت بالحقية وما كانوا منتصرين
45
- بغيرهم كما لو يتمنعوا بأنفيهم وقوم نوح أي وأهلكنا يوم فإن ما قبله يدل عليه أو واذكر وقيل : عطف على الضمير في فأخذتهم وقيل : في فنبذناهم لأن معنى كل فأهلكناهم وهو كما ترى وجوز أن يكون عطفا على محل وفي عاد أو في ثمود وأيد بقراءة عبد الله وأبي عمرو وحمزة والكسائي وقوم بالجر وقرأ عبد الوارث ومحبوب والأصمعي عن أبي عمرو وأبو السمال وابن مقسم وقو بالرفع والظاهر أنه على الأبتداء والخبر محذوف أي أهلكناهم من قبل أي من قبل هؤلاء المهلكين إنهم كانوا قوما فاسقين
46
- خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي والسماء أي وبنينا السماء بنيناها بأييد أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومثله الآد وليس جمع يد وجوزه الإمام وإن صحت التورية به وإنا لموسعون
47
- أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز و جل كل شيء فضلا عن السماء وفيه من إلى التعريض الذيفي قوله تعالى : وما مسنا من لغوب وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق الأمتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد إلى ما تقدم من قوله سبحانه : وفي السماء رزقكم على بعض الأقوالأ فناسب أن يتمم بقوله تعالى : وإنا لموسعون مبالغة في المنولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه واليد بمعنى النعمة لا الإنعام وقيل : أي لموسعوها بحيث أن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها محلقة في فلاة وقيل : أي لجاعلون بينها وبين الأرض سعة والمراد السعة المكانية وفيه على القولين تتميم أيضا والأرض أي وفرشنا الأرض فرشناها أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر فنعم الماهدون
48
- أي نحن وقرأ أبو السمال ومجاهد وابن مقسم برفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما ومن كل شيء أي من كل جنس من الحيوان خلقنا زوجين نوعين ذكرا وأنثى قاله ابن زيد وغيره وقال مجاهد : هذا إشارة إلى المتضادان المتقابلان كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض إلى غير ذلك ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة وقيل : أريد بالجنس
(27/17)
المنطقي وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلاالمادي والمجرد ومن المادي النامي والجامد ومن النامي المدرك والنبات ومن المدرك الصامت والناطق وهوكما ترى لعلكم تذكرون
49
- أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتهرفوا أنه عز و جل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعلموا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه وقيل : خلقنا ذلك كي تتذكروا أن التعدد خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والأنقسام وقيل المراد : التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه وقرأأبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال ففروا إلى الله تفريع على قوله سبحانه : لعلكم تذكرون وهو تمثيل للأعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز و جل والمعنى قل يا محمد : ففروا إلى الله لمكان إني لكم منه أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده نذير مبين
50
- بين كونه منذرا من الله سبحانه بالمعجزات أو مبين ما يجب أن يحذر عنه
ولا تجعلوا مع الله إلها آخر عطف على الأمر وهو نهي عن الإشراك صريحا على نحو وحدوه ولا تشركوا ومن الأذكار المأثورة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكرر قوله تعالى : إني لكم منه نذير مبين
51
- لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة وقيل : إن المراد بقوله تعالى : ففروا إلى الله الأمر بالأيمان وملازمة الطاعة وذكر ولا تجعلوا الخ إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه و إني لكم الخ الأول مرتب على ترك الأيمان والطاعة والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر وقال الزمخشري : في الآية : فروا إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولاتشركوا به وكرر إني لكم الح عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الأيمان وأنه لا يفوز عدن الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم علىأنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع وأهلالسنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالىالعبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى : فمنكان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وقوله سبحانه : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله
كذلك أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول ص - بعد أن تقدمت عموماأو خصوصا في قوله تعالى إنكم لفي قول مختلف وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه : الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك
(27/18)
خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز و جل : ما أتى الذين من قبلهم إلا آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال : الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة و السلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجو نصبه بأتى على أنه صفة لمصدره والإشارة إلى الإتيان أي ما أتي الذين من قبلهم من رسول إتيانا مثل إتيانهم إلا قالوا الخ لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور ولا يأتي مقدراعلى شريطة التفسير لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة وجعله معمولا لقالوا والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحر أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان ما وضمير قبلهم لقريش أي ما أتي الذين من قبل قريش من رسول أي رسول من رسل الله تعالى إلا قالوا في حقه ساحر أو مجنون
52
- خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر و أوقيل : من الحكاية أي إلا قالوا ساحر أو قالوا مجنون وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكو مقول كل مجموع ساحر أو مجنون وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض : ساحر وقال بعض مجنون وقال بعض : ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت أو على التفصيل انتهى فلا تغفل
واستشكلت الآية بأنها تدل علىأنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا لآدم عليه السلام أرسل ولم يكذب وأجاب الإمام بقوله : لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب الأخبار وكذا الآيات دالة علىأن المقررين رسل وأيضا يبقى الأستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الأستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل علىأن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل ولا يدخل في عموم ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتى به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع منقبله كما لا يخفى وعن الأستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد ما أتي الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا الخ وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن حين أرسل إلا زوجته حواء ولعله أولى مما قيل : إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك واستشكلت أيضا بأن إلا قالوا يدل علىأنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع إرادة الكثير بلا لأكثر وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية وأخذ منه بعضهم الجواب عن الأستشكال السابق فقال : الحكم باعتبار الغالب لاأن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقرر ونحيث لم يكذبوا وفيه ما فيه وحمل بعضهم الذين منقبلهم على الكفار ودفع به الأستشكالين وفيه ما لا يخفى فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعن النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك أتواصوا به تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا وقيل : إنكار للتواصي أي ما تواصوا به
(27/19)
بل هم قوم طاغون
53
- إضراب عن أن التواصي جامعهم إلىأن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه
فتول عنهم فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباءا وعنادا فمآ أنت بملوم
54
- على التولي بعد ما بذلت المجهود وجاوزت في الأبلوغ كل حد معهود
وذكر آدم على فعل التذكير والموعظة ولا تدع ذلك فالأمر بالتذكير للدوام عليه والفعل منزل منزلة اللازم وجوز أن يكون المفعول محذوفا أي فذكرهم وحذف لظهور الأمر
فإن الذكرى تنفع المؤمنين
55
- أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيذهم بصيرةوقوة في اليقين وفي البحر يدل ظاهر الآية علىالموادعة وهي منسوخة بآية السيف وأخرج أبو داود في ناسخة وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى : فتول عنهم الخ قالأ أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا ص - قال سبحانه : وذكر الخ فنسختها
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي ص - أن يتولى عنا فنزلت وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين فطابت أنفسنا وعن قتادةأنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى وذكر الخ
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
56
- استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليه فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليه التذكر والأتعاظ ولعل تقديم الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنسان في الوجود والظاهر أن المراد م يقابلون بهم والملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل : لأن الأمر فيهم مسلم أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد نمرمون لا يستكبرون عن عبادته عز و جل وقيل : لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة و السلام إلى تذكيرهم وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة الأولة ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة وقيل : المراد بالجن ما يتناولهم لأنه من الأستتار وهم مستترون عن الأنس وقيل : لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم المر المقابل لعالم الخلق وقد أشير إليهما بقوله تعالى : له الخلق والأمر ورد بقوله سبحانه : خالق كل شيء وله الخلق والأمر ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل والظاهر أن المراد بها ما كانت بالأختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى : والنجم والشجر يسجدان وأل في الجن والأنس على المشهور للأستغراق واللام قيل : للغاية والعبادة وإن لمتكن غاية مطلوبةمن الخلق لقيام الدليل على أنه عز و جل لم يخلق الجن والأنس لأجلها أي لأرادتها منهم إذ لو أرادوها سبحانه منهم لم يختلف ذلك لأستلزم
(27/20)
الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف محقق بالمشاهدة وأيضا ظاهر قوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس يدل على إرادةالمعاصي من الكثير ليستحقوا بهم جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الأستعداد جعل خلقهم مغنيا بها مبالغة بتشديد المعد الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف ألا تراهم يقولون للقوي جسمه للمصارعة وللبقر : هي مخلوقة للحرث
وفي الأكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك وأمأ الإرادة فليست مقتضى اللام إلا إذاعلم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلىهذا لا يحتاج إلى تأويل فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليه وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم وتعوق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية وهذا معنى مكشوف انتهى فتأمل وقيل : المراد بالعبادةالتذلل والخضوع بالتسخير وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن وكافر وبر وفاجر ونحو ما قيل : المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذولوا لقضائي وقيل : المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي ويراد بالعبد العبد بالإيجاب وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى : إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لكن قيل عليه : إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء وقيل : العبادة بمعنى التوحيد بناءا على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا كنا مشركين وعليه قول من قال : لا يدخل النار كافر أو المراد كما قال الكلبي : إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدةوالبلاء دون النعمة والرخاء كما قال عز و جل : فإذا ركبوا في الأفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله فذكر العبادةالمسببة شرعاعن الأمر أو اللازمة له وأريد سببها أو ملزومها مجاز وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذاكان غير المكلفين كالأطفال الذين يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم وقال مجاهد : إن معنى ليعبدون ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد ولعل السرفيه التنبيه أن المعتبر هب المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل : وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز و جل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى وقد جاء كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز و جل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في منتهى المدارك وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثامنية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النبي ص - ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف وكذا قال الزركشي والحافظ ابن حجر وغيرهما : ومن
(27/21)
يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول : إنه ثابت كشفا وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور والتصحيح الكشفي شنشنة لهم ومعذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى وقيل : أل في الجن والإنس للعهد والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى : ولقد ذرأنا الآية أي بناءا على أن اللازم فيها ليست للعاقبة ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان وأيد بقوله تعالى قبل : فإن الذكرى تنفع المؤمنين وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله عنهما ومن الناس من جعلها للجنس وقال يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنون الطائعون وهو في المآل متحد سابقه ولا إشكالأ على ذلك في جعل اللام للغايةالمطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجو تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الأستكمال بالغير كما ذهب إليه كثير من السلف والمحدثين وقد سمعت أن منهم من يقسم الإرادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها وعليه يجوزأن يبقى الجن والإنس على شمولها للعاصين ويقال : إن العبادة مرادة منهم أيضالكن بالأرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة
هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذه الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم على تقدير كون الإشارة إلى الإختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها ودفعه بعضهم بكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذامن تعقيب ذلك بقوله سبحانه : مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون
57
- وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ومالك ملاك العبيد نفي عز و جل أن يكون إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه : ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي وذكر الإمام فيه وجهين : الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة والثاني أن يكون لتقرير كونهم كخلوقين لها وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفة لكن العبيد على قسمين : قسم لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبدي الملوك وقسم يتخذون للأنتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لأصلاحها فكأنه قال سبحانه : إني خلقتهم ولابد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومنيقرب الطعام وليسوا كذلك فما أريد أن يطعمون فإذا هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم والظاهر أن المعنى ما أريد منهم رزق لي لمكان قوله سبحانه : وما أريد أن يطعمون وإليه ذب الإمام وذكر في الآية لطائف : الأولى أنه سبحانه كرر نفيا لإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء
(27/22)
حوائجه من حفظ المال وإحظار الطعام من ماله بين يديه فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الإرادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي بيان غناه عز و جل كأنه قال سبحانه : لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم الثالثة أنه سبحانه قال : ما أريد منهم من رزق دونما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل وقال سبحانه : ما أريد أن يطعمون دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الإستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة إليه للفعل نفسه الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الإستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل : ما أريد منهم من عين ولا عمل والخامسة أن ما لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الأستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى فتأمله
ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق ليولهم وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولاغيرهم وما أريد أن يطعمون أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى ونحوه ما قيل : المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه وأسند الإطعام إلى سبحانه لأن كلهم عيال الله تعالى ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه وفي الحديث يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني فإنه كما يدل عليه ةخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه وقيل : الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه : قل لا أسألكم عليه أجرا والغيبةفيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبةوالخطاب وقد قريء بهما في قوله تعالى : قل للذين كفروا ستغلبون وقيل : المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في منهم و يطعمون ولاينافي ذلك قراءة أني أنا الرزاق فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول أو الأئتمار لا لعدم الإرادة نعم لا شك فيأنه قول بعيد جدا إن الله هو الرزاق الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز و جل عن الرزق ذو القوة أي القدرة المتين
58
- شديد القوة والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الإمام : كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا وكونه عز و جل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه : وما أريد أن يطعمون لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل : ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين وكان الظاهر أني أنا الرزاق كما جاء في قراءة له صلى الله عليه و سلم لكن التفت إلى الغيبة والتعبير بالأسم الجليل لاشتهاره بمعنى المعبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى : إن الباطل كان زهوقا والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر وتحتاج القراءة الأخرى إلى ما ذكرناه آنفا وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل : لأن في ذو كما قالأ ابن الهيتي وغيره تعظيم ما أضيفت إليه والموصوف بها والمقام يقتضيه ولذا جيء
(27/23)
بالمتين بعد ولم يكتف بهعن الوصف بالقوة وقال الإمام : لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الأستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغةالمبالغةلأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغةفيه لكفايته في تقرير عدم الأستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل ثم قال : إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى : ليعلم الله من من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز وفي قوله تعالى : إن الله هو الرزاق الخ لما اقتضى المقام ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر وقرأ ابن محيصن الرزاق بزنة الفاعل وقرا الأعمش وابن وثاب المتين بالجر وخرج على أنه صفة القوة وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالأقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث أو لأجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة لذو وجر على الجوار كقولهم هذا حجر ضب خرب وضعف فإن للذين ظلموا أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلا آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا من العبادة وإشراكهم بالله عز و جل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة و السلام وهم أهل مكة وإضرابهم من كفار العرب ذنوبا أي نصيا من العذاب مثل ذنوب أي نصيب أصحابهم أي نظرائهم من الأمم السالفة وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماءل أو القريبة من الأمتلاء قال الجوهري : ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التيمي يمدح الحرث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا يوم عين أباغ : وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب يروى أن الحرث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ومن استعمالها في النصيب قول الآخر : لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب وهو استعمال شائع وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز : إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب وإن أبيتم قلنا القليب فلا يستعجلون
59
- أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الأتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه ويقال : استعجلت كذا أن طلبت وقوعه بالعجلة ومنه قوله تعالى : أتى أمرالله فلا تستعجلون وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين فويل للذين كفروا
(27/24)
أي فويل لهم ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما فيحيز الصلة الكفر وإشعارا بعلة الحكم والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الإستعجال على ذلك و من في قوله سبحانه : من يومهم الذي يوعدون
60
- للتعليل والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه به على قول والمراد بذلك اليوم قيل : يوم بدر ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث أنه ذنوب من العذاب الدنيوي وقيل : يوم القيامة ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية والله تعالى أعلم
ومما قاله بعض أهل الإشارة في بعض الآيات : والذاريات ذروا إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعترضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة فالحاملات وقرا إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين فالجاريات يسرا إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال فالمقسمات أمرا إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الأستقامة وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب وقد قال العاشق المجازي : خذ من صبا نجد أمانا لقلبه فقد كاد رياها يطير بلبه وإياكما ذاك النسيم فإنه متى هب كان الوجد أيسر خطبه ومنها الحاملات وقرا دواء قلوب العاشقين كما قيل : أيا جبلي نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذاما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومها ومنها الجاريات من مهاب حضرات القدرس إلى أفئدة أهل الأنس بسهولة لتنعش قلوبهم ومنها المقسمات ما جاءت به مما عبق من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع والسماء ذات الحبك إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز و جل إن المتقين في جنات وعيون إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة وبالأسحار هم يستغفرون يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر ومن كل شيء خلقنا زوجين إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقة بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الأمكان وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته فقروا إلى الله بترك ما سواه عز و جل وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون أي ليعرفون وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا من روايته ص - عن ربه سبحانه أنه قال : كنت كنزا مخفديا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلظ كنت كنزا لاأعرف فخلق خلقا فعرفتهم بي
(27/25)
فعرفوني إلى غير ذلك وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفي عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها معروف لها معرفة وجودية فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث فخلق الخلق لأن معرفته الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب تفاوت الأستعدادات فعرفوا أنفسهم بالجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله : لا أعرف بدل مخفيا وثالثا مخفيا بمعنى ظاهرا من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه وترتيب قوله سبحانه : فأحببت أن أعرف الخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهوكما ترى لا يخلو عن بحث وأما إطلاق الكنز عليه عز و جل فدق ورد روي الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن مكنه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين والشيخ محيي الدين قدس سره ذكر في معنى الكنز غير ذلك فقال في الباب الثلثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته : لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني الحادث في قوله : كنت كنزا الخ فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلامكتنزا في شيء فلم يكن كنو الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى وهو مطلق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالىالتوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه
الطور
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي وثمان وأربعون في البصري وسبع وأربعون في الحجازي ومناسبة أولها لآخر ما قبله اشتمال كل على الوعيد وقال الجلال السيوطي : وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفر ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الأشتراك في غير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم والطرر
1
- الطور اسم لكل جبل على ما قيل : في اللغة العربية عند الجمهور وفي اللغة السريانية عند بعض ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا طور سينين الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده ويقال له : طور سيناء أيضا والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة وقال أبو حيان في تفسير سورة والتين : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام وقال في تفسيره : هذه السورة في الشمام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال قيل : وهوالذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي وقيل : جبل من جبال
(27/26)
الجنة وروي فيه ابن مردويه عن أبي هريرة وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته
وكتاب مسطور
2
- مكتوب على وجه الأنتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا وقال الكلبي : هو التوراة وقيل : هي والأنجيل والزبور وقيل : القرآن وقيل : اللوح المحفوظ وفي البحر لا ينبعي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الأحتمال والتنكير قيل : للأفراد نوعا وذلك على القول بتعدده أو للأفراد شخصا وذلك على القول المقابل وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب ليجزي قوما ففي التنكير كمال التعريف والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكر أو عرف ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى : في رق منشور
3
- والرق بالفتح ويكسر وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال ترقرق الشيء إذا لمع أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها والمنشور والمبسوط والوصف به قيل : للأشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرض النظر كل ناظر آمنا عليه من الأعتراض لسلامته عما يوجبه وقيل : هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناءا على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظاهر للملائكة عليهم السلام يرجعو إليه بسهولة في أمورهم بناءا على أنه اللوح أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والأهتداء بهديه بناءا على الأقوال الأخر وفي البحر منشور منسوخ ما بين المشرق والمغرب والبيت المعمور
4
- هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياكرم الله تعالى وجهه فقال : ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك الخ وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط عليها
وروي عن مجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت وقال الحسن : هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة وأنت تعلم أن من المجاز المشهور مكان معمور بمعنى مأهول مسكون نحل الناس في محل هو فيه فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا والسقف المرفوع
5
- أي السماء كما رواه جماعة وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد
(27/27)