[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
التنعم وأيضا المأثور بأبي عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن امتازوا فعل أمر ولا يكاد يخطر لقاريء ذلك
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان من جملة ما يقال لهم بطريق التقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر بالإمتياز والأمر بمقاساة حر جهنم والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة والمراد به ههنا ما كان منه تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة الآية وقوله تعالى ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين وغيرهما من الآيات الواردة في هذا المعنى وقيل : هو ميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر إذ قال سبحانه لهم ألست بربكم وقيل : هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره عز و جل فكأنه استعارة لإقامة البراهين والمواد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عز و جل وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة وقرأ طلحة والهذيل بن شرحبيل الكوفي إعهد بكسر الهمزة قاله صاحب اللوامح وقال هي لغة تميم وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين أحرف المضارعة وقال ابن عطية قرأ الهذيل وابن وثاب ألم إعهد بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي من كسر حرف المضارعة سوى الياء وروي عن ابن وثاب ألم أعهد بكسر الهاء ويقال عهد وعهد أه
ولعله أراد أن كسر الميمم يدل على كسر الهمزة لأن حركة الميم هي الحركة التي نقلت إليها من الهمزة وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها لا أن الميم مكسورة والهمزة بعدها مكسورة أيضا فتلفظ بها وقال الزمخشري : قريء إعهد بكسر الهمزة وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء و أعهد بكسر الهاء وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب و أحهد بإبدال العين وحدها حاء مهملة و أحد بإبدالها مع إبدال الهاء وإدغامها وهي لغة تميم ومنه قولهم دحا محا أي دعها معها وما ذكر من قوله : إلا في الياء مبني على بعض اللغات وعن بعض كلب أنهم يكسرون الياء أيضا فيقولون يعلم مثلا وقوله في أحهد وأحد لغة بني تميم وهو المشهور وقيل : أحهد لغة هذيل وأحد لغة بني تميم وقولهم دحا محا إما يريدوا به دع هذه القربة مع هذه المرأة أو دع هذه المرأة مع هذه القربة إنه لكم عدو مبين
60
- أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الإنتهاء وقيل : تعليل للنهي وعداوة اللعين جاءت من قبل عداوته لآدم عليه السلام والنداء بوصف النبوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على مقتضى العلم فهم والمنكرون سواء وأن اعبدون عطف على أن لا تعبدوا الشيطان على أن أن فيها مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول دون حروفه أو مصدرية حذف عنها الجار أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقديم على التحلية قيل : وليتصل به قوله تعالى : هذا صراط مستقيم
61
- بناء على أن الإشارة إلى عبادته تعالى لأنه المعروف في الصراط المستقيم وجعل بعضهم الإشارة إلى ما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وفعل عبادة الله عز و جل
ورجح بأن عبادته تعالى إذا لم تنفرد عن عبادة غيره سبحانه لا تسمى صراطا مستقيما فتأمل والجملة استئنافية جيء بها لبيان المقتضى للعهد بعبادته تعالى أو للعهد بشقيه والتنكير للمبالغة والتعظيم أي هذا صراط بليغ
(23/40)
في استقامته جامع لكل ما يجب أن يكون عليه وأصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف والتعريف ولذا لم يقل هذا الصراط المستقيم أو هذا الصراط المستقيم وإن كان مفيدا للحصر وجوز أن يكون التنكير للتبعيض على معنى هذا بعض الصراط المستقيمة وهو للهضم من حقه على الكلام المنصف وفيه إدماج التوبيج على معنى أنه لو كان بعض الصرط الموصوفة بالإستقامة لكفى ذلك في انتهاجه كيف وهو الأصل والعدة كما قيل : وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة وأنت كل الناس وفيه أن المطلوب الإستقامة والأمر دائر معها وقليل كثير ولقد أضل منكم جبلا كثيرا استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم أثر نقضهم العهد فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم وإسناد الإضلال إلى ضمير الشيطان لأنه المباشر للإغواء
والجبل قال الراغب الجماعة العظيمة أطلق عليهم تشبيها بالجبل في العظم وعن الضحاك أقل الجبل وهي الأمة العظيمة عشرة آلاف وفسره بعضهم بالجماعة وبعض بالأمة بدون الوصف وقيل هو الطبع المخلوق عليه الذي لا ينتقل كأنه جبل وهو هنا خلاف الظاهر
وقرأ العربيان والهذيل جبلا بضم الجيم وإسكان الباء وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بضمتين مع تخفيف اللام والحسن وابن أبي إسحاق والزهري وابن هرمز وعبد الله بن عبيد بن عمير وحفص ابن حميد بضمتين وتشديد اللام والأشهب العقيلي واليماني وحماد بن سلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام جمع جبلة نحو فطرة وفطر وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبعض الخراسانيين جيلا بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف واحد الأجيال وهو الصنف من الناس كالعرب والروم
أفلم تكونوا تعقلون
62
- عطف على مقدر يقتضيه المقام أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم أو فلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العذاب الأليم
وقرأ طلحة وعيسى وعاصم في رواية عبد بن حميد عنه بياء الغيبة فالضمير للجبل
وقوله تعالى : هذه جهنم التي كنتم توعدون
63
- استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم أي هذه التي ترونها جهنم التي لم تزالوا توعدون بدخولها على ألسنة الرسل عليهم السلام والمبلغين عنهم بمقابلة عبادة الشيطان إصلوها اليوم أمر تحقير وإهانة كقوله تعالى ذق إنك أنت الخ أي قاسوا حرها في هذا اليوم الذي لم تستعدوا له وقال أبو مسلم : أي صيروا صلاها أي وقودها
وقال الطبرسي : ألزموا العذاب بها وأصل الصلا اللزوم ومنه المصلى الذي يجيء في أثر السابق للزومه أثره
بما كنتم تكفرون
64
- كفركم المستمر في الدنيا فالباء للسببية وما مصدرية واحتمال كونها موصولة بعيد
اليوم نختم على أفواههم كناية عن منعهم من التكلم ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة
وجوز أن يكون الختم مستعارا لمعنى المنع بأن يشبه إحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالإستعارة تبعية إلى اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعا شبيها بالختم والأول
(23/41)
أولى في نظري وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون
65
- أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع في تكلم وتشهد ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول أنهم فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك
ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى يوم ينظر المرء ما قدمت يداه وقوله سبحانه وما عملت أيديهم وقوله عز و جل بما كسبت أيدي الناس وقوله جل وعلا فبما كسبت أيديكم إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع مع التكلم من الحسن
وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضا في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق بها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص ههنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح من الشهادة وعدمها والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون
ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحدا بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولا ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم أما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والإكتفاء بما كان قبل منهما وذلك إما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والإبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجيء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون فيكون ذلك عند المجيء إلى النار أيضا قال في إرشاد العقل السليم : إن قوله تعالى اليوم نختم الخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعي أن يعرض عنهم وتحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيمان إلى أن
(23/42)
ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية لكن قال في موضع آخر إن الشهادة تتحقق في موضع الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار والأخبار ظاهرة في ذلك
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعن أبي موسى الأشعري من حديث يدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كنت على هذا الملك مالم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم على فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم نختم على أفواههم الآية وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي والبيهي عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي قل ألم أمكرمك إلى أن قال صلى الله عليه و سلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهدا منه فيختم على فيه أخرج أحمد ومسلم وابن أبلي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى اليوم نختم على أفواههم قال كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون مم ضحكت قلنا : لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى فيقول : إني لا أجيز علي إلا شاهدا مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر
وما تقدم في حديث أبي موسى من أن الفخذ اليمنى أول ما تنطق على ما يحسب جزم به الحسن وأخرج أحمد وجماعة عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن أول عظم الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال ثم الظاهر أن التكلم والشهادة بنطق حقيقة وذلك بعد إعطاء الله تعالى الأعضاء حياة وعلما وقدره فيرد بذلك على من زعم أن البينة المخصوصة شرط فيما ذكر وإسناد الختم إليه تعالى دون ما بعد قيل لئلا يحتمل الجبر على الشهادة والكلام فدل على أن ذلك باختيار الأعضاء المذكورة بعد أقدار الله تعالى فإنه أدل على تفضيح المحدث عنهم وهل يشهد كل عضو بما فعل به أو يشهد بذلك وبما فعل بغيره فيه خلاف والثاني أبلغ في التفظيع والعلم بالمشهود به يحتمل أن يكون حصوله بخلق الله تعالى إياه في ذلك الوقت ولا يكون حاصلا في الدنيا ويحتمل أن يكون حصوله في الدنيا بأن تكون الأعضاء قد خلق الله تعالى فيها الإدراك فهي تدرك الأفعال كما يدركها الفاعل فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى لها ما كان وجعلها مستحضرة لما عملته أولا وأنطقها نطقا يفقهه المضشهود عليه وهذا نحو ما قالوا من تسبيح جميع الأشياء بلسان القال والله تعالى على كل شيء قدير والعقل لا يحيل ذلك وليس هو بأبعد من خلق الله تعالى فيها العلم والإرادة والقدرة حتى تنطق يوم القيامة فمن يؤمن بها فليؤمن بذلك والتشبث بذيل الإستبعاد يجر إلى إنكار الحشر بالكلية والعياذ بالله تعالى أو تأويله بما أوله به الباطنية الذين قتل واحد منهم قال حجة الإسلام الغزالي أفضل من قتل مائة كافر وعلى هذا تكون الآية من مؤيدات القول بالتسبيح القالي للجمادات ونحوها وعلى الإحتمال الأول يؤيد القول بجواز شهادة الشاهد إذا حصل عنده العلم يقطع به بأي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره وقد أفاد الشيخ الأكبر
(23/43)
قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن أن قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس يفيد جواز ذلك وذكر فيه أن الشاهد بأثم إن لم يشهد بعلمه ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسئلة من الكلام وكأن الشهادة على الإحتمال الثاني بعد الإستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل
ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر وإما بأن تذكر المعاصي فقط وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال مالم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحدا يدعيه وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيآتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويتدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الخالية بمنزلة المقالية مجازا وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لا سيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ظاهر جدا في النطق القالي والأخبار أظهر وأظهر نعم يهون على هذا القول أمر الإستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد هذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحدا يقول به بل ربما يدعى تخصيصه بما سوى الكفر بناء على أنه أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم
وشهادتها إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ وقريء يختم مبنيا للمفعول وتتكلم أيديهم بتاءين وقريء ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة وروي عبد الرحمن بن محمد ابن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ وتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي أياما ولشهادة الأرجل نختم على أفواههم ولو نشاء لطمسنا أعينهم بيان أنهم اليوم في قبضة القدرة ومستحقون للعذاب إلا أنه عز و جل لم يشأ ذلك لحكمته جل وعلا الباهرة والطمس إزالة الأثر بالمحو والمعنى لو نشاء الطمس على أعينهم وإزالة ضوئها وصورتها بالكلية بحيث تعود ممسوحة لطمسنا عليها وأذهبنا أثرها
وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم وإيثار صيغة الإستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ينص في إفادة انتفاء اسمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه
وقوله تعالى : فاستبقوا الصراط عطف على لطمسنا على الفرض والصراط منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الإستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم فأنى يبصرون
66
- أي فكيف يبصرون ذلك الطريق
(23/44)
وجهة السلوك والمقصود إنكار أبصارهم وحاصله لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الإستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه وتأويل استبقوا بأرادوا الإستباق مما ذهب إليه البعض وقيل لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السباق ونصب الصراط بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية وجوز كون مفعولا به لتضمين استبقوا معنى ابتدروا ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة استبقوا الصراط ابتدروه قال في الكشف : اليه لا تضمين وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقيي وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الإستباق متبدرين الطريق لا يبصرون وقيل يجوز كونه مفعولا به على أن استبقوا بمعنى سبقوا ويجوز الطريق مسبوقا على التجوز في النسبة أو الإستعارة المكنية أو على أنه بمعنى جاوزوا قال في القاموس : استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك وقال غير واحد : هو مجاز والعلامة اللزوم والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها
وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية هذا خلاف ما صرح به سيبويه وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيرا هم لم يستطيعوا وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها أعني الأعضاء المعروفة والصراط على الطريق المحسوس هو المروي عن الحسن وقتادة وعن ابن عباس حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول
أخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه قال : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر وقرأ عيسى فاستبقوا على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا وهو أمر تعجيز إذ لا يمكنهم الإستباق مع طمس الأعين ولو نساء لمسخناهم أي لحولنا صورهم إلى صور أخرى قبيحة عن ابن عباس أي لمسخناهم قردة وخنازير وقيل : لمسخناهم حجارة وروي ذلك عن أبي صالح ويعلم من هذا الخلاف أن في مسخ الحيوان المخصوص لا يشترط بقاء الصورة الحيوانية وسمي بعضهم قلب الحيوان جمادا رسخا وقلبه نباتا فسخا وخص المسخ بقلبه حيوانا آخر ومفعول المشيئة على قياس السابق أي ولو نشاء مسخهم على مكانتهم لمسخناهم على مكانتهم أي مكانهم كالمقامة والمقام
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى الآية لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم
وقال الحسن وقتادة وجماعة المعنى لأقعدناهم وازمناهم وجعلناهم كسحالا يقومون وقرأ الحسن وأبو بكر مكاناتهم بالجمع لتعددهم فما استطاعوا لذلك مضيا أي ذهابا إلى مقاصدهم ولا يرجعون
67
(23/45)
قيل هو عطف على مضيا المفعول به لاستطاعوا وهو من باب تسع بالمعيدي خير من أن تراه فيكون التقدير فما استطاعوا مضيا ولا رجوعا وإلا فمفعول استطاعوا لا يكون جملة والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي لأنه ينبيء عن سلوك الطريق من قبل والمضي لا ينبيء عنه وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرا إلى ظاهر اللفظ ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام وقيل له مع الإيماء إلى الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى المتبادر من اعتبارهما في المصدر
واقتصر بعضهم في النكتة على رعاية الفواصل والإمام بعد الإقتصار على رعاية الفواصل في بيان نكتة العدول عن الظاهر تقصيرا وقيل هو عطف على جملة ما استطاعوا والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم وقيل هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ وليس بالبعيد
وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا وقال ابن سلام : هذا التوعد كله يوم القيامة وهو خلاف الظاهر ولا يكاد يصح على بعض الأقوال
وأصل مضيا مضوي اجتمعت الواو ساكنة مع الياء فقلبت الياء فقلبت ياء كما هو القاعدة وأدغمت الياء في الياء وقلبت ضمة الضاد كسرة لتخفف وتناسب الياء وقرأ أبو حيوة وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي مضيا بكسر الميم إتباعا لحركة الضاد كالعتي بضم العين والعتي بكسرها وقريء مضيا بفتح الميم فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف والصيء بفتح الصاد المهملة بعدها همزة مكسورة ثم ياء مشددة مصدر صأي الديك أو الفرخ إذا صاح ومن نعمره أي نطل عمره
ننكسه في الخلق نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاص بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره وفيه تشبيه التنكيس المعنوي بالتنكيس الحسي واستعارة الحسي له وعن سفيان أن التنكيس في سن ثمانين سنة والحق أن زمان ابتداء الضعف وانتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض كما لا يخفى
والكلام عطف على قوله تعالى ولو نشاء لطمسنا الخ عطف العلة على المعلول لأنه كالشاهد لذلك
وقرأ جمع من السبعة ننكسه مخففا من الإنكاس أفلا يعقلون
68
- أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما
وقرأ نافع وابن ذكوان وأبو عمرو في رواية عياش تعقلون بتاء الخطاب لجري الخطاب قبله
وما علمناه بتعليم الكتاب المشتمل على هذا البيان والتخليص في أمر المبدأ والمعاد الشعر إذ لا يخفى على من به أدنى مسكة أن هذا الكتاب الحكيم المتضمن لجميع المنافع الدينية والدنيوية على أسلوب أفخم كل منطيق يباين الشعر ولا مثل الثريا للثرى أما لفظا فلعدم وزنه وتقفيته وأما معنى فلأن الشعر تخيلات مرغبة أو منفرة أو نحو ذلك وهو مقر الأكاذيب ولذا قيل أعذبه أكذبه والقرآن حكم وعقائد وشرائع
والمراد من نفي تعليمه صلى الله عليه و سلم بتعليم الكتاب الشعر نفي أن يكون القرآن شعرا على سبيل الكناية لأن
(23/46)
ما علمه الله تعالى هو القرآن وإذا لم يكن المعلم شعرا لم يكن القرآن شعرا البتة وفيه أنه عليه الصلاة و السلام ليس بشاعر إدماجا وليس هناك كناية تلويحية كما قيل وهذا رد لما كانوا يقولونه من أن القرآن شعر والنبي صلى الله عليه و سلم شاعر وغرضهم من ذلك أن ما جاء به عليه الصلاة و السلام من القرآن افتراء وتخيل وحاشاه من ذلك وما ينبغي له اعتراض لتقرير ما أدمج أي لا يليق ولا يصلح له صلى الله عليه و سلم الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف وأكثره تحسين ما ليس بحسن وتقبيح ما ليس بقبيح وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب وجل جناب الشارع عن ذلك كذا قيل
وقال ابن الحاجب : أي لا يستقيم عقلا أن يقول صلى الله عليه و سلم الشعر لأنه لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه وأنه من تلك القوة الشعرية ولذا عقب هذا بقوله تعالى ويحق القول على الكافرين لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة فيحق القول عليهم وتعقب بأن الإيجاز يرفع التهمة وإلا فكونه عليه الصلاة و السلام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة في النثر ليس بأضعف من قول الشعر في كونه مظنة تطرق التهمة بل ربما يتخيل أنه أعظم من قول الشعر في ذلك فلو كانت علة منعه عليه الصلاة و السلام من الشعر ما ذكر لزم أن يمنع من الكلام الفصيح البليغ سدا لباب الريبة ودحضا للشبهة وإعظاما للحجة فحيث لم يكن ذلك اكتفاء بالإعجاز وأن التهمة والريب معه مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ولذا الريب مع أنه وقع أن العلة في أنه عليه الصلاة و السلام لا ينبغي له الشعر شيء آخر واختار هذا ابن عطية وجعل العلة ما في قول الشعر من التخييل والتزويق للقول وهو قريب مما سمعت أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه وفي الآية عليه دلالة على غضاضة الشعر وهي ظاهرة في أنه عليه الصلاة و السلام لم يعط طبيعة شعرية اعتناء بشأنه ورفعا لقدره وتبعيدا له صلى الله عليه و سلم من أن يكون فيه مبدأ لما يخل بمنصبه في الجملة
وإنما لم يعط صلى الله عليه و سلم القدرة على الشعر مع حفظه عن إنشائه لأن ذلك سلب القدرة عليه في الإبعاد عما يخل بمنصبه الجليل صلى الله عليه و سلم ونظير ما ذكرنا العصمة والحفظ ويفهم من كلام المواهب اللدنية أن من الناس من ذهب إلى أنه عليه الصلاة و السلام كان له قدرة على الشعر إلا أنه يحرم عليه أن يشعر وليس بذاك نعم القول بحرمة إنشاء الشعر مقبول ومعناه على القول السابق على ما قيل حرمة التوصل إليه وقد يقال : لا حاجة إلى التأويل وحرمة الشيء تجامع عدم القدرة عليه وهل عدم الشعر خاص به عليه الصلاة و السلام أو عام لنوع الأنبياء قال بعضهم هو عام لهذه الآية إذ لا يظهر للخصوص نكتة وقيل بحوز أن يكون خاصا والنكتة زيادة التكريم لما أن مقامه صلى الله عليه و سلم فوق مقام الأنبياء عليهم السلام ويكون الثابت لهم الحفظ عن الإنشاء مع ثبوت القدرة عليه وإن صح خبر إنشاء آدم عليه السلام يوم قتل ولده : تغيرت البلاد ومن عليها ووجه الأرض مغبر قبيح تغيرت كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه الصبيح اتضح أمر الخصوص وعلم أن لا حفظ من الإنشاء أيضا ولعل الحفظ حينئذ مما فيه ما يشين ويخل بمنصب النبوة مطلقا والنكتة في الخصوص ظاهرة على ما نقل عن ابن الحاجب لأن أعظم معجزاته عليه الصلاة
(23/47)
والسلام القرآن فربما تحصل التهمة فيه لو قال صلى الله عليه و سلم الشعر وكذلك معجزات الأنبياء عليهم السلام فتأمل
وأيا ما كان لا يرد أنه عليه الصلاة و السلام قال يوم حنين وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها ولم يبق معه عليه الصلاة و السلام من الناس إلا قليل أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب لأنا لا نسلم أنه شعر فقد عرفوه بأنه الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد وهذا مما اتفق له عليه الصلاة و السلام من غير قصد لوزنه ومثله يقع كثيرا في الكلام المنثور ولا يسمى شعرا ولا قائله شاعرا ولا يتوهم من انتسابه فيه إلى جده دون أبيه دليل القصد لأن النسبة إلى الجد شائعة ولأنه هو الذي قام بترتيبه حيث توفي أبوه عليه الصلاة و السلام وهو حمل فحين ولد قام بأمره فوق ما يقوم الوالد بأمر الولد ولأنه كان مشهورا بينهم بالصدق والشرف والعزة فلذا خصه بالذكر ليكون كالدليل على ما قبل أو كمانع آخر من الإنهزام ولأن كثيرا من الناس كانوا يدعونه عليه الصلاة و السلام بابن عبد المطلب ومنه حديث ضمام بن ثعلبة أيكم ابن عبد المطلب على أن منهم من لم يعد الرجز مطلقا وأصله ما كان على مستفعلن ست مرات شعرا ولذا يسمى قائله راجزا إلا شاعرا وعن الخليل أن المشطور منه وهو ما حذف نصفه فبقي وزنه مستفعلن ثلاث مرات والمنهوك وهو ما حذف ثلثاه فبقي وزنه مستفعلن مرتين ليسا بشعر وفي رواية أخرى عنه أن المجزو وهو ما حذف من كل مصراع منه جزء فبقي وزنه مستفعلن أربع مرات كذلك فقوله صلى الله عليه و سلم أنا النبي لا كذب إن كان نصف بيت فهو مجزو فليس بشعر على هذه الرواية وأن فرض أن هناك قصدا وإن كان بيتا تاما فهو فليس منهوك بشعر أيضا على الرواية الأولى وكونه ليس بشعر على قول من لا يرى الرجز مطلقا شعرا ظاهر
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة و السلام حرك الباء من كذب والمطلب فلا يكون ذلك موزونا فكونه ليس بشعر أظهر وأظهر والقول بأن ضمير له للقرآن المعلوم من السياق أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا فيجوز صدور الشعر عنه صلى الله عليه و سلم ولا يحتاج إلى توجيه ليس بشيء فإنه يكفي في نفي الشعر عنه عليه الصلاة و السلام قوله سبحانه وما علمناه الشعر مع أن الظاهر عود الضمير عليه عليه الصلاة و السلام وأولى التوجيهات إخراج ذلك من الشعر بانتفاء القصد وبذلك يخرج ما وقع في القرآن من نظائره منه وقد ذكرنا لك فيما مر كثيرا منها وليس من الآية ما يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينبغي له التكلم بشعر قاله بعض الشعراء والتمثل به وفي الأخبار ما يدل على وقوع التكلم بالبيت متزنا نادرا كما روي أنه عليه الصلاة و السلام أنشد بيت ابن رواحة : يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وإنشاده إياه كذلك مذكور في البحر وروي أنه صلى الله عليه و سلم أصاب أصبعه الشريفة حجر في بعض غزواته فدميت فتمثل بقول الوليد بن المغيرة : على ما قاله ابن هشام في السيرة أو ابن رواحة على ما صححه ابن الجوزي
(23/48)
ما أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وقيل : هو له عليه الصلاة و السلام والكلام فيه كالكلام في قوله صلى الله عليه و سلم أنا النبي الخ إلا أن هذا يحتمل أن يكون مشطورا إذا كان كل من شطريه بيتا وعلى وقوع التكلم بالبيت غير متزن مع إحراز المعنى كثيرا كما روي أنه عليه الصلاة و السلام أنشد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة و السلام إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي وفي خبر أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة ويأتيك من لم تزود بالأخبار
وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلى الله عليه و سلم كان يتمثل بهذا البيت
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر وما ينبغي لك وأخرج ابن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للعباس بن مرداس : أرأيت قولك : أتجعل نهي ونهب العبيد
بين الأقرع وعيينة فقال له أبو بكر : رضي الله تعالى عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا راوية ولا ينبغي لك إنما قال بين عيينة والأقرع وروي أنه قيل له عليه الصلاة و السلام : من أشعر الناس فقال : الذي يقول : ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها وإن لم تطيب طيبا وأخرج البيهقي في سننه بسند فيه مجهول عن عائشة قالت ما جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحقق قالت عائشة ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا ثم أنه عليه الصلاة و السلام مع هذا لم يكن يحب الشعر ففي مسند أحمد بن حنبل عن عائشة قالت : كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه و سلم الشعر وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتليء شعرا وهذا ظاهر في ذم الأكثار منه وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت عن المسند ولعل الجمع بالتفصيل بين شعر وشعر وقد تقدم الكلام في الشعر مفصلا في سورة الشعراء فتذكر
إن هو أي ما القرآن إلا ذكر أي عظة من الله عز و جل وإرشاد للثقلين كما قال سبحانه : إن هو إلا ذكر للعالمين وقرآن مبين
69
- أي كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز الذي ألقم من تصدى للمعارضة الحجر لينذر أي القرآن أو الرسول عليه الصلاة و السلام ويؤيده قراءة نافع وابن عامر لتنذر بتاء الخطاب وقرأ اليماني لينذر مبنيا للمفعول ونقلها ابن خالويه عن الجحدري وقال : عن أبي السمال واليماني أنهما قرآ لينذر بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء بكسر الذال إذا علم به
من كان حيا أي عاقلا كما أخرج ذلك ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك وفيه استعارة
(23/49)
مصرحة بتشبيه العقل بالحياة أو مؤمنا بقرينة مقابلته بالكافرين وفيه أيضا استعارة مصرحة لتشبيه الإيمان بالحياة ويجوز كونه مجازا مرسلا لأنه سبب للحياة الحقيقية الأبدية والمضي في كان باعتبار ما في علمه عز و جل لتحققه وقيل كان بمعنى يكون وقيل في الكلام مجاز المشارفة ونزلت منزلة المضي وهو كما ترى وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع بذلك ويحق القول أي تجب كلمة العذاب على الكافرين
70
- الموسومين بهذا الوسم المصرين على الكفر وفي إيرادهم بمقابلة من حيا إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها كالمعرفة أموات في الحقيقة وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية قرينتها استعارة أخرى وكأنه جيء بقوله سبحانه : لينذر الخ رجوعا إلى ما بديء به السورة من قوله عز و جل : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ولو نظرت إلى هذا التخلص من حديث المعاد إلى حديث القرآن والإنذار لقضيت العجب من حسن موقعه أو لم يروا الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علما يقينيا مشابها للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى : ألم يرو كم أهلكنا الخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى : أنا خلقناهم أي لأجلهم وانتفاعهم مما عملت أيدينا أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقا ولا كسبا
والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازا متفرعا على الكناية وقال بعضهم : المراد بالعمل الإحداث وبالأيدي القدرة مجازا وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيما لشأن الأثر وأنه عجيب وصنع غريب وليس بذاك وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عز و جل في عالم الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم ولا يخفى ما فيه
ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عز و جل
وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت كيد الله فوق أيديهم أو ثنيت كخلقت بيدي أو جمعت كما هنا بل يثيبتون اليد له عز و جل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه : ليس كمثله شيء وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة أنعاما مفعول خلقنا وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقا إلى المؤخر وجمعا بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع وهذا كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت فهم لها مالكون
71
- أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم والفاء للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعاما وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجين إذا أجدت عجنه ومنه قول الربيع بن منبع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر : أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
(23/50)
والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيسا لا تأكيدا وأيا ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الإهتمام وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على استقرار ما لكيتهم لها واستمرارها
وذللناها لهم أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يرديون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى فمنها ركوبهم فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب وقزوع وهو مما لا ينقاس وقرأ أبي وعائشة ركوبتهم بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة وقيل جمع ركوب وتعقب بأنه لم يسمع فعولة بفتح الفاء في الجموع ولا في أسمائها وقرأ الحسن والأعمش وأبو البرهسم ركوبهم بضم الراء وبغير تاء وهو مصدر كالقعود والدخول فإما أن يؤول بالمفعول أو يقدر مضاف في الكلام إما في جانب المسند إليه أي ذو ركوبهم أو في جانب المسند فمن منافعها ركوبهم ومنها يأكلون
72
- أي وبعض منها يأكلون لحمه والتبعيض هنا باعتبار الأجزاء وفيما قيل باعتبار الجزئيات والجملة معطوفة على ما قبلها وفير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف الركوب كذا قيل وقيل الفعل موضوع موضع المصدر وهو بمعنى المفعول للفاصلة
ولهم فيها أي في الأنعام بكلا قسميها منافع غير الركوب والأكل كالجلود والأصواف والأوبار وغيرها وكالحراثة بالثيران ومشارب جمع مشرب مصدر بمعنى المفعول والمراد به اللبن وخص مع دخوله في المنافع لشرفه واعتناء العرب به وجمع باعتبار أصنافه ولا ريب في تعددها وتعميم المشارب للزبد والسمن والجبن والأقط لا يصح إلا بالتغليب أو التجوز لأنها غير مشروبة ولا حاجة إليه مع دخولها في المنافع وجوز أن تكون المشارب جمع مشرب موضع الشرب
قال الإمام : وهو الآنية فإن من الجلود يتخذ أواني الشرب من القرب ونحوها وقال الخفاجي : إذا كان موضعا فالمشارب هي نفسها لقوله سبحانه فيها فإنها مقرة ولعله أظهر من قول الإمام أفلا يشكرون
73
- أي يشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها ويخصونه سبحانه بالعبادة واتخذوا من دون الله أي متجاوزين الله تعالى الذي رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم الظاهرة وعلموا أنه سبحانه المتفرد بها آلهة من الأصنام وأشركوها به عز و جل في العبادة لعلهم ينصرون
74
- رجاء أن ينصروا أو لأجل أن ينصروا من جهتهم فيما نزل بهم وأصابهم من الشدائد أو يشفعوا لهم في الآخرة وقوله تعالى : لا يستطيعون نصرهم الخ استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم وقول ابن عطية يحتمل أن يكون ضمير يستطيعون للمشركين وضمير نصرهم للأصنام ليس بشيء أصلا وهم أي أولئك المتخذون المشركون لهم أي لآلهتهم جند محضرون
75
- أي معدون لحفظهم والذنب عنهم في الدنيا
أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر عن الحسن وقتادة وقيل : المعنى أن المشركين جند لآلهتهم في الدنيا محضرون للنار في الآخرة وجاء بذلك في رواية أخرجها ابن أبي حاتم عن الحسن واختار بعض الأجلة
(23/51)
أن المعنى والمشركون لآلهتهم جند محضرون يوم القيامة أثرهم في النار وجعلهم جندا من باب التهكم والإستهزاء
وكذلك لام لهم الدالة على النفع وقيل هم للآلهة وضمير لهم للمشركين أي وإن الآلهة معدون محضرون لعذاب أولئك المشركين يوم القيامة لأنهم يجعلون وقود النار أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارا لعجزهم وإقناطا للمشركين عن شفاعتهم وجعلهم جندا والتعبير باللام في الوجهين على ما مر آنفا واختلاف مراجع الضمائر في الآية ليس من التفكيك المحظور والواو في قوله سبحانه وهم الخ على جميع ما مر إما عاكطفة أو حالية إلا أن الحال مقدرة في بعض الأوجه كما لا يخفى والفاء في قوله تعالى فلا يحزنك قولهم فصيحة أي إذا كان هذا حالهم مع ربهم عز و جل فلا تحزن بسبب قولهم عليك هو شاعر أو إذا كان حالهم يوم القيامة ما سمعت فلا تحزن بسبب قولهم على الله سبحانه إن له شركاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو عليك هو شاعر أو على الله تعالى وعليك ما لا يليق بشأنه عز و جل وشأنك والإقتصار في بيان قولهم عليه صلى الله عليه و سلم بأنه وحاشاه شاعر لأنه الأوفق بما تقدم من قوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له وقد يعمم فيشمل جميع ما لا يليق بشأنه عليه الصلاة و السلام من الأقوال وتفسير الشرط الذي أفصحت عنه الفاء بما ذكرنا أولا هو المناسب لما روي عن الحسن وقتادة في معنى قوله تعالى وهم لهم جند محضرون وبما ذكرنا ثانيا هو المناسب لما ذكر بعد في معنى ذلك وقيل التقدير على الأول إذا كانوا في هذه المرتبة من سخافة العقول حيث اتخذوا رجاء النصر آلهة من دون الله عز و جل لا يقدرون على نصرهم والذب عنهم بل هم يذبون عن تلك الآلهة فلا تحزن بسبب قولهم عليك ما قالوا ولعل الأول أولى وأيا ما كان فالنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجها إلى قولهم لكنه في الحقيقة كما أشرنا إليه متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم والمراد نهيه عليه الصلاة و السلام عن التأثر من الحزن بطريق الكناية على أبلغ وجه وأكده كما لا يخفى
وقرأ نافع فلا يحزنك بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وجاء حزنه وأحزنه
إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون
76
- تعليل صريح للنهي بطريق الإستئناف بعد تعليلة بطريق الإشعار بناء على التقدير الثاني في الشرط فإن العلم بما ذكر مجاز عن مجازاتهم عليه أو كناية عنها للزومها إياه إذ علم الملك القادر الحكيم بما جرى من عدوه الذي تقتضي الحكمة الإنتقام منه لمجازاته والإنتقام منه وهو على التقدير الأول قيل استئناف بياني وقع جواب سؤال مقدر كأنه قيل : يا رب فإذا كان حالهم معك ومع نبيك ذلك فماذا تصنع بهم فقيل : إنا نعلم الخ أي نجازيهم بجميع جناياتهم وقيل هو تعليل لترتيب النهي على الشرط فتأمل وما موصولة والعائد محذوف أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها وجوز أن تكون مصدرية أي نعلم إسرارهم وإعلانهم والمفعول محذوف أو الفعلان منزلان منزلة اللازم والمتبادر الأول وهو الأولى
وتقديم السر على العلن لبيان إحاطة علمه سبحانه بحيث أن علم السر عنده تعالى كأنه أقدم من علم العلن وقيل : لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق عمله تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقيل : للإشارة إلى الإهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر ولأنه محل الإشتباه المحتاج للبيان وشاع أن الوقف على قولهم متعين وقيل : ليس به
(23/52)
لأنه جوز في أنا نعلم الخ كونه مقول القول على أن ذلك من باب الإلهاب والتعريض كقوله تعالى ولا تكونن من المشركين أو على أن المراد فلا يحزنك قولهم على سبيل السخرية والإستهزاء إنا نعلم الخ ومنه يعلم أنه لو قرأ قاريء أنا نعلم بالفتح وجعل ذلك بدلا من قولهم لا تنتقض صلاته ولا يكفر لو اعتقد ما يعطيه من المعنى كما لو جعله تعليلا على حذف حرف التعليل والحق أن مثل هذا التوجيه لا بأس بقبوله في درء الكفر وأما أمر الوقف فالذي ينبغي أن يقال فيه أنه على قولهم كالمتعين أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله عز و جل بعد ما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام وقيل : إنه تسلية له عليه الصلاة و السلام كقوله تعالى فلا يحزنك قولهم وذلك بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وليس بشيء
والهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى أو لم يروا الخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيدا للنكير السابق وتمهيدا لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأتم فالإنكار والتعجب من الإخلال بذلك كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضا مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية ويشير كلام الأجلة إلى أن العطف على أو لم يروا السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق للإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا فطغى وتكبر وخاصم وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان
وقوله تعالى فإذا هو خصيم أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل مبين
77
- ظاهر متجاهر في ذلك عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل : أو لم يرانا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة وإيراد الجملة إسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها وفي الحواشي الخفاجية أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجب والمراد بالإنسان الجنس والخصم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا نعم نزلت الآية في كافر مخصوص أخرج جماعة منهم الضياء في المختارة عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعظم حائل ففته بيده فقال : يا محمد أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرم قال : نعم يبعث الله تعالى هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات أو لم ير الإنسان إلى آخر السورة وفي رواية ابن مردوية عنه أن الجاني القائل ذلك أبي بن خلف وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد بالحربة وروي ذلك عن أبي مالك ومجاهد وقتادة والسدي وعكرمة وغيرهم كما في الدر المنثور وفي رواية أخرة عن الحبر أنه أبو جهل بن هشام وفي أخرى عنه أيضا أنه عبد الله بن أبي وتعقب ذلك أبو حيان بأن نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة وحكى عن مجاهد وقتادة أنه أمية بن خلف والذي اختاره وادعى أنه أصح الأقوال أنه أبي بن خلف ثم قال : ويحتمل أن كلا من هؤلاء الكفرة وقع منه ذلك وقيل معنى قوله تعالى فإذا هو خصيم مبين فإذا هو بعدما كان ماء مهينا رجل مميز
(23/53)
منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذ معطوف على خلقناه والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه و مبين متعد والكلام من متممات شواهد صحة البعث فقوله تعالى وضرب لنا مثلا معطوف على حينئذ على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار وأما على الأول فهو عطف على الجملة الفجائية والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلا أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر هي في الغرابة كالمثل وهي إنكار إحيائنا العظام أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهي إحياؤنا إياها أو جعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفي الكل على العموم وقوله تعالى ونسي خلقه أي خلقنا إياه على الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه إما عطف على ضرب داخل في حيز الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه ونسيان خلقه بأن لم يتذكره على ما قيل وفيه دغدغة أو ترك تذكره لكفره وعناده أو هو كالناسي لعدم جريه على مقتضى التذكر وقوله سبحانه قال استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية ضربه المثل كأنه قيل : أي مثل ضرب أو ماذا قال فقيل : قال من يحيي العظام وهي رميم
78
- منكرا ذلك ناكرا من أحوال العظام ما تبعد معه من الحياة غاية البعد وهو كونها رميما أي بالية أشد البلى والظاهر أن رميم صفة لا إسم جامد فإن كان من رم اللازم بمعنى بلى فهو فعيل بمعنى فاعل وإنما لو يؤنث لأنه غلب استعماله غير جار على موصوف فالحق بالأسماء الجامدة أو حمل على فعيل بمعنى مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث وقال محي السنة : لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولا عن وجه ووزنه كان مصروفا عن أخواته ومثله بغيا في قوله تعالى ما كانت أمك بغيا أسقط الهاء منها لأنها كانت مصروفة عن باغية وقال الأزهري : إن عظاما لكونه بوزن المفرد ككتاب وقراب عومل معاملته فقيل رميم دون رميمة وذكر له شواهد وهو غريب وإن كان من رم المتعدي بمعنى أبلى يقال رمه أي أبلاه وأصل معناه الأكل كما ذكره الأزهري من رمت الإبل الحشيش فكان ما بلى أكلته الأرض فهو فعيل بمعنى مفعول وتذكيره على هذا ظاهر للإجماع على أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث وفي المطلع الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث ولا يخفى أن له فعلا وهو رم كما ذكره أهل اللغة وهو وزن من أوزان الصفة فكونه جامدا غير ظاهر قل تبكيتا له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الإستشهاد بها يحييها الذي أنشأها أي أوجدها ورباها أول مرة أي في أول مرة إذ لم يسبق لها إيجاد ولا شك أن الإحياء بعد أهون من الإنشاء قبل فمن قدر على الإنشاء كان على الإحياء أقدر وأقدر ولا احتمال لعروض العجز فإن قدرته عز و جل ذاتية أزلية لا تقبل الزوال ولا التغير بوجه من الوجوه وفي الحواشي الخفاجية كان الفارابي يقول وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله تعالى قل يحييها الخ وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا فيلزم أن الله عز و جل قادر على إنشائها وإحياءها بقواها ثانيا والآية ظاهرة فيما ذهب إليه الإمام الشافعي قيل ومالك وأحمد من أن العظم تحله الحياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء وبنوا على ذلك الحكم بنجاسة عظم الميتة وسئلة حلول الحياة
(23/54)
في العظم وعدمه مما اختلف فيه الفقهاء والحكماء واستدل من قال منها بعدم حلولها فيه بأن الحياة تستلزم الحس والعظم لا إحساس له فإنه لا يتألم بقطعه كما يشاهد في القرن وما يحصل في قطع العظم من التألم إنما هو لما يجاوره وقال ابن زهر في كتاب التيسير : اضطرب كلام جالينوس في العظام هل لها إحساس أم لا والذي ظهر لي أن لها حسا بطيئا وليت شعري ما يمنعها من التعفن والتفتت في الحياة غير حلول الروح الحيواني فيها انتهى
وبعض من ذهب من الفقهاء إلى أن العظام لا حياة فيها بني عليه الحكم بطهارتها من الميتة إذ الموت زوال الحياة فحيث لم تحلها الحياة لم يحلها الموت فلم تكن نجسة ز وأرد عليهم هذه الآية فقيل المراد بالعظام فيها صاحبها بتقدير أو تجوز أو المراد بإحيائها ردها لما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس ورجح هذا على إرادة صاحبها بان سبب النزول لا بد من دخوله وعلى تلك الإرادة لا يدخل ويدخل على تأويل إحيائها بإعادتها لما كانت عليه ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر والظاهر مع الشافعية ومن الفقهاء القائلين بعدم نجاسة عظام الميتة من رأى قوة الإستدلال بالآية على أن العظام تحلها الحياة فعلل الطهارة بغير ما سمعت فقال : إن نجاسة الميتة ليست لعينها بل لما فيها من الرطوبة والدم السائل والعظم ليس فيه ذلك فلذا لم يكن نجسا ومنه الشافعية كون النجاسة للرطوبة وتمام الكلام في الفروع وهو عز و جل بكل خلق أي مخلوق عليم
79
- مبالغ في العلم فيعلم جل وعلا بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الإتصال والإنفصال والإجتماع والإفتراق فيعيد كلا من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما تقدم أو معطوفة على الصلة والعدول إلى الإسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت
وقوله تعالى الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا بدل من الموصول الأول وعدم الإكتفاء بعطف صلته على صلته للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة والظرفان متعلقان بجعل قدما على نارا مفعوله الصريح للإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر و الأخضر صفة الشجر وقرىء الخضراء وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحده بالتاء مثل الشجر غذ يقال في واحده شجرة وأهل نجد يذكرونه إلا ألفاظا استثنيت في كتب النحو وذكر بعضهم أن التذكير لرعاية اللفظ والتأنيث لرعاية المعنى لأنه في معنى الأشجار والجمع تؤنث صفة وقيل لأنه في معنى الشجرة وكما يؤنث صفته يؤنث ضميره كما في قوله تعالى من شجر من زقوم فمالئون منها البطون والمشهور أن المراد بهذا الشجر المرخ العفار يتخذ من المرخ وهو ذكر الزند الأعلى ومن العفار بفتح العين وهو أنثى الزندة السفلى ويستحق الأول على الثاني وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار بإذن الله تعالى وكونه المرخ بمنزلة الذكر والعفار بمنزلة الأنثى هو ما ذكره الزمخشري وغيره واللفظ كالشاهد له وعكس الجوهري وعن ابن عباس والكلبي في كل شجر نار إلا العناب قيل ولذا يتخذ منه مدق القصارين وأنشد الخفاجي لنفسه : أيا شجر العناب نارك أو قدت بقلبي وما العناب من شجر النار واشتهر العموم وعدم الإستثناء ففي المثل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من
(23/55)
النار من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير ومنه رجل ماجد أي مفضال واختار بعضهم حمل الشجر الأخر على الجنس وما يذكر من المرخ والعفار من باب التمثيل وخصا لكونهما أسرع وريا وأكثر نارا كما يرشد إليه المثل ومن إرسال المثل المرخ والعفار لا يلدان غير النار
فإذا أنتم منه توقدون
80
- كالتأكيد لما قبله والتحقيق له أي فإذا أنتم من الشجر الأخضر توقدون النار لا تشكون في أنها نار حقيقة تخرج منه وليست كنار الحباحب وأشار سبحانه بقوله تعالى الذي الخ إلى أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته فإن الماء بارد رطب والنار حارة يابسة كان جل وعلا أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فيبس وبلي ثم إن هذه النار يخلقها الله تعالى عند سحق إحدى الشجرتين على الأخرى لا أن هناك نارا كامنة تخرج بالسحق و من الشجر لا يصلح دليلا لذلك وفي كل شجر نار من مسامحات العرب فلا تغفل وإياك واعتقاد الكمون
وقوله تعالى أو ليس الذي خلق السماوات والأرض الخ استئناف مسوق من جهته تعالى لتحقيق مضمون الجواب الذي أمر صلى الله عليه و سلم أن يخاطبهم به ويلزمهم الحجة والهمزة للإنكار والنفي والواو لعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بقادر على أن يخلق مثلهم في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما على أن المراد بمثلهم هم وأمثالهم أو على أن المراد به هم أنفسهم بطريق الكناية كما في مثلك يفعل كذا وقال بعضهم : مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام وزعم جماعة من المفسرين عود ضمير مثلهم للسماوات والأرض لشمولها لمن فيهما من العقلاء فلذا كان ضمير العقلاء تغليبا والمقصود بالكلام دفع توهم قدم العالم المقتضي لعدم إمكان إعادته وهو تكلف ومخالف للظاهر والمشركون لا يقولون بقدم العالم فيما يظهر وتعقب أيضا بأن العالم لو فرض مع قدم النوع الإنساني وعدم تناهي أفراده في جانب المبدأ لا يأبى الحشر الجسماني إذ هو بالنسبة إلى المكلفين وهم متناهون وزعم أن ما ثبت قدمه استحال عدمه غير تام كما قرر في محله فلا تغفل وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والأعرج وسلام ويعقوب في رواية يقدر بفتح الياء وسكون القاف فعلا مضارعا
بلى جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الإستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي من القدرة على الخلق وإيذان بتعيينه للجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الإلتزام وقوله تعالى وهو الخلاق العليم
81
- عطف على ما يفيده الإيجاب أي هو سبحانه قادر على ذلك وهو جل وعلا المبالغ في الخلق والعلم كيفا وكما
وقرأ الحسن والجحدري وزيد بن علي ومالك بن دينار الخالق بزنة الفاعل إنما أمره أي شأنه تعالى شأنه في الإيجاد وجوز فيه أن يراد الأمر القولي فيوافق قوله تعالى إنما قولنا لشيء ويراد به القول النافذ
إذا أراد شيئا أي إيجاد شيء من الأشياء أن يقول له كن أي أوجد فيكون
82
- أي فهو يكون ويوجد والظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب السلف وشؤن الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام والخصام وقيل ليس هناك قول لفظي لئلا يلزم التسلسل ويجوز أن يكون
(23/56)
هناك قول نفسي وقوله للشيء تعلقه به وفيه ما يأباه السلف غاية الإباء وذهب غير واحد إلى أنه لا قول أصلا وإنما المراد تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء
وقرأ ابن عامر والكسائي فيكون بالنصب عطفا على يقول وجوز كونه منصوبا في جواب الأمر وأباه بعضهم لعدم كونه أمرا حقيقة وفيه بحث فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء تنزيه له عز و جل مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان أو سببية لأن ما قبل سبب لتنزيهه سبحانه والمللكوب مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام وفي تعليق سبحان بما في حيزه إيماء إلى كونه تعالى مالكا للملك كله قادرا على كل شيء مقتض للتسبيح وفسر الملكوت أيضا بعالم الأمر والغيب فتخصيصه بالذكر قيل لاختصاص التصرف فيه به تعالى من غير واسطة بخلاف عالم الشهادة
وقرا طلحة والأعمش ملكة على وزن شجرة أي بيده ضبط كل شيء وقريء مملكة على وزن مفعلة وقريء ملك وإليه ترجعون
83
- لا إلى غيره تعالى وهذا وعد للمقرين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين وقيل هو وعيد فقط على أن الخطاب للمشركين لا غير توبيخا لهم ولذا عدل عن مقتضى الظاهر وهو وإليه يرجع الأمر كله ففيه دلالة على أنهم استحقوا غضبا عظيما وقرأ زيد بن علي ترجعون مبنيا للفاعل
هذا ما لخص من كلامهم في هذه الآيات الكريمة وفيها دلالة واضحة على المعاد الجسماني وإيماء إلى دفع بعض الشبه عنه وهذه المسئلة من مهمات مسائل الدين وحيث أن هذه الورة الكريمة قد تضمنت من أمره ما له كانت عند أجلة العلماء الصدور قلب القرآن لا بأس بأن يذكر في إتمام الكلام فيها ما للعلماء من تحقيق أمر ذلك فأقول طالبا من الله عز و جل التوفيق إلى القول المقبول : اعلم أولا أن المسلمين اختلفوا في أن الإنسان ما هو فقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع أجزاء سارية فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وهي جسم لطيف نوراني مخالف بالحقيقة والماهية للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل وإن كان لسريانه فيه بشبهه صورة ولا نعلم حقيقة هذا الجسم وهو الروح المشار إليها بقوله تعالى : قل الروح من أمر ربي عند معظم السلف الصالح وبينه وبين البدن علاقة يعبر عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن خروجا اضطراريا وتزول الحياة وما دام باقيا على الوجه الذي يصلح به لأن يكون علاقة تبقي الروح والحياة وهذا الجسم المعبر عنه بالروح على ما قال الإمام القرطبي في التذكرة مما له أول وليس له آخر بمعنى أنه لا يفني وإن فارق الدبن المحسوس وذكر فيها أن من قال إنه يفني فهو ملحد وقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع النفس الناطقة التي هي جوهر مجرد بل هو الإنسان حقيقة على ما صرح به بعضهم وإلى إثبات هذا الجوهر ذهب الحلمي والغزالي والراغب وأبو زيد الدبوسي ومعمر من قدماء المعتزلة وجمهور متأخري الإمامية وكثير من الصوفية وهو الروح الأمرية وليست داخلة البدن ولا خارجة عنه فنسبتها إليه نسبة الله سبحانه وتعالى إلى العالم وهي بعد حدوثها الزماني عندهم لا تفنى أيضا
ورد المدهب ابن القيم في كتاب الروح بمالا من يد عليه وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا في أن البدن هل يتفرق بعد الموت فقط أم يتفرق وتعدم ذاته بكل قال بعض ولعل من قال بالثاني استثنى عجب الذنب لصحة خبر
(23/57)
استثنائه من البلي وكل هؤلاء المختلفين اتفقوا على القول بالحشر الجسماني إلا أن منهم من قال بالحشر الجسماني فقط بمعنى أنه لا يحشر إلا جسم إذ ليس وراء الجسم عندهم جوهر مجرد يسمى بالنفس الناطقة ومنهم من قال بالحشر الجسماني والحشر الروحاني معا بمعنى أنه يحشر الجسم متعلقا به أمر ليس بجسم هو النفس الناطقة وكل من أصحاب هذين القولين منهم من يقول بأن البدن غذا تفرق تجمع أجزاؤه يوم القيامة للحشر وتقوم فيها الروح أو تتعلق كما في الدنيا بل القيام أو التعلق هناك أتم إذ لا انقطاع له أصلا بعد تحققه فالحشر عند هؤلاء بجمع الأجزاء المتفرقة وعود قيام الروح أو تعلقها إليها والمراد بالأجزاء الأصلية وهي أجزاء البدن حال نفخ الروح فيه في الدنيا لا الذرة التي أخذ عليها العهد يوم ألست بربكم كما قيل : والله تعالى قادر على حفظها من التحلل والتبدل وكذا على حفظها من أن تكون أجزاء بدن آخر وإن تفرقت في أقطار الأرض واختلطت بالعناصر وقيل : يجوز أن تكون الأجزاء الأصلية يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل ولا تختلط بالتراب ولا يحصل منها نماء نبات أو حيوان وهو مجرد احتمال لا دليل عليه بل مخالف لقوله سبحانه : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإنه ظاهر في أن المحشور أجزاء رميمة مخلوطة بالتراب ويجوز أن تكون الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الترابية التي ينثرها الملك في الرحم على المني كما ورد في الحديث الصحيح وهو لا ينثر ترابا واحدا ويحشر البدن بعد الجمع على أكمل حالاته كما يشير إليه قوله عليه الصلاة و السلام يحشر الناس حفاة عراة غرلا ثم يزاد في أجساد أهل الجنة فيكون أحدهم كآدم عليه السلام طولا وعرضا وكذا يزاد في أجساد أهل النار خلافا للمعتزلة حتى أن سن أحدهم لتكون كجبل أحد وجاء كل من الزيادتين في الحديث فالمقطوع أو المجذوع مثلا لا يحشر إلا كلاما كما كان قبل القطع أو الجذع ومن خلق في الدنيا بأربع أيد مثلا يحشر على ما هو المعتاد المعروف في بني نوعه وكذا من خلق بلا يد أو رجل مثلا والقول بأنه يلزم تعذيب جسد لم يعص وترك تعذيب جسد عصى ناشيء عن غفلة عظيمة إذ المعذب إنما هو الروح وهو الذي عصى ولا يعقل العصيان والتعذيب لنفس الجسد وحرقه بالنار ليس تعذيبا له نفسه وإلا لكان حرق الخشب تعذيبا له بل هو وسيلة إلى تعذيب الروح وهذا كما لو جعل شخص في صندوق حديد مثلا ووضع في النار أو لف في ثوب وضرب بالسياط حتى تخرق الثوب فالروح بمنزلة هذا الشخص والجسد بمنزلة الصندوق أو الثوب وعلى القول بأن لكل شيء حياة لائقة به لا يلزم التعذيب أيضا إذ ليس كل حي تؤلمه النار واعتبر ذلك بالسمند وبالنعامة وكذا بخزنة جهنم وحياتها وعقاربها والعياذ بالله عز و جل ومنهم من يقول : إن البدن يعدم لا إنه تتفرق أجزاؤه فقط ثم يعاد للحشر بعينه ومنهم من يقول يعدم ثم يخلق يوم القيامة مثله فتقوم فيه الروح أو تتعلق به واستدل للقول الأول بقوله تعالى : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإنه ظاهر في أن العظام لا تعدم ذواتها في الخارج ولا يكاد يفهم من الرميم أكثر من تفرق الأجزاء وكأن المنكرين استبعدوا جمعها فأشير إلى دفع اسبعادهم بأن الإنشاء أبعد وقد وقع ثم دفع ما عسى يتوهم من أن اختلاط الأجزاء بعد تفرقها وعودها إلى عناصرها يوجب عدم تمييزها فلا يتيسر جمعها بقوله سبحانه : وهو بكل خلق عليم ثم أشير إلى دفع ما يتوهم من أن الإنشاء كان تدريجيا نقلت فيه الأجزاء من حالة إلى حالة حتى حصل استعدادها للحياة ومناسبتها للروح ولا كذلك ما يكون
(23/58)
يوم القيامة فلا مناسبة بين الأجزاء التي تجمع وبين الروح والحياة فلا يلزم من صحة الإنشاء صحة الحشر بقوله تعالى : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وحيث كان هذا معروفا بينهم يشاهده الكبير والصغير منهم أشار سبحانه إلى الدفع به وإلا فإنشاؤه تعالى لما يكون بالتولد من الحيوان كالفار والذباب دافع لذلك
ومن الناس من زعم أن ما يكون قبيل الساعة من الزلازل وإنزال مطر كمني الرجال ونحو ذلك لتحصيل استعداد للروح في تلك الأجزاء وهو مما لا يحتاج إلى التزامه وكذا استدل لذلك القول بما أرشد إليه إبراهيم عليه السلام حين قال رب أرني كيف تحيي الموتى وبقوله تعالى : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه إلى غير ذلك من الآيات وفي الأخبار ما يقتضيه أيضا واستدل لدعوى أن البدن يعدم ذاتا في القول الثاني بقوله سبحانه كل شيء هالك إلا وجهه وقوله تعالى : كل من عليها فان ورد بأنه يجوز أن يكون التفرق هلاكا بل قال بعض المحققين : إن معنى الآية كل شيء ليس بموجود في الحال في حد نفسه إلا ذات الواجب تعالى بناء على أن وجود الممكن مستفاد من الغير فلا وجود فيه مع قطع النظر عن الغير بخلاف وجود الواجب تعالى فإنه من ذاته سبحانه بل عين ذاته ويقال نظير ذلك في الآية الثانية لو سلم دخول البدن في عموم من واستدل لدعوى أنه يخلق يوم القيامة مثله في القول الثالث بقوله تعالى : أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وأجيب ان المراد مثلهم في الصغر والقماة على ما سمعت فيما تقدم ولا يراد أنه تعالى قادر على أن يخلق يوم القيامة مثل أبدانهم التي كانت في الدنيا ويعيد أرواحهم إليها إذ لا يكاد يفهم هذا من الآية ولا داعي لالتزام القول بأن الحشر بخلق مثل البدن السابق وإن قيل بأن ذلك البدن تعدم ذاته في الخارج ومن الناس من توهم وجوب التزامه أن قيل بذلك لاستحالة إعادة المعدوم
واستدل على الإستحالة بأن لو لزم تخلل العدم بين الشيء ولفسه وهو محال
ورد بناء على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود بأنا لا نسلم أن التخلل ههنا محال لأن معناه أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه الوجود في زمان آخر ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الإتصال بين زماني الوجود ولا استحالة فيه لوجود الطرفين المتغايرة بالذات إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الإتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجودا ولم يكن نفسه موجودا ثم يوجد نفسه وههنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر ثم اتصف بالوجود مع نفسه في الزمان الثالث فلم يتحقق قطع الإتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة وهل هذا إلا كلبس شخص ثوبا معينا ثم خلعه ثم لبسه واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لجاز إعادته مع مثله من كل وجه واللازم باطل لأن المتماثلين إما أن يكون أحدهما معادا دون الآخر وذلك باطل مستلزم للتحكم والترجيح بلا مرجح وأما أن يمكونا معادين وهو أيضا باطل مستلزم لاتحاد الإثنين وإما أن لا يكون شيء منهما معادا وهو أيضا باطل مستلزم خلاف المفروض إذ قد فرض كون أحدهما معادا وفيه أنه لا يتم الإثبات فقدان الذات وبطلان الهوية فيما بين الوجودين السابق واللاحق فإنه مدار لزوم التحكم ويجوز أن يقال : الشيء إذا عدم في الخارج بقي في نفس الأمر بحسب وجوده الذهني فيحفظ وحدته الشخصية بحسب ذلك الوجود كما لو كان متميزا ثابتا في العدم ثبوتا منكفا عن الوجود الخارجي كما
(23/59)
ذهب إليه المعتزلة وموافقوهم وزعم أن وحدته الشخصية غير محفوظة في الذهن إذ لا وحده بدون الوجود ولا وجود بدون التشخص سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا والهوية الذهنية إنما تكون موجودة في الذهن بمشخصاتها الذهنية وهي بتلك المشخصات ليست هوية خارجية وإلا لزم اتصاف الهوية الخارجية بالعوارض المختصة بالوجود الذهني وهو ضروري البطلان بل بشرط تجدريها عنها وقولهم باتحادها معها بمعنى أنها بعد التجريد عنها فليست إياها مطلقا بالفعل يتجه عليه أنه ليس معنى تجريد الهوية عن مشخصاتها جعلها خالية عنها في الواقع بل معناه قطع النظر عنها وعدم اعتبارها ولا يلزم من عدم اعتبارها اعتبار عدمها فضلا عن عدمها في الواقع وقطع النظر لا يمنع من الإتحاد في الواقع والقول بأن قولنا : هذا معاد وهذا مبدأ قضية شخصية خارجية يتوقف صدقها على وجود الموضوع في الخارج لا ذهنية يكفي في صدقها وجود الموضوع في الذهن فقط فلا بد من انخفاظ الوحدة في الخارج ولا يكفي انخفاظها في الذهن يتجه عليه أن صدق الحكم الذهني كاف في اندفاع التحكم فتدبر وقيل : كما أن المعدوم موجود في الذهن كذلك المبتدأ المفروض موجود فيه أيضا فليست نسبة الموجود الثاني إلى المعدوم السابق أولى من نسبته إلى المبتدأ المفروض وتعقب بأن فيه بحثا أما على مذهب الفلاسفة فلأن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبقة للفلاك عندهم بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها بزعمهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد عدمه بخلاف المستأنف فإنه ليس له تلك الصورة قبل وجوده بصورته الجزئية فإذا وجد بتلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا وجد بالصورة الكلية كان مستأنفا وأما على مذهب الأشاعرة من المتكلمين فلأن للمعدوم أيضا صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من اتلموجد تعالى شأنه وليس تلك الصورة للمستأنف وجوده فإنها وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصورة الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له سبحانه بواسطة تعلق البصر بالطريق الأولى والقول بأن نسبة الصورة الخيالية وما هو بمنزلتها إلى كل من المعاد والمستأنف سواء أيضا فتكون الوحدة المحفوظة نوعية لا شخصية يلزم عليه أن لا تكون الصورة الخيالية جزئية بل كلية وهو خلاف ما صرحوا
واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لما حصل القطع بحدوث شيء إذ يجوز أن يكون لكل ما نعتقده حادثا وجود سابق يعدم تارة ويعاد أخرى واللازم باطل باتفاق العقلاء وتعقب بأن التجويز العقلي لا ينكر إلا أن الأصل عدم الوجود السابق وبه يحصل نوع من العلم ولعل ذلك من قبيل علمنا بأن جبل أحد لا ينقلب ذهبا مع تجويز العقل انقلابه وبالجملة أدلة استحالة إعادة المعدوم غير سليمة من القوادح كما لا يخفى على من راجع المطولات من كتب الكلام وقد أشير فيما تقدم من الآيات إلى دفع شبهة عدم انخفاظ الوحدة الشخصية بقوله تعالى وهو بكل خلق عليم والذي يترجح من هذه المذاهب أن الحشر بجمع الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وهي إما أجزاء عنصرية أكثرها ترجع إلى التراب وتختلط به كما تختلط سائر الأجزاء بعناصرها أو أجزاء ترابية فقط على ما سمعت فيما تقدم غير بعيد وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه إذ حديث العناصر الأربعة وتركب البدن منها لا سيما حديث عنصر النار لم يصح فيه
(23/60)
شيء من الشارع صلى الله عليه و سلم ولم يذكر في كتب السلف بل هو شيء ولع فيه الفلاسفة على ان أصحاب الفلسفة الجديدة نسمعهم ينكرون كرة النار التي قال بها المتقدمون فالأجزاء الأصلية بعد أن تتفرق وتصير ترابا يجمعها الله تعالى حيث كانت وهو سبحانه بها عليم ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وهذا إن ضم إليه القول بإعادة الصورة التي هي جزء جوهري من الجسم عند القائلين بتركبه منها ومن الهيولي أو العوارض المختصة بالأنواع التي هي جزء من أفرادا النوع كالصورة النوعية الجوهرية كما هو مذهب النافين لتركب الجسم من الهيولي والصورة من المتكلمين يتوقف القول به على جواز إعادة المعدوم وإذا لم يضم إليه ذلك بل اكتفى بالقول بجمع الأجزاء الأصلية العنصرية وتشكيلهابشكل مثل الشكل الأول وتحليتها بعوارض مشابهة للعوارض السابقة لم يتوقف القول به على ذلك أصلا والمغايرة في الشكل وعدم اتحاد العوارض بالذات مما لا يضر في كون المحشور هو المبدأ شرعا وعرفا ولا يلزم على ذلك التناسخ المصطلح كما لا يخفى وفي أبكار الأفكار للآدمي بعد التفصيل المشبع بذكر الآيات والأحاديث الدالة على وقوع المعلاد الجسماني والأدلة السمعية في ذلك لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب وكلها ظاهرة في الدلالة على حشر الأجساد ونشرها مع إمكان ذلك في نفسه فلا يجوز تركها من غير دليل لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها فقد اختلف فيه والحق إمكان كل واحد من الأمرين والسمع موجب لأحدهما من عير تعيين وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها فهل تجب إعادة عين ما تقضي ومضصى من التأليفات في الدنيا أو أن الله تعالى يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر فذهب أبو هشام إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة وإنما يتميز كل واحد من الأجزاء بتعيينه وتأليفه الخاص فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به فذلك الشخص لا يكون هو العائد بل غيره وهو مخالف حينئذ لما ورد به السمع من حشر أجساد الناس على صورهم ومذهب من عداه من أهل الحق أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ولا دليل على التعيين من سمع وغيره وما قيل من أن تعين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه غير مسلم بل جاز أن يكون بلونه أو بعض آخر من الأتليف ومذهب أبي هاشم أنه لا تجب إعادة غير التأليف من الإعراض فما هو جوابه عن غير التأليف فهو جواب لنا في التأليف وما ورد من حشر الناس على صورهم ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما تقضي من التأليف ولا مانع أن يكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا عينه أه
وزعم الإمام إجماع المسلمين على المعاد بجميع الأجزائية بعد افتراقها وليس بذلك لما سمعت من الخلاف في كيفيته وهو مذكور في المواقف وغيره ومسئلة إعادة الأعراض أكثر خلافا من مسئلة إعادة الجواهر فذهب معظم أهل الحق إلى جواز إعادتها مطلقا حتى أن منهم من جوز إعادتها في غير محالها والمعتزلة اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقيا غير متولد واختلفوا في جواز إعادة ما لا بقاء له كالحرارة والأصوات والأرادات فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها وجوزها الأقلون كالبلخي وغيره وذهب إلى عدم جواز إعادة المعدوم مطلقا من المسلمين أبو الحسن البصري وبعض الكرامية ومن الناس من خص المنع فيما عدم ذاتا ووجودا وجوز فيما عدم وجودا وإلى القول بالمعاد الجسماني ذهب اليهود والنصارى على ما نص
(23/61)
عليه الدواني لكن ذكر الإمام في المحل أن سائر الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه و سلم لم يقولوا إلا بالمعاد الروحاني
وقال المحقق الطوسي في تلخيصه : أما الأنبياء المتقدمون على نبينا صلى الله عليه و سلم فالظاهر من كلامهم أممهم أن موسى عليه السلام لم يذكر المعاد البدني ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاؤا بعده كحزقيل وشعيا عليهما السلام ولذا أقر اليهود به وأما الإنجيل فالأظهر أن المذكور فيه المعاد الروحاني وهو مخالف لما سمعت عن الإمام ويخالفهما ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه الموسوم بالمضنون به على غير أهله من أن في التوراة أه أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وأن أهل النار يمكثون بها كذت وأزيد ثم يصيرون شياطين فإنه ظاهر في أن موسى عليه السلام ذكر المعاد الجسماني ونزل عليه في التوراة والحق أن الأناجيل مملوأة مما يدل ظاهرا على أن الإنسان يحشر نفسا وجسما وأما التوراة فليس ما ذكر فيها على سبيل التصريح على ما نقل لي بعض المطلعين من مسلمي أهل الكتاب على ذلك وأنكره الفلاسفة الإلهيون وقالوا بالمعاد الروحاني فقط وهذا الإنكار مبني إما على زعم استحالة المعدوم وفيه ما فيه على استحالة عدم تناهي الأبعاد فإن منهم من قال : الإنسان قديم بالنوع والنفوس الناطقة غير متناهية كالأبدان فلو قيل بالحشر الجسماني يلزم اجتماع الأبدان الغير المتناهية في الوجود غذ لا بد لكل نفس من بدن مستقل فيلزم بعد غير متناه لتجتمع فيه تلك الأبدان الغير المتناهية وقال بعضهم : إن الإنسان إفراده غير متناهية والعناصر متناهية فأجزاؤها لا نفي الأبدان فكيف تحشر وتعقب بأن القدم النوعي للإنسان وعدم التناهي لإفراده مما لا يتم لهم عليه برهان
وقال ابن الكمال : بناء استحالة الحشر الجسماني على استحالة عدم تناهي الأبعاد وهم سبق إليه وهم بعض أجلة الناظرين وليس الأمر كما توهم فإن حشر الأجساد اللازم على تقدير وقوع المعاد الجسماني هو حشر المكلفين من المطيع المستحق للثواب والعاصي المستحق للعقاب لا حشر جميع أفراد البشر مكلفا كان أو غيره فإنه ليس من ضروريات الدين لأن الأخبار فيه لم تصل إلى حد التواتر ولم ينعقد عليه الإجماع وقد نبه عليه المحقق الطوسي في التجريد حيث قال : والسمع دل عليه ويتناول في المكلف بالتفريق وقال الشارح : يعني لا إشكال في غير المكلفين فإنه يجوز أن ينعدم بالكلية ولا يعاد وأما بالنسبة إلى المكلفين فإنه يتأول العدم بتفريق الأجزاء
وفي تلخيص المحصل أيضا حيث قال : وقال القائلون بإمكان إعادة المعدوم أن الله تعالى يعدم المكلفين ثم يعيدهم ونبه على ذلك أيضا الأدمي في أبكار الأفكار حيث قرر الخلاف في إعادة المكلف ولا خفاء في أن عدم تناهي جميع أفراد البشر لا يستلزم عدم تناهي المكلفين منهم ليحتاج أمر حشرهم إلى الأبعاد الغير المتناهية أه
والحق الطعن في قولهم بالقدم النوعي وعدم تناهي أفراد الإنسان وبرهان التطبيق متكفل عندنا بإبطال الغير المتناهي اجتمعت أجزاؤه في الوجود أم لم تجتمع ترتبت أم لم تترتب وأما قصر الحشر على المكلفين دون غيرهم من المجانين والصغار والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم فليس بشيء والأخبار في ذلك كثيرة ولعلها من قبيل المتواتر المعنوي على أنها لو لم تكن كذلك لا داعي إلى عدم اعتبارها والقول بخلاف ما تدل عليه كما لا يخفى وذهب القدماء الفلاسفة الطبيعيين إلى عدم ثبوت شيء من الحشر الجسماني والحشر الروحاني ويحكى ذلك عن التناسخية ما عدا اليهود والتناسخ عندهم غير مستمر بل يقع للنفس الوحدة ثلاث مرات على ما قيل
(23/62)
وحكى عن جالينوس التوقف في أمر الحشر فإنه قال : لم يتبين لي أن النفس هل هي الزاج الذي ينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد النبية فيمكن المعاد والمشركون في شك منه مريب ولذا ترى كلامهم مضطربا فيه والمسلمون مجمعون على وقوعه إلا أنهم مختلفون كما سمعت في كيفيته وكذا هم مختلفون في وجوبه سمعا أو عقلا فأهل السنة على وجوبه سمعا مطلقا والمعتزلة على أنه للمكلفين واجب عقلا لوجوب الثوب على الطاعة والعقاب على المعصية عندهم وكل من الأمرين يتوقف على الحشر وفيه نظر والله تعالى أعلم وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب علية وتضمنت أدلة جليلة جلبة ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أكمل الرسل وأن طريقه أوضح السبل وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى لتنذر الخ ثم بينه إجمالا أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب وتممه بضرب المثل مدمجا فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب والمنزل عليه وتفضيلهما على الكتب والرسل والتنبيه على ثانيا بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات وأوثر الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة وضمن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه والحذر من الركون إلى من سواه ثم بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد بما ينال في المعاد وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك وذكر غايتهما ولخص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء حيث قدم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان وضمن فيه أن أساسها التوحيد وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابيا في المقدمات ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه عز و جل لا يتعاظمه شيء ولا ينقص خزائنه عطاء وأنه لا يخرج عن ملكته من قربه قبول أو بعده أباء تحقيقا لكل ما سلف على الوجه الأتم ولما كان كلاما صادرا على مقام العظمة والجلال وجب أن يراعي فيه نكتة الإلتفات في قوله تعالى وإليه ترجعون ليكون إجمالا لتوضيح التفصيل كذا قرره صاحب الكشف والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل
ومن باب الإشارة قيل إن قوله سبحانه يس إشارة إلى سيادته عليه الصلاة و السلام على جميع المخلوقات فالسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة وهي ههنا جميع الخلق فكأنه قيل : يا سيد الخلق وتوليته عليه الصلاة و السلام عاليهم لأنه الواسطة العظمى في الإفاضة والإمداد وفي الخبر الله تعالى المعطي وأنا القاسم فمنزلته صلى الله تعالى عليه وسلم بأسره بمنزلة القلب من البدن فما ألطف افتتاح قلب القرآن بقلب الأكوان وفي السين بيناتها وزبرها أسرار لا تحصى وكذا في مجموع يس والقرآن قد يكون إشارة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فقد ذكر الصوفية أنه يشار إلى الإنسان الكامل وكذا الكتاب المبين وعلى ذلك جاء قول الشيخ الأكبر قدس سره : أنا القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني ولا أحد أكمل من النبي عليه الصلاة و السلام وطبق بعضهم قصة أهل أنطاكية على ما في الأنفس بجعل القرية إشارة إلى القلب وأصحابها إشارة إلى النفس وصفاتها والإثنين إشارة إلى الخاطر الرحماني والإلهام الرباني والثالث المعزز به إشارة إلى الجذبة والرجل الجائي من أقصى المدينة إشارة إلى الروح وطبق كثيرا من آيات هذه السورة
(23/63)
على هذا الطرز وقيل : في قوله سبحانه طائركم معكم إنه إشارة إلى استعدادهم الشيء الذي طار بهم عنقاء مغربة
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وقيل : في أصحاب الجنة في قوله تعالى : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكؤن إنه إشارة إلى طائفة من المؤمنين كان الغالب عليهم في الدنيا طلب الجنة ولذا أضيفوا إليها وهم دون أهل الله تعالى وخاصته الذين لم يلتفتوا إلى شيء سواه عز و جل فأولئك مشغولون بلذائذ ما طلبوه وهؤلاء جلساء الحضرة المشغولون بمولاهم جل شأنه المتنعمون بوصاله ومشاهدة جماله وفرق بين الحالين وشتان ما بين الفريقين ولذا قيل : أكثر أهل الجنة البله فافهم الإشارة
والشيطان في قوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إشارة إلى كا ما يطاع ويذل له غير الله عز و جل كائنا ما كان وعداوته لما أنه سبب الحجاب عن رب الأرباب وفي قوله تعالى فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون إشارة إلى أنه لا ينبغي إلا كتراث بإذى الأعداء والإلتفات إليه فإن الله تعالى سيجازيهم عليه إذا أوقفهم بين يديه هذا ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من شر الأشرار وأن ينور قلوبنا بمعرفته كما نور قلوب عباده الأربرار ونصلي ونسلم على حبيبه قلب جسد الأعهيان وعلى آله وصحبه ما دامت سورة يس قلب القرآن
سورة الصافات
مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة واحدة وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون إنهم إليهم لا يرجعون وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عز و جل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا
1
- إقسام من الله تعالى بالملائكة عليهم السلام كما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبي أبو مسلم ذلك وقال : لا يجوز حمل اللفظ وكذا ما بعد على الملائكة لأن اللفظ مشعر بالتأنيث والملائكة مبرؤن عن هذه الصفة وفيه أن هذا معنى جمع الجمع فهو جمع صافة أي طائفة أو جماعة صافة ويجوز أن يكون تأنيث المفرد باعتبار أنه ذات ونفس والتأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم وأما اللفظي فلا مانع منه كيف وهم المسمون بالملائكة والوصف المذكور منزل منزلة اللازم على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أي الفاعلات للصفوف أو المفعول محذوف أي الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم 9 وذلك باعتبار تقدم الرتبة والقرب
(23/64)
من حظيرة القدس أو الصافات أنفسها القائمات صفوفا للعبادة وقيل : الصافات أقدامها للصلاة وقيل : الصافات أجنحتها في الهواء منتظرات أمر الله تعالى وقيل : المراد بالصافات الطير من قوله تعالى والطير صافات ولا يعول على ذلك و صفا مصدر مؤكد وكذا زجرا في قوله تعالى فالزاجرات زجرا
2
- وقيل : صفا مفعول به وهو مفرد أريد به الجمع أي الصافات صفوفها وليس بذاك والمراد بالزاجرات الملائكة عليهم السلام أيضا عند الجمهور والزجر في الأصل الدفع عن الشيء بتسلط وصياح وأنشدوا : زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم ويستعمل بمعنى السوق والحث وبمعنى المنع والنهي وإن لم يكن صياح والوصف منزل منزلة اللازم أو مفعوله محذوف أي الفاعلات للزجر أو الزاجرات ما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بإلهام الخير وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وعن قتادة المراد بالزاجرات آيات القرآن لتضمنها النواهي الشرعية وقيل كل ما زجر عن معاصي الله عز و جل والمعول عليه ما تقدم وكذا المراد كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في قوله تعالى : فالتاليات ذكر
3
- الملائكة عليهم السلام
و ذكرا نصب علىانه مفعول وتنوينه للتفخيم وهو بمعنى المذكور المتلو وفسر بكتاب الله عز و جل
قال أبو صالح : هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله عز و جل إلى الناس فالمراد بتلاوة تلاوته على الغير وفسره بعضهم بالآيات والمعارف الإلهية والملائكة يتلونهما على الأنبياء والأولياء وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ما يتعلق بتلاوة الملائكة ذلك على الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم وقال بعض : أي فالتاليات آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد ولعل التلاوة على هذا أعم من التلاوة على الغير وغيرها وقيل ذكرا نصب على أنه مصدر مؤكد على اللفظ لتكون المنصوبات على نسق واحد وقال قتادة : التاليات ذكرا بنو آدم يتلون كتابه تعالى المنزل وتسبيحه وتكبيره وجوز أن يكون الله تعالى أقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات أو أقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه أو بطوائف قواد الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف في مواطن الحروب الزاجرات الخيل للجهاد سوقا أو العدو في المعارك طردا التاليات آيات الله سبحانه وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك
وجوز أيضا أن يكون أقسم سبحانه بطوائف الأجرام الفلكية المرتبة كالصفوف المرصوصة بعضها فوق بعض والنفوس المدبرة لتلك الأجرام بالتحريك ونحوه والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم الملائكة الكروبيون ونحوهم وهذا بعيد بمراحل عن مذهب السلف الصالح بل عن مذهب أهل السنة مطلقا كما لا يخفى والفاء العاطفة للصفات قد تكون لترتيب معانيها الوصفية في الوجود الخارجي إذا كانت الذات المتصفة بها واحدة كما في قوله : يا لهف زيابة للحادث السابح فالغانم فالآيب
(23/65)
أي الذي صبح فغنم فآب ورجع أو لترتيب معانيها في الرتبة إذا كانت الذات واحدة أيضا كما في قولك : أتم العقل فيك إذا كنت شابا فكهلا أو لترتيب الموصوفات بها في الوجود كما في قولك : وقفت كذا على بني بطنا فبطنا أو في الرتبة نحو رحم الله تعالى المحلقين فالمقصرين وكلاهما مع تعدد الموصوف والترتيب الرتبي إما باعتبار الترقي أو باعتبار التدلي وهي إذا كانت الذات المتصفة بالصفات هنا واحدة وهم الملائكة عليهم السلام بأسرهم تحتمل أن تكون للترتيب الرتبي باعتبار الترقي فالصف في الرتبة الأولى لأنه عمل قاصر والزجر أعلى منه لما فيه من نفع الغير والتلاوة أعلى لما فيها من نفع الخاصة الساري إلى نفع العامة بما فيه صلاح المعاش والمعاد أو للترتيب الخارجي من حيث وجود ذوات الصفات فالصف يوجد أولا لأنه كمال للملائكة في نفسها ثم يوجد بعده الزجر للغير لأنه تكميل للغير يستعد به الشخص مالم يكن في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناء على أنها إفاضة على الغير المستعد لها وذا لا يتحقق إلا بعد حصول الإستعداد الذي هو من آثار الزجر وإذا كانت الذات المتصفة بها من الملائكة عليهم السلام متعددة بمعنى أن صنفا منهم كذا وصنفا آخر كذا فالظاهر أنها للترتيب الرتبي باعتبار الترقي كما في الشق الأول فالجماعات الصافات كاملون والزاجرات أكمل منها والتاليات أكمل وأكمل كما يعلم مما سبق وقيل يجوز أن يكون بعكس ذلك بأن يراد بالصافات جماعات من الملائكة صافات من حول العرش قائمات في مقام العبودية وهم الكروبيون المقربون أو ملائكة آخرون يقال لهم كما ذكر الشيخ الأكبر قدس سره المهيمون مستغرقون بحبه تعالى لا يدري أحدهم أن الله عز و جل خلق غيره وذكر أنهم لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام لعدم شعورهم باستغراقهم به تعالى وأنهم المعنيون بالعالين في قوله تعالى : أستكبرت أم كنت من العالين وبالزاجرات جماعات أخر أمرت بتسخير العلويات والسفليات وتدبيرها لما خلقت له وهي في الفضل على ما لها من النفع للعباد دون الصافات وبالتاليات ذكرا جماعات أخر أمرت بتلاوة المعارف على خواص الخلق وهي لخصوص نفعها دون الزاجرات أو المراد بالزاجرات الزاجرات الناس عن القبيح بالهام جهة قبحه وما ينفر عن ارتكابه وبالتاليات ذكرا المهمات للخير والجهات المرغبة فيه ولكون دفع الضر أولى من جلب الخير ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح ولذا قيل التخلية بالخاء مقدمة على التحلية كانت التاليات دون الزاجرات وحال الفاء على سائر الأقوال السابقة في الصفات لا يخفى على من له أدنى تأمل ويجوز عندي والله تعالى أعلم أن يراد بالصفات المصطفون ببعبادة من صلاة ومحاربة كفرة مثلا ملائكة كانوا أم أناسي أم غيرهما وبالزاجرات الزاجرون على ارتكاب المعاصي بأقوالهم أو أفعالهم كائنين من كانوا وبالتاليات ذكرا التالون لآيات الله تعالى على الغير للتعليم أو نحوه كذلك ولا عناد بين هذه الصفات فتجمع في بعض الأشخاص ولعل الترتيب على سبيل الترقي باعتبار نفس الصفات فالإصطفاف للعبادة كمال والزجر عن ارتكاب المعاصي أكمل والتلاوة لآيات الله تعالى للتعليم لتضمنه الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والتخلي عن الرذائل والتحلي بالمعارف إلى أمور أخر أكمل وأكمل وجعل الصفات المذكورة لموصوف وأحد من الملائكة على ما مر بأن تكون جماعات منهم صافات بمعنى صافات أنفسها في سلك الصفوف بالقيام في مقاماتها المعلومة أو القائمات صفوفا للعبادة وتاليات ذكرا بمعنى تاليات الآيات بطريق الوحي على الأنبياء
(23/66)
أن تعدد الملائكة التالين للوحي سواء كان صنفا مستقلا أم لا مما يشكل عليه ما ذكره غير واحد أن الأمين على الوحي التالي للذكر على الأنبياء هو جبريل عليه السلام لا غير نعم من الآيات ما ينزل مشيعا بجمع من الملائكة عليهم السلام ونطق الكتاب الكريم بالرصد عند الوحي وهذا أمر والتلاوة على الأنبياء عليهم السلام أمر آخر فتأمل جميع ذلك وفي المراد بالصفات المتناسقة احتمالات غير ما ذكر فلا تغفل
وأما ما كان فالقسم بتلك الجماعات أنفسها ولا حجر على الله عز و جل فليه سبحانه أن يقسم بما شاء فلا حاجة إلى القول بأن الكلام على حذف مضاف أي ورب الصافات مثلا والآية ظاهرة الدلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى من أن الواو الثانية وما بعدها للعطف خلافا لمذهب غيرهما من أنها للقسم لوقوع الفاء فيها موقع الواو إلا أنها تفيد الترتيب وأدغم ابن مسعود ومسروق والأعمش وأبو عمرو وحمزة التاآت الثلاث فيما يليها للتقارب فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا
إن إلهكم لواحد
4
- جواب للقسم وقد جرت عادتهم على تأكيد ما يهتم به بتقديم القسم ولذا قدم ههنا فلا يقال : إنه كلام مع منكر مكذب فلا فائدة في القسم وما قيل من أن وحدة الصانع قد ثبتت بالدليل النقلي بعد ثبوتها بالعقل ففائدته ظاهرة هنا غير تام لأن الكلام مع من لا يعترف بالتوحيد وقد أشير إلى البرهان في قوله سبحانه رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق
5
- فإن وجودها على هذا النمط البديع أوضح دليل علة وحدته عز و جل بل في كل ذرة من ذرات العالم دليل على ذلك
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ورب خبر ثان لأن على مذهب من يجوز تعدد الأخبار أو خبر مبتدأ محذوف أو هو رب السماوات الخ
وجوز أبو البقاء وغيره كونه بدلا من واحد فهو المقصود بالنسبة أي خالق السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات ويدخل في عموم الموصول أفعال العباد فتدل الآية على أنها مخلوقة له تعالى ولا ينافي ذلك كون قدرة العبد مؤثرة بإذنه عز و جل كما ذهب إليه معظم السلف حتى الأشعري نفسه في آخر الأمر على ما صرح به بعض الأجلة وفسر بعضهم الرب هنا بالملك وبالربى ولعل الأول أظهر وفي دلالة الآية على كون أفعال العباد مخلوقة له على ذلك بحث والمراد بالمشارق عند جمع مشارق الشمس لأنها النعروفة الشائعة فيما بينهم وهي بعدد أيام السنة فإنها في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب من مغرب فالمغارب متعددة تعدد المشارق وكأن الإكتفاء بها لاستلزامها ذلك مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة ولهذا استدل به إبراهيم عليه السلام عند محاجة النمروذ وعن ابن عطية أن مشارق الشمس مائة وثمانون ووفق بعضهم بين هذا وما يقتضيه ما تقدم من مضاعفة العدد بأن مشارقها من رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان فإن اعتبر ما كانت عليه وما عادت إليه واحد كانت مائة وثمانين وإن نظر إلى تغايرهما كانت ثلثمائة وستين وفي هذا إسقاط الكسر فإن السنة الشمسية تزيد على ذلك العدد بنحو ستة أيام على ما بين في موضعه وفسرت المشارق أيضا بمشارق الكواكب ورجح بأنه المناسب لقوله تعالى بعد أنا زينا الخ للسيارات منها متفاوتة في العدد وأكثرها مشارق على ما هو المعروف عند المتقدمين زحل ومشارقه إلى أن يتم دورته أكثر من مشارق الشمس إلى أن تتم دورتها بألوف ومشارق الثوابت إلى أن تتم الدورة أكثر وأكثر فلا تغفل وتبصر وتثنية المشرق والمغرب في قوله تعالى رب المشرقين ورب
(23/67)
المغربين على إرادة مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما وإعادة رب هنا مع المشارق ولغاية ظهورها آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم أنا زينا السماء الدنيا أي أقرب السماوات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى بمعنى أقرب أفعل تفضيل بزينة عجيبة بديعة الكواكب
6
- بالجر بدل من زينة بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة : فكأن أجرام النجوم لوامعا درر نثرن على بساط أزرق وجوز أن تكون عطف بيان وقرأ الأكثرون بزينة الكواكب بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كا ما يزان به فتقع الكواكب بيانا لها ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجوز أن تكون الزينة مصدرا كالنسبة وإضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب وقرأ ابن وثاب ومسروق بخلاف عنهما والأعمش وطلحة وأبو بكر بزينة منونا الكواكب نصبا فاحتمل أن يكون زينة مصدرا والكواكب مفعول به كقوله تعالى أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح أعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة وأيضا ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة واحتمل أن يكون الكواكب بدلا من السماء بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر كما قرروه في قوله تعالى قتل أصحاب الأخدود النار
وقيل : اللام بدل منه وجوز كونه بدلا من محل الجار أو المجرور وحده على القولين وكونه منصوبا بتقدير أعني وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بزينة منونا الكواكب رفعا على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة وزعم الفراء أنه ليس بمسموع وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض وحكى النيسابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم السلام وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين وحفظا نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على زينا أي وحفظناها حفظا أو عطف على زينة باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا لها والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضع وغير عطف التوهم
(23/68)
وجوز كونه مفعولا له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها وقوله تعالى : من كل شيطان مارد
7
- متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجرا أمرد إذا تعرى من الورق ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر وفسر هنا أيضا بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها وقوله تعالى : لا يسمعون إلى الملأ الأعلى أي لا يتسمعون هذا أصله فأدغمت التاء في السين وضمير الجمع لكل شيطان لأنه بمعنى الشياطين
وقرأ الجمهور لا يسمعون بالتخفيف والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملؤن العيون رواء النفوس جلالة وبهاء ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقا والمراد بالملأ الأعلى الملائكة عليهم السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل
وقال ابن عباس : هم أشراف الملائكة عليهم السلام وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي
وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وحفص بناء على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن وقيل لا يحتاج إلى اعتبار التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتصمع بمعنى طلب السماع وقيل : ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع وقوعه منهم حتى قيل : إنه يركب بعضهم بعضا لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا على طلب السماع وقال أبو حيان : إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع
وقال ابن كمال : عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الإنتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ الأعلى وليس بذلك كما لا يخفى على المتأمل الصادق والجملة في المشهور مستأنفة استئنافا نحويا ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع مع إيهامه لعدم الحفظ عمن عداها وكذا لم يجوز كونها استئنافا بيانيا واقعا جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية وكذا كونها حالا مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السماوات ممن لا يسمع أو لا يسمع بسبب هذا الحفظ وهو نظير ثم أرسلنا رسلنا وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة قوله عليه الصلاة و السلام من قتل قتيلا فله سلبه من مجاز الأول وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروبا بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافا بيانيا أيضا ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال : المعنى لا يمكنون من السماع
(23/69)
مع الإصغاء أو لا يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك ولا بد من ذلك جعلت الجملة وصفا أو لا جمعا بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذ يكون الوصف شديد الطباق ورد الإستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله سبحانه وحفظا من كل شيطان مارد مما يحرك الذهن له فقيل لا يسمعون جوابا عما يكون عنده ويقذفون لكيفية الحفظ وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس بمنقطع معنى انتهى
واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتا تاما تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع وقوله سبحانه : إلا من خطف الخ ينادي على صحته والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار أن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد وقيل : إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظا فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان منهما واقعا في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه وأبو البقاء يجوز الجملة صفة وكونها استئنافا وكونها حالا فلا تغفل
ويقذفون أي يرمون ويرجمون من كل جانب
8
- من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها وليس المراد أن كل واحد يرمي من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمى منه
وقرأ محبوب عن أبي عمرو يقذفون بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة وجوز أن يكون الكواكب وأمر ضمير العقلاء سهل وقوله تعالى دحورا مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوسا لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحورا مقام قذفا أو يقذفون مقام يدحرون وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير يقذفون على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين وجوز كونه جمع داحر بمعنى مدحور كقاعد وقعود وكونه داحر من غير تأويل بناء على القراءة الأخرى وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور وقرأ السلمي وابن أبي عبلة والطبراني عن أبي جعفر دحورا بفتح الدال فاحتمل كونه نصبا بنزع الخافض أيضا وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولا بالفتح بمعنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفا دحورا طاردا لهم وأن يكون مصدرا كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكى عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط والرسول بمعنى الرسالة
(23/70)
ولم أي في الآخرة عذاب آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب واصب
9
- أي دائم كما قال قتادة وعكرمة وابن عباس وأنشدوا لأبي الأسود
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا وفسره بعضهم بالشديد وقيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه والآية على ما سمعت كقوله تعالى : وأعتدنا لهم عذاب السعير وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائما وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع إلا من خطف الخطفة استثناء متصل من واو يسمعون و من بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه وقال ابن مالك : إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي وذكره في البحر هنا وجها ثانيا وقيل : هو منقطع على أن من شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك والخطف الإختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية وجوز أن تكون مفعولا به على إرادة الكلمة وقرأ الحسن وقتادة خطف بكسر الخاء والطاء مشددة قال أبو حاتم : ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للإتباع وحذفت ألف الوصل للإستغناء عنها وقريء خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لالقاء حركة التاء عليها وأما كسر الطاء فلا وجه له وقيل في توجيهها : إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى وعن ابن عباس خطف بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في البحر حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم فأتبعه أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال بمعنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد شهاب هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء ثاقب
10
- مضيء كما قال الحسن وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاشي أنه قال : يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال : ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوؤه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد الثاقب المتوقد وهو قريب مما تقدم
وأخرج عن السدي الثاقب المحرق وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لانتقصت زينة السماء بل لم تبق على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمى به إلى الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بأجرام الكواكب والمشاهدة تكذيب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلا
وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم
(23/71)
أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمى به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه : إنه حينئذ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض وأيضا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطا أو صاعدا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أو ذهابها بالكلية وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك وأمر انقضاضه نفسه أو أنفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وإنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والإلتئام إلى أمور أخر ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارا ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زمانا كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمى بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقا وفي النصوص الإلهية رجوم لهم ولعل أقرب الإحتمالات في أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء متكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الإشتعال بما يقع عليه من شعاع الكواكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب وإن شئت قلت : إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيستعل فيحصل ما يحصل وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قابل الإحرق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء ويقال : إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك مسترق ويمكن أن يقال : إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عز و جل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عز و جل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضا
وإن شئت قلت : إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق والله عز و جل قادر على أن يحرق بالماء ويرى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداء عند الأشاعرة ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الإحتمالات قلنا : إنه عز و جل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين لأن جعلها رجوما يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع أشعتا على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الإعتبار ولا يتوقف جعلها رجوما على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها وهذا كما تقول : جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق وزعم بعض الناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة
(23/72)
إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكوكب للأرض قال سبحانه : وجعلناها رجوما على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه الصلاة و السلام خبر وقيل : يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة السماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين كذلك وقيل : يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما هي مزينة بالكواكب وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا زينة الكواكب وقوله سبحانه : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح إلا شيء واحد وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم والقول بأنه إطلاق الكواكب على الشهابية للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه نعم يجوز أن يقال : إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارا ورؤي منقضا ولا يعجز الله عز و جل شيء وقد يقال : إن في السماء كواكب صغارا جدا غير مرتئة ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمى بها أنفسها وقوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين من باب عندي درهم ونصفه و إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا الآية إن كان على معنى وحفظا بها فهو من ذلك الباب أيضا وإلا فالأمر أهون فتدبر
واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشعاب إذا أصابه أو يتأذى به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك ولا يأبى تأثير الشهاب فيهم كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها وأيا ما كان لا يقال : إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل منهم لأنا نقول : لا نسلم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الإنقضاض ليس دليلا عليه لأن الإنقضاض يكون للإستراق ويكون لغيره فقد أشرنا فيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصة فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق وقيل : يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكال يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكال السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولا فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين ويجوز أن يقع أحيانا ممن حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حبا لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثل كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبا لمثل ذلك ولعل في وصف الشيطان بالمراد ما يستأنس به لهذا الإحتمال وأما ما قيل : إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا فخىف المأثور فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ
(23/73)
في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إذا رمى بالشهاب لم يخطيء من رمي به ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد ياليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال : انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظرو فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتي خبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال : إنه حدث بعد عشرين يوما من مبعثه والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة و السلام وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا أنه يحتمل أنه لم يكن طاردا للشياطين وأن يكون طاردا لهم لكن لا بالكلية وأن يكون طاردا لهم بالكلية وعلى هذا لا يتأتى الإحتمال السابق وعلى الإحتمال الأول من هذه الإحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردا لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق عند الندرة وشدد في بدء البعثة وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السماوات قبل عيسى عليه السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سماوات ولما ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حجب عنها كلها وقذف الشياطين بالنجوم فقالت قريش : قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة : انظروا إلى العيون فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا وقال بعضهم : اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى ملئت حرسا شديدا وشهبا ولم يقل حرست وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الأعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الإستراق بأمور منها أن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم وإذا قيل : إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على محدبها والشياطين تسترق مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فطيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس يسمع من مسيرة خمسمائة عام وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء
وأجيب بأن الإستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم أمروا به من السماء من الحوادث الكونية و لمسنا السماء طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون فيخبرونهم وليس الإستراق من الملائكة الذين على محدب السماء وأمر كرة النار لا يصح والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كان أعون على السماع وعلى أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماء على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمو أن الإستراق من الملائكة في السماء قال : إذا قضى الله تعالى أمرا تكلم تبارك وتعالى فتخر
(23/74)
الملائكة كلهم سجدا فتحسب الجن أن أمرا يقضي فتسترق فإذا فزع عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا رؤسهم قالوا : ماذا قال ربكم قالوا جميعا : الحق وهو العلي الكبير وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم التيمي إذا أراد ذو العرش أمرا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا : ماذا قال ربكم قال من شاء الله : الحق وهو العلي الكبير ولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضا أن الإستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك الأصول الأشعرية ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك ليس عدم الحجب أغرب منها
ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه أو جعل مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الإبتلاء وفيه أيضا من الحكم ما فيه ولا يخفى أن هذا الإشكال يجري في أشياء كثيرة إلا كون الصانع حكيما وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خاق وأمر على أتم وجه حتى قيل ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين العلماء المحققين
فاستفتهم أي فاستخبرهم وأصل الإستفتاء الإستخبار غن أمر حدث ومنه الفتي لحداثة سنه والضمير لمشركي مكة وقيل : والآية في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت أهم أشد خلقا أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجادا أم من خلقنا من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب وتعريف الموصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والإستفهام تقريري وجوز أن يكون إنكاريا وفي مصحف عبد الله أم من عددنا وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها وقرأ الأعمش أمن بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاما ثانيا تقريريا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد إنا خلقناهم من طين لازب
11
- أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير وجماعة عن ابن عباس وفي رواية أخرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة : فلا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب قيل : والمراد ملتزق بعضه ببعض وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن جيد التخمير وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه يلزق باليسد إذا مس بها وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم وقد قريء لازم بالميم بدل الباء و لاتب بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد وحكى في
(23/75)
البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد وفي رواية أنه قال : اللازب الجيد
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال : لازب أي لازم منتن ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى من حمأ مسنون لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : اللازب والحماء والطين واحد كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله تعالى منه آدم عليه السلام
وأيا ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بالطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث وقوله تعالى : بل عجبت خطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله وبل للإضراب إما عن مقدر يشعر به فاستفتهم الخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو الحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالإستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الإستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها ويسخرون
12
- أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث واختير أن المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسماوات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون من كونه رب السماوات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم : فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنكم لستم أشد خلقا منهم فوضع موضعه فاستفتهم أهم أشد خلقا وقوله تعالى : إنا خلقناهم تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقا أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد وأيده بدلالة الإضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الإضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الإهلاك كسالف الأمم وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك وكم من ذلك في الكتاب العزيز وأما الإضراب فعن الإستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه ويسخرون وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل وقرأ حمزة والكسائي وابن سعدان وابن مقسم عجبت بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود والنخعي وابن وثاب وطلحة وشقيق والأعمش
وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم وإنكار هذا القاضي مما أفتى بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة وقد جاء أيضا في الخبر عجب ربكم من الكم وقنوطكم
وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز علي لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لإنكاره لحالهم يعدها أمرا غريبا ثم يثبت له سبحانه العجب منها فعلى الأول تكون الإستعارة
(23/76)
تخييلية تمثيلية كما في قولهم : قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحو لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللزوم فيكون مجازا مرسلا فيحمل العجب على الإستعظام وهو رؤية الشيء عظيما أي بالغا في الحسن أو القبح والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح وليس استعظام الشيء مسبوقا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال : إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الإشكال
وقال أبو حيان : يؤول على أنه صفة يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبا وقال مكي وعلي بن سليمان : ضمير عجبت للنبي عليه الصلاة و السلام والكلام بتقدير القول أي قل بل عجبت وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل عجبت والذي يقاضيه كلام السلف أن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل : إذ ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز و جل وهو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون
وإذا ذكروا لا يذكرون
13
- أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم واستفادة الإستمرار من مقام الذم ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده وقرأ ابن حبيش ذكروا بتخفيف الكاف وإذا رأوا آية أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر يستسخرون
14
- أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في جبل خال يرعى غنما وكان من أقوى الناس فقال له : يا ركانة إن صرعتك أتؤمن بي قال : نعم فصرعه ثلاثا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة و السلام شجرة فأقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي إضرابه وقريء يستيحرون بالحاء المهملة أي يعدونها سحرا وقالوا إن هذا ما يرونه من الآيات الباهرة إلا سحر مبين
15
- ظاهر سحريته في نفسه
إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى : ءإنا لمبعوثون
16
- أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي أنبعث إذا متنا وإن شئت فقدره مؤخرا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقرأ نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية أو آباؤنا الأولون
17
- مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر إن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون
(23/77)
أيضا والجملة معطوفة على الجملة قبلها وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال : قال من نحا إلى هذا المذهب الأصل في هذه المسئلة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد وثاني المذاهب أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما والأضعف العطف ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان : إن همزة الإستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للإستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الإستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الإعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى ما أشركنا ولا آباؤنا
وثالثها أن يكون عطفا على محل إن مع ما علمت فيه والظاهر أنه حيمئذ من عطف الجمل في الحقيقة ورابعها أن يكون عطفا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات
واعترض بأن الرفع كان بالإبتداء وهو عامل معنوي وقد بطل بالعامل اللفظي وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهه بالزائد من حيث أنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط واعترض أيضا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الإبتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى وتمام الكلام في محله وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره وقد قال أبو حيان : إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته وأيا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن عامر ونافع في رواية وقالون أو بالسكون على أنها حرف عطف وفيها الإحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلا قل نعم أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه : وأنتم داخرون
18
- لهم ولآبائهم بطريق التغليب والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه نعم أي تبعثون كلكم والحال إنكم صاغرون أذلاء وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة و السلام لأبي بن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال صلى الله عليه و سلم له على ما في بعض الروايات نعم ويبعثك ويدخلك جهنم وقال غير واحد : إن ذلك من الأسلوب الحكيم وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحا جديدا فلا مشاحة في الإصطلاح واكتفى في الجواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جوازه في قوله سبحانه
(23/78)
فاستفتهم الخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه وإذا رأوا آية الآية وهزؤهم وتسميتهم لها سحرا لا يضر طالب الحق والقول بأن ذلك للإكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء وقرأ ابن وثاب والكسائي نعم بكسر العين وهي لغة فيه وقريء قال أي الله تعالى أو ريوله صلى الله عليه و سلم فإنما هي زجرة واحدة الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة وجوز الزجاج أن تكون للتفسير وما بعدها مفسر للبعث وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به وتفسيرها ما كني عنه بنعم مما لم يعهد والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوي إحضاره من الجملة الحالية وعدم عهد التفسير في مثل ذلك لا جزم لي به
وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال : لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم أما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلافه والحق معهم وهذه الجملة إما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز و جل
فإذا هم ينظرون
19
- أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به وقالوا أي المبعوثون وصيغة الماضي لتحقق الوقوع يا ويلنا أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك هذا يوم الدين
20
- استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل
والدين بمعنى الجزاء كما في تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا وإنما علموا ذلك لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا وقوله تعالى : هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون
21
- كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع وقيل : هو من كلام بعضهم لبعض أيضا ووقف أبو حاتم على يا ويلنا وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهم أجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء احشروا الذين ظلموا خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية : احشروا الخ وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المختلفة إلى موقف الحساب وقيل من الموقف إلى الجحيم والسباق والسياق يؤيدان الأول وأزواجهم أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم وصححه وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم وروي تفسير
(23/79)
الأزواج بذلك أيضا عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال : أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك والواو للعطف أن تكون الممعية وقرأ عيسى ابن سليمان الحجازي وأزواجهم بالرفع عطفا على ضمير ظلموا على ما في البحر أي وظلم أزواجهم
وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مثله والقراءة شاذة وما كانوا يعبدون
22
- من دون الله من الأصنام ونحوها وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل و ما قيل عام في كل معبدو حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية
وقيل ما كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك وقيل ما على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها ولا يناسب هذا تفسير أزواجهم بقرنائهم من الشياطين ومع هذا التخصيص أقرب وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشرك لظلم عظيم فاهدوهم إلى صراط الجحيم
23
- فعرفوهم طريقها وأروهم إياه والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحهة شدة تأجج النار والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم وقفوهم أي احبسوهم في الموقف إنهم مسئولون
24
- عن عقائدهم وأعمالهم وفي الحديث لا تزول قدما عبد حتى يسئل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به وعن ابن مسعود يسئلون عن لا إله إلا الله وعنه أيضا يسئلون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم وروي بعض الإمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسئلون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه ورووه أيضا عن ابي سعيد الخدري وأولى هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال ورأس ذلك لا إله إلا الله ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين
وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى إدخالهم فيه وإيصالهم إليه وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخرا عن بعض وفيه من البعد ما فيه وقيل : إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى ما لكم لا تناصرون
25
- أي لا ينصر بعضكم بعضا والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما منتم تزعنون في الدنيا فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء والتقريع والتوبيخ حيتئذ أشد وقعا وتأثيرا وقيل : السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم السلام أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم إنهم مسؤلون والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم وعطف اهدوهم على احشروا بالفاء
(23/80)
إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم وسؤالهم مالكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجيههم إلى النار والله تعالى أعلم وقرأ عيسى أنهم بفتح الهمزة بتقدير لأنهم وقرأ البزي عن ابن كثير لا تتناصرون بتاءين بلا إدغام وقريء بإدغام إحداهما في الأخرى بل هم اليوم مستسلمون
26
- منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم وأصل الإستسلام طلب السلامة والإنقياد لازم لذلك عرفا فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا للهلاك ويخذله وجوز في الإضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخذلون أو عن قوله سبحانه لا تناصرون أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخلدون وأقبل بعضهم على بعض هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن وروي هذا عن مجاهد وقتادة وابن زيد يتساءلون
27
- يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال قالوا استئناف بياني كأنه قيل : كيف يتساءلون فقيل : قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقا للقرناء إنكم كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين
28
- أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما دنيا واخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية وجعلت اليمين مجازا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابا فشمه ليعرف أنه مسلوك أو لا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك واستظهر بعضهم حمل الكلام على الإستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع تأتوننا عن اليمين لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز وكأن المراد بالخير الإيمان بما يجب الإيمان به وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكي هذا عن الزجاج
وقال الجبائي : المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله وجوز أن تكون اليمين مجازا مرسلا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب ويمكن أن يكون ذلك بطريق الإستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا عن الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل والجار والمجرور في موضع الحال وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى وما ينطق عن الهوى أو هو ظرف لغو وفيه بعد وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين موضع الكبد وهو مخالف لما حكى عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة
(23/81)
اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق من أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة قالوا استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الإضراب عما قالوه بل لم تكونوا مؤمنين
29
- وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتكم لا أنا نحن أضللناكم وقولهم : وما كان لنا عليكم من سلطان أي من قهر وتسلط نسلبكم له اختياركم بل كنتم قوما طاغين
30
- مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض إضلالهم بأنهم لم يجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم وقيل : الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه وقولهم : فحق علينا ربنا إنا لذائقون
31
- تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا : ولأجل أنا جميعا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوما طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز و جل ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضا ولكن ليلم كل منا نفسه ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم والفاء في قولهم : فأغويناكم أي فدعوناكم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقا بهم كان متفرعا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كلا بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الإختيارية لأن الظاهر أن رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم يوم القيامة ومثل هذا يقال في قولهم : إنا كنا غاوين
32
- بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق
ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهم حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم وجوز أن يقال : أنهم نفوا عنهم الإيمان والإعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يوجب الإعتقاد
(23/82)
الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغي مرادا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الإيمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا : كنتم تاركين الإعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته وكثرتها وكنا جميعا قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الإعتقاد الفاسد حبا لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا قال الراغب : هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى وجوز على هذا التقدير أن يكون فأغويناكم مفرعا على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين وقولهم فحق علينا الخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال ويجوز على هذا أن يراد بضمير الجمع في فحق علينا الخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاطبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويوميء إلى زيادة عذابهم ولا يخفى أن تجويز الإعتراض لا يخلو عن اعتراض وتجويز كون الضمير في علينا الخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الإحتمال فتدبر
وأيا ما كان فقولهم إنا لذائقون هو قول ربهم عز و جل ووعيده سبحانه إياهم ولو حكى كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم ونحوه قول القائل : لقد زعمت هوازن قل مالي وهل لي غير ما أنفقت مال ولو حكي قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف وقال بعض الأجلة : قول الرب عز و جل هو قوله سبحانه وتعالى : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين والربط على ما تقدم أظهر فإنهم أي الفريقين المتسائلين والكلام تفريع على ما شرح من حالهم يومئذ أي يوم إذ يتساءلون والمراد به يوم القيامة في العذاب مشتركون
33
- كما كانوا مشتركين في الغواية واستظهر أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة إنا كذلك أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية نفعل بالمجرمين
34
- أي بالمشركين لقوله سبحانه وتعالى : إنهم كانوا إذا قيل لهم بطريق الدعوة والتلقين لا إله إلا الله يستكبرون
35
- عن القبول
وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال الأول أن يكون اإسم الجليل مرفوعا على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الإبتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير وإذا قلنا أن البدل في الإستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان على أن نفي الوجود في هذا
(23/83)
المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الإمكان عمن عداه عز و جل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى
وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى
واختار البازلي تقدير الخبر مؤخرا عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدما يوهم كون الاسم مستثنى مفرغا من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والإسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبرا عن العام
وكون الكلام مسوقا لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعا ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود ولا خلل في صناعة وإنما الخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الإستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز و جل واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لا سيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ وإنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزامه لا تجد لك ثانيا فيه والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا فإن إلها بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في مضروب العمران
وتعقب بمنع أن يكون إله وصفا وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الإيمان لكن المقصود الأهم منها التوحيد ولذا كان المشركون إذا لقنوها أولا يستكبرون وينفرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون
36
- يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلا تاما به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة وفيه نظروكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم بل جاء بالحق وصدق المرسلين
37
- رد عليهم وتكذيب لهم ببيان أن ما جاء به عليه الصلاة و السلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيعة الشأن
(23/84)
وقرأ عبد الله وصدق بتخفيف الدال المرسلون بالواو رفعا أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم إنكم بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة و السلام والإستكبار لذائقوا العذاب الأليم
38
- والإلتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الإكتراث بهم وهو اللائق بالمستكبرين وقرأ أبو السمال وأبان رواية عن عاصم لذائقوا العذاب بالنصب على حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود : فالفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا بجر ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله : الحافظو عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائهم نطف ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ لذائق بالإفراد والتنوين العذاب بالنصب وخرج الإفراد على أن التقدير لجمع ذائق وقيل : على تقدير إن جمعكم لذائق وقريء لذائقون بالنون العذاب بالنصب على الأصل وما تجزون إلا ما كنتم تعملون
39
- أي الإجزاء ما كنتم تعملونه من السيآت أو إلا بما كنتم تعملونه منها إلا عباد الله المخلصين
40
- استثناء منقطع من ضمير ذائقوا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه الخ
ويجوز إن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك وقيل استثناء منقطع من ضمير تجزون على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافا مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا ولا يخفى بعده وأبعد منه جعل الإستثناء من ذلك متصلا بتعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر و المخلصين صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف أولئك أي العباد المذكورون وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل
وهو مبتدأ وقوله تعالى : لهم إما خبر له وقوله سبحانه : رزق مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم و رزق مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الإستثناء إجمالا بيانيا تفصيليا وقوله تعالى : معلوم
41
- أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة فلا يقال : إن الرزق لا يكون معلوما إلا إذا كان مقدرا بمقدار وقد جاء في آية أخرى يرزقون فيها بغير حساب وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلوما وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة وتعقب بأن في جنات بعد يأباه واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فبها لم يكن به بأس وأجيب بأن جعلها مقر الرزوقين لا يلائم جعلها رزقا
(23/85)
وأما إذا كا قيدا للرزق فهو ظاهر الإبار وكون المساكن رزقا للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف وقوله تعالى : فواكه بدل من رزق بدل كل من كل وفيه تنبيه على أنه مع تمييزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الإقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لإحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الإختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه وقيل هو بدل بعض من كل وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها وهم مكرمون
42
- عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولى الهمم ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل
وقيل مكرمون في نيل الرزق يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا
وقريء مكرمون بالتشديد في جنات النعيم
43
- أي في جنات ليس فيها إلا النعيم على أن الإضافة على معنى لام الإختصاص المفيدة للحصر والظرف متعلق بمكرمون أو بمعلوم أو بمحذوف حال من المستكن في مكرمون أو خبر ثان لأولئك أو لهم وقوله تعالى على سرر يحتمل أن يكون حالا من المستكن في مكرمون أو في الظرف قبله وأن يكون خبرا فيكون قوله سبحانه متقابلين
44
- حالا من المستكن فيه أو في مكرمون أو في الظرف أعني في جنات وأن يتعلق بمتقابلين فيكون حالا من المستكن في غيره
وأشير بتقابلهم إلى استثناء بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضا للإستثناء والمحادثة وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحيانا فينظر بعضهم إلى بعض وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع وقوله تعالى : يطاف عليهم إما استئناف لبيان ما يكون لهم في مجالي أنسهم أو حال من الضمير في متقابلين أو في أحد الجارين : وجوز كونه صفة لمكرمون وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف ففي الصحيح أنهم خدم أهل الجنة وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون وقوله سبحانه يطوف عليهم غلمان لهم بكأس أي بخمر كما روي عن ابن عباس وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن الضحاك قال : كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عني به الخمر ونقل ذلك أيضا عن الحبر والأخفش وهو مجاز مشهور بمنزلة الحقيقة وعليه قوله الأعشى : وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها وبدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقا للمحمل على الحال قوله شربت وتقدير شربت ما فيها تكلف والقرينة ههنا
(23/86)
ما يأتي بعد وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح والخمر ليس بمتعين قال في البحر الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك وقال الراغب : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال خال ويقال شربت كأسا وكأس طيبة ولعل كلامه أظهر في أن تسمية الخالي كأسا مجاز وحكى عن بعضهم أنه قال : الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره من معين
45
- في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية
ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبيء عن دوسها بها قوله : بنت كرم يتموها أمها ثم هانوها بدوس بالقدم ثم عادوا حكموها فيهم ويلهم من جور مظلوم حكم وقول الآخر : وشمولة من عهد عاد قد غدت صرعى تداس بأرجل العصار لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت منهم فصاحت فيهم بالثار وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة وجوز أن تكون ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر وتفيد الآية وصف مائهم باللذة والنشأة وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد : لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما بيضاء وصف آخر للكأس يدل على أنها مؤنثة وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ صفراء وقد جاء وصف خمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس : صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر : وحمراء قبل المزج صفراء بعده أتت في ثيابي نرجس وشقائق حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا عليها مزاجا فاكتست لون عاشق لذة للشاربين
46
- وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق وأنشدوا قوله : ولذ كطعم الصرخدي تركته بأرض العدا من خشية الحدثان يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد وقوله : بحديثك اللذ الذي لو كلمت أسد الفلاة به أتين سراعا
(23/87)
وفي قوله تعالى للشاربين دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنا من كان لا فيها غول أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده وقال الراغب : الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به يقال غاله يغوله غولا واغتاله اغتيالا ومنه سمي السعلاة غولا والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلا
وروي البيهقي وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر وأخرج الطستي عنه أن نافع الأزرق قال : أخبرني عن قوله تعالى لا فيها غول فقال : ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا قال : وهل تعرف العرب ذلك فقال : نعم أما سمعت قول امريء القيس : رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن وروي ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن جبير
واختير التعميم وإن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول كلام في كتب المعاني ولا هم عنها ينزفون
47
- أي لا يسكرون كما روي عن ابن عباس وغيره وهو بيان لحاصل المعنى وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء ونزف الهم دمعه نزعه كله ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه فلا ينزفون مبنيا للمفعول كما قرأ الحرميان والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بمن قيل لتضمينه معنى يصدون وقيل عن التعليل والسببية وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه وله سميت الخمر الخبائث والمراد استمرار النفي لا نفي الإستمرار وقرأ حمزة والكسائي ينزفون بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكبه وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فلي عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه قال الأبيرد اليربوعي : لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامي كنتم آل أبجرا وفي البحر أن أنزف مشترك بين سكر ونفد فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شرابه وتعدية الفعل للتضمين كما سبق وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا ينفي شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك وقرأ ابن أبي إسحاق ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي وطلحة بفتح الياء وضم الزاي والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو المأثور عن الجمهور ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء
(23/88)
وأخرج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها ولو لا أن الجمهور على ما سمعت أولا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت : إن هذا التفسير هو الأولى وعندهم قاصرات الطرف قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا والوصف على القولين متعد وجوز كونه قاصرا على المعنى ذابلات الجفن مراضه وما أحيل ذبول الأجفان في الغوالي الحسان ولذا كثر التغزل بذلك قديما وحديثا ومنه قول ابن الأزدي : مرضت سلوتي وصح غرامي من لحاظ هي المراض الصحاح والطرف في كل ذلك طرفهن وجوز أن يكون الوصف متعديا والطرف طرف غيرهن والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي : وخصر تثبت الأبصار به كأن عليه من حدق نطاقا وقد ذكر هذا المعنى أيضا ابن رشيق في قول امريء القيس : من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا وهو لعمري رشيق بيد أني أقول : الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماما للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين والجملة قيل عطف على ما قبلها وقيل : في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف عين
48
- جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال ومنه قيل للبقر الوحشي عين وقيل : العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجماع يدفع ما عسى أن يقال وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف كأنهن بيض مكنون
49
- البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله : بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها والمراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار في الصفا وشوب البياض بقليل صفرة مع لمعان كما في الدر والأكثرون على تخصيصه ببيض النعام في الأداحي لكونه أحسن منظرا من سائر البيض وأبعد عن مس الأيدي ووصول ما يغير لونه إليه والعرب تشبه النساء بالبيض ويقولون لهن بيضات الخدور ومنه قول امريء القيس : والبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل والبياض المنسوب بقليل صفرة في النساء مرغوب فيه جدا قيل زكذا البياض المشوب بقليل حمرة في الرجال وأما البياض الصرف فغير محمود ولذا ورد في الحلية الشريفة أبيض ليس بالأمهق
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس وهو وغيره عن ابن جبير وابن أبي حاتم وابن جرير عن السدي
(23/89)
أن البيض المكنون ما تحت القشر الصلب بينه وبين اللباب الأصفر والمراد تشبيههن بذلك بعد الطبخ في النعومة والطراوة فالبيضة إذا طبخت وقشرت ظهر ما تحت القشرة على أتم نعومة وأكمل طراوة ومن هنا تسمع العامة يقولون في مدح المرأة : كأنها بيضة مقشرة ورجح ذلك الطبري بأن الوصف بمكنون يقتضيه دون المشهور لأن الخارج قشر البيضة ليس بمكنون وفيه أن المتبادر من البيض مجموع القشر وما فيه وأكلت كذا بيضة الأكل فيه قرينة إرادة ما في القشر دون المجموع إذ لا يؤكل عادة وحينئذ لا يتم ما قاله الطبري فالأول هو المقبول ومعنى المكنون فيه ظاهر على ما سمعت وقد نقل الخفاجي هذا المعنى عن بعض المتأخرين وتعقبه بأنه ناشيء من عدم معرفة كلام العرب وكأنه لم يقف على روايته عن الحبر ومن معه وإلا لا يتسنى له ما قال ولعل الرواية المذكورة غير ثابتة وكذا ما حكاه أبو حيان عن الحبر من أن البيض المكنون الجوهر المصون لنبو ظاهر اللفظ عن ذلك وقالت فرقة : المراد تشبيههن بالبيض في تناسب الأجزاء والبيضة أشد تناسب أجزاء والتناسب ممدوح ومن هنا قال بعض الأدباء متغزلا : تناسب الأعضاء فيه فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر وأنت تعلم بعد فرض تسليم أن تناسب الأجزاء في البيضة معروف بينهم أن الوصف بالمكنون مما لا يظهر له دخل في التشبيه واستشكل التشبيه على ما تقدم بآية عروس القرآن كأنهن الياقوت والمرجان فإنها ظاهرة في أن ألوانهن حمرة وأين هذا من التشبيه بالبيض المكنون على ما سمعت قبل فيتعين أن يراد التشبيه من حيث النعومة والطراوة كما روي ثانيا أو من حيث تناسب الأجزاء كما قيل أخيرا وأجيب بأنه يجوز أن يكون المشبهات بالبيض المكنون غير المشبهات بالياقوت والمرجان وكون البياض المشوب بالصفرة أحسن الألوان في النساء غير مسلم بل هو حسن ومثله في الحسن البياض المشوب بحمرة على أن الأحسنية تختلف باختلاف طباع الرائين
وللناس فيما يعشقون مذاهب
والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين
وقيل يجوز أن يكون تشبيههن بالبيض المكنون بالنظر إلى بياض أبدانهن المشوب بصفرة ما عدا وجوههن وتشبيههن بالياقوت والمرجان بالنظر إلى بياض وجوههن المشوب بحمرة وقيل تشبيههن بهذا ليس من جهة أن بياضهن مشوب بحمرة بل تشبيههن بالياقوت من حيث الصفاء وبالمرجان من حيث الإملاس وجمال المنظر
وإذا أريد بالمرجال الدرر الصغار كما ذهب إليه جمع دون الخرز الأحمر المعروف يجوز أن يكون التشبيه من حيث البياض المشوب بصفرة فلا إشكال أصلا وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون
50
- معطوف على يطاف وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد بن فياض : وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على الشراب ولثمك وجنتي قمر منير يجول بوجه ماء الشباب وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالإعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتما وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية
(23/90)
الحال وفراغ البال قال قائل منهم في تضاعيف محاورتهم إنى كان لي في الدنيا قرين
51
- مصاحب يقول لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم ءإنك لمن المصدقين
52
- أي بالبعث كما ينبيء عنه قوله سبحانه ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون
53
- أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء وقيل لمسوسون مربوبون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث العاقل من دان نفسه وقريء المصدقين بتشديد الصاد من التصدق واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه أئذا متنا الخ وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضا فقال صاحبه : اللهم إن فلانا اشترى بألف دينار أرضا وأني أشتري منك بألف دينار أرضا في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه دارا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا قد ابتنى دارا بألف دينار وأني أشتري منك في الجنة دارا بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال : اللهم إن فلانا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا اشترى خدما ومتاعا بألف دينار وإني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال : فلان قال : نعم فقال : ما شأنك فقال : أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال : فما فعلت بملك فقص عليه القصة فقال : أئنك لمن المصدقين بهذا اذهب فو الله لا أعطيك شيئا فرده فقضي لهما أن توفيا فكان مآل المتصدق الجنة ومآل الآخر النار وفيهما نزلت الآية وقيل هما اخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان وكان الإثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقا ومتصدقا أيضا والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى أئنا لمدينون ولعله أنسب بتلك القراءة وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفي نبعث ونجازى وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه قال أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكى لهم مقالة قرينه له في الدنيا هل أنتم مطلعون
54
- على أهل النار لآريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم والمراد من الإستفهام العرض أو الأمر على ما قيل والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا
(23/91)
على الأعراف فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعا والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه وقيل قائل هل أنتم الخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النارلأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم وقيل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل : فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه : هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه فاطلع أي على أهل النار فرآه أي فرأى قرينه في سواء الجحيم
55
- أي في وسطها ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي مطلعون بإسكان الطاء وفتح النون فاطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار ابن أبي عمار وأبي سراج وقريء مطلعون مشددا فاطلع مشددا أيضا مضارعا منصوبا على جواب الإستفهام
وقريء مطلعون بالتخفيف فأطلع مخففا فعلا ماضيا و فأطلع مخففا مضارعا منصوبا وقرأ أبو البرهسم وعمار ابن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه مطلعون بتخفيف الطاء وكسر النون فاطلع ماضيا مبنيا للمفعول ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة و السلام أو مخرجي هم ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربوه مثلا كما يقال يضربونه وعليه قوله : هم الآمرون الخير والفاعلونه إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما وأنشد الطبري قول الشاعر : وما أدري وظني كل ظن أمسلمني إلى قومي شراحي ومثله قول الآخر : فهل فتى من سراة الحي يحملني وليس حاملني إلا ابن حمال وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملا له على الفعل وليست مثل النون في القراءة وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل وقال بعضهم : إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله
وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم
ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال : إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضا على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلا فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى فكيف كان نكير ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعى أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح والبيت قيل مصنوع لا يصح الإستشهاد
(23/92)
به وقيل إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرة إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز وللنحاة في مسئلة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام طويل حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع وذهب الأخفش وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفهما للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأمسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه حديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه هذا وطلع واطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجيء الإطلاع متعديا يقال أطلعه على كذا فأطلع و مطلعون في قراءة أبي عمرو بمعنى مطلعون بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الإطلاع وأحب أن لا يستبد به أدبا عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا واطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء فاطلع فصيحة والعطف على مقدر والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضا فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولا بد من تقدير أطلع بعد ذلك ليصح ترتب فرآه على ما قبله و هل أنتم مطلعون عليه بمعنى الأمر تأدبا ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور وكذا على القراءة التي بعدها وعن قراءة أبي البرهسم ومن معه هل أنتم مطلعي فاطلعوه فرآه الخ وإطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن وعن صاحب اللوامح أن طلع واطلع إطلاعا بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة أطلع مبنيا للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي أطلع به لأن أطلع لازم كأقبل وقد علمت أن أطلع يجيء متعديا كأطلعت زيدا ورد أبو حيان الإحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل قال أي القائل لقرينه تالله إن كدت لتردين
56
- أي لتهلكني وفي قراءة عبد الله لتغوين و إن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وفي البحر أن القسم فيه التعجب من سلامته منه إذ كان قرينه قارب أن يرديه ولو لا نعمة ربي علي وهي التوفيق والعصمة لكنت من المحضرين
57
- للعذاب كما أحضرته أنت وأضرابك أفما نحن بميتين
58
- الخ رجوع إلى محاورة حلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله تعالى له من الفضل العظيم والنعيم المقيم وتعريفا للقرين بالتوبيخ وجوز أن يكون من كلام المتسائلين جميعا وأن يكون من تتمة كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ له واختير الأول والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام على ما ذهب إليه الزمخشري ومتبعوه أي أنحن مخلدون فما نحن بميتين أي ممن شأنه الموت كما يؤذن به الصفة المشبهة
وقريء بمائتين إلا موتتنا الأولى التي كانت في الدنيا وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الإعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة وزمانها قليل جدا والإستثناء مفرغ من مصدر مقدر كأنه
(23/93)
قيل أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى وجوز أن يكون منقطعا أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وعلمهم بأنهم لا يموتون ناشيء من إخبار أنبيائهم لهم في الدنيا وإعلامهم إياهم بأن أهل الجنة لا يموتون أو من قول الملائكة عليهم السلام لهم حين دخول الجنة طبتم فادخلوها خالدين وقولهم ادخلوها بسلام آمنين وقيل إن أهل الجنة أول ما دخلوا لا يعلمون أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فنودي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فحينئذ يعلمونه فيقولون ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى واغتباطا بها ولا يخفى أن كون هذا القول المحكي هنا عند علمهم بعدم الموت من ذبحه بعيد في هذا المقام والظاهر أن هذا بعد الإطلاع والكلام مع القرين وما نحن بمعذبين
59
- كأصحاب النار والمراد استمرار النفي وتأكيده وكذا فيما تقدم واستمرار هذا النفي نعمة جليلة وهو متضمن نفي كزوال نعيمهم المحكي في قوله تعالى : أولئك لهم رزق معلوم الآيات فإن زوال النعيم نوع من العذاب بل هو أعظم أنواعه بل تصور الزوال عذاب أيضا لا يلذ معه عيش ولذا قيل : إذا شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا وكذا يتضمن نفي الهرم واختلاف القوي الذي يوهمه نفي الموت فإن ذلك نوع من العذاب أيضا وأنه إنما اختير التعرض لاستمرار نفي العذاب دون إثبات استمرار النعيم لأن نفي العذاب أسرع خطورا ببال من لم يعذب عند مشاهدة من يعذب وقيل إن ذاك لأن درء الضرر أهم من جلب المنفعة إن هذا لهو الفوز العظيم
60
- الظاهر أن الإشارة إلى ما أخبروا به من استمرار نفي الموت واستمرار نفي التعذيب عنهم ويجوز أن تكون إشارة إلى ما هم فيه من النعيم مع استمرار النفيين فإذا كان الكلام من تتمة كلام القائل أفما نحن بميتين الخ فهو متضمن إشارة ذلك القائل إلى ظهور النعيم ويكون ترك التعرض للتصريح به للإستغناء بذلك الظهور
وجوز أن يكون هذا كلامه تعالى قاله سبحانه تقريرا لقول ذلك القائل وتصديقا له مخاطبا جل وعلا به حبيبه عليه الصلاة و السلام وأمته والتأكيد للإعتناء بشأن الخبر وقريء لهو الرزق العظيم وهو ما رزقوه من السعادة العظمى لمثل هذا فليعمل العاملون
61
- أي لنيل مثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الإنصرام المشوبة بفنون الآلام فتقديم الجار والمجرور للحصر وهذا إن كان إشارة إلى مشخص من حيث تشخصه فمثل غير مقحمة وإن كان إشارة إلى الجنس فهي مقحمة كما في مثلك لا يبخل والكلام يحتمل أن يكون من تتمة القائل ولا يعكر عليه أن الآخرة ليست بدار عمل إذ ليس المراد الأمر بالعمل فيها ويحتمل أن يكون من كلامه عز و جل
وأما قوله سبحانه أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم
62
- فمن كلامه جل وعلا عند الأكثرين وهو متعلق بقوله تعالى : أولئك لهم رزق معلوم والقصة بينهما ذكرت بطريق الإستطراد فالإشارة إلى الرزق اغلمعلوم
وزعم بعضهم جواز كونه من كلام القائل السابق وما هو من كلامه عز و جل قطعا هو ما يأتي إن شاء الله تعالى
وأصل الغزل الفضل والربع في الطعام ويستعمل في الحاصل من الشيء ومنه العسل ليس من إنزال الأرض
(23/94)
أي مما يحصل منها وقول الشافعي لا يجب في العسل العشر لأنه نزل طائر ويقال لما بعد للنازل من الرزق
والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة وفي البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت بها الشجرة الموصوفة بما في الآية وكلا المعنيين للنزل محتمل هنا بيد أنه يتعين على الأول انتصابه على التمييز أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلا وحاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم ومعنى التفاضل بين النزلين التوبيخ والتهكم وهو أسلوب كثير الورود في القرآن والحمل على المشاكلة جائز وعلى الثاني الظاهر انتصابه على الحال والمعنى أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم فأيهما خير حال كونه نزلا وفيه ما مر من التهكم
والحمل على التمييز لا مانع منه لفظا كما في نحوهم أكفاهم ناصرا ولكن المعنى على الحال أسد لأن المعنى المفاضلة بين تلك الفواكه وهذا الطعام في هذه الحال لا التفاضل بينهما في الوصف وإن ذلك في النزلية أدخل من الآخر فافهم
إنا جعلناها فتنة للظالمين
63
- محنة وعذابا لهم في الآخرة وابتلاء في الدنيا فإنهم سمعوا أنها في النار قالوا كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر وكذا قال أبو جهل ثم استخفافا بأمرها إنكارا للمدلول اللغوي : والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتمزقوا ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق فالنار لا تحرق إلا بإذنه أو إن الإحراق عندها لا بها
إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم
64
- منبتها في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها وقريء نابتة في أصل الجحيم طلعها أي حملها وأصله طلع النخل وهو أول ما يبدو وقبل أن تخرج شماريخه أبيض غض مستطيل كالموز سمي به حمل هذه الشجرة إما لأنه يشابه في الشكل أو الطلوع ولعله الأولى لمكان التشبيه بعد فيكون استعارة تصريحية أو لاستعماله بمعنى ما يطلع مطلقا فيكون كالمرسل للأنف فهو مجاز مرسل
كأنه رؤس الشياطين
65
- أي في تناهي الكراهة وقبح المنظر والعرب تشبه القبيح الصور بالشيطان فيقولون كأنه وجه شيطان أو رأس شيطان وإن لم يروه لما أنه مستقبح جدا في طباعهم لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة ومن ذلك قول امريء القيس : أتقتلني والمشر في مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال فشبه بأنياب الأغوال وهي نوع من الشياطين ولم يرها لما ارتسم في خياله وعلى عكس هذا تشبيههم الصورة الحسنة بالملك وذلك أنهم اعتقدوا فيه خير محض لا شر فيه فارتسم في خيالهم بأحسن صورة وعليه قوله تعالى ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ويهذا يرد على بعض الملاحدة حيث طعن في هذا التشبيه بأنه تشبيه بنا لا يعرف وحاصله أنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال
وحمل التشبيه في الآية على ما ذكر هو المروي عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما وزعم الجبائي أن الشياطين حين يدخلون النار تشوه صورهم جدا وتستبشع أعضاؤهم فالمراد كأنه رؤس الشياطين
(23/95)
الذين في النار وفيه أن التشبيه عليه أيضا غير معروف في الخارج عند النزول وقيل : رؤس الشياطين شجرة معروفة تكون بناحية اليمن منكرة الصورة يقال لها الأستن وإياها عني النابغة بقوله : تحيد عن استن سود أسافله مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما قال الأصمعي : ويقال لها الصوم وأنشد : موكل بشدوف الصوم يرقبه من المغارب مهضوم الحشازرم وقيل : الشياطين جنس من الحيات ذوات أعراف وأنشد الفراء : عجيز تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف أي له عرف وأنشد المبرد : وفي البقل إن لم يدفع الله شره شياطين يعدو بعضهم على بعض فإنهم لآكلون منها تفريع على جعلها فتنة أي محنة وعذابا للظالمين وضمير المؤنث للشجرة ومن ابتدائية أو تبعيضية وهناك مضاف مقدر أي من طلعها وقيل : من تبعيضية والضمير للطلع وأنث لإضافته إلى المؤنث أو لتأويله بالثمرة أو للشجرة ولا يخلو كل عن بعدما فمالئون منها البطون
66
- لغلبة الجوع وإن كرهوها أو للقسر على أكلها ثم إن لهم عليها أي على الشجرة التي ملؤا منها بطونهم لشوبا من حميم
67
- أي لشرابا ممزوجا بماء شديد الحرارة وهذا الشراب هو الغساق أي ما يقطر من جراح أهل النار وجلودهم وقيل : هذا هو الصديد وأما الغساق فعين في النار تسيل إليها سموم الحيات والعقارب أو دموع الكفرة فيها وشربهم ذلك لغلبة عطشهم بما أكلوا من الشجرة فإذا شربوا تقطعت أمعاؤهم
وقريء لشوبا بضم الشين وهو اسم لما يشاب به وعلى الأول هو مصدر سمي به وكلمة ثم قيل للتراخي الزماني وذلك أنه بعد أن يملؤا البطون من تلك الشجرة يعطشون ويؤخر سقيهم زمانا ليزداد عطشهم فيزداد عذابهم
واعترض بأنه يأباه عطف الشرب بالفاء في قوله تعالى فمالؤن منها البطون فشاربون عليه من الحميم فلا بد من عدم توسط زمان وأجيب بأنه يجوز أن يكون شرب الشراب الممزوج بالحميم متأخرا بزمان عن ملئهم البطون دون شرب الحميم وحده وكذا يجوز أن يكون الحال مختلفا فتارة يتآخر الشرب مطلقا زمانا وأخرى لا يتأخر كذلك وقال بعضهم : ملؤهم البطون أمر ممتد فباعتبار ابتدائه يعطف بثم وباعتبار انتهائه بالفاء
وجوز كون ثم للتراخي الرتبي لأن شرابهم أشنع من مأكولهم بكثير وعطف البطون بالفاء لأنه يعقب ما قبله ولا يحسن فيه اعتبار التفاوت الرتبي حسنه في الشراب المشوب بالحميم مع الأكل ثم إن مرجعهم أي مصيرهم وقد قريء كذلك وقريء أيضا ثم إن منفذهم لاإلى الجحيم
68
- أي إلى مقرهم من النار فإن في جهنم مواضع أعد في كل موضع منها نوع من البلاء فالقوم يخرجون من محل قرارهم حيث تأجج النار ويساقون إلى موضع آخر مما دارت عليه جهنم فيه ذلك الشراب ليردوه ويسقوا منه ثم يردون إلى محلهم كما تخرج الدواب إلى مواضع الماء في البلد مثلا لترده ثم ترد إلى محلها وإلى هذا المعنى أشار قتادة ثم تلا قوله تعالى :
(23/96)
هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ويؤيده قراءة ابن مسعود ثم إن منقلبهم إذ الإنقلاب أظهر في الرد أو المراد ثم إن مرجعهم إلى دركات الجحيم فهم يرددون في الجحيم من مكان إلى آخر أدنى منه وقيل : إن الشراب يقدم إليهم قبل دخول النار فيشربون ويصيرون إلى الجحيم وهذا يحتاج إلى توقيف وإلا فهو خلاف الظاهر وكأن بين خروج القوم للشرب وعودهم إلى مساكنهم زمانا غير يسير يتجرعون فيه ذلك الشراب ولذا جيء بثم وهذا الشراب في مقابلة ما لأهل الجنة من الشراب المدلول عليه بقوله تعالى : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين الخ كما أن الزقوم في مقابلة ما لهم من الفواكه
وقد جاء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم أخرجه ابن أبي شيبة فكيف بمن هو طعامه وشرابه الغساق والصديد مع الحميم نسأل الله تعالى رضاه والجنة ونعوذ به عز و جل من غضبه والنار وقوله سبحانه : أنهم ألفوا آباءهم ضالين
69
- فهم عن آثارهم يهرعون
70
- تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في أصول الدين من غير أن يكون لهم ولا لآبائهم شيء يتمسك به أصلا أي وجدوهم ضالين في نفس الأمر ليس لهم ما يصلح شبهة فضلا عن صلاحية كونه دليلا فهم من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أولا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل والإهراع الإسراع الشديد وقيل : هو إسراع فيه شبه رعدة
وفيه بناء الفعل للمفعول إشارة إلى مزيد رغبتهم في الإسراع على آثارهم كأنهم يزعجون ويحثون حثا عليه
ولقد ضل قبلهم أي قبل هؤلاء الظالين الذين جعلت شجرة الزقوم فتنة لهم وهم قريش أكثر الأولين
71
- من الأمم السابقة وهو جواب قسم محذوف وكذا قوله تعالى ولقد أرسلنا فيهم منذرين
72
- أنبياء أنذروهم سوء عاقبة ما هم عليه من الباطل وتكرير القسم لإبراز كمال الإعتناء بتحقيق مضمون كل من الجملتين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين
73
- من الهول والفظاعة لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا إليه رأسا
والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم أو لكل من يتأتى منه مشاهدة آثارهم وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكا فظيعا استثنى عنهم المخلصين بقوله عز و جل إلا عباد الله المخلصين
74
- أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم بالإيمان والعمل بموجب الإنذار وقريء المخلصين بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى والإستثناء على القراءتين إما منقطع إن خصص المنذرين وإما متصل إن عمم
ولقد نادانا نوح نوع تفصيل لما أجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم متضمن لبيان سوء عاقبة بعض المنذرين كقوم نوح عليه السلام ولبيان حسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله تعالى أو أخلصوا دينهم على القراءتين كقوم يونس عليه السلام وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص غني عن البيان ونداؤه عليه السلام يتضمن الدعاء على كفار قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة واللام واقعة في جواب قسم محذوف وكذا ما في قوله تعالى : فلنعلم المجيبون
75
- والمخصوص بالمدح فيه محذوف والفاء
(23/97)
فصيحة أي وتالله لقد دعانا نوح حين أيس من إيمان قومه بعد أن دعاهم أحقابا ودهورا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه والجمع للعظمة والكبرياء وفيه من تعظيم افجابة ما فيه وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون قال : صدقت ربنا أنت أقرب من دعى وأقرب من بغى فنعم المدعو ونعم المعطي ونعم المسؤل ونعم المولى أنت ربنا ونعم النصير
ونجيناه وأهله من الكرب العظيم
76
- من الغرق على ما روي عن السدي وقيل : أذى قومه ولا مانع من الجمع والكرب على ما قال الراغب : الغم الشديد وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك ويصح أن يكون من كربت الشمس إذا دنت للمغيب وقولهم إناء كربان نحو قربان أي قريب من الملء أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب
وجعلنا ذريته هم الباقين
77
- فحسب حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وقد روي أنه مات كل من في السفينة ولم يعقبوا عقبا باقيا غير أبنائه الثلاث سام وحام ويافث وأزواجهم فإنهم بقوا متناسلين إلى يوم القيامة
أخرج الترمذي وحسنة وابن سعد وأحمد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه نعم أخرج البزاز وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولد نوح ثلاثة : سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالية ولا خير فيهم وولد حام القبط والسودان ولا أعرف حال الخبر والأكثرون على أن الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها من ذرية نوح عليه السلام ولذا قيل له آدم الثاني وإن صح أن لكنعان المغرق ولدا في السفينة لا يبعد إدراجه في الذرية فلا يقتصر على الأولاد الثلاثة وعلى كون الناس كلهم من ذريته عليه السلام استدل بعضهم بالآية وقالت فرقة : أبقى الله تعالى ذرية نوح عليه السلام ومد في نسله وليس الناس منحصرين في نسله بل من الأمم من لا يرجع إليه حكاه في البحر وكأن هذه الفرقة لا تقوم بعموم الغرف ونوح عليه السلام إنما دعا على الكفار وهو لم يرسل إلى أهل الأرض كافة فإن عموم البعثة ابتداء من خواص خاتم المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم ووصول خبر دعوته وهو في جزيرة العرب إلى جميع الأقطار كقطر الصين وغيره غير معلوم
والحصر في الآية بالنسبة إلى من في السفينة ممن عدا أولاده وأزواجهم فكأنه قيل : وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية من معه في السفينة وهو لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وكان في بعض الأقطار الشاسعة التي لم تصل إليها الدعوة ولم يستوجب أهلها الغرق كأهل الصين فيما يزعمون ويجوز أن تكون قائلة بالعموم وتجعل الحصر بالنسبة إلى المغرقين وتلتزم القول بأنه لم يبق عقب لأحد من أهل السفينة هو من ذرية أحد من المغرقين أي وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية أحد غيره من المغرقين وولد كنعان إن صح وصح بقاء نسله داخل في ذريته والله تعالى أعلم وتركنا عليه في الآخرين
78
- في الباقين غابر الدهر سلام على نوح مبتدأ وخبر
(23/98)
وجاز الإبتداء بالنكرة لما فيه من معنى الدعاء والكلام وارد على الحكاية كقولك : قرأت سورة أنزلناها وهو على ما قال الفراء وغيره من الكوفيين محكي بترك في موضع نصب بها أي تركنا عليه هذا الكلام بعينه
وقال آخرون : هو محكي بقول مقدر أي تركنا عليه في الآخرين قولهم سلام على نوح والمراد أبقينا له دعاء الناس وتسليمهم عليه أمة بعد أمة وقيل : هذا سلام منه عز و جل لا من الآخرين هو مفعول ومفعول تركنا محذوف أي تركنا عليه الثناء الحسن وأبقيناه له فيمن بعده إلى آخر الدهر ونسب هذا إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وجملة سلام على نوح معمول لقول مقدر على ما ذكر الخفاجي أي وقلنا سلام الخ وقال أبو حيان : مستأنفة سلم الله تعالى عليه السلام ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد بسوء وقرأ عبد الله سلاما بالنصب على أنه مفعول تركنا وقوله تعالى : في العالمين
79
- متعلق بالظرف لنيابته عن عامله أو بما تعلق الظرف به وجوز كونه حالا من الضمير المستتر فيه وأيا ما كان فهو من تتمة الجملة السابقة وجيء به للدلالة على الإعتناء التام بشأن السلام من حيث أنه أفاد الكلام عليه ثبوته في العالمين من الملائكة والثقلين أو أنه حال كونه في العالمين على نوح وهذا كما تقول سلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة وزعم بعضهم جواز جعله بدلا من قوله تعالى في الآخرين ويوشك أن يكون غلطا كما لا يخفى
وقوله تعالى إنا كذلك نجزي المحسنين
80
- تعليل لما فعل به مما قصه الله عز و جل بكونه عليه السلام من زمرة المعروفين بالإحسان الراسخين فيه فيكون ما وقع من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان وإحسانه مجاهدته أعداء الله تعالى بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على اذاهم ونحو ما ذكر وذلك إشارة إلى ما ذكر من الكرامات السنية التي وقعت جزاء له عليه السلام وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل والشرف والكاف متعلقة بما بعدها أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان لا جزاء أدنى منه وقوله تعالى : إنه من عبادنا المؤمنين
81
- تعليل لكونه عليه السلام محسنا المفهوم من الكلام بخلوص عبوديته وكمال إيمانه وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى وإلا فمنصب الرسالة منصب عظيم والرسول لا ينفك عن الخلوص بالعبودية وكمال الإيمان فالمقصود بالصفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها ثم أغرقنا الآخرين
82
- أي المغايرين لنوح عليه السلام وأهله وهم كفار قومه أجمعين وثم للتراخي الذكرى إذ بقاؤه عليه السلام ومن معه متأخر عن الإغراق وإن من شيعته أي ممن شايع نوحا وتابعه في أصول الدين لأبراهيم
83
- وإن اختلفت فروع شريعتيهما أو ممن شايعه في التصلب في دين الله تعالى ومصابرة المكذبين ونقل هذا عن ابن عباس وجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري وللأكثر حكم الكل ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أن نوحا عليه السلام لم يرسل إلا بالتوحيد ونحوه من أصول العقائد ولم يرسل بفروع قيل : وكان بين إبراهيم وبينه عليهما السلام نبيان هود وصالح لا غير ولعله أريد بالنبي الرسول لا ما هو أعم منه وهذا بناء على أن ساما كان نبيا وكان بينهما على ما في جامع الأصول ألف سنة ومائة واثنتان وأربعون سنة وقيل ألفان وستمائة وأربعون سنة
وذهب الفراء إلى أن ضمير شيعته لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم والظاهر ما أشرنا إليه وهو المروي عن ابن عباس
(23/99)
ومجاهد وقتادة والسدي وقلما يقال للمتقدم هو شيعة للمتأخر ومنه قول الكميت الأصغر بن زيد : وما لي إلا آل أحمد شيعة ومالي إلا مشعب الحق مشعب وذكر قصة إبراهيم عليه السلام بعد قصة نوح لأنه كآدم الثالث بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين بعده لأنهم من ذريته إلا لوطا وهو بمنزلة ولده عليهما السلام ويزيد حسن الإرداف أن نوحا نجاه الله تعالى من الغرق وإبراهيم نجاه الله تعالى من الحق إذ جاء ربه منصوب باذكر كما هو المعهود في نظائره وجوز تعلقه بفعل مقدر يدل عليه قوله تعالى : وإن من شيعته كأنه قيل : متى شايعه فقيل : شايعه إذ جاء ربه وقيل : هو متعلق بشيعة لما فيه من معنى المشايعة ورد بأنه يلزم عمل ما قبل لام الإبتداء فيما بعدها وهم لا يجوزون ذلك للصدارة فلا يقال : إن ضاربا لقادم علينا زيدا وكذا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لا يجوز
وأجيب بأنه لا مانع من كل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه بقلب سليم
84
- أي سالم من جميع الآفات كفساد العقائد والنيات السيئة والصفات القبيحة كالحسد والغل وغير ذلك وعن قتادة تخصيص السلامة بالسلامة من الشرك والتعميم الذي ذكرناه أولى أو سالم من العلائق الدنيوية بمعنى أنه ليس فيه شيء من محبتها والركون إليها وإلى أهلها وقيل سليم أي حزين وهو مجاز من السليم بمعنى اللديغ من حية أو عقرب فإن العرب تسميه تفاؤلا بسلامته وصار حقيقة فيه وما تقدم أنسب بالمقام والباء قيل للتعدية
والمراد بمجيئه ربه بقلبه إخلاصه قلبه له تعالى على سبيل الإستعارة التبعية التصريحية ومبناها تشبيه إخلاصه قلبه له عز و جل بمجيئه إليه تعالى بتحفة في أنه سبب للفوز بالرضا ويكتفي بامتناع الحقيقة مع كون المقام مقام المدح قرينة فحاصل معنى التركيب إذ أخلص عليه السلام لله تعالى قلبه السليم من الآفات أو المنقطع عن العلائق أو الحزين المنكسر وتعقب بأن سلامة القلب عن الآفات لا تكون بدون الإخلاص وكذا الإنقطاع عن العلائق لا يكون بدونه وأجيب بأنهما قد يكونان بدون ذلك كما في القلوب البله وفي المطلع معنى مجيئه ربه بقلبه أنه أخلص قلبه لله تعالى وعلم ذلك منه كما يعلم الغائب وأحواله بمجيئه وحضوره فضرب المجيء مثلا لذلك أه وجعل في الكلام عليه استعارة تمثيلية بأن تشبه الهيئة المنتزعة من إخلاص إبراهيم عليه السلام قلبه لربه تعالى وعلمه سبحانه ذلك الإخلاص منه موجودا بالهيئة المنتزعة من المجيء بالغائب بمحضر شخص ومعرفته إياه وعلمه بأحواله ثم يستعار ما يستعار ولتأدية هذا المعنى عدل عن جاء ربه سليم القلب إلى ما في النظم الجليل وقيل الباء للملابسة ولعله المتبادر والمراد بمجيئه ربه حلوله في مقام الإمتثال ونحوه وذكر أن نكتة العدول عما سمعت إلى ما في النظم سلامته من توهم أن الحال منتقلة لما أن الإنتقال أغلب حاليها مع أنه أظهر في أن سلامة القلب كانت له عليه السلام قبل المجيء أيضا فليتدبر
إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون
85
- بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء أو لسليم أي أي شيء تعبدون
أئفكا آلهة دون الله تريدون
86
- أي أتريدون آلهة من دون الله تعالى إفكا أي للإفك فقدم المفعول به على الفعل للعناية لأن إنكاره أو التقرير به هو المقصود وفيه رعاية الفاصلة أيضا ثم المفعول لأجله لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم
(23/100)
ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به بمعنى أتريدون إفكا وتكون آلهة بدلا منه بدل من كل وجعلها عين الإفك على المبالغة أو الكلام على تقدير مضاف أي عبادة آلهة وهي صرف للعبادة عن وجهها وجوز كونه حالا من ضمير تريدون أي أفاكين أو مفعوله أي مأفوكة وتعقب بأن جعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما نحو أما علما فعالم فما ظنكم برب العالمين
87
- أي أي شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة لكون ربا للعالمين أشككتم فيه حتى تركتم عبادته سبحانه بالكلية أو أعلمتم أي شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه سبحانه وتعالى أو أي شيء ظنكم بعقابه عز و جل حتى اجترأتم على الإفك عليه تعالى ولم تخافوا وكان قومه عليه السلام يعظمون الكواكب المعروفة ويعتقدون السعود والنحوس والخير والشر في العالم منها ويتخذون لكل كوكب منها هيكلا ويجعلون فيها أصناما تناسب ذلك الكوكب بزعمهم ويجعلون عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانوا يستدلون بأوضاعها على الحوادث الكونية عامة أو خاصة فاتفق أن دنا يوم عيد لهم يخرجون فيه فأرسل ملكهم إلى إبراهيم عليه السلام أن غدا عيدنا فاحضر معنا فاستشعر حصول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم فأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكر عليه فنظر نظرة في النجوم
88
- أي فتأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في خلق السماوات والأرض وتفكرهم في ذلك إذ هو اللائق به عليه السلام لكنه أوهمهم أنه تفكر في أحوالها من الإتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليرتب عليه ما يتوصل به إلى غرضه الذي يكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه والظاهر بعد اعتبار الإيهام أنه إيهام التفكر في أحكام طالع ولادته عليه السلام ما يدل عليه بزعمهم ما تجدد له من الأوضاع في ذلك الوقت وهذا من معارض الأفعال نظير ما وقع في قصة يوسف عليه السلام من تفتيش أوعية إخوته بني علاته قبل وعاء شقيقه فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أن الصاع ليس فيها وأخر تفتيش وعاء أخيه مع علمه بأنه فيها تعريضا بأنه لا يعرف في أي وعاء هو ونفيا للتهمة عنه لو بدأ بوعاء الأخ فقال أي لهم إني سقيم
89
- أراد أنه سيسقم ولقد صدق عليه السلام فإن كل إنسان لابد أن يسقم وكفى باعتلال المزاج أول سريان الموت في البدن سقاما وقيل أراد مستعد للسقم الآن أو خارج المزاج عن الإعتدال خروجا قل من يخلو عنه أو سقيم القلب لكفركم والقول توهموا أنه أراد قرب اتصافه بسقم لا يستطيع معه الخروج معهم إلى معيدهم وهو على ما روي عن سفيان وابن جبير سقم الطاعون فإنهما فسرا سقيم بمطعون وكان كما قيل أغلب الأسقام عليهم وكانوا شديدي الخوف منه لاعتقادهم العدوى فيه وهذا وكذا قوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا وقوله في زوجته سارة هي أختي من معاريض الأقوال كقول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لمن قال له في طريق الهجرة : ممن الرجل من ماء حيث أراد عليه الصلاة و السلام ذكر مبدأ خلقه ففهم السائل أنه بيان قبيلته وكقول صاحبه الصديق وقد سئل عنه عليه الصلاة و السلام في ذاك أيضا : هو هاد يهديني حيث أراد وفهم السائل آخر ولا يعد ذلك كذبا في الحقيقة
وتسميته به في بعض الأحاديث الصحيحة بالنظر لما فهم الغير منه لا بالنسبة إلى ما قصده المتكلم وجعله ذنبا في حديث الشفاعة قيل لأنه ينكشف لإبراهيم عليه السلام أنه كان منه هلاف الأولى لا أن كل تعريض هو
(23/101)
كذلك فإنه قد يجب والإمام لضيق محرابه ومجاله ينكر الحديث الوارد في ذلك وهي في الصحيحين ويقول : إسناد الكذب إلى راويه أهون من إسناده إلى الخليل عليه السلام وقد مر الكلام في ذلك وقيل : كانت له عليه السلام حمى لها نوبة معينة في بعض ساعات الليل فنظر ليعرف هل هي من تلك الساعة فإذا هي قد حضرت فقال لهم إني سقيم وليس شيء من ذلك من المعاريض ونحوه ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : أرسل إليه عليه السلام ملكهم فقال : إن غدا عيدنا فاخرج معنا فنظر إلى نجم فقال إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي
وأنت تعلم أن النظر المعدي يفي بمعنى التأمل والتفكر والنظر المشار إليه لا يحتاج إلى تفكر وعن أبي مسلم أن المعنى نظر وتفكر في النجوم ليستدل بأحوالها على حدوثها وأنها لا تصلح أن تكون آلهة فقال إني سقيم أي سقيم النظر حيث لم يحصل له كمال اليقين انتهى وهذا لعمري يسلب فيما أرى عن أبي مسلم الإسلام وفيه من الجهل بمقام الأنبياء لا سيما الخليل عليه وعليهم السلام ما يدل على سقم نظره نعوذ بالله تعالى من خذلانه ومكره
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن نظر نظرة في النجوم كلمة من كلام العرب تقول إذا تفكر الشخص : نظر في النجوم وعليه فليس هو من المعاريض بل قوله إني سقيم فقط منها وهذا أيده نقل من أهل اللغة حسن جدا وقيل : المعنى نظر في أحوال النجوم أو في علمها أو في كتبها وأحكامها ليستدل على ما يحدث له والنظر فيها للإستدلال على بعض الأمور ليس بممنوع شرعا إذا كان باعتقاد أن الله تعالى جعلها علامة عليه والممنوع الإستدلال باعتقاد أنها مؤثرة بنفسها والجزم بكلية أحكامها وقد ذكر الكرماني في مناسكه على ما قال الخفاجي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل أراد السفر في آخر الشهر أتريد أن تخسر صفقتك ويخيب سعيك اصبر حتى يهل الهلال انتهى
وهذا البحث من أهم المباحث فإنه لم يزل معترك العلماء والفلاسفة الخكماء وقد وعدنا بتحقيق الحق فيه وبيان كدره وصافيه فنقول وبالله تعالى التوفيق إلى سلوك أقوم طريق
اعلم أن بعض الناس أنكروا أن يكون للكواكب تأثيرا في هذا العالم غير وجود الضياء في المواضع التي تطلع عليها الشمس والقمر وعدمه فيما غابا عنه وما جرى هذا المجرى وهذا خروج عن الإنصاف وسلوك في مسالك الجور والإعتساف وبعضهم قالوا إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البد القليل العرض ذا مزاج مائل عن الإعتدال إلى الحر واليبس وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الإعتدال إلى البرد والرطوبة وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيض وشعورهم شقر مثل الترك والصقالية ومثل نمو النبات واشتداده ونضج ثمره بالشمس والقمر ونحو ذلك مما يدرك بالحس ولا بأس في نسبته إلى الكوكب على معنى أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة فأثر بغذن الله تعالى كما ينسب الإحرق إلى النار والري إلى الماء مثلا على معنى ذلك وهو مذهب السلف على ما قال الشيخ إبراهيم الكوراني في جميع الأسباب والمسببات وصرح به بعض الماتريدية أو على معنى أن الله تعالى خلق ذلك عنده وليس فيه مؤثرة مطلقا على ما يقوله الأشاعرة في كل سبب ومسبب فلا فرق بين الماء والنار مثلا عندهم في أنه ليس في كل قوة يترتب عليها ما يترتب وإنما الفرق في أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق دون الري عند النار دون الماء ويخلق الري دون الإحراق عند الماء دون النار وليس للنار والماء مدخل في الأثر من الإحراق والري سوى أن كلا مقارن لخلق الله تعالى الأثر بلا واسطة
(23/102)
وظواهر الأدلة مع الأولين ولا ينافي مذهبهم توحيد الأفعال وأنه عز و جل خالق كل شيء كما حقق في موضعه
وبعضهم زعم أن لها تأثيرا يعرفه المنجم غير ذلك كالسعادة والنحوسة وطول العمر وقصره وسعة العيش وضيقه إلى غير ذلك مما لا يخفى على من راجع كتب أحكام طوالع المواليد وطوالع السنين والكسوف والخسوف والأعمال ونحوها وهو مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه فليس له دليل عقلي أو نقلي بل الأدلة قائمة على بطلانه متكفلة بهدم أركانه والقائلون بعد بعدم اتفاقهم على أن الخير والشر والإعطاء والمنع وما أشبه ذلك يكون في العالم بالكواكب على حسب السعود والنحوس وكونها في البروج المنافرة لها أو الموافقة وحسب نظر بعضها إلى بعض بالتسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وحسب كونها في شرفها وهبوطها ووبالها ورجعتها واستقامتها وإقامتها اختلفوا في كثير من الأصول وتكلموا بكلام يضحك منه أرباب العقول وذلك أنهم اختلفوا في أنه على أي وجه يكون ذلك فزعم قوم منهم أن فعلها بطبائها وزعم آخرون أن ذلك ليس فعلا لها لكنها تدل عليه بطبائعها وزعم آخرون أنها تفعل في البعض بالعرض وفي البعض بالذات وزعم آخرون أنها تفعل بالإختيار لا بالطبع إلا أن السعد منها لا يختار إلا الخير والنحس لا يختار إلا الشر وهذا مع قولهم أنها قد تتفق على الخير وقد تتفق على الشر مما يتعجب منهى وزعم آخرون أنها لا تفعل بالإختيار بل تدل به وهو كلام لا يعقل معناه
واختلفوا أيضا فقالت فرقة : من الكواكب ما هو سعد ومنها ما هو نحس وهي تسعد غيرها وتنحسه
وقالت أخرى : هي في أنفسها طبيعة واحدة وإنما تختلف دلالتها على السعود والنحوس وهذا قول من يقول منهم إن للملك طبيعة مخالفة لطبيعة الإستقصات الكائنة الفاسدة وأنها لا حارة ولا باردة ولا يابسة ولا رطبة ولا سعد ولا نحس فيها وإنما يدل بعض أجرامها وبعض أجزائها على الخير والبعض على الشر وارتباط الخير والشر والسعد والنحس بها ارتباط المدلولات بأدلتها لا ارتباط المعلولات بعللها وهو أعقل من أصحاب القول بالإقتضاء الطبيعي والعلية وإن كان قوله أيضا عند بعض الأجلة ليس بشيء لأن الدلالة الحسية لا تختلف ولا تتناقض
واختلفوا أيضا فقالت فرقة تفعل في الأبدان والأنفس جميعا وهو قول بطليموس وأتباعه وقال الأكثرون : تفعل في الأنفس دون الأبدان ولعل الخلاف لفظي واختلف رؤساؤهم بطليموس ودوروسوس وأنطيقوس وريمس وغيرهم من علماء الروم والهند وبابل في الحدود وغيرها وتضادوا في المواضع التي يأخذون منها دليلهم ومن ذلك اختلافهم في أمر سهم السعادة فزعم بطليموس أنه يعلم بأن يؤخذ أبدا العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر ويبتديء من الطالع فيرصد منه مثل ذلك العدد على التوالي فمنتهى العدد موضع السهم وزعم بعضهم أنه يبتديء من الطالع فيعد مثل ذلك على خلاف التوالي وزعم بعض الفرس أن سهم السعادة يؤخذ بالليل من القمر إلى الشمس وبالنهار من الشمس إلى القمر وزعم أهل مصر في الحدود أنها تؤخذ من أرباب البيوت وزعم الكلدانيون أنها تؤخذ من مدبري المثلثات واختلفوا أيضا فرتبت طائفة البروج المذكرة والمؤنثة من المطالع فعدوا واحدا مذكرا وآخر مؤنثا وصيروا الإبتداء بالمدكر وقسمت طائفة أخرى البروج أربعة أجزاء وجعلوا المذكرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء والتي تقابلها من الغارب إلى وتد الأرض وجعلوا الربعين الباقيين مؤنثين ومما يضحك العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين حار المزاج وبارده وجعلوا الحار منها ذكرا والبارد أنثى وابتدؤا بالحمل فقالوا : هو ذكر حار والذي بعده مؤنث بارد وهكذا إلى آخرها فصارت ستة ذكورا وستة إناثا
(23/103)
وقال بعضهم : الأول ذكر والثلاثة بعده إناث والخامس ذكر والثلاثة بعده إناث والتاسع ذكر وما بعده إناث فالذكور ثلاثة وبعد كل ذكر إناث ثلاث مخالفة له في الطبيعة ثم إن هذه القسمة للمذكر والمؤنث ذاتية للبروج ولها قسمة ثانية بالعرض وهي أنهم يبدؤن من الطالع إلى الثاني عشر فيأخذون واحدا ذكرا وآخر أنثى
وبعضهم يقول هي أربعة أقسام فمن وتد المشرق إلى وتد العاشر وذكر شرقي مجفف سريع ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط ومن وتد لالغارب إلى وتد الرابع ذكر معتل رطب غربي بطيء ومن وتد الرابع إلى الطالع مؤنث ذليل مبرد شمالي وسط وبعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحمل فقال هي ذكر والدرجة الثانية أثني وهكذا إلى آخر الحوت ولبطليموس هذيان آخر ابتدأ بأول درجة كل برج ذكر فنسب منها إلى تمام اثنتي عشر درجة ونصف إلى الذكورية ومنه إلى تمام خمس وعشرين درجة إلى الأنوثية ثم قسم باقي الروج إلى قسمين فنسب النصف الأول إلى الذكر والآخر إلى الأنثى وفعل مثل ذلك في كل برج أثني ولدوروسوس هذيان آخر أيضا فإنه يقسم البروج كل برج ثمانية وخمسين دقيقة ومائة وخمسين دقيقة ثم ينظر إلى الطالع فإن كان برجا ذكرا أعطي القسمة الأولى للذكر ثم الثانية للأنثى إلى أن يأتي على الروج كلها وإن كان أثني أعطى القسمة الأولى للأنثى ثم الثانية للذكر إلى أن يأتي آخرها وما لهم في شيء من ذلك دليل مع أن قولهم ببساطة الفلك يأبى اختلاف أجزائه بالخرارة والرودة والذكورة والأنوثة ومثل هذيانهم في قسمة الأجزاء الفلكية إلى ما ذكر قسمتهم الكواكب إلى ذلك فزعموا أن القمر والزهرة مؤنثتان وأن الشمس وزحل والمشتري والمريخ مذكرة وأن عطارد ذكر أنثى وإن سائر الكواكب تذكر وتؤنث بسبب الأشكال التي تكون لها بالقياس إلى الشمس أنها إذا كانت مشرقة متقدمة على الشمس فهي مذكرة وإن كانت مغربة تابعة كانت مؤنثة وإن ذلك يكون لها بالقياس إلى أشكالها من الأفق وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء مما تحت الأرض فهي مذكرة وإذا كانت في الربعين الباقيين فهي مؤنثة ويلزم انقلاب المذكر مؤنثا والمؤنث مذكرا
وأجاب بعضهم عن هذا الهذيان أنه لا مانع من اتصاف شيء بأمر بالقياس إلى شيء وبضده بالقياس إلى آخر وهو في نفسه غير متصف بشيء منهما كالأدكن فإنه يقال فيه أبيض بالقياس إلى الأسود وأسود بالقياس إلى الأبيض وهو في نفسه لا أسود ولا أبيض فكذا الكواكب يقال أنها ذكران وإناث بالقياس إلى الأشكال أعني الجهات والجهات إلى الرياح كالصبا والدبور والرياح إلى الكيفيات لا أنها ذكران وإناث في نفسها وهو تلبيس فإن الأدكن فيه شائبة وسواد فمقتضى التشبيه يلزم أن يكون في الكوكب شائبة ذكورة وأنوثة وأيضا أن الإنقسام المذكور بحسب الطبيعة والتأثير والتأثر و لايكاد بعرف انقلاب الحقيقة والطبيعة بحسب الموضع والقرب والبعد ومنه يعلم فساد ما قالوا : إن القمر من أول ما يهمل إلى وقت انتصافه في الضوء يكون فاعلا للرطوبة خاصة ومن ذلك وقت الإمتلاء يكون فاعلا للحرارة ومنه إلى وقت الإنتصاف الثاني في الضوء يكون فاعلا لليبس ومن ذلك إلى وقت خفائه يمون فاعلا للبرودة وقاسوا ذلك على تاثيرات الشمس في الفصول والفرق مثل الشمس ظاهر ويلزم عليه كون الشهر الواحد ذا فصول والحسن يدفعه وأيضا كلامهم هذا يخالف ما قالوه من أن قوة القمر الترطيب لقرب فلكه من الأرض وقبوله للبخارات الرطبة التي ترتفع منها إليه ثم إن هذا القول باطل في نفسه لما أنه يلزم عليه ازدياد رطوبة القمر
(23/104)
في كل يوم لو سلم تصاعد البخارات الرطبة إليه وتأثره منها وكذا القول بأن قوة زحل أن يبرد ويجفف تجفيفا يسيرا لبعده عن حرارة الشمس والبخارات الرطبة وإن قوة المريخ مجففة مرحقة لمشاكلو لونه لون النار ولقربه من الشمس وكوكب الدب الأكبر كالمريخ وإن عطاردا معتدل في التجفيف والترطيب لأنه لا يبعد عن الشمس بعدا كثيرا ولا وضعه فوق كرة القمر ومن العجائب استدلال فضلا على اختلاف الكواكب باختلاف ألوانها حيث قالوا : لما كان لون زحل الغبرة والكمودة حكمنا بأنه على طبع السوداء وهو البرد واليبس فإن لها من الألوان الغبرة ولما كان لون المريخ كلون النار قلنا طبعه حار يابس والحرارة واليبس في الشمس ظاهرتان ولما كان لون الزهرة كالمركب من البياض والصفرة والبياض أظهر فيها طبعها البرودة والرطوبة كالبلغم ولما كان صفرة المشتري أكثر مما في الزهرة كانت سخونته أكثر من سخونة الزهرة وكان في غاية الأعتدال وأما القمر فهو أبيض وفيه كمودة فيدل بياضه على الرودة
وأما عطارد فتختلف ألوانه فربما رأيناه أخضر وربما رأيناه أغبر وربما رأيناه على خلاف هذين اللونين وذلك في أوقات مختلفة مع كونه من الأفق على ارتفاع واحد فلا جرم يكون له طبائع مختلفة إلا أنا لما وجدناه في الأغلب أغبر كالأرض قلنا هو مثلها في الطبع ويرد على أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الطبيعة ولا في صفة أخرى وأن دلالة مجرد اللون على الطبيعة ضعيفة جدا لاشتراك الكثير في لون مع اختلاف الطبائع وأيضا الزرقة أظهر في الزهرة واختلاف ألوان عطارد لأنا نراه قريب الأفق فيكون بيننا وبينه بخارات مختلفىة وقال أبو معشر : إن القمر لا ينسب لونه إلى البياض إلا من عدم قوة الحس البصري وفيه بعد ما فيه ولو سلم جميع ما قالوه من اختلاف طبائع البروج والكواكب بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فقصارى ما يترتب على ذلك ما نجده من اختلاف الأقاليم حرارة وبرودة مثلا واختلاف أشجارها وأثمارها واختلاف أجسام أهلها وألوانهم واختلاف حيواناتها إلى غير ذلك من الإختلافات ومع هذا نقول : إن الكواكب جزء السبب في ذبك لكن من أين لهم القول بأن جميع الحوادث في هذا العالم خيرها وشرها وصلاحها وفسادها وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقواه ومدد بقاء أشخاصه وجميع أحوالها العارضة لها وتكون الجنين ومدة لبثه في بطن أمه وخروجه إلى الدنيا وعمره ورزقه وشقاوته وحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وعلمه إلى ما لا يحصى من أحواله وانقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه وإلى الحيوان البحري وأنواعه البري وأقسامه واختلاف صور الحيوانات وأفعالها وأخلاقها وثبوت العداوة بين أفراد نوع وأفراد آخر منها كالذئاب والغنم وثبوت الصداقة كذلك وكذا ثبوت العداوة أو الصداقة بين أفراد النوع الواحد إلى غير ذلك مما يكون في العالم لا يكون إلا بتأثير الكواكب وهو مما لا يكاد يصح لأن طريق صحته إما الخبر الصادق أو الحس الذي يشترك فيه الناس أو ضرورة العقل أو نظره وشيء من هذا كله غير موجود ولا يمكن الأحكاميين أن يدعوا واحدا من الثلاثة الأول وغايتهم أن يدعوا أن التجربة قادتهم إلى ذلك ولا شك أن أقل ما لا بد منه فيها أن يحصل ذلك الشيء على حالة واحدة مرتين والوضع المعين لمجموع الكواكب لا يتكرر أصلا أو يتكرر بعد ألوف من السنين وعمر الإنسان الواحد
(23/105)
بل عمر البشر لا تفي به وزعم بعضهم لذلك أن مجموع الإتصالات ونسب الكواكب بعضها إلى بعض غير شرط في التأثير لتتوقف التجربة على تكراره بل يكفي بعض الإتصالات وقد يكفي واحد منها وذلك يتكرر في أزمنة قليلة فتتأتى التجربة مثلا رداءة السفر وقد نزل القمر برج العقرب يستند إلى هذا النزول بالتجربة فإنا وجدنا تكرر ذلك وترتب الرداءة على كل مرة وهذا هو التجربة وكذا يقال في نظائره وأنت تعلم أن التجارب التي دلت على كذب ما يقولون بوقوع خلافه أضعاف التجارب التي دلت على صدقه فقد أجمع حذاقهم سنة سبع وثلاثين عام خروج علي كرم الله تعالى وجهه إلى صفين على أنه يقتل ويقهر جيشه فانتصر على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص إلا بالحيلة وإن لم يسلم هذا الإجماع فإجماعهم على مثله في خروجه كرم الله تعالى وجهه لحرب الخروارج حيث كان القمر في العقرب وقوله رضي الله تعالى عنه : نخرج ثقة بالله تعالى وتوكلا عليه سبحانه وتكذيبا لقول المنجم ونصرته الخارجة عن القياس مما شاع وذاع ولو قيل بتواتر لم يبعد وأجمعوا سنة ست وستين على غلبة علبد الله بن زياد وقد سار بنحو من ثمانين ألف مقاتل على المختار بن أبي عبيد فلقيه إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار بأرض نصيبين فيما دون سبعة آلاف مقاتل فقتل من عسكره نحو من ثلاثة وسبعين ألفا وضربه وهو لا يعرفه فقتله ولم يقتل من أصحابه أكثر من مائة
وأجمعوا يوم أسست بغداد سنة ست وأربعين ومائة على أن طالعها يقضي بأنه لا يموت فيها خليفة وشاع ذلك حتى قال بعض شعراء المنصور مهنئا له : يهنيك منها بلدة تقضي لنا أن الممات بها عليك حرام لما قضت أحكام طالع وقتها أن لا يرى فيها يموت إمام فأول ما ظهر كذب ذلك بقتل الأمين بشارع باب الأنبار فقال بعض الشعراء : كذب المنجم في مقالته التي كان ادعاها في بنا بغدان قتل الأمين بها لعمري يقتضي تكذيبهم في سائر الحسبان ثم مات فيها جماعة من الخلفاء كالواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم إلى أمور لا تكاد تحصى أجمعوا فيها على حكم وتبين كذبهم فيه على أنه قد يقال لهم : المؤثر في السعود والنحوس ونحوهما هل هو الكوكب وحده أو البرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج فإن قالوا بأحد الأمرين الأولين لزمهم دوام الأثر لدوام المؤثر وإن قالوا بالثالث لزمهم القول باختلاف البروج في الطبيعة وإلا لا تحدت آثار الكوكب فيها وكلبهم مجموعون على أن الفلك بسيط لا تركيب فيه والتزام التركيب من طبائع مختلفة ينافي قولهم بامتناع الإنحلال وزعم بعضهم أنها تفعل ما تفعل بالإختيار يستدعي إلغاء أمر الإتصال والإنفصال والمقارنة والهبوط ونحو ذلك وكون ما ذكر شرطا للإختيار لا يخفى حاله والقول بأنها تستدعي من حيث طبيعة أشعتها النسختين والتبريد وهما يوجبان اختلاف أمزجة الأبدان واختلافها يوجب اختلاف أفعال النفس يرد عليه أنا نرى التسخين مثلا يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها شخص غاية الخير والأفعال الحميدة وآخر غاية الشر والأفعال الخبيثة فلا بد لهذا الإختلاف من موجب غير التسخين وأيضا هم يقولون : جميع الحوادث الكونية مستند إلى الكواكب وحديث التسخين والتبريد وايتلزامهما اختلاف أفعال النفس لا يتم به
(23/106)
هذا الغرض وذكر الإمام الرازي عليه الرحمة أن المثبتين لعلم الأحكام والتأثيرات أي من الإسلاميين احتجوا من كتاب الله تعالى بآيات وهي أنواع الأول الآيات الدالة على تعظيم الكواكب فمنها قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تصير راجعة تارة ومستقيمة أخرى ومنها قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وقد صرح سبحانه بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرقها ومنها قوله تعالى والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب قال ابن عباس : الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السماوات السبع ومنها قوله تعالى والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين فقد بين سبحانه إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره النوع الثاني ما يدل على وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كقوله سبحانه فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات النوع الثالث الآيات الدالة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى فالمدبرات أمرا وقوله تعالى فالمقسمات أمرا قال بعضهم المراد هذه الكواكب
الرابع الآيات الدالة على أنه تعالى جعل حركات هذه الأجرام وخلقها على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم كقوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقوله تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا
النوع الخامس أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسك بعلم النجوم فقال سبحانه فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم السادس أنه تعالى قال لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يكون المراد كبر الجثة لأن كل أحد يعلمه فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف وقال سبحانه ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلق هذا باطلا ولا يجوز أن يكون المراد تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البعوضة ودلالة حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجه الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية عليه لأن الحياة لا يقدر عليها غيره تعالى وجنس التركيب يقدر عليه الغير فلما خصها سبحانه وتعالى بهذا التشريف المستفاد من قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلا علمنا أن في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها ويقرب من هذه الآية قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفورا ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن الإستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الإفتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز محدث وكل محدث مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل الآية على هذا الوجه فوجب حملها على الوجه الذي ذكر
النوع السابع روي أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على أستاذه فدخل عليهم واحد من المتفقهة فقال : ما تقرءون فقال عمر : نحن في تفسير آية من كتاب الله تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج
الثامن أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع تعالى بقوله ربي الذي يحيي ويميت قال له نمرود :
(23/107)
أتدعي أنه يحيي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أولا بواسطتها فإن ادعيت الأول فذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فهو بواسطة العناصر والحركات الفلكية وإن ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل مني ومن كل أحد وهو المراد بقوله أنا أحيي وأميت ثم إن إبراهيم عليه السلام لم ينازع في كون هذه الحوادث الفلية مرتبطة بالحركات الفلكية بل أجاب بأن الله تعالى هو المبدأ لتلك الحركات فيكون الفعل منه سبحانه حقيقة والواحد منا لا يقدر على تحريك الأفلاك على خلاف التحريك الإلهي وهذا هو المراد بقوله فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب وإذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب عرفت أن القرآن العظيم مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية وأما الأخبار فكثيرة منها ما روي أنه عليه الصلاة و السلام نهى عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما عند قضاء الحاجة ومنها أنه لما مات ولده صلى الله تعالى عليه وسلم إبراهيم انكسفت الشمس فقال : الناس إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة و السلام : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة ومنها ما روي ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا ذكر القدر فأمسكوا وغذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا ومن الناس من يروي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تسافروا والقمر في العقرب ومنهم من يرويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وإن كان المحدثون لا يقبلونه وأما الآثار فكثيرة أيضا فعن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا أتاه آخر الشهر فقال : أريد الخروج في تجارة فقال : تريد أن يمحق الله تعالى تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج
وعن عكرمة أن يهوديا منجما قال له ابن عباس : ويحك تخبر الناس بما لا تدري فقال : إن لك ابنا في المكتب يحم غدا ويموت في اليوم العاشر فقال ابن عباس : ومتى تموت أنت قال : على رأس السنة ثم قال له : ولا تموت أنت حتى تعمى فكان كل ذلك وعن الشعبي قال : قال أبو الدرداء لقد فارق رسول الله صلى الله عليه و سلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعى فيه علما وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم نظر في النجوم فعرفه
وعن ميمون بن مهران أنه قال : إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة وروي عن الشافعي أنه كان عالما بالنجوم وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له بأن هذا الولد ينبغي أن يكون على عضوه الفلاني خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال وروي ابن إسحاق أن المنجمين أخبروا فرعون أنه سيجيء ولد من بني إسرائيل يكون هلاكه على يده وكذا كان كما قص الله تعالى يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وأما المعقول فهو أن هذا العلم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمة من الأمم ولم يزالوا مشتغلين به معولين عليه في معرفة المصالح ولو كان فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه والتجارب في هذا الباب أكثر من أن تحصى أه كلامه
ولعمري لقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروج وبهرج وقعقع وفرقع ومن غير
(23/108)
طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين وإن أردت الإيضاح وأحببت الإتضاح فاسمع لما نقول : ما ذكره من الإستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بنار الحباحب فأما الإستدلال بقوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ففيه أنا لا نسلم إن هناك قسما بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير وحكى الماوردي أنها الملائكة وإذا سلم ذلك بناء على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإقسامبشيء دليلا على تأثره لزم أن يكون جميع مااقسم به تعالى مؤثرا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلا فالإستدلال به باطل ومثله في ذلك الإستدلال بقوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم وقد فسر غير واحد مواقع النجوم بمنازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة وكذا الإستدلال بقوله سبحانه وتعالى والسماء والطارق
وأما قوله تعالى فالمدبرات أمرا فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس وعطاء وعبد الرحمن بن سابط وابن 5 قتيبة وغيرهم قالوا : إن المراد بالمدبرات أمرا الملائكة حتى قال ابن عطية : لا أحفظ خلافا في ذلك وكذلك المقسمات أمرا فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشائيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين
وكذا يقال في قوله تعالى في يوم نحس مستمر وليس مستمر فيه صفة يوم بل هو صفة نحس أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها والقول بأنه صفة يوم وإن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وأنه نحس أبدا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدا بل كثيرا ما يحكم بغاية سعده حسبما تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه
وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما تقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبر بذلك أعظم من العبر بمجرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب وأما ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال إني سقيم فسقيم جدا وقد سمعت ما قيل في الآية ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من
(23/109)
أوضاع النجوم لا من الوحي وهو كما ترى وأما الإستدلال بقوله تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وإن المراد به كبر القدر والشرف لا كبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق ههنا الفعل لا المفعول والآية للدلالة على المعاد أي أن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهما أكبر من خلقكم كيف يعجزه أن يعيدكم بعد الموت ونظيرها قوله تعالى أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وأين هذا من بحث أحكام النجوم وتأثيراتها ومثل هذا الإستدلال بقوله تعالى ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا فإن خلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وحكمته وعلمه وانفراده بالربوبية ومن سوى بينهما وبين البقة فقد كابر ولذا ترى الأشياء الضعيفة كالبعوضة والذباب والعنكبوت إنما نذكر في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الإحتقار والضعف ولا تذكر في سياق الإستدلال على عظمة ذي الجلال جل شأنه على أن الآية لو دلت على أن للكواكب تأثيرا لدلت على أن للأرض تأثيرا أيضا كالكواكب وهم يقولوا به وما ذكره بعد من أن دلالة حصول الحياة في أبدان الحيوانات أقوى من دلالة السماوات والأرض إلى آخر ما قال في حيز المنع ونظير ذلك الإستدلال بقوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا فإنه لا يدل أيضا على أن للكواكب تأثيرا وغاية ما تدل عليه هذه الآية ونظائرها أن تلك المخلوقات فيها حكم ومصالح وليست باطلة أي خيالية عن ذلك ونحن نقول بما تدل عليه ولكن لا نقول بأن تلك الحكم هي الإسعاد واشقاء وهبة الأعمار والأرزاق إلى غير ذلك مما يزعمه المنجمون بل هي الآثار الظاهرة في عالم الطبيعة على ما سمعت ونحوها كالدلالة على وجود الصانع وكثير من صفاته جل شأنه التي ينكرها الكفرة ولا مانع من أن يقال خلق الله تعالى كذا لتظهر دلالته على كذا ولا تتعين العبارة التي ذكرها على أنه لا بأس بها عند تدقيق النظر ولعل ما قاله من فروع كون الماهيات غير مجعولة والكلام فيه شهير وأما ما ذكره عن عمر بن الخيام فهو على طرف الثمام وأما ما ذكره في محاجة إبراهيم عليه السلام وتقرير المناظرة على ما قرره فلم يقل به أحد من المفسرين سلفهم وخلفهم بل قد يقطع بأنه يخطر بقلب المشرك المناظر ما هو إلا تفسير بالرأي التشهي نعوذ بالله تعالى من ذلك وأما استدلاله بما روي من نهيه عليه الصلاة و السلام عن استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة فبعيد عن حاجته بل لا دلالة للنهي المذكور على تأثير الكواكب الذي يزعمونه وإلا لدل النهي عن استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة على أن لها تأثيرا على أن بعض الأجلة قد ذكر أن ذلك النهي لم ينقل فيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا متصل ولا مرسل وإنما قال بعض الفقهاء في آداب التخلي ولا يستقبل الشمس والقمر فقيل لأن ذلك أبلغ في التستر وقيل : لأن نورهما من نوره تعالى وقيل : لأن اسم الله تعالى مكتوب عليهما
وأما ما ذكر من حديث كسوف الشمس يوم موت إبراهيم وقوله عليه الصلاة و السلام ما قال فصيح لكن لا يدل على ما يزعمه المنجمون وصدر الحديث يدل على أن الشمس والقمر آيتان وليسا بربين ولا إلهين ففيه إشارة إلى نفي التصرف عنهما وفي قوله عليه الصلاة و السلام لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان أحدهما أن موت أحد وحياته لا يكونان سببا لانكسافهما وثانيهما أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة وإنما
(23/110)
ذلك تخويف من الله تعالى لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة بالحساب لطلوع الهلال وإبداره وسراره فأما سبب كسوف الشمس فتوسط القمر بين جرم الشمس وأبصارنا كسحابة تكر تحتها فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير ممنوعا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض المخروط في ممره فقد يقع كله في المخروط وقد يقع بعضه فيه ويبقى بعضه الآخر خارجا إلى آخر ما قرر في موضعه وليس في الشرع ما يأباه والوقوف على وقت الكسوف والخسوف ومقدارهما أمر سهل ولا يلزم من صدق المنجم في ذلك صدقه فيما يزعم من التأثيرات وما الأخبار بهما إلا كالأخبار بوقت طلوع الشمس في يوم كذا في ساعة كذا وكالأخبار بوقت الهلال والإبدار والسرار ثم إنا لا ننكر أن الله تعالى يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى والصلاة والعتاقة والصدقة لأن هذه الأشياء تكون سببا لدفع موجب الكسف الذي جعله الله تعالى سببا لما جعله فلو لا انعقاد سبب التخويف لما أمر عليه الصلاة و السلام بدفع موجبه بهذه العبادات ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب ما يدفع موجب الأسباب لمن قامت به أو يقلله أو يخففه فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله تعالى الكسوف سببا له أو بعضه ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف ويسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا
وقد جاء أنه صلى الله عليه و سلم لما كسفت الشمس في عهده قام فزعا مسرعا يجر رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة وما ذلك إلا لكونه عليه الصلاة و السلام أعلم الخلق بالله تعالى وبأمره وشأنه وتصريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة وأشفقهم على العباد ولم يبين لهم عليه الصلاة و السلام أسباب الكسوفين وحسابهما لأن الجهل بذلك لا يضر والعلم به لا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل عليهم السلام
وقد يقال : الأمر بالصلاة عندهما كالأمر بالصلاة عند طلوع الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك رفع موجبهما الذي جعلهما الله تعالى سببا له ومن الناس من أنكر أن يكون الكسوفان سببين لشيء من البلاء أصلا وأن سبب حصولهما ليس ما أطال الكلام فيه المنجمون ومر بعضه بل السبب هو تجلي الله تعالى عليهما لما أخرجه ابن ماجة في سننه والإمام أحمد والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال : انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت ثم قال : إن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله تعالى لشيء من خلقه خشع له وإن الأمر بالصلاة لظهور آثار تجلي الجلال في هذين الجرمين العظيمين أو هو كالأمر بالصلاة عند غروب الشمس وطلوع الفجر مثلا وحكمته كحكمته والقائلون بهذا مكابرون للفلاسفة في أشياء لا ينبغي المكابرة فيها ولعلها تضر بالدين وتصير سببا لطعن الملحدين
(23/111)
فيكابرون في كون الأفلاك مستديرة والأرض كرية وأن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وأن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء نور القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أن نوره مقتبس منها وأن الكسوف الشمسي عبارة عن وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال والإنفعالات إلى غير ذلك مما تقدم عليه الأدلة ولا تعارضه النصوص الشرعية القطعية وما ذمروه من الحديث تعقبه حجة الإسلام الغزالي فقال : إن زيادة فإن الله الخ لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التي لم تبلغ في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك أه وليس الأمر في هذه كما قال من عدم الصحة فإن إسنادها لا مطعن فيه فابن ماجه يروي الحديث بهذه الزيادة عن محمد بن المثنى وأحمد بن ثابت وحميد بن الحسن وهم يروونه عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير وكل هؤلاء ثقات حفاظ نعم الحديث الخالي عنها رواه بضعة عشر صحابيا منهم علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعائشة وأسماء أختها ابي بن كعب وجابر ابن عبد الله وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالي وعبد الله بن عمرو ومن هنا خاف بعض الأجلة أن تكون مدرجة الحديث لكنه خلاف الظاهر وحينئذ يقال : إن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما ضعف سلطانهما وبهائهما وذلك يوجب لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله سبحانه ما يكون سببا لتجليه عز و جل لهما ولا يستنكر أن يكون تجلي الله سبحانه لهما في وقت معين كما يدنو سبحانه من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا عند مضي نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلي خشوعا آخر هو الكسوف فإنه إنما حدث بالسبب الذي عرفت ولم يقل النبي صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى إذا تجلى لهما انكسفا بل قال فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له وفي رواية الإمام أحمد إذا بدا الله لشيء من خلقه خشع له فههنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما الحادث من وضعهما الخاص وخشوع أوجبه تجليه تعالى لهما لذلك الخشوع الذي أوجبه الكسوف وهذا توجيه لطيف المنزع يقبله العقل المستقيم والفطرة السليمة إن شاء الله تعالى وأما استدلاله بحديث ابن مسعود ففيه على ما قيل أن الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم النجوم حقا لم يأمر صلى الله عليه و سلم بالإمساك عند ذكر النجوم فالظاهر أنه عليه الصلاة و السلام لم يأمر بذلك إلا لأن الخوض في ذلك خوض فيما لا علم للخائض به فتأمل
وأما حديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين دون رسول رب العالمين صلى الله عليه و سلم وروايته عن علي كرم الله تعالى وجهه كذب أيضا والمشهور عنه خلاف ذلك كما سمعت في قصة خروجه لقتال الخوارج وأما ما احتج به من الأثر عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا أتاه الخ فلا يعلم ثبوته عنه رضي الله تعالى عنه والكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطلة بنسبتها إليه أو إلى أهل بيته ثم لو صح عنه فليس فيه تعرض لثبوت أحكام النجوم بوجه وقد جاء عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال : اللهم بارك لأمتي في بكورها ونسبة أول الشهر إليه كنسبة أول النهار إليه وكان صخر راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في
(23/112)
أول النهار فأثري وكثر ماله ولا يبعد أن يكون أول السنة كأول النهار أيضا فللأوائل مزية القوة كما هو مشاهد في الشباب والشيخوخة ولله تعالى تجليات في الأزمنة والأمكنة والأشخاص وليس ذلك من تأثير الكواكب في شيء ومثل هذا يقال فيما ذكره الكرماني وقد مر وأما ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا نسلم صحته وإن سلم ذلك فهو من جنس إخبار الكهال بشيء من المغيبات وقد أخبر ابن الصياد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما أخبر فقال عليه الصلاة و السلام له إنما أنت من إخوان الكهان وعلم مقدمة المعرفة لا يختص بما ذكره المنجمون بل له عدة أسباب يصدق الحكم معها ويكذب منها الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر وضرب الحصى والخط والكتف والكشف المستند إلى الرياضة وهو كشف جزئي عن بعض الحوادث ويشترك فيه المؤمن والكافر ومنها غير ذلك وللعمال في البحر والسعادة ونحوهم في البر علامات يعرفون بها أوقات المطر والصحو والبرد والريح وغيرها وقلما يخطئون في أخبارهم بل صوابهم في ذلك أكثر من صواب المنجم
وأما ما ذكره من حديث أبي الدرداء فالمحفوظ فيه توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتركنا وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علما وفيه روايات أخر صحيحة أيضا وكلها ليس فيها وليست الكواكب الخ فهو من أعظم الأدلة على بطلان دعوى المنجمين إذ لم يذكر عليه الصلاة و السلام من أحكام النجوم شيئا البتة وقد علمهم علم كل شيء حتى الخرأة وأما قوله إنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام الخ فكذب وافتراه على آدم عليه السلام وقد عمل هذا الكاذب المفتري بالمثل الساءر إذا كذبت فأبعد شاهدك ونحو ما روي عن ميمون بن مهران وأما ما نسب إلى الشافعي فهو بعض من حكاية ذكرها أبو عبد الله الحاكم فيما ألفه في مناقبه والحكايات التي ذكرت عنه في أحكام النجوم ثلاث إحداها قال الحاكم : قريء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي وأكثر ظني أني حضرته حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العباس الأزدي في آخرين قالوا حدثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينوري حدثنا عبد الله بن محمد البلوري حدثني خالي عمارة ابن زيد قال : كنت صديقا لمحمد بن الحسن فدخلت معه يوما على هارون الرشيد فسأله ثم إني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول : إن محمد بن إدريس يزعم أنه للخلافة أهل قال فاستشاط هارون من قوله غضبا ثم قال : على به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثم رفع رأسه إليه فقال : أيها قال الشافعي : ما أيها يا أمير المؤمنين أنت الداعي وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال : كيف علمك بالنجوم قال : أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائي والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيرين والإستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيآتها وطبائعها وما استدل به في بري وبحري واستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضى من الأوقات في إمسائي وإصباحي وظعني في أسفاري ثم ساق العلوم على هذا النحو ومن له علم بالمنقولات يعلم أن هذه الحكاية كذب مختلق وإفك مفترى على الشافعي والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوري فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعي وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعي أبا يوسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ويشهد بكذبها أنها تدل على أن محمدا وشى بالشافعي إلى الرشيد وأراد قتله ومحمد أجل من أن ينسب إليه ذلك
(23/113)
وتعظيمه للشافعي ومحبته إياه هو المعروف كتعظيم الشافعي له وثنائه عليه وفيها شواهد أخر على الكذب يعرفها العالم بالمنقول إذا اطلع عليها كلها وثانيتها وهي التي أخذت منها ما ذكرها الإمام قال الحاكم : أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة : قال : كان الشافعي يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده جارية قد حلبت فقال : إنها تلد إلي سبعة وعشرين يوما ويكون في فخد الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يوما ثم يموت فكان الأمر كما قال فأحرق بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث الحسن عن حرملة ويدل على كذب الحكاية أنها لو صحت لوجب أن تثني الخناصر على هذا العلم وتشد الأيدي لا أن تحرق كتبه ولا يعاود النظر في شيء منها وإن الطالع عند المنجمين طالعان طالع مسقط المطفة وهو الطالع الأصلي الذي يزعمون دلالته على وقت الولادة والحكاية لم تتضمن أن الشافعي نظر فيه ولو كان لتضمنه وطالع الولادة وإخبار الشافعي قبلها ضرورة أنه قال : إنها تلد إلى سبعة وعشرين يوما وثالثتها قال الحاكم : أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي أن زكريا بن يحيى الساجي حدثهم قال أخبرني أحمد بن محمد بن بنت الشافعي قال سمعت أبي يقول : كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يوما وامرأة تلد فحسب فقال : تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه أن لا ينظر فيه أبدا وأمر هذه الحكاية كالتي قبلها فإن ابن بنت الشافعي لم يلق الشافعي ولا رآه والشأن فيمن حدث بها عنه وأيضا طالع مسقط النطفة لم يؤخذ والخبر قبل تحقق طالع الولادة ثم إن هذه الحكاية إن كان قبل تحقق الحكاية التي قبلها لم تكد تحقق وإن كان تحقق تلك قبل لم تكد هذه تحقق كما لا يخفى على المنصف والذي صح عن الشافعي في أمر النجوم أنه كان يعرف ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والإهتداء بالنجوم في الطرقات وأما غير ذلك من الأحكام التي يزعمها المنجمون فلا وكان رضي الله تعالى عنه شديد الإنكار على المتكلمين مزريا بهم حكمه فيهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل فما تراه في المنجمين الذين شاع هذيانهم وقبح عند ذوي العفول السليمة شأنهم نعم كانت له رضي الله تعالى عنه اليد الطولى في علم الفراسة وقد خرج إلى اليمن لجمع كتبه منها ما جمع وله فيها حكايات يقضي منها العجب ولعل إخباره بأمر المولود لو صح من ذلك العلم والناقل لجهله أو لأمر آخر أسنده للنظر في أحكام النجوم وقال ما قال وأما ما ذكر عن ابن إسحاق من أن فرعون كان يقتل أبناء بني إسرائيل لأخبار المنجمين إياه بأنه سيولد لهم مولود يكون هلاكه على يده فهو كما قال بعض الأجلة من أخبار أهل الكتاب ومخالف لروايات أكثر المفسرين فإنهم أحالوا ذلك على إخبار الكهان وروي بعضهم أن قومه أخبروه بأن بني إسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكك على يديه وفي أخبار الكهعان ما هو أعجب من ذلك ومنها خبرهم بظهور خاتم الرسل صلى الله عليه و سلم وانتشار أمره ونحن لا ننكر على تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إلى مثل ذلك يختلف قوى الناس في إدراكها وتحصيلها وإنما كلامنا مع المنجمين في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يسندونها إليها وأما ما ذكره في الإستدلال بالمعقول من أنه ما خلت عن هذا العلم ملة من الملل ولا أمة من الأمم وأنهم لم يزالوا مشتغلين
(23/114)
به معولين في معرفة المصالح عليه إلى آخر ما قال ففرية من غير مرية ويا عجبا من دعواه إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وهم يقولون إنما أسست أصوله وأوضاعه في زمن هرمس الهرامسة يعنون به إدريس عليه السلام وهو بعد بناء العالم بكثير وأيضا قد رده كثير من الفلاسفة وجمع غفير من أساطين الإسلام حتى أنه قد ألف ما يزيده على مائة مصنف في رده وإبطاله وقد قال أبو نصر الفارابي : اعلم أنك لو قبلت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردا والبارد حارا والسعد نحسا والنحس سعدا والذكر أنثى والأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطيء تارات وقد زيف أمرهم ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة وكذا أبو البركات البغدادي في كتاب التعبير له هذا ما اختاره بعض المحققين في الرد على المنجمين وأعود فأقول : الذي أراه في هذا المقام ويترجح عندي من كلام العلماء الأعلام أن الله عز و جل لم يخلق شيئا باطلا خاليا عن حكمة ومنفعة بل خلق الأشياء علويها وسفليها جليلها ودنيها مشتملة على حكم لا تحصى ومنافع لا تستقصي وإن تفاوتت في أفرادها قلة وكثرة وخص كلا منها بخلاصة لا توجد في غيرها مع اشتراك الكل في الدلالة على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته : ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فالأجرام العلوية مشتركة في هذه الدلالة مختص كل منها بخاصة وشأن الكواكب في خواصها وتأثيراتها كشأن النباتات والمعدنيات والحيوانات في خواصها وتأثيراتها فمنها ما خاصته في نفسه غير متوقفة على ضم شيء آخر إليه ومنها ما خاصته متوقفة على ضم شيء آخر ومنها ما إذا ضم إليه شيء أسقط خاصته وأبطل منفعته ومنها ما يعقل وجه تأثيره ومنها ما لا يعقل ومنها ما يؤثر في مكان دون مكان وزمان دون زمان ومنها ما يؤثر في جميع الأزمنة والأمكنة إلى غير ذلك من الأحوال وكونها زينة للسماء لا يستدعي نفي أن يكون فيها منفعة أخرى على حد ما في الأرض فقد قال سبحانه : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها مع اشتمال الأزهار وغيرها على ما تعلم وما لا تعلم من المنافع وكذلك كونها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكونها رجوما للشياطين ولا أقول ببساطة الأفلاك ولا ببساطة الكواكب ولا بانحصارها فيما يشاهد ببصر أو رصد ولا بذكورة بعد وأنوثة آخر إلى كثير مما يزعمه المنجمون وأقول : إن الله تعالى أودع في بعضها تأثيرا حسبما أودع في أزهار الأرض ونحوها وأنها لا تؤثر إلا بإذنه عز و جل كما هو مذهب السلف في سائر الأسباب العادية وإن شئت فقل كما قال الأشاعرة فيها وأنه لا يبعد أن يكون بعضها علامات لاحداثه تعالى أمورا لا بواسطتها في أحد العالمين العلوي والسفلي يعرفها من يوفقه الله تعالى عليها من ملائكته وخواص عباده وارتباط كثير من السفليات بالعلويات مما قال به الأكابر ولا ينكره إلا مكابر ولا أنسب أثرا من الآثار إلى كوكب بخصوصه على القطع لاحتمال شركة كوكب أو أمر آخر نعم الظاهر يقتضي كثرة مدخلية بعض الكواكب في بعض الآثار كالقمر في مد البحار وجزرها فإن منها ما يأخذ في الإزدياد حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الإمتلاء ثم إنه يأخذ في الإنتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر إلى المحاق ومنها ما يحصل فيه المد في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه كبحر فارس وبحر الهند وبحر الصين وكيفيته أنه إذا بلغ
(23/115)
القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا زال عن مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثم يبتديء ثانيا ويرجع الماء كما كان ومثل المد والجزر بحرانان الأمراض فإنها بحسب زيادة القمر ونقصانه على معنى كثرة مدخلية ذلك ظاهرا فيها إلى أمور كثيرة ولا أقول : إن لكوكب تأثيرا في السعادة والشقاوة ونحوهما ولا يبعد أن يكون كوكب أو كواكب باعتبار بعض الأحوال علامة لنحو ذلك يعرفها بعض الخواص ولا وثوق بما قاله الأحكاميون وكل ما يقولونه ظن وتخمين لا دليل لهم عليه وهم أسسوا عليه أحكامهم متناقضون وفي المذاهب مختلفون فللبابليين مذهب وللفرس مذهب ولأهل الهند مذهب ولأهل الصين مذهب وقد رد بعضهم على بعض وشهد بعض على بعض بفساد أصولهم ومبنى احكامهم فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارس ومانالارس قد حكموا حكما في الكواكب واتفقوا على صحته وأقام الناس على تقليدهم وبناء الأمر على ما قالوه أكثر من سبعمائة سنة فجاء من بعدهم خالد بن عبد الملك المروزي وحسن صاحب الزيج الماوني ومحمد بن الجهم ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجدوهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن
ثم حدث بعدهم بنحو ستين سنة طائفة أخرى زعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر فرد عليهم وبين خطأهم كما ذكره أبو سعيد شاذان المنجم في كتاب أسرار النجوم له وفيه قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم إنه يدل على التأنيث فقال : هكذا قالوا قلت : قالوا إنه ليس بصادق اليبس لكنه بارد عفن ملتوي كل الأعراض الغائية توهم لا يكون شيء منها يقينيا وإنما يكون توهم أقوى من توهم
ومن تأمل أحوال القوم على ما معهم تفرس يصيبون معه ويخطئون ثم حدثت بعدهم طائفة أخرى بنحو سبعين سنة منهم الحسين عبد الرحمن بن عمر المعروف بالصوفي فرد على من قبله وغلطه وألف كتابا بين فيه من الأغلاط ما بين وحمله إلى عضد الدولة ابن بويه فاستحسنه وأجزل ثوابه ثم جاءت بعد نحو ثلاثين سنة طائفة أخرى منهم كوشيار الديلمي فألف المجمل في الأحكام وجهل فيه من يحتج للأحكام من الأحكاميين وقال عن صناعة التنجيم : هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون فيها مجال إلى أن قال : ومن المنفردين بعلم الأحكام من يأتي على جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فيظن أنها براهين لجهله بطريق البرهان وطبيعته ثم حدثت طائفة منهم منجم الحاكم بالديار المصرية المعروف بالفكري فوضع هو وأصحابه رصدا آخر سموه الرصد الحاكمي فخالفوا فيه أصحاب الرصد الممتحن وبنوا أمر الأحكام عليه
ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الريحان البيروتي مؤلف كتاب التفهيم إلى صناعة التنجيم وكان بعد كوشيار بنحو أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتى من مناقضاتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد صناعتهم وختم كتابه بقوله في الخبء والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر إصابة الزاجرين بما يستعمل من الكلام وقت السؤال ويرونه باديا من الآثار والأفعال على السائل إلى آخر ما قال ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي وكان بعد البيروتي بنحو ثمانين عاما وكان رأسا في الصناعة ومع هذا اعترف بأن قول المنجمين هذيان ثم حدثت طائفة أخرى بالمغرب منهم أبو إسحاق الزرقال
(23/116)
وأصحابه وكان بعد أبي الصلت بنحو مائة سنة فخالف الأوائل والأواخر في الصناعتين الرصدية والإحكامية
وآخر ما نعلم حدوثه زيج لا لنت والقسيني وفيه من المخالفة لما قبله من الإزياج ما فيه وقد ذكر فيه تقويم هرشل ومقدار حركته وهو كوكب سيار ظفر به هرشل أحد فلاسفة الأفرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم والإفرنج على مهارة كثير منهم بعلم الرصد لا يقولون بشيء مما يقول به الأحكاميون الأوائل والأواخر ويسخرون منهم وقد ذكر من يوثق به وجوها تدل على فساد ما بأيديهم من العلم وأنه لا يوثق به الأول أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية مما لا تتأتى أما أولا فلأنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة وإذا كان المرئي صغيرا أو في غاية البعد يتعذر رؤيته فإن أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي به قوة البصر مثل الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض أعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة كل منها كعطارد حجما فكيف ترى ونفي هذا الإحتمال لا بد له من دليل ومع قيامه لا يحصل الجزم بمعرفة جميع المؤثرات وإن قالوا : جاز ذلك إلا أن آثار هذا الكوكب لصغره ضعيفة فلا تصل إلى هذا العالم قلنا : صغر الجرم لا يوجب ضعف الأثر فقد أثبتهم لعطارد آثار قوية مع صغره بالنسبة إلى سائر السيارات بل أثبتم للرأس والذنب وسهم السعادة وسهم الغيب آثار قوية وهي أمور وهمية وأما ثانيا فالمرصود من الكواكب المرئية أقل قليل بالنسبة إلى غير المرصود فمن أين لهم الوقوف على طبيعة غير المرصود وأما ثالثا فلأنه لم يحصل الوقوف على طبائع جميع المرصود أيضا وقلما تكلموا في معرفة غير الثوابت التي من القدر الأول والثاني وأما رابعا فآلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث فما فوق ولا شك في أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا ألف مرة أو أقل أو أكثر ومع هذا التفاوت العظيم كيف الوصول إلى الغرض وقد قيل أن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل فإذا كان كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات وأما خامسا فبتقديرانهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها فهل وقفوا على طبائعها حال امتزاج بعضها ببعض والإمتزاجات الحاصلة مع طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية تبليغ في الكثرة إلى حيث لا يقدر العقل على ضبطها وأما سادسا فيقال : هب أنا عرفنا تلك الإمتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت فلا ريب أنه لا يمكننا معرفة الإمتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال ولا ريب إنا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه ربما كانت تلك الطوالع دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة في إبطال هذا العلم الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وإن لم تضبط الدقيقة وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم
(23/117)
واختلافهم اختلافا عظيما من غير دليل ومتى تعارضت الأقوال وتعذر الترجيح فيما لا يعول على شيء منها
الرابع أن أرصادهم لا تنفك عن نوع خلل وهي مبنى أحكامهم وقد صنف أبو علي بن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك ليس في وسع الإنسان دفعه وإزالته وإصابتهم في أوقات الخسوف والكسوف مع ذلك الخلل لا تستدعي إصابتهم في غيرها معه الخامس أنا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقا كثيرا يغرقون في ساعة واحدة مع اختلاف طوالعهم واقتضائها أحوالا مختلفة عندكم وهذا يدل على عدم اعتبار ما اعتبرتموه أولا فإن قلتم : إن الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض فلعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل فكان الحكم قلنا : هذا بعينه يبطل عليكم اعتبار طالع المولود فإن الطوالع بعده مختلفة ولعل بعضها أقوى منه فلا يفيد اعتباره شيئا السادس أن العقل لا مساغ له في اقتضاء كوكب معين أو وضع معين تأثيرا خاصا والتجربة على قصورها معارضة بتجربة اقتضت خلافها إلى غير ذلك من الوجوه وأبو البركات البغدادي وإن زيف ما هم عليه إلا أنه يقر بقبول بعض الأحكام فإنه قال بعد ذكر شيء من أقوالهم التي لا دليل لهم عليها : وهذه أقوال قالها قائل فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم حسبها الحاكمون بجيد ورديء وسلب وإيجاب وسعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى كذب فيه بل عذروه وقالوا : هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء ولعمر الله تعالى أنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه وبالذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقة كالقرانات والإنتقالات والمقابلة وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وما يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك وكأني أريد أن أختصر الكلام ههنا وأوافق إشارتك وأعمل بحساب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم أحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غلطية وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتنع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كما قبله من لم يعقله بل أوضح القبول والرد وموضع الترقبف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط بكل ما يحويه الفلك لأن منه مباديء الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن الإمكان بعدا عظيما والبعض الممكن منه لا يهدي إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبة المعلوم إلى الكجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب وكفى بذلك بعدا انتهى وفيه من التأييد لبعض ما تقدم من الأوجه ما فيه
وأنا أقول : إن الإحاطة بالأسرار المودعة في الأجرام لا يبعد أن تحصل لبعض الخواص ذوي النفوس القدسية لكن بطريق الكشف أو نحوه دون الإستدلال الفكري والأعمال الرصدية مثلا وهو الذي
(23/118)
يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات : ومن الأولياء النقباء وهم اثناء عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد البروج الإثني عشر كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطي للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ثم قال : ومنهم النجباء وهم ثمانية في كل زمان إلى أن قال : ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والإطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه وهي كل فلك فيه كوكب ويفهم من هذا القول بالتأثيرات وأنها نفاضة من الرج على النازل فيه من الكواكب
وقد تكررت الإشارة منه إلى ذلك ففي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من الفتوحات أن الله تعالى خلق في جوف الكرسي جسما شفافا مستديرا يعني الفلك الأطلسي قسمه اثني عشر قسما هي البروج وأسكن كل برج منها ملكا إلى ان قال : وجعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الإثني عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن نزل بهم ما تعطيه مرتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات بل ما يظهر من مقعر فلك الثوابت إلى الأرض وجعل لهؤلاء الإثني عشر نظرا في الجنان وأهلها وما فيها مخلصا من غير حجاب فما في الجنان من حكم فهو تولي هؤلاء بنفوسهم تشريفا لأهل الجنة وأما أهل النار فما يباشرون مالهم من الحكم إلا بالنواب وهم النازلون عليهم الذين ذكرناهم وقال قدس سره : في الفصل الرابع إن الله تعالى جعل لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك الأطلس ليحصل من تلك الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الإثني عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب وجعلها على حقائق مختلفة انتهى المراد منه
وله قدس سره كلام غير هذا أيضا وقد صرح بنحو ما صرح به المنجمون من اختلاف طبائع البروج وأن كل ثلاثة منها على مرتبة واحدة في المزاج وأنا لا أزيد على القول بأن للأجرام العلوية كواكبها وأفلاكها أسرارا وحكما وتأثيرات غير ذاتية بل مفاضلة عليها من جانب الحق والفياض المطلق جل شأنه وعظم سلطانه ومنها ما هو علامة لما شاء الله تعالى ولا يتم دليل على نفي ما ذكر ولا يعلم كمية ذلك ولا كيفيته ولا أن تأثير كذا من كوكب كذا أو كوكب كذا علامة لكذا في نفس الأمر إلا الله تعالى العليم البصير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير إلا أنه سبحانه قد يطلع بعض خواص عباده من البشر والملك على شيء من ذلك ولا يبعد أن يطلع سبحانه البعض على الكل ووقوع ذلك لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا أكاد أشك فيه وقد نص بعض ساداتنا الصوفية قدست أسرارهم وأشرقت علينا أنوارهم على أن علومه عليه الصلاة و السلام التي وهبت له ثلاثة أنواع نوع أوجب عليه إظهاره وتبليغه وهو علم الشريعة والتكاليف الإلهية وقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ناظر إلى ذلك دون العموم
(23/119)
المطلق أو خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه كما يقوله الشيعة ونوع أوجب عليه كتمانه وهو علم الأسرار الإلهية التي لا تتحملها قوة غير قوته القدسية عليه الصلاة و السلام فكما أن لله تعالى علما استأثر به دون أحد من خلقه كذلك لحبيبه الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم علم استأثر به بعد ربه سبحانه لكنه مفاض منه تعالى عليه ولعله أشير إليه في قوله تعالى فأوحى إلى عبده ما أوحى وقد يكون بين المحب والمحبوب من الأسرار ما يضمن به على الأغيار ومن هنا قيل : ومستخبر عن سر ليلى تركته بعمياء من ليلى بغير يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها وما أنا إن خبرتهم بأمين ونوع خيره الله تعالى فيه بين الأمرين وهذا منه ما أظهره لمن رآه أهلا له ومنه مالم يظهره لأمر ما فلعل ما وهب له عليه الصلاة و السلام من العلم بدقائق أسرار الأجرام العلوية وحكمها وما أراد الله تعالى بها مما لم يظهره للناس كعلم الشريعة لأنه مما لا يضبط بقاعدة وتفصيل الأمر فيه لا يكاد يتيسر والبعض مرتبط بالبعض ومع هذا لا يستطيع العالم به أن يجعل الإقامة سفرا ولا الهزيمة ظفرا ولا العقد فلا ولا الإبرام نقضا ولا اليأس رجاء ولا العدو صديقا ولا البعيد قريبا ولا ولا ويوشك لو انتشر أمره وظهر حلوه ومره أن يضعف توكل كثير من العوام على الله تعالى والإنقطاع إليه والرغبة فيما عنده وأن يلهوا به عن غيره وينبذوا ما سواه من العلوم النافعة لأجله فكل يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما يكون في غد أو يجد سبيلا إليه بل ربما يكون ذلك سببا لبعض الأشخاص مفضيا إلى الإعتقاد القبيح والشرك الصريح وقد كان في العرب شيء من ذلك فلو فتح هذا الباب لاتسع الخرق وعظم الشر وقد ترك صلى الله عليه و سلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواهد إبراهيم عليه السلام لنحو هذه الملاحظة فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام قال لعائشة رضي الله تعالى عنها : لو لا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأسستها على قواعد إبراهيم ولا يبعد أيضا أن يكون في علم الله تعالى إظهار ذلك وعلم الناس به سببا لتعطل المصالح الدنيوية ومنافيا للحكمة الإلهية فأوجب على رسوله صلى الله عليه و سلم كتمه وترك تعليمه كما علم الشرائع
ويمكن أن يكون قد علم صلى الله تعالى عليه وسلم إن العلم بذلك من العلوم الوهبية التي يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده وأن من وهب سبحانه له من أمته قوة قدسية يهب سبحانه له ما تتحمله قوته منه وقد سمعت ما سمعت في النقباء والنجباء ويمكن أن يكون قد علم عليه الصلاة و السلام ذلك أمثالهم ومن هو أعلى قدرا منهم كالأمير علي كرم الله تعالى وجهه وهو باب مدينة العلم بطريق من طرق التعليم ومنها الإفاضة التي يذكرها بعض أهل الطرائق من الصوفية ويجوز أن يقال : إن سر البعثة إنما هو إرشاد الخلق إلى ما يقربهم إليه سبحانه زلفى وليس في معرفته الفلكية والحوادث الكونية قرب إلى الله تعالى والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأل جهدا في دعوة الخلق وإرشادهم إلى ما يقربهم لديه سبحانه وينفعهم يوم قدومهم عليه جل شأنه وما يتوقف عليه من أمر النجوم أمور دياناتهم كمعرفة القبلة وأوقات العبادات قد أرشد إليه من أرشد منهم وترك ما يحتاجون إليه من ذلك في أمور دنياهم كالزراعة إلى عاداتهم وما جربه كل قوم في أماكنهم وأشار إشارة إجمالية إلى بعض الحوادث الكونية لبعض الكواكب في بعض أحوالها كما في حديث
(23/120)
الكسوف والخسوف السابق وأرشدهم إلى ما ينفعهم إذا ظهر مثل ذلك ويتضمن الإشارة الإجمالية أيضا أمره تعالى بالإستعاذة من شر القمر في بعض حالاته وذلك في قوله تعالى قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب على ما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ويقرب في بعض الوجوه من شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم شأنه عليه الصلاة و السلام في أمر النباتات ونحوها فبين لهم ما يحل ويحرم من ذلك وأشار إلى منفعة بعض الأشياء من نبات وغيره ولم يفصل القول في الخواص وترك الناس فيما يأكلون ويشربون مما هو حلال عاداتهم إلا أنه قال : كلوا واشربوا ولا تسرفوا نعم نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن الخوض في علم النجوم لطلب معرفة الحوادث المستقبلة بواسطة الأوضاع المتوقف بزعم المنجمين على معرفة الطبائع سدا لباب الشر والوقوع في الباطل لأن معرفة ذلك على التحقيق ليست كسبية كمعرفة خواص النباتات ونحوها والمعرفة الكسبية التي يزعمها المنجمون ليست بمعرفة وإنما هي ظنون لادليل لهم عليها كما تقدم وصرح به أرسطاليس أيضا فإنه قال في أول كتابه السماع الطبيعي : إنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب وحكى نحوه عن بطليموس وكون المنهي عنه ذلك هو الذي صرح به بعض الأجلة وعليه حمل خبر أبي داود وابن ماجه من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر وأما الخوض في علم النجوم لتحصيل ما يعرف به أوقات الصلوات وجهة القبلة وكم مضى من الليل أو النهار وكم بقي وأوائل الشهور الشمسية ونحو ذلك ومنه فيما أرى ما يعرف به وقت الكسوف والخسوف فغير منهي عنه بل العلم المؤدي لبعض ما ذكر من فروض الكفاية بل إن كان علم النجوم عبارة عن العلم الباحث عن النجوم باعتبار ما يعرض لها من المقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس وكيفية سيرها ومقدار حركاتها ونحو ذلك مما يبحث عنه في الزيج أو كان عبارة عما يعم ذلك والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة ارتفاع الكواكب وانخفاضه ومعرفة الماضي من الليل والنهار ومعرفة الأطوار والأعراض ونحو ذلك مما تضمنه علم الأسطرلاب والربع المجيب ونحوهما فهو مما لا أرى بأسا في تعلمه مطلقا وإن كان عبارة عن العلم الباحث عن أحكامها وتأثيراتها التي تقتضيها باعتبار أوضاعها وطبائعها على ما يزعمه الأحكاميون
فهذا الذي اختلف في أمره فقال بعضهم بحزمة تعلمه لحديث أبي داود وابن ماجه السابق والقائل بهذا قائل بحرمة تعلم السحر وهو أحد أقوال في المسئلة فيها الإفراط والتفريط ثانيها أنه مكروه ثالثها أنه مباح رابعها أنه فرض كفاية خامسها أنه كفر والجمهور على الأول ولأن فيه ترويج الباطل وتعريض الجهلة لاعتقاد أن أحكام النجوم المعروفة بين أهلها حق والكواكب مؤثرة بنفسها وقيل : يحرم تعلمه لأنه منسوخ فقد قال الكرماني في عجائبه : كان علم النجوم علما نبويا فنسخ وتعقب هذا بأنه لا معنى لنسخ العلم نفسه وإن حمل الكلام على معنى كان تعلمه مباحا فنسخ ذلك إلى التحريم كان في الإستدلال مصادرة وقال بعضهم : لا حرمة في تعلمه إنما الحرمة في اعتقاد صحة الأحكام وتأثيرات الكواكب على الوجه الذي يقوله جهلة الأحكاميين لا مطلقا واجيب عن الخبر السابق بأنه محمول على تعلم شيء من علم النجوم على وجه الإعتناء بشأنه كما يرمز إليه اقتبس وذلك لا يتم بدون اعتقاد صحة حكمه وأن الكواكب مؤثرات وتعلمه على هذا لوجه حرام وبدونه مباح وفيه بحث
وقيل : في الجواب أن الخبر فيمن ادعى علما بحكم من الأحكام آخذا له من النجوم قائلا الأمر كذا ولا بد لأن النجم يقتضيه البتة وهو لا شك في إثمه وحرمة دعواه التي قامت الأدلة على كذبها وهو كما ترى وكلام بعض
(23/121)
أجلة العلماء صريح في إباحة تعلمه متى اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة بوقوع كذا عند حلول الكوكب الفلاني منزلة كذا مثلا مع جواز التخلف واستظهر بعض حرمة التعلم مطلقا متى كان فيه إغراء الجهلة بذلك العلم وإيقاعهم في محذور اعتقاد التأثير أو كان فيه غير ذلك من المفاسد وكراهته إن سلم من ذلك لما فيه من تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه ومبناه ظنون وأوهام وتخيلات ولا يبعد القول بأنه يباح للعالم الراسخ النظر في كتبه للإطلاع على ما قالوا والوقوف على مناقضاتهم واختلافاتهم التي سمعت بعضا منها لينفر عنها الناس ويرد العاكفين عليها كما يباح له النظر في كتب سائر أهل الباطل كاليهود والنصارى لذلك بل لو قيل بسنيته لهذا الغرض لم يبعد لكن أنت تعلم أن السلف الصالح لم يحوموا حول شيء منه بسوى ذمه وذم أهله ولم يتطلبوا كتابا من كتبه لينظروا فيه على أي وجه كان النظر ونسبة خلاف ذلك إلى أحد منهم لا تصح فالحزم اتباعهم في ذلك وسلوك مسلكهم فهو لعمري أقوم المسالك هذا وعترض القول باطلاعه صلى الله تعالى عليه وسلم على ما ذكر من شأن الأجرام العلوية بأن فيه فتح باب الشبهة في كون أخباره صلى الله تعالى عليه وسلم بالغيوب من الوحي لجواز أن تكون من أحكام النجوم على ذلك القول وأجيب بأن الشبهة إنما تتأتى لو ثبت أنه عليه الصلاة و السلام رصد ولو مرة كوكبا من الكواكب وحقق منزلته وأخبر بغيب إذ مجرد العلم بأن لكوكب كذا حكم كذا إذا حل بمنزلة كذا لا يقيد بدون معرفة أنه حل في تلك المنزلة فحيث لم يثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم فعل ذلك لا يفتح باب الشبهة وفيه بحث ظاهر وبأن علمه صلى الله عليه و سلم بما تدل عليه الأوضاع عند القائلين به ليس إلا عن وحي فغاية ما يلزم من تلك الشبهة أن يكون خبره بالغيب بواسطة علم أحكام النجوم الذي علمه بالوحي وأي خلل يحصل من هذا في نبوته عليه الصلاة و السلام بل هذه الشبهة تستدعي كونه نبيا كما أن عدمها كذلك
وتعقب بأنه متى سلم أن للأوضاع الفلكية دلالة على الأمور الغيبية وأنه صلى الله عليه و سلم يعلم ما تدل عليه يقع الأشتباه بينه وبين غيره من علماء ذلك العلم المخبرين بالغيب إذا وقع كما أخبروا والتفرقة بأنه عليه الصلاة و السلام قد أوحي إليه بذلك دون الغير فرع كونه نبيا وهو أول المسئلة واختير في الجواب أن يقال : إن إخباره صلى الله عليه و سلم بالغيب إن كان بعد ثبوت نبوته بمعجز غير ذلك لا تتأتى الشبهة إن أفهم أن خبره بواسطة الوحي ولا تضر إن لم يفهم إذ غاية ما في الباب أنه نبي لظهور المعجز على يده قبل أن أخبر بغيب بواسطة وضع فلكي وشاركه غيره في ذلك وإن كان ثبوت نبوته بمعجز غيره بأن التحدي بذلك الخبر ووقوع ما أخبر به فالذي يدفع الشبهة حينئذ عدم القدرة على المعارضة فلا يستطيع منجم أن يخبر صادقا بمثل ذلك بمقتضى علمه بالأوضاع ومقتضياتها فتدبر ثم الظاهر على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في النقباء والنجباء أن لكل من الأنبياء عليهم السلام إطلاعا على ذلك إذ رتبة النبي فوق رتبة الولي وعلمه فوق علمه إذ هو الركن الأعظم في الفضل
ولا حجة في قصة موسى والخضر عليهما السلام على خلافه أما على القول بنبوة الخضر عليه السلام فظاهر وكذا على القول بولايته وأنه فعل ما فعل من أمر الله تعالى بواسطة نبي وأما على القول بولايته وأنه فعل ذلك لعلم أوتيه بلا واسطة نبي فلأنه لا يدل إلا على فقدان موسى عليه السلام العلم بتلك الأمور الثلاثة وعلم الخضر بها ولا يلزم من ذلك أن يكون الخضر أعلم منه مطلقا وهو ظاهر وعلى هذا جوز إبقاء الآية على ظاهرها فيكون إبراهيم عليه السلام قد نظر في النجوم حسبما علمه الله تعالى من أحوال الملكوت الأعلى
(23/122)
واستدل على أنه سيسقم بما استدل ولعل نظره كان في طالع الوقت أو نحوه أو طالع ولادته أو طالع سقوط النطفة التي خلق منها والعلم به بالوحي أو بواسطة العلم بطالع الولادة والإعتراض على ذلك بأنه يلزم عليه تقويته عليه السلام ما هم عليه من الباطل في أمر النجوم وارد أيضا على حمل ما في الآية على التعريض والجواب هو الجواب هذا وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرت لك في هذا المقام فأحسن التأمل فيما تضمنه من النقض والإبرام وقد جمعت لك ما لم أعلم أنه جمع في تفسير ولا أبريء نفسي عن الخطأ والسهو والتقصير والله سبحانه ولي التوفيق وبيده عز و جل أزمة التحقيق وقوله تعالى فتولوا عنه مدبرين
90
- تفريع على قوله عليه السلام إني سقيم أي أعرضوا وتركوا قربه والمراد أنهم ذهبوا إلى معيدهم وتركوه و مدبرين إما حال مؤكدة أو حال مقيدة بناء على أن المراد بسقيم مطعون أو أنهم توهموا مرضا له عدوى مرض الطاعون أو غيره فإن المرض الذي له عدوى بزعم الأطباء لا يختص بمرض الطاعون فكأنه قيل : فأعرضوا عنه هاربين مخافة العدوى فراغ إلى آلهتهم فذهب بخفية إلى أصنامهم التي يعبدونها وأصل الروغان ميل الشخص في جانب ليخدع من خلفه فتجوز به عما ذكر لأنه المناسب هنا فقال للأصنام استهزاء ألا تأكلون
91
- من الطعام الذي عندكم وكان المشركون يضعون في أيام أعيادهم طعاما لدى الأصنام لتبرك عليه وأتى بضمير العقلاء لمعاملته عليه إياهم معاملتهم مالكم لا تنطقون
92
- بجوابي فراغ عليهم فمال مستعليا عليهم وقوله تعالى ضربا مصدر لراغ عليهم باعتبار المعنى فإن أراد منه ضربهم أو لفعل مضمر هو مع فاعله حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضربا أو هو حال منه على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضاربا أو مفعول له أي لأجل ضرب وقرأ الحسن سفقا صفقا أيضا باليمين
93
- أي باليد اليمين كما روي عن ابن عباس وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها
روي أنه عليه السلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته وقيل المراد بلاليمين الحلف وسمي الحلف يمينا إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده وأريد باليمين قوله عليه السلام تالله لأكيدن أصنامكم والباء عليه للسببية أي ضربا بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للإستعانة أو للملابسة فأقبلوا إليه أي إلى إبراهيم عليه السلام بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر وقولهم فأتوا به على أعين الناس يزفون
94
- حال من واو أقبلوا أي يسرعون من زف النعام أسرع لخطه الطيران بالمشي ومصدره الزف والزفيف وقيل يزفون أي يمشون على تؤدة ومهل من زفاف العروس إذ كانوا في طمأنينة من أن ينال أصنامهم بشيء لعزتها وليس بشيء
وقرأ حمزة ومجاهد وابن وثاب والأعمش يزفون بضم الياء من أزف دخل في الزفيف فالهمزة ليست للتعدية أو حمل غيره على الزفيف فهي لها قاله الأصمعي وقرأ مجاهد أيضا وعبد الله بن يزيد والضحاك
(23/123)
ويحيى بن عبد الرحمن المقري وابن أبي عبلة يزفون مضارع وزف بمعنى أسرع قال الكسائي والفراء : لا نعرف وزف بمعنى زف وقد أثبته الثقات فلا يضر عدم معرفتهما وقريء يزفون بالبناء للمفعول وقريء يزفون بسكون الزاي من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه قال بعد أن أتوا به عليه السلام وجرى ما جرى من المحاورة على سبيل التوبيخ والإنكار عليهم أتعبدون ما تنحتون
95
- أي الذي تنحتونه من الأصنام فما موصولة حذف عائدها وهو الظاهر المتبادر وجوز كونها مصدرية أي أتعبدون نحتكم وتوبيخهم على عبادة النحت مع أنهم يعبدون الأصنام وهي ليست نفس النحت للإشارة إلى أنهم في الحقيقة إنما عبدوا النحت لأن الأصنام قبله حجارة ولم يكونوا يعبدونها وإنما عبدوها بعد أن نحتوها ففي الحقيقة ما عبدوا إلا نحتهم وفيه ما فيه والله خلقكم وما تعملون
96
- في موضع الحال من ضمير تعبدون لتأكيد الإنكار والتوبيخ والإحتجاج على أنه لا ينبغي تلك العبادة وما موصولة حذف عائدها أيضا أي خلقكم وخلق الذي تعملونه أي من الأصنام كما هو الظاهر وهي عبارة عن مواد وهي الجواهر الحجرية وصور حصلت لها بالنحت وكون المواد مخلوقة له عز و جل ظاهر وكون الصور والأشكال كذلك مع أنها بفعلهم باعتبار أن الأقدار على الفعل وخلق ما يتوقف عليه الدواعي والأسباب منه تعالى وكون الأصنام وهي ما سمعت معمولة لهم باعتبار جزئها الصوري فهو مع كونه معمولا لهم مخلوق لله تعالى بذلك الإعتبار فلا إشكال
وفي المسألة المهمة تأليف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة صرح الكلام دال على أن الله تعالى خالق للأصنام بجميع أجزائها التي منها الأشكال ومعلوم أن الأشكال إنما حصلت بتشكيلهم فتكون الأشكال مخلوقة لله تعالى معلومة لهم لكون نحتهم وتشكيلهم عين خلق الله تعالى الإشكال بهم
ولا استحالة في ذلك لأن العبد لا قوة له إلا بالله تعالى بالنص ومن لا قوة له إلا بغيره فالقوة لذلك الغير لا له فلا قوة حقيقة إلا لله تعالى ومن المعلوم أنه لا فعل للعبد إلا بقوة فلا فعل له إلا بالله تعالى فلا فعل حقيقة إلا لله تعالى وكل ما كان كذلك كان النحت والتشكيل عين خلق الله سبحانه الأشكال بهم وفيهم بالذات وغيره بالإعتبار فيكون المعمول عين المخلوق بالذات وغيره بالإعتبار فإن إيجاد الله عز و جل يتعلق بذات الفعل من حيث هو وفعل العبد بالمعنى المصدري يتعلق بالفعل بمعنى الحاصل بالمصدر من حيث كونه طاعة أو معصية أو مباحا لكونه مكلفا والله تعالى له الإطلاق ولا حاكم عليه سبحانه انتهى فافهم
والزمخشري جعل أيضا ما موصولة إلا أنه جعل المخلوق له تعالى هو الجواهر ومعمولهم هو الشكل والصورة إما على أن الكلام على حذف مضاف أي وما تعملون شكله وصورته وأما على أن الشائع في الإستعمال ذلك فإنهم يقولون عمل النجار الباب والصائغ الخلخال والبناء البناء لا يعنون إلا عمل الشكل بدون تقدير شكل في النظم كأن تعلق العمل بالشيء هو هذا التعلق لا تعلق التكوين وهو مبني على اعتقاده الفاسد منان أفعال العباد مخلوقة لهم والإحتجاج في الآية على الأول بأن يقال : إنه تعالى خلق العابد والمعبود مادة وصورة فكيف يعبد المخلوق المخلوق وعلى الثاني بأنه تعالى خلق العابد ومادة المعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود والأول أظهر وعدل عن ضمير ما تنحتون أو
(23/124)
الإتيان به دون ما تعملون للإيذان بأن مخلوقية الأصنام لله عز و جل ليس من حيث نحتهم لها فقط بل من حيث سائر أعمالهم أيضا من التصوير والتحلية والتزيين وفي الكشف فائدة العدول الدلالة على أن تأثيرهم فيها ليس النحت ثم العمل يقع على النحت والأثر الحاصل منه ولا يقع النحت على الثاني فلا بد من العدول لهذه النكتة وبه يتم الإحتجاج أي الذي قيل على اعتبار الزمخشري وجوز أن يكون الموصول عاما للأصنام وغيرها وتدخل أوليا ولا يتأتى عليه حديث العدول وقيل ما مصدرية والمصدر مؤول باسم المفعول ليطابق ما تنحتون على ما هو الظاهر فيه ويتحد المعنى مع ما تقدم على احتمال الموصولية وجوز بقاء المصدر على مصدريته والمراد به الحاصل بالمصدر أعني الأثر وكثيرا ما يراد به ذلك حتى قيل : إنه مشترك بينه وبين التأثير والإيقاع أي خلقكم وخلق عملكم واحتج بالآية على المعتزلة وتعقب بأنه لا يصح لأن الإستدلال بذلك على أن العابد والمعبود جميعا خلق الله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا ولو قيل : إن العابد وعمله من خلق الله تعالى لفات الملائمة والإحتجاج ولأن ما في الأول موصولة فهي في الثاني كذلك لئلا ينفك النظم وما قاله القاضي البيضاوي من أنه لا يفوت الإحتجاج بل أنه أبلغ فيه لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك وأيد بأن الأسلوب يصير من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح ولا فائدة في العدول عن الظاهر إلا هذا فيجب صونا لكلام الله تعالى عن العبلث تعقبه في الكشف بأنه لا يتم لأن الملازمة ممنوعة عند القوم ألا ترى أنهم معترفون بأن العبد وقدرته وإرادته من خلق الله تعالى ثم المتوقف عليهما وهو الفعل يجعلونه خلق العبد والتحقيق أنه يفيد التوقف عليه تعالى وهم لا ينكرونه إنما الكلام في الإيجاد والأحداث ثم قال : وأظهر منه أن يقال : لأن المعمول من حيث المادة لا ينكرون أنه من خلق الله تعالى فقيل هو من حيث الصورة أيضا خلقه فهو مخلوق من جميع الوجوه مثلكم من غير فرق فلم تسوونه بالخالق وما ازداد بفعلكم إلا بعد استحقاق عن العبادة ولما كان هذا المعنى في تقرير الزمخشري على أبلغ وجه كان هذا البناء متداعيا كيفما قرر على أنه فائدة العدول قد اتضحت حق الوضوح فبطل الحصر أيضا وقد قيل عليه : إن المراد بالفعل الحاصل بالمصدر لأنه بالمعنى الآخر أعني الإيقاع من النسب التي ليست بموجودة عندهم وتوقف الحاصل بالإيقاع على قدرة العبد وإرادته توقف بعيد بخلاف توقفه على الإيقاع الذي لا وجود له فيكون ما ذكره في معرض السند مجتمعا مع المقدمة الممنوعة فلا يصلح للسندية والمراد بمفعولهم أشكال الأصنام المتوقف على ذلك المعنى القائم بهم إذا كان ذاك بخلقه تعالى فلأن يكون الذي لا يقوم بهم بل بما يباينهم بخلقه تعالى أولى
ولا مجال للخصم أن يمنع هذه الملازمة إذ قد أثبت خلق المتولدات مطلقا للعباد بواسطة خلقهم لما يقوم بهم وانتفاء الأول ملزوم لانتفاء الثاني فتأمل وقال في التقريب انتصارا لمن قال بالمصدرية : إن الجواهر مخلوقة له تعالى وفاقا والأعمال مخلوقة أيضا لعموم الآية فكيف يعبد ما لا مدخل له في الخلق فدعوى فوات الإحتجاج باطلة وكذلك فك النظم التبتير وتعقبه في الكشف أيضا فقال فيه : إن المقدمة الوفاقية إذا لم يكن بد منها ولم تكن معلومة من هذا السياق يلزم فوات الإحتجاج وأما الحمل على التغليب في الخطاب فتوجيه لا ترجيح والكلام في الثاني
ثم قال : وأما أن المصدرية أولى لئلا يلزم حذف الضمير فمعارض بأن الموصولة أكثر
(23/125)
استعمالا وهي أنسب بالسياق اليابق على أنه لا بد من تقدير عملهم في المنحوت فيزداد الحذف
واعترض بأنا لا نسلم الأكثرية وكذا لا نسلم أنها أنسب بالسياق لما سمعت منأن الأسلوب على ذلك من باب الكناية وهو أبلغ من الصريح والتقدير المذكور ليس بلازم لجواز إبقاء الكلام على عمومه الشامل للمنحوت بالطريق الأولى أو يقدر بمصدر مضاف إضافة عهدية وبعضهم جعلها موصولة كناية عن العمل لئلا ينفك النظم ويظهر احتجاج الأصحاب على خلق أفعال العباد وتعقبه أيضا بأنه أفسد من الأول لما فيه من التعقيد وفوات الإحتجاج وكون الموصول في الأول عبارة عن الأعيان وفي الثاني كناية عن المعاني وانفكاك النظم ليس لخصوص الموصولية والمصدرية بل لتباين المعنيين وهو باق وصاحب الإنتصاف قال بتعين حملها على المصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة وإنما عبدوها من حيث أشكالها فهم في الحقيقة إنما عبدوا عملهم وبذلك تبتلج الحجة عليهم بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله وأجاب عن حديث لزوم انفكاك النظم بأن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية أيضا فإنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتهم وفي دعوى التعين بحث وجوز كون ما الثانية استفهامية للإنكار والتحقير أي وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناما نحتموها أي لا عمل لكم يعتبر وكونها نافية أي وما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء ولا يخفى أن كلا الإحتمالين خلاف الظاهر بل لا ينبغي أن يحمل عليه التنزيل وأظهر الوجوه كونها موصولة وتوجيه ذلك على ما يقوله الأصحاب ثم كونها مصدرية والإستدلال بالآية عليه ظاهر وقول صاحب الكشف : والإنصاف أن استدلال الأصحاب بهذه الآية لا يتم أن أراد به ترجيح احتجاج المعتزلة خارج عن دائرة الإنصاف ثم إنها على تقدير أن لا تكون دليلا لهم لا تكون دليلا للمعتزلة أيضا كما لا يخفى على المنصف هذا ولما غلبهم إبراهيم عليه السلام بالحجة مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة قالوا ابنوا له بنيانا حائطا توقدون فيه النار وقيل : منجنيقا
فألقوه في الجحيم
97
- في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج والإتقاد واللام بدل عن المضاف إليه أو للعهد والمراد جحيم ذلك البنيان التي هي فيه أو عنده فأرادوا به كيدا سوأ باحتيال فإنه عليه السلام لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم فجعلناهم الأسفلين
98
- الأذلين بإبطال كيدهم وجعلخ برهانا ظاهرا ظهور نار القرى ليلا على علم على علو شأنه عليه السلام حيث جعل سبحانه النار عليه بردا وسلاما وقيل : أي الهالكين وقيل : أي المعذبين في الدرك الأسفل من النار والأول أنسب
وقال إني ذاهب إلى ربي إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز و جل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهابا إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف والمراد بذلك المكان الشام وقيل مصر وكأن المراد إظهار السأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني نفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي سيهدين
99
- إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي
والسين لتأكيد الوقوع في المستقبل لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه وبت عليه السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه السلام أو للبناء على عادته تعالى معه
(23/126)
وإنما لم يقل موسى عليه السلام مثل ذلك بل قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل بصيغة التوقع قيل : لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية وقيل لأن موسى عليه السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه السلام قال ذلك بعدها وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه السلام بقوله إني الخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظانا إنه يموت في النار إذا ألقي فيها وأراد بقوله سيهديني الهداية إلى الجنة ويدفع هذا القول دعاؤه بالولد حيث قال : رب هب لي من الصالحين
100
- بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة والتقدير ولدا من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها في القرآن وكلام العرب غلب استعمالها مع العقلاء في الأولاد وقوله تعالى ووهبنا له أخاه هارون نبيا من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر ولقوله تعالى فبشرناه بغلام حليم
101
- فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفا في حق الأولاد ولقد جمع القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وأغضاء في كل أمر وجوز أن يكون ذلك مفهوما من قوله تعالى غلام فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاما وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليما وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مر اهق الذبح فقال ستجدني إن شاء الله من الصابرين فما ظنك به بعد بلوغه وقيل ما نعت الله تعالى نبيا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه عليهما السلام وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما
والفاء في قوله تعالى فلما بلغ معه السعي فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه و مع ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤؤل بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث أما أولا فلأم التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف وأما ثانيا فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به وأما ثالثا فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره
وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفا كان المصدر أو منكرا كقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة وهو الذي ارتضاه الرضي وقال به العلامة الثاني واختار صاحب الفرائد كونها متعلقة بمحذوف وقع حالا من السعي أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنا معه وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام وجوز تعلقه ببلغ ورد بأنه يقتضي بلوغهما معا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على
(23/127)
أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقا بأخلاقه متطبعا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل بلغ ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس أسلمت مع سليمان لله رب العالمين فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا وتقديم مع إشعارا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد قال صاحب الكشف : وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معا على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى
وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه
وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أو أنه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجه ولا يقدر فيه على العصيان قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما في يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير إنها رسول الله الدم فأني أذبحك إني أعالج ذبحك ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي قيل له أوف بنذرك ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع بقوله إني أرى في المنام أني أذبحك وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلا فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة الخ فالأمر إما مناما وإما يقظة لكن وقع تأكيدا لما في المنام إذ لا محيص عن الإيمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم والجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقظة أيضا
(23/128)
ولعل السر في كونه مناما لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الإمتثال أدل على كمال الإنقياد والإخلاص
وقيل : كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق والأول أولى والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الإستبعاد وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة وقيل : في الأول لتكرر الرؤيا وفي الثاني للإستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك
فانظر ماذا ترى من الرأي وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز و جل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالإنقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجر لما فرط منه ذلك وقرأ حمزة والكسائي ماذا ترى بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف وقريء ماذا ترى بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي و انظر في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي ماذا الإحتمالان فلا تغفل
قال يا أبت افعل ما تؤمر أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولا فعدي الفعل بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوبا ثانيا والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعديا بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على ان ما مصدرية والمراد بالمصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحا وأن يكون مسبوكا
وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأمورا أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به وقيل : للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الإمتثال به وقيل : لتكرر الرؤيا وقيل : جيء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وأنه ممن لا يجد الشيطان سبيلا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك ولما كان خطاب الأب يا بني على سبيل الترحم قال هو يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجارها وإنما الواجب إمضاء الأمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين
102
- على قضاء الله تعالى ذبحا كان أو غيره وقيل على الذبح والأول أولى للعموم ويدخل الذبح دخولا أوليا وفي قوله من الصابرين دون صابرا وإن كانت رؤس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه قيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الإستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله : ستجدني إن شاء الله صابرا حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك
(23/129)
الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الإستثناء
وفيه أيضا إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عبادا صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك فلما أسلما أي استسلما وإنقادا لأمر الله تعالى فالفعل لازم أو سلم الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه على أنه متعد والمفعول محذوف
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله ومجاهد والضحاك وجعفر بن محمد والأعمش والثوري سلما وخرجت على ما سمعت ويجوز أن يكون المعنى فوضا إليه تعالى في قضائه وقدره وقريء استسلما وأصل الأفعال الثلاثة سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه وتله للجبين
103
- صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وأصل التل الرمي على التل وهو التراب المجتمع ثم عمم في كل صرع والجبين أحد جانبي الجبال وشذ جمعه على أجبن وقياسه في القلة أجبنة ككثيب وأكثبة وفي الكثرة جبنان وجبن ككثبان زكثب واللام لبيان ما خر عليه كما في قوله تعالى يخرون للأذقان وقوله
وخر صريعا لليدين وللفم
وليست للتعدية وقيل المراد كبه على وجهه وكان ذلك بإشارة منه أخرج غير واحد عن مجاهد أنه قال لأبيه : لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني فلا تجهز علي أربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض ففعل فكان ما كان ولا يخفى إن إرادة ذلك من الآية بعيد نعم لا يبعد أن يكون الذبيح قال هذا
وفي الآثار حكاية أقوال غير ذلك أيضا منها ما في خبر للسدي أنه قال لأبيه عليهما السلام : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن وأسرع مر السكين على حلقي فيكون أهون للموت علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله وكل منهما يبكي ومنها ما في حديث أخرجه أحمد وجماعة عن ابن عباس أنه قال لأبيه وكان عليه قميص أبيض يا أبت ليي لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فكان ما قص الله عز و جل
وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى وعن الحسن في الموضع المشرف على مشجد منى وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم وقيل كان ببيت المقدس وحكى ذلك عن كعب وحكى الإمام مع هذا القول أنه كان بالشام
وناديناه أن يا إبراهيم
104
- قد صدقت الرؤيا قيل ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى بذلك و أن مفسرة بمعنى أي وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها وقريء صدقت بالتخفيف وقرأ فياض الريا بكسر الراء والإدغام وتصديقه عليه السلام الرؤيا توفيته حقها من العمل وبذل وسعه في إيقاعها وذلك بالعزم والإتيان بالمقدمات ولا يلزم فيه وقوع ما رآه بعينه وقيل هو إيقاع تأويلها ما وقع ويفهم من كلام الإمام أنه الإعتراف بوجوب العمل بها ولا يدل على الإتيان بكل ما رآه في المنام وهل أمر عليه السلام الشفرة على حلقه أم لا قولان ذهب إلى الثاني منهما كثير من الأجلة وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه عليه السلام لما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وأخرج هو وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أنه عالج قميصه ليخلعه فنودي بذلك
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضا فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحمل المدية حتى
(23/130)
نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده وأخرج عبد بن حميد وغيره عن مجاهد فلما أدخل يده ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع رأسه فرأى الكبش ينحط إليه حتى وقع عليه فذبحه وفي رواية أخرى عنه أخرجها عبد بن حميد أيضا وابن المنذر أنه أمر السكين فانقلبت وإلى عدم الإمرار ذهبت اليهود أيضا لما في توراتهم مد إبراهيم يده فأخذ السكين فقال له ملأك الله من السماء قائلا : يا إبراهيم يا إبراهيم قال : لبيك قال : لا تمد يدك إلى الغلام ولا تصنع به شيئا وذهب إلى الأول طائفة من قال : أنه آمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه ومنهم من قال : أنه أمرها ولم تقطع لمانع فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء بن يسار أنه عليه السلام قام إليه بالشفرة فبرك عليه فجعل الله تعالى ما بين لبته إلى منحره نحاسا لا تؤثر فيه الشفرة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه عليه السلام جر السكين على حلقه فلم ينحر وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة من نحاس وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن فضيل بن عياض قال : أضجعه ووضع الشفرة فقلبها جبريل عليه السلام وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي عن عطاء أنه نحر في حلقه فإذا هو قد نحر في نحاس فشحذ الشفرة مرتين أو ثلاثا بالحجر وضعف جميع ذلم وقيل أنه عليه السلام ذبح لكن كان كلما قطع موضعا من الحلق أوصله الله تعالى وزعموا ورود ذلك في بعض الأخبار ولا يكاد يصح وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام من الكلام وجواب لما محذوف مقدر بعد صدقت الرؤيا أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما الله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله وإظهار فضلهما مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك وهو أولى من تقدير فإذا ونحوه وقدره بعض البصريين بعد وتله للجبين أي أجزلنا أجرهما وعن الخليل وسيبويه تقديره قبل وتله قال في البحر : والتقدير فلما أسلما أسلما وتله وقال ابن عطية : وهو عندهم كقول امريء القيس
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي أجزنا وانتحى وهو كما ترى وقال الكوفيون : الجواب مثبت وهو وناديناه على زيادة الواو وقالت فرقة : هو و تله على زيادتها أيضا ولعل الأولى ما تقدم
وقوله تعالى : إنا كذلك نجزي المحسنين
105
- ابتداء كلام غير داخل في النداء وهو تعليل لإفراج تلك الشدة المفهوم من الجواب المقدر أو من الجواب المذكور أعني نادينا الخ على القول بأنه الجواب أو منه وإن لم يكن الجواب والعلة في المعنى إحسانهما وكونه تعليلا لما انطوى عليه الجواب من الشكر ليس بشيء
إن هذا لهو البلاء المبين
106
- أي الإبتلاء والإختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة وهي المحنة الظاهرة صعوبتها وما وما وقع لا شيء أصعب منه ولا تكاد تخفى صعوبته على أحد ولله عز و جل أن يبتلي من يشاء بما يشاء وهو سبحانه الحكيم الفعال لما يريد ولعل هذه الجملة لبيان كونهما من المحسنين وقيل لبيان حكمة ما نالهما وعلى التقديرين هي مستأنفة استئنافا بيانيا فليتدبر
وفديناه بذبح بحيوان يذبح بدله عظيم
107
- قيل أي عظيم الجثة سمين وهو كبش أبيض أفرن أعين وفي رواية أملح بدل أبيض وعن الحسن أنه وعلى أهبط عن ثبير والجمهور على الأول ووافقهم الحسن في رواية رواها عن ابن أبي حاتم وفيها أن اسمه حرير واليهود على أنه كبش أيضا وفسر المعظم العظيم بعظيم القدر
(23/131)
وذلك على ما روي عن ابن عباس لأنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وبقي يرعى في الجنة إلى يوم هذا الفداء وفي رواية عنه وعن ابن جبير أنهما قالا : عظمه كونه من كبائش الجنة رعى فيها أربعين خريفا
وقال مجاهد وصف بالعظم لأنه متقبل يقينا وقال الحسن بن الفضل : لأنه كان من عند الله عز و جل وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين وقال عمرو بن عبيد : لأنه جرت السنة به وصار دينا باقيا آخر الدهر وقيل لأنه فدي به نبي وابن نبي وهبوطه من ثبير كما قال الحسن في الوعل وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس
وفي رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وجده عليه السلام قد ربط بسمرة في أصل ثبير وعن عطاء ابن السائب أنه قال : كنت قاعدا بالمنحر فحدثني قرشي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : إن الكبش نزل على إبراهيم في هذا المكان وفي رواية عن ابن عباس أنه خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه السلام ابنه واتبعه فرماه بسبع حصيات وأخرجه عند الجمرة الأولى فأفلت روماه بسبع حصيات وأخرجه عند الجمرة الوسطى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الكبرى فأتى به المنحر من منى فذبح قيل وهذا أصل سنية رمى الجمار والمشهور أن أصل السنية رمي الشيطان هناك ففي خبر عن قتادة أن الشيطان أراد أن يصيب حاجته من إبراهيم وابنه يوم أمر بذبحه فتمثل بصديق له فأراد أن يصده عن ذلك فلم يتمكن فتعرض لابنه فلم يتمكن فأتى الجمرة فانتفخ حتى سد الوادي ومع إبراهيم ملك فقال له : ارم يا إبراهيم فرمى بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة فأفرج له عن الطريق ثم انطلق حتى أتى الجمرة الثانية فسد الوادي أيضا فقال الملك : ارم يا إبراهيم فرمى كما في الأولى وهكذا في الثالثة وظاهر الآية أن الفداء كان بحيوان واحد وهو المعروف وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه فدي بكبشين أملحين أقرنين أعينين ولا أعرف له صحة ويراد بالذبح عليه لو صح الجنس والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه السلام وقال سبحانه : فديناه على التجوز في الفداء أي أمرنا أو أعطينا أو في إسناده إليه تعالى وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية أيضا وفائدة العدول عن الأصل التعظيم
وتركنا عليه في الآخرين
108
- سلام على إبراهيم
109
- سبق ما يعلم منه بيانه عند تفسيره نظيره في أخر قصة نوح ولعل ذكر في العالمين هناك وعدم ذكره هنا لما أن لنوح عليه السلام من الشهرة لكونه كآدم ثان للبشر ونجاة من نجا من أهل الطوفان ببركته ما ليس لإبراهيم عليه السلام
كذلك نجزي المحسنين
110
- ذلك إشارة إلى إبقاءه ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما يشير إليه فيما سبق فلا تكرار وطرح هنا إنا قيل مبالغة في دفع توهم اتحاده مع ما سبق كيف وقد سيق الأول تعليلا لجزاء إبراهيم وابنه عليهما السلام بما أشير إليه قبل وسيق هذا تعليلا لجزاء إبراهيم وحده بما تضمنه قوله تعالى وتركنا عليه الخ وما ألطف الحذف هنا اقتصارا حيث كان فيما قبله ما يشبه ذلك من عدم ذكر الابن والإقتصار على إبراهيم
وقيل لعل ذلك اكتفاء بذكر أنا مرة في هذه القصة وقال بعض الأجلة للإشارة إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام لم تتم فإن ما بعد من قوله تعالى وبشرناه بإسحاق الخ من تكملة ما يتعلق به عليه السلام بخلاف سائر القصص التي جعل إنا كذلك نجزي المحسنين مقطعا لها فإن ما بعد ليس مما يتعلق بما قبل ومع هذا لم تخل القصة من مثل تلك الجملة بجميع كلماتها وسلك فيها هذا المسلك اعتناء بها فتأمل وقوله تعالى : إنه من عبادنا المؤمنين
111
(23/132)
الكلام فيه كما تقدم وبشرناه بإسحاق نبيا حال منإسحاق وكذا قوله تعالى من الصالحين
112
- وفي ذلك تعظيم شأن الصلاح وفي تأخيره إيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل والمقصود منهما الإتيان بالأفعال الحسنة السديدة وهو في الإستعمال يختص بها
وجوز كون من الصالحين حالا وكون نبيا حالا من الضمير المستتر فيه وقدم في اللفظ للإهتمام ولئلا تختل رؤس الآي وفيه من البعد ما فيه وعلى أن في جواز تقديم الحال مطلقا أو إطراده في مثل هذا التركيب كلاما لا يخفى على من راجع الألفية وشروحها وفيه ما فيه بعد وجوز أيضا كونه في موضع الصفة لنبيا والكلام على الأول وهو الذي عليه الجمهور أمدح كما لا يخفى والمراد كونه نبيا وكونه من الصالحين في قضاء الله تعالى وتقديره أي مقضيا كونه نبيا مقضيا كونه من الصالحين وإن شئت فقل مقدرا ولا يكونان بذلك من الحال المقدرة التي تذكر في مقابلة المقارنة بل هما بهذا الإعتبار حالان مقارنان للعامل وهو فعل البشارة أو شيء آخر محذوف أي بشرناه بوجود إسحاق نبيا الخ وأوجب غير واحد تقدير ذلك معللا بأن البشارة لا تتعلق بالأعيان بل بالمعاني وتعقب بأنه إن أريد أنها لا تستعمل إلا متعلقة بالأعيان فالواقع خلافه كبشر أحدهم بالأنثى فإن قيل إنما يصح بتقدير ولادة ونحوه من المعاني فهو محل النزاع فلا وجه له والذي يميل إليه القلب أن المعنى على إرادة ذلك وربما يدعى أن معنى البشارة تستدعي تقدير معنى من المعاني وقيل هما حالان مقدران كقوله تعالى ادخلوها خالدين وفيه بحث وباركنا عليه أي على إبراهيم عليه السلام وعلى إسحاق أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلا
وقريء بركنا بالتشديد للمبالغة ومن ذريتهما محسن في عمله أو على نفسه بالإيمان والطاعة
وظالم لنفسه بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير مبين
113
- ظاهر ظلمه وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب هذا وفي الآيات بعد أبحاث الأول أنهم اختلفوا في الذبيح فقال على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح علي وابن عمر وأبو هريرة وأبو الطفيل وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي ويوسف بن مهران والحسن البصرين ومحمد بن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وأبو جعفر الباقر وأبو صالح والربيع بن أنس والكلبي وأبو عمرو بن العلاء وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه السلام لا إسحاق عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه جماعة خصوصا غالب المحدثين وقال أبو حاتم : هو الصحيح وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد : إن الذبيح هديت إسماعيل نص الكتاب بذاك والتنزيل شرف به خص الإله نبينا وأتى به التفسير والتأويل إن كنت أمته فلا تنكر له شرفا به قد خصه التفضيل وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضا كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبي في تفسير عن أمية بن أبي الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه
(23/133)
بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح قال صاحب الكشف ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقا وهو المطلوب فإن قلت : يكفي في الدلالة تقدم البشارة بالوجود أولا قلت : ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولاة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقا قبل ولادة ولده ومنع كونه إذ ذاك مراهقا لجواز أن يكون بالغا كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بالصبر في قوله سبحانه وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وبأنه عز و جل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى إنه كان صادق الوعد ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين المصدق قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج بن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفا عن سلف والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لا إسحاق دون أبيهم إسماعيل وبأنه روي الحاكم في المستدرك وابن جرير في تفسيره والأموي في مغازيه والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح فقال بعض القوم : إسماعيل وقال بعضهم : بل إسحاق فقال معاوية : على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاه أعرابي فقال : يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا والماء عابسا هلك العيال وضاع المال فعد علي مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينكر عليه فقال القوم : من الذبيحان يا أمير المؤمنين قال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا : ارض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية : هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة أن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له : يا إبراهيم فقال : لبيك قال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة واصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به فإن معنى ةحيدك الذي ليس لك وغيره ولا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسحاعيل كان موجودا إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد إسحاق على ما فيها أيضا وهو ابن مائة سنة وأيضا قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له في المحبة في الأغلب ما ليس لمن بعده من الأولاد ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن
(23/134)
إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفا للإبن إلا إذا كان واحدا في النبوة ولم يكن له شريك فيها وقال لي بعض منهم : إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحدا لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت : يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه السلام ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديا فأسم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابني إبراهيم أمر بذبحه فقال إسماعيل : والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب وقيل : هو إسحاق ونسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي وغيره إلى عمر وعلي وابن مسعود والعباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن يزيد ومكحول وكعب وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط ومسروق وعطاء ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر ابن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في الشفاء والسهلي في التعريف واستدل بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلا على أنه مبشر به أيضا لأن قوله تعالى : وبشرناه بإسحاق بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على الوجود ولا يلزم أن يكون طلب من سارة ولا علم أنه عليه السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصا فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في الكشف
وبما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : الذبيح إسحاق
وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث وبما أخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر وبما أخرجه الدارقطني والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذبيح إسحاق وبما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولو لا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له : يا إسحاق سل تعطه قال : أما والله لأتعجلنها قيل نزغات الشيطان
(23/135)
اللهم من مات لا يشرك بك شيئا قد أحسن فاغفر له وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف وقال ابن كثير الحديث عريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله : إن الله تعالى لما فرج الخ وإن كان محفوظا فالأشبه إن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس
والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنها نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها قد روي القول به أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن جبير قال : لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحا إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأدوية والجبال وأمر الفخر لو سلم بالإستدلال به كثير فخر والخير الذي فيه يا ابن الذبيحين غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الأخبار لم يكن مولودا عند حفر زمزم وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر البذح إذا بلغ أولاده عشرا فلما بلغوها بواسطة عبد الله كان ما كان
وما شاع من خبر أن ابن الذبيحين قال العراقي لم أقف عليه والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثا فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناء على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب بحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول وحمل هؤلاء وبشرناه بإسحاق نبيا على أن البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للإتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولا هو ما طلبته بقولك رب هب لي من الصالحين وأنت تعلم أن حمله على البشارة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه وتقدير أن يوجد نبيا لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل
ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر رسالته السابقة : كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك وقال بعضهم كما نقله الخفاجي : إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لأسحاق ومرة بمكة لأسماعيل عليهما السلام والتوقف عندي خير من هذا القول والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناء على أن ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب
(23/136)
البحث الثاني أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي ووجه الإستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله افعل ما تؤمر ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأمورا به لكان ذلك ممتنعا شرعا وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا
واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصيا لجواز أن يكون الوقت موسعا فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ وأجيب أما أولا فبأنه لو كان موسعا لكان الوجوب متعلقا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعا فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنهم يقولون : إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه والإلزام توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب وأما ثانيا فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله مما يؤخر عادة وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلهم قدرا سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعا للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الإستدلال وربما دفعوه بوجوه أخر منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهما بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله افعل ما تؤمر وإقدامه على الذبح والترويع المحرم لو لا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين وقوله سبحانه وفديناه بذبح عظيم ولو لا الأمر لما كان بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيمك عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير ظائز ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء وخمنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح وتعقب بأن هذا لا يسمع أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا معتبرا وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والإحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة وأما ثانيا فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء وكونه لأن الإزهاق لم يحصل ليس بشيء ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفا بالمحال وهم لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخا قبل التمكن فهو لنا لا علينا ومن السادة الحنفية من قال : ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به وفي التلويح فإن قيل : هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه قيل : لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا
(23/137)
وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا تكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا وإذا كان رفعها نسخا أيضا يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في شرح التحرير هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر
البحث الثالث أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة ووافقه في ذلك محمد ونقله الإمام القرطبي عن مالك وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليل عليه السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح واعترض على الإمام بأنه معصية وجاء لا نذر في معصية الله تعالى وقال هو : إن ذلك في شرع إبراهيم عليه السلام عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية وقال بعض الشافعية : ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذرا من إبراهيم عليه السلام حتى يستدل به وأجيب بأنه ورد في التفسير المأثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي : أو ف بنذرك وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتا بدلالة النص والإنصاف أن مدرك الشافعي وأبي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل ولقد مننا على موسى وهارون
114
- أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم
115
- هذا وما بعده من قبيل عطف الخاص على العام والكرب العظيم تغلب فرعون ومن معه من القبط وقيل الغرض ليس بذاك ونصرناهم الضمير لهما مع القوم وقيل لهما فقط وجيء به ضمير لتعظيمهما فكانوا هم الغالبين
116
- بسبب ذلك على فرعون وقومه و هم يجوز أن يكون فصلا أو توكيدا أو بدلا والتنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من الصر لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التخليص عن المكروه بدأ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغلب عليه ثم بالغلبة لتوفيه مقام الإمتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها و آتيناهما بعد ذلك الكتاب المستبين
117
- أي البليغ في البيان والتفصيل كما يشعر به زيادة البنية وهو التوراة وهديناهما بذلك الصراط المستقيم
118
- الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام وتركنا عليهما في الآخرين
119
- سلام على موسى وهارون
120
- إنا كذلك نجزي المحسنين
121
- إنهما من عبادنا المؤمنين
122
- الكلام فيه نظير ما سبق في نظيره وإن إلياس لمن المرسلين
123
- قال الطبري : هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام فهو إسرائيلي من سبط هارون وحكى القتيبي أنه من سبط
(23/138)
وشع وحكى الطبرسي أنه ابن عم اليسع وأنه بعث بعد حزقيل وفي العجائب للكرماني أنه ذو الكفل وعن وهب أنه عمركما عمر الخضر ويبقى إلى فناء الدنيا
وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه موكل بالفيافي والخضر بالبحار والجزائر وإنهما يجتمعان بالموسم في كل عام اجتماعه مع النبي صلى الله عليه و سلم في بعض الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما عليهما الصلاة والسلام من السماء هي خبز وحوت وكرفس وصلاتهما العصر معا رواه الحاكم عن أنس وقال : هذا حديث صحيح الإسناد وكل ذلك من التعبير وما بعده لا يعول عليه وحديث الحاكم ضعفه البيهقي وقال الذهبي موضوع قبح الله تعالى من موضعه ثم قال : وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر : عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس ونقل عنه أنه قرأ وإن إدريس لمن المرسلين والمستفيض عنه أنه قرأ كالجمهور نعم قرأ ابن وثاب والأعمش والمنهال بن عمرو والحكم بن عتيبة الكوفي كذلك
وقريء إدريس وهو لغة في إدريس كإبراهام في إبراهيم وإذا فسر إلياس بإدريس على أن أحد اللفظين اسم والآخر لقب فإن كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به وإن كان المراد بهما إدريس المشهور الذي رفعه الله تعالى مكانا عليا وهو ما قيل أخنوخ بن يزد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وكان على ما ذكره المؤرخون قبل نوح وفي المستدرك عن ابن عباس أن بينه وبين نوح ألف سنة وعن وهب أنه جد نوح أشكل الأمر في قوله تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين لأن ضمير ذريته إما أن يكون لإبراهيم لأن الكلام فيه وإما أن يكون لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم وعلى التقديرين لا يتسنى نظم إلياس المراد به إدريس الذي هو قبل نوح على ما سمعت في عداد الذرية ويرد على القول بالإتحاد مطلقا أنه خلاف الظاهر فلا تغفل
وقرأ عكرمة والحسن بخلاف عنهما والأعرج وأبو رجاء وابن عامر وابن محيصن وإن إلياس بوصل الهمزة فاحتمل أن يكون قد وصل همزة القطع واحتمل أن يكون اسمه يأسا ودخلت عليه أل كما قيل في اليسع وفي حرف أبي ومصحفه و أن إيليس بهمزة مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة آخر الحروف بعدها لام مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة وسين مهملة مفتوحة
إذ قال لقومه وهم على المشهور في إلياس سبط من بني إسرائيل أسكنهم يوشع لما فتح الشام المدينة المعروفة اليوم ببعلبك وزعم بعضهم أنها كانت تسمى بكة وقيل بك بلا هاء ثم سميت بما عرف على طريق التركيب المزجي و إذ عند جمع مفعول اذكر محذوفا أي اذكر وقت قوله لقومه ألا تتقون
124
- عذاب الله تعالى ونقمته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه أتدعون بعلا أي أتعبدونه أو تطلبون حاجكم منه وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك والحسن وابن زيد وفي بعض نسخ القاموس أنه لقوم يونس ولا مانع من أن يكون لهما أو ذلك تحريف قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى
(23/139)
أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وقيل هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها واستؤنس له بقراءة بعضهم بعلاء بالمد على وزن حمراء وظاهر صرفه أنه عربي على القوليسن فلا تغفل
وقال عكرمة وقتادة البعل الرب بلغة اليمن : وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزدشنوءة واستام ابن عباس ناقة رجل من حمير فقال : له أنت صاحبها قال : بعلها فقال ابن عباس أتدعون بعلا : أتدعون ربا ممن أنت قال : من حمير والمراد عليه أتدعون بعض البعول أي الأرباب والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة فالتنكير للتبعيض فيرجع لما قيل قبله وتذرون أحسن الخالقين
125
- أي وتتركون عبادته تعالى أو طلب جميع حاجكم منه عز و جل على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عباده عز و جل والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك وله بهذا الإعتبار أفراد وأن اختلفت جهة الإطلاق فيها فلا إشكال في أضافة أفعل إلى ما بعده وها هنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن تدعون بفتح التاء والدال مضارع ودع بمعنى ترك تذرون مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون وأجيب عن ذلك بأجوبة الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء ولا يمدح عندهم مالم يجيء عفوا بطريق الإقتضاء ولذا ذموا متكلفه فقيل فيه : طبع المجنس فيه نوع قيادة أو ما ترى تأليفه للأحرف قاله الخفاجي وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه الثاني أن في تدعون إلباسا على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعمل ودعاء أحسن الخالقين وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما ليس على العوام كما لا يخفى على الخواص
والصحابة أيضا لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا الثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل وفيه أنه وقع فيما نفاه قال تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة وقال سبحانه يكاد برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وفيهما الجناس التام حال المقام الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى تذرون فقال : ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعدما عملموا أن الله سبحانه ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا واستنكارا فلذلك قيل وتذرون ولم يقل وتدعون وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والإشتقاق الخامس أن لإنكاد كل من فعلى دعاء بعل وترك أحسن الخالقين على غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة المغايرة بين الفعلين السادس أنه لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر وكلا الجوابين كما ترى السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك
(23/140)
الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى فذرهم وما كانوا يفترون وقوله سبحانه وذروا ما بقي من الربا إلى غير ذلك وفيه تأمل الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الإشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الإعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن علها ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقا أو مع الإعراض والرفض الكلي قال الراغب يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الأعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه التاسع أن في ما تدعون بفتح التاء والدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم وتذرون سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله أحسن الخالقين إلى المقتضى للإنكار المعنى بالعمز وصرح للإعتناء بشأنه في قوله تعالى : الله ربكم ورب آبائكم الأولين
126
- بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين قال أبو حيان : ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيل محضة وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الإسم الجليل مبتدأ و ربكم خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكلد إنكار تركهم إياه تعالى والإشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا فكذبوه فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه وجوز أن يكون تكذيبهم راجعا إلى ما تضمنه قوله الله ربكم فأنهم بسبب ذلك لمحضرون
127
- أي في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أولا لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لإشعاره بالجبر إلا عباد الله المخلصين
128
- استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه ومنه كونه استثناء من ضمير محضرون لأنه للمكذبين فإذا استثنى منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر وقيل : لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلا عن مخلصين ومآله ما ذكر لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد
ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا وقال الخفاجي : لا يخفى أن اختصاص الإحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر وفي البحر ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث
وتركنا عليه في الآخرين
129
- سلان على آل ياسين
130
- إنا كذلك نجزي المحسنين
131
- أنه من عبادنا المؤمنين
132
- الكلام فيه كما في نظيره بيد أنه يقال ههنا إن آل ياسين لغة في الياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء الغير العربية وفي الكشاف لعل لزيادة الياء والنون معنى في اللغة السريانية ومن هذا الباب سيناء وسينين واختار هذه اللغة هنا رعاية للفواصل وقيل : هو جمع إلياس على طريق التغليب بإطلاعه على قومه وأتباعه كالمهلبين للمهلب وقومه
وضعف بما ذكره النحاة من أن العلم إذا جمع أو ثنى وجب تعريفه باللام جبرا لما فاته من العلمية ولا فرق فيه بين ما فيه تغليب وبين فيره منا صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل لكن هذا غير متفق عليه قال ابن يعيش
(23/141)
في شرح المفصل : يجوز استعماله نكرة بعد التثنية والجمع نحو زيدان كريمان وزيدون كريمون وهو مختار الشيخ عبد القاهر وقد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصلات كتب النحو ثم أن هذا البحث إنما يتأتى مع من لم يجعل لام الياس للتعريف أما من جعلها له فلا يتأتى الحث معه وقيل : هو جمع إلياسي بياء النسبة فخفف لاجتماع الياآت في الجر والنصب كما قيل أعجمين في أعجميين وأشعرين في أشعريين والمراد بالياسين قوم إلياس المخلصون فإنهم الأحقاء بأن ينسبوا إليه وضعف بقلة ذلك والياسه بالياس إذا جمع وإن قيل : حذف لام إلياس مزيل للإلباس وأيضا هو غير مناسب للسياق والسباق إذ لم يذكر آل أحد من الأنبياء
وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وزيد بن علي آل ياسين بالإضافة وكتب في المصحف العثماني منفصلا ففيه نوع تأييد لهذه القراءة وخرجت عن أن ياسين اسم أبي إلياس ويحمل الآل على إلياس وفي الكناية عنه تفخيم له كما في آل إبراهيم عن نبينا صلى الله عليه و سلم وجوز أن يكون الآل مقمحا على أن ياسين هو إلياس نفسه
وقيل : ياسين فيها اسم لمحمد صلى الله عليه و سلم فآل ياسين آله عليه الصلاة و السلام أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في سلام على آل ياسين نحن آل محمد آل ياسين وهو ظاهر في جعل ياسين اسما له صلى الله عليه و سلم وقيل : هو اسم للسورة المعروفة وقيل : اسم للقرآن فآل ياسين هذه الأمة المحمدية أو خواصها
وقيل : اسم لغير القرآن من الكتب ولا يخفى عليك أن السياق والسباق يأبيان أكثر هذه الأقوال
وقرأ أبو رجاء والحسن على الياسين بوصل الهمزة وتخريجها يعلم مما مر وقرأ ابن مسعود ومن قرأ معه فيما سبق إدريس سلام على إدراسين وعن قتادة وأن إدريس وقرأ على أدريسين وقرأ أبي على إيليس كما قرأ وإن إيليس لمن المرسلين
وإن لوطا لمن المرسلين
133
- إذ نجيناه وأهله أجمعين
134
- إلا عجوزا في الغابرين
135
- ثم دمرنا الآخرين
136
- سبق بيانه في الشعراء وإنكم يا أهل مكة لتمرون عليهم على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم في طريقه مصبحين
137
- داخين في الصباح وبالليل قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح وقيل : أي نهارا وليلا وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد مساء وقال بعض الأجلة : لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة أفلا تعقلون
138
- أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم
وأن يونس لمن المرسلين
139
- يروى على ما في البحر أنه عليه السلام نبيء وهو ابن ثمان وعشرين سنة وحكى في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متي بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم أمه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق وقيل :
(23/142)
اسم أبيه وهذا كما قال ابن حجر أصح وبعض أهل الكتاب يسميه يونان ابن ماثي وبعضهم يسميه يونه ابن امتيازي ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليت النون مع الواو والياء والهمزة والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربيا مشتقا من أنس وهو كما ترى إذ أبق هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام حسن إطلاقه عليه فهو إما ستعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق والأول أبلغ وقال بعض الكمل : الإباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد وكان عليه السلام هرب من قومه بغير إذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يجدوه فاستعير الإباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول وفيه بعد تسلم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره إلى الفلك المشحون
140
- المملوء فساهم فقارع عليه السلام من في الفلك واستدل به من قال بمشروعية القرعة
فكان من المدحضين
141
- فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر
يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجبوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم ير يونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال : لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشؤما فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء
فالتقمه الحوت أي ابتلعه من اللقمة وفي خبر أخرجه أحمد وغيره عن ابن مسشعود أنه أتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يمينا وشمالا فقال : ما بال سفينتكم قالوا : ما ندري قال : ولكني أدري إن فيها عبد آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا : أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم : اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى وكيفية اقتراعهم على ما في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتا واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم قد رفع رأسه من الماء قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر فوجده وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه قبل أن يصل إلى الماء وهو مليم
142
- أي داخل في الملامة على أن بناء أفعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف وما روي عن ابن عباس ومجاهد من تفسيره
(23/143)
بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين وقريء مليم بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوما لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب ومدعي في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعى وذلك أنه لما قلبت الواو في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه
فلو لا أنه كان من المسبحين
143
- أي من الذاكرين الله تعالى كثيرا بالتسبيح كما قيل وفي كلام قتادة ما يشعر باعتباره الكثرة واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحا فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة وقيل : من التفعيل ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحانه الله وقد يقال : هي من إرادة الثبوت من المسبحين فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم والمراد بالتسبيح ههنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معناه وروي ذلك عن ابن جبير
وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت إياه أيام الرخاء واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه : فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وحمله بعضهم على الذكر مطلقا وبعض آخر على العبادة كذلك وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال : كا ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة وأنت تعلم أنه إن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضا لم يحتج إلى قرينة وإن كان مجازا أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر أخرج أحمد في الزهد وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى : فلو لا أنه كان من المسبحين قال : من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت وأخرج أحمد وغيره أيضا عن الحسن في الآية قال : ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال : لا إنما كان يعمل في الرخاء وروي عن الحسن غير ما ذكر فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم أنه في الآية : كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال : يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يسجد فيه أحد
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال : اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ذاكرا لله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى فلو لا أنه كان من المسبحين الخ وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فقيل له الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
والأولى حمل زمانه كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلا في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون
144
- كما يشعر به ما في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس مرفوعا من أنه عليه السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا من بلاد غربة قال سبحانه : وما تدرون
(23/144)
ما ذاكم قالوا : لا يا ربنا قال : ذاك عبدي يونس قالوا : الذي كنا لا نزال نرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة قال : نعم قالوا : يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء قال : بلى فأمر عز و جل الحوت فلفظه
واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه للبث في بطنه الخ لبقي في بطنه حيا إلى يوم البعث وبه أقول : وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأسا أو الموت بوقت البعث ما يشمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه وعن قتادة لكان بطن الحوت قبرا له وظاهره أنه أريد للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنية من عير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم وضمير يبعثون لغير مذكور وهو ظاهر فنبذناه بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي والنبذ على ما في القاموس طرحك الشيء أماما أو وراء أو هو عام
وقال الراغب : النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الإعتداد به والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عز و جل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك بالعراء أي بالمكان الخالي عما يغيطه من شجر أو نبت يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه ورد بأنه يأباه قوله تعالى فنادى في الظلمات وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها ثم إن هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روي أيضا أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شد دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في الكشف من أرض الموصل والإلتقام كان في دجلة أيضا على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه
والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضا وقد شاهدنا فيها حيتانا عظيمة جدا وقيل كان من حيتان النيل أخرج ابن أبي شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع فقال بعضهم : قول الله تعالى كلمح البصر وقال بعضهم : السرير حين أتى به سليمان وقال وهب : أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه ولا شبهة في أن قدرة الله عز و جل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر
وكأني بك تقول : لا شبهة في عدم صحته واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وغيره عن الشعبي قال : التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال : إنه لبث في جوفه ثلاثا وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاثة ليال وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام وعن الضحاك عشرين يوما وعن ابن عباس وابن جريج وأبي مالك والسدي ومقاتل بن سليمان والكلبي وعكرمة أربعين يوما وفي البحر ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه
(23/145)
السلام في بطن الحوت وهو سقيم
145
- مما ناله قال ابن عباس والسدي : إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد وعن ابن جبير أنه عليه السلام ألقي ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة لمدة لبثه في بطن الحوت طولا ما
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين
146
- أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من شجرة قدمت عليها لأنها نكرة واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ والمراد به على ما جاء عن الحسن السبط وابن عباس في رواية وابن مسعود وأبي هريرة وعمرو بن ميمون وقتادة وعكرمة وابن جبير ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف وكان النبي صلى الله عليه و سلم يحبه وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء
وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقا للعادة وقال الكرماني : العادة تخصص الشجر بماله ساق وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم ويشهد له قول أفصح الفصحاء صلى الله عليه و سلم شجرة الثوم انتهى
وقال بعض الأجلة : لك أن تقول أصل معناه ماله أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ماله ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا
وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن جبير أنه قال : كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع قال : لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلمته
وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض
وقيل شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم
وروي عن قتادة أنه عليه السلام كان يأكل من ذلك القرع وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال : طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له : ما اليقطينة قال شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشائش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها عشية وبكرة حتى نبتت وقيل : إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها
أخرج أحمد في الزهد وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء وبلغت في يومها فرآها أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له : أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى :
(23/146)
وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون
147
- والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد والحسن وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى : وإن يونس الخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الإيمان واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى : فآمنوا فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعدما فارقهم وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له
وقيل : الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه ما أصابه فالعطف على ما عنده
وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى فآمنوا في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان وأجيب بأنه يجوز أن يكون الإيمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الإيمان وجددوه لأن الأول كان إيمان باس وقيل هو إرسال إلى غيرهم وقيل : إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم وقال لهم : إن الله تعالى باعث إليكم نبيا وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما فقال : ممن أنت يا غلام قال : من قوم يونس قال : فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام : إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي قال : تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس : مرهما فقال لهما يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا : نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له إخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال : إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال : إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس قالتا : نعم فرجع القوم مذعورين يقولون : تشهد لك الشجرة والأرض فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه وقال : أنت أحق بهذا المكان مني وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة وهذا دل بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى وإن يونس لمن المرسلين وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفضيل قصته عندهم و أو على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل وقيل : بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما وقيل : للإبهام على المخاطب وقال المبرد وكثير من البصريين : للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة وقال ابن كمال : المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن اللمكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر ومن هنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة وهو معطوف على جملة أرسلنا بتقديرهم يزيدون لا على مائة بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية
(23/147)
فإنه ضعيف والزيادة على ما روي عن ابن عباس ثلاثون ألفا وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفا وفي أخرى بضعة وأربعون ألفا وعن نوف وابن جبير سبعون ألفا وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون قال : يزيدون عشرين ألفا وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه
فمتعناهم بالحياة إلى حين
148
- إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة والسدي وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم وهو كذب مفترى ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى وتركنا عليه في الآخرين سلام الخ تفرقة بين شأن لوط ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر وأولي العزم من المرسلين مع الأكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربا منه والله تعالى أعلم
والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز و جل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يا فا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجب ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له : ما بالك نائما قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا وقال بعضهم لبعض : تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له : أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت فقال لهم : أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما وقالوا له : لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له : ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا فقال : ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلى صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز و جل له : قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال : تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام على كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال : إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤف الصبور التواب يا رسول الله ب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال : يا يونس حزنت من هذا جدا فقال : نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة
(23/148)
فأمر الله تعالى يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب : يا يونس أحزنت جدا على اليقطين فقال نعم يا رب حزنت جدا فقال سبحانه : حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوىة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى وفيه من المخالفة للحق ما فيه ولتطلع على حاله نقلته لك ومكم لأهل الكتاب من باطل : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون
149
- أمر الله تعالى نبيه في صدر السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الإستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إليهم منذرين على وجه الإجمال ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم السلام بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عز و جل ثم أمره صلى الله عليه و سلم ههنا بتبكيتهم بطريق الإستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الإعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وسليم وخزاعة وبني مليح : الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الإستهانة بالملائكة عليهم السلام بجعلهم إناثا ثم أبطل سبحانه أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزير ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى عن ذلك والفاء قيل لترتيب الأمر ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل أعلام الخلق عليهم السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل : إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون النبات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والنبيين الذين أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجها لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل وقال بعض الأجلة : الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة فاستفتهم أهم أشد خلقا على أن الفاء هنا للعطف على ذاك والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر وبهذا القول أقول وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحما واضرب زيدا وخبزا فما ظنك بالفعل بجمل بل يقرب من سورة وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها ذلك والكلام هنا لما نعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعدا كما قيل وليس يضير البعد بين جسومنا إذا كان ما بين القلوب قريبا ووجه ترتب المعطوف على ما قبل كوجه ترتب المعطوف عليه فإن كونه تعالى رب السماوات والأرض وتلك الخلائق العظيمة كما دل على وحدته تعالى وقدرته عز و جل دال على تنزهه سبحانه عن الولد ألا ترى إلى قوله جل شأنه بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد والمناسبة بين الرد على منكري البعث
(23/149)
والرد على مثبتي الولد ظاهرة وقد اتحد في الجملتين السائل والمسؤل والأمر وجوز بعضهم كون ضمير استفتهم للمذكورين من الرسل عليهم السلام والبواقي لقريش والمراد الإستفتاء ممن يعلم أخبارهم ممن يوثق بهم ومن كتبهم وصحفهم أي ما منهم أحد إلا وينزه الله تعالى عنه أمثال ذلك حتى يونس عليه السلام في بطن الحوت ولعمري أن الرجل قد بلغ الغاية من التكليف من غير احتياج إليه ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الإستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معهم اجتماعا روحانيا كما يدعيه لنفسه الشيخ محي الدين قدس سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للإجتماع أيضا في قوله تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعا صوفيا
وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة و السلام دون ضميرهم تشريفا لنبيه صلى الله عليه و سلم إلى أنهم في قولهم بالبنات له عز و جل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم وقوله سبحانه : أم خلقنا الملائكة إناثا إضراب وانتقال من التبكيت بالإستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدسا عن النقائض الطبيعية إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان
وقوله تعالى : وهم شاهدون
150
- استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى : اشهدوا خلقهم فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم عند خلقهم والجملة إما حال من فاعل خلقنا أي بل أخلناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على خلقنا أي بل أهم شاهدون
وقوله تعالى ألا إنهم من إفكهم ليقولون
151
- استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الإستفتاء مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس الإفك الصريح والإفتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة وإنهم لكاذبون
152
- فيما يتدينون به مطلقا أو في هذا القول وفيه تأكيد لقوله تعالى : من إفكهم وقريء ولد الله بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا خبرا عن الملائكة المقدر اصطفى البنات على البنين
153
- بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصل والإستفهام للإنكار والمراد إثبات إفكهم وتقرير كذبهم والإصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه
وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة اصطفى بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدى بها وخرجت على حذف أداة الإستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منطقة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها وجوز إبقاء الكلام على الإخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى الخ يقولون اصطفى الخ على ما قيل : أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلا بين نسيبين والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل
مالكم كيف تحكمون
154
- بهذا الحكم الذي تقضي ببطلانه بداهة العقول والإلتفات لزيادة التوبيخ
(23/150)
أفلا تذكرون
155
- بحذف أحد التاءين من تتذكرون وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي أم لكل سلطان مبين
156
- إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له سند حس أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي فأتوا بكتابكم الناطق بصحة دعواكم إن كنتم صادقين
157
- فيها والأمر للتعجيز وإضافة الكتاب إليهم للتهكم وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والإستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجب من جهلهم مالا يخفى على من تأمل فيها وقوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكى لآخرين جناياتهم واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة
أخرج آدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال : قال كفار قر يش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت : فمن أمهاتهم فقالوا : بنات سروات الجن وروي هذا ابن أبي حاتم عن عطية أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروي هذا عن الحسن وقيل إن من الزنادقة يقولون الله عز و جل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه : وجعلوا الخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي وقال الإمام الرازي : وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير جعلوا كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا
وأخرج غير واحد عن مجاهد وعبد بن حميد عن عكرمة وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة وحكاه في مجمع البيان عن قتادة واختاره الجبائي والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم الملائكة بنات الله وأعيد تمهيدا لما يعقبه وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله ووجه التسمية بالجن الإستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة وعلى الأصل جاء ما هنا ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم السلام يسمي الجن ومنهم إبليس وعبر عن الملائكة بالجنة حطا لهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك وقد يقال : إن الإستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا : لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون
158
- أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو
(23/151)
شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير أنهم للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة وأما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك والمراد به المبالعة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنم معذبون لأجله حكما مؤكدا ويجوز على الأوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز و جل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك
وقوله سبحانه سبحان الله عما يصفون
159
- على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به وقوله تعالى : إلا عباد الله المخلصين
160
- استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير أنهم بما يعم وهو خلاف الظاهر وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير يصفون وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا
وجوز كونه استثناء من ضمير جعلوا على الإنقطاع لا غير وما في البين اعتراض واختار الواحدي الوجه الأول قال الطيبي : ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير أنهم بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أي أنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في إغوائنا إياهم لكن الذين اخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي أنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول أه وفي بيان المعنى نوع قصور وقوله تعالى : فإنكم وما تعبدون
161
- ما أنتم عليه بفاتنين
162
- إلا من هو صال الجحيم
163
- عود إلى خطابهم والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين فإنكم الخ والواو للعطف وما تعبدون معطوف على الضمير في إنكم وضمير عليه لله عز و جل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الإستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما والجملة خبر إن والإستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر و أنتم خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم ومعبودوكم مفسدين أحدا على الله عز و جل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة
وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة ما أنتم عليه الخ مستقلة ليست خبرا لإن وضمير عليه لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضا بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل : إنكم وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحدا إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار وظاهر صنيع بعضهم أن أمر
(23/152)
التغليب في أنتم على هذا على حاله وأنت تعلم أن الظاهر الإتصال وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة ما أنتم عليه الخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهلة يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه : فإنك والكتاب إلى علي كدابغة وقد حلم الأديم قال في الكشف : ومعنى الآية أي عليه أنكم يا كفرة مع معبوديكم لا يتسهل لكم إلا أن تفتنوا من هو ضال مثلكم وهو بيان لخلاصة المعنى واستظهر أبو حيان العطف وكون الضمير للعبادة وتضمين فاتنين معنى الحمل وتغليب المخاطب على الغائب في أنتم وكون الجملة المنفية خبر إن وحكى عن بعضهم القول بأن على بمعنى الباء المجرور به لما تعبدون فتأمل
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة صالوا الجحيم بالواو على ما في كتاب الكامل للهذلي وفي كتاب ابن خالويه عنهما صال بالضم ولا واو وفي اللوامح والكشاف عن الحسن صالوا الجحيم بضم اللام فعلى إثبات الواو وهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة وفي الكلام مراعاة لفظ من أولا ومعناها ثانيا كما هو قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين وعلى عدم إثباتها فيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون جمعا حذفت النون منه للإضافة ثم واو الجمع لالتقاء الساكنين وأتبع الخط اللفظ
الثاني أن يكون مفردا حذفت لامه وهي الياء تخفيفا وجعلت كالمنسي وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى : وجنى الجنتين دان وقوله سبحانه وله الجوار المنشآت بضم نون دان وراء الجوار وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حذفت لامه فأجرى الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها الثالث أن يكون مفردا أيضا ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معربا كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة وقوله تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم
164
- حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكى بلفظهم وأصله وما منهم إلا الخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والإنتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعا لعظمته تعالى وخشوعا لهيبته سبحانه وتواضعا لجلاله جل شأنه كما روي فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه وابن مردويه عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعا جبهته ساجدا لله
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وعن السدي إلا له مقام معلوم في القرب والمشاهدة وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلا بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى سبحان الله عما يصفون إلى المسبحون فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة : إن سبحان الله عما يصفون حكاية
(23/153)
لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على علمت و إلا عباد الله المخلصين شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وآكده على أنه استثناء منقطع من واو يصفون كأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف و فإنكم الخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر بيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم والإلتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الإعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقولهم بل كانوا يعبدون الجن وقولهم وما منا إلا له مقام الخ تبيين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول : المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جدا وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن وقيل : هو من قول الرسول عليه الصلاة و السلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله فاستفتهم كأنه قيل فاستفتهم وقل وما منا الخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم
و منا خبر مقدم والمبتدأ محذوف للإكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي ما منا أحد إلا له مقام معلوم
وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أو في مطرد هذا اختيار الزمخشري
وقال أبو حيان منا صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد وقوله سبحانه إلا له مقام معلوم هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غير إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه وقال غيره : إن فيه أيضا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا بصفة أن يكون له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره وفيه أن فيه اعترافا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال نعم قيل يجوز أن يقال : القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة وفيه نظر
وإنا لنحن الصافون
165
- أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة وقال ناصر الدين : أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة وقيل : الصافون حول العرش ننظر الأمر الإلهي وفي البحر داعين للمؤمنين وقيل : صافون أجنحتنا في الهواء ما يؤمر
(23/154)
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال : كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت وإنا لنحن الصافون وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت الأرض لنا مسجدا وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء وأخرج هو أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم وهذه الأخبار ونحوها ترجع التفسير الأول
وإنا لنحن المسبحون
166
- أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة وقيل : أي القائلون سبحان الله
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أنه قال : المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة والظاهر ما تقدم ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز و جل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه وقال ناصر الدين : لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف وما في أن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والإختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة واخواص البشر لا تخلو من الإشتغال بالمعاش ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى وما منا إلى هنا نزلت أخواتها
وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية قال ابن العربي : ولعله أراد في القضاء بين السماء والأرض
قال الجلال السيوطي : لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل له بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسرى برسول الله صلى الله عليه و سلم انتهى إلى سدرة المنهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئا المقحمات فلا تغفل وإن كانوا ليقولون
167
- إم هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو أن عندنا ذكرا من الأولين
168
- أي كتابا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى : لكنا عباد الله المخلصين
169
- لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم والفاء في قوله تعالى : فكفروا به فصيحة مثلها في قوله تعالى فاضرب بعصاك الحجر فانفلق أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به فسوف يعلمون
170
- أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الإنتقام وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علما من الذين تقدمونا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به ولا يخفى بعده
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين
171
- استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الإعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبة وهو قوله تعالى : إنهم لهم المنصورون
172
- وإن جندنا لهم الغالبون
173
- فيكون تفسيرا أو بدلا من كلمتنا وجوز أن يكون مستأنفا والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى لأغلبن أنا ورسلي والأول أظهر والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم
(23/155)
إليه تعالى تشريفا لهم وتنويها بهم وقال بعض الأجلة : هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة وقال الحسن : المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه له وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل وقال ناصر الدين : هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للإستحقاق بما صدر من العباد ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عز و جل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والإستيلاء والنيل من الأعداء أما بقتلهم وتشريدهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك والجملتان دالتان على الثبات والإستمرار فلا بد من أن يقال : استمرار ذلك عرفي وقيل : هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لأخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار ولو عظمت هنالك الكروب فافهم ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل وسمى الله عز و جل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامت وارتبطت غاية الإرتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الإستعارة والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل وقال بعض العلماء : إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل وقرأ الضحاك كلماتنا بالجمع ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن وفي قراءة ابن مسعود على عبادنا على تضمين سبقت معنى حقت فتول عنهم فأعرض عنهم واصبر حتى حين
174
- إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل : إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال : إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضا وقال ابن زيد : إلى يوم القيامة وهو والذي قبله ظاهران في عدم اختصاص النصرة بما في الدنيا وأبصرهم وهم حينئذ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصا إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور
فسوف يبصرون
175
- ما يكون ذلك من التأييد والنصر وقيل : المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة و السلام فهو قرينة على عدم إرادة التبعيد منه
أفبعذابنا يستعجلون
176
- استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجلنه لنا فنزلت وروي أنه لما نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا فنزلت فإذا نزل أي العذاب الموعود
(23/156)
بساحتهم وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقا وتجمع على سوح قال الشاعر : فكان سيان أن لا يسرحوا نعما أو يسرحوه بها وأغبرت السوح وفي الضمير استعارة مكنية شبه العذاب بجيش يهجم على قوم وهم في ديارهم بغتة فيحل بها والنزول تخييل
وقرأ ابن مسعود نزل بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل وقريء نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضا وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب فساء صباح المنذرين
177
- أي فبئس صباح المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى يئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللازم في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلى الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلا ليهجم عليه وهو في غفلته صباحا وكثيرا ما يسمون الغارة صباحا لما أنها في الأعم تقع فيه وهو مجاز مرسل أطلق الزمام وأريد ما وقع فيه كما يقال أيان العرب لوقائعهم
وجوز حمل الصباح هنا على ذلك وفي الكشاف مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فانكروه بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهه فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى ناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة قطع دابرهم وكانت عادة مغاويرهم إصباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى وظاهره أن الكلام على الإستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر وقيل : ضمير نزل للنبي صلى الله عليه و سلم ويراد حينئذ نزوله على الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم إلا على تأويل ولا بخيبر لقوله صلى الله عليه و سلم حين صبحها الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين لأن تلاوته عليه الصلاة و السلام ثمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة و السلام
وتول عنهم حتى حين
178
- وأبصر فسوف يبصرون
179
- تسلية لرسول الله صلى الله عليه و سلم أثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في إطلاق الفعلين على المفعول من الإيذان ظاهر بأن ما يبصره عليه الصلاة و السلام حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة سبحان ربك رب العزة عما يصفون
180
- تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكى عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما حق الرسول صلى الله عليه و سلم كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل : سبحان من هو مريبك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم
(23/157)
بالعذاب ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عز و جل مالكها وقال الزمخشري : أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عز و جل العزيز بنفسه ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر وقوله تعالى وسلام على المرسلين
181
- تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب وقوله سبحانه : والحمد لله رب العالمين
182
- إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عز و جل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه السلام من النصرة والغلبة قد تحقق والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقا عليهم
وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الإشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم وقد يقال : تقديم التنزيه لأهميته ذاتا ومقاما ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عز و جل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفضاعة منقلبهم أردف جلا وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه المشركون وفيه من الإهتمام بأمر التنزيه ما فيه وأتى عز و جل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الإلتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظرا للمقام وإن كان هو أهم منه ذاتا والأهمية بالنظر للمقام أولى بالإعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الإعتناء به ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب ولا يحتاج إلى ما قيل : إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدما على الباعث في الرتبة فتدبر
وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول بعد أن يسلم : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين
(23/158)
المرسلين والحمد لله رب العالمين
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من قال دبر كل صلاة سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سره أن يكتال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة إلى آخر السورة وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفا وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه فقد أخرج أبو داود عن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرؤن عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
ومن باب الإشارة في الآيات ما قالوا والصافات صفا هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم السلام والصف الثاني هو صف الأصفياء فالزاجرات زجرا عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية فالتاليات ذكر آيات الله تعالى وشرائعه عز و جل وقيل الصافات جماعة الملائكة المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلا قدسه على أنبيائه وأوليائه وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق التنزل عليهم قوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء
قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح : أنبياء لأولياءهم ولي إقامه الحق تعالى في تجل مظهر تجلياته وأقام له محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعي ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة و السلام وقد يكون ما قالوا فيه أنه ضعيق سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة و السلام أو يشاهدون المنزل على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر
(23/159)
عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر إلا لهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان أه وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة : أعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلى الله عليه و سلم لعدم ذوقه له والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلى الله عليه و سلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أو يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام أه وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر إن إلهم لواحد إخبار بذلك ليعلمون ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان ومعنى كونه عز و جل واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معه سبحانه في شيء من الأشياء وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس وقيل في قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسؤلون فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤل عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس وقيل في قوله تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف فأوحى إلى عبده ما أوحى ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمة فما دونها أولئك كالأنعام بل هم أضل نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
سورة ص
مكية كما روي عن ابن عباس وغيره وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده قيل ولم يقل أحد إن
ص وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور وفيه بحث وهي كالمتممة لما قبلها من حيث أنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام كداود وسليمان ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز و جل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما اجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه ومن دقق النظر لاح مناسبات أخر والله تعالى الموفق
(23/160)
بسم الله الرحمن الرحيم ص بالسكون على الوقف عند الجمهور وقرأ أبي والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم صاد بكسر الدال والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو ق و ن
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادي أي عارض ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله بمثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية والمعنى عارض القرآن بعملك أي اعمل بأوامره نواهيه وقال عبد الوهاب : أي أعرضه عن عملك فانظر أين عملك من القرآن وقيل هو أمر من صادي أي حادث والمعنى حادث القرآن وهو رواية عن الحس أيضا وله قرب من الأول وقرأ عيسى ومحبوب عن أبي عمرو وفرقة صاد بفتح الدال وكذا قرؤا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضا طلبا للخفة وقيل هو حركو إراب على أن صاد منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم للسورة وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الإعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم وقرأ ابن أبي إسحاق في رواية صاد بالجر والتنوين وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إنه الأرجح وإما لاعتبار ذلك اسما للقرآن كما هو أحد الإحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه والقول بأن ذاك لكونه علما لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة وقرأ ابن السمقيع وهارون الأعور والحسن في رواية صاد بضم الدال وكأنه اعتبر اسما للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كإضرابه من أوائل السور فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن ص فقالا : ما ندري ما هو وهو مذهب كثير في نظائره وقال عكرمة : سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن
ص فقال :
ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار
وقال ابن جبير : هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال صلى الله عليه و سلم صدق الله وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال ص يقول إني أنا الله الصادق وقال محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد
وقيل هو إشارة إلى صدود الكفار عن القرآن وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل وسبويه والأكثرون وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراآت كما سمعت عن قريب ومن الغريب أن صاد محمد صلى الله عليه و سلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به ولعل القائل به اعتبروه فعلا ماضيا مفتوح الآخر أو ساكنه للوقف وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجها وهو على بعض هذه الأوجه لاحظ له من الإعراب وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسما به ومفعولا لمضمر وخبر مبتدأ محذوف وعلى بعضها يتعين كونه مقسما به وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك وبالجملة أن لم يعتبر مقسما به فالواو في قوله سبحانه والقرآن ذي الذكر
1
- للقسم وأن اعتبر
(23/161)
مقسما به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسما منصوبا على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله و بص السورة أو بالعكس أو أريد بص البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو السورة وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف
وضعف جعل الواو للقسم أيضا بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومنه قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك أو الذكرى أو الموعظة للناس على ما روي عن قتادة والضحاك أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون والزجاج هو قوله تعالى إن ذلك لحق تخاصم أهل النار وتعقبه الفراء لقوله : لا نجده مستقيما لتأخر ذلك جدا عن القسم وقال الأخفش : هو إن كل إلا كذب الرسل وقال قوم : كم أهلكنا من قبلهم من قرن وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من قد أفلح بعد قوله تعالى : والشمس حكاه الفراء وثعلب وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول و كم مفعول
وقال أبو حيان : إن هذه الأقوال يجب إطراحها ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه بل الذين كفروا الخ فإن بل لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق
وجوز أن يريد هذا القائل أن بل زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونسب ذلك إلى الفراء وثعلب وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن تدل على ما ذكر ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه : قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول : هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله وهو مبني على جواز التقدم أيضا وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى بل الذين الخ وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في
ص من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه
ص بناء على كونه أمرا من المصاداة وقدره بعضهم غير ذلك وفي البحر ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابا للقسم بالقرآن في قوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين
ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وهناك في قوله سبحانه : لتنذر قوما فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة وجعل بل في قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق
2
- للإنتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلا : إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة لتي
(23/162)
أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل : من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبرا عن اتباع الحق وعنادا وهو أظهر من جعل ذلك إضرابا عن صريحه وإن قدر نحو هذا المفهوم جوابا فالإضراب عنه قطعا وفي الكشف عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والإعتراف بالحق ووجه دلالة ما في النظم الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون الخ ظاهر وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الإختيار والسلام عليك
والمراد بالعزة ما يظهرونه من الإستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والتنكير للدلالة على شدتهما والتعبير بفي على استغراقهم فيهما
وقرأ حماد بن الزبرقان وسورة عن الكسائي وميمونة عن أبي جعفر والجحدري من طريق العقيلي في غرة بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على مخالف الإمام : إنه قرأ بها رجل وقال : إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى أه وفيه ما فيه
كم أهلكنا من قبلهم من قرن وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب أضرابهم و كم مفعول أهلكنا و من قرن تمييز والمعنى قرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية فنادوا عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك وقال الحسن وقتادة : رفعوا أصواتهم بالتوجه حين عاينوا العذاب لينجوا منه ولات حين مناص
3
- حال من ضمير نادوا والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط وقال الرضي : إنها لتأنيث الكلمة فتكون لتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه وقول المتنبي : لقد تصبرت حتى لات مصطبر والآن أقحم حتى لات مقتحم وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان أو القول بأنها داخلة فيه على لفظ حين مقدر بعدها والتزموا حذف أحد الجزأين والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور أي ليس الحين حين مناص ومذهب الأخفش أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء فحين مناص اسمها والخبر محذوف أي لهم وقيل إنها لا النافية للفعل زيدت عليها التاء ولا عمل لها أصلا فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب كما هنا فبعدها فعل مقدر عامل فيه أي ولا ترى حين مناص وقرأ أبو السمال ولات حين بضم التاء ورفع النون فعلى مذهب سيبويه حين اسم لات والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلا
(23/163)
لهم وعلى القول الأخير مبتدأ خبره محذوف وكذا على مذهب الأخفش فإن من مذهبه كما في البحر أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الإبتداء أي فلا حين مناص كائن لهم وقرأ عيسى بن عمر ولات حين بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني : طلبوا صلحنا ولات أو أن فأجبنا أن لات حين بقاء وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لو لا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه وإما على إضمار من كأنه قيل : لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جذع بيتك أي من جذع في أصح القولين وقولهم ألا رجل جزاه الله خيرا
يريدون ألا من رجل ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس كما تقول ليس من رجل قائما والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول غيره وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره وقيل : أن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه بإذ في قول أبي ذؤيب : نهيتك عن طلابك أم عمرو بعاقبة وأنت إذ صحيح ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الأصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر لالتقاء الساكنين لكونه مبنيا مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرهما للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زمانا قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعا عن الإلحاق بها فإنها تبني إذا لم يكن تنوين لأن علته الإحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به وهذا المعنى قائم نون أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضا فلا منافاة وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها واتفق أنهم عوضوا التنوين ههنا تشبيها بإذ في أنها لما قطعت عن الإضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى وخرجت القراءة على حمل مناص على أوان في البيت تنزيلا لما أضيف إليه الظرف وهو حين منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافا إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بني ما أضيف إليه وهو حين على الكسر لإضافته إلى مبني فرضا وتقديرا وهو مناص المشابه لأوان وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه والعجب كل العجب ممن يرتضيه وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء وروي عن عيسى ولات حين بالضم مناص بالفتح قال صاحب اللوامح : فإن صح ذلك فلعله بني حين على الضم تشبيها بالغايات وبني مناص على الفتح مع لات وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة دون المنفصلة عنها ولو بظرف وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى وأهون من هذا فيما أرى كون حين معرفا إلى مناص والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى وعجبوا نظير فتح الراء غير في قوله :
(23/164)
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أرقال على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة وقرأ عيسى أيضا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء لات وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه والفراء وابن كسيان والزجاج : يوقف عليها بالتاء وقال الكسائي : والمبرد بالهاء وقال أبو علي : ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة وذكر أنه رأى في الإمام ولا تحين مناص برسم التاء مخلوطا بأول حين ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل مرسوما على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأض اعتباره إلا فيما خصه الدليل ومن هنا قال السخاوي في شرح الرائية أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه وقد سمعناهم يقولون : اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى ومنه قوله : العاطفون تحين لا من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه نعم الأولى اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين وقال بعضهم : إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس بكسر الياء فأبدلت ألفا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس وقيل : إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه والمناص المنجا والفوت يقال : ناصه ينوصه إذا فاته وقال الفراء النوص التأخر يقال ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ ويقال استئصال طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرسا له : غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال : المعنى نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة وعن مجاهد تفسيره بالفرار وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى ولات حين مناص فقال : ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى : تذكرت ليلى لات حين تذكر وقد بنت عنها والمناص بعيد وعن الكلبي أنه قال : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض : مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص فقال الله تعالى ولات حين مناص قال القشيري : فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار وقال أبو حيان : في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم وقال الجرجاني : أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجا ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبر مثل جاء زيد راكبا ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى فنادوا انتهى
وكون الأصل ما ذكر أن حين ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لا سيما ما هو أفصح الكلام لا أدري والذي دعاه لذلك وعجبوا أن جاءهم منذر منهم حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكاه
(23/165)
من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم أي بشرا أو من عهدهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي والمراد أنهم عدوا ذلك أمرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه وقال الكافرون وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق هذا ساحر فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلا كذاب
4
- فيما يسنده إلى ألله عز و جل من الإرسال والإنزال
أجعل الآلهة إلها واحدا بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييرا في الخارج والتسمية كما في قوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وليس ذلك باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة و السلام ما قال باتحاد آلهتهم معه عز و جل في الوجود إن هذا لشيء عجاب
5
- أي بليغ في العجب فإن فعالا بناء مبالغة كرجل طوال وسراع ووجه تعجيبهم أنه خلاف ما ألفوه عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيبا بل محالا وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علما وقدرة والظاهر أنهم لم يدعوهما لها ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى وابن مقسم عجاب بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف وقال مقاتل عجاب لغة أزد شنوءة أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فرثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم : ما هي وأبيك لتعطينكها وعشرا قال : لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وفي رواية أنهم قالوا : سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة و السلام لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا وقاموا غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يامرك بهذا
وانطلق الملأ منهم أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالي بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة و السلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط
(23/166)
وأخرج ابنأبي حاتم عن أبي مجلز قال : قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بل هم الملأ وتلا وانطلق الملأ منهم أن امشوا الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس و أن مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالا في الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الإنطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه وقيل الإنطلاق هنا الإندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة وإطلاق الإنطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول وقال بعضهم : المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلا بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا وقيل هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال أسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشي إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن هذا المعنى هنا في غاية البعد وأيا ما كان فالبعض قال للبعض ذلك وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم وقريء امشوا بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا واصبروا على آلهتكم أي اثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح
وقرأ ابن مسعود وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا فجملة يمشون حالية أو مستأنفة والكلام في أن اصبروا كما في أن امشوا سواء تعلق بانطلق أو بما يليه أن هذا لشيء يراد
6
- تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الإمتثال به والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد نفي ألوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلى الله تعالى عليه وسلم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم واصبروا على عبادة آلهتكم وقيل : إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر وقيل : إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرياسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمناه أو يريده فاصبرا وقيل : أن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد إبطاله وقيل : الإشارة إلى الصبر المفهوم من اصبروا أي أن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة
وقال القفال : هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل
ما سمعنا بهذا الذي يقوله في الملة الآخرة قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب ومقاتل أرادوا ملة النصارى والتوصيف بالآخرة الإعتقاد لأنهم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم
(23/167)
ومرادهم من قولهم ما سمعنا الخ أنا سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد فإن النصارى كانوا يثلثون ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه وعن مجاهد أيضا وقتادة أرادوا ملة العرب ونحلتها التي أدركوا عليها آباءهم وجوز أن يكون في الملة الآخرة حالا من اسصم الإشارة لا متعلقا بسمعنا أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه من التوحيد كائنا في الملة التي تكون آخر الزمان أرادوا أنهم لم يسمعوا من أهل الكتاب والكهان الذين كانوا يحدثونهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه و سلم بظهور نبي أن في دينه التوحيد ولقد كذبوا في ذلك فإن حديث إن النبي المبعوث آخر الزمان يكسر الأصنام ويدعو إلى توحيد الملك العلام كان أشهر الأمور قبل الظهور وإن أرادوا على هذا المعنى إنا سمعنا خلاف ذلك فكذبهم أقبح إن هذا أي ما هذا
إلا اختلاق
7
- أي افتعال وافتراء من غير سبق مثل له ءأنزل عليه الذكر أي القرآن من بيننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم لو لا نزل القرآن على رجل من القريتين عظيم ومرادهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله تعالى كقولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي بل هم في شك من ذكري من القرآن الذي أنزلته على رسولي المشحون بالتوحيد لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يقطعون به فلذا تراهم ينسبونه إلى السحر تارة وإلى الإختلاق أخرى فبل للإضراب عن جميع ما قبله وبل في قوله تعالى بل لما يذوقوا عذاب
8
- إضراب عن مجموع الكلامين السابقين حديث الحسد في قوله تعالى أأنزل الخ وحديث الشك في قوله تعالى بل هم في شك أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك حينئذ يعني أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا إلى التصديق أو إضراب عن الإضراب قبله أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم واضطروا إلى التصديق بذكري والأول على ما في الكشف هو الوجه السديد وينطبق عليه ما بعد من الآيات وقيل المعنى لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه وهو كما ترى وفي التعبير بلما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع وقوله تعالى : أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب
9
- في مقابلة قوله سبحانه أأنزل الخ ونظيره في رد نظيره أهم يقسمون رحمة ربك وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والمراد بالعندية الملك والتصرف لا مجرد الحضور
وتقديم الظرف لأنه محل الإنكار أي بل أيملكون خزائن رحمته تعالى وتصرفون فيها حسبما يشاؤن حتى أنهم يصيبون بها من شاؤا ويصرفونها عمن شاؤا ويتحكمون فيها بمقتضى رأيهم فيتخيروا للنبوة بعض مناديدهم
وإضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه و سلم للتشريف واللطف به عليه الصلاة واغلسلام والعزيز القاهر في خلقه والوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها وحديث العزة والقهر يناسب ما كانوا عليه من ترفعهم بالنبوة عنه صلى الله عليه و سلم تجبرا
والمبالغة في الوهاب من طريق الكمية تناسب قوله تعالى خزائن وتدل على حرمان لهم عظيم وفي ذلك إدماج أن النبوة ليست عطاء واحدا بالحقيقة بل يتضمن عطايا جمة تفوت الحصر وهي من طريق الكيفية المشار إليها بإصابة المواقع للدلالة على أن مستحق العطاء ومحله ن وهب ذلك وهو النبي صلى الله عليه و سلم وفي الوصف المذكور
(23/168)
أيضا إشارة إلى أن النبوة موهبة ربانية وقوله تعالى أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما ترشيح لما سبق أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجسام السفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء وقوله تعالى : فليرتقوا في الأسباب
10
- جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج الذي يتوصل بها إلى السماوات فليدبروها وليتصرفوا فيها فإنهم لا طريق لهم إلى تدبيرها والتصرف فيها إلا ذاك أو إن ادعوا ما ذكر من الملك فليصعدوا وليتصرفوا حتى يظن صدق دعواهم فإنه لا أمارة عندهم على صدقها فلا أقل من أن يجعلوا ذلك أمارة وقال الزمخشري ومتابعوه : أي فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى وينزلوا الوحي إلى من يتخارون ويستصوبون وهو مناسب للمقام بيد أن فيه دغدغة وأيا ما كان ففي أمرهم بذلك تهكم بهم لا يخفى والسبب في الأصل الوصلة من الحبل ونحوه
وعن مجاهد الأسباب هنا أبواب السماوات وقيل السماوات أنفسها لأن الله تعالى جعلها أسبابا عادية للحوادث السفلية جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب
11
- أي هم جند الخ فجند خبر مبتدأ محذوف مقدر مقدما كما هو الظاهر وما مزيدة قيل للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئا ما وقيل للتعظيم والتكثير واعترض بأنه لا يلائمه مهزوم وأجيب بأن الوصف بالعظمة والكثرة على سبيل الإستهزاء فهي بحسب اللفظ عظمة وكثرة وفي نفس الأمر ذلة وقلة ورجح بأن الأكثر في كلامهم كونها للتعظيم نحو لأمر ما جدع قصير أنفه لأمر ما يسود من يسود
وقول امريء القيس : وحديث الركب يوم هنا وحديث ما على قصره مع أن الكلام لتسليته صلى الله عليه و سلم وتبشيره بانزامهم وذلك أكمل على هذا التقدير بل قيل إن التبشير بخذلان عدد حقير ربما أشعر بإهانة وتحقير
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا وفيه نظر و هنالك صفة جند أو ظرف مهزوم وهو إشارة إلى المكان البعيد وأريد به على قول المكان الذي تفاوضوا فيه مع الرسول صلى الله عليه و سلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة وجعل ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم يوم الفتح وقيل يوم بدر وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وأنت خبير بأن هنالك إذا كان إشارة إلى مكة ومتعلقا بمهزوم لا يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدرا و مهزوم خبر بعد خبر وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض شروح الكشاف للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق و من الأحزاب صفة جند أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب أو جند من الأحزاب مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون وقال أبو البقاء جند مبتدأ وما زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفاتة عن
(23/169)
الكلام الذي قبله واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانبة وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل : إنه كان حق الجند أن يعرف لكونه معلوما فنكر سوقا للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة
وقال صاحب الكشف : إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير وزيادة ما الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها وفيه منع ظاهر ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون جند خبرا مقدما لمبتدأ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل
وجعل الزمخشري هنا لك الموضوع للإشارة إلى المكان البعيد مستعارا للمرتبة من العلو والشرف على أنه إشارة إلى حيث وضعوا أنفسهم من الإنتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك وفيه إيماء إلى علة الذم وجوز على هذا أن تكون ما نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم
وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث وجوز أن تكون هنا لك إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وتتعلق بمهزوم والكلام إخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه وقيل : إشارة إلى زمان الإرتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضي وقيل : ما أسم موصول مبتدأ وهنا لك في موضع الصلة وجند خبر مقدم ومهزوم ومن الأحزاب صفتان وهما المقصودان بالإفادة وما هنالك إشارة إلى مكة والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل وقيل الأصنام وعبدتها وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبي البقاء وزيادة لا تخفى
وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد
12
- إلى آخره استئناف مقرر لمضمون ما قبله بيان أحوال العتاة الطغاة مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم العقاب و ذو الأوتاد صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد و الأوتاد جمع وتد وهو معروف وكسر التاء فيه أشهر من فتحها ويقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل قاله الأصمعي وأنشد
لاقت على الماء جذيلا واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا وقالوا : ود بإبدال التاء دالا والإدغام ووت بإبدال الدال تاء وفيه قلب الثاني للأول وهو قليل وأصل إطلاق ذلك على البيت المطنب بأوتاده وهو لا يثيب بدونها كما قال الأعشى : والبيت لا يبتني إلا على عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فقيل إنه شبه هنا فرعون في ثبات ملكه ورسوخ سلطنته ببيت ثابت أقيم عماده وثبتت أوتاده تشبيها مضمرا في النفس على طريق الإستعارة المكنية ووصف بذي الأوتاد على سبيل التخييل فالمعنى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون الثابت ملكه وسلطنته وقيل : شبه الملك الثابت من حيث الثبات والرسوخ بذي الأوتاد وهو البيت المطنب بأوتاده واستعير ذو الأوتاد له على سبيل الإستعارة التصريحية قيل وهو أظهر مما مر نهايته أنه
(23/170)
وصف بذلك فرعون مبالغة لجعله عين ملكه والمعنى على وصفه بثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر
وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية : الأوتاد الجنود يقوون ملكه كما يقوي الوتد الشيء أي وفرعون ذو الجنود فالإستعارة عليه تصريحية في الأوتاد وقيل : مجاز مرسل الأوتاد للجند وقيل المباني العظيمة الثابتة وفيه مجاز أيضا وقال ابن عباس في رواية أخرى وقتادة وعطاء : كانت له عليه اللعنة أوتاد وخشب يلعب له بها وعليا وقيل : كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية ويضرب في كل وتدا من حديد ويتركه حتى يموت وروي معناه عن الحسن ومجاهد وقيل : كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات وقيل : يشده بأربعة أوتاد ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتخدشه
وعلى هذه الأقوال الأربعة فالأوتاد ثابتة على حقيقتها وثمود وقوم لوط وأصحاب الئيكة أصحاب الغيضة وهم الذين أرسل إليهم شعيب عليه السلام نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها وقيل الأيكة بلد لهم أولئك المكذبون الأحزاب
13
- أي الكفار المتحزبون على الرسل عليهم السلام والمهزومون وهو مبتدأ وخبر ويفهم من ذلك أن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب لأن المبتدأ والخبر في مثله متعاكسان رأسا برأس لا لأن أولئك إشارة إلى الأحزاب أولا والأحزاب ثانيا هم المكذبون وقوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل استئناف جيء به تقريرا لتكذيبهم على أبلغ وجه وتمهيدا لما يعقبه فإن نافية ولا عمل لها لانتقاض النفي بإلا و كل مبتدأ والإستثناء مفرغ من أعم العام وهو الخبر أي ما كل حزب من الأحزاب محكوما عليه بحكم إلا محكوما عليه بأنه كذب الرسل أو مخبرا عنه بخبر إلا مخبرا عنه بأنه كذب الرسل لأن الرسل يصدق كل منهم الكل وكلهم متفقون على الحق فتكذب كل واحد منهم تكذيب لهم جميعا وجوز أن يكون من مقابلة الجمع بالجمع أي ما كلهم محكوما عليه بحكم أو مخبرا عنه بشيء إلا محكوما عليه أو مخبرا عنه بأنه كذب رسوله والحصر مبالغة كأن سائر أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم فيدل على أنهم غالون في التكذيب ويدل على غلوهم فيه أيضا إعادته متعلقا بالرسل وتنويع الجملتين إلى إسمية استثنائية وغيرها أعني قوله تعالى : كذبت قبلهم الخ وجعل كل فرقة مكذبة للجميع على الوجه الأول ويسجل ذلك عليهم استحقاقهم أشد العقاب ولذا رتب عليه قوله تعالى فحق عقاب
14
- أي ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات فأغرق قوم نوح وأهلك فرعون بالغرق وقوم هود بالريح وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف وأصحاب الأسكة بعذاب الظلة وجوز أن يكون أولئك الأحزاب بدلا من الطوائف المذكورة والجملة بعد مستأنفة لما سمعت وأن يكون مبتدأ والجملة بعده خبر بحذف العائد أي أن كل منهم أو كلهم إلا كذب الرسل والمجموع استئناف مقرر لما قبله مع ما فيه من بيان كيفية تكذيبهم وكلاهما خلاف الظاهر وأما ما قيل من أنه خبر والمبتدأ قوله تعالى وعاد الخ أو قوله تعالى وقوم لوط الخ فما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله
وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق
15
- شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب إضرابهم فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه والنظر بمعنى الإنتظار وعبر به مجازا بجعل محقق
(23/171)
الوقوع كأنه أمر منتظر لهم والإشارة بهؤلاء للتحقير والمراد بالصيحة الواحدة النفخة الثانية أي ما ينتظر هؤلاء الكافرون الحقيرون الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب شيئا إلا النفخة الثانية التي تقوم بها الساعة قاله قتادة وليس المراد أنها نفسها عقاب لهم لعمومها للبر والفاجر من جميع الأمم بل المراد أنه ليس بينهم وبين ما أعد لهم من العذاب إلا هي لتأخير عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالإستئصال حسبما يستحقونه والنبي صلى الله عليه و سلم موجود خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم إذ المراد من وأنت فيهم وجوده عليه الصلاة و السلام لا مجاورته لهم كما توهم حتى يقال : لا دلالة في الآية على امتناع وقوعه بعد الهجرة لمخالفته للتفسير المشهور وقيل المراد بالصيحة المذكورة النفخة الأول وتعقب بأنه لا وجه له أصلا لما أنه أصلا لا يشاهد هو لها ولا يصعق إلا من كان حيا عند وقوعها وليس عقابهم الموعود واقعا عقيبها ولا العذاب المطلق مؤخرا إليها بل يحل بهم من حين موتهم
وقيل المراد صيحة يهلكون بها في الدنيا كما هلكت ثمود ولا يخفى أن هذا تعذيب بالإستئصال وهو مما لا يقع كما سمعت فلا يكون منتظرا وقال أبو حيان : الصيحة ما نالهم من قتل وأسر وغلبة كما تقول صاح بهم الدهر فهي مجاز عن الشر كما في قولهم ما ينتظرون إلا مثل صيحة الحبلى أي شرا يعاجلهم وفيه بعد
وجوز جعل هؤلاء إشارة إلى الأحزاب ولما سبق ذكرهم مكررا مؤكدا استحضرهم المخاطب في ذهنه فنزل الذهني منزلة الخارجي المحسوس وأشير إليهم بما يشار به للحاضر المشاهد واحتمال التحقير قائم ولا ينبو عنه التعبير بأولئك لأن البعد في الواقع مع أنه قد يقصد به التحقير أيضا والكلام بيان لما يصيرون إليه في الآخرة من العقاب بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب وجعلهم منتظرين له لأن ما أصابهم من عذاب الإستئصال ليس هو نتيجة ما جنوه من قبيح الأعمال إذ لا يعتد به بالنسبة إلى ما ثمت من الأهوال فهو تحذير لكفار قريش وتخويف لمن يساق له الحديث فلا وجه لما قاله أبو السعود من أن هذا ليس في حيز افحتمال أصلا لأن الإنتظار سواء كان حقيقة أو استهزاء إنما يتصور في حق من لم يترتب على أعماله نتائجها بعد وبعد ما بين عقاب الأحزاب واستئصالهم بالمرة لم يبق مما أريد بيانه من عقوباتهم أمر منتظر بخلاف كفار قريش حيث ارتكبوا ما ارتكبوا ولما يلاقوا بعد شيئا قاله الخفاجي ولا يخفى أن المنساق إلى الذهن هو الإحتمال الأول وهو المأثور عن السلف والفواق الزمن الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ويقال للبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين فيقة ويجمع على أفواق وأفاويق جمع الجمع والكلام على تقدير مضافين أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من توقف مقفدار فواق أو على ذكر الملزوم الذي هو الفواق وإرادة اللازم الذي هو التوقف مقداره وهو مجاز مشهور والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان
وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة تفسيره بالرجوع والترداد وهو مجاز أطلق فيه الملزوم وأريد اللازم فإن في الزمان بين الحلبتين يرجع اللبن إلى لالضرع والمعنى أنها صيحة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد فالجملة عليه صفة مؤكدة لوحدة الصيحة
وقرأ السلمي وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وطلحة بضم الفاء فقيل هما بمعنى واحد وهو ما تقدم كقصاص الشعر وقصاصه وقيل : المفتوح اسم مصدر من أفاق المريضإفاقة وفاقة إذا رجع إلى الصحة
(23/172)
وإليه يرجع تفسير ابن زيد والسدي وأبي عبيدة والفراء له بالإفاقة والإستراحة والمضمون اسم ساعة رجوع اللبن للضرع
وقوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب
16
- حكاية لما قالوه عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة أي قالوا بطريق الإستهزاء والسخرية ربنا عجل لنا قسطنا ونصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الإستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والإبتهال والقائل على ما روي عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال الله تعالى فيه سأل سائل بعذاب واقع وأبو جهل على ما روي عن قتادة وعلى القولين الباقون راضون فلذا جيء بضمير الجمع والقط القطعة من الشيء من قطعه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس ومن ذلك قول الأعشى : ولا الملك النعمان يوم لقيته بنعمته يعطي القطوط ويطلق قيل وهو في ذلك أكثر استعمالا وقد فسره بها هنا أبو العالية والكلبي أي عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها وهي رواية عن الحسن وجاء في رواية أخرى عنه أنهم أرادوا نصيبهم من الجنة وروي هذا أيضا عن قتادة وابن جبير وذلك أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها لنتبعهم في الدنيا قال السمرقندي : أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يجعل لهم النعيم الذي كان يعده عليه الصلاة و السلام من ةمن لقولهم ربنا ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاء لسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يسألوا ربهم وفيه بحث يعلم مما مر آنفا
إصبر على ما يقولون على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية واذكر عبدنا داود أي اذكر لهم قصته عليه السلام تعظيما للمعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترؤا عليه فإنه عليه السلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظم بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليه السلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة و السلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم ترغيبا له في الصبر وتسهيلا لأمره عليه وإيذانا ببلوغ ما يريده بذلك وهو كما ترى وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانا على صحة نبوته صلى الله عليه و سلم والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر اذكر على ذلك بتذكر ذا الأيد أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به
إنه أواب
17
- أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عز و جل وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : الأبواب المسبح وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة وأخرج الديلمي عن مجاهد قال : سألت ابتن عمر عن الأواب فقال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عنه فقال : هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى وهذا إن صح لا يعدل عنه والجملة تعليل لكونه عليه السلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأبواب فيها على أن المراد
(23/173)
بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم نعم قد كان عليه لالسلام قوي الجسم أيضا إلا أن ذلك غير مراد هنا وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته
قد أخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال : كان االنبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال : كان أعبد البشر وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يقوم نصف الليل وفي ذلك دلالة على قوته في العبادة لما في كل من الصيام والقيام المذكورين من ترك راحة تذكرها قريبا
إنا سخرنا الجبال معه استئناف لبيان قصته عليه السلام وجوز كونه لتعليل قوته في الدين وأو أبيته إلى الله عز و جل ومع متعلقة بسخر وإيثارها على اللام لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن ةبطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام بل بطريق الإقتداء به في عبادة الله تعالى
وأخر اتلظرف المذكور عن الجبال وقدم في سورة الأنبياء فقيل : وسخرنا مع داود الجبال قال بعض الفضلاء : لذكر داود وسليمان ثمت فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا وجوز تعلقها بقوله تعالى يسبحن وهو أقرب بالنسبة إلى آية الأنبياء وتسبيحهن تقديس بلسان قال لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : تقديس بلسان الحال وتقييده بالوقتين المذكورين بعد يأباه إذ لا اختصاص لتسبيحهن الحالي بهما وكذا لا اختصاص له بكونه معه وقيل المعنى يسرن معه على أن يسبحن من السباحة والجملة حال من الجبال والعدول عن مسبحات مع أن الأصل في الحال الإفراد للدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال نظير ما في قول الأعشى : لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرق وجوز أن تكون مستأنفة لبيان كيفية التسخير ومقابلتها بمحشورة هنا كالمعينة للحالية بالعشي هو كما قال الراغب : من زوال الشمس إلى الصباح أي يسبحن بهذا الوقت وليس ذلك نصا في استيعابه بالتسبيح والإشراق
18
- أي ووقت الإشراق قال ثعلب : يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأفق الرقي وصفاء شعاعها وهو الضحوة الصغرى وروي عن أم هانيء بنت أبي طالب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى صلاة الضحى وقال : هذه صلاة الإشراق وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت هذه الآية يسبحن بالعشي والإشراق وفي رواية عنه أيضا ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية ووجه فهم الخبر إياها من الآية أي كل تبيح ورد في القرآن فهو عنده مالم يرد به التعجب والتنزيه بمعنى الصلاة فحيث كانت صلاة لداود عليه السلام وقصت على طريق المدح علم منه مشروعيتها وفي الكشف وجهه أن الآية دلت على تخصيصه عليه السلام ذينك الوقتين بالتسبيح وقد علم من الرواية أنه كان يصلي مسبحا فيهما فحكى في القرآن ما كان عليه وإن لم يذكر كيفيته فيكون في الآية ذكر صلاة الضحى وهو المطلوب أو نقول أن تسبيح الجبال
(23/174)
غير تسبيح داود عليه السلام لأن الأول مجاز فحمل تسبيح داود على المجاز أيضا لأن المجاز بالمجاز أنسب أه
وتعقب بأنه إذا علم من الرواية فكيف يقال أنه أخذه من الآية والتجوز ينبغي تقليله ما أمكن وهذا بناء على أن معه متعلق بيسبحن حتى يكون هو عليه السلام مسبحا أي مصليا وإلا فتسبيح الجبال لا دلالة على الصلاة ومع هذا ففيه حينئذ جمع بين معنيين مجازيين إلا أن يقال به أو يجعل بمعنى يعظمن ويجعل تعظيم كل محمولا على ما يناسبه وبعد اللتيا والتي لا يخلو عن كدر وارتضى الخفاجي الأول وأراه لا يخلو عن كدر أيضا
وقال الجلبي : في ذلك يجوز أن يقال : تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف فيصلح ذلك الشرف سببا لتعيينهما للصلاة والعبادة فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات وهذا عندي أصفى مما تقدم ويشعر به ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس قال : كنت أمر بهذه الآية يسبحن بالعشي والإشراق فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانيء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى يوم فتح مكة صلاة الضحى فمان ركعات فقال ابن عباس : قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى : يسبحن بالعشي والإشراق هذا ولهم في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنيتها وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين ابن العراقي : أحاديث كثيرة صحيحة مشضهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري أنها بلغت مبلغ التواتر
ومن ذلك حديث أم هانيء الذي في الصحيحين وزعم أن تلك الصلاة كانت صلاة شكر لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت لا أنها عبادة مخصوصة فيه دون سبب أو أنها كانت قضاء عما شغل صلى الله تعالى عليه وسلم تلك الليلة من حزبه فيها خلاف ظاهر الخبر السابق عنها
وكذا ما رواه أبو داود من طريق كريب عنها أنها قالت صلى عليه الصلاة و السلام سبحة الضحى ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عنها أيضا ففيه ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى وابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة قال : هذه صلاة الضحى واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى الله عليه و سلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو مالك وحمله القائلون بالإثبات على نفي رؤيتها ذلك لما أنه روي عنها مسلم وأحمد وابن ماجه أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله تعالى وقد شهد أيضا بأنه عليه الصلاة و السلام كان يصليها على ما قال الحاكم أبو ذر الغفاري وأبو سعيد وزيد بن أرقم وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وأبو الدرداء وعبد الله بن أبي أوفى وعتبان بن مالك وعتبة بن عبد السلمي ونعيم بن همام الغطفاني وأبو أمامة الباهلي وأم هانيء وأم سلمة ومن القواعد المعروفة أن المثبت مقدم على النافي مع أن رواية الإثبات أمكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل تلك وذكر الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى والمذهب عنهم وجوبها عليه صلى الله عليه و سلم وأن ذلك من خصوصياتها عليه الصلاة و السلام واحتج بما أخرجه ابن العربي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا
(23/175)
بها رواه الدارقطني أيضا وقال الشيخ الحافظ أبو الفضل بن حجر : إنه لم يثبت ذلك في خبر صحيح وفي الأخبار ما يعكر على القول به وذكر أن أقلها ركعتان لخبر البخاري عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة و السلام أوصاه بهما وأن لا يدعهما وأدنى كمالها أربع لما صح كان صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء فست عثمان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة لخبر ضعيف يعمل به في مثل ذلك وذهب الكثير إلى أن الأكثر ثمان
وذكروا أنها من اثنتي عشرة والعمل القليل قد يفضل الكثير فما يقتضيه أجرك على قدر نصبك أغلبي
وصرح ابن حجر الهيتمي عليه الرحمة بالمغايرة بين صلاة الضحى وصلاة الإشراق قال : ومما لا يسن جماعة ركعتان عقب الإشراق بعد خروج وقت الكراهة وهي غير الضحى واقدم لك ما يفيد اتحادهما ويدل عليه غير ذلك من الأخبار وصحخ إطلاق صلاة الأوابين على صلاة الضحى كإطلاقها على الصلاة المعروفة بعد المغرب هذا وتمام الكلام فيها في كتب الفقه والحديث والطير عطف على الجبال على ما هو الظاهر
محشورة حال من الطير والعامل سخرنا الطير حال كونها محشورة عن ابن عباس كان عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت وذلك حشرها ولم يؤت بالحال فعلا مضارعا كالحال السابقة ليدل على الحشر الدفعي الذي هو أدل القدرة وذلك بتوسط مقابلته للفعل أو لأن الدفعية هي الأصل عند عدم القرينة على خلافها
وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري والطير محشورة برفعهما مبتدأ وخبرا ولعل الجملة على ذلك حال من ضمير يسبحن كل له أواب
19
- 99 استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منه إجمالا من تسبيح الطير واللام تعليلية والضمير لداود أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح ووضع الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى كما هو المشهور ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس وقيل يجوز أن يكون المراد كل من الطير فالجملة للتصريح بما فهم وكذا يجوز أن يراد كل من داود عليه السلام ومن الجبال والطير والضمير لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله تعالى أواب أي مسبح مرجع للتسبيح وشددنا ملكه قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ومزيد النعمة واقتصر بعضهم على الهيبة والسدي على الجنود وروي عنه ابن جرير والحاكم أنه كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف
وحكى أنه كان حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وهذا في غاية البعد عادة مع عدم احتياج مثله عليه السلام إليه وكذا القول الأول كما لا يخفى على منصف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ادعى رجل من بني إسرائيل عند داود عليه السلام رجلا ببقرة فجحده فسئل البينة فلم تكن بينة فقال لهما عليه السلام : قوما حتى أنظر في أمركما فقاما من عنده فأتى داود في منامه فقيل له : اقتل الرجل المدعي عليه فقال : إن هذه رؤيا ولست أعجل فأتى الليلة الثانية فقيل له : اقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة فقيل له : اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله تعالى فأرسل عليه السلام إلى الرجل فقال : إن الله تعالى أمرني أن أقتلك فقال : تقتلني بغير بينية ولا ثبت قال نعم : والله لأنفذن أمر الله عز و جل فيك فقال له الرجل
(23/176)
لا تعجل علي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكنني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود عليه السلام فقتل فعظمت بذلك هيبته في بني إسرائيل وشد به ملكه
وقرأ ابن أبي عبلة بشد الدال وآتيناه الحكمة النبوة وكمال وإتقان العمل وقيل الزبور وعلم الشرائع وقيل كل كلام وافق الحكمة فهو حكمة وفصل الخطاب
20
- أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل فالفصل بمعناه المصدري والخطاب الخصام لاشتماله عليه أو لأنه أحد أنواعه خص به لأنه المحتاج للفصل أو الكلام الذي يفصل بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والصواب والخطأ وهو كلامه عليه السلام في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات فالخطاب الكلام المخاطب به والفصل مصدر بمعنى اسم الفاعل أو الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعي فيه مظان الفصل والوصل والعطف والإستئناف والإضمار والحذف والتكرار ونحوها فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به أيضا والفصل مصدر إما بمعنى اسم الفاعل أي الفاصل المميز للمقصود عن غيره أو بمعنى اسم المفعول أي المقصود أي الذي فصل من بين أفراد الكلام بتلخيصه ومراعاة ما سمعت فيه أو الذي فصل بعضه عن بعض ولم يجعل ملبسا مختلطا
وجوز أن يراد بفصل الخطاب الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لا نزر ولا هذر فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به كما سلف والفصل إما بمعنى الفاصل لأن القصد أي المتوسط فاصل بين الطرفين وهما هنا المختصر والمطنب الممل أو لأن الفصل والتمييز بين المقصود وغيره أظهر تحققا في الكلام القصد لما في أحد الطرفين من الإخلال وفي الطرف الآخر من الإملال المفضي إلى إهمال بعض المقصود وإما بمعنى المفصول لأن الكلام المذكور مفصول مميز عند السامع على المخل والممل بسلامته على الإخلال والإملال والإضافة على الوجه الأول من أضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما عداه من إضافة الصفة لموصوفها وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وحكاه الطبرسي عن الأكثرين من أن فصل الخطاب هو قوله : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فقيل هو داخل في فصل الخطاب على الوجه الثاني فإن فيه الفصل بين المدعي والمدعى عليه وهو من الفصل بين الحق والباطل وجاء في بعض الروايات هو إيجاب البينة على المدعى واليمين على عليه فلعله أريد أن فصل الخطاب على الوجه الأول أعني فصل الخصام كان بذاك وجعله نفسه على سبيل المبالغة وما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي من أنه القضاء بين الناس بالحق والإصابة والفهم فهو ليس شيئا وراء ما ذكر أولا وأخرج ابن جرير عن الشعبي وابن أبي حاتم والديلمي عن ابي موسى الأشعري أن فصل الخطاب الذي أوتيه عليه السلام هو أما بعد وذكر أبو موسى أنه عليه السلام أول مكن قال ذلك فقيل : هو داخل في فصل الخطاب وليس فصل الخطاب منحصرا فيه لأنه يفصل اغلمقصود عما سيق مقدمة له من الحمد والصلاة أو من ذكر الله عز و جل مطلقا وظاهره اعتبار فصل الخطاب بمعنى الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود إلى آخر ما مر ويوهم صنيع بعضهم دخوله فيه باعتبار المعنى الثاني لفصل الخطاب ولا يتسنى ذلك وحمل الخبر على الأنحصار مما لا ينبغي إذ ليس في إيتاء هذا اللفظ كثير امتنان ثم الظاهر أن المراد من أما بعد ما يؤدي مؤداه من الألفاظ لا نفس هذا اللفظ لأنه لفظ
(23/177)
عربي وداود لم يكن من العرب ولا نبيهم بل ولا بينهم فالظاهر أنه لم يتكلم بالعربية والذي يترجح عندي أن المراد بفصل الخطاب فصل الخصام وهو يتوقف على مزيد علم وفهم وتفهيم وغير ذلك فإيتاؤه يتضمن إيتاء جميع ما يتوقف هو عليه وفيه من الإمتنان ما فيه ويلائمه أتم ملاءمة قوله تعالى : وهل أتاك نبؤا الخصم استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لايذانه بأنه من الأنباء البديعة التي حقها أن تشيع فيما بين كل حاضر وبادي والجملة قيل عطف على إنا سخرنا من قبيل عطف القصة على القصة وقيل : على اذكر
والخصم في الأصل مصدر لخصمه بمعنى خاصمه أو غلبه ويراد منه المخاصم ويستعمل للمفرد والمذكر وفروعهما وجاء للجمع هنا على ما قال جمع لظاهر ضمائره بعد وربما ثنى وجمع على خصوم وإخصام وأصل المخاصمة على ما قال الراغب أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي بجانبه أو أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب
إذ تسور المحراب
21
- أي علوا سوره ونزلوا إليه فتفعل للعلو على أصله نحو تسنم الجمل أي علا سنامه وتذري الجبل علا ذروته والسور الجدار المحيط المرتفع والمحراب الغرفة وهي العلية ومحراب المسجد مأخوذ منه لانفصاله عما عداه أو لشرفه المنزل منزلة علوه قاله الخفاجي وقال الراغب : محراب المسجد قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى وقيل : لكون حق الإنسان فيه أن يكون حربيا من إشغال الدنيا ومن توزيع الخاطر وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد سمي صدره به وقيل : بل المراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكان هذا أصح انتهى وصرح الجلال السيوطي أن المحاريب التي في المساجد بهيئتها المعروفة اليوم لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه و سلم وله رسالة في تحقيق ذلك وإذ متعلقة بمحذوف مضاف إلى الخصم أي نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام وإسناد الإتيان إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم وجوز تعلقها به بلا حذف على جعل إسناد الإتيان إليه مجازيا أو بالخصم وهو في الأصل مصدر والظرف قنوع بكفيه رائحة الفعل وزعم الحوفي تعلقها بأتى ولا يكاد يصح لأن إتيان نبأ الخصم لم يكن وقت تسورهم المحراب إذ دخلوا على داود إذ هذه بدل من إذ الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين أو بدل اشتمال بأن يعتبر الإمتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول ويجوز أن يراد بالدخول إرادته وفيه تكلف لأنه مع كونه مجازا لا يتفرع عليه قوله تعالى : ففزع منهم فيحتاج إلى تفريعه على التسور وهو أيضا كما ترى وجوز تعلقه باذكر مقدرا والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين قيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان وكان عليه السلام كما روي عن ابن عباس جزأ زمانه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للإشتغال بخاصة نفسه ويوما لجميع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم وسبب الفزع قيل أنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الإحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه فخاف عليه السلام أن يؤذوه لا سيما على ما حكى أنه كان ليلا وقيل : إن الفزع من أجل أنه ظن أن أهل مملكته قد استهانوه
(23/178)
حتى ترك بعضهم الإستئذان فيكون في الحقيقة فزعا من فساد السيرة لا من الداخلين وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعا مرتفعا جدا لا يمكن أن يرقى إليه بعد أشهر من أعوان وكثرة عدد والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد فلما رأه قد فزع قالوا لا تخف وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه السلام كأنه قيل : فماذا قالوا عند مشاهدتهم فزعه فقيل : قالوا له إزالة لفزعه لا تخف خصمان خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان والمراد هنا فوجان لا شخصان متخاصمان وقد تقدم أن الخصم يشمل الكثير فيطابق ما مر من جميع الضمائر ويؤيده على ما قيل قوله سبحانه بغى بعضنا على بعض فإن نحو هذا أكثر استعمالا في قول الجماعة وقراءة بعضهم بغى بعضهم على بعض أظهر في التأييد ولا يمنع ذلك كون التحاكم إنما وقع بين اثنين لجواز أن يصحب كلا منهما من يعاضده والعرف يطلق الخصم على المخاصم ومعاضده وإن لم يخاصم بالفعل وجوز أن يكون المراد اثنين والضمائر المجموعة مراد التثنية فيتوافقان وأيد بقوله سبحانه إن هذا أخي وقيل : يجوز أن يقدر خصمان مبتدا خبره محذوف أي فينا خصمان وهو كما ترى والظاهر أن جملة بغى الخ في موضع الصفة لخصمان وأن جملة نحن الخ استئناف في موضع التعليل للنهي فهي موصولة بلا تخف وجوز أن يكونوا قد قالوا لا تخف وسكتوا حتى سئلوا ما أمركم فقالوا : خصمان بغى الخ أي جار بعضنا على بعض واستشكل قولهم هذا على القول بأنهم كانوا ملائكة بأنه إخبار عن أنفسهم بما لم يقع منهم وهو كذب والملائكة منزهون عنه وأجيب بأنه يكون كذبا لو كانوا قصدوا به الإخبار حقيقة أما لو كان فرضا لأمر صوروه في أنفسهم لما أتوا على صورة البشر كما يذكر العالم إذا صور مسئلة لأحد أو كان كناية وتعريضا بما وقع من داود عليه السلام فلا وقرأ أبو يزيد الجرار عن الكسائي خصمان بكسر الخاء
فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط أي ولا تتجاوزه وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة وقتادة والحسن وأبو حيوة ولا تشطط من شط ثلاثيا أي ولا تبعد عن الحق وقرأ قتادة أيضا تشطط مدغما من أشط رباعيا وقرأ زر تشاطط بضم التاء وبألف على وزن تفاعل مفكوكا وعنه أيضا تشطط من شطط والمراد في الجميع لا تجر في الحكومة وأرادوا بهذا الأمر والنهي إظهار الحرص على ظهور الحق والرضا به من غير ارتياب بأنه عليه السلام يحكم بالحق ولا يجوز في الحكم وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق وقد يقوله اتهاما للحاكم وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه وعلى ما ذكرنا أولا فيه بعض فظاظة وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لا سيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى
والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم ونوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة و السلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب اللهم وفقنا لأحسن الأخلاق وأعصمنا من الأغلاط واهدنا إلى سواء الصراط
22
- أي وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل إن هذا أخي الخ استئناف لبيان ما فيه الخصومة والمراد
(23/179)
بالأخوة أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله تعالى وإن كثيرا من الخلطاء وكل واحد من هذه الأخوات يدلي بحق مانع من الإعتداء والظلم وقيل : هي أخوة في النسب وكان المتحاكمان أخوين من بني إسرائيل لأب وأم ولا يخفى أن المشهور أنهما كانا من الملائكة بل قيل لا خلاف في ذلك
و أخي بيان عند ابن عطية وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري ولعل المقصود بالإضافة على الثاني قوله تعالى : له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة وهي الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن والشاء الجبلي وتستعار للمرأة كالشاة كثيرا نحو قول ابن عون : أنا أبوهن ثلاث هنه رابعة في البيت صغرا هنه ونعجتي خمسا توفينه ألا فتى سحج يغذينه وقول عنترة : يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم وقول الأعشى : فرميت غفلة عينه من شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها والظاهر إبقاؤها على حقيقتها هنا ويراد بها أنثى الضأن وجوز إرادة الإمرأة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وقرأ الحسن وزيد بن علي تسع وتسعون بفتح التاء فيهما وكثر مجيء الفعل والفعل بمعنى واحد نحو السكر والسكر ولا يبعد ذلك في التسع لا سيما وقد جاور العشر والحسن وابن هرمز نعجة بكسر النون وهي لغة لبعض بني تميم وقرأ ابن مسعود ولي نعجة أنثى ووجه ذلك الزمخشري بأنه يقال امرأة أنثى للحسناء الجميلة والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال وقوله : فتور القيام قطيع الكلام لغرب العشاء إذا لم تنم وقول قيس بن الخطيم : تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنغرف وفي الكلام عليه توفية حق القسمين أعني ما يرجع إلى الظالم وما يرجع إلى المظلوم كأنه قيل : إنه مع وفور استغنائه وشدة حاجتي ظلمني حقي وهذا ظاهر إذا كانت النعجة مستعارة وإلا فالمناسب تأكيد الأنوثة بأنها كاملة فيها فيكون أدر وأحلب لما يطلب منها على أن فيه رمزا إلى ما روي عنه فقال أكفلنيها ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي وقال ابن كسيان : اجعلها كفلي أي نصيبي وعن ابن عباس وابن مسعود تحول لي عنها وهو بيان للمراد وألصق بوجه الإستعارة وعزني أي غلبني وفي المثل من عز بزأي من غلب سلب وقال الشاعر : قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح وفي الخطاب
23
- أي مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أطق رده وقال الضحاك : أي إن تكلم
(23/180)
كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني وقال ابن عطية : كان أوجه مني وأقوى فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي وقوته أعظم من قوتي وقيل : أي غلبني في مغالبته إياي في الخطبة على أن الخطاب من خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني وهو قول من يجعل النعجة مستعارة وتعقبه صاحب الكشف فقال : حمل الخطاب على المغالبة في خطبة النساء لا يلائهم فصحاحة التنزيل لأن التمثيل قاصر عنه لنبو قوله : ولى نعجة عن ذلك أشد والنبوة وكذا قوله : أكفلنيها إذ ينبغي على ذلك أن يخاطب به ولي المخطوبة إلا أن يجعل الأول مجازا عما يؤول إليه الحال ظنا والشروط في حسنه تحقق الإنتهاء كما في أعصر خمرا والثاني مجاز عن تركه الخطبة ولا يخفى ما فيهما من التعقيد ثم إنه لتصريحه ينافي الغرض من التمثيل وهو التنبيه على عظم ما كان منه عليه السلام وأنه أمر يستحي من كشفه مع الستر عليه والإحتفظ بحرمته انتهى فتأمل
وقرأ أبو حيوة وطلحة وعزني بتخفيف الزاي قال أبو الفتح : حذفت إحدى الزائين تخفيفا كما حذفت إحدى السينين في قول أبي زبيد :
أحسن به فهن إليه شوس
وروي كذلك عن عاصم
وقرأ عبد الله وأبو وائل ومسروق والضحاك والحسن وعبيد بن عمير وعازني بألف بعد العين وتشديد الزاي وغالني
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل ذي النعجات الكثيرة وتهجين طعمه وليس هذا ابتداء من داود عليه السلام إثر فراغ المدعى من كلامه ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور الحال لديه فقيل : ذلك على تقدير لقد ظلمك إن كان ما تقول حقا وقيل ثم كلام محذوف أي فاقر المدعى عليه فقال لقد ظلمك الخ ولم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها أنه لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه وجاء في رواية أنه عليه السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر ما تقول فأقر فقال له : لترجعن إلى الحق أو لأكسرن الذي فيه عيناك وقال للثاني : لقد ظلمك الخ فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه وقيل : ذهبا نحو السماء بمرأى منه وقال الحليمي : إنه عليه السلام رأى في المدعى مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه فاستعجل بقوله : لقد ظلمك ولا يخفى أنه قول ضعيف لا يعول عليه لأن مخايل الصدق كثيرا ما تظهر على الكاذب والحيلة أكثر من أن تحصى قديما وحديثا وفيما وقع من إخوة يوسف عليه السلام ولم يكونوا الأنبياء على الأصح ما يزيل الإعتماد في هذا الباب وبعض الجهلة ذهب إلى نحو هذا وزعم أن ذنب داود عليه السلام ما كان إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل : لقد ظلمك بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب أو لقد ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم الواحد خليط وهي الخلطة وقد غلبت في الماشية وفي حكمها عند الفقهاء كلام ذكر بعضا منه الزمخشري ليبغي ليتعدى بعضهم على بعض غير مراع حق الشركة والصحبة
(23/181)
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان وقليل ما هم أي وهم قليل جدا فقيل خبر مقدم و هم مبتدأ وما زائدة وقد جاءت المبالغة في القلة من التنكير وزيادة ما الإبهامية ويتضمن ذلك التعجب فإن الشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه فكأنه قيل : ما أقلهم والجملة اعتراض تذييلي وقريء ليبغي بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين كما قال طرفة بن العبد : اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس يريد اضربن ويكون على تقدير قسم محذوف وذلك القسم وجوابه خبر لأن وعلى قراءة الجمهور اللام هي الواقعة في خبر إن وجملة يبغي الخ هو الخبر وقريء ليبغ بحذف الياء للتخفيف كما في قوله تعالى : والليل إذا يسر وقوله : محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا والظاهر أن قوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء الخ من كلام داود عليه السلام تتمة لما ذكره أولا وقد نظر فيه ما كان عليه التداعي كما هو ظاهر التعبير بالخلطاء فإنه غالب في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في الماشية وجعل وجه استعارة النعجة ابتداء تمثيل لم ينظر فيه إلى ما كان عليه التداعي كأنه قيل : وإن البغي أمر يوجد فيما بين المتلابسين وخص الخلطاء لكثرته فيما بينهم فلا عجب مما شجر بينكم ويترتب عليه قصد الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الذين حكم لهم بالقلة وأن يكره إليهم الظلم والإعتداء الذي عليه أكثرهم مع التأسف على حالهم وأن يسلي المظلوم عما جرى عليه من خليطه وأن له في أكثر الخلطاء أسوة أو كأنه قيل : إن هذا الأمر الذي جرى بينكما أيها الخليطان ثيرا ما يجري بين الخلطاء فينظر فيه إلى خصوص حالهما قال في الكشف : والمحمل الأظهر هذا
وعلى التقديرين هو تذييل يترتب عليه ما ذكر ثم قال : ولعل الأظهر حمل الخلطاء على المتعارفين والمتضادين إضرابهم ممن بينهم مىبسة شديدة وامتزاج على نحو
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
والغلبة في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في عرف الفقهاء فذكر الخلطاء لا ينافي ذكر الحلائل إذ لم ترد الخلطة أه وأنت خبير بأن ذلك وإن لم يناف ذكر الحلائل لكن أولوية عدم إرادة الحلائل وإبقاء النعجة على معناها الحقيقي مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وظن داود أنما فتناه الظن مستعار للعلم الإستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة وفي البحر لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له فالمعنى وعلم داود وأيقن بما جرى في مجلس الحكومة أن الله تعالى ابتلاه وقيللما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم بذلك أنه تعالى ابتلاه وجوز إبقاء الظن على حقيقته وأنكر ابن عطية مجيء الظن بعد العلم اليقيني وقال : لسنا نجدة في كلام العرب وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر وتوقعه العرب على العلم الذي ليس بواسطة الحواس فإنه اليقين التام ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون : ظن بمعنى أيقن إلى آخر ما أطال ويفهم منه أن إطلاق الظن على العلم الإستدلالي حقيقة والمشهور أنه مجاز وظاهر ما بعد أنه هنا بمعنى العلم و أنما المفتوحة على ما حقق بعض الأجلة لا تدل على الحصر كالمكسورة ومن قال بإفادتها إياه
(23/182)
حملا على المكسورة كالزمخشري لم يدع الأطرد فليس المقصود ههنا قصر الفتنة عليه عليه السلام لأنه يقتضي انفصال الضمير ولا قصر ما فعل به على الفعل لأن كل فعل ينحل إلى عام وخاص فمعنى ضربته فعلت ضربه على أن المعنى ما فعلنا به إلا الفتنة كما قال أبو السعود لأنه على ما قيل تعسف وإلغاز ومن يدعي الأطراد يلتزم الثاني من القصرين المنفيين ويمنع كون ما ذكر تعسفا وإلغازا
وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن بخلاف عنه فتناه بتشديد التاء والنون مبالغة والضحاك افتناه كقوله على ما نقله الجوهري عن أبي عبيدة : لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد غوى كل مسلم وقتادة وأبو عمرو في رواية أنما فتناه بضمير التثنية وهو راجع إلى الخصمين فاستغفر ربه إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب وخر راكعا أي ساجدا على أن الركوع مجاز على السجود لأنه لافضائه إليه جعل كالسبب ثم تجوز به عنه أو هو استعارة لمشابهته له في الإنحناء والخضوع والعرب تقول نخلة راكعة ونخلة ساجدة وقال الشاعر : فخر على وجهه راكعا وتاب إلى الله من كل ذنب وقيل أي خر للسجود راكعا أي مصليا على أن الركوع بمعنى الصلاة لاشتهار التجوز به عنها وتقدير متعلق لخر يدل عليه غلبة فحواه لأنه بمعنى سقط على الأرض كما في قوله تعالى فخر عليهم السقف من فوقهم
وقال الحسين بن الفضل : أي خر من ركوعه أي سجد بعد إن كان راكعا وظاهره إبقاء الركوع على حقيقته وجعل خر بمعنى سجد والجمهور على ما قدمنا واستشهد به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة وهو قول الخطابي من الشافعية ولا فرق في ذلك بين الصلاة وخارجها كما في البزازية وغيرها وفي الكشف قالوا أي الحنفية : إن القياس يقتضي أن يقوم الركوع مقام السجود لأن الشارع جعله ركوعا وتجوز بأحدهما عن الآخر لقيامه مقامه وإغنائه غناءه
وأيدوه بأن السجود لم يؤمر به لعينه ولهذا لم يشرع قربة مقصودة بل للخضوع وهو حاصل بالركوع فإن قلت : إن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر والكلام في سجدة التلاوة قلت : لا على في ذلك لأني لم أستدل بفعل داود عليه السلام بل بجعل الشارع إياه مغنيا غناء السجود ولأصحابنا يعني الشافعية أن يمنعوا أن علاقة المجاز ما ذكروه بل مطلق الميل عن الخضوع المشترك بينهما أو لأنه مقدمته كما قال الحسن : لا يكون ساجدا حتى يركع أو خر مصليا والمعتبر غاية الخضوع وليست في الركوع أه
ولا يخفى أن المعروف من النبي صلى الله عليه و سلم السجود ولم نقف في خبر على أنه عليه الصلاة و السلام ركع للتلاوة بدله ولو مرة وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس أمر القياس المذكور بالقوى فالأحوط فعل الوارد لا غير بل قال بعض الشافعية : إن قول الأصحاب لا يقوم الركوع مقام السجدة ظاهر في جواز الركوع وهو بعيد والقياس حرمته وعني صاحب الكشف بما ذكر في السؤال من أن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر أنها كانت كذلك من نبينا صلى الله عليه و سلم فقد أخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس أن النبي
(23/183)
صلى الله تعالى عليه وسلم سجد في وقال : سجدها داود توبة ونسجدها شكرا أي على قبول توبة داود عليه السلام من خلاف الأولى بعلي شأنه وقد لقي عليه السلام على ذلك من القلق المزعج ما لم يلقه غيره كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وآدم عليه السلام وإن لقي أمرا عظيما لكنه كان مشوبا بالحزن على فراق الجنة فجوزي لذلك بأمر هذه الأمة بمعرفة قدره وأنه أنعم عليه نعمة تستوجب دوام الشكر إلى قيام الساعة ولقصته على ما في بعض الروايات شبه لما وقع لنبينا صلى الله عليه و سلم في قصة زينب المقتضى للعتب عليه بقوله تعالى : وتخفي في نفسك الآية فيكون ذكرها مذكرا له عليه الصلاة و السلام ما وقع وما آل الأمر إليه مما هو أرفع وأجل فكان ذلك اقتضى دوام الشكر بإظهار السجود له ولعل ذلك وجه تخصيص داود بذلك مع وقوع نظيره لغيره من الأنبياء عليهم السلام فتأمله ولا تغفل عن كون السورة مكية على الصحيح وقصة زينب رضي الله تعالى عنها مدنية وينحل الإشكال بالتزام كون السجود بعد القصة فلينقر وهي عند الحنفية إحدى سجدات التلاوة الواجبة كما ذكر في الكتب الفقهية ومن فسر خر راكعا بخر للسجود مصليا ذهب إلى أن ما وقع من داود عليه السلام صلاة مشتملة على السجود وكانت للإستغفار وقد جاء في شريعتنا مشروعية صلاة ركعتين عند التوبة لكن لم نقف في خبر على ما يشعر بحمل ما هنا على صلاة داود عليه السلام لذلك وإنما وقفنا على أنه سجد وأناب
24
- أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة فغفرنا له ذلك أي ما استغفرنا منه
أخرج أحمد وعبد بن حميد عن يونس بن حيان أن داود عليه السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال : يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي علي كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم أم ظمآن فتسقى أم مظلوم فينتصر لك فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر عند ذلك وفي رواية عبد الله ابن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجدا أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال الخ وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر له حاربه فهزمه
وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعا ولم يشرب شرابا إلا مزجه بدمع عينيه وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء حتى رعش وخددت الدموع في وجهه ولم ينقطع خوفه عليه السلام وقلقه بعد المغفرة فقد أخرج أحمد والحكيم الترمذي وابم جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان غذا رآها اضطربت يداه
وأخرج أحمد وغيره عن ثابت عن صفوان وعبد بن حميد من طرق عطاء السائب عن أبي عبدلة الجدلي ما رفع رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات وإن له عندنا لزلفى قربة بعد المغفرة
وحسن مآب
25
- وحسن مرجع في الجنة وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية : يدنو من ربه سبحانه حتى يضع يده عليه وهو إن صح من المتشابه وأخرج أحمد في الزهد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها : يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عز و جل : يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في
(23/184)
الدنيا فيقول : يا رب كيف وقد سلبته فيقول : إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة
هذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل إنه عليه السلام رأى رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه وفي بعض الآثار أنه وزيره فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين امته غير مخل بالمروءة حيق كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل على أحدهما لمن اتخذه أخا له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته
وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا امرأته خطب امرأته ظانا أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها
وقيل أنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلا طبيعيا إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة ونقل هذا عن أبي مسلم والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام
ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب : من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة جلدة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم السلام سادة السادة وهو مستحسن إلا أن الزين العراقي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه وقال أبو حيان : الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه عز و جل فلما اتضح له أنهم جاؤا حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عز و جل قال فغفرنا له ذلك ولم يتقدم سوى قوله تعالى وظن داود أنما فتناه ونعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أنا لوجوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه
(23/185)
نقص لمنصب الرسالة طرحناه ونحن كما قال الشاعر : ونؤثر حكم العقل في كل شبهة إذا آثر الأخبار جلاس قصاص انتهى ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الإنتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به وقيل : الإستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى فغفرنا له على معنى فغفرنا لأجله وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة ولا يقبل تأويلا يندفع معه ذلك ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلي شأنه والإستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبينة لزلفاه عنده عز و جل وإما مقول لقول مقدر معطوف على غفرنا أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق وهو على الأول مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوبا من قبله لتنفيد ما يريده وعلى الثاني من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما والأول أظهر والمنة أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات : خليفة الله في بريته جفت بذاك الأقلام والكتب وقالت الصحابة لأبي بكر : خليفة رسول الله وبذلك كان يدعي إلى أن توفى فلما ولي قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصارا إلى أمير المؤمنين وذهب الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الإصطلاح واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عز و جل وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللفظ والواجب عليه سبحانه والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله فاحكم بين الناس بالحق الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عز و جل للعلم بأن الذوات لا يكون محكوما بها وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق وفرع الأمر بالحكم على ما تقدم لأن الإستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لا سيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه
وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة وذكر الحق لأن به سداده وقيل ترتب ذلك لأن
(23/186)
الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل وفي البحر أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث أنه معصوم لا يحكم إلا بالحق وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى : ولا تتبع الهوى فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هو النفس في المحكومات وععم بعضهم فقال : أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا
وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه السلام المبادة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولا وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لا سيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسئلة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشادا لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيها لمن هو دونه عليه السلام وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوي كما في قوله : هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق وبه فسره هنا بعضهم فقال : أي لا تتبع ما تهوى الأنفس فيضلك عن سبيل الله بالنصب على أنه جواب النهي وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سببا لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق وهي أعم من الدلائل العقلية والنقلية وصد ذلك عن الدلائل إما لعدم فهمها أو العمل بموجبها وقوله تعالى : إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه وخبر إن إما جملة لهم عذاب على أن لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ وأما الظرف وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من الإستقرار
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنهما وأبو حيوة يضلون بضم الياء قال أبو حيان : وهذه القراءة أعم لأنه لا يضل إلا ضال في نفسه وقراءة الجمهور أوضح لأن المراد بالوصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين
وقوله تعالى : بما نسوا متعلق بالإستقرار والباء سببية وما مصدرية وقوله سبحانه : يوم الحساب
26
- مفعول نسوا على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب وعليه يكون تعليلا صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الإشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفا لقوله تعالى : لهم وجعل النسيان عليه مجازا عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا أي خلقا باطلا فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق نحو كل هنيئا أي أكلا هنيئا والباطل ما لا حكمة فيه وجوز كونه حالا من فاعل خلقنا بتقدير مضاف
(23/187)
أي ذوي باطل والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وجوز كونه حالا من المفعول أيضا بنحو هذا التأويل وأيا ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملا على الحكم الباهرة والأرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب فإن خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عز و جل لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى
وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل نسوا جيء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل : بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى وجوز كون باطلا مفعولا له ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل : ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولا يخفى بعده وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى وقيل : تكون عطفا على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل : لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل
ذلك إشارة إلى ما نفي من خلق ما ذكر باطلا ظن الذين كفروا أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن الذين كفروا فإن إنكارهم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار وهذا بناء على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى فويل للذين كفروا مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أم التعليل و من في قوله تعالى من النار
27
- ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى فويل لهم مما كتبت أيديهم ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم قيل والكلام على تقدير مضاف أي دخول النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم منقطعة وتقدر ببل والهمزة والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده وبل للإضراب الإنتقالي من تقدير أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم باطلا إلى تقديره وتحقيقه بإنكار التسوية بين الفريقين أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في الأرض التي جعلت مقرا لهم كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع في الحياة الدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا منها من أكثر المؤمنين لكن ذلك الجعل محال مخالف للحكمة فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين كذا قالوا وظاهره أن محالية جعل الفريقين سواء حكمة تقتضي تعين المعاد الجسماني وفيه خفاء والظاهر أن المعاد الرواحاني يكفي لمقتضى الحكمة من إثابة الأولين وتعذيب الآخرين الدليل العقلي الذي تشير إليه الآية ظاهر في إثبات معاد لكن بعد إبطال التناسخ وهو كاف في الرد على كفرة
(23/188)
العرب لا يقولون بمعاد بالكلية ولم يخطر ببالهم التناسخ أصلا ولإثبات المعاد الجسماني طريق آخر مشهور بين المتكلمين وجعل هذا الدليل العقلي طريقا طريقا لإثباته يحتاج إلى تأمل فتأمل وقوله تعالى : أم نجعل المتقين كالفجار
28
- إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذي هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهي التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين وأيا ما كان فليس المراد من الجمعية في الموضعين أناسا بأعيانهم ولذا قال ابن عباس : الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين
وقيل : هي في قوم مخصوصين من مشركي قريش قالوا للمؤمنين إنا نعطي في الآخرة من الخير ما لا تعطون فنزلت وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وفي رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها ابن عساكر أنه قال : الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحرث رضي الله تعالى عنهم والمفسدين في الأرض عتبة والوليد ابن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر ولعله أراد أنهم سبب النزول وقوله تعالى كتاب خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة ويجوز على الثاني تقديره مذكر أي هو أو هذا وهو الأولى عند جمع رعاية للخبر وتقديره مؤنثا رعاية للمرجع وقوله تعالى : أنزلناه إليك صفته وقوله سبحانه مبارك أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر ثان للمبتدأ أو صفة كتاب عند من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح وقريء مباركا بالنصب على أنه حال من مفول أنزلنا وهي حال لازمة لأن البركة لا تفارقه جعلنا الله تعالى في بركاته ونفعنا بشريف آياته وقوله عز و جل ليدبروا آياته متعلق بأنزلناه وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف يدل عليه وأصله ليتدبروا بتاء بعد الياء آخر الحروف وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بهذا الأصل أي أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ويتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة وضمير الرفع لأولي الألباب على التنازع وأعمال الثاني أو للمؤمنين فقط أو لهم وللمفسدين وقرأ أبو جعفر لتدبروا بتاء الخطاب وتخفيف الدال وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما والأصل لتتدبروا بتاءين فحذفت أحدهما على الخلاف الذي فيها أهي تاء المضارعة أم تاء التي تليها والخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم وعلماء أمته على التغليب أي لتدبر أنت وعلماء أمتك وليتذكر أولوا الألباب
29
- أي وليتعظ به ذوو العقول الزاكية الخالصة من الشوائب أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم لفرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن إرسال الرسل وإنزال الكتب لبيان ما لا يعرف إلا من جهة الشرع كوجوب الصلوات الخمس والإرشاد إلى ما يستقل العقل بإدراكه كوجود الصانع القديم جل جلاله وعم نواله ووهبنا لداود سليمان نعم العبد وقريء نعم على الأصل والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد هو أي سليمان كما ينبيء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولا صريحا لوهبنا ولأن قوله تعالى إنه أواب
30
- أي راجع إلى الله تعالى بالتوبة كما يشعر به الساق أو إلى التسبيح مرجع له إلى مرضاته عز و جل تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور في قوله سبحانه إذ عرض عليه يعود
(23/189)
إليه عليه السلام قطعا وإذ منصوب باذكر والمراد من ذكر الزمان ذكر ما وقع فيه أو ظرف لأواب أو لنعم والظرف قنوع لكن يرد على الوجهين أن التقييد يخل بكمال المدح فالأول أولى وهو كالإستشهاد على أنه أواب أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه بالعشي الخ فإنه يشهد بذلك والعشي على ما قال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح وقالف بعض : منه إلى آخر النهار والظرفان متعلقان بعرض وقوله تعالى : الصافنات نائب الفاعل وتأخيره عنهما لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها وأنشد الزجاج : ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كثيرا وقال أبو عبيدة : هو الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على طرف الحافر فهو المتخيم وعن التهذيب ومتن اللغة هو المخيم وقال القتبي الصافن الواقف في الخيل وغيرها وفي الحديث من سره أن يقول الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد للنابغة : لنا قبة مضروبة بفنائها عتاق المهاوي والجياد الصوافن قال الفراء : رأيت العرب على هذا وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة ولالمشهور في الصفون ما تقدم وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا تكاد تتحق إلا في العرب الخلص الجياد
31
- جمع جواد للذكر والأنثى يقال الفرس صار رائضا يجود جودة بالضم وهو جواد ويجمع أيضا على أجواد وأجاويد وقال بعضهم : هو جمع جود كثوب وأثواب وفسر بالذي يسرع في مشيه وقيل هو الذي يجود بالركض وقيل : وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أي إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها والخيل تمدح بالسكون في الموقف كما تمدح بالسرعة في الجري ومن ذلك قول مسلم بن الوليد : وإذا احتبى قربوسة بعنانه علك الشكيم إلى انصراف الزائر وقيل جيد ككيس ضد الرديء ويجمع على جيادات وجيائد وضعف بأنه لا فائدة في ذكره مع الصافنات حينئذ وبأنه يفوت عليه مدح الخيل باعتبار حاليها وكون الجياد أعم فذكره تعميم بعد تخصيص فيه نظر
وفي البحر قيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد وهو العنق وأنا في شك من ثبوته قال في القاموس : الجيد بالكسر العنق أو مقلده أو مقدمه جمعه أجياد وجيود وبالتحريك طولها أو دقتها مع طول وهو أجيد وهي جيداء وجيدانة جمعه جود أه وراجعت غيره فلم أجد فيه زيادة على ذلك فلينفر ويمكن أن يقال : أن الجياد جمع شاذ لأجيد أو جيداء أو جيدانة أو هو جمع لجيد بالتحريك كجعل وجمال ويراد بجيد أجيد أو نحوه نظير ما يراد بالخلق المخلوق والله تعالى أهلم وأيا ما كان فالواصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل والجمع بألف وتاء ولا يخص المؤنث فلا حاجة بعد القول بأن ما عرض كان مشتملا على ذكور الخيل وإناثها إلى القول بأن في الصافنات تغليب على المذكر وأنه يجوز بقلة وأريد بالجمع هنا الكثرة فعن الكلبي أن هذه الخيل كانت ألف فرس غزا سليمان عليه السلام دمشق ونصيبين فأصابها واستشكلت هذه الرواية بأن الغنائم لم تحل لغير نبينا صلى الله عليه و سلم كما ورد في الحديث الصحيح وأجيب بأنه يحتمل أن تكون فيئا لا غيمة وعن مقاتل أنها
(23/190)
ألف ورثها من أبيه داود وكان عليه السلام قد أصابها من العمالقة وهم بنو عمليق بن عوص بن عاد بن إرم
واستشكلت هذه زيادة على الأولى بان الأنبياء عليهم السلام لا يورثون كما جاء في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه محتجا به في مسئلة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم
وأجيب بأن المراد بالإرث حيازة التصرف لا الملك وعقرها تقربا على ما في الأوجه في الآية بعد وجاء في بعض الروايات لا يقتضي الملك وقال عوف : بلغني أنها كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده وروي كونها كذلك عن الحسن وأخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة وليس في هذا شيء سوى الإستبعاد وإذا لم يلتفت إلى الأخبار في ذلك إذ ليس فيها خبر صحيح مرفوع أو ما في حكمه يعول عليه فيمات أعلم فلنا أن نقول : هي خيل كانت له كالخيل التي تكون عند الملوك وصلت إليه بسبب من أسباب الملك فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وقيل وغفل عن صلاة العصر وحكى هذا الطبرسي عن علي كرم الله تعالى وجهه وقتادة والسدي ثم قال : وفي روايات أصحابنا أنه فاته أول الوقت وقال الجبائي : لم يفته الفرض وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي قاله عليه السلام اعترافا بما صدر عنه من الإشتغال وندما عليه وتمهيدا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى إن ترك خيرا وقوله سبحانه ك وما تنفقوا من خير يعلمه الله وقوله عز و جل : وإنه لحب الخير لشديد وقال بعض العلماء : لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيب كما روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال : ألا أوصي يا أمير المؤمنين قال لا لأن الله تعالى يقول : إن ترك خيرا وليس لك مال كثير وروي تفسيره بالمال هنا عن الضحاك وابن جبير وقال أبو حيان : يراد بالخير الخيل والعرب تسمي الخيل الخير وحكى ذلك عن قتادة والسدي ولعل ذلك لتعلق الخير بها ففي الخبر الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة والأحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلي لكن عدي هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة وحب الخير مفعول آثرت حب الخير منيبا له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثرا له
وجوز كون حب منصوبا على المصدر التشبيهي ويكون مفعول أحببت محذوفا أي أحببت الصافنات أو عرضها حبا مثل حب الخير منيبا لذلك عن ذكر ربي وليس المراد بالخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله
ضرب بعير السوء إذ أحبا
واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عز و جل منزه عن ذلك مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضا بالتضمين وجعل بعضهم الأحباب من أول الأمرلا بمعنى التقاعد والإحتباس وحب الخير مفعولا لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربي لحب الخير وتعقب بأن الذي يدل عليه كلام اللغويين أنه لزوم عن تعقب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة : بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من
(23/191)
الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي أحببت استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الإستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الإستحسان عند ذوي العرفان وجوز حمل أحببت على ظاهره من غير اعتبار تضمينه ما يتعدى بعن وجعل عن متعلقة بمقدر كمعرضا بعيدا وهو لحال من ضمير أحببت وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى و ذكر مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافا إلى فاعله وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى عن ذكر ربي عن صلاة ربي التي شرعها وهو كما ترى
وبعض من جعل عن للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عز و جل وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبي مسلم وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وذأبو عمرو إني أحببت بفتح الياء حتى توارت بالحجاب
32
- متعلق بقوله تعالى : أحببت باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار الغرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيها لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الإستعارة التبعية ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأيا ما كان فما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال : الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه أخضرت السماء وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه ولا يخفى حاله والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا والباء للظرفية أو الإستعارة أو الملابسة وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها والضمير المنصوب في قوله تعالى : ردوها علي للصافنات على ما قال غير واحد
وظاهر كلامهم أنه للصافنات المذكور في الآية ولعلك تختار أنه للخيل الدال عليها المشاهدة أو الخير في قوله : إني أحببت حب الخير لأن ردوها من تتمة مقالته عليه السلام والصافنات غير مذكورة في كلامه بل في كلام الله تعالى لنبينا صلى الله عليه و سلم والكلام على ما قال الزمخشري على إضمار القول أي قال ردوها علي والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا قال سليمان فقيل قال : ردوها وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إلى الإضمار إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول في قوله تعالى : فقال إني الخ والفاء في قوله تعالى : فطفق مسحا فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الإمتثال بالأمر كما في قوله تعالى قلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا أي فردوها عليه فطفق الخ وطفق من أفعال الشروع واسمها ضمير سليمان و مسحا مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبرها أي شرع يمسح مسحا لا حال مؤول بماسحا كما جوزه أبو البقاء إذ لا بد لطفق من الخبر وليس هذا مما يسد الحال فيه مسده وقرأ زيد لن علي مساحا على وزن قتال بالسوق والأعناق
33
- أي بسوقها وأعناقها على أن التعريف للعهد وإن أل قائمة مقام الضمير المضاف إليه والباء متعلقة بالمسح على معنى شرع يمسح السيف بسوقها وأعناقها وقال : جمع هي زائدة أي شرع يمسح سوقها وأعناقها بالسيف ومسحته بالسيف كما قال الراغب : كناية عن الضرب
وفي الكشاف يمسح السيف بسوقها وأعناقها يقطعها تقول مسح علاوته إذا ضرب عنقه ومسح المسفر
(23/192)
الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه وعن الحسن كسف عراقيبها وضرب أعناقها أراد بالكسف القطع ومنه الكسف في ألقاب الزحاف والعروض ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف وكون المراد القطع قد دل عليه بعض الأخبار
أخرج الطبراني في الأوسط والإسماعيلي في معجمه وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى فطفق مسحا بالسوق والأعناق قطع سوقها وأعناقها بالسيف وقد جعلها عليه السلام بذلك قربانا لله تعالى وكان تقريب الخيل مشروعا في دينه ولعل كسف العراقيب ليتأتى ذبحها بسهولة وقيل : إنه عليه السلام حسبها في سبيل الله تعالى وكان ذلك المسح الصادر منه وسمالها لتعرف أنها خيل محبوسة في سبيل الله تعالى وهو نظير ما يفعل اليوم من الوسم بالنار ولا بأس به في شرعنا مالم يكن في الوجه ولعله عليه السلام رأى الوسم بالسيف أهون من الوسم بالنار فاختاره أو كان هو المعروف في تلك الأعصار بينهم ويروى أنه عليه السلام لما فعل ذلك سخر له الريح كرامة له وقيل : إنه عليه السلام أراد بذلك إتلافها حيث شغلته عن عبادة ربه عز و جل وصار تعلق قلبه بها سببا لغفلته واستدل بذلك الشبلي قدس سره على حل تحريق ثيابه بالنار حين شغلته عن ربه جل جلاله وهذا قول باطل لا ينبغي أن يلتفت إليه وحاشا نبي الله أن يتلف مالا محترما لمجرد أنه شغل به عن عبادة وله سبيل لأن يخرجه عن ملكه مع نفع هو من أجل القرب إليه عز و جل على أن تلك الخيل لم يكن عليه السلام اقتناها واستعرضها بطرا وافتخارا معاذ الله تعالى من ذلك وإنما اقتناها للإنتفاع بها في طاعة الله سبحانه واستعرضها للتطلع على أحوالها ليصلح من شأنها ما يحتاج إلى إصلاح وكل ذلك عيادة فغاية ما يلزم أنه عليه السلام نسي عبادة لشغله بعبادة أخرى فاستدلال الشبلي قدس سره غير صحيح وقد نبه على عدم صحته عبد الوهاب الشعراني من السادة الصوفية في كتابه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر ولكن يحمل الآية على محمل آخر وما ذكرناه في محملها وتفسيرها هو المشهور بين الجمهور لهم فيها كلام غير ذلك فقيل ضمير ردوها للشمس والخطاب للملائكة عليهم السلام الموكلين بها قالوا : طلب ردها لما فاته صلاة العصر لشغله بالخيل فردت له حتى صلى العصر وروي هذا القول عن علي كرم الله تعالى وجهه كما قال الخفاجي والطبرسي وتعقب ذلك الرازي بأن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي دون ردوها بضمير الجمع
فإن قالوا : هو للتعظيم كما في رب ارجعون قلنا : لفظ ردوها مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم وأيضا إن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان مشاهدا لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث ينقله أحد علم فساده
والذي يقول برد الشمس لسليمان يقول هو كردها ليوشع وردها لنبينا صلى الله عليه و سلم في حديث العير ويوم الخندق حين شغل عن صلاة العصر وردها لعلي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه بدعائه عليه الصلاة و السلام فقد روي عن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوحي إليه ورأسه في حجر علي كرم الله تعالى وجهه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صليت يا علي قال : لا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الأرض وذلك بالصهباء في خيبر وهذا الخبر في صحته خلاف فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال إنه موضوع
(23/193)
بلا شك وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب كما قاله الدارقطني وقال ابن حبان : كان يضع الحديث وقال ابن الجوزي : قد روي هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال : وهذا حديث باطل ومن تغفل واضعه أنه إلى صور فضيلة ولم يلمح عدم الفائدة فيها وأن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء ورجوع الشمس لا يعيدها أداء انتهى وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا في الرد على الروافض ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع وقال الإمام أحمد : لا أصل له وصححه الطحاوي والقاضي عياض ورواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب عن أسماء أيضا لكن بلفظ آخر ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة وكان أحمد بن صالح يقول : لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة وكذا اختلف في حديث الرد يوم الخندق فقيل ضعيف وقيل : موضوع وادعى العلامة ابن حجر الهيتمي صحته وما في حديث العير وأظن أنهم اختلفوا في صحته أيضا ليس صريحا في الرد فإن لفظ الخبر أنه أسري بالنبي صلى الله عليه و سلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير قالوا : متى يجيء قال : يوم الأربعاء فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولي النهار ولم يجيء فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس والحبس غير الرد ولو كان هناك رد لأدركه قريش ولقالوا فيه ما قالوا في انشقاق القمر ولم ينقل وقيل : كأن ذلك كان بركة في الزمان نحو ما يذكره الصوفية مما يعبرون عنه بنشر الزمان وإن لم يتعلقه الكثير وكذا ما كان ليوشع عليه السلام فقد جاء في الحديث الصحيح لم تحبس الشمس على أحد إلا ليوشع ابن نون والقصة مشهورة وهذا الحديث الصحيح عند الكل يعارض جميع ما تقدم وتأويله بأن المراد لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري إلا ليوشع أو التزام أن المتكلم غير داخل في عموم كلامه بعد تسليم قبوله لا ينفي معارضته خبر الرد لسليمان عليه السلام فإنه بظاهره يستدعي نفي الرد الذي هو أعظم من الحبس له عليه السلام
وبالجملة القول برد الشمس لسليمان عليه السلام غير مسلم وعدم قولي بذلك ليس لامتناع الرد في نفسه كما يزعمه الفلاسفة بل لعدم ثبوته عندي والذوق السليم بأبي حمل الآية على ذلك لنحو ما قال الرازي ولغيره من تعقيب طلب الرد بقوله تعالى فطفق الخ ثم ما قدمنا نقله من وقوع الصلاة بعد الرد قضاء هو ما ذهب إليه البعض
وفي تحفة العلامة ابن حجر الهيتي لو عادت الشمس بعد الغروب عاد الوقت كما ذكره ابن العماد وقضية كلام الزركشي خلافه وأنه لو تأخر غروبها عن وقته المعتاد قدر غروبها عنده وخرج الوقت وإن كانت موجودة انتهى كلام الزركشي وما ذكره آخرا بعيد وكذا أولا فالأوجه كلام ابن العماد ولا يضر كون عودها معجزة له صلى الله عليه و سلم لأن المعجزة نفس العود وأما بقاء الوقت بعودها فحكم الشرع ومن ثم لما عادت صلى علي كرم الله تعالى وجهه العصر أداء بل عودها لم يكن إلا لذلك انتهى
ولا يحضرني الآن ما لأصحابنا الحنفية في ذلك بيد أني رأيت في حواشي تفسير البيضاوي لشهاب الدين الخفاجي وهو من أجلة الأصحاب ادعاء أن الظاهر أن الصلاة بعد الرد أداء ثم قال : وقد بحث الفقهاء فيه بحثا طويلا ليس هذا محله وقيل ضمير توارت للخيل كضمير ردوها واختاره جمع فقيل الحجاب اصطبلاتها أي حتى دخلت اصطبلاتها وقيل حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر وبعض من قال بإرجاع الضمير للخيل جعل عن للتعليل ولم يجعل المسح بالسوق والأعناق بالمعنى السابق فقالت طائفة : عرض علي سليمان
(23/194)
الخيل وهو في الصلاة فأشار إليهم إني في صلاة فأزالوها عنه حتى دخلت في الأصطبلات فقال لما فرغ من صلاته : إني أحببت حب الخير أي الذي لي عند الله تعالى في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى دخلت اصطبلاتها ردوها علي فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها وتكريما وروي أن المسح كان لذلك عن ابن عباس والزهري وابن كسيان ورجحه الطبري وقيل كان غسلا بالماء ولا يخفى أن تطبيق هذه الطائفة الآية على ما يقولون ركيك جدا
وقال الرازي : قال الكثرون إنه عليه السلام فاته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى الخيل فاستردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى وعندي أنه بعيد ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى وامسحوا برؤسكم اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه ذلك البتة الثاني أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعا من الأفعال المذمومة فأولها ترك الصلاة وثانيها أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة وقد قال عليه الصلاة و السلام حب الدنيا رأس كل خطيئة وثالثها أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة ورابعها على القول برجوع ضمير ردوها إلى الشمس أنه خاطب رب العالمين بكلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس وخامسها أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل سوقها وأعناقها وقد ورد النهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله فهذه من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لا يدل على شيء منها وسادسها أن ذكر هذه القصة وكذا التي قبلها أمره بالصبر على سفاهة الكفار يقتضي أن تكون مشتملة على الأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة والصبر على طاعة الله تعالى والإعراض عن الشهوات واللذات وأما اشتمالها على الإقدام على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة فبمراحل عن مقتضى التعقيب فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على القول المذكور بالفساد والصواب أن يقال : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين نبينا صلى الله عليه و سلم ثم أن سليمان احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر إني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد من قوله عن ذكر ربي ثم أنه عليه السلام أمر بأعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور
الأول تشريف لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو والثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه والثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وامراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض فهذا التفسير الذي ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا موافقا ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام ثم قال : وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا ما شاع من الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردانها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ولفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرها الجمهور كما قد ظهر ظهورا لا يرتاب العاقل فيه وبفرض الدلالة يقال إن الدلائل الكثيرة
(23/195)
قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولم يدل دليل على صحة تلك الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم انتهى كلامه
وكان عليه الرحمة قد اعترض القول برجوع ضمير توارت إلى الشمس دون الصافنات بأن الصافنات مذكورة بصريحها والشمس ليست كذلك وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر وأيضا أنه قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب وظاهره يدل على أنه كان يعيد ويكرر قوله إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي إلى أن توارت بالحجاب فإذا كانت المتوارية الشمس يلزم القول بأنه كرر ذلك من العصر إلى المغرب وهو بعيد وغذا كانت الصافنات كان المعنى أنه حين وقع بصره عليها حال عرضها كان ذلك إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب وأيضا بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه أني أحببت الخ تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله عز و جل وأقول : ما عند الجمهور أولى بالقبول وما ذكره عليهم من الوجوه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه
أما ما قاله من أنه لو كان مسح السوق والأعناق بمعنى القطع لكان امسحوا برؤسكم أمرا بقطعها ففيه أن هذا إنما يتم لو قيل إن المسح كلما ذكر بمعنى القطع ولم يقل ولا يقال وإنما قالوا : إن المسح في الآية بمعنى القطع وقد قال بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم كما جاء في خبر خحسن وقد قدمناه لك عن الطبراني ولإسماعيل وابن مردويه وليس بعد قوله عليه الصلاة و السلام قول لقائل ويكفي مثل ذلك الخبر في مثل هذا المطلب إذ ليس فيه ما يخالف العقل أو نقلا أقوى كما ستعرفه إن شاء الله تعالى
وقد ذكر هذا المعنى للمسح الزمخشري أيضا وهو من أجلة علماء هذا الشأن وصح نقله عن جماعة من السلف وقال الخفاجي : استعمال المسح بمعنى ضرب العنق استعارة وقعت في كلامهم قديما نعم احتياج ذلك للقرينة مما لا شبهة فيه والقرينة عند من يدعيه ههنا السياق وعود ضمير توارت على الشمس وهو كالمتعين كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى
وأما قوله : أنهم جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة ففرية من غير مرية وقوله : أولها ترك الصلاة فيه أن الترك المذموم ما كان عن عمد وهم لا يقولون به وما يقولون به الترك نسيانا وهو ليس بمذموم إذ النسيان لا يدخل تحت التكليف على أم كون ما ترك فرضا لم يجزم به الجميع وقوله : ثانيها أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا إلى حيث ترك الصلاة فيه أن ذلك اشتغال بخيل الجهاد وهو عبادة
وقوله : ثالثها أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة فيه أنا لا نسلم أنه عليه السلام ارتكب ذنبا حقيقة فضلا عن كونه عظيما نعم ربما يقال : إنه عليه السلام لم يستحسن ذلك بمقامه فاتبعه التقرب بالخيل التي شغل بسببها وذلك يدل على التوبة دلالة قوية ولم يكن ليتعطل أمر الجهاد به فقد أوتي عليه السلام غير ذلك على أن كون ما ذكر كالإستشهاد على قوله تعالى إنه أواب مشعر بتضمنه الأوبة وإن ذهبنا إلى تعلق إذ عرض بأواب يكاد لا يرد هذا الكلام رأسا
وقوله : رابها أنه خاطب ربه عز و جل بلفظ غير مناسب فيه أنه إن ورد فإنما يرد على القول برجوع ضمير ردوها إلى الشمس ونحن لا نقول به فلا يلزمنا الجواب عنه والذي نقوله : إن الضمير للخيل والخطاب
(23/196)
لخدمته ومع هذا لم يقل تلك الكلمة تهورا وتجبرا كما يتوهم وقوله : خامسها أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل وقد ورد النهي الخ وفيه أنه عليه السلام لم يفعل معصية ليقال اتبع هذه المعاصي وأن الخيل عقرت قربانا وكان تقربها مشروعا في دينه فهو طاعة ومن مجموع ما ذكرنا يعلم ما في قوله سادسها الخ على أنه قد تقدم لك وجه ربط هذه القصص بما قبلها وهو لا يتوقف على التزام ما قاله في هذه القصة وما زعمه من أنه الصواب ففيه إرجاع ضمير توارت إلى الخيل ولا يخفى على ذي ذوق سليم وطبع مستقيم أن تواري الخيل بالحجارة عبارة ركيكة يجل عنها الكتاب المتين وفيه أيضا أنه لا يكاد ينساق إلى الذهن متعلق حتى توارت الذي أشار إليه في تقرير ما زعم صوابيته وتعلقه بقال على ما يشير إليه كلامه المنقول آخرا مما يستبعد جدا فإن الظاهر أن قوله : حتى توارت بالحجاب من المحكي كالذي قبله والذي بعده لا من الحكاية وأيضا كون الرد للمسح الذي ذكره خلاف ما جاء في الخبر الحسن وهو في نفسه بعيد والأغراض التي ذكرها فيه لا يخفى حالها ودعواه أن هذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن مما لا يتم لها دليل ولعل الدليل على عدم الإنطباق ظاهر
وقوله : أنا شديد التعجب من الناس الخ أقول فيه : أنا تعجبني منه أشد من تعجبه من الناس حيث خفي عليه حسن الوجه الذي استحسنه الجمهور ولم يطلع على ما ورد فيه من الأخبار الحسان وظن أن القول به مناف للقول بعصمة الأنبياء عليهم السلام حتى قال ما قال ورشق على الجمهور النبال ونقوله في ترجيح رجوع ضمير توارت إلى الصافنات على رجوعه إلى الشمس أنها مذكورة بصريحها دون الشمس ليس بشيء فإن رجوعه إلى الشمس يجعل الكلام ركيكا فلا ينبغي ارتكابه لمجرد أن فيه رجوع الضمير إلى مذكور صريحا على أن في كونه راجعا إلى الصافنات المذكورة صريحا بحثا ولا يرد على الجمهور لزوم تخالف الضمائر في المرجع وهو تفكيك لأن التخالف مع القرينة لا ضير فيه وأعجب مما ذكر زعمه أنه يلزم على ما قال الجمهور أن سليمان عليه السلام كرر قوله إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي من العصر إلى المغرب فإن الجمهور ما حاموا حول ما يلزم منه ذلك أصلا إذ لم يقل أحد منهم بأن حتى متعلقة بقال كما زعم هو بل هي عندهم متعلقة بأحببت على المعنى الذي أسلفناه ومن أنصف لا يرتضي أيضا القول بأنه عليه السلام كرر ذلك القول إلى أن غابت الخيل عن عينه كما قال به هذا الإمام ويرد على قوله القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه إني أحببت الخ ولأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة أن الجمهور لا يقولون بأن على للتعليل والإباء المذكور على تقدير تسليمه لا يتسنى إلا على ذلك وما يقولونه وقد أسلفناه لك بمراحل عنه
وبالجملة قد اختلت أقوال هذا الإمام في هذا المقام ولم ينصف مع الجمهور وهم أعرف منه بالمأثور نعم ما ذكره في الآية وجه ممكن فيها على بعد إذا قطع النظر عن الإخبار وما جاء عن السلف من الآثار وقد ذكر نحوه عبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر وهو في الحقيقة والله تعالى أعلم من كلام الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره وقد خالف الجمهور كالإمام قال في الباب المائة والعشرين من الفتوحات : ليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا للصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة وأما استرواحهم فيما فسروه بقوله تعالى : ولقد فتنا سليمان فالمراد بتلك الفتنة إنما هو الإختبار بالخيل هل يحبها عن ذكر ربه تعالى لها أو يحبها لعينها فأخبر عليه السلام عن نفسه
(23/197)
أنه أحبها عن ذكر ربه سبحانه إياها لا لحسنها وكمالها وحاجته إليها إلى آخر ما قال وقد كان قدس سره معاصرا للإمام وكتب إليه رسالة يرغبه فيها بسلوك طريقة القوم ولم يجتمعا وغالب الظن أنه لم يأخذ أحدهما من الآخر ما قال في الآية بل لم يسمعه وعلم كل منهما لا ينكر والشيخ بحر لا يدركه قعره وما ذكره في الإسترواح مما لم أقف عليه لأحد من المفسرين والله تعالى أعلم وقرأ ابن كثير بالسؤق بهمزة ساكنة قال أبو علي : وهي ضعيفة لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو أنها عليها كما يفعلون بالواو المضمومة حيث يبدلونها همزة ووجهها من القياس أن أباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وكان ينشد
أحب الوافدين إلى مؤسي
وقال أبو حيان : ليست ضعيفة لأن الساق فيه الهمزة فوزنه فعل بسكون العين فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة وتعقب بأن همز الساق إبدال على غير القياس إذ لا شبهة في كونه أجوف فلا بد من التوجيه بما تقدم وقرا ابن محيصن بالسؤوق بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة بوزن الفسوق ورواها بكار عن قنبل وهو جمع ساق أيضا وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالساق مفردا اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب
34
- أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امراة وجاءت بشق رجل وقد روي ذلك الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا وفيه فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا لكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين وأن الملك قال له : قل إن شاء الله فلم يقل وغايته ترك الأولى فليس بذنب وإن عده هو عليه السلام ذنبا فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة له عليه ليراه
وروي الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه ولد لسليمان ابن فقالت الجن والشياطين : إن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء فأشفق عليه السلام منهم فجعله وظئره في السحاب من حيث لا يعلمون فلم يشعر إلا وقد ألقى على كرسيه ميتا تنبيها على أن الحذر لا ينجي من القدر وعوتب على تركه التوكل اللائق بالخواص من تركل مباشرة الأسباب وروي ذلك عن الشعبي أيضا ورواه بعضهم عن أبي هريرة على وجه لا يشك في وضعه إلا من يشك في عصمة الأنبياء عليهم السلام وأنا في صحة هذا الخبر لست على يقين بل ظاهر الآية أن تسخير الريح بعد الفتنة وهو ظاهر في عدم صحة الخبر لأن الوضع في السحاب يقتضي ذلك
وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم وكان ملكه في خاتمه وكان إذا دخل الحمام وضع خاتمه تحت فراشه فجاء الشيطان فأخذه فأقبل الناس على الشيطان فقال سليمان : يا أيها الناس أنا سليمان نبي الله تعالى فدفعوه فساح أربعين يوما فأتى أهل سفينة فاعطوه حوتا فشقها فإذا هو بالخاتم فيها فتختم به ثم جاء فأخذ بناصياته فقال عدن ذلك : رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم قال ابن حجر والسيوطي بسند قوي عن ابن عباس أراد سليمان عليه السلام أن يدخل الخلاء فأعطى لجرادة خاتمه وكانت امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان
(23/198)
في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فاعطته فلما لبسه دانت الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان قال لها : هاتي خاتمي قالت : قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا فيقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله تعالى وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تعالى أن يرد عليه سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا : أتنكرن من سليمان شيئا قلن : نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فأمر الشياطين فكتبوا كتبا فيها سحر ومكر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرؤها على الناس وقالوا : بهذا كان يظهر سليمان على ويغلبهم فأكفر الناس سليمان وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان عليه السلام يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة فدعا سليمان فحمل معه السمك إلى باب داره فأعطاه تلك السمكة فشق بطنها فإذا الخاتم فيه فأخذه فلبسه فدانت له الإنس والجن والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان إلى جزيرة في البحر فأرسل في طلبه وكان مريدا فلم يقدروا عليه حتى وجدوه نائما فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فأوثقوه وجاؤا به إلى سليمان فأمر فنقر له صندوق من رخام فأدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر وذكر في سبب ذلك أنه عليه السلام كان قد غزا صيدون في الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته وهي جرادة المذكورة فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها فامر الشياطين فمثلوا لها صورته وكان ذلك جائزا في شريعته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة فعوتب بذلك حيث تغافل عن حال أهله واختلف في اسم ذلك الشيطان فعن السدي أنه حبقيق وعن الأكثرين أنه صخر وهو المشهور وإنما قال سبحانه : جسدا لأنه إنما تمثل بصورىة غيره وهو سليمان عليه السلام وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان فلذا سميت جسدا وعبارة القاموس صريحة في أن الجسد يطلق على الجني
وقال أبو حيان وغيره : إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخبر إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها وكذا لا تسلم دعوى قوة سنده إليه وإن قال بها من سمعت
وجاء عن ابن عباس برواية عبد الرزاق وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعبا يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها على أن أشعار ما يأتي بان تسخير الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام ويستبعد جدا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك الخاتم وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لذكره الله عز و جل في كتابه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
وقال قوم : مرض سليمان عليه السلام مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه جسد بلا روح وقد شاع
(23/199)
قولهم في الضعيف : لحم على وضم وجسد بلا روح فالجسد الملقى على الكرسي هو عليه السلام نفسه
وروي ذلك عن أبي مسلم وقال في قوله تعالى : ثم أناب أي رجع إلى الصحة وجعل جسدا حالا من مفعول ألقينا المحذوف كأنه قيل ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وأمرضناه وألقيناه على كرسيه ضعيفا كأنه جسد بلا روح ثم رجع إلى صحته ولا يخفى سقمه والحق ما ذكر أولا في الحديث المرفوع وعطف أناب بثم وكان الظاهر الفاء كما في قوله تعالى واستغفر ربه قيل إشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها فإن الممتد يعطف بها نظرا لأواخره بخلاف الإستغفار فإنه ينبغي المسارعة إليه ولا امتداد في وقته وقيل : إن العطف بثم هنا لما أنه عليه السلام لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه وهذا بخلاف ما كان في قصة داود عليه السلام فإن العطف هناك على ظن الفتنة واللائق به أن لا يؤخر الإستغفار عنه وقيل : العطف بها هنا لما إن بين زمان الإنابة وأول زمان ما وقع منه عليه السلام من ترك الإستثناء مدة طويلة وهي مدة الحمل وليس بين زمان استغفار داود عليه السلام واول زمان ما وقع منه كذلك
قال بدل من أناب وتفسير له على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر ويمكن أن يكون استئنافا بيانيا نشأ من حكاية ما تقدم كأنه قيل فهل كان له حال لا يضر معه مسح الخيل سوقها وأعناقها وهل كان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فأجيب بما أجيب وحاصله نعم كان له حال لا يضر معه المسخ وكان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فقد دعا بملك عظيم فوهب له ويمكن أن يقرر الإستئناف على وجه آخر وكذا يمكن أن يكون استئنافا نحويا لحكاية شيء من أحواله عليه السلام فتأمل رب اغفر لي مالم أستحسن صدوره عني
وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصح لأحد غيري لعظمته فبعد هنا نظير ما في قوله تعالى : فمن يهديه من بعد الله أي غير الله تعالى وهو أعم من أن يكون الغير في عصره والمراد وصف الملك بالعظمة على سبيل الكناية كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان في الناس أمثاله تريد أن له من ذلك شيئا عظيما لا أن لا يعطى أحد مثله ليكون منافسة وما أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن عفريتا جعل يتلفت علي البارحة ليقطع علي صلاتي وإن الله تعالى أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله تعالى خاسئا لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة و السلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي فسخر له الريح الخ وقيل : إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها ولعله إنما طلب عليه السلام ذلك ليكون علامة على قبول سؤاله المغفرة وجبر قلب عما فاته بترك الإستثناء أو ليتوصل به إلى تكثير طاعته لله عز و جل ونعمة الدنيا الصالحة للعبد الصالح فلا إشكال في طلب الملك في هذا المقام إذ قلنا بما يقتضيه ظاهر النظم الجليل من صدور الطلبين معا
وقال الزخشري : كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما فأراد أن يطلب من ربه عز و جل معجزة فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون
(23/200)
ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم ولن تكن معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى لا ينبغي لأحد من بعدي فقوله من بعدي بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الألف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في عصره ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوابه ولما اشتهر الطب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه و سلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله واعترض بأن اللائق بطلب المعجزة أن يكون في ابتداء النبوة وظاهر النظم الجليل أن هذا الطلب كان بعد الفتنة والإنابة كيف لا وقوله تعالى قال الخ بدل من أناب وتفسير له والفتنة لم تكن في الإبتداء كما يشعر به النظم وأجيب بأنا لا نسلم أن اللائق بطلب المعجزة كونها في ابتداء النبوة وإن سلم فليس في الآية ما ينافي وقوعه وكذا وقوع الفتنة في ابتلائها لا سيما إن قلنا : إن قوله تعالى قال رب اغفر لي الخ تفسيرا لأناب وأجيب على القول بأن الفتنة كانت سلب الملك بأن رجوعه بعد كالإبتداء
وذكر بعض الذاهبين إلى ذلك أنه عليه السلام أقام في ملكه قبل هذه الفتنة عشرين سنة وأقام بعدها عشرين سنة أيضا وقالوا في هذه الآية : إن مصب الدعاء الوصف فمعنى الآية هب لي ملكا لا ينبغي لأحد غيري ممن هو في عصري بأن يسلبه مني كهذه السلبة
وروي هذا المعنى عن عطاء بن أبي رباح وقتادة وحاصله ادعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته ويفهم مما في سياق التفريع إجابة سؤاله عليه السلام وأن ما وهب له لا يسلب عنه بعد وجوز أن يكون هذا دعاء بعدم السلب وإن لم يتقدم سلب ودوام نعمة الله عز و جل مما يحسن الدعاء به والآثار ملأى من ذلك فهذا الوجه لا يتعين بناؤه على تفسير الفتنة بسلب الملك على ما حكى سابقا
وقال الجبائي : إنه عليه السلام طلب ملكا لا يكون لغيره أبدا ولم يطلب ذلك إلا بعد افذن فإن الأنبياء عليهم السلام لا يطلبون إلا ما يؤذن لهم في طلبه وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه سأل ذلك كان أصلح له في الدين وأعلمه أن لا صلاح لغيره فيه وهو نظير قول القائل : اللهم اجعلني أكثر أهل زماني مالا إذا علمت أن ذلك أصلح لي فإنه حسن لا ينسب قائله إلى شح أه قيل ويجوز أن يكون معنى الآية عليه هب لي ملكا ينبغي لي حكمة ولا ينبغي لأحد غيري وأراد بذلك طلب أن يكون عليه السلام متاهلا لنعم الله عز و جل وهو كما ترى وقيل غير ذلك ومن أعجب ما رأيت ما قاله السيد المرتضي : إنه يجوز أن يكون إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة ويكون معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي لا يستحقه بعد وصوله إليه من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به ذلك لانقطاع التكليق ولا يخفى أنه مما لا يرتضيه الذوق والتفريع الآتي آب عنه كل الأباء واستدل بعضهم بالآية على بعض الأقوال المذكورة فيها على تكفير من ادعى استخدام الجن وطاعتهم له وأيد ذلك بالحديث السابق والحق أن استخدام الجن الثابت لسليمان عليه السلام لم يكن بواسطة أسماء ورياضات بل هو تسخير إلهي من غير واسطة شيء وكان أيضا على وجه أتم وهو مع
(23/201)
ذلك بعض الملك الذي استوهبه فالمختص على تقدير إفادة الآية الإختصاص مجموع ما تضمنه قوله تعالى : فسخرنا الخ فالظاهر عدم إكتفاء من يدعي استخدام شيء من الجن ونحن قد شاهدنا مرارا من يدعي ذلك وشاهدنا آثار صدق دعواه على وجه لا ينكره الأسوفسطائي أو مكابر
ومن الإتفاقيات الغريبة أني اجتمعت يوم تفسيري لهذه الآية برجل موصلي يدعي ذلك وامتحنته بما يصدق دعواه في محفل عظيم ففعل وأتى بالعجب العجاب وكانت الأدلة على نفي احتمال الشعبذة ونحوها ظاهرة لذوي الألباب إلا أن لي إشكالا في هذا المقام وهو أن الخادم الجني قد يحضر الشيء الكثيف من نحو صندوق مقفل بين جمع في حجرة أغلقت أبوابها وسدت منافذها ولم يشعر به أحد ووجه الإشكال أن الجني لطيف فكيف ستر الكثيف فلم ير في الطريق وكيف أخرجه من الصندوق وأدخله الحجرة وقد سددت المنافذ وتلطف الكثيف ثم تكثفه بعد مما لا يليقه إلا كثيف أو سخيف ومثل ذلك كون اللإحضار المذكور على نحو إحضار عرش بلقيس بالإعدام والإيجاد كما يقوله الشيخ الأكبر أو بوجه آخر كما يقول غيره ولعل الشرع أيضا يأبى هذا وسرعة المرور أن نفعت ففي عدم الرؤية في الطريق وقصارى ما يقال لعل للجني سحرا أو نحوه سلب به الإحساس فتصرف بالصندوق ومنافذ الحجرة حسبما أراد وأتى بالكثيف يحمله ولم يشعر به واحد من الناس فإن تم هذا فبها وإلا فالأمر مشكل وظاهر جعل جملة قال رب اغفر لي تفسيرا للإنابة يقتضي أن الإستغفار مقصود لذاته لا وسيلة للإستيهاب وفي كون الإستيهاب مقصودا لذاته أيضا احتمالان
وتقديم الإستغفار على تقدير كونهما مقصودين بالذات لمزيد اهتمامه بأمر الدين وقد يجعل مع هذا وسيلة للإستيهاب المقصود أيضا فإن افتتاح الدعاء بنحو ذلك أرجى للإجابة وجوز على بعد بعد التزام الإستئناف في الجملة كون الإستيهاب هو المقصود لذاته والإستغفار وسيلة له وسيجيء إن شاء الله تعالى ما قيل في الإستئناس له
وقريء من بعدي بفتح الياء وحكى القراءة في لي وقوله تعالى : إنك أنت الوهاب
35
- تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا للدعاء بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من أحكام وصف الوهابية قطعا ومن جوز كون الإستيهاب هو المقصود استأنس له بهذا التعليل ظنا منه أنه للدعاء بالأخيرة فقط وكذا بعدم التعرض لإجابة الدعاء بالأولى فإن الظاهر أن قوله تعالى : فسخرنا له الريح إلى آخره تفريع على طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ولو كان الإستغفار مقصودا أيضا لقيل فغفرنا له وسخرنا له الريح الخ وأجيب بأنه يجوز أن يقال : إن المغفرة لمن استغفر لا سيما الأنبياء عليهم السلام لما كانت أمرا معلوما بخلاف هبة ملك لمن استوهب لم يصرح بها واكتفلا بدلالة ما ذكر في حيز الفاء مع ما في الآية بعد على ذلك وتقوى هذه الدلالة على تقدير أن يكون طلب الملك علامة على قبول استغفاره وإجابة دعائه فتأمل والتسخير التذليل أي فذللناها لطاعاه إجابة لدعوته وقيل أدمنا تذيليلها كما كان وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر الرياح بالجمع قيل : وهو أوفق لما شاع من أن الريح تستعمل في الشر والرياح في الخير وقد علمت أن ذلك ليس بمطرد وقوله تعالى تجري بأمره بيان لتسخيرها له عليه السلام أو حال أي جارية بامره رخاء أي لينة من الرخاوة لا تحرك لشدتها واشتشكل هذا بأنه ينافي قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة لوصفها ثمت بالشدة وهنا باللين
وأجيب بأنها كانت في أصل الخلقة شديدة لكنها صارت لسليمان لينة سهلة أو أنها تشتد عند الحمل وتلين
(23/202)
عند السير فوصفت باعتبار حالين أو أنها شديدة في نفسها فإذا أراد سليمان عليه السلام لينها لانت على ما يشير إليه قوله تعالى : بأمره أو أنها تلين وتعصف باقتضاء الحال وقال ابن عباس والحسن والضحاك : رخاء مطيعة إرادته كالمأمور المنقاد فالمراد بلينها انقيادها له وهو لا ينافي عصفها واللين يكون بمعنى الإطاعة وكذا الصلابة تكون بمعنى العصيان حيث أصاب
36
- أي قصد وأراد كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وحكى الزجاج عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال : أين تصيبان فقالا : هذه طلبتنا ورجعنا ويقال أصاب الله تعالى بك خيرا وأنشد الثعلبي : أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المعضل وعن قتادة أن أصاب بمعنى أراد لغة هجر وقيل لغة حمير وجوز أن يكون أصاب من صاب يصوب بمعنى نزل والهمزة للتعدية أي حيث أنزل جنوده وحيث متعلقة بسخرنا أو بتجري والشياطين عطف على الريح كل بنا غواص
37
- بدل من الشياطين وهو بدل كل من كل إن أريد المعهودون المسخرون أو أريد من له قوة البناء والغوص والتمكن منهما أو بدل بعض إن لم يرد ذلك فيقدر ضمير أي منهم والغوص لاستخراج الحلية وهو عليه السلام على ما قيل أول من استخراج الدر وآخرين مقرنين في الأصفاد
38
- عطف على كل لا على الشياطين لأنهم منهم إلا أن يراد العهد ولا على ما أضيف إليه كل لأنه لا يحسن فيه إلا الإضافة إلى مفرد منكر أو جمع معرف والأصفاد جمع صفد وهو القيد في المشهور وقيل الجامعة أعني الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق قيل وهو الأنسب بمقرنين لأن التقرين بها غالبا ويسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي كرم الله تعالى وجهه : من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك وقول القائل : غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها وقال أبو تمام : هممي معلقة عليك رقابها مغلولة إن العطاء إسار وتبعه المتنبي في قوله : وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا وفرقوا بين فعليهما فقالوا : صفده قيده واصفده أعطاه عكس وعده وأوعده ولهم في ذلك كلام طويل قال فيه الخفاجي ما قال ثم قال : والتحقيق عندي أن ههنا مادتين في كل منهما ضار ونافع وقليل اللفظ وكثيره وقد ورد في إحداهما الضار بلفظ قليل مقدم والنافع بلفظ كثير مؤخر وفي الأخرى عكسه ووجهه في الأول أنه أمر واقع وضع للقيد ثم أطلق على العطاء لأنه يقيد صاحبه وعبر بالأقل في القيد لضيقه المناسب لقلة حروفه وبالأكثر في العطاء لأنه من شأن الكرم وقدم الأول لأنه أصل أخف وعكس ذلك في وعد وأوعد فعبر في النافع بالأقل وقدم وأخر الضار وكثر حروفه لأنه مستقبل غير واقع والخير الموعود به يحمد سرعة انجازه وقلة مدة وقوعه فإن أهنا البر عاجله وهذا يناسب قلة حروفه وفي الوعيد يحمد تأخيره لحسن الخلف والعفو عنه فناسب كثرة حروفه ثم قال : وهذا تحقيق في غاية الحسن وما عداه وهم فارغ فاعرفه والمراد بهؤلاء المقرنين المردة فتفيد الآية تفصيل الشياطين إلى عملة استعملهم عليه السلام في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص
(23/203)
ومردة قرن بعضهم بالجوامع ليكفروا عن الشر وظاهره أن هناك تقييدا حقيقة وهو مشكل لأن الشياطين إما أجسام نارية لطيفة قابلة للتشكل وإما أرواح خبيثة مجردة وأيا ما كان لا يمكن تقييدها ولا إمساك القيد لها وأجيب باختيار الأول وهو الصحيح
والأصفاد غير ما هو المعروف بل هي أصفاد يتأتى بها تقييد اللطيف على وجه يمنعه عن التصرف والأمر من أوله خارق للعادة وقيل : إن لطافة أجسامهم بمعنى شفافتها والشفاعة لا تأبى الصلابة كما في الزجاج والفلك عند الفلاسفة فيمكن أن تكون أجسامهم شفافة وصلبة فلا ترى لشفافتها ويتأتى تقييدها لصلابتها وأنكر بعضهم الصلابة لتحقق نفوذ الشياطين فيما لا يمكن نفوذ الصلب فيه وأنهم لا يدركون باللمس والصلب يدرك به
وقيل : لا مانع من أنه عليه السلام يقيدهم بشكل صلب فيقيدهم حينئذ بالأصفاد والشيطان إذا ظهر متشكلا بشكل قد يتقيد به ولا يمكنه التشكل بغيره ولا العود إلى ما كان وقد نص الشيخ الأكبر محي الدين قدس سره أن نظر الإنسان يقيد الشيطان بالشكل الذي يراه فيه فمتى رأى الإنسان شيطانا بشكل ولم يصرف نظره عنه بالكلية لم يستطع الشيطان الخفاء عنه ولا التشكل بشكل آخر إلى أن يجد فرصة النظر عنه ولو برمشة عين
وزعم الجبائي أن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان عليه السلام ويشاهده الناس ثم لما توفي عليه السلام أمات الله عز و جل ذلك الجن وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة وهذا لا يقبل أصلا إلا برواية صحيحة وأنى هي وقيل : الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالأقران في الصفد وليس هناك قيد ولا تقييد حقيقة هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب
39
- إما حكاية لما خوطب به سليمان عليه السلام مبينة لعظم شأن ما أوتي من الملك وأنه مفوض إليه تفويضا كليا وإما مقول لقول مقدر هو معطوف على سخرنا أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين له هذا الخ والإشارة إلى ما أعطاه مما تقدم أي هذا الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة والتسليط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا الخاص بك فاعط من شئت وامنع من شئت غير محاسب على شيء من الأمرين ولا مسئول عنه في الآخرة لتفويض التصرف إليك على الإطلاق فبغير حساب حال من المستكن في الأمر والفاء جزائية و هذا عطاؤنا مبتدأ وخبر والأخبار مغيد لما أشرنا إليه من اعتبار الخصوص أي عطاؤنا الخاص بك أو يقال : إن ذكره ليس للإخبار به بل ليترتب عليه ما بعده كقوله : هذه دارهم وأنت مشوق ما بقاء الدموع في الآماق وجوز أن يكون بغير حساب حالا من العطاء نحو هذا بعلي شيخا أي هذا عطاؤنا متلبسا بغير حساب عليه في الآخرة أو هذا عطاؤنا كثيرا جدا لا يعد ولا يحسب لغاية كثرته وأن يكون صلة العطاء واعتبر بعضهم قيدا له لتتم ولا يحتاج لاعتبار ما تقدم وعلى التقديرين ما في البين اعتراض فلا يضر الفصل به والفاء اعتراضية وجاء اقتران الإعتراض بها كما جاء بالواو كقوله : واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا وقيل : الإشارة إلى تسخير الشياطين والمراد بالمن والإمسام إطلاقهم وإبقاؤهم في الأصفاد والمن قد يكون بمعنى الإطلاق كما في قوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء والأولى في قوله تعالى بغير حساب حينئذ كونه حالا
(23/204)
من المستكن في الأمر وهذا القول رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وما روي عنه من أنه إشارة إلى ما وهب له عليه السلام من النساء والقدرة على جماعهن لا يكاد يصح إذ لم يجر لذلك ذكر في الآية وإلى الأول ذهب الجمهور وهو الأظهر وقرأ ابن مسعود هذا فامنن أو امسك عطاؤنا بغير حساب وأن له عندنا لزلفى لقربة وكرامة مع ماله من الملك العظيم فهو إشارة إلى أن ملكه لا يضره ولا ينقصه شيئا من مقامه
وحسن مآب
40
- حسن مرجع في الجنة وهو عطف على زلفى وقرأ الحسن وابن أبي عبلة وحسن بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي له والوقف عندهما على لزلفى هذا وأمر سليمان عليه السلام من أعظم الأمور وكان مع ما آتاه الله تعالى من الملك العظيم يعمل الخوص بيده ويأكل خبز الشعير ويطعم بني إسرائيل الحواري أخرجه أحمد في الزهد عن عطاء وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما رفع سليمان عليه السلام طرفه إلى السماء تخشعا حيث أعطاه الله تعالى ما أعطاه وكان في عصره من ملوك الفرس كيخسرو فقد ذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في تاريخه أنه عليه السلام ورث ملك أبيه في عصره كيخسرو بن سباوش وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره كيخسرو فهرب إلى خراسان فلم يلبث حتى هلك ثم سار سليمان إلى مروثم إلى بلاد الترك فوغل فبها ثم جاوز بلاد الصين ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس فنزلها أياما ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس فلما فرغ سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكره الله تعالى وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما ثم انطوى البساط وضرب له بين عساكر الموتى الفسطاط فسبحان الملك الدائم الذي لا يزول ملكه ولا ينقضي سلطانه
واذكر عبدنا أيوب قال ابن إسحاق : الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء غير أن اسم أبيه أموص وقال ابن جرير : هو أيوب ابن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق عليه السلام وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فعلى هذا كان عليه السلام قبل موسى وقال ابن جرير : كان بعد شعيب وقال ابن أبي خيثمة : كان بعد سليمان وقوله تعالى واذكر الخ عطف على اذكر عبدنا داود وعدم تصدير قصة سليمان عليه السلام بهذا العنوان لكمال الإتصال بينه وبين داود عليهما السلام و أيوب عطف بيان لعبدنا أو بدل منه بدل كل من كل وقوله تعالى إذ نادى ربه بدل اشتمال منه أو من أيوب أني أي بأني
وقرأ عيسى بكسر همزة إني مسني الشيطان وقريء بإسكان ياء مسني وبإسقاطها بنصب بضم النون وسكون الصاد التعب كالنصب بفتحتين وقيل : هو جمع نصب كوثن ووثن وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو عمارة عن حفص والجعفي عن أبي بكر وأبو معاذ عن نافع بضمتين وهي لغة ولا مانع من كون الضمة الثانية عارضة للإتباع وربما يقال : إن في ذلك رمزا إلى ثقل تعبه وشدته وقرأ زيد بن علي والحسن والسدي وابن أبي عبلة ويعقوب والجحدري بفتحتين وهي لغة أيضا كالرشد والرشد وقرأ أبو حيوة ويعقوب في رواية وهبيرة عن حفص بفتح النون وسكون الصاد قال الزمخشري : على أصل المصدر ونص ابن عطية على أن ذلك لغة أيضا قال : بعد ذكر القراآت : وذلك كله بمعنى واحد وهو المشقة وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء
وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم أنصبني الأمر إذا شق علي انتهى
(23/205)
والتنوين للتفخيم وكذا في قوله تعالى وعذاب
41
- وأراد به الألم وهو المراد بالضر في قوله إني مسني الضر
وقيل : النصب والضر في الجسد والعذاب في الأهل والمال وةهذا حكاية لكلامه عليه السلام الذي نادى به ربه عز و جل بعبارته وإلا لقيل إنه مسه الخ بالغيبة وإسناد المس إلى الشيطان قيل على ظاهره وذلك أنه عليه اللعنة سمع ثناء الملائكة عليهم السلام على أيوب عليه السلام فحسده وسأل الله تعالى أن يسلطه على جسده وماله وولده ففعل عز و جل ابتلاء له والقصة مشهورة
وفي بعض الآثار أن الماس له شيطان يقال له مسوط وأنكر الزمخشري ذلك فقال : لا يجوز أن يسلط الله تعالى الشيطان على أنبيائه عليه السلام ليقضي من أتباعهم وتعذيبهم وطرده ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب وجعل إسناد المس إليه هنا مجاز فقال لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله تعالى به من النصب والعذاب نسبه إليه وقد راعى عليه السلام الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله سبحانه في دعائه مع أنه جل وعلا فاعله ولا يقدر عليه إلا هو وهذه الوسوسة قيل وسوسته إليه عليه السلام أن يسأل الله تعالى البلاء ليمتحن ويجرب صبره على ما يصيبه كما قال شرف الدين عمر بن الفارض
وبما شئت في هواك اختبرني فاختياري ما كان فيه رضاكا وسؤاله البلاء دون العافية ذنب بالنسبة لمقامه عليه لا حقيقة والمقصود من ندائه بذلك الإعتراف بالذنب
وقيل إن رجلا استغاثه على ظالم فوسوس إليه الشيطان بترك إغاثته فلم يغثه فمسه الله تعالى بسبب ذلك بما مسه
وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه وسوسة من الشيطان فعاتبه الله تعالى بالبلاء وقيل وسوس إليه فأعجب بكثرة ماله وولده فابتلاه الله تعالى لذلك وكل هذه الأقوال عندي متضمنة ما لا يليق بمنصب الأنبياء عليهم السلام وذهب جمع إلى أن النصب والعذاب ليسا ما كانا له من المرض والألم أو المرض وذهاب الأهل والمال بل أمران عرضا له وهو مريض فاقد الأهل والمال فقيل هما ما كان له من وسوسة الشيطان إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة والإغراء على الجزع كان الشيطان يوسوس إليه بذلك وهو يجاهده في دفع ذلك حتى تعب وتألم على ما هو من البلاء فنادى ربه يسترفه عنه ويستعينه عليه إني مسني الشيطان بنصب وعذاب وقيل كانا من وسوسة الشيطان إلى غيره فقيل : إن الشيطان تعرض لامرأته بصورة طبيب فقالت له : إن ههنا مبتلى فهل لك أن تداويه فقال : نعم بشرط أن يقول : إذا شفيته أنت شفيتني فمالت لذلك وعرضت كلامه لأيوب عليه السلام فعرف أنه الشيطان وكان عليه ذلك أشد مما هو فيه فنادى ربه أني مسني الخ وقيل : إن الشيطان طلب منها أن تذبح لغير الله تعالى إذا عالجه وبرأ فمالت لذلك فعظم عليه عليه السلام الأمر فنادى وقيل : إنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل له : ألقى إليه الشيطان أن الله تعالى لا يبتلي الأنبياء والصالحين فتألم من ذلك جدا فقال ما قال وفي رواية مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض : ما أصابه هذا إلا بذنب أصابه وهذا نوع من وسوسة الشيطان فعظم عليه ذلك فقال ما قال والإسناد على جميع ما ذكر باعتبار الوسوسة وقيل : غير ذلك والله تعالى أعلم وقوله سبحانه : اركض برجلك إما حكاية لما قيل له أو مقول لقول مقدر معطوف على نادى أي فقلنا له اركض برجلك
(23/206)
أي اضرب بها وكذا قوله تعالى : هذا مغتسل بارد وشراب
42
- فإنه أيضا إما حكاية لما قيل له بعد امتثاله بالأمر ونبوع الماء أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل : فضربها فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل تغتسل به وتشرب منه فيبرأ ظاهرك وباطنك فالمغتسل اسم مفعول على الحذف والإيصال وكذا الشراب وعن مقاتل أن المغتسل اسم مكان أي هذا مكان تغتسل فيه وليس بشيء وظاهر الآية اتحاد المخبر عنه بمغتسل وشراب وقيل : إنه عليه السلام ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها وبرجله اليسرى فنبعت باردة فشرب منها وقال الحسن : ركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا ثم ركض برجله فنبعت أخرى فشرب منها ولعله عني بالأولى عينا حارة وظاهر النظم عدم التعدد
و بارد على ذلك صفة شراب مع أنه مقدم عليه صفة مغتسل وكون هذا إشارة إلى جنس النابع أو يقدر وهذا بارد الخ تكلف لا يخرج ذلك عن الضعف وقيل أمر الركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء بجسده
وكان ذلك على ما روي عن قتادة والحسن ومقاتل بأرض الجابية من الشام وفي الكلام حذف أيضا أي فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله بإحيائهم بعد هلاكهم على ما روي عن الحسن
وروي الطبرسي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أحيا له أهله الذين كانوا ماتوا قبل البلية وأهله الذين ماتوا وهو في البلية وفي البحر الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات منأهله وعافى المرضى وجمع عليه من تشتت منهم وقيل وإليه أميل وهبه من كان حيا منهم وعافاه من الإسقام وأرغد لهم العيش فتناسوا حتى بلغ عددهم عدد من مضى ومثلهم معهم فكان له ضعف ما كان والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا وزعم بعض أن هذا وعد وتكون تلك الهبة في الآخرة رحمة منا أي لرحمة عظيمة عليه من قبلنا
وذكرى لأولي الألباب
43
- وتذكيرا لهم بذلك ليصبروا على الشدائد كما صبر ويلجؤا إلى الله تعالى فيما يصيبهم كما لجأ ليفعل سبحانه بهم ما فعل به من حسن العاقبة روي عن قتادة أنه عليه السلام ابتلى سبع سنين وأشهرا وألقي على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده فصبر ففرج الله تعالى عنه وأعظم له الأجر وأحسن وعن ابن عباس أنه صار ما بين قدميه إلى قرنه قرحة واحدة وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه فكانت امرأته تسعى إليه فقالت له يوما : أما ترى يا أيوب قد نزل بي والله من الجهد والفاقة ما أن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله تعالى أن يشفيك ويريحك فقال : ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عاما فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل عليه السلام فأخذ بيده ثم قال : قم فقام عن مكانه وقال اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فاغتسل وشرب فبرأ وألبسه الله تعالى حلة من الجنة فتنحى فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت : يا عبد الله ابن المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله تعالى علي جسدي ورد الله تعالى عليه ماله وولده ومثلهم معهم وأمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ الجراد بيده ويجعله في ثوبه وينشر كسائه فيجعل فيه فأوحى الله تعالى إليه يا أيوب أما شبعت قال : يا رب من الذي يشبع من فضلك ورحمتك وفي البحر روي أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى
(23/207)
مله العالم ولم يصبر عليه إلا امرأته وعظم بلائه عليه السلام مما شاع وذاع ولم يختلف فيه اثنان لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة ونحو ذلك فيه خلاف قال الطبرسي : قال أهل التحقيق أنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها لأن في ذلك تنفيرا فأما الفقر والمرض وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله تعالى بذلك
وفي هداية المريد للفاني أنه يجوز على الأنبياء عليهم السلام كل عرض بشري ليس محرما ولا مكروها ولا مباحا مزريا ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس ولا مما يؤدي إلى النفرة ثم قال بعد ورقتين واحترزنا بقولنا ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس عما كان كذلك كالاقعاد والبرص والجذام والعمى والجنون وأما الإغماء فقال النووي لا شك في جوازه عليهم لأنه مرض بخلاف الجنون فإنه نقص وقيد أبو حامد الإغماء بغير الطويل وجزم به البلقيني قال السبكي : وليس كإغماء غيرهم لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم لأنها معصومة من النوم الأخف قال : ويمتنع عليهم الجنون وإن قل لأنه نقص ويلحق به العمى ولم يعم نبي قط وما ذكر عن شعيب من كونه كان ضريرا لم يثبت وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت اه
وفرق بعضهم في عروض ذلك بين أن يكون بعد التبليغ وحصول الغرض من النبوة فيجوز وبين أن يكون قبل فلا يجوز ولعلك تختار القول بحفظهم مما تعافه النفوس ويؤدي إلى الإستقذار والنفر مطلقا وحينئذ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب عليه السلام لم يصل إلى حد الإستقذار والنفرة كما يشعر به ما روي عن قتادة ونقله القصاص في كتبهم وذكر بعضهم لأأن داءه كان الجدري ولا أعتقد صحة ذلك والله تعالى أعلم
وقوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا عطف على اركض أو على وهبنا بتقدير قلنا خذ بيدك الخ والأول أقرب لفظا وهذا أنسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة واعتدال الوقت فإن امرأته رحمة بنت إفرائيم أو مشيا بن يوسف أوليا بنت يعقوب أو ما خير بنت ميشا بن يوسف على اختلاف الروايات
ولا يخفى لطف رحمة منا على الرواية الأولى ذهبت لحاجة فأبطأت أو بلغت أيوب عن الشيطان أن يقول كلمة فيبرأ وأشارت عليه بذلك فقالت له إلى متى هذا البلاء كلمة واحدة ثم استغفر ربك فيغفر لك أو جاءته بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز فظن أنها ارتكبت في ذلك محرما فحلف ليضربنها إن بريء مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان وقيل : القبضة الكبيرة من القضبان ومنه ضغث على إبالة والإبالة الحزمة من الحطب والضغث القبضة من الحطب أيضا عليها ومنه قول الشاعر : وأسفل مني نهدة قد ربطتها وألقيت ضغثا من خلى متطيب وقال ابن عباس هنا : الضغث عثكال النخل وقال مجاهد : الإثل وهو نبت له شوك وقال الضحاك : حزمة من الحشيش مختلفة وقال الأخفش : الشجر الرطب وعن سعيد بن المسيب أنه عليه السلام لما أمر أخذ ضغثا من ثمام فيه مائة عود وقال قتادة هو عود فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فإن كان هذا معتبرا في مفهوم الضغث ولا أظن فذاك وإلا فالكلام على إرادة المائة فكأنه قيل : خذ بيدك ضغثا فيه مائة عود فاضرب به أي بذلك الضغث ولا تحنث بيمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله تعالى ذلك رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وهي رخصة باقية في الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا لكن غير
(23/208)
الحدود يعلم منها بالطريق الأولى فقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها : ممن حملك قالت : من فلان المقعد فسئل المقعد فقال : صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان أن رجلا أصاب فاحشة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو مريض على شفا موت فأخبر أهله بما صنع فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقنوفيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي عليه الصلاة و السلام أتى بشيخ قد ظهرت عروقه قد زنى بامراة فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ولا دلالة في هذه الأخبار على عموم الحكم من يطيق الجلد المتعارف لكن القائل ببقاء حكم الآية قائل بالعموم لكن شرطوا في ذلك أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب
وقال الخفاجي : إنهم شرطوا فيه الإيلام أما مع عدمه بالكلية فلا ضرب بسوط واحد له شعبتان خمسين مرة من حلف على ضربه مائة بر إذا تألم فإن لم يتألم لا يبر ولو ضربه مائة لأن الضرب وضع لفعل مؤلم بالبدن بآلة التأديب وقيل : يحنث بكل حال كما فصل في شروح الهداية وغيرها انتهى
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء عليهم السلام وفي أحكام القرآن العظيم للجلال السيوطي عن مجاهد قال : كانت هذه لأيوب خاصة وقال الكيا : ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر إلى أن من فعل ذلك فقد بر في يمينه وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب عليه السلام وقال بعضهم : إن الحكم كان عاما ثم نسخ والصحيح بقاء الحكم واستدل بالآية على أن للزوج ضرب زوجته وأن يحلف ولا يستثنى وعلى أن الإستثناء شرطه الإتصال إذ لو لم يشترط لأمره سبحانه وتعالى بالإستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث
واستدل عطاء بها على مسئلة أخرى فأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عنه أن رجلا قال له : إني حلفت أن لا أكسو امرأتي درعا حتى تقف بعرفة فقال : احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة فقال : إنما عنيت يوم عرفة فقال عطاء : أيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة أنوى أن يضربها بالضغث إنما أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيضربها به ثم قال : إنما القرآن عبر إنما القرآن عبر وللبحث في ذلك مجال وكثير من الناس استدل بها على جواز الحيل وجعلها أصلا لصحتها وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وحيلة سقوط الإستبراء وهذا كالتوسط في المسئلة فإن من العلماء من يجوز الحيلة مطلقا ومنهم من لا يجوزها مطلقا وقد أطال الكلام في ذلك العلامة ابن تيمية إنا وجدناه صابرا فيما أصابه في النفس والأهل والمال
وقد كان عليه السلام يقول كلما أصابته مصيبة : اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت ويحمد الله عز و جل ولا يخل بذلك شكواه إلى الله تعالى من الشيطان لأن الصبر عدم الجزع ولا جزع فيما ذكر كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك على ما قيل خيفة الفتنة في الدين كما سمعت فيما تقدم ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم يلهني ما ملكت يميني ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه نعم العبد أي أيوب إنه أواب
44
- تعليل لمدحه
(23/209)
وتقدم معنى الأواب واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب الثلاثة عطف بيان لعبادنا أو بدل منه
وقيل : نصب بإضمار أعني وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة عبدنا بالإفراد فإبراهيم وحده بدل أو عطف بيان أو مفعول أعني وخص بعنوان العبودية لمزيد شرفه وما بعده عطف على عبدنا وجوز أن يكون المراد بعبدنا عبادنا وضعا للجنس موضع الجمع فتتحد القراءتان أولي الأيدي والأبصار
45
- أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين على أن الأيدي مجاز مرسل عن القوة والإبصار جمع بصر بمعنى بصيرة وهو مجاز أيضا لكنه مشهور فيه أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة على أن ذكر الأيدي من ذكر السبب وإرادة المسبب والإبصار بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من العلوم كالأول أيضا وفي ذلك على الوجهين تعريض بالجهلة البطالين أنهم كفاقدي الأيدي والأبصار وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما وقيل : الأيدي النعم أي أولي التي أسداها الله تعالى إليهم من النبوة والمكانة أو أولي النعم والإحسانات على الناس بإرشادهم وتعليمهم إياهم وفيه ما فيه وقريء الأيادي على جمع الجمع كأوطف واواطف وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش الأيد بغير ياء فقيل يراد الأيدي بالياء وحذفت اجتزاء بالكسرة عنها ولما كانت أل تعاقب التنوين حذفت الياء معها كما حذفت مع التنوين حكاه أبو حيان ثم قال : وهذا تخريج لا يسوغ لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضمائر وقيل : اليد القوة في طاعة الله تعالى نظير ما تقدم وقال الزمخشري بعد تعليل الحذف بالإكتفاء بالكسرة وتفسيره بالأيد مع التأييد قلق غير متمكن وعلل بأن فيه فوات المقابلة وفوات النكتة البيانية فلا تغفل إنا أخلصناهم بخالصة تعليل لما وصفوا به والباء للسببية وخالصة اسم فاعل وتنوينها للتفخيم وقوله تعالى ذكرى الدار
46
- بيان لها بعد إبهامها للتفخيم وجوز أن يكون خبرا عن ضميرها المقدر أي هي ذكرى الدار وأيا ما كان فذكرى مصدر مضاف لمفعوله وتعريف الدار للعهد أي الدار الأخرة وفيه إشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا مجاز أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خلصة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها هي تذكرهم دائما الدار الآخرة فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم إياها وذلك لأن مطمح أنظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون ويذرون جوار الله عز و جل والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة
وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها والباء كما في الوجه الأول للسببية والكلام نحو قولك : أكرمته بالعلم أي بسبب أنه عالم أكرمته أو أكرمته بسبب أنك جعلته عالما وقد يتخيل في الثاني أنه صلة ويعضد الوجه الأول قراءة الأعمش وطلحة بخالصتهم
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أن ذكرى الدار تذكيرهم الناسي الآخرة وترغيبهم إياهم فيها وتزهيدهم إياهم فيها على وجه خالص من الحظوظ النفسانية كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام وقيل المراد بالدار الدار الدنيا وبذكراها الثناء الجميل ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم وحكى ذلك عن الجبائي وأبي مسلم وذكره ابن عطية احتمالا وحاصل الآية عليه كما قال الطبرسي إنا خصصناهم بالذكر الجميل في الأعقاب
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وهشام بإضافة خالصة إلى ذكرى للبيان أي بما خلص من
(23/210)
ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو على غير ذلك من المعاني وجوز على هذه القراءة أن تكون خالصة مصدرا كالعاقبة والكاذبة مضافا إلى الفاعل أي أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار وظاهر كلام أبي حيان أن احتمال المصدرية ممكن في القراءة الأولى أيضا لكنه قال : الأظهر أن تكون اسم فاعل وإنهم عندنا لمن المصطفين أي المختارين من بين أبناء جنسهم وفيه إعلال معروف
وعندنا يجوز فيه أن يكون من صلة الخبر وإن يكون من صلة محذوف دل عليه لمن المصطفين أي وإنهم مصطفون عندنا ولم يجوزوا أن يكون من صلة المصطفين المذكور لأن أل فيه موصولة ومصطفين صلة وما في حيز الصلة لا يتقدم معموله على الموصول لئلا يلزم تقدم الصلة على الموصول واعترض بأنا لا نسلم أن أل فيه موصولة إذ لم يرد منه الحدوث ولو سلم فالمتقدم ظرف وهو يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره والظاهر أن الجملة عطف على ما قبلها وتأكيدها لمزيد الإعتناء بكونهم عنده تعالى من المصطفين من الناس الأخيار
47
- الفاضلين عليهم في الخير وهو جمع خير مقابل شر الذي هو أفعل تفضيل في الأصل وكان قياس أقعل التفضيل أن لا يجمع على أفعال لكنه للزوم تخفيفه حتى أنه لا يقال أخير إلا شذوذا أو في ضرورة جعل كأنه بنية أصلية وقيل جمع خير المشدد أو خير المخف منه كأموات في جمع ميت بالتشديد أو ميت بالتخفيف
واذكر إسماعيل فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه اعتناء بشأنه من حيث أنه لا يشرك العرب فيه غيرهم أو للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالذكر واليسع قال ابن جرير هو ابن أخطوب بن العجوز وذكر أنه استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبيء واللام فيه زائدة لازمة لمقارنتها للوضع ولا ينافي كونه غير عربي فإنها قد لزمت في بعض الأعلام الأعجمية كالإسكندر فقد لحن التبريزي من قال اسكندر مجردا له منها و والأولى عندي أنه إذا كان اسما أعجميا وأل فيه مقارنة للوضع أن لا يقال بزيادتها فيه وقيل هو اسم عربي منقول من يسع مضارع وسع حكاه الجلال السيوطي في الإتقان وفي القاموس يسع كيضع اسم أعجمي أدخل عليه أل ولا تدخل على نظائره كيزيد
وقرا حمزة والكسائي والليسع بلامين والتشديد كان أصله ليسع بوزن فيعل من اللسع دخل عليه أل تشبيها بالمنقول الذي تدخله للمح أصله وجزم بعضهم بأنه على هذه القراءة أيضا علم أعجمي دخل عليه اللام
وذا الكفل قيل هو ابن أيوب وعن وهب أن الله تعالى بعث بعد أيوب شرف بن أيوب نبيا وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده وكان مقيما بالشام عمره حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة
وفي العجائب للكرماني قيل هو إلياس وقيل هو يوشع بن نون وقيل هو نبي اسمه ذو الكفل وقيل كان رجلا صالحا تكفل بأمور فوفي بها وقيل هو زكريا من قوله تعالى : وكفلها زكريا أه وقال ابن عساكر : هو نبي تكفل الله تعالى له في عمله بضعف عمل غيره من الأنبياء وقيل لم يكن نبيا وإن اليسع استخلفه فتكفل له أن يصوم النهار ويقوم الليل وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة وقيل : كان رجلا من الصالحين كان في زمانه أربعمائة نبي من بني إسرائيل فقتلهم ملك جبار إلا مائة منهم فروا من القتل فآواهم وأخفاهم وقام بمؤنتهم فسماه الله تعالى ذا الكفل وقيل هو اليسع وأن له اسمين ويأباه ظاهر النظم وكل أي وكلهم من الأخيار
48
(23/211)
المشهورين بالخيرية هذا إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم ذكر أي شرف لهم وشاع الذكر بهذا المعنى لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم والمراد في ذكر قصصهم وتنويه الله تعالى بهم شرف عظيم لهم أو المعنى هذا المذكور من الآيات نوع من اذلكر الذي هو القرآن وذكر ذلك للإنتقال من نوع من الكلام إلى آخر كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ثم شرع في باب آخر ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا وكان كيت وكيتويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيرا وعليه هذا وإن للطاغين لشر مآب وستسمع إن شاء الله تعالى الكلام فيه فلا يقال : إنه لا فائدة فيه لأنه معلوم أنه من القرآن وقال ابن عباس : هذا ذكر من مضى من الأنبياء عليهم السلام وقوله تعالى : وإن للمتقين لحسن مآب
49
- أي مرجع شروع في بيان أجرهم الجزيل في الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحا لهم بالتقوى التي هي الغاية القصوى في الكمال والجملة فيما أرى عطف على الجملة قبلها كأنه قيل : هذا شرف لهم في الدنيا وإن لهم ولأضرابهم أو أن لهم في الآخرة لحسن مآب أو هي من قبيل عطف القصة على القصة وقال الشضهاب الخفاجي عليه الرحمة : هي حالية ولم يبين صاحب الحال ويبعد أن يكون ذكرا لأنه نكرة متقدمة وأن يكون هذا لأنه مبتدأ ومع ذلك في المعنى على تقدير الحالية خفاء وقال بعض أجلة المعاصرين : إنه أراد أن الكلام على معنى والحال كذا أي الأمر والشأن كذا ولم يرد أن الجملة حال بالمعنى المعروف الذي يقتضي ذا حال وعاملا في الحال إلى غير ذلك وادعى أن الأمر كذلك في كل جملة يقال إنها حال وليس فيها ضمير يعود على ما قبلها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقال : إنه الذي ينبغي أن يعول عليه وإن لم يذكره النحويون أه والحال لا يخفى على ذي تمييز وأضافة حسن إلى مآب من إضافة الصفة إلى الموصوف إما بتأويل مآب ذي حسن أو حسن واما بدونه قصدا للمبالغة
وقوله تعالى : جنات عدن بدل اشتمال وجوز أن يكون نصبا على المدح وجعله الزمخشري عطف بيان لحسن مآب وعدن قيل من الأعلام الغالبة غلبة تقديرية ولزوم الإضافة فيها أو تعريفها باللام أغلبي كما صرح به ابن مالك في التسهيل وجنات عدن كمدينة طيبة لا كإنسان زيد فإنه قبيح وقيل العلم مجموع جنات عدن وهو أيضا من غير الغالب لأن المراد من الإضافة التي تعوضها العلم بالغلبة إضافة تفيده تعريفا وعلى القولين هو معين فيصلح للبيان لكن تعقب ذلك أبو حيان بأن للنحويين في عطف البيان مذهبين أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة وهو مذهب البصريين والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعا لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى الزمخشري كما قد صرح به ابن مالك في التسهيل فهو بناء للأمر على مذهبه
وذهب آخرون أن عدنا مصدر عدن بمكان كذا استقر ومنه المعدن لمستقر الجواهر ولا علمية ولا نقل هناك ومعنى جنات عدن جنات استقرار وثبات فإن كان عطف بيان فهو على مذهب الكوفيين والفارسي
ومن الغريب ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : سألت كعبا عن قوله تعالى : جنات عدن فقال : جنات
(23/212)
كروم وأعناب بالسريانية وفي تفسير ابن جرير أنه بالرومية وقوله تعالى : مفتحة لهم الأبواب
50
- إما صفة لجنات عدن وإليه ذهب ابن إسحاق وتبعه ابن عطية أو حال من ضميرها المستتر في خبر إن والعامل فيه الإستقرار المقدر أو نفس الظرف لتضمنه معناه ونيابته عنه وإليه ذهب الزمخشري ومختصر وكلامه أو حال من ضميرها المحذوف مع العامل لدلالة المعنى عليه واتلتقدير يدخلونها مفتحة وإليه ذهب الحوفي و الأبواب نائب فاعل مفتحة عند الجمهور والرابط العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها واكتفى الكوفيون عن ذلك بأل لقيامها مقام الضمير فكأنه قيل مفتحة لهم أبوابها وذهب أبو علي إلى أن نائب فاعل مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل منه بدل اشتمال كما هو ظاهر كلام الزمخشري ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات على ما قال أبو حيان وقرأ زيد ابن علي وعبد االله بن رفيع وأبو حيوة جنات عدن مفتحة برفعهما على أنهما خبران لمحذوف أي هو أي المآب جنات عدن مفتحة لهم أبوابه أو هو جنات عدن هي مفتحة لهم أبوابها أو على أنهما مبتدأ أو خبر
ووجه ارتباط الجملة بنا قبلها أنها مفسرة لحسن المآب لأن محصلها جنات أبوابها فتحت إكراما لهم أو هي معترضة
وقوله تعالى : متكئين فيها وقوله سبحانه يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب
51
- قيل حالان من ضمير لهم وهما حالان مقدران لأن الإتكاء وما بعده ليس في حال تفتيح الأبواب بل بعده وقيل : الأول حال مقدرة من الضمير المذكور والثاني حال من ضمير متكئين وجوز جعلها حالين من المتقين ولا يصح إلا إن قلنا بأن الفاصل ليس بأجنبي والظاهر أنه أجنبي وقال بعض الأجلة : الأظهر أن متكئين حال من ضمير يدعون قدم رعاية للفاصلة ويدعون استئناف لبيان حالهم كأنه قيل ما حالهم بعد دخولها فقيل : يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب متكئين فيها والإقتصار على الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي فإنه لتحصيل بدل ولا تحلل ثمت ولما كانت الفاكهة تتنوع وصفها سبحانه بالكثرة وكثرتها باختلاف أنواعها وكثرة كل نوع منها ولما كان الشراب نوعا واحدا وهو الخمر إفرد وقيل : وصفت الفاكهة بالكثرة ولم يصف الشراب للإيذان بأنه يكون على الشراب نقل كثير سواء تعددت أنواعه أم اتحدت ويمكن أن يقال والله تعالى أعلم : التقدير وشراب كثير لكن حذف لدلالة ما قبل ورعاية للفاصلة
وعندهم قاصرات الطرف أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو قاصرات طرف أزواجهن عليهن فلا ينظرون إلى غيرهن لشدة حسنهن وتمام الكلام قد مر وحلا أتراب
52
- أي لدات على سن واحدة تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لسقوطهن معا على الأرض حين الولادة ومسهن ترابها فكان الترب بمعنى المتارب كالمثل بمعنى المماثل والظاهر أن هذا الوصف بينهن فيكون في ذلك إشارة إلى محبة بعضهن لبعض وتصادقهن فيما بينهن فإن النساء الأتراب يتحابين ويتصادقن وفي ذلك راحة عظيمة لأزواجهن كما أن في تباغض الضرائر نصبا عظيما وخطبا جسيما لهم وقد جرب ذلك وصح نسأل الله تعالى العفو والعافية
وقيل : إن ذلك بينهن وبين أزواجهن أي أن أسنانهن كأسنانهم ليحصل كمال التحاب ورجح بأن اهتمام الرجل بحصول المحبة بينه وبين زوجته أشد من اهتمامه بحصولها بين زوجاته وفيه توقف ثم أن الوصف الأول
(23/213)
على المعنى الأول متكفل بالدلالة على محبتهن لأزواجهن وعلى المعنى الثاني متكفل بالدلالة على محبة أزواجهن لهن وإذا حصلت المحبة من طرف فالغالب حصولها من الطرف الآخر وقد قيل : من القلب إلى القلب سبيل والأمر في الشاهد أن كون الزوجات أصغر من الأزواج أحب لهم لا التساوي واختار بعضهم كون ذلك بينهن وبين أزواجهن ويلزم منه مساواة بعضهن لبعض وهذا إذا كان المراد بقوله تعالى : وعندهم الخ وعند كل واحد منهم ولو كان المراد وعند مجموعهم وكان الجمع موزعا بأن يكون لكل واحد واحد من أهل الجنة واحدة واحدة من قاصرات الطرف الأتراب كان اعتبار كون الوصف بينهن وبين الأزواج كالمتعين لكن هذا الفرض خلاف ما نطقت به الأخبار سواء قلنا بما روي عن ابن عباس من أن الآية في الآدميات أو قلنا بما قاله صاحب الفينان من أنها في الحور وقيل بناء على ما هو الظاهر في الوصف إن التساوي في الأعمار بين الحوروبين نساء الجنة فالآية فيهما هذا ما توعدون ليوم الحساب
53
- أي لأجل يوم الحساب فإن ما وعدوه لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة وهي تظهر بالحساب فجعل كأنه على لتوقف إنجاز الوعد فالنسبة لليوم والحساب مجازية وجوز أن تكون اللام بمعنى بعد كما في كتب لخمس خلون من جمادي الآخرة مثلا وهو أقل مؤنة
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يوعدون بياء الغيبة وعلى قراءة الجمهور بتاء الخطاب فيه التفات إن هذا أي ما ذكر من ألوان النعم والكرامات لرزقنا أعطيناكموه ماله من نفاذ
54
- انقطاع أبدا هذا قال الزجاج : أي الأمر هذا على أنه خبر مبتدأ محذوف وقال أبو علي : أي هذا للمؤمنين على أنه مبتدأ خبره محذوف وقدره بعضهم كما ذكره
وجوز أبو البقاء احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر واحتمال كونه خبرا محذوف المبتدأ وجوز بعضهم كونه فاعل محذوف أي مضى هذا وكونه مفعولا لفعل محذوف أي خذ هذا وجوز أيضا كونها اسم فعلى بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير ورسمه متصلا يبعده والتقدير أسهل منه وقوله تعالى : وإن للطاغين لشر مآب
55
- عطف على ما قبله ولزوم عطف الخبر على الإنشاء على بعض الإحتمالات جوابه سهل وأشار الخفاجي إلى الحالية هنا أيضا ولعل أمرها على بعض الأقوال المذكورة هين والطاغون هنا الكفار كما يدل عليه كلام ابن عباس حيث قال : أي الذين طغوا علي وكذبوا رسلي وقال الجبائي : أصحاب الكبائر كفارا كانوا أو لم يكونوا وإضافة شر إلى مآب كإضافة حسن إليه فيما تقدم وظاهر المقابلة يقتضي أن يقال : لقبح مآب هنا أو لخير مآب فيما مضى لكن مثله لا يلتفت إليه إذا تقابلت المعاني لأنه من تكلف الصنعة البديعية كما صرح به المرزوقي في شرح الحماسة كذا قيل وقيل إنه من الإحتباك وأصله إن للمتقين لخير مآب وحسن مآب وإن للطاغين لقبح مآب وشر مآب واستحسنه الخفاجي وفيه نوع بعد وقوله تعالى : جهنم يعلم إعرابه مما سلف وقوله سبحانه يصلونها أيد يدخلونها ويقاسون حرها حال من جهنم نفسها أو من الضمير المستتر في خبر إن الراجع لشر مآب المراد به هي والحال مقدرة فبئس المهاد
56
- أي هي يعني جهنم فالمخصوص بالذم محذوف والمهاد كالفراش لفظا ومعنى وقد استعير مما يفترشه النائم والمهد كالمهاد وقد يخص بمقر الطفل هذا خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا وقوله تعالى فليذوقوه جملة
(23/214)
مرتبة على الجملة قبلها فهي بمنزلة جزاء شرط محذوف وقوله تعالى : حميم وغساق
57
- خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم وغساق وذا قد يشار به للمتعدد أو مبتدأ محذوف الخبر أي منه حميم ومنه غساق كما في قوله : حتى إذا ما أضاء الصبح في غسق وغودر البقل ملوى ومحصود أي منه ملوى ومنه محصود أو هذا مبتدأ خبره حميم وجملة فليذوقوه معترضة كقولك زيد فافهم رجل صالح أو هذا مبتدأ خبره فليذوقوه على هذهب الأخفش في إجازته زيد فاضربه مستدلا بقوله
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
أو هذا في حل نصب بفعل مضمر يفسره فليذوقوه أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ولعلك تختار القول بأن هذا مبتدأ وحميم خبره وما في البين اعتراض وقد قدمه في الكشاف والفاء تفسيرية تعقيبية وتشعر بأن لهم إذاقة بعد إذاقة وفي حميم وغساق على هذين الوجهين الإحتمالان المذكوران أولا والحميم الماء الشديد الحرارة
والغساق بالتشديد كما قرأ به ابن أبي إسحاق وقتادة وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وحفص والفضل وابن سعدان وهارون عن أبي عمرو وبالتخفيف كما قرأ به باقي السبعة اسم لما يجري من صديد أهل النار كما روي عن عطاء وقتادة وابن زيد وعن السدي ما يسيل من دموعهم وأخرج ابن جرير عن كعب أنه عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغيرهما يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه الزمهرير وقيل : هو مشددا ومخففا وصف من غسق كضرب وسمع بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها فيكون على ما في البحر صفة حذف موصوفها أي ومذوق غساق ويراد به سائل من جلود أهل النار مثلا والوصفية في المشدد أظهر لأن فعالا بالتشديد قليل في الأسماء ومنه الغياد ذكر البوم والخطار دهن يتخذ من الزيت والعقار ما يتداوى به من النبات ومن الغريب ما قاله الجواليقي والواسطي أن الغساق هو البارد المنتن بلسان الترك والحق أنه عربي نعم النتونة وصف له في الواقع وليست مأخوذة في المفهوم فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان وجماعة وصححه الحاكم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله عز و جل ويبعده هذا الخبر وآخر أي ومذوق آخر وفسره ابن مسعود كما رواه عنه جمع بالزمهرير أو وعذاب آخر
وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى وأبو عمرو و أخر على الجمع أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر من شكله أي من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة وتوحيد الضمير دون تثنيته نظرا للحميم والغساق على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق وقرأ مجاهد شكله بكسر الشين وهي لغة فيه كمثل وإذا كان بمعنى الغنج فهو بالكسر لا غير أزواج
58
- أي أجناس و آخر على القراءتين يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهذا مذوق أو عذاب آخر أو هذه مذوقات أو أنواع عذاب أخر والجملة معطوفة على هذا حميم وإن شئت فقدر هو أو هي وأعطف الجملة على حميم وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ومنه مذوق أو عذاب آخر أو ومنه مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على منه حميم وجوز أن يقدر الخبر لهم أي ولهم مذوق أو عذاب آخر أو ولهم مذوقات أو أنواع عذاب
(23/215)
أخر والعطف على هذا فليذوقوه ومن شكله وأزواج في جميع ذلك صفتان لآخر أو أخر و آخر وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع وصادق على متعدد في المعنى
ويحتمل أن يكون آخر أو مبتدأ و من شكله صفته و أزواج خبر والجواب عن عدم المطابقة على قراءة الأفراد ما سمعت وأن يكون ذلك عطفا على حميم عطف على المفرد ومن شكله صفته وأزواج صفة للثلاثة المتعاطفة وجوز أن يكون آخر مبتدأ ومن شكله خبره وأزواج فاعل الظرف وأن يكون الأول مبتدأ ومن شكله خبر مقدم وأزواج مبتدأ والجملة خبر المبتدأ الأول أعني آخر وصح الإبتداء به لأنه من باب ضعيف عاذ بقرملة فالمبتدأ في الحقيقة الموصوف المحذوف أي نوع آخر أو مذوق آخر وقيل لأنه جيء به للتفصيل ومما ذكروا من المسوغات أن تكون النكرة للتفصيل نحو الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته وبحث فيه ابن هشام في المغنى وجعلوا ضمير شكله على الوجهين عائدا على آخر وهما لا يكادان يتسنيان على القراءة بالجمع فتدبر ولا تغفل هذا فوج جمع كثير من أتباعكم في الضلال
مقتحم راكب الشدة داخل فيها أو متوسط شدة مخيفة معكم والمراد هذا فوج داخل معكم النار مقاس فيها ما تقاسونه وهذا حكاية ما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعا لهم فهو بتقدير فيقال لهم عند الدخول هذا الخ
وفي الكشاف واستظهره أبو حيان أنه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض يخاطب بعضهم بعضا في شأن أتباعهم يقول هذا فوج مقتحم معكم والظرف متعلق بمقتحم وجوز فيه أن يكون نعتا ثانيا لفوج أو حالا منه لأنه قد وصف أو من الضمير المستتر فيه ومنع أبو البقاء جواز كونه ظرفا قائلا : إنه يلزم عليه فساد المعنى وتبعه الكواشي وصاحب الأنوار وتعقبه صاحب الكشف بأنه إن كان الفساد لأنبائه عن تزاحمهم في الدخول وليس المعنى على المزاحمة بين الفريقين الأتباع والمتبوعين لأنهم بعد الدخول يقولون ذلك لا عند المزاحمة فغير لازم لأن الإقتحام لا ينبيء عن التزاحم ولا هو لازم له وإنما مثل ضربت معه زيدا ينبيء عن المشاركة في الضرب والمقارنة فكذلك اقتحام المتبوعين النار مع الأتباع ينبيء عن المشاركة في ركوب كل من الطائفتين قحمة النار ومقاساة شدتها في زمان متقارب عرفا ولو قيل هذا فوج معكم مقتحمون لم يفد أن المخاطبين أيضا كذلك وفسد المعنى المقصود والعجب ممن جوز أن يكون حالا من ضمير مقتحم ولم يجوز أن يكون ظرفا وإن كان بغير ذلك فليفد أولا ثم ليعترض انتهى وقال بعضهم : إن وجه فساد الظرفية دون الحالية أنه ليس المراد أنهم اقتحموا في الصحبة ودخلوا فيها بل اقتحموا في النار مصاحبين لكم ومقارنين إياكم وهو كلام فاسد لا محصل له لأن مدلول مع المعبر عنه بالصحبة معناه الإجتماع في التلبس بمدلول متعلقها فيفيد اشتراك الطائفتين في الإقتحام لا في الصبحة كما توهمه ولا يدل على اتحاد زمانيهما كما صرح به في المغنى ولو سلم فهو لتقاربه عد متحدا كما أشير في عبارة الكشف إليه فالحق أنه لا فساد وقوله تعالى : لا مرحبا بهم دعاء من المتبوعين على أتباعهم سواء كان قائل ما تقدم الملائكة عليهم السلام أو بعض الرؤساء لبعض أو صفة لفوج أو حال منه لوصفه أو من ضميره وأيا ما كان يؤول بمقول لهم لا مرحبا لأنه دعاء فهو إنشاء لا يوصف به وكذا لا يكون حالا بدون تأويل والمعنى على استحقاقهم أن يقال لهم ذلك لا أنهم قيل لهم ذلك بالفعل وهو على الوصفية والحالية من كلام الملائكة
(23/216)
عليهم السلام كانوا هم االقائلين أو من كلام بعض الرؤساء وجوز كونه ابتداء منهم و مرحبا من الرحب بضم الراء وهو السعة ومنه الرحبة للفضاء الواسع وهو مفعول به لفعل واجب الإضمار و بهم بيان للمدعو عليهم وتكون الباء للبيان كاللام في نحو سقينا له وكون اللام دون الباء كذلك دعوى من غير دليل أي ما أتوا بهم رحبا وسعة وقيل : الباء للتعدية فمجرورها مفعول ثان لأتوا وهو مبني على زعم أن اللام لا تكون للبيان وكفى بكلام الزمخشري وأبي حيان دليلا على خلافه ويقال : مرحبا بك على معنى رحبت بلادك رحبا كما يقال على معنى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يكون مرحبا مفعولا مطلقا لمحذوف أي لا رحبت بهم الدار مرحبا والجمهور على الأول وأيا ما كان فالمراد بذلك مثبتا الدعاء بالخير ومنفيا الدعاء بالسوء
أنهم صالوا النار
59
- تعليل من جهة الملائكة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر أو تعليل من الرؤساء لذلك والكلام عليه يتضمن الإشارة إلى عدم انتفاعهم بهم كأنه قيل : إنهم داخلون النار بأعمالهم مثلنا فأي نفع لنا منهم فلا مرحبا بهم قالوا أي الأتباع وهم الفوج المقتحم للرؤساء
بل أنتم لا مرحبا بكم أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو بما قلتم لنا ولعلهم إنما خاطبوهم بذلك على تقدير كون القائل الملائكة الخزنة عليهم السلام مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الإعتذار إلى أولئك القائلين بل هم لا مرحبا بهم قصدا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعا في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصمائهم
وفي البحر خاطبوهم لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم حيث تسببوا في كفرهم وأنكى للرؤساء وهذا أيضا بتأويل القول بناء على أن الإنشاء لا يكون خبرا بل أنتم مقول فيكم أي أحق أن يقال فيكم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا تعليل لأحقيتهم بذلك وضمير الغيبة في قدمتموه للعذاب لفمهمه مما قبله أو للمصدر الذي تضمنه صالوا وهو الصلي أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلي ودخول النار لنا بإغوائنا وإغراقنا على ما قدمنا من العقائد الزائغة والأعمال السيئة لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا
وفي الكلام مجازان عقليان الأول إسناد التقديم إلى الرؤساء لأنهم السبب فيه بإغوائهم والثاني إيقاعه على العذاب أو الصلي مع أنه ليس المقدم عمل السوء الذي هو سبب له وقيل : أطلق الضمير الذي هو عبارة عن العذاب أو الصلي المسبب عن العمل على العمل مجازا لغويا وقيل : لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلي بتأخير الرحمة منهم فبئس القرار
60
- أي فبئس المقر جهنم وهو من كلام الأتباع وكأنهم قصدوا بذلك التشفي والإنكاء وإن ذلك المقر مشترك وقيل قصدوا بالذم المذكور تغليظ جناية الرؤساء عليهم قالوا أي الأتباء أيضا وقول ابن السائب : القائل جميع أهل النار خلاف الظاهر جدا فلا يصار إليه وتوسيط الفعل بين كلاميهم لما بينهما من التباين ذاتا وخطابا أي قالوا معرضين عن خصومة رؤسائهم متضرعين إلى الله عز و جل ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار
61
- أي مضاعفا ومعناه ذا ضعف أي مثل وهوان يزيد على عذابه مثله فيصير بتلك الزيادة مثلين لعذاب غيره ويطلق الضعف على الزيادة المطلقة
وقال ابن مسعود هنا : الضعف حيات وعقارب والظاهر من بعض عباراتهم أن من موصولة ونص الخفاجي
(23/217)
على أنها شرطية وفي البحر من مقدم هم الرؤساء وقال الضحاك : هو إبليس وقابيل وهو أنسب بخلاف الظاهر المحكي عن ابن السائب وقالوا الضمير للطاغين عند جمع أي قال الطاغون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر ما لنا لا نرى رجالا كنا في الدنيا نعدهم من الأشرار
62
- أي الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى يعنون بذلك فقراء المؤمنين وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في الدين وقيل : الضمير لصناديد قريش كأبي جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب والرجال عمار وصهيب وسلمان وخباب وبلال وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم بناء على ما روي عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم واستضعفه صاحب الكشف وسبب النزول لا يكون دليلا على الخصوص واستظهر بعضهم أن الضمير للتباع لأنه فيما قبل يعني قوله تعالى قالوا بل أنتم الخ لهم أيضا وكانوا أيضا يسخرون من فقراء المؤمنين تبعا لرؤسائهم وأيا ما كان فجملة كنا الخ صفة رجالا
وقوله تعالى اتخذناهم سخريا بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل كما قرأ بذلك الحجازيان وابن عامر وعاصم وأبو جعفر والأعرج والحسن وقتادة استئناف لا محل له من الإعراب قالوه حيث لو يروهم معهم إنكارا على أنفسهم وتأنيبا لها في الإستسخار منهم وقوله تعالى أم زاغت عنهم الأبصار
63
- متصل بقوله تعالى ما لنا لا نرى الخ وأم فيه متصلة وتقدم ما فيه معنى الهمزة يغني عن تقدمها على ما يقتضيه كلام الزمخشري والمعنى ما لنا لا نراهم في النار ألسوا فيها فلذلك لا نراهم بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها أو بقوله تعالى اتخذناهم الخ وأم فيه إما متصلة أيضا والمقابلة باعتبار اللازم والمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الإستسخار منهم أم الإزدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم وإما منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الإستسخار وأنكروا على أنفسهم أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه وفي زاغت دون أزغنا مبالغة عظيمة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح منظرين وأين هذا من السخر فقد يكون المسخور منه محبوبا مكرما وجوز أن يكون معنى أم زاغت على الإنقطاع بل زاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين وقرأ النحويان وحمزة اتخذناهم بغير همزة فجوز أن تكون مقدرة لدلالة أم عليها فتتحد القراءتان وأن لا تكون كذلك ويكون الكلام إخبارا فقال ابن النباري : الجملة حال أي وقد اتخذناهم وجوز كونها مستأنفة لبيان ما قبلها وقال الزمخشري وجماعة : صفة ثانية لرجالا و أم زاغت متصل بقوله تعالى ما لنا لا نرى الخ كما سمعت أولا
وجوز أن تكون أم فيه منقطعة كأنهم أضربوا عما قبل وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه أو أضربوا عن ذلك إلى بيان أن ما وقع منهم في حقهم كان لزيغ أبصارهم وكلال أفهامهم عن إدراك أنهم على الحق بسبب رثاثة حالهم وقرأ عبد الله وأصحابه ومجاهد والضحاك وأبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وحمزة والكسائي سخريا بضم السين ومعناه على ما في البحر من السخرة والإستخدام ومعنى سخريا بالكسر على المشهور من السخر وهو الهزء وهو معنى ما حكى عن أبي عمرو قال : ما كان من مثل العبودية فسخري بالضم وما كان من مثل الهزء فسخري بالكسر وقيل : هو بالكسر من التسخير إن ذلك أي الذي حكى عنهم
(23/218)
لحق لا بد أن يتكلموا به فالمراد من حقيته تحققه في المستقبل
وقوله تعالى : تخاصم أهل النار
64
- خبر مبتدأ محذوف أي هو تخاصم والجملة بيان لذلك وفي الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له وقال ابن عطية : بدل من حق والمبدل منه ليس في حكم السقوط حقيقة وقيل بدل من محل اسم إن والمراد بالتخاصم التقاول وجواز إرادة ظاهره فإن قول الرؤساء لا مرحبا بهم وقول الأتباع بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة فسمي التفاوض كله تخاصما لا شتماله عليه قيل وهذا ظاهر أن التقاول بين المتبوعين والأتباع أما لو جعل الكل من كلام الخزنة فلا و ولو جعل لا مرحبا من كلام الرؤساء و هذا فوج كم كلام الخزنة فيصح أن يجعل تخاصما مجازا وقرأ ابن أبي عبلة تخاصم بالنصب فهو بدل من ذلك
وقال الزمخشري : صفة له وتعقب بأن وصف اسم الإشارة وإن جاز أن يكون بغير المشتق إلا أنه يلزم أن يكون معرفا بأل كما ذكره في المفصل من غير نقل خلاف فيه فبينه وبين ما يستدعيه القول بالوصفية تناقض مع ما في ذلك من الفصل الممتنع أو القبيح وأجاب صاحب الكشف بأن القياس يقتضي التجويز لأن اسم الإشارة يحتاج إلى رافع لإبهامه دال على ذات معينة سواء كان فيه اختصاص بحقيقة أخرى أو بحقائق أولا وهذا القدر لا يخرج الإسم عن الدلالة على حقيقة الذات المعينة التي يصح بها أن يكون وصفا لاسم الإشارة وأما الإستعمال فمعارض بأصل الإستعمال في الصفة فكما أن الجمهور حملوا على الصفة في نحو هذا الرجل مع احتمال البدل والبيان كذلك الزمخشري حمل على الوصف مع احتمال البدل لأنه التفت لفت المعنى ولا يناقض ما في المفصل لأنه ذكر ذلك في باب النداء خاصة على تقدير عدم استقلال اسم الإشارة ولأن حال الإستقلال أقل لم يتعرض له وقد بين في موضعه أنه في النداء خاصة يمتنع وصف اسم الإشارة إذا لم يستقل بالمضاف إلى المعرف باللام على أنه كثيرا ما يخالف في أحد الكتابين الكشاف والمفصل الآخر والإشكال بأنه يلزم الفصل غير قادح فإنه يجوز لا سيما على تقدير استقلال اسم الإشارة أه ولا يخلو عن شيء
وقرأ ابن السمقيع تخاصم فعلا ماضيا أهل بالرفع على أنه فاعل له قل يا محمد لمشركي مكة إنما أنا منذر أنذرتكم عذاب الله تعالى للمشركين والكلام رد لقولهم هذا ساحر كذاب فإن الإنذار ينافي السحر والكذب
وقد يقال : المراد إنما أنا رسول منذر لا ساحر كذاب وفيه من الحسن ما فيه فإن كل واحد من وصفي الرسالة والإنذار ينافي كل واحد من وصفي السحر والكذب لكن منافاة الرسالة للسحر أظهر وبينهما طباق فكذلك الإنذار للكذب وضم إلى ذلك قوله تعالى : وما من إله إلا الله لإفادة أن له صلى الله عليه و سلم صفة الدعوة إلى توحيده عز و جل أيضا فالأمران مستقلان بالإفادة
و من زائدة للتأكيد أي ما إله أصلا إلا الله الواحد أي الذي لا يحتمل الكثرة في ذاته بحسب الجزئيات بأن يكون له سبحانه ماهية كلية ولا بحسب الأجزاء القهار
65
- لكل شيء
رب السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات منه سبحانه خلقها وإليه تدبير جميع أمورها العزيز الذي يغلب ولا يغلب في أمر من أموره جل شأنه فتندرج في ذلك المعاقبة الغفار
66
- المبالغ في المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء تقرير للتوحيد أما الوصف الأول فظاهر في ذلك غير محتاج للبيان واما القهار
(23/219)
لكل شيء فلأنه لو كان إله غيره سبحانه لم يكن قهارا له ضرورة أنه لا يكون حينئذ إلها بل ربما يلزم أن يكون مقهورا وذلك مناف للألوهية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأما رب السماوات الخ فلأنه لو أمكن غيره معه تعالى شأنه جاء دليل التمانع المشار إليه بقوله سبحانه : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فلم تتكون السماوات والأرض وما بينهما وقيل : لأن معنى رب السماوات الخ رب كل موجود فيدخل فيه كل ما سواه فلا يكون إلها وأما العزيز فلأنه يقتضي أن يغلب غيره ولا يغلب ومع الشركة لا يتم ذلك
وأما الغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فربما مغفرة لأحد وشاء لآخر منه العقاب فإن حصل مراده فالآخر ليس باله وإن حصل مراد الآخر ولم يحصل مراده لم يكن هو إلها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وما قيل في برهان التمانع سؤالا وجوابا يقال هنا وفي هذه الأوصاف من الدلالة على الوعد والوعيد ما لا يخفى وللإقتصار على وصف الإنذار صريحا فيما تقدم قدم وصف القهار على وصف الغفار هنا وجوز أن يكون المقصود هو تحقيق الإنذار وجيء بالثاني تتميما له وإيضاحا لما فيه من الإجمال أي قل لهم ما أنا إلا منذر لكم بما أعلم وإنما أنذرتكم عقوبة من هذه صفته فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه والوجه الأول أوفق لمقتضى المقام لأن التعقيب بتلك الصفات في الدلالة على أن الدعوة إلى التوحيد مقصودة بالذات بمكان لا ينكر ولأن هذا بالنسبة إلى ما مر من صدر السورة إلى هنا بمنزلة أن يقول المستدل بعد تمام تقريره فالحاصل فالأولى أن يكون على وزان المبسوط وفيه قوله تعالى : أجعل الآلهة إلها واحدا فافهم
قل تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لا بد من الإعتناء به أمرا وائتمارا هو أي ما أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله تعالى واحدا لا شريك له نبؤا عظيم
67
- خبر ذو فائدة عظيمة جدا لا ريب فيه أصلا أنتم عنه معرضون
68
- متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحسير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة واستظهر بعض الأجلة أن هو للقرآن كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة واستشهد بآخر السورة وقال : إنه يدخل ما ذكر دخولا أوليا واختار كون هذه الجملة استئنافا ناعيا عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما في أول السورة من قوله تعالى : والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى غذ يختصمون
69
- الخ تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضا كذلك وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيدا لإرشاد الطريق وتذكيرا للباقي وتسلقا منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضا طريا وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفا فلا يقال : إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على
(23/220)
أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميما لذلك
وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحيا من عند الله تعالى متلازمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو ما صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى قل فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روي عن ابن عباس ومن معه وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى عم يتساءلون عن النبأ العظيم وقيل : ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم السلام وقيل : تخاصم أهل النار وعدي العلم بالباء نظرا إلى معنى الإحاطة والملأ الجماعة الأشراف لأنهم يملؤن العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني الأعلى والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى وإذ متعلقة بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة و السلام بحالهم لا بذواتهم والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملأ الأعلى وقت اختصاصهم وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصاصهم لأن علمه صلى الله عليه و سلم غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة عليهم السلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضا وقيل : إذا بدل اشتمال من الملأ أو ظرف لعلم وفيه بحث والإختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عز و جل إذ قال ربك الخ والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتي به لا ستحضاره حكاية للحال وضمير الجمع للملأ وحكى أبو حيان كونه لقريش واستبعده وكأن في يختصمون حينئذ التفاتا من الخطاب في أنتم عنه معرضون إلى الغيبة والإختصام في شأن رسالته صلى الله عليه و سلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم وقوله تعالى : إن يوحى إلي إلا إنما أنا نذير مبين
70
- اعتراض وسط بين إجمال اختصاصهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة و السلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن ومن البين عدم ملابسته صلى الله عليه و سلم بشيء من مباديه المعهودة تعيين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الإخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له فالقائم مقام الفاعل ليوحي إما ضمير عائد إلى المقدر كما أشير إليه سابقا أو ما يعمه وغيره فالمعنى ما يوحى إلي حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلي الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور ألا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة و السلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدا إلى المصدر المفهوم من يوحى أي ما يفعل الإيحاء إلي بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور ألا لأني الخ
وجوز أيضا كون الجار والمجرور نائب الفاعل وإنما على تقدير اللام قال في الكشف : ومعنى الحصر أنه صلى الله عليه و سلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك : لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد
وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقاما مقام الفاعل ومعنى الحصر أني لم أومر بهذا الأمر
(23/221)
وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنا وإما التزاما أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إلى وما ذكر أولا أوفق بحال الإعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيا عن إدراك اللطائف وقرأ أبو جعفر إنما بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلي إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمره عليه الصلاة و السلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفا وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي فتدبر ولا تغفل
وقوله تعالى : إذ قال ربك للملائكة الخ شروع في تفصيل ما أجمل من الإختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من إذ يختصمون بدل كل من كل وجوز كونه بدل بعض وصح إسناد الإختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه إذ قال ربك الخ لأن تكليمه تعالى إياهم كان بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملأ الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الإستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله : أنبئهم بأسمائهم ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملأ الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عز و جل مقاول بالمجاز ولا تقل المخاصم ليون الأمر بالعكس وما يقال : إن قوله تعالى : إذ قال ربك يقتضي أن تكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها والغرض أن تعلم القصة لا مطابقه كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ولا مراد ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضا وأريد هذا المعنى من هذا الإيراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا وجعل الله عز و جل من الملأ الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الإختصام قائما به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عز و جل ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة
وروعي هذا النسق ههنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي وفيه أنه من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الإستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه و سلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله صاحب الكشف وهو حسن بيد أن ما علل به الإختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة وقد علل بعضهم ترك الذكر بالإكتفاء بما في البقرة وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الإكتفاء إحالة عليها قبل نزولها وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلى الله تعالى عليه وسلم عالما بها بواسطة الوحي
(23/222)
وإن لم تكن إذا ذاك نازلة قرآنا فاختصرت ههنا لما ذكر في الكشف اكتفاء بذلك وقال فيه أيضا : وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال أنبؤني بأسماء هؤلاء تبكيتا لهم بما نسبوا إليه من قولهم أتجعل فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردا في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه ما أسمع
وقوله تعالى وإذ قال ربك الخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأنه من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى وهذا أقل تكلفا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضا لا سيما إذا جعل المبكتون الملائكة كلهم وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال إذ قال ربك من إذ يختصمون على وجه بين والإعتراض بأن لو كان بدلا لكان الظاهر إذا قال ربي لقوله ما كان ليس من علم فليس المقام مما يقتضي الإلتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض فالخطاب بلكم نظرا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك ههنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى الله عليه و سلم وهذا على نحو ما يقول : مخاطبك جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول : يوم خلع عليك الخلعة الفلانية ومنه علم أنه ليس من الإلتفات في شيء وإن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى وجوز أن يقال : إن إذ قوله تعالى إذ قال ربك ظرف ليختصمون والمراد بالملأ الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء في مقابلة قوله تعالى إني جاعل في الأرض إلى غير ذلك ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم تفصيل الإختصام مطلقا بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآنا أم لا ويرجع تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضا وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات فقد أخرج الترمذي وصححه والطبراني وغيرهما عن معاذ بن جبل قال : احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما سلم دعا بصورته فقال : على مصافكم ثم التفت إلينا ثم قال : أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت اللية فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فغذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال : يا محمد قلت : لبيك ربي قال : فيم يختصم الملأ الأعلى قلت : لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال : يا محمد قلت : لبيك قال : فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الدرجات والكفارات فقال : ما الدرجات فقلت : إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال : صدقت فما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الإقدام
(23/223)
إلى الجماعات قال : صدقت سل يا محمد فقلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه ولا يخفى أن حمل الإختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشركون له عليه الصلاة و السلام أصلا نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام وجعل هؤلاء إذ في إذ قال منصوبا باذكر مقدرا وكذا كل من قال : إن الإختصام ليس في شأن آدم عليه السلام يجعله كذلك والشهاب الخفاجي قال : الأظهر أي مطلقا تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى إذ يختصمون على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى ربك انتى وفيه شيء لا يخفى
ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مكناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن آدم عليه السلام والرد به حاصل أيضا والمراد في إذ قال ربك للملائكة ما يعم إبليس لأنه إذ ذاك كان مغمورا فيهم ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملأ الأعلى على القول بالإتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جدا قوله سبحانه إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين
71
- وقيل : عبر بذلك إظهارا للإستغراق في المقول له والمراد إني خالق فيما سيأتي وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف والبشر الجسم الكثيف يلاقي ويباشر أو بادي البشر ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف والمراد به آدم عليه السلام وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمإ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة وفي بعض المادة البعيدة ثم إن ما جرى عند وقوع المحكي ليس البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية
فإذا سويته أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه ونفخت فيه من روحي تمثيل لإضافة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليست ثمت نفخ ولا منفوخ أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة التي هي أمريء فقعوا له أمر من وقع وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الإنحناء كما قيل : أي فاسقطوا له ساجدين
72
- تحية له وتكريما فسجد الملائكة أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة كلهم بحيث لم يبق أحد منهم إلا سجد أجمعون
73
- أي بطريق المعية بحيث لم يتأخر أحد منهم عن أحد فكل للإحاطة وأجمع للإجتماع ولا اختصاص لإفادته ذلك بالحالية خلافا لبعضهم وتحقيقه على ما في الكشف أن الإشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والضم والأصل في الإطلاق الخطابي التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا
(23/224)
خفاء في أن الجمع في وقت واحد أكمل أصنافه لكن لما شاع استعماله تأكيدا أقيم مقام كل في إفادة الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة بلفظ آخر لم يكن بد من ملاحظة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء ولو سلم فكل تأكيد الشمول بإخراجه عن الظهور إلى المنصوص و أجمعون تأكيد ذلك التأكيد فيفيد أتم أنواع الإحاطة وهو الإحاطة في وقت واحد واستخرج هذه الفائدة من جعله كإقامة المظهر مقام المضمر لا يلوح وجهه والنقض بقوله سبحانه لأغوينهم أجمعين منشؤه عدم تصور وجه الدلالة وظاهر هذه الآية وآية الحجر أن سجودهم مترتب على ما حكى من الأمر التعليقي وكثير من الآيات الكريمة كالتي في البقرة والأعراف وغيرهما ظاهرة في أنه مترتب على الأمر التنجيزي وقد مر تحقيق ذلك فليراجع
وقوله تعالى : إلا إبليس استثناء متصل لما أنه وإن كان جنيا معدود في زمرة الملائكة موصوف بصفاتهم لا يقوم ولا يقعد إلا معهم فشملته الملائكة تغليبا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو هو استثناء منقطع وقوله تعالى : استكبر على الأول استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الإستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق أنه للإباء والإستكبار وعلى الثاني يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر وتعظم وكان من الكافرين
74
- أي صار منهم باستكباره وتعاظمه على أمر الله تعالى وترك الفاء المؤذنة بالسببية إحالة على فطنة السامع أو لظهور المراد
وكون التعاظم على أمره عز و جل لا سيما الشفاهي موجبا للكفرة لا ينبغي أن يشك فيه على أن هذا الإستكبار كان متضمنا استقباح الأمر وعده جورا ويجوز أن يكون المعنى وكان من الكافرين في علم الله تعالى لعلمه عز و جل أنه سيعصيه ويصدر عنه ما يصدر باختياره وخبث طويته واستعداده قال عز و جل على سبيل الإنكار والتوبيخ يا إبليس ما منك أن تسجد أي من السجود لما خلقت أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف واستدل به على جواز إطلاق ما على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال : إن ما مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق بيدي وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه السلام معتنى بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسما صغيرا انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره ذلك من مزايا الآدمية وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو فارجع البصر كرتين فأريد به لازمه وهو التأكيد وذلك لأن لله تعالى في خلقه أفعالا مختلفة من جعله طينا مخمرا ثم جسما ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من إثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مر وإما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة
والسلف يقولون : اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عز و جل على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره فقد ثبت
(23/225)
في الصحيح أنه سبحانه قال في جواب الملائكة : اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لاأجعل من خلقته بيده كمن قلت له كن فكان
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : خلق الله تعالى أربعا بيده العرش وجنات عدن والقلم وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى : أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له : أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في ما منعك أن تسجد على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل : ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده
وزعم الزمخشري أن خلقت من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث أن إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقا امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقة وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه إلا أن يقدم الإنكار أصلا ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز وأيضا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه وأيضا جعل سجود الملائكة لآدم راجعا إلى محض الإمتثال من غير نظير إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل أتجعل فيها وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة السلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذرا من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذ لا تدل على الأفضلية مطلقا حتى يلزم مذهبه ولعمري أن هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالا لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالا لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعامع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام وقريء بيدي بكسر الدال كمصرخي و بيدي على التوحيد أستكبرت بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق أم كنت من العالين
75
- أو كنت مستحقا للعلو فائقا فيه وقيل المعنى أحدث لك الإستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول باعتبار الإستحقاق وعدمه
(23/226)
وعلى الثاني باعتبار الحدوث والقدوم ولذا قيل كنت من العالين دون أنت من العالين وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمنون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء كلهم لم يؤمروا بالسجود وإنما المأمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكبارا لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيدا أم قتلته
وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل استكبرت بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الإستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله :
بسبع رمينا الجمر أم بثمان
واحتمل أن يكون الكلام إخبالاا وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به قال أنا منه قيل هو جواب عن الإستفهام الأخير يؤدي مؤدي أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الإستكبار سابقا ولاحقا في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل لكونه فائقا إلا أنه لما لم يكن وافيا بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين
76
- أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه ذكر النوعين تنبيها على أن المماثلة كافية فضلا عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر خلقتني وخلقته دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انظم إليها خيرية المادة وفيه تنبيه على أن الآهر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر واستلطفه صاحب الكشف ثم قال : ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق وجعل غير واحد قوله أنا خير منه جوابا أولا وبالذات عن الإستفهام بقوله تعالى : ما منعك أن تسجد بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه وقوله خلقتني الخ تعليلا لدعوى الخيرية
وأيا ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضا وفضل آدم عليه السلام في ذلك لا يخفى وكأن خطأه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى : قال فاخرج منها والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها
وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم أنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطنا ومسكنا ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم في السوق أو غيره في دار : أخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل : إن المحاورة لم تكن في الجنة وقيل : منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحسن بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيرا من العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية بناء على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام كانت في الأرض وقيل : أخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين وكان عليه اللعنة يفتخر
(23/227)
بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا
وقوله تعالى فأنك رجيم
77
- تعليل للأمر بالخروج أي مطرود من كل خير وكرامة فالرجم كناية عن الطرد لأن المطرود يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب كذا قالوا : وقد يقال : المراد برجيم ذليل فإن الرجم يستدعي الذلة وهو أبعد من توهم التكرار مع الجملة بعد من الوجه الأول وأوفق لما في الأعراف من قوله تعالى : فاخرج إنك من الصاغرين وإن عليك لعنتي أي إبعادي عن الرحمة وفي الحجر اللعنة فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضا عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضا من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته إلى يوم الدين
78
- يوم الجزاء والعقوبة وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم لكن لا على أنها تنقطع يومئذ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى : فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين وقوله تعالى ك ويلعن يعضكم بعضا قال رب فانظرني أي أمهلني وأخرني والفاء متعلقة بمحذوف ينسحب عليه الكلام كأنه قال : إذا جعلتني رجيما فأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون
79
- أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثاره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفا بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال ويمكن أن يكون قد عرفه عقلا حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لا بد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء
قال فإنك من المنظرين
80
- ورود الجواب بالجملة الإسمية مع التعرض لشموله ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت غذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليةم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين إلى يوم الوقت المعلوم
81
- الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤل فالفاء ليست لربط نفس الأنظار بالإستنظار بل لربط الأخبار المؤكد به كما في قوله تعالى إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل وقول الشافعي :
فإن ترحم فأنت لذلك أهل
قال فبعزتك قسم بسلطان الله تعالى عز و جل وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار أي فأقسم بعزتك لأغوينهم أجمعين
82
- أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم إلا عبادك منهم المخلصين
83
- وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية وقريء المخلصين على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى
(23/228)
قال أي الله عز و جل فالحق والحق أقول
84
- برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق والفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي لأملأن جهنم على أن الحق إما غسمه تعالى او نقيض الباطل عظمه الله تعالى بأقسامه به ورجح بحديث إعادة الاسم معرفة أو فأنا الحق أو فقولي الحق وقوله تعالى لأملأن الخ حينئذ جواب لقسم محذوف أي والله لأملأن الخ وقوله تعالى والحق أقول على تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعني فقولي الحق
وقول فالحق مبتدأ خبره لأملأن لأن المعنى أن أملأ ليس بشيء أصلا وقرأ الجمهور فالحق والحق بنصبهما وخرج على أن الثاني مفعول مقدم كما تقدم والأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كما في بيت الكتاب إن عليك الله أن تبايعا تؤخذ كرها أو تجيء طائعا وقولك : الله لأفعلن وجوابه لأملأن وما بينهما اعتراض وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق و لأملأن جواب قسم محذوف وقال الفراء : هو على معنى قولك حقا لآتينك ووجود أل وطرحها سواء أي لأملأن جهنم حقا فهو عنده نصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ولا يخفى أن هذا المصدر لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة وأنه مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدان جمودا محضا وقال صاحب البسيط : وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ يكون ضميرا نحو هو زيد معروفا وهو الحق بينا وأنا الأمير مفتخرا ويكون ظاهرا نحو زيد أبوك عطوفا وأخوك زيد معروفا أه فكأن الفراء لا يشترط في ذلك ما يشترطون
وقرأ ابن عباس ومجاهد والأعمش بالرفع فيهما وخرج رفع الأول على ما مر ورفع الثاني على أنه مبتدا والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر وكل وعد الله الحسنى وقول أبي النجم : قد أصبحت أم الخيار تدعى علي ذنبا كله لم أصنع برفع كل ليتأتى السلب الكلي المقصود للشاعر وقرأ الحسن وعيسى وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر بجرهما وخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة أي فو الحق والثاني مجرور بالعطف عليه كما تقول : والله والله لأقومن و أقول اعتراض بين القسم وجوابه وجعله الزمخشري مفعولا مقدما لأقول والجر على حكاية لفظ المقسم به قال : ومعناه التوكيد والتشديد إفادته ذلك زيادة على ما يفيده أصل الإعتراض لأن العدول عما يقتضيه من الإعراب إلى الحكاية لما كان لاستبقاء الصورة الأولى دل على أنها من العناية في شأنها بمكان وهذا جار في كل حكاية من دون فعل قول وما يقوم مقامه فيدل فيما نحن فيه على فضل عناية بشأن القسم ويفيد التشديد والتوكيد وقريء بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية منك أي من جنسك من الشياطين وممن تبعك في الغواية والضلالة منهم من ذرية آدم عليه السلام أجمعين
85
- توكيد للضمير في منك والضمير المجرور بمن الثانية والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدا أو توكيد للتابعين فحسب والمعنى لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم وتأكيد التابعين دون المتبوعين لما
(23/229)
أن حال إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الأنبياء فما بال المتبوعين وقال صاحب الكشف : صاحب هذا القول أعتبر القرب وأن الكلام بين الحق تعالى شأنه وبين الملعون في شأن التابعين فأكد ما هو المقصود وترك توكيد الآخر للإكتفاء هذا واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون فيها في موضعين مثلا لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظا رعاية للتفنن وقد يحمل الإختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلا : إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة بقوله تعالى : قال فبعزتك وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عز و جل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة الأعراف بقوله تعالى : قال فبما أغويتني وقد يحمل الإختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله انظرني إلى يوم يبعثون ومن قوله تعالى : إنك من المنظرين في الأعراف مع ذكرها فيها في والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده واما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاء المقام ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عنه نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلا حيث أن مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع قل ما أسألكم عليه أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل من أجر أي أجرا دنيويا جل أو قل وما أنا من المتكلفين
86
- من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصفا ولا مدعيا ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلى الله عليه و سلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للإستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة و السلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف
وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أنبئكم بأهل الجنة قلنا : بلى يا رسول الله قال : هم الرحماء بينهم قال : ألا أنبئكم بأهل النار قلنا : بلى قال : هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال : أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه و سلم : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو أي ما هو أي القرآهن إلا ذكر جليل الشأن من الله تعالى للعالمين
87
- للثقلين كافة ولتعلمن نبأه أي ما أنبأه من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق بعد حين
88
- قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة وقال قتادة والفراء والزجاج : بعد الموت وكان الحسن يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي وأيا ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى
(23/230)
هذا ومما قاله بعض السادة الصوفية في بعض الآيات قالوا في قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب أنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دواك له علم بالله عز و جل ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجا عنها من جنسها وقال : ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها وحكى عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول : إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان
وقيل : في قوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل جدا بالنسبة إلى الآخرين يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض نقل الشعراني أن خلافته عليه السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقاما معلوما عينه له ربه سبحانه وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة وحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفه وهو كفر صراح وفرق العلماء بين الخليفة والملك
أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال : حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة والزبير وكعبا وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك فقال طلحة والزبير : ما ندري فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب : ما كنت أحسب أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى : فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام
وقوله تعالى فطفق مسحا بالسوق والأعناق فيه إشارة بناء على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه وما قيل فيه قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه عز و جل وليس فيه ما يخل بكماله عليه السلام وإلا لعوتب عليه وقد تقدم الكلام في ذلك ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلا عن الخواص قال : بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام قالت : يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه فأعطاها الأمان فأسرت إليه في أذنه وقالت : إني أشم من قولك هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي رائحة الحسد فتغير سليمان واغ لونه ثم قالت له : قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعد فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطي أحدا بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول هب لي وغاب عنك أنك عبد له لا يصح
(23/231)
أن تملك معه شيئا مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له وكفى بذلك جهلا ثم قالت له : يا سليمان وماذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه فقال : خاتمي قالت : أف لكلك يحويه خاتم انتهى ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضا لا تخفى على الخواص والعجب من أنها خفيت على الخواص وقوله تعالى يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي يشير إلى فضل آدم عليه السلام وأنه أكمل المظاهر واليدان عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسئلة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال : الذي ذهب إليه جماعة الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يقال أيما أفضل الياقوت أم الحلة ثم قال : والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الإخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك فهو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع أرواح تدبر أجسادا نورية وهم الملأ الأعلى وأرواح تدبر أجسادا نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجسادا ترابية وهم البشر فالأرواح جميعها ملائكة حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقا قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام ثم إن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه و سلم وشرف وعظم وكرم
سورة الزمر
وتسمى الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى لهم غرف منها فوقها غرف أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة وحشى قاتل حمزة قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى ثلاث آيات وزاد بعضهم قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم الآية ذكره السخاوي في جمال القراءة وحكاه أبو حيان عن مقاتل وزاد بعض الله نزل أحسن الحديث حكاه ابن الجوزي والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء الله نزل أحسن الحديث وقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا الخ وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه قل يا عبادي الذين أسرفوا إلى آخر السبع وأيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الإختلاف في مجمع البيان وغيره ووجه اتصال أولها بآخر صاد أنه قال سبحانه هناك : إن هو إلا ذكر للعالمين وقال جل شأنه هنا تنزيل الكتاب من الله وفي ذلك كمال الإلتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه القصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة
(23/232)
والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه : وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل
بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب قال الفراء والزجاج : هو مبتدأ وقوله تعالى : من الله العزيز الحكيم
1
- خبره مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل و من الله متعلق بتنزيل والوجه الأول أوجه كما في الكشف والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكرا للعالمين أو لقوله تعالى لتعلمن نبأه بعد حين والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها و تنزيل بمعنى منزل أو قصد به المبالغة وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائدا على الذكر في إن هو إلا ذكر وجعل الجملة مستأنفة اسئنافا بيانيا كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن وفي تنزيل الإحتمالان وجوز على احتمال كونه خبر مبتدا محذوف كون من الله خبرا ثانيا وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالا من الكتاب وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالا من الضمير المستتر في تنزيل على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالا من تنزيل نفسه والعامل فيه معنى الإشارة وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفا ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق : وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلا لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفا وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى تنزيل بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة وقوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق بيان لكونه نازلا بالحق وتوطئة لما يذكر بعد وفي إرشاد العقل السليم أنه شروع في بيان المنزل إليه وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى وإيا ما كان لا يتكرر مع ما تقدم نعم كان الظاهر على تقدير كون المراد بالكتاب هناك القرآن الإتيان بضميره ههنا إلا أنه أظهر قصد إلى تعظيمه ومزيد الإعتناء بشأنه
وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن الكتاب الأول عام لجميع ما تنزل من عند الله تعالى والكتاب الثاني خاص بالقرآن فكأنه أخبر مجردا أن الكتب الهادية الشارعة تنزيلها من الله عز و جل وجعله توطئة لقوله سبحانه إنا أنزلنا إليك الكتاب أه وهو كما ترى والباء متعلقة بالإنزال وهي للسببية أي أنزلناه بسبب الحق أي إثباته وإظهاره أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهي للملابسة أي أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما وجوز كون المحذوف حالا من الفاعل أي أنزلناه ملتبسين بالحق أي محققين في ذلك والفاء في قوله تعالى : فاعبد الله مخلصا له الدين
2
- لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة و السلام بالحق أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما
(23/233)
بين تضاعيف ما أنزل إليك والعدول إلى الاسم الجليل مما يلائم هذا الأمر أتم ملائمة وقرأ ابن أبي عبلة الدين بالرفع كما رواه الثقاة فلا عبرة بإنكار الزجاج وخرج ذلك الفراء على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم للإختصاص أو لتأكيده واعترض بأنه يتكرر مع قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص وأجيب بأن الجملة الأولى استئناف وقع تعليلا للأمر بإخلاص العبادة وهذه الجملة تأكيد لاختصاص الدين به تعالى أي ألا هو سبحانه الذي يجب أن يخص بإخلاص الدين له تعالى لأنه المتفرد بصفات الألوهية التي من جملتها الإطلاع على السرائر والضمائر وهي على قراءة الجمهور استئناف مقرر لما قبله من الأمر بإخلاص الدين له عز و جل ووجوب الإمتثال به وفي الإتيان بإلا وأسمية الجملة وإظهار الجلالة والدين ووصفه بالخالص والتقديم المفيد للإختصاص مع اللام الموضوعة له عند بعض ما لا يخفى من الدلالة على الإعتناء بالدين الذي هنو أساس كل خير قيل ومن هنا يعلم أنه لا بأس بجعل الجملة تأكيدا للجملة قبلها على القراءة الأخيرة وإليه ذهب صاحب التقريب وقال : بتغاير دلالتي الجملتين إجمالا وتفصيلا ورد بذلك زعم إباء هذه الجملة صحة تخريج الفراء
والحق أنه تخريج لا يعول عليه ففي الكشف لما كان قوله تعالى : لله الدين الخالص بمنزلة التعليل لقوله سبحانه : فاعبد الله مخلصا كان الأصل أن يقال فلله الدين الخالص ثم ترك إلى ألا لله الدين الخالص مبالغة لما عرفت من أنه أقوى الوصلين ثم صدر بحرف التنبيه زيادة على زيادة وتحقيقا بأن غير الخالص كالعدم فلو قدر الإستئناف التعليلي أولا من دون الوصف المطلوب الذي هو الأصل في العلة ومن دون حرف التنبيه للفائدة المذكورة كان كلاما متنافرا ويلزم التنافر من وصف الدين بالخلوص ثانيا لدلالته على العي في الأول إذ ليس فيه ما يرشد إلى هذا الوصف حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل وأما جعله تأكيدا فلا وجه له للوصف المذكور ولأن حرف التنبيه لا يحسن موقعها حينئذ فإنها يؤتى بها في ابتداء الإستئناف المضاد لقصد التأكيد أه
ونص العلامة الثاني أيضا على أن كون الجملة الثانية تأكيدا للأولى فاسد عند من له معرفة بأساليب الكلام وصياغات المعاني ففيهما ما ينبو عنه مقام التأكيد ولا يكاد يقترن به المؤكد لكن في قول صاحب الكشف : ليس في الأول ما يرشد إلى وصف الخلوص حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل بحثا إذ لقائل أن يقول : إن له الدين على معنى له الدين الكامل ومن المعلوم أن كمال الدين بكونه خالصا فيكون في الأول ما يرشد إلى هذا الوصف نعم وهن ذلك التخريج على حاله قبل هذا البحث أم لم يقبل
وقال أبو حيان : الدين مرفوع على أنه فاعل بمخلصا الواقع حالا والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين أي الدين منك أو تكون أل عوضا من الضمير أي دينك وعليه يكون وصف الدين بالإخلاص وهو وصف صاحبه من باب الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر وفي الآية دلالة على شرف الإخلاص بالعبادة وكم من آية تدل على ذلك
وأخرج ابن مردوية عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال : يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل لنا من أجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا قال : يا رسول الله إنا نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص له ثم تلا رسول الله عليه الصلاة و السلام
(23/234)
هذه الآية ألا لله الدين الخالص ويؤيد هذا أن المراد بالدين في الآية الطاعة لا كما روي عن قتادة من أنه شهادة أن لا إله إلا الله وعن الحسن من أنه الإسلام وقوله تعالى : والذين اتخذوا من دونه أولياء الخ تحقيق لحقية التوحيد ببطلان الشرك ليعلم منه حقية الإخلاص وبطلان تركه وفيه من ترغيب المخلصين وترهيب غيرهم ما لا يخفى والموصول عبارة عن المشركين من قريش وغيرهم كما روي عن مجاهد وأخرج جويبر عن ابن عباس أن الآية نزلت في ثلاثة أحياء عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون : الملائكة بنات الله تعالى فالموصول إما عبارة عنهم أو عبارة عما يعمهم وأضرابهم من عبدة غير الله سبحانه وهو الظاهر فيكون الأولياء عبارة عن كل معبود باطل كالملائكة وعيسى عليهم السلام والأصنام ومحل الموصول رفع على الإبتداء خبره الجملة الآتية المصدرة بأن وقوله تعالى : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى حال بتقدير القول من واو اتخذوا مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم أي اتخذوا قائلين ذلك وجوز أن يكون القول المقدر قالوا ويكون بدلا من اتخذوا وأن يكون المقدر ذلك ويكون هو الخبر للموصول والجملة الآتية استئناف بياني كأنه قيل بعد حكاية ما ذكر : فما يفعل الله تعالى بهم فقيل إن الله يحكم بينهم الخ والوجه الأول هو المنساق إلى الذهن نعم قرأ عبد الله وابن عباس ومجاهد وابن جبير قالوا : ما نعبدهم الآية لكن لا يتعين فيه البدلية أو الخبرية وقد اعترض البدلية صاحب الكشف بأن المقام ليس مقام الإبدال إذ ليس فيه إعادة الحكم لكون الأول غير واف بالغرض اعتناء بشأنه لا سيما وحذف البدل ضعيف بل ينافي الغرض من الإتيان به والإستثناء مفرغ من أعم العلل و زلفى مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره سبحانه قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا
وقريء نعبدهم بضم النون اتباعا لحركة الباء إن الله تعالىت يحكم بينهم أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله على أحد الوجهين أي بين أحد منهم وبين غيره وعليه قوله النابغة : فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل أي بين الخير وبيني وقيل الضمير للفريقين المتخذين والمتخذين وكذا الكلام في ضميري الجمع في قوله تعالى فما هم فيه يختلفون والمعنى على الأول أنه تعالى يفصل الخصومة بين المشركين والمخلصين فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك وادعى كل صحة ما اتصف به بإدخال المخلصين الموحدين الجنة وإدخال المشركين النار أو يميزهم تمييزا يعلم منه حال ما تنازعوا فيه بذلك والمعنى على الثاني أنه تعالى يحكم بين العابدين والمعبودين فيما يختلفون حيث يرجو العابدون شفاعتهم وهم يتبرؤن منهم ويلعنونهم قالا أو حالا بإدخال من له أهلية دخول الجنة من المعبودين الجنة وإدخال العابدين ومن ليس له أهلية دخول الجنة ممن عبد كالأصنام النار وإدخال الأصنام النار ليس لتعذيبها بل لتعذيب عبدتها بها وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يضعفه
وأجاز الزمخشري كون الموصول السابق عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من
(23/235)
غير ذكر تعويلا على دلالة السياق عليهم ويكون التقدير والذين أتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله زلفى إن الله يحكم بينهم وبين عبدتهم فيما الفريقان فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنوهم بإدخال ما هو منهم أهل للجنة الجنة وإدخال العبدة مع أصنامهم النار وتعقب بأنه بعد الأغضاء عما فيه من التعسفات بمعزل من السداد كيف لا وليس فيما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل فإنما ذاك ما بين فريقي الموحدين والمشركين في الدنيا من الإختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة فتدبر ولا تغفل
وقريء ما نعبدكم إلا لتقربونا حكاية لما خاطبوا به آلهتهم إن الله لا يهدي أي لا يوافق للإهتداء الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب من هو كاذب كفار
3
- في حد ذاته وموجب شيء استعداده لأنه غير قابل للإهتداء والله عز و جل لا يفيض على القوابل إلا حسب القابليات كما يشير إليه قوله سبحانه : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقوله تعالى : قل كل يعمل على شاكلته وقوله عز و جل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وهذا هو الذي حتم عليه جل شأنه ليسيء استعداده بالموافاة على الضلال قاله بعض الأجلة وقال الطبرس : لا يهدي إلى الجنة أي يوم القيامة من هو كاذب كفار في الدنيا
وقال ابن عطية : المراد لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره وهذا ليس بشيء أصلا والمراد بمن هو كاذب كفار قيل من يعم أولئك المحدث عنهم وغيرهم وقيل : أولئك المحدث عنهم وكذبهم في دعواهم استحقاق غير الله تعالىت للعبادة أو قولهم في بعض من اتخذوهم أولياء من دون الله إنهم بنات الله سبحانه أو أن المتخذ ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا فمن هو كاذب من الظاهر الذي أقيم المضمر على معنى أن الله تعالى لا يهديهم أي المتخذين تسجيلا عليهم بالكذب والكفر وجعل تمهيدا لما بعده وقال بعضهم : الجملة تعليل للحكم
وقرأ أنس بن مالك والجحدري والحسن والأعرج وابن يعمر كذاب كفار وقرأ زيد بن علي كذوب كفور وحملوا الكاذب هنا على الراسخ في الكذب لهاتين القرائتين وكذا حملوا الكفر على كفر النعم دون الكفر في الإعتقاد لقراءة زيد وذكر الإمام فيه احتمالين
لو أراد الله أن يتخد ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا وحاصل المعنى لو أراد الله سصبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الإتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض
وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الإتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وإنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة ويجوز أن يكون المراد لو أراد الله أن يتخذ لامتنع ولم يصح لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب لو لم يخف الله لم يعصه فلا ينفي الثاني إذ ذاك ولا يحتاج إلى بيان الملازمة وإذا امتنع ذلك فالممكن الإصطفاء وقد اصطفى سبحانه من
(23/236)
مخلوقاته من شاء كالملائكة وعيسى وذهب عليكم أن الإصطفاء ليس باتخاذ والجواب على هذا الوجه أيضا محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة وإنما لم يجعل لاصطفى هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى من طريق الأولى وحينئذ يكون إثبات الإصطفاء هو المطلوب من الإيراد كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب وليس الكلام فيه وعلى الوجهين هو من أسلوب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتاب وجوز أن يكون المعنى في الآية لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لجعل المخلوق ولدا إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى والتالي محال للمبالغة التامة بين المخلوق والخالق والولدية تأبى تلك المباينة فالمقدم مثله ويكون قوله تعالى لاصطفى مما يخلق ما يشاء على معنى لاتخذه ابنا على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها وقوله تعالى سبحانه تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه أي تنزهه الخالص تعالى أن سبحانه مصدر من سبح إذا بعد أو أسبحه تسبيحا لائقا لأنه علم للتسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحا لائقا بشأنه جل شأنه وقوله تعالى : هو الله الواحد القهار
4
- استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضا فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضا وانفصال شيء من شيء وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والإنفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواص الكلم وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الإتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه وأبي هاشم وهي المشاركة في أخص صفات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين كل من وجه ولعل مراده نحو ما مر على الماتريدي والأفمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاد المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية وأن التماثل يقتضي التعدد وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل وفيه بحث طويل وكلام غير قليل وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والإنفصال لاستلزامها التركب الخارجي والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى ودليلها أظهر من أن يذكر وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد وقرر ذلك على أوجه فقيل وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى وهو يقتضي التجرد عن المادة وتولد الولد عن الشيء يقتضيها وقيل إن القهارية تقتضي كمال الغنى وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة وإعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية واتخاذ الولد لما فيه من الإنفصال والمثلية مخل بتلك البساطة فيخل بالغنى فيخل بالقهارية وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه هو الغني وقيل : إن اتخاذ الولد
(23/237)
يقتضي انفصال شيء عنه تعالى وذلك يقتضي أن يكون متأثرا مقهورا لا مؤثرا قهارا تعالى عن ذلك علوا كبيرا فحيث كان جل وعلا قهارا كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له عو وجل ولد وقيل : إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهورا إذ المزيل قاهر له ولذا قيل سبحانه من قهر العباد بالموت
والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد وهذا مع كونه إلزاميا لا يخلو عن بحث كما لا يخفى
والزمخشري جعل قوله تعالى سبحانه هو الله الخ متصلا بقوله عز و جل والذين اتخذوا من دونه أولياء الخ على أنه مقرر نفي أن يكون له تعالى ولي ونفي أن يكون له ولد ولعل بيان ذلك لا يخفى فتدبر
وقوله سبحانه خلق السماوات والأرض بالحق إثبات لما ذكر أولا من الوحدة والقهر وفيه أيضا ما ستعمله إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهد ملتبسا بالحق والصواب مشتملا على الحكم والمصالح
وقوله تعالى يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية والتكوير في الأصل هو اللف واللي من كار العمامة على رأسه وكورها والمراد على ما روي عن قتادة يغشى أحدهما الآخر وهو على ما قيل على معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا وبالعكس فالمغشي حقيقة المكان ويجوز أن يكون المغشي الليل والنهار على الإستعارة ويكون المكان ظرفا والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشيا للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به
وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطا على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور
وجوز أن يكون المراد واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضا كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا لا بأس به فإن كل لية تسمى كورا حقيقة
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يحمل بعض أجزاء الليل نهارا فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل ويقصر النهار
وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل في قول وذكر الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا وإنها يحتمل أن يكون فيها الإستعارة التبعية والمكنية
(23/238)
والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالإعتبار وأيا ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد
وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين لأمره عز و جل كل يجري لأجل مسمى بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته وقد مر تمام الكلام عليه وفيه دليل على أن الشمس متحركة وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الأيام أنه ظهر في الأفرنج منذ سنتين تقريبا من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمسن إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق ولي عزم تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركا على محور الإنصاف ساكتا على سلوك مسالك الإعتساف والله تعالى الموفق لذلك
ألا هو العزيز القادر على عقاب المصرين الغفار
5
- لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعالجهم بالعقوبة وهو سبحانه يحلم عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الإستعارة للمناسبة بينهما في الترك
وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل والأول أبلغ وأحسن وهذان الوجهان في العزيز الغفار قد ذكرهما الزمخشري وظن بعضهم أن الداعي للأول رعاية مذهب الإعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال : العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعالج بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة ففي الكشف أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق من وجهين أحدهما ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضى لعقاب المصر وغفران ذنوب التائب وثانيهما أن قوله تعالى : خلق السماوات الخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفيا للولد بل حسما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولا من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل بالحق كما قيل هنالك إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق وأدمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بإلا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير على خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة وإنما أفرد مخالفىة الدين بالذكر صريحا في قوله تعالى : والذين اتخذوا الخ تحذيرا من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلا للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه :
(23/239)
ألا لله الدين الخالص على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه : من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى : ألا هو العزيز الغفار للتوكيد المذكور وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول أه والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير وقوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة الخ دليل آخر على الوحدة والقهر
وترك عطفه على خلق السماوات للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل : وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر والمراد بالنفس آدم عليه السلام وقوله تعالى : ثم جعل منها زوجها أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها أو على واحدة لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى : فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ويعتبر ماضيا لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على خلقكم لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه وقيل إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه السلام من ظهره كالذر ثم خلق منه حواء فالمراد بخلقهم منه إخراجهم من ظهره كالذر فالعطف على خلقكم وثم على ظاهرها وهذا لا يقبل إلا إذا صح مرفوعا أو في حكمه وقد تضمنت الآية ثلاث آيات خلق آدم عليه السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه وخلق ذريته التي لا يحصى عددها إلا الله عز و جل وقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج استدلال بنوع آخر من العالم السفلي والإنزال مجاز عن القضاء والقسمة فإنه تعالى إذا قضى وقسم أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ونزلت به الملائكة الموكلة بإظهاره ووصفه بالنزول مع أنه معنى شائع متعارف كالحقيقة والعلاقة بين الإنزال والقضاء الظهور بعد الخفاء ففي الكلام استعارة تبعية وجوز أن يكون فيه مجاز مرسل ويجوز أن يكون التجوز في نسبة الإنزال إلى الأنعام والمنزل حقيقة أسباب حياتها كالأمطار ووجه ذلك الملابسة بينهما وقيل يراد بالأزواج أسباب تعيشها أو يجعل الإنزال مجازا عن إحداث ذلك بأسباب سماوية وهو كما ترى وقيل الكلام على ظاهره والله تعالى خلق الأنعام في الجنة ثم أنزلها منها ولا أرى لهذا الخبر صحة والأنعام الإبل والبقر والضأن والمعز وكانت ثمانية أزواج لأن كلا منها ذكر وأنثى وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الإعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر وقوله تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم بيان لكيفية خلق من ذكر من الأناسي والأنعام إظهارا لما فيه من عجائب القدرة وفيه تغليبان تغليب أولي العقل على غيرهم وتغليب الخطاب
(23/240)
على الغيبة كذا قيل والأظهر أن الخطاب خاص وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد وقوله تعالى : خلقا من بعد خلق مصدر مؤكد أن تعلق من بعد بالفعل وإلا فغير مؤكد يخلقكم فيها خلقا مدرجا حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة فقوله سبحانه : خلقنا من بعد خلق لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين وقرأ عيسى وطلحة يخلقكم بإدغام القاف في الكاف في ظلمات ثلاث ظلمة البطن والرحم والمشيمة وقيل ظلمة الصلب والبطن والرحم والجار والمجرور متعلق بيخلقكم وجوز الشهاب تعلقه بخلقا بناء علىأنه غير مؤكد وكونه بدلا من قوله تعالى : في بطون أمهاتكم ذلكم الله ربكم إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة على وجه يدل على بعد منزلته العظيمة والكبرياء واسم الإشارىة مبتدأ والاسم الجليل خبره و ربكم خبر بعد خبر أو الاسم الجليل نعت أو بدل وهو الخبر أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه له الملك على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره تعالى شركة ما في ذلك بوجه من الوجوه والجملة خبر آخر وقوله تعالى : لا إله إلا هو جملة متفرعة على ما قبلها ولم يصرح معها بالفاء التفريعية اعتمادا على فهم السامع وفي إرشاد العقل السليم أنه خبر آخر والفاء في قوله تعالى : فإنى تصرفون
6
- لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شؤنه عز و جل أي فكيف تصوفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها
إن تكفروا به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشمر فإن الله غني عنكم أي فأخبركم أنه عز و جل غني عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما ولا يرضى لعباده الكفر لما فيه من الضرر عليهم وإن تشكروا يرضه أي الشكر لكم لما فيه من نفعكم ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال : عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي والرضا إما بمعنى المحبة أو بمعنى الإرادة مع ترك الإعتراض ويقابله السخط كما في شرح المسايرة فعباده على ظاهره من العموم ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولون قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه الأصول والضوابط وابن الهمام عن الأشعري وإمام الحرمين كذا قاله الخفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جدا ما نصه مسئلة مذهب أهل الحق الإيماء بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جل وعلا وهل يقال إنه تعالى يرضى المعاضي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره وقال إمام الحرمين في الإرشاد : مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر ومن حقق من أءتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة
(23/241)
بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد قال : والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفا لهم كما في قوله تعالى يشرب بها عباد الله أي خواصهم لا كلهم أه فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي وحكى تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس
وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضهم قوله تعالى لا تدركه الأبصار على قول ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه فإذا قلت : رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وفي مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت : رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت : سخطت عليه بإساءته تعين السببية فكان الأصل ههنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الإستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف وإذا قيل : رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ تقول : رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عز و جل ربا وقاضيا وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك : رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على كله مرضي بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك : رضيت إمارة فلان والأول أكثر استعمالا وهو على نحو قولهم : حمدت زيدا وحمدت علمه وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريبا وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة في المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصوله ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت : رضيت لك التجارة فالراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة ههنا بين الواقع على الفعل والداخل عليه اللام ثم قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملائمة وقد لا يرضى وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا عن الإستحماد لأن كل مرضي محمود أو لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أراد الإستحماد وأن مثل قوله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه إمام من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور وأن مثل قوله سبحانه رضيت لكم الإسلام دينا متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة أيضا فإذن قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الإسلام لهم ويرتضيه وأما أنه لا يريد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وإن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق الطعن وأن قول المحققين
(23/242)
رضي الله تعالى عنهم : إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم
والزمخشري عامله الله تعالى بعد له فسر الرضا في نحوه بالإختيار وهو لا ينفك عن الإرادة وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول : لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد الباطل إكمال للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى إن تكفروا إلى قوله سبحانه يرضه لكم تنبيها على الغنى الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل يرضه لكم للتنبيه على مزيد الإختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحار دون إدراك طائفة من لطائفة الفكر البشري والله تعالى أعلم أه وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلاأنه ربما يقال إنه : لا يتمشى على مذهب السلف حيث أنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أن ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروى الأمام ويبريء السقام فنقول عدم التأول لا يضمر فيما نحن بصدده فالرضا أن أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر السابق وممن صرح بذلك ابن عطية قال : تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا
وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضا إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عز و جل فقال : هب أن المصر على المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين أليس يدعى أو يدعى له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة إلا جادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقا أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلا واستقر باتفال الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء وجعل وقوع الشركر شرطا ومجزيا واللازم من ذلك عقلا تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فغذا تبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلا ونقلا تعين المحمل الصحيح له وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضي عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وإن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضي عنه ولا يشك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجزي الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة وانتظم
(23/243)
ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة عقلا ومثل هذا يقال في قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر أي لا يجازي الكافر مجازاة المرضي عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة انتهى
لا يقال : حيث كان قوله تعالى فإن الله غنبي عنكم جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى يرضه لكم بذلك الإعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخرا لأنا نقول : مثل هذا الإعتبار شائع في الجملة الإسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو وإن يصبك بخير فهو على كل شيء قدير وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الإعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى ثم أنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة افرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية وذكر أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضي له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي يرضه بإشباع ضمة الهاء والقاعدة في إشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وههنا قبلها ساكن تقديرا وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكما لم تشبع كما في قراءة ابن عامر وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبع وتختلس في غير ذلك وقد يحسن إشباعها مع فقد الشرط لنكتة وقرأ أبو بكر يرضه بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال : هو غلظ لا يجوز وفيه أنه لغة لبني كلام وبني عقيل إجراء للوصل مجرى الوقف
ولا تزر وازرة وزر أخرى بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى ثم إلى ريكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون أنه عليم بذات الصدور
7
- فتذكر
وإذا مس الإنسان ضر من مرض وغيره من المكاره دعا ربه منيبا إليه راجعا ممن كان يدعوه في حالة الرخاء من دون الله عز و جل لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى إن الإنسان لظلوم كفار واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر وقيل : هو معين كعتبة بن ربيعة ثم إذا خوله نعمة منه أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه من الخول بفتحتين وهو تعهد الشيء أي الرجوع إليه مرة بعد أخرى وأطلق على العطاء لما أن المعطي الكريم يتعهد من هو ربيب إحسانه ونشو امتنانه بتكرير العطاء عليه مرة بعد أخرى وقال بعضهم : معنى خوله في الأصل أعطاه خولا لا بفتحتين أي عبيدا وخدما أو أعطاه ما يحتاج إلى تعهده والقيام عليه ثم عمم لمطلق العطاء وجوز الزمخشري كونه من خال يخول خولا لا بسكون الواو إذا افتخر واعترض بأنه صرح في الصحاح أن خال بمعنى افتخر يأتي والخيلاء بمعنى التكبر يدل عليه دلالة بينة وأيضا خول متعد إلى مفعولين وأخذه منه لا يقتضي أن يتعدى للمفعول الثاني
وأجيب عن الأول بأن الزمخشري من أئمة النقل وقد ثبت عنده وأصله من الخال الذي هو العلامة وقد نقل
(23/244)
فيه الواو والياء ثم قيل لسيما الجمال والخير خال من ذلك وأخذ منه الخيال وأما الإختيال بمعنى التكبر فهو مأخوذ من الخيال لأنه خال نفسه فوق قدره أو جعل لنفسه هخال كما يقال : أعجب الرجل فقد وضح أن الإشتقاق يناسبهما ولا ينكر ثبوت الياء بدليل الخيلاء لكن لا مانع من ثبوت الياء أيضا وليس الإختيال مأخوذا من الخيلاء بل الخيلاء هو الاسم منه فلا يصلح مانعا لكن يصلح مثبتا للياء وعن الثاني بأنه ليس المراد أن خول مضعف خال بمعنى افتخر حتى يشكل تعديه للمفعول الثاني بل أنه موضوع في اللغة لمعنى أعطي وما ذكر بيان لما أخذ اشتقاقه وأصل معناه الملاحظ في وضعه له ومثله كثير فاصل خوله جعله مفتخرا بما أنعم عليه ثم قطع النظر عنه وصار بمعنى أعطاء مطلقا نسي ما كان يدعوا إليه أي نسي الضر الذي كان يدعو الله تعالى إلى إزالته وكشفه من قبل التخويل فما واقعة على الضر ودعا من الدعوة وهو يتعدى بإلى يقال دعا المؤذن الناس إلى الصلاة ودعا فلان الناس إلى مأدبته والدعوة مجاز عن الدعاء والمعنى على اعتبار المضاف كما أشير إليه ويجوز أن يراد بما معنى من الدلالة على الوصفية والتفخيم واقعا عليه تعالى كما في قوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى وقوله سبحانه ولا أنتم عابدون ما أعبد والدعاء على ظاهره وتعديته بإلى لتضمينه معنى الإنابة أو التضرع والإبتهال والمعنى نسي ربه الذي كان يدعو منيبا أو متضرعا إليه وهو وجه لا بأس به وما قيل من أنه تكلف إذا لا يقال دعا إليه بمعنى دعاه ولا حاجة إلى جعل ما بمعنى من مردود لحسن موقع التضمين واستعمال ما في التفخيم وفي الإرشاد أن في ذلك الجعل إيذانا بأن نسيانه بلغ إلى خيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلا من أن يعرفه من هو وقيل : ما مصدرية أي نسي كونه يدعو وقيل : هي نافية وتم الكلام عند قوله تعالى نسي أي نسى ما كان فيه من الضر ثم نفي أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله تعالى من قبل أي من قبل الضر ولا يخفى ما فيه وجعل لله أندادا شركاء في العبادة والظاهر من استعمالاتهم إطلاق الأنداد على الشركاء مطلقا وفي البحر أندادا أي أمثالا لا يضاد بعضها بعضا ويعارض قال قتادة : أي الرجال يطيعهم في المعصية وقال غيره أوثانا ليضل الناس بذلك عن سبيله عز و جل الذي هو التوحيد
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعيسى ليضل بفتح الياء أي ليزداد ضلالا أو ليثبت عليه وإلا فاصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا بيد أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل ههنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وان لم يعرف بجهله أنهما إضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا
قل تهديدا لذلك الجاعل وبيانا لحاله ومآله تمتع بكفرك قليلا أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إنك من أصحاب النار
8
- أي ملازميها والمعذبين فيها على الدوام وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الإقناط من النجاة وذم الكفر لا يخفى كأنه قيل : إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته أمن هو قانت آناء الليل الخ من تمام الكلام المأمور به في قول وأم متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به أأنت أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول
(23/245)
وأبعد عن الرياء حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدابك حال كونه ساجدا وقائما وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد ولا بأس عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان : إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب ونصب ساجدا وقائما على الحالية كما أشير إليه أي جامعا بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في قانت
وجوز كون الحال من ضمير يحذر الآتي قدم عليه ولا داعي لذلك وقرأ الضحاك ساجد وقائم برفع كل علىانه خبر بهد خبر وجوز أبو حيان كونه نعتا لقانت وليس بذاك والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين وترك العطف على قانت قيل لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايرا للسجود والقيام فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران فلذا عطف أحدهما على الآخر وتقديم السجود على القيامة لكونه أدخل في معنى العبادة وذهب إلى أنه أفضل من القيام لحديث أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقوله تعالى يحذر الآخرة حال أخرى على التداخل أو الترادف أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية حاله كأنه قيل ما باله يفعل ذلك فقيل : يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير
ويرجوا رحمة ربه فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبيء عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط وأما منقطعة وما فيها من الإضراب للإنتقال من التبكيت بنكليف الجواب الملجيء إلى الإعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل : بل أمن هو قانت الخ وقدر الزمخشري كغيره مثلك أيها الكافر وقال النحاس : أم بمعنى بل ومن بمعنى الذي والتقدير بل الذي هو قانت الخ أفضل مما قبله وتعقبه في البحر أنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة لدلالة مقابله أعني إنك من أصحاب النار عليه ولا يبعد أن يقدر أفضل منك ويكون ذلك من باب التهكم
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والأعمش وعيسى وشيبة والحسن في رواية أمن بتخفيف الميم وضعفها الأخفش وأبو حاتم ولا التفات إلى ذلك وخرجت على إدخال همزة الإستفهام التقريري على من والمقابل محذوف أي الذي هو قانت الخ خير أم أنت أيها الكافر ومثله في حذف الكعادل قوله : دعاني إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها فإنه أرام أم غي وقال الفراء : الهمزة للنداء كأنه قيل يا من هو قانت وجعل قوله تعالى قل خطابا له وضعف هذا القول أبو علي الفارسي وهو كذلك وقوله تعالى : قل على معنى قل له أيضا بيانا للحق وتصريحا به وتنبيها على شرف العلم والعمل هل يستوي الذين يعلمون فيعملون بمقتضى علمهم ويقنتون الليل سجدا وركعا يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم والذين لا يعلمون فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أندادا والإستفهام للتنبيه علىان يكون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر ويعلم مما ذكرنا
(23/246)
ان المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الإتصال والإنقطاع وأن الكلام تصريح بنفي المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الإستفهام أعني الهمزة وأم على الإتصال أو من التشبيه على الإنقطاع وعلى قراءة التخفيف أيضا قال : وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للإشعار المذكور أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحا للأول من حيث التصريح ومن حيث أنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف ومباينتهم لطبقة من لا يتصف وهذا أبلغ لفظا لقوله تعالى : قل وجوز أن يكون الكلام واردا على سبيل التشبيه فيكون مقررا لنفي المساواة لا تصريحا بمقتضى الأول أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره وكونه للتصريح بنفي المساواة وحمل الذين يعملون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا ينبغي أن يختاره غيره لتكثير الفائدة وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الإرتياب في هذا الواضح أيضا فجوابه أن الإستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول ويشعر كلام كثير أن قوله تعالى : أم من هو الخ غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا يخفى وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا أم من هو قانت الآية فقال : نزلت في عثمان بن عفان وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمار بن ياسر وأخرج جويبر عنه أنها نزلت في عمار وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وعن عكرمة الإقتصار على عمار وعن مقاتل المراد بمن هو قانت عمار وصهيب وابن مسعود وأبو ذر وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أبو بكر وعمر وقال يحيى بن سلام : رسول الله صلى الله عليه و سلم والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على رجل وهو في الموت فقال : كيف تجدك قال : أرجو وأخاف فقال عليه الصلاة و السلام : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو وآمنه الذي يخاف وفيها رد على من ذم العبادة خوفا من النار ورجاء الجنة وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة بل قال بعضهم بكفر من قال : لو لا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى على معنى نفي الإستحقاق الذاتي وفيها دلالة أيضا على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار ودل قوله تعالى : هل يستوي الخ على فضل العلم ورفعه قدره وكون الجهل بالعكس واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافيء العالمة كما أنه لا يكافيء بنت العالم وقوله تعالى : إنما يتذكروا أولوا الألباب
9
- كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله : عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار وهو أيضا كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب والإعراض عن غيرهم أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وأما هؤلاء فبمعزل عن ذلك وقريء يذكر بالإدغام
(23/247)
قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولي الألباب وفيه إيذان بأنهم هم أي قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين أمر الله تعالى أدخل في إيجاب الإمتثال به وقوله تعالى : للذين أحسنوا إلى آخره تعليل للأمر أو لوجوب الإمتثال به والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو خبر مقدم وقوله سبحانه : في هذه الدنيا متعلق بأحسنوا واسم الإشارة للإحضار وقوله تبارك وتعالى : حسنة مبتدأ وتنويه للتفخيم أي للمحسنين في الدنيا حسنة في الآخرة أي حسنة والمراد بها الجنة وقوله عز و جل : وأرض الله واسعة جملة معترضة إزاحة لما عسى أن يتوهم من التعلل في التفريط بعدم التمكن في الوطن من رعاية الأوامر والنواهي على ما هي عليه وقوله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب
10
- من تتمة الإعتراض فكأنه قيل : اتقوا ربكم فإن للمحسنين في هذه الدنيا الجنة في الأخرى ولا عذر للمفرطين في الإحسان بعدم التمكن في الأوطان فإن أرض الله تعالى واسعة وبلاده كثيرة فليتحولوا إن لم يتمكنوا عنها وليهاجروا إلى ربهم لنيل الرضوان فإن لهم في جنب ذلك ما يتقاصر عنه الجنة ويستلذ له كل محنة وكأنه لما أزاح سبحانه علتهم بأن في أرض الله تعالى سعة وقع في خلدهم هل نكون نحن ومن يتمكن من الإحسان في بلدته فارغ البال رافع الحال سواء بسواء فأجيبوا إنما يوفى الصابرون الذين صبروا على الهجرة ومفارقة المحاب والإقتداء بالأنبياء والصالحين أجرهم بغير حساب وأصله إنمات توفون أجوركم بغير حساب على الخطاب وعدل عنه إلى المنزل تنبيها على أن المقتضى لذلك صبرهم فيفيد أنكم توفون أجوركم بصبركم كما وفى أجر من قبلكم بصبرهم وهو محمول على العموم شامل للصبر على كل بلاء غير مخصوص بالصبر على المهاجرة لكنه إنما جيء به في الآية لذلك وليشمل الصابرين على ألم المهاجرة شمولا أوليا والجار والمجرور في موضع الحال إما من الأجر أي إنما يوفون أجرهم كائنا بغير حساب وذلك بأن يغرف لهم غرفا ويصب عليهم صبا وأما من الصابرين أي إنما يوفون ذلك كائنين بغير حساب عليه والمراد على الوجهين المبالغة في الكثرة وهو المراد بقول ابن عباس لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف وجوز جعل الحال من الصابرين على معنى لا يحاسبون أصلا والمتبادر ما يفيد المبالغة في كثرة الأجر ومعنى القصر ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب جعل الجار والمجرور حالا من المنصوب أو المرفوع لأن القصر في الجزء الأخير وفيه من الإعتناء بأمر الأجر ما فيه وأما اختصاصه بالصابرين دون غيرهم فمن ترتب الحكم على المشتق هذا ونقل عن السدي أن قوله تعالى في الدنيا متعلق بحسنة من حيث المعنى فقيل هو حينئذ حال من حسنة ورد بأنها مبتدأ ولا يجوز الحال منه على الصحيح فإن قيل : يلتزم جعلها فاعل الظرف قيل : لا يتسنى إلا على مذهب الأخفش وهو ضعيف
وقيل حال الضمير المستتر في الخبر لراجع إلى حسنة وقال الزمخشري : هو بيان لحسنة والتقدير هي في الدنيا والمراد بها الصحة والعافية أي للمحسنين صحة وعافية في الدنيا قال في الكشف : وإنما آثر كونه بيانا مع جواز كونه حالا عن الضمير الراجع إلى حسنة في الخبر لأن المعنى على البيان لا على التقييد بالحال وذلك لأن المعنى على هذا الوجه أن للمحسنين جزاء يسيرا في الدنيا هو الصحة والعافية وإنما توفية أجورهم
(23/248)
في الآخرة ولو قيد بالحال لم يلائم على ما لا يخفى وحق قوله تعالى : وأرض الله واسعة على هذا أن يكون اعتراضا إزاحة لما قد يختلج في بعض النفوس من خلاف ذلك الجزاء بواسطة اختلاف الهواء والتربة وغير ذلك مما يؤدي إلى آفات في البدن فقيل وأرض الله تعالى واسعة فلا يعدم أحد محلا يناسب حاله فليتحول عنه إليه إن لم يلائمه ثم يكون فيه تنبيه على أن من جعل الأرض ذات الطول والعرض قطعا متجاورات تكميلا لانتعاشهم وارتياشهم يجب أن تقابل نعمه بالشكر ليعدوا من المحسنين ثم قيل : إنما يوفى الصابرون أي توفية الأجر لهؤلاء المحسنين إنما يكون في الآخرة والذي نالوه في الدنيا عاجل حظهم وأما الأجر الموفى بغير حساب فذلك للصابرين ومن سلبناه تلك العاجلة تمحيصا له وتقريبا وفي ذلك تسلية لأهل البلاء وتنشيط للعباد على مكابدة العبادات وتحريض على ملازمة الطاعات ثم قال : وهذا أيضا وجه حسن دقيق والرجحان للأول من وجوه
أحدهما أن الإعتراض لأزاحة العلة في التفريط أظهر لأنه المقصود من السياق على ما يظهر من قوله تعالى اتقوا ربكم الثاني أنه المطابق لما ورد في التنزيل من نحو ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون الثالث أن تعلق الظرف بالمذكور المتقدم هو الوجه مالم يصرف صارف
الرابع أنه على ذلك التقدير ليس بمطرد ولا أكثري فإن الحسنة بذلك المعنى في شأن المخالفين أتم والقول بأنها استدراج في شأنهم لا حسنة ليس بالظاهر فقد قال سبحانه فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه انتهى ولعمري أن ما رجحه بالترجيح حقيق وما استحسنه واستدقه ليس بالحسن ولا الدقيق والذي نقله الطبرسي عن السدي تفسير الحسنة في الدنيا بالثناء الحسن والذكر الجميل والصحة والسلامة وفسرها بعضهم بولاية الله تعالى وعليه فليس للمخالفين منها نصيب وفي الآية أقوال فعن عطاء أرض الله تعالى المدينة قال أبو حيان : فعلى هذا يكون أحسنوا هاجروا و حسنة راحة من الأعداء وقال قوم : أرض الله تعالى الجنة وتعقبه ابن عطية بأنه تحكم لا دليل عليه
وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ثم بين سبحانه أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين جل شأنه أن أرض الله واسعة لقوله تعالى : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وقوله تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين والرجحان لما سمعت أولا واختير فيه شمول الحسنة لحسنات الدنيا والآخرة والمراد بالإحسان الإتيان بالأعمال الحسنة القلبية والقالبية قال النبي صلى الله عليه و سلم في تفسيره في حديث جبريل عليه السلام أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والآية على ما في بعض الآثار نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة وفيها من الدلالة على فضل الصابرين ما فيها قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين
11
- أي من كان ما يخل به من الشرك والرياء وغير ذلك أمر عليه الصلاة و السلام ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله عز و جل الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة على الإتيان في حثهم بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون
وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله عز و جل وقيل : للإشارة إلى أن هذا الأمر مما ينبغي امتثاله سواء صدر منه تعالى أم صدر من غيره سبحانه وأمرت لأن أكون أول المسلمين
12
- أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون
(23/249)
مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه وإخلاصه عليه الصلاة و السلام أتم من إخلاص كل مخلص فالمراد بالأولية الأولية في الشرف والرتبة والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الأمر بها لذانها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين وإلى حذف متعلق الأمر وكون اللام تعليلية ذهب البصريون في هذه الآية ونحوها وذهب غيرهم إلى أنها زائدة واستدل له بتركها في قوله تعالى : وأمرت أن أكون من المسلمين وأمرت أن أكون من المؤمنين وأمرت أن أكون أول من أسلم وكل ذلك محتمل لتقدير اللام فلا تغفل ولا تزاد إلا مع أن لفظا أو تقديرا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسما صريحا فكأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه كما يعوض السين في أسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسا إلا أنها لما كثرت استعمالا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل وجعل الزمخشري وجه زيادتها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدا لها وجعل وجها في زيادتها مع فعل الأمر أيضا لا سيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحد وفي المعنى أوجه أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاما على وفق الأمر وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليهخ غيره لأكون مقتدي بي قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون وأن أفعل ما أستحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهي الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في النظم الجليل ذكر ذلك الزمخشري وفي الكشف المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الأخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق فافهم قل إني أخاف إن عصيت ربي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك وجوز العموم أي أخاف إن عصيته بشيء من المعاصي عذاب يوم عظيم
13
- هو يوم القيامة ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال وهو مجاز في الظرف أو الإسناد وهو أبلغ ولذا عدل عن توصيف العذاب بذاك والمقصود من قول ذلك لهم تهديدهم والتعريض لهم بأنه عليه الصلاة و السلام مع عظمته لو عصى الله تعالى ما أمن من العذاب فكيف بهم قل الله أعبد لا غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا مخلصا له ديني
14
- حال من فاعل أعبد فقيل مؤكدة لما أن تقديم المفعول قد أفاد الحصر وهو يدل على إخلاصه عن الشرك الظاهر واتلخفي وقيل مؤسسة وفسر إخلاص الدين له تعالى بعبادته سبحانه لذاته من غير طلب شيء كقول رابعة : سبحانك ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رجاء ثوابك أو يفسر بتجريده عن الشرك بقسميه وأن يكون معه ما يشينه من غير ذلك كما أشير إليه آنفا والفرق بين هذا وقوله سبحانه قل إني أمرت الخ أن ذاك أمر ببيان كونه عليه الصلاة و السلام مأمورا بعبادته تعالى مخلصا له الدين وهذا أمر بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهار لتصلبه صلى الله عليه و سلم في الدين وحسما لأطماعهم الفارغة حيث أن كفار قريش دعوه صلى الله عليه و سلم إلى دينهم فنزلت لذلك وتمهيدا لتهديدهم بقوله عز و جل :
(23/250)
فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه عز و جل وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب قل إن الخاسرين أي الكاملين في الخسران وهو إضاعة ما بهم وإترافهم ما لا بد منه لجمعهم أعاظم أنواع الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم باختيارهم الكفر لهما فالمراد بالأهل أتباعهم الذين أضلوهم أي أضاعوا أنفسهم وأضاعوا أهليهم واتلفوهما يوم القيامة حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأرقعوهما في هلكة ما وراءها هلكة ولو أبقى يوم القيامة على ظاهره لأنه يتبين فيه أمرهم ويتحقق مبدأ خسرانهم صح على ما قيل وقيل : المراد بالأهل الأتباع مطلقا وخسرانهم إياهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا إياب بعده وتعقب بأن المحذور ذهاب من لو آب لا ينتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير وقيل : المراد بالأهل ما أعده الله تعالى لمن يدخل الجنة من الخاصة أي وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونوا لهم في الجنة لو آمنوا أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : ليس أحد إلا قد أعد الله تعالى له أهلا في الجنة إن أطاعه وأخرج نحوه عن مجاهد وروي أيضا عن ميمون بن مهران وكلهم ذكروا ذلك في الآية وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال فيها أيضا : خسروا أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله تعالى فغبنوهم وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد روي عنه أنه فسر الأهل بالحور العين ولا يخفى ان حمل الآية على ذلك لا يخلو عن بعد
وأيا ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما ذكر بل بيان أنهم المخاطبون بما تقدم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو بجعله عبارة عما هم مندرجون فيه اندراجا أوليا وما في قوله تعالى : ألا ذلك هو الخسران المبين
15
- من استئناف الجملة وتصديرها بحرف التنبية والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه في النشر وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران والإتيان به على فعلان الأبلغ من فعل ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته وأنه لا نوع من الخسر وراءه ما لا يخفى
وقوله تعالى لهم من فوقهم ظلل من النار إلى آخره نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن لهم خبر لظلل و من فوقهم متعلق بمحذوف حال من ضميرها في الظرف المقدم لا منها نفسها لضعف الحال من المبتدأ وجعلها فاعل الظرف حينئذ اتباع لنظر الأخفش وهو ضعيف و من النار صفة لظلل
والكلام جار مجرى التهكم بهم ولذا قيل لهم وعبر عما علاهم من النار بالظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض كائنة من النار ومن تحتهم ظلل كائنة من النار أيضا والمراد أطباق كثيرة منها وتسميتها ظللا من باب المشاكلة وقيل هي ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من طبقفات النار ولا يطرد في أهل الطبقة الأخيرة من هؤلاء الخاسرين إلا أن يقال : إن للشياطين ونحوهم مما لا ذكر لهم هنا وقيل : إن ما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا وليس بذاك والمراد أن النار محيطة بهم ذلك العذاب الفظيع يخوف الله به عباده يذكره سبحانه لهم بآيات الوعيد ليخافوا
(23/251)
فيجتنبوا ما يوقعهم فيه وخص بعضهم العباد بالمؤمنين لأنهم المنفعون بالتخويف وعمم آخرون
وكذا في قوله سبحانه يا عباد فاتقون
16
- ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي ويختلف المراد بالأمر على الوجهين كما لا يخفى وهذه عطفة من الله جل جلاله وعم نواله منطوية على غاية اللطف والرحمة وقريء يا عبداي بالياء
والذين اجتنبوا الطاغوت الخ قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجتهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر وقال ابن إسحاق : أشير بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاءوه وقالوا : أسلمت قال نعم وذكرهم بالله تعالى فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة والطاغوت فعلوت من الطغيان كما قالوا لا فاعول كما قيل بتقديم اللام على العين نحو صاعقة وصاقعة ويدل على ذلك الإشتقاق وأن طوغ وطيغ مهملان
وأصله طغيوت أو طغووت من الياء أو الواو لأن طغى يطغى ويطغو كلاهما ثابتان في العربية نقله الجوهري ونقل أن الطغيان والطغوان بمعنى وكذا الراغب وجمعه على الطواغيت يدل على أن الجمع بني على الواو وقولهم : من الطغيان لا يريدون به خصوص الياء بل أرادوا المعنى وهو على ما في الصحاح الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال وقال الراغب : هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن الخير ويستعمل في الواحد والجمع
وقال الزمخشري في هذه السورة : لا يطلق على غير الشيطان وذكر أن فيه مبالغات من حيث البناء فإن صيغة فعلوت للمبالغة ولذا قالوا الرحموت الرحمة الواسعة ومن حيث التسمية بالمصدر ومن حيث القلب فإنه للإختصاص كما في الجاه وقد أطلقه في النساء على كعب بن الأشرف وقال : سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو على التشبيه بالشيطان فلعله أراد لا يطلق على غير الشيطان على الحقيقة وكأنه جعل كعبا على الأولين من الوجهين من شياطين الإنس وفي الكشف كأنه لما رآه مصدرا في الأصل منقولا إلى العين كثير الإستعمال في الشيطان حكم بأنه حقيقة فيه بعد النقل مجاز في الباقي لظهور العلاقة إما مستعارة وإما إلى تناسب المعنى والذي يغلب على الظن أن الطاغوت في الأصل مصدر نقل إلى البالغ الغاية في الطغيان وتجاوز الحد واستعماله في فرد من هذا المفهوم العام شيطانا كان أو غيره يكون حقيقة ويكون مجازا على ما قرروا في استعمال العام في فرد من أفراد كاستعمال الإنسان في زيد وشيوعه في الشيطان ليس إلا لكونه رأس الطاغين وفسره هنا بالشيطان مجاهد ويجوز تفسيرها بالشياطين جمعا على ما سمعت من الراغب ويؤيده قراءة الحسن اجتنبوا الطواغيت أن يعبدوها بدل اشتمال من الطاغوت وعبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها وإذا فسر الطاغوت بالأصنام فالأمر ظاهر وأنابوا إلى الله وأقبلوا إليه سبحانه معرضين عما سواه إقبالا كليا لهم البشرى بالثواب من الله تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك
فبشر عباد
17
- الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه مدح لهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب وكذلك المباح والندب
(23/252)
وقيل يستععون القول أو أمر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والإنتصار والإغضاء والإبداء والإخفاء لقوله تعالى وأن تعفوا أقرب للتقوى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم والفرق بين الوجهين أن هذا أخص لأنه مخصوص بأوامر فيها تخيير بين راجح كالعفو والقصاص مثلا كأنه قيل يتبعون أحسن القولين الواردين في معين وفي الأول يتبعون الأحسن من القولين مطلقا كالإيجاب بالنسبة إلى الندب مثلا
وعن الزجاج يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل يستمعون القول ممن كان فيتبعون أولاه بالقبول وأرشده إلى الحق ويلزم من وصفهم بذلك أنهم يميزون القبيح من الحسن ويجتنبون القبيح وأريد بهؤلاء العباد الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم لئلا ينفك النظم فإن قوله تعالى فبشر مرتب على قوله سبحانه لهم البشرى ووضع الظاهر موضع الضمير ليشرفهم تعالى بالإضافة إليه ولتكرير بيان الإستحقاق وليدل على أنهم نقادون حرصا على إيثار الطاعة ومزيد القرب عند الله تعالى وفيه تحقيق للإنابة وتتميم حسن وقيل الوقف عبادي فيكون الذين مبتدأ خبره جملة قوله تعالى أولئك الذين هداهم الله أي لدينه والكلام استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث وما تقدم أرجح لما سلف من الفوائد من إقامة الظاهر مقام المضمر والتتميم فإن ذلك دون الوصف لا يتم ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى : يتبعوا أحسنه أقوى وذلك الأصل في حسن الإستئناف وأولئك أولوا الألباب
18
- أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ولذا قيل : شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ولا تكن مثل عير قيد فانقادا واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها كما ذهب إليه الأشاعرة وقوله تعالى : أفمن حق هليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار
19
- بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعوا خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط فأنت تنقذ الخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله : لقد علم الحزب اليمانيون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول : أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والإستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقا والإنكار المفاد بالهمزة متعلق بمضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الأنقاذ هو الله عز و جل وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في النظم الكريم لمزيد تشديد الإنكار والإستبعاد والقادر على الإنقاذ هو الله عز و جل وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في النظم الكريم لمزيد تشديد الإنكار والإستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط
(23/253)
منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة و السلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والإجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها وفي الحواشي الخفاجية نقلا عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الإستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى : أفمن الخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيل بذله عليه الصلاة و السلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال : قد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كم في نقض العهد انتهى فتأمل
وقيل : إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيماء والطاعة وليس بذاك وجوز أن يكون الجزاء محذوفا وجملة فأنت تنقذ الخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار
ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم وتمثيل حاله عليه الصلاة و السلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان واستظهر أبو حيان أن من موصوف مبتدأ والخبر محذوف وحكى أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدرهخ يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال : إن القول بأن كلا منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري فيما علمنا وفي المغنى ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنون والكافرون وأحوالهما والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض مبنية قيل : هو كالتمهيد لقوله تعالى : تجري من تحتها أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات الأنهر أي مبنية بناءا يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحا واحدا يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقا وتحتا لكن لا بد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك
وقال بعض الأجلة : الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الإستعارة التهكمية وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين : فائدة : التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه جل وعلا
وأقول والله تعالى أعلم : وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن
(23/254)
الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولا مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ
وعد الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد لا يخلف الله الميعاد
20
- لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عز و جل ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الإضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الإغترار بزهرتها أو للإستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وأحكام حكمته ورحمته والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو وقيل : الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثيرا ما يرتفع سحاب ويمطر مطرا غزيرا وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضا على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله وقيل : المراد بالماء كل ماء في الأرض والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة أنه عز و جل لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر العرش ماء فسلكه فأدخله ينابيع في الأرض أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني ليس منه وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما يجري مجراها من الأبخرة قالوا : إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب إنشقاقها فانفجر منها العيون ورده أبو البركات البغدادي فقال في المعتبر : السبب في العيون وما يجري مجراها هو يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة قال الميبدي : الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع واحتجاجه في المنع إنما يدل على انه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سببا في الجملة أه
وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثا من الهواء البخاري بنقلابه ماء بأسباب يعلمها الله عز و جل وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف
(23/255)
على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدا لأن الخطاب في ألم تر عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلى الله عليه و سلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال الآية على ما ذكر وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الآض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع هذا لكن يعكر على ما اخرناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ليس في الأرض ماء إلا ما أنزال الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعد وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير والشعبي فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذ تكون منصوبة على الحال والمعنى فسلكه مياها نابعة في الأرض ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون ينابيع منصوبا بنزع الخافض كما أشرنا إليه
واحتمال كونه منصوبا على المصدرية في إطلاقيه بأن يكون الأصل فسلكه سلوكا في ينابيع أي مجازي فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى
ثم يخرج به أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر وقالت الشاعرة : أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة زرعا مختلفا ألوانه أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل وشمل الزرع المقتات وغيره وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان وصيغة المضارع لا ستحضار الصورة ثم يهيج ييبس وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثور واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارقة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته فتراه مصفرا من بعد خضرته ونضارته وقريء مصفارا ثم يجعله خطاما فتاتا متكسرا كأن لم يغن بالأمس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج وقرأ أبو بشر ثم يجعله بالنصب قال صاحب الكامل وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب وكأنه إضمار أن كما في قوله
إني وقتلي سليكا ثم أعقله ولا يخفى وجه ضعفه هنا إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر تفصيلا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه لذكرى لتذكيرا عظيما لأولي الألباب
21
- لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبا في الآخرة وهذا تنفيرا عن الدنيا وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال بمعزل عما يقتضيه
(23/256)
السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عز و جل فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤنه تعالى أو شؤن آثاره حسبما أشير إليه لا وجوده جل وعلا
وقوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام الخ استئناف جلر مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب والشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التسويع وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعدة استعدادا تاما للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول وسهولة الحصول وذلك بعد التجوز في الصدر وإرادة النفس الناطقة منه من حيث أنه محل للقلب وفي تجويفه بخار لطيف يتكون من صفوة الأغذية وبه تتعلق النفس أولا وبواسطته تتعلق بسائر البدن تعلق التدبير والتصريف وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان وجعل بعض الأجلة شرح الله صدره استعارة تمثيلية والمهزة للإنكار داخلة على محذوف على أحد القولين آنفا والفاء للعطف على ذلك المحذوف وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله تعالى صدره وخلقه مستعدا للإسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم تتغير بالعوارض المكتسبة القادحة فيها فهو بموجب ذلك مستقر على نور عظيم من ربه وهو اللطف الإلهي المشرق عليه من بروج الرحمة عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للإهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بتبديل فطرة الله تعالى بسوء اختياره وستولى عليه ظلمات الغي والضلال فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها وعدل عن فعنده أو فله نور إلى ما في النظم اتلجليل للدلالة على استمرار ذلك واستقراره في النور وهو مستعار للطف والتوفيق للإهتداء وقد يقال : هو أمر إلهي غير اللطف والتوفيق يدرك به الحق وجاء برواية الثعلبي في تفسيره والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية أفمن شرح الله صدره الخ فقلنا : يا رسول الله كيف انشراح الصدر قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا : فما علامة ذلك يا رسول الله فقال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله واستشكل ذلك بأن ظاهر الآية ترتب دخول النور على الإنشراح لأنه الإستعداد لقبوله وما في الحديث الشريف عكسه والظاهر أن السؤال عما في الآية وأن الجواب بيان لكيفيته وأجيب بأن الإهتداء له مراتب بعضها مقدم وبعضها مؤخر وانشراح الصدر بحسب الفطرة والخلق وبحسب ما يطرأ عليه بعد فيض الألطاف عليه وبينهما تلازم والمراد بانشراح الصدر في الحديث ما يكون بعد التمكن فيه وفي الآية ما تقدم وقس عليه النور والجواب من قبيل الأسلوب الحكيم فتأمل
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عز و جل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة وقريء عن ذكر الله والمتواترة أبلغ لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبيا من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالإمتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلا للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وإفراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلا عن القلب وإسناده إلى الله تعالى الظاهر
(23/257)
في أنه على أتم الوجوه لأنه فعل قادر حكيم وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلاف الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى ذواتهم وأما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والأفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه : أفمن شرح الله صدره دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وأن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار
أولئك البعداء المتصفون بما ذكر من قسوة القلوب في ضلال مبين
22
- ظاهر كونه ضلالا أحد
والآية نزلت في علي وحمزة رضي الله تعالى عنهما وأبي لهب وابنه فعلي كرم الله تعالى وجهه وحمزة رضي الله تعالى عنه ممن شرح الله تعالى صدره للإسلام وأبو لهب وابنه من القاسية قلوبهم الله نزل أحسن الحديث هو القرآن الكريم وكونه حديثا بمعنى كونه كلاما محدثا به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا له عليه الصلاة و السلام حدثنا فنزلت أي إراشادا لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعا منه صلى الله عليه و سلم غضا طريا وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ وبناء نزل عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عز و جل وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان وأما الإستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه وأما توكيد الإستناد إليه تعالى فمن التقوى وأما إن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعا فافهم
كتابا بدل من أحسن الحديث أو حال منه كما قال الزمخشري وليس مبنيا على القول بأن إضافة أفعل التفضيل تفيده تعريفا كما ظن أبو حيان فإن مطلق الإضافة كافية في صحة الحالية كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالعربية ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة إما لوصفه بقوله تعالى متشابها أو لكونه في قوة مكتوبا
والمراد بكونه متشابها هنا معانيه في الصحة والإحكام والإبتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز وما أشبه هذا بقول العرب في الوجه الكامل حسنا وجه متناصف كأن بعضه أنصف في القسط من الجمال وقوله تعالى مثاني صفة أخرى لكتابا أو حال أخرى منه وهو جمع مثنى بضم الميم وفتح النون المشددة على خلاف القياس إذ قياسه مثنيات بمعنى مردد ومكرر لما كرر وثني من أحكامه ومواعظه وقصصه وقيل : لأنه يثنى في التلاوة
وجوز أن يكون جمع مثنى بالفتح مخففا من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى فأرجع البصر
(23/258)
كرتين بمعنى كرة بعد كرة وكذلك لبيك وسعديك والمراد أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثني ما ذكر لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يراد أن مثنى بمعنى التكرير والأعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كرتين ثم جمع للمبالغة وقيل : جمع لاشتمال آياته على الثناء على الله تعالى أو لأنها تثنى ببلاغتها وإعجازها على المتكلم بها ولا يخفى أن رعاية المناسبة مع متشابها تجعل ذلك مرجوحا وأنه حسن إذا حمل على الثناء باعتبار الإعجاز وفي الكشف إلا قيس بحسب اللفظ أن مثاني اشتقت من الثناء أو الثني جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني انتهى ووقوعه صفة لكتاب باعتبار تفاصيله وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : هو أحكام ومواعظ وأقاصيص مثاني ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة والأصل كتابا متشابها فصولا مثاني ويجوز أن يكون تمييزا محولا عن الفاعل والأصل متشابها مثانيه فحول ونكر لأن الأكثر التنكير وهذا كقولك : رأيت رجلا حسنا شمائل وقرأ هشام وأبو بشر مثاني بسكون الياء فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف وإن يكون منصوبا وسكن الياء على لغة من يسكنها في كل الأحوال لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها وقوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم قيل صفة لكتابا أو حال منه لتخصصه بالصفة وقال بعض : الأظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث
وأقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال : اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة والمراد تصوير خوفهم بذكر لوازمه المحسوسة ويطلق عليه التمثيل وإن كان من باب الكناية
وقيل : هو تصوير للخوف بذكر آثاره وتشبيه حالة بحالة فيكون تمثيلا حقيقة والأول أحسن لأن تشبيه القصة بالقصة على سبيل الإستعارة ههنا لا يخلو عن تكلف واستظهر كون المراد بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة الله تعالى عند سماع آيات وعده تعالى والطافه تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى وإنما لم يصرح بالرحمة إيذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى لأصالتها كما يرشد إليه خبر سبقت رحمتي غضبي وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها ولعله إنما لم تذكر هناك على طرز ذكرها هنا لأنها لا توصف بالإقشعرار وتوصف باللين وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى رحمته عز و جل وليس فيها نعتهم بالصعق والتواجد والصفق كما يفعله بعض الناس أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قرؤا القرآن قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت : فإن ناسا ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غشية قالت : أعوذ بالله تعالى من الشيطان وأخرج الزبير بن بكار في
(23/259)
الموفقيات عن عامر عن عبد الله بن الزبير قال : جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت : لا تقعد معهم ثم قالت : رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشي من أبي بكر وعمر وقال ابن عمر وقد رأى ساقطا من سماع القرآن فقال إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط : هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية هذا نعت أولياء الله تعالى قال : تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى ولم ينعتهم الله سبحانه بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وإنما هو من الشيطان وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير : قال الصعقة من الشيطان وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يحمل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليهم القرآن كله فإن رمى بنفسه فهو صادق فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقهم وتواجدهم وضرب رؤسهم الأرض عند سماع القرآن ويقول مشايخهم : إن ذلك لضعف القلوب عن تحمل الوارد وليس فاعلو ذلك في الكمال كالصحابة أهل الصدر الأول في قوة التحمل فما هو إلا دليل النقص بدليل السالك إذا أكمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ويقولون : ليس في الآية أكثر من إثبات الإقشعرار واللين وليس فيها نفي أن يعتريهم حال آخر بل في الآية إشعار بأن المذكور حال الراسخين الكاملين حيث قال سبحانه الذين يخشون ربهم فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية حتى يعلموا بها فلا يلزم من كون حالهم ما ذكر ليس إلا على فرض دلالتها على الحصر كون حال غيرهم كذلك ثم أنه متى كان الأمر ضروريا كالعطاس لا اعتراف على من يتصف به وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك وهذا غاية في هذا المجال ونحن نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بما تفضل به على أصحاب نبيه صلى الله عليه و سلم ذلك هدى الله الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله يهدي به من يشاء أي من يشاءالله هدايته بأن يوفقه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عنده عز و جل وجوز أن يكون ضمير يشاء لمن والمعنى يهدي الله تعالى من يشاء هداية الله تعالى وليس بذاك
ومن يضلل الله أي يخلق سبحانه فيه الضلال إعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء استعداده فما له من هاد
23
- يخلصه من ورطة الضلال وقيل : الإشارة إلى المذكور من الإقشعرار واللين والمعنى ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلله أي ومن لم يؤثر فيه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد أي من مؤثر فيه بشيء قط وهو كما ترى
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدي والضال والكلام في الهمزة والفاء والخبر كالذي مر في نظائره ويقال هنا على أحد القولين : التقدير أكل الناس سواء فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه يوم القيامة العذاب السيء الشديد لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكره ولا يحتاج إلى الإتقاء بوجه من الوجوه فالوجه على حقيقته وقد يحمل على ذلك من غير حاجة إلى حديث كون اليد مغلولة تصويرا لكمال اتقائه وجده فيه وهو أبلغ وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر :
(23/260)
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر وجوز أن يكون الوجه بمعنى الجملة والمبالغة عليه دون المبالغة فيما قبله وقيل الإتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به إذ الإتقاء بالوجه لا وجه له لأنه لا يتقي به ولا يخلو عن خدش وإضافة سوء إلى العذاب من إضافة الصفة إلى الموصوف و يوم القيامة معمول يتقي كما أشرنا إلى ذلك وجوز أن يكون من تتمة سوء العذاب والمعنى أفمن يتقي عذاب يوم القيامة كالمصر على كفره وهو وجه حسن والوجه حينئذ كما في الوجه السابق إما الجملة مبالغة في تقواه وإما على الحقيقة تصويرا لكمال تقواه وجده فيها وهو أبلغ والمتبادر إلى الذهن المعنى السابق والآية نزلت في أبي جهل وقيل للظالمين عطف على يتقي أي ويقال لهم من جهة خزنة النار وصيغة الماضي للدلالة على التحقق والتقرر وقيل الواو للحال والجملة حال من ضمير يتقي بإضمار قد أو بدونه ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله تعالى : ذوقوا ما كنتم تكسبون
24
- أي وبال ما كنتم تكسبون في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي
كذب الذين من قبلهم استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة فأتاهم العذاب المقدر لكل أمة منهم من حيث لا يشعرون
25
- من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيانه منها لأن ذلك أشد على النفس فأذاقهم الله الخزي أي الذل والصغار في الحياة الدنيا كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء وغير ذلك من فنون النكال والفاء تفسير مثلها في قوله تعالى : فاستجبنا له فنجيناه ولعذاب الآخرة المعد لهم أكبر لشدته وسرمديته لو كانوا يعلمون
26
- أي لو كانوا من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن العظيم الشأن من كل مثل يحتاج إليه الناظر في أمور دينه لعلهم يتذكرون
27
- أي كي يتذكروا ويتعظوا أو مرجوا تذكرهم واتعاظهم والرجاء بالنسبة إلى غيره تعالى والتعليل أظهر قرآنا عربيا حال من هذا والإعتماد فيها على الصفة أعني عربيا وإلا فقرآنا جامدا لا يصلح للحالية وهو أيضا عين ذي الحال فلا يظهر حاله فالحال في الحقيقة عربيا وقرآنا للتمهيد ونظيره جاء زيد رجلا صالحا قيل وذلك بمنزلة عربيا محققا
وجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره أعني أو أخص أو أمدح ونحوه وأن يكون مفعول يتذكرون وهو كما ترى غير ذي عوج لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه وهو أبلغ من مستقيم لأن عوجا نكرة وقعت في سياق النفي لما في غير من معناه والإستقامة يجوز أن تكون من وجه دون وجه ونفي مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى أبلغ من غير معوج والعوج بالكسر يقال يدرك بفكر وبصيرة والعوج بالفتح يقال يدرك بالحس وعبر بالأول على أنه بلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجا فضلا عن الحس وتمام الكلام مر في الكهف وقيل المراد بالعوج الشك واللبس وروي ذلك عن مجاهد وأنشدوا قول الشاعر :
(23/261)
وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب ولا استدلال به على أن العوج بمعنى الشك لأن عوج اليقين هو الشك لا محالة والقول في وجه الإستدلال أن الشاعر فهم هذا المعنى من الآية لأنه اقتباس وإذا فهمه الفصيح مع صحة التجوز كان محملا تعسف ظاهر لأنه لم يتبين أنه اقتبسه منها ولو سلم يكون محتملا لما يحتمله العوج في النظم الذي لا عوج فيه وقد يقال : مراد من قال أي لا لبس فيه ولا شك نفي بعض أنواع الإختلال وعلى ذلك ما روي عن عثمان بن عفان منانه قال : أي غير مضطرب ولا متناقض وما قيل أي غير ذي لحن وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : غير ذي عوج غير مخلوق ولعله إن صح الخبر تفسير باللازم فتأمل
لعلهم يتقون
28
- علة أخرى مترتبة على الأولى
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والإتعاظ بها وتحصيل التقوى والمراد بضرب المثل ههنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها و مثلا مفعول ثان لضرب و رجلا مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو مثلا مفعول ضرب و رجلا الخ بدل منه بدل كل من كل
وقال الكسائي : انتصب رجلا على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره
و فيه خبر مقدم و شركاء مبتدأ و متشاكسون صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها والجملة صفة رجلا والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له و شركاء مرتفع بع على الفاعلية لاعتماده على الموصوف وقيل فيه صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة
والمعنى ضرب الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جملة مشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه ورجلا أي وضرب للموحد مثلا رجلا سلما أي خالصا لرجل فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلا فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلا لأنه أفطن لما شقى به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك
وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والزهري والحسن بخلاف عنه والجحدري وابن كثير وأبو عمرو سالما اسم فاعل من سلم أي خالصا له من الشركة وقرأ ابن جبير سلما بكسر السين وسكون اللام وقريء سلما بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة
وقيل ورجل سالم برفعهما أي وهناك رجل سالم وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امريء القيس : إذا ما بكى من خلفها انحفت له بشق وشق عندنا لم يحول وقوله تعالى : هل يستويان مثلا إنكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة
(23/262)
أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين وأيا ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور
وانتصاب مثلا على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما والإقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والإقتصار عليه أولا في قوله تعالى : ضرب الله مثلا وقريء مثلين أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب لله تعالى دره فارسا ويرجع ذلك إلى هل يستويان رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية وقوله تعالى : الحمد لله تقرير لما قبله من نفي الإستواء بطريق الإعتراض وتنبيه للموحدين على أن مالهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عز و جل مستوجب لحمده تعالى وعبادته وقوله تعالى بل أكثرهم لا يعلمون
29
- إضراب وانتقال من بيان عدم الإستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عز و جل فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة الحمد لله ولا اعتراض ولا يخفى أن بناء الكلام على الإعتراض كما سمعت أولى وقوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون
30
- تمهيدا لما يعقبه من الإختصام يوم القيامة وفي البحر أنه لما لم يلتفتوا إلى الحق لم ينتفعوا بضرب المثل أخبر سبحانه بأن مصير الجميع بالموت إلى الله تعالى وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو عز و جل الحكم العدل فيتميز هناك المحق والمبطل
وقال بعض الأجلة : إنه لما ذكرت من أول السورة إلى هنا البراهين القاطعة لعرق الشركة المسجلة لفرط جهل المشركين وعدم رجوعهم مع جهده صلى الله عليه و سلم في ردهم إلى الحق وحرصه على هدايتهم اتجه السؤال منه عليه الصلاة و السلام بعد ما قاساه منهم بأن يقول ما حالي وحالهم فأجيب بأنك ميت وإنهم ميتون الآية
وقرأ ابن الزبير وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى واليماني وابن أبي غوث وابن أبي عبلة إنك مائت وإنهم مائتون والفرق بين ميت ومائت أن الأول صفة مشبهة وهي تدل على الثبوت ففيها إشعار بأن حياتهم عين الموت وأن الموت طوق في العنق لازم والثاني اسم فاعل وهو يدل على الحدوث فلا يفيد هنا مع القرينة أكثر من أنهم سيحدث لهم الموت وضمير الخطاب على ما سمعت للرسول صلى الله عليه و سلم قال أبو حيان : ويدخل معه عليه الصلاة و السلام مؤمنوا أمته وضمير الجمع الغائب للكفار وتأكيد الجملة في إنهم ميتون للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة كأنهم ينكرون الموت وتأكيد الأولى دفعا لاستبعاد موته عليه الصلاة و السلام وقيل للمشاركة وقيل إن الموت مما تكرهه النفوس وتكره سماع خبره طبعا فكان مظنة أن لا يلتفت إلى الإخبار به أو أن
(23/263)
ينكر وقوعه ولو مكابرة فأكد الحكم بوقوعه لذلك ولا يضر في ذلك عدم الكراهة في بعض لخصوصيته فيه كسيد العالمين صلى الله عليه و سلم ثم إنكم على تغليب المخاطب على الغيب
يوم القيامة عند ربكم أي مالك أموركم تختصمون
31
- فتحتج أنت عليهم بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتهم ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الإجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ويعتذرون بالباطيل مثل أطعنا سادتنا ووجدنا آباءنا وغلبت علينا شقوتنا والجمع بين يوم القيامة وعند ربكم لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم نافذ حكمه فيهم ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الإختصام فيما بينهم بدون مرافعة أو بمرافعة لكن ليست لدى مالك لأمورهم والإكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون احتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في الصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه وقال جمع : المراد بذلك الإختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الإختصام بينه عليه الصلاة و السلام وبين الكفرة الطغام وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال : نزلت هذه الآية إنك ميت الخ فقالوا : وما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان بن عفان قالوا هذه خصومة ما بيننا وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو هذا
وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبل إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا : كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا وفي رواية أخرى عنه بلفظ نزلت علينا الآية ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون وما ندري فيم نزلت قلنا : ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة فقلت : هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه
وأخرج أحمد وعبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال : لما نزلت إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلت : يا رسول الله أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال : نعم ينكر ذلك عليكم حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه قال الزبير : فو الله إن الأمر لشديد
وزعم الزمخشري أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولا واستشهد بقوله تعالى فمن أظلم الخ وبقوله سبحانه والذي جاء بالصدق الخ لدلالتهما على انهما اللذان تكون الخصومة بينهما وكذلك ما سبق من قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا الخ وتعقب ذلك في الكشف فقال : أقول قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني أي العموم بل ظاهر قول النخعي
(23/264)
قالت الصحابة : ما خصومتنا ونحن إخوان يدل على أنه قول الكل فالوجه إيثار ذلك
وتحقيقه أن قوله تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا ورجلا بل أكثرهم دون بل هم كالنص على ذلك فإذا قيل : إنك ميت وجب أن يكون على نحو يا أيها النبي إذا طلقتم أي إنكم أيها النبي والمؤمنون وأبهم ليعمم القبيلين ولا يتنافر النظم فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه عليه الصلاة و السلام وحده وبين الكفار ثم إذا قيل : ثم إنكم على التغليب يكون تغليبا للمخاطبين على جميع الناس فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر ثم إذا كان الموت أمرا عمه والناس جميعا كان المعنى عليه أيضا وأما حديث الإختصام والطباق الذي ذكره فليس بشيء لأنه لعمومه يشمله شمولا أوليا كما حقق هذا المعنى مرارا والتعقيب بقوله تعالى فمن أظلم للتنبيه على أنه مصب الغرض وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة ولا أنكر أن قوله تعالى عند ربكم يدل على أن الإختصام يوم القيامة ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي صلى الله عليه و سلم وحده والمشركين بل يتناوله أولا وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام عثمان رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه وهذا ما ذهب إليه هؤلاء وهم هم رضي الله تعالى عنهم انتهى وكأنه عني بقوله ولا أنكر الخ رد ما يقال إن عند ربكم يدل على أن الإختصام يوم القيامة وقد صرح في النظم الجليل بذلك فيكون تأكيدا مشعرا بالإهتمام بأمر ذلك الإختصام فليس هو إلا اختصام حبيبه صلى الله عليه و سلم مع أعدائه الطغام ووجه الرد أنه إن سلم أن فائدة الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص بل يكفي للإهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه عليه الصلاة و السلام فتأمله ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الإختصام فالحق القول بعمومه وهو أنواع شتى فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية : يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها ثم يدعى الرجل خادمه بمثل ذلك ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ثم دانق ولا قرار يط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار فو الله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله وإن منكم إلا واردها وأخرج البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية وأخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول خصمين يوم القيامة جاران ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق
وجاء عن ابن عباس اختصام الروح مع الجسد أيضا أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا
تم الجزء الثالث والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله فمن أظلم 24
(23/265)
بسم الله الرحمن الرحيم فمن أظلم ممن كذب على الله بأن أضاف إليه سبحانه وتعالى الشريك أو الولد وكذب بالصدق أي بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ جاءه أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل فإذ فجائية كما صرح به الزمخشري لكن اشترط فيها في المغنى أن تقع بعد بينا أو بينما ونقله عن سيبويه فلعله أغلبي وقد يقال : هذا المعنى يقتضيه السياق من غير توقف على كون إذ فجائية ثم المراد أن هذا الكاذب المكذب أظلم من كل ظالم أليس في جهنم مثوى للكافرين
32
- أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وتعالى وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والجمع معنى من كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها أو لجنس الكفرى فيشمل أهل الكتاب ويدخل هؤلاء في الحكم دخولا أوليا وأيا ما كان فالمعنى على كفاية جهنم مجازاة لهم كأنه قيل : أليست جهنم كافية للكافرين مثوى كقوله تعالى : حسبهم جهنم يصلونها أي هي تكفي عقوبة لكفرهم وتكذيبهم والكفاية مفهومة من السياق كما تقول لمن سأل شيئا : ألم أنعم عليك تريد كفاك سابق أنعامي عليك واستدل بالآية على تكفير أهل البدع لأنهم مكذبون بما علم صدقه
وتعقب بأن من كذب مخصوص بمن كذب الأنبياء شفاها في تبليغهم لا مطلقا لقوله تعالى : إذ جاءه ولو سلم إطلاقه فهم لكونهم يتأولون ليسوا مكذبين وما نفوه وكذبوه ليس معلوما صدقه بالضرورة إذ لو علم من الدين ضرورة كان جاحده كافرا كمنكر فرضية الصلاة ونحوها
وقال الخفاجي : الأظهر أن المراد تكذيب الأنبياء عليهم السلام بعد ظهور المعجزات في أن ما جاؤا به من عند الله تعالى لا مطلق التكذيب وكأني بك تختار أن المتأول غير مكذب لكن لا عذر في تأويل ينفي ما علم من الدين ضرورة والذي جاء بالصدق وصدق به الموصول عبارة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس وفسر الصدق بلا إله إلا الله والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية دخول الجند في قولك : نزل الأمير موضع كذا وليس هذا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء لأن الثاني لم يقصد من حاق اللفظ ولا يضر في ذلك أن المجيء بالصدق ليس وصفا للمؤمنين الأتباع كما لا يخفى والموصول على هذا مفرد لفظا ومعنى والجمع في قوله تعالى : أولئك هم المتقون
33
- باعتبار دخول الأتباع تبعا ومراتب التقوى متفاوتة ولرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعلاها وجوز أن يكون الموصول صفة لمحذوف أي الفوج الذي أو الفريق الذي الخ فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى فقيل : الكلام حينئذ على التوزيع لأن
(24/2)
المجيء بالصدق على الحقيقة له عليه الصلاة و السلام والتصديق بما جاء به وإن عمه وأتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه فيهم أظهر فليحم عليه للتقابل وفي الكشف الأوجه أن لا يحمل على التوزيع غاية ما في الباب أن أحد الوصفين في أحد الموصوفين أظهر وعليه يحمل كلام الزمخشري الموهم للتوزيع وحمل بعضهم الموصول على الجنس فإن تعريفه كتعريف ذي اللام للجنس والعهد والمراد حينئذ به الرسل والمؤمنون
وأيد إرادة ما ذكر بقراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به وزعم بعضهم أنه أريد والذين فحذفت النون كما في قوله : إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم مالك وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله : أبني كليب إن عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا وقال علية وأبو العالية والكلبي وجماعة الذي جاء بالصدق هو الرسول صلى الله عليه و سلم والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأخرج ذلك ابن جرير والبارودي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان وله صحبة عن علي كرم الله تعالى وجهه وقال أبو الأسود ومجاهد في رواية وجماعة من أهل البيت وغيرهم : الذي صدق به هو علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : الذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام وصدق به هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قيل : وعلى الأقوال الثلاثة يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز على الأصح عند النحاة من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقا أي سواء عطف على موصول آخر أم لا
ويضعفه أيضا الإخبار عنه بالجمع وأجيب بأنه لا ضرورة إلى الإضمار ويراد بالذي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والصديق أو علي كرم الله تعالى وجههما معا على الصلة للتوزيع أو يراد بالذي جبريل عليه السلام والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم معا كذلك وضمير الجمع قد يرجع إلى الإثنين وقد أريد بالذي ولا يخفى ما ذلك من التكلف والله تعالى أعلم بحال الأخبار ولعل ذكر أبي بكر مثلا على تقدير الصحة من باب الإقتصار على بعض أفراد العام لنكتة وهي في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كونه أول من آمن وصدق من الرجال وفي علي كرم الله تعالى وجهه كونه من أول من آمن وصدق من الصبيان ويقال نحو ذلك على تقدير صحة خبر السدي ولا يكاد يصح لقوله تعالى : فيما بعد ليكفر الخ وبما ذكر يجمع بين الأخبار إن صحت ولا يعتبر في شيء منها الحصر فتدبر وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان وصدق به مخففا أي وصدق به الناس ولم يكذبهم به يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف فالمفعول محذوف لأن الكلام في القائم به الصدق وفي الحديث الصدق والكلام على العموم دون خصوصه عليه الصلاة و السلام فإن جملة القرآن حفظه الصحابة عنه عليه الصلاة و السلام وأدوه كما أنزل وقيل : المعنى وصار صادقا به أي بسببه لأن القرآن معجز والمعجز يدل على صدق النبي عليه الصلاة و السلام وعلى هذا فالوصف خاص وقد تجوز في ذلك باستعمال صدق بمعنى صار صادقا به ولا كناية فيه كما قيل وقال أبو صالح : أي وعمل به وهو كما ترى وقريء
(24/3)
وقريء وصدق به مبنيا للمفعول مشددا لهم ما يشاءون عند ربهم بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاؤنه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤنه من تكفير السيئات وإلا من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة ذلك الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤنه جزاء المحسنين
34
- أي الذين أحسنوا أعمالهم والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيها على العلة لحصول الجزاء وقيل : المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولا أوليا وقوله تعالى : ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا الخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاؤنه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا الخ وليس ببعيد معنى عن الأول وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه : وذلك جزاء المحسنين أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل : وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوه ويجزيهم أجرهم ويعطيهم ثوايهم بأحسن الذي كانوا يعملون
35
- وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار
وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى ربهم لإبراز كمال الإعتناء بمضمون الكلام وإضاغة أسوأ وأحسن إلى ما بعدهما من إضافة أفعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ لاستعظامهم المعصية مطلقا لشدة خوفهم والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه
وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظرا إلى وصوله إلى أقصى الغاية الكمالية ثم لما كانوا متقين كاملي التقي لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضا وتقديرا
وقوله سبحانه : بأحسن الذي كانوا يعملون دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفضيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والأحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان وأما قوله في الإعتراض عليه : إنه قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم و أحسن في التفضيل على ما هو عند الله عز و جل وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه ههنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر وقيل : إن أسوأ على ما هو الشائع في أفعل التفضيل وليس المراد أن لهم عملا سيئا وعملا أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية على تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم ولا نسلم
(24/4)
وجوب تحقق المعنى الحقيقي في الكناية وهو كما ترى وقال غير واحد : أفعل على ما هو الشائع والأسوأ الكفر السابق على التقوى والإحسان والمراد تكفير جميع ما سلف منهم قبل الإيمان من المعاصي بطريق برهاني
وعلى هذا لا ينسى تفسير وصدق به بعلي كرم الله تعالى وجهه إذ لم يسبق له كفر أصلي ولا يكاد يعبر عن الكفر التبعي بأسوأ العمل وقيل : أفعل ليس للتفضيل أصلا فأسوأ بمعنى السيء صغيرا كان أو كبيرا كما هو وجه أيضا في الأشج أعدل بني مروان وأيد بقراءة ابن مقسم وحامد بن يحيى عن ابن كثير رواية عن البزي عنه أسواء بوزن أفعال جمع سوء وأحسن عند أكثر أهل هذه الأقوال على بابه على معنى أنه تعالى ينظر إلى أحسن طاعاتهم فيجري سبحانه الباقي في الجزاء على قياسه لطفا وكرما وزعم الطبرسي أن الأحسن الواجب والمندوب والحسن المباح والجزاء إنما هو على الأولين دون المباح وقيل : المراد يجزيهم بأحسن من عملهم وهو الجنة وفيه ما فيه والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة
أليس الله بكاف عبده إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها والمراد بعبده إما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن السدي وأيد بقوله تعالى : ويخوفونك بالذين من دونه أي الأوثان التي اتخذوها آلهة فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافا أو حالا له صلى الله عليه و سلم : وقد روي أن قريشا قالت له عليه الصلاة و السلام : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت وفي رواية قالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة و السلام انتضاما أوليا وأيد بقراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي عباده بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم السلام والمؤمنين وعلى الأول يراد أيضا الأتباع كما سمعت في قوله تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به ويخوفونك شامل لهم أيضا على ما سلف والتئام الكلام بقوله تعالى : فمن أظلم إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضا المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن أنه داخل في كفاية مهمي الرسول عليه الصلاة و السلام وأتباعه وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيدا لما أمر به أولا من العبادة والإخلاص وقريء بكافي عباده بالإضافة و يكافي عباده مضارع كافي ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك : يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو فسيكفيكهم الله ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة وهي المجازاة ووجه الإرتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاء وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه : ذلك جزاء المحسنين بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عز و جل : ليكفر الخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضا من ضرورة الإختصاص والتعليل وفيه أيضا ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير
(24/5)
ما ذكر كما يظهر بادنى التفات أردف بقوله تعالى : أليس الله بكاف عبده وحيث أن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلى الله عليه و سلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة و السلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى : ويخوفونك فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيرا من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملائمة نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك
ومن يضلل الله حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلا فماله من هاد
36
- يهديه إلى خير ما ومن يهد الله فيجعل كونه تعالى كافيا نصب عينه عاملا بمقتضاه فما له من مضل يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته عز و جل كما ينطق به قوله تعالى : أليس الله بعزيز غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع ذي انتقام
37
- ينتقم من أعدائه لأوليائه وإظهار الإسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله لظهور الدليل ووضوح السبيل فقد تقرر في العقول وجوب انتهاء الممكنات إلى واجب الوجود والإسم الجليل فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله قل تبكيتا لهم أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني بضر هل من كاشفات ضره أي إذا كان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عز و جل كما أقررتم فأخبروني أن آلهتكم إن أرادني الله سبحانه بضر هل يكشفن عني ذلك الضر فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وقال بعضهم : التقدير إذا لم يكن خالق سواه تعالى فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم فرأيتم ما تدعون الخ أو أرادني برحمة أي أو إن أرادني بنفع هل هن ممسكات رحمته فيمنعها سبحانه عني وقرأ الأعرج وشيبة وعمرو بن عبيد وعيسى بخلاف عنه وأبو عمرو وأبو بكر كاشفات وممسكات بالتنوين فيهما ونصب ما بعدهما وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه النفسية عليه الصلاة و السلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة وقدم الضر لأن دفعه أهم وقيل : كاشفات وممسكات على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها قل حسبي الله كافي جل شأنه في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر وروي عن مقاتل أنه صلى الله عليه و سلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك
عليه يتوكل لا على غيره في كل شيء المتوكلون
38
- لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها فإن المكانة نقلت من المكان المحسوس إلى الحالة التي عليها الشخص واستعيرت لها استعارة محسوس لمعقول وهذا كما تستعار حيث وهنا للزمان بجامع الشمول والإحاطة وجوز أن يكون المعنى اعملوا على حسب تمكنكم واستطاعتكم
وروي عن عاصم مكاناتكم بالجمع والأمر للتهديد وقوله تعالى : إني عامل وعيد لهم وإطلاقه لزيادة الوعيد لأنه لو قيل : على مكانتي لتراءى أنه عليه الصلاة و السلام على حالة واحدة لا تتغير ولا تزداد فلما
(24/6)
أطلق أشعر بأن له صلى الله تعالى عليه وسلم كل زمان مكانة أخرى وأنه لا يزال يزداد قوة بنصر الله تعالى وتأييده ويؤيد ذلك قوله تعالى : فسوف تعلمون
39
- فإنه دال على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم منصور عليهم في الدنيا والآحرة بدليل قوله تعالى : من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم
40
- فإن الأول إشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلىى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار فلو قيل إني عامل على مكانتي وكان إذ ذاك غير غالب بل الأمر بالعكس لم يلائم المقصود و من تحتمل الإستفهامية والموصولية وجملة يخزيه صفة عذاب والمراد بمقيم دائم وفي الكلام مجاز في الظرف أو الإسناد وأصله مقيم صاحبه إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس لأجلهم فإن مناط مصالحهم في المعاش والمعاد بالحق حال من مفعول أنزلنا أو من فاعله أي أنزلنا الكتاب ملتبسا أو ملتبسين بالحق فمن اهتدى بأن عمل بما فيه فلنفسه إذ نفع به نفسه ومن ضل بأن لم يعمل بموجبه فإنما يضل عليها لما أن وبال ضلاله مقصور عليها وما أنت عليهم بوكيل
41
- لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ
الله يتوفى الأنفس أي يقبضها عن الإبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها حين موتها أي في وقت موتها والتي لم تمت أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها متعلق بيتوفى أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان وجوز فيه كونه مصدرا ميميا بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضا فتوفي الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهر فقط وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئا واحدا في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل : حين موتها والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفا قيل : في منامها أي وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل : مجاز عقلي لأنهما حالا أبدانها لا حالاها وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان وجعل الزمخشري الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة دراكة حتى كان ذاتها قد سلبت وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأنه ليس الأسلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الإختيارية وغيرها قال في قوله تعالى : والتي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل وتقديم الإسم الجليل وبناء يتوفى عليه للحصر أو للتقوى أو لهما واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عز و جل فيمسك التي أي الأنفس قضى في الأزل عليها الموت ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطنا وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي
(24/7)
وقرا حمزة والكسائي وعيسى وطلحة والأعمش وابن وثاب قضى على البناء للمفعول ورفع الموت
ويرسل الأخرى أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنها وعبر بالإرسال رعاية للتقابل إلى أجل مسمى هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه آني لا امتداد له فلا يغيا واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلا وهو حسن وقيل : يرسل مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظا إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى وروي عن ابن عباس أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم وهو قول بالفرق بين النفس والروح ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالروح الأمرية وبالروح الإلهية وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية والثانية كالعرش للأولى قال بعض الحكماء المتألهين : إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الآلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه وإلى عدم التغاير ذهب جماعة وهو قول ابن جبير واحد قولين لابن عباس وما روي عنه أولا في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث أن النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال الزمخشري وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروي بدليل موتها ومنامها والضمير للأنفس وما أريد منها متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما
وقال في الكشف ولأن الفرق بين النفسين رأى أن يدفعه البرهان وإيقاع الإستيفاء أيضا لابد له من تأويل أيضا فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الإماتة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفي منه وافيا كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلى الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه وفيه دغدغة والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفي الأنفس التي تقابل الأبدان دون الجملة
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخله إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم ليلة الوادي : إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر فقال : من يكلؤنا الليلة فقلت : أنا فنام ونام الناس ونمت فلم تنستيقظ إلا بحر الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة و السلام : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا فقال علي كرم الله تعالى وجهه : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى فالله تعالى يتوفى الأنفس
(24/8)
كلها فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله تعالى عنهما وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر نعم لعلك تختاره وكأنك تقول : إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمة ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الإسمي وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تيتعد استعدادا ما لقبول بعض آثاره والإستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها فمتى رأت وهي تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة ومتى رأت وهي راجعة القهقري إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الإفراد فيما يكون من الإستعداد والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال إن في ذلك لآبات لقوم يتفكرون
42
- الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضتي ذكره أو بعد منزلته والتنوين في آيات للتكثير والتعظيم أي إن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها
أم اتخذوا أي بل اتخذ قريش فأم منقطعه الإستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم من دون الله شفعاء تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب وقيل : في أمورهم الدنيوية والأخروية وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه ومعنى من دون الله من دون رضاه أو اذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من أذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أم اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤل لما ذكر قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون
43
- أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئا من الأشياء وعدم وعقلهم إياه وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة لو كانوا لا يملكون الخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون والمعنى على الحالية أيضا كأنه قيل : أيشفعون على كل حال وقال بعض المحققين من النحاة : أنها اعتراضية ويعني بالجملة الإعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقا به معنى مستأنفا لفظا على طريق الإلتفات كقوله
فأنت طلاق والطلاق ألية
وقوله : ترى كل من فيها وحاشاك فانيا
وقد تجيء بعد تمام الكلام كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي احتياج أداة الشرط هذا التركيب
(24/9)
إلى الجواب خلاف وعلى القول بالإحتياج هو محذوف لدلالة ما قيل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية
وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الإتخاذ أي قل أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهوان الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقودان ههنا وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أو الإختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالإستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقا في غاية الضعف
وقوله تعالى : له ملك السماوات والأرض استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعا له عز و جل كأنه قيل : له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه وقوله تعالى : ثم إليه ترجعون
44
- عطف على قوله تعالى : له ملك الخ وكأنه تنصيف على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عز و جل
وجوز أن يكون عطفا على قوله تعالى : لله الشفاعة وجعله في البحر تهديدا لهم كأنه قيل : ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتكم وتقديم إليه للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا ترجعون وإذا ذكر الله وحده أي مفردا بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم وقيل : أي إذا قيل لا إله إلا الله اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى : وغذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا وإذا ذكر الذين من دونه فرادى أو مع ذكر الله عز و جل إذا هم يستبشرون
45
- لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الإستبشار أن يمتليء القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه والإشمئزاز أن يمتليء غيظا وغما ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وحه العباس المحزون و إذا الأولى شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو اشمأزت أو الفعل الذي يليها وهو ذكر عند أبي حيان وجماعة وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم وكذا إذا الثانية فالعامل فيها إما ذكر بعدها وإما يستبشرون و إذا الثالثة فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول بإسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملين هنا خبر المبتدأ بعدها وقال الزمخشري : عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجاؤا وقت الإستبشار فهي مفعول به وجوز أن تكون فاعلا على معنى فاجأهم وقت الإستبشار وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناء على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوبا على الظرفية
نعم قيل على الزمخشري : أنه لا سلف له فيما ذهب إليه وأمن تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره ومن العجيب قول الحوفي إن إذا الثالثة ظرفية جيء بها تكرارا لإذا قبلها وتوكيدا وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا والآية في شأن المشركين مطلقا وأخرج ابن مردويه عن ابن
(24/10)
عباس أنه فسر الذين لا يؤمنون بالآخرة بأبي جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبي بن خلف وفسر الذين من دونه باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والنجم عند باب الكعبة : وهذا أيضا لا ينافي العموم كما لا يخفى وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الإستقلال بالتصرف إليه عز و جل وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني فقلت له : قل يا الله فقد قال سبحانه : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فغضب وبلغني أنه قال : فلان منكر على الأولياء وسمعت عن بعضهم أنه قال : الولي أسرع إجابة من الله عز و جل وهذا من الكفر بمكان نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان
قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
46
- أمر بالدعاء والإلتجاء إلى الله تعالى لما قاساه في أمر دعوتهم وناله في شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه تعالى القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها والمقصود من الأمر بذلك بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم وأن جده وسعيه معلوم مشكور عنده عز و جل وتعليم العباد الإلتجاء إلى الله تعالى والدعاء بأسمائه العظمى ولله تعالى رد الربيع بن خثيم لما سئل عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه تأوه وتلا هذه الآية فإذا ذكر لك شيء مما جرى بين الصحابة قل : اللهم فاطر السماوات الخ فإنه من الآداب التي ينبغي أن تحفظ وتقديم المسند إليه في أنت تحكم للحصر أي أنت تحكم وحدك بين العباد فيما استمر اختلافهم فيه حكما يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي والمقصود من الحكم بين العباد الحكم بينه عليه الصلاة و السلام وبين هؤلاء الكفرة
ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا الخ قيل مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذي استدعاه النبي صلى الله عليه و سلم وغاية شدته وفظاعته أي لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والدخائر ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة أي لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشسء الشديد وقيل الجملة معطوفة على مقدر والتقدير فأنا أحكم بينهم وأعذبهم ولو علموا ذلك ما فعلوا ما فعلوا والأول أظهر وليس المراد إثبات الشرطية بل التمثيل لحالهم بحال من يحاول التخلص والفداء مما هو فيه بما ذكر فلا يتقبل منه وحاصله أن العذاب لازم لهم لا يخلصون منه ولو فرض هذا المحال ففيه من الوعيد والإقناط ما لا يخفى
وقوله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
47
- أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم زيادة مبالغة في الوعيد ونظير ذلك في الوعد قوله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين والجملة قيل : الظاهر أنها حال من فاعل افتدوا
(24/11)
وبدا لهم حين تعرض عليهم صحائفهم سيآت ما كسبوا أي الذي كسبوه وعملوه على أن ما موصولة أو كسبهم وعملهم على أنها مصدرية وإضافة سيئات على معنى من أو اللام وحاق أي أحاط بهم ما كانوا به يستهزؤون
48
- أي جزاء ذلك على أن الكلام على تقدير المضاف أو على أن هناك مجازا بذكر السبب وإرادة مسببه و ما محتملة للموصولية والمصدرية أيضا فإذا مس الإنسان ضر دعانا إخبار عن الجني بما يغلب فيه وقيل : المراد بالإنسان حذيفة بن المغيرة وقيل : الكفرة ثم إذا خولناه نعمة منا أي أعطيناه إياها تفضلا فإن التخويل على ما قيل مختص به لا يطلق على ما أعطى جزاء قال إنما أوتيته على علم أي على علم مني بوجوه كسبه أو بأني سأعطاه لمالي من الإستحقاق أو على علم من الله تعالى بي وباستيجابي وإنما للحصر أي ما أوتيته لشيء من الأشياء إلا لأجل علم والهاء للنعمة والتذكير لتأوليها بشيء من النعم والقرينة على ذلك التنكير وقيل : لأنها بمعنى الإنعام وقيل : لأن المراد بها المال وقيل : لأنها تشتمل على ما ذكر ومؤنث فغلب المذكر وجوز أن يكون لما في إنما على أنها موصولة أي إن الذي أوتيته كائن على علم ويبعد موصوليتها كتابتها متصلة في المصاحف بل هي فتنة رد لقوله ذلك والضمير للنعمة باعتبار لفظها كما أن الأول لها باعتبار معناها واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى جائز وإن كان الأكثر العكس وجوز أن يكون التأنيث باعتبار الخبر وقيل : هو ضمير الإتيانة وقريء بالتذكير فهو للنعمة أيضا كالذي مر أو للإتيان أي ليس الأمر كما يقول بل ما أوتيه امتحان له أيشكر أم يكفر وأخبر عنه بالفتنة مع أنه آلهة لها لقصد المبالغة ونحو هذا يقال على تقدير عود الضمير للإتيانة أو الإتيان ولكن أكثرهم لا يعلمون
49
- إن الأمر كذلك وهذا ظاهر في أن المراد بالإنسان الجنس غذ لو أريد العهد لقيل لكنه لا يعلم أو لكنهم لا يعلمون وإرادة العهد هناك وإرجاع الضمير للمطلق هنا على أنه استخدام نظير عندي درهم ونصفه تكلف
والفاء للعطف وما بعدها عطف على قوله تعالى : وإذا ذكر الله وحده الخ وهي لترتيبه عليه والغرض منه التهكم والتحميق وفيه ذمهم بالمناقضة والتعكيس حيث أنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره وهذا كما تقول : فلان يسيء إلى فلان فإذا احتاج سأله فأحسن إليه ففي الفاء استعارة تبعية تهكمية وقيل : يجوز أن تكون للسببية داخلة على السبب لأن ذكر المسبب يقتضي ذكر سببه لأن ظهور ما لم يكونوا يحتسبون الخ مسبب عما بعد الفاء إلا أنه يتكرر مع قوله تعالى الآتي : والذين ظلموا منهم إلى آخره إن لم يتغايروا بكون أحدهما في الدنيا والآخر في الأخرى وإلى ما قدمنا ذهب الزمخشري والجمل الواقعة في البين عليه أعني قوله سبحانه : قل اللهم إلى يستهزئون اعتراض مؤكد للإنكار عليهم وزعم أبو حيان أن في ذلك تكلفا واعتراضا بأكثر من جملتين وأبو علي الفارسي لا يجيز الإعتراض بجملتين فكيف يجيزه بالأكثر وأنا أقول : لا بأس بذلك لا سيما وقد تضمن معنى دقيقا لطيفا والفارسي محجوج بما ورد في كلام العرب من ذلك قد قالها الذين من قبلهم ضمير قالها لقوله تعالى : إنما أوتيته على علم لأنها كلمة أو جملة وقريء بالتذكير أي القول أو الكلام المذكور والذين من قبلهم قارون وقومه فإنه قال ورضوا به فالإسناد من باب إسناد ما للبعض إلى الكل وهو مجاز عقلي
(24/12)
وجوز أن يكون التجوز في الظرف فقالها الذين من قبلهم بمعنى شاعت فيهم والشائع الأول والمراد قالوا مثل هذه المقالة هذه المقالة أو قالوها بعينها ولاتحاد صورة اللفظ تعد شيئا واحدا في العرف فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون
50
- من متاع الدنيا ويجمعون منه
فأصابهم سيآت ما كسبوا أي أصابهم جزاء سيئات كسبهم أو الذي كسبوه على أن الكلام بتقدير مضاف أو أنه تجوز بالسيئات عما تسبب عنها وقد يقال لجزاء السيئة سيئة مشاكلة نحو قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها فيكون ما هنا من المشاكلة التقديرية وإذا كان المعنى على جعل جزاء جميع ما كسبوا سيئا دل الكلام على أن جميع ما كسبوا سيء إذ لو كان فيه حسن جوزي عليه جزاء حسنا وفيه من ذمهم ما فيه
والذين ظلموا من هؤلاء المشركين و من للبيان فإنهم كلهم كانوا ظالمين إذا الشرك ظلم عظيم أو للتبعيض فالمراد بالذين ظلموا من أصر على الظلم حتى تصيبهم قارعة وهم بعض منهم سيصيبهم سيئآت ما كسبوا كما أصاب الذين من قبلهم والمراد به العذاب الدنيوي وقد قحطوا سبع سنين وقتل : ببدر صناديدهم وقيل العذاب الأخروي وقيل : الأعم ورجح الأول بأنه الأوفق للسياق وأشير بقوله تعالى : وما هم بمعجزين
51
- أي بفائتين على ما قيل إلى العذاب الأخروي
أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقدر لمن يشاء أن يقدر له غير أن يكون لأحد ما مدخل في ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسطه لهم سبعا إن في ذلك الذي ذكر لآيات دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى شأنه والأسباب في الحقيقة ملغاة لقوم يؤمنون
52
- إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم أي أفرطوا في المعاصي جانين عليها وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازا بمرتبتين على ما قيل وقال الراغب : هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن
وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا وقيل : هو مضمن معنى الحمل وحمل غير واحد الإضافة في عبادي على العهد أو على التشريف وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه عز و جل في القرآن العظيم فكأنه قيل : أيها المؤمنون المذنبون لا تقنطوا من رحمة الله أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عز و جل على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له وتعليل النهي بقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا يقتضي دخولها في المعلل والتذييل بقوله سبحانه إنه هو الغفور الرحيم
53
- كالصريح في ذلك وجوز أن يكون في الكلام صنعة الإحتباك كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعا ويرحم وفيه بعد وقالوا : المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها وقيل : المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
(24/13)
يشاء ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك ويشهد للإطلاق أيضا أمور الأول ندائهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر الثاني الإختصاص الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه الثالث تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به على بأنفسهم فكأنه قيل : ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلا خائفا عالما بسخط سيده عليه ناظرا لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب
الرابع النهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها الخامس إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الإلتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره السادس التعليل بقوله تعالى إن الله الخ فإن التعليل يحسن مع الإستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعادا من تركه مع التوبة السابع وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها الثامن تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الإستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه التاسع التأكيد بالجميع العاشر التعليل بأنه هو الخ الحادي عشر التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف الكبائر بدون توبة الثاني عشر حذف معمول الغفور فإن حذف المعمول يفيد العموم الثالث عشر إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة الرابع عشر المبالغة في ذلك الحصر
الخامس عشر الوعد بالحرمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما إذا لم يتب السادس عشر التعبير بعيغة المبالغة فيها السابع عشر إطلاقها ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا : إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ وكون القرآن في حكم كلام واحد وأيدوا ذلك بقوله تعالى : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون
54
- فإنه عطف على ألا تقنطوا والتعليل معترض وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفا لتتميم الإيضاح كأنه قيل : لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عز و جل
وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلا عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذ لا يكون المعطوف شرطا للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته وقيل : إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يحل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب
وقال بعض أجلة المدققين : إن قوله تعالى : يا عبادي الذين أسرفوا خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلها آخر وقتل
(24/14)
النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف تهاجر وتسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم الخ
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول : لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت هذه الآيات الثلاث قل يا عبادي إلى وأنتم لا تشعرون بالمدينة في وحشي وأصحابه ويخلل قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا بين المعطوفين تعليلا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وإن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى : إنه هو الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلي باللام وقد أكد بما صار ونصا في الإستغراق ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كاكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفا والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في يا عبادي العاصين والكافرين وأمر الإضافة سهل وإن قوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا وكون الأمور كلها متعلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد بالمشرك مالم يؤمن لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان فالمشرك داخل فيمن يشاء لكم بالشرط المعروف واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه
ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ما أحب أن ليس الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك فسكت النبي صلى الله عليه و سلم ساعة ثم قال : إلا ومن أشرك ثلاث مرات لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة و السلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الإجتهاد لأنا نقول : السؤال للإستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا
وقيل : الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الإجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة و السلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه و سلم وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء ويؤيد إطلاق المغفرة على قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم فإنه ليس للايبالي كثير حسن إن
(24/15)
كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع فجعلوا يذكرون آيات من القرآن من يعمل سؤا أو يظلم نفسه الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه : ما في القرآن أوسع آية من يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية
والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان أنقص من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذلب بمقدار ذنبه في النار وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها وقيل : تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلفظه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عز و جل وفيه ما فيه فتأمل وأصل الإنابة الرجوع
ومعنى وأنيبوا إلى ربكم الخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها وقيل : بالإنقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة وقال القشيري : الإنابة الرجوع بالكلية والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز و جل وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن تجافه بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى الله عليه و سلم لدعوة الناس كافة والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمورية أو العزائم أو الناسخ وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان وقيل : لعل الأحسن ما هو أنجي وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضا وجوز أن يكون الخطاب للجني والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن وفيه ارتكاب خلاف الظاهر وفي ذكر الرب ترغيب في الإتباع من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون
55
- لا تعلمون أصلا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه أن تقول نفس في موضع المفعول له بتقدير مضاف وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قيل أي أذنركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب أنيبوا أو اتبعوا وأيا ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال : أي أنذرناكم مخافة أن تقول وابن عطية جعل العامل أنيبوا ولم يقدر شيئا من الكرامة والمخافة حيث قال : أي أنيبوا من أجل أن تقول وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول وتنكير نفس للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى : ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا فإنه أراد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان قيل : ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون تلك وجوز أيضا أن
(24/16)
يكون للتعظيم أي نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج شديد أو بعذاب عظيم وليس بذاك يا حسرتي بالألف بدل ياء الإضافة والمعنى كما قال سيبويه يا حسرتي احضري فهذا وقتك وقرأ ابن كثير في الوقف يا حسرتاه بهاء السكت وقرأ أبو جعفر يا حسرتي بياء الإضافة وعنه يا حسرتي بالألف والياء التحتية مفتوحة أو ساطنة جمعا بين العوض والمعوض كذا قيل ولا يخفى أن مثل هذا غير جائز اللهم إلا شاذا استعمالا وقياسا فالأوجه أن يكون ثني الحسرة مبالغة على نحو لبيك وسعديك وأقام بين ظهريهم وظهرانيهم على لغة بلحرث بن كعب من إبقاء المثنى على الألف في الأحوال كلها واختار ذلك صاحب الكشف وجوز أبو الفضل الرازي في كتابه اللوامح أن تكون التثنية على ظاهرها على تلك اللغة والمراد حسرة فوت الجنة وحسرة دخول النار واعتبار التكثير أولى لكثرة حسراتهم يوم القيامة على ما فرطت أي بسبب تفريطي فعلى تعليلية و ما مصدرية كما في قوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم والتفريط التقصير في جنب الله أي جائبه قال الراغب : أصل الجنب الجارحة ثم يستعار للناحية والجهة التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال والمراد هنا الجهة مجازا والكلام على حذف مضاف أي في جنب طاعة الله أو في حقه تعالى أي ما يحق له سبحانه ويلزم وهو طاعته عز و جل وعلى ذلك قول سابق البربري من شعراء الحماسة : أما تتقين الله في جنب عاشق له كبد جري عليك تقطع والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى الأبلغ لكونه بطريق برهاني ونظير ذلك قول زياد الأعجم : إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج ولا مانع من أن يكون للطاعة وكذا حق الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه جهة بالتبعية للمطيع كمكان السماحة وما معها في البيت ومما ذكرنا يعلم أنه لا مانع من الكناية كما توهم وقال الإمام : سمي الجنب لأنه جانب من جوانب الشيء والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة انتهى وجعلوا في الكلام عليه استعارة تصريحية وليس هناك مضاف مقدر وليس بذاك وقول ابن عباس : يريد على ما ضيعت من ثواب الله ومقاتل : على ما ضيعت من ذكر الله ومجاهد والسدي : على ما فرطت في أمر الله والحسن : في طاعة الله وسعيد بن جبير : في حق الله بيان لحاصل المعنى وقيل : الجنب مجاز على الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازا لربه فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازا وركاكته أيضا وقيل : هو مجاز على القرب أي على ما فرطت في قرب الله وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عز و جل من الجنب بالمعنى الحقيقي
ولم أقف على أحد من السلف إياه من الصفات السمعية ولا أعول على ما في المواقف وعلى فرض العد
(24/17)
كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وفي حرف عبد الله زحفصة في ذكر الله وإن كنت لمن الساخرين
56
- أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله و إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي
وقال في البحر : ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال والمقصود من ذلك الإخبار والتحسر والتحزن أو تقول لو أن الله تعالى هداني لكنت من المتقين
57
- أي من الشرك والمعاصي
وفسر غير واحد الهداية هنا بالإرشاد والدلالة الموصلة بناء على أنه الأنسب بالشرطية والمطابق للرد بقوله سبحانه : بلى الخ وفسرها أبو حيان بخلق الإهتداء وأيا كان فالظاهر أن هذه المقالة في الآخرة
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة أي رجوعا إلى الحياة الدنيا فأكون من المحسنين
58
- في العقيدة والعمل و لو للتمني فأكون منصوب في جوابها وجوز في البحر أن يكون منتصبا بالعطف على كرة إذ هو مصدر فيكون مثل قوله : فما لك عنها غير ذكري وحسرة وتسأل عن ركبانها أين يمموا وقول الآخر : ولبس عباءة وتقر عيني أحب لي من لبس الشفوف ثم قال : والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني كانت أن واجبة الإضمار وكان الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمني وإذا كانت للعطف على كرة جاز أن وإضمارها وكان الكون متمني
وقوله تعالى : بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين
59
- جواب من الله عز و جل لما تضمنه قول القائل لو أن الله هداني من نفي أن يكن الله تعالى هداه ورد عليه ولا يشترط في الجواب ببلى تقدم النفي صريحا وقد وقع موقعه اللائق به لأنه لو قدم على القرينة الأخيرة أعني أو تقول حين ترى العذاب الخ وأوقع بعده غير مفصول بينهما بها لم يحسن لتبتير النظم الجليل فإن القرائن الثلاث متناسبة متناسقة متلاصقة والتناسب بينهن أتم من التناسب بين القرينة الثانية وجوابها ولو أخرت القرينة الثانية وجعلت الثالثة ثانية لم يحسن أيضا لأن رعاية الترتيب المعنوي وهي أهم تفوت إذ ذاك وذلك لأن التحسر على التفريط عند تطاير الصحف على ما يدل عليه مواضع من القرآن العظيم والتعلل بعدم الهداية إنما يكون بعد مشاهدة حال المتقين واغتباطهم ولأنه للتسلي عن بعض التحسر أو من باب تمسك الغريق فهو لاحق وتمني الرجوع بعد ذوق النار ألا ترى إلى قوله تعالى : إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب وكذلك لو حمل الوقوف على الحبس على شفيرها أو مشاهدتها وكل بعد مشاهدة حال المتقين وما لقوا من خفة الحساب والتكريم في الموقف ولأن اللجأ إلى التمني بعد أن لا جدوى للتعليل
وقال الطيبي : إن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة يرى الناس مجزيين بأعمالهم فيتحسر على تفويت الأعمال عليها ثم قد يتعلل بأن التقصير لم يكن مني فإذا نظر وعلم أن التقصير كان منه تمني الرجوع ثم الظاهر من السياق أن النفوس جمعت بين الأقوال الثلاثة فاو لمنع الخلو وجيء بها تنبيها على أن كل واحد يكفي صارفا عن إيثار الكفر وداعيا إلى الإنابة واتباع أحسن ما أنزل وتذكير الخطاب في جاءتك الخ على المعنى
(24/18)
لأن المراد بالنفس الشخص وإن كان لفظها مؤنثا سماعيا
وقرأ ابن يعمر والجحدري وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم ومسعود بن صالح والشافعي عن ابن كثير ومحمد بن عيسى في اختياره والعبسي جاءتك الخ بكسر الكاف والتاء وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة رضي الله تعالى عنهما وروتها أم سلمة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وقرأ الحسن والأعمش والأعرج جاءتك بالهمز من غير مدبوزن فعتك وهو على ما قال أبو حيان : مقلوب من جاءتك قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف واستدل العتزلة بالآية على أن العبد خالق لأفعاله وأجاب الأشاعرة بأن إسناد الأفعال إلى العبد باعتبار قدرته الكاسبة وحقق الكوراني أنه باعتبار قدرته المؤثرة بإذن الله عز و جل لا كما ذهب إليه المعتزلة من أنه باعتبار قدرته المؤثرة أذن الله تعالى أم لم يأذن
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة ولا مانع من أن يجعل سواد الوجوه حقيقة علامة لهم غير مترتب على ما ينالهم وجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لا أنها تكون مسودة حقيقة بأن يقال : إنهم لما يلحقهم من الكآبة ويظهر عليهم من آثار الجهل بالله عز و جل يتوهم فيهم ذلك والظاهر أن الرؤية بصرية والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة و السلام وإما لكل من تتأتى منه الرؤية وجملة وجوههم مسودة في موضع الحال على ما استظهره أبو حيان وكون المقصود رؤية سواد وجوههم لا ينافي الحالية كما توهم لأن القيد مصب الفائدة ولا بأس بترك الواو والإكتفاء بالضمير فيها لا سيما وفي ذكرها ههنا اجتماع واوين مستثقل وزعم الفراء شذوذ ذلك ومن سلمه جعل الجملة هنا بدلا من الذين كما ذهب إليه الزجاج وهم جوزوا إبدال الجملة من المفرد أو مستأنفة كالبيان لما أشعرت به الجملة قبلها وأدركه الذوق السليم منها من سوء حالهم أو جعل الرؤية علمية والجملة في موضع الثاني وإيد بأنه قريء وجوههم مسودة بنصبهما على أن وجوههم مفعول ثان و مسودة حال منه وأنت تعلم أن اعتبار الرؤية بصرية أبلغ في تفضيحهم وتشهير فظاعة حالهم لا سيما مع عموم الخطاب والنصب في القراءة الشاذة يجوز أن يكون على الإبدال والمراد بالذين ظلموا أولئك القائلون المتحسرون فهو من باب إقامة الظاهر مقام المضمر وينطبق على ذلك أشد الإنطباق قوله تعالى : أليس في جهنم مثوى أي مقام للمتكبرين
60
- الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها والإنقياد لها وهو تقرير لرؤيتهم كذلك وينطبق عليه أيضا قوله الآتي : وينجي الخ
وكذبهم على الله تعالى لوصفهم له سبحانه بأن له شريكا ونحو ذلك تعالى عما يصفون علوا كبيرا وقيل : لوصفهم له تعالى بما لا يليق في الدنيا وقولهم في الأخرى : لو أن الله هداني المتضمن دعوى أن الله سبحانه لم يهدهم ولم يرشدهم وقيل أهل الكتابين وعن الحسن أنهم القدرية القائلون إن شئنا فعلنا وإن لم يشأ الله تعالى وإن شئنا لم نفعل وإن شاء الله سبحانه وقيل : المراد كل من كذب على الله تعالى ووصفه بما لا يليق به سبحانه نفيا وإثباتا فأضاف إليه ما يجب تنزيهه تعالى عنه أو نزهه سبحانه عما يجب أن يضاف إليه وحكى ذلك عن القاضي وظاهره يقتضي تكفير كثير من أهل القبلة وفيه ما فيه والأوفق لنظم الآية
(24/19)
الكريمة ما قدمنا ولا يبعد أن يكون حكم كل من كذب على الله تعالى عالما بأنه كذب عليه سبحانه أو غير عالم لكنه مستند إلى شبهة واهية كذلك وكلام الحسن أن صح لا أظنه إلا من باب التمثيل وتعريض الزمخشري باهل الحق بما عرض خارج عن دائرة العدل فما ذهبوا إليه ليس من الكذب على الله تعالى في شيء والكذب فيه وفي أصحابه ظاهر جدا وقرأ أبي أجوههم بإبدال الواو همزة وينجي الله الذين اتقوا ما اتصف به لأأولئك المتكبرون من جهنم وقريء ينجي بالتخفيف من الإنجاء بمفازتهم اسم مصدر كالفلاح على ما في الكشف أو مصدر ميمي على ما في غيره من فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه وقال الراغب : هي مصدر فاز أو اسم الفوز ويراد بها الظفر بالغيبة على أتم وجه كالفلاح وبه فسرها السدي والباء للملابسة متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أي ينجيهم الله تعالى من جهنم مثوى المتكبرين لتقواهم مما اتصف المتكبرون به ملتبسين بفلاحهم وظفرهم بالبغية وهي الجنة ومآله ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة وكون الجنة بغية المتقي كائنا من كان مما لا شبهة فيه نعم هي بغية لبعض اتلمتقين من حيث أنها محل رؤية محبوبهم التي هي غاية مطلوبهم ولك أن تعمم الغيبة وقوله تعالى : لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون
61
- في موضع الحال أيضا إما من الموصول أو من ضمير مفازتهم مفيدة لكونهم من التنجيه أو الفوز منفيا عنهم على الدوام مساس جنس السوء والحزن والظاهر أن هذه الحال مقدرة وقيل : إنها مقارنة مفيدة لكون تنجيتهم أو مفازتهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن ولا يخفى أنه لا يتسنى بالنسبة إلى جميع المتقين إذ منهم من يمسه العذاب ويحزن لا محالة وعد وجود ذلك لقتلته وانقطاعه كلا وجود تكلف بعيد وجوز أن يراد بالمفازة الفلاح ويجعل قوله تعالى : لا يمسهم الخ استئنافا لبيانها كأنه قيل : ما مفازتهم فقيل : لا يمسهم الخ
والباء حينئذ على ما في الكشف سببية متعلقة بينجي أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم وتعقب بأن في جعل عدم الحزن وعدم السوء سبب النجاة تكلفا فهما من النجاة والظاهر أنه لو جعلت الباء على هذا الوجه أيضا للملابسة لا يرد ذلك وجوز كون المفازة اسم مكان أي محل الفوز وفسرت بالمنجاة مكان النجاة وصح ذلك لأن النجاة فوز فلاح وجعلت الباء عليه للسببية وهناك مضاف محذوف بقرينة باء السببية وإن المنجاة لا تصلح سببا أي ينجيهم منجاتهم وهو الإيمان وهو كالتصريح بما اقتضاه تعليق الفعل بالموصول السابق وفسره الزمخشري بالأعمال الصالحة وقواه بما حكاه عن ابن عباس ليتم مذهبه أو لا مضاف بل هناك مجاز بتلك القرينة من إطلاق اسم المسبب على السبب والجملة بعد على الإحتمالين في هذا الوجه حال ولا يخفى أن المفازة بمعنى المنجاة مكان النجاة هي الجنة والإيمان أو العمل الصالح ليس سببا لها نفسها وإنما هو سبب دخولها فلا بد من اعتباره فلا تغفل وجوز أن تكون المفازة مصدرا ميميا من فاز منه أي نجا منه يقال : طوبى لمن فاز بالثواب وفاز من العقاب أي ظفر به ونجا والباء إما للملابسة والجملة بيان للمفازة أي ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة لهم أي بنفي السوء عنهم ولا يخفى ركاكة هذا المعنى وإما للسببية إما على حذف المفاف أو التجوز نظير ما مر آنفا ولا يحتاج هنا إلى اعتبار الدخول كما لا يخفى والجملة في موضع الحال أيضا
وجوز على بعض الأوجه تعلق بمفازتهم بما بعده ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وبالجملة الإحتمالات العقلية في الآية كثيرة لأن المفازة إما اسم مصدر أو مصدر ميمي أو اسم مكان من فاز به ظفر أو من فاز منه نجا والباء إما
(24/20)
للملابسة أو للسببية أو للإستعانة وهي إما متعلقة بما قبلها أو بما بعدها وهذه ستة وثلاثون احتمالا وإذا ضممت إليها احتمال حذف المضاف في بمفازتهم بمعنى منجاتهم أو نجاتهم واحتمال التجوز فيه كذلك وكذا احتمال كون جملة لا يمسهم الخ حالا من الموصول واحتمال كونها حالا من ضمير مفازتهم واحتمال كون الحال مقدرة وكونها مقارنة زادت كثيرا ولا يخفى أن فيها المقبول ودونه بل فيها ما لا يتسنى أصلا فأمعن النظر ولا تجمد وقرأ السلمي والحسن والأعرج والأعمش وحمزة والكسائي وأبو بكر بمفازاتهم جمعا لتكون على طبق المضاف إليه في الدلالة على التعدد صريحا الله خالق كل شيء من خير وشر وإيمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما فالآية رادة على المعتزلة ردا ظاهر وهو على كل شيء وكيل
62
- يتولى التصرف فيه كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة وكأن ذكر ذلك للدلالة على أنه سبحانه الغني المطلق وإن المنافع راجعة إلى العباد ولك أن تقول : المعنى أنه تعالى حفيظ على كل شيء كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى : وما أنت عليهم بوكيل وحاصله أنه تعالى يتولى حفظ كل شيء بعد خلقه فيكون إشارة إلى احتياج الشياء إليه تعالى في بقائها كما أنها محتاجة إليه عز و جل في وجودها
له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيها كما قال ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم فقيل هو جمع لا واحد من لفظه وقيل : جمع مقليد وقيل : جمع مقلاد من التقليد بمعنى الإلزام ومنه تقليد القضاء وهو إلزامه النظر في أموره وكذا القلادة للزومها للعنق وجعل اسما للآلة المعروفة للإلزام بمعنى الحفظ وهو على جميع هذه الأقوال عربي والأشهر الأظهر كونه معربا فهو جمع أقليد معرب أكليد وهو جمع شاذ لأن أفعيل على مفاعيل مخالف للقياس وجاء أقاليد على القياس ويقال : في إكليد كليد بلا همزة وذكر الشهاب أنه بلغة الروم أقليدس وكليد منه والمشهور أن كليد فارسي ولم يشتهر في الفارسية أكليد بالهمز وله مقاليد كذا قيل : مجاز عن كونه مالك أمره ومتصرفا فيه بعلاقة اللزوم ويكنى به عن معنى القدرة والحفظ وجوز كون المعنى الأول كنائيا لكن قد اشتهر فنزل منزلة المدلول الحقيقي فكني به عن المعنى الآخر فيكون هناك كناية وقد يقتصر على المعنى الأول في الإرادة وعليه قيل هنا المعنى لا يملك أمر السماوات والأرض ولا يتمكن من التصرف فيها غيره عز و جل والبيضاوي بعد ذكر ذلك قال : هو كناية عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيه مزيد دلالة على الإستقلال والإستبداد لمكان اللام والتقديم وقال الراغب : مقاليد السماوات والأرض ما يحيط بها وقيل : خزائنها وقيل : مفاتيحها والإشارة بكلها إلى معنى واحد وهو قدرته تعالى عليها وحفظه لها انتهى
وجوز أن يكون المعنى لا يملك التصرف في خزائن السماوات والأرض أي ما أودع فيها واستعدت له من المنافع غيره تعالى ولا يخفى أن هذه الجملة إن كانت في موضع التعليل لقوله سبحانه : وهو على كل شيء وكيل على المعنى الأول فالأظهر الإقتصار في معناها على أنه لا يملك أمر السماوات والأرض أي العالم بأسره غيره تعالى فكأنه قيل : هو تعالى يتولى التصرف في كل شيء لأنه لا يملك أمره سواه عز و جل وإن كانت تعليلا له على المعنى الثاني فالأظهر الإقتصار في معناها على أنه لا قدرة عليها لأحد غيره جل شأنه فكأنه قيل : هو تعالى يتولى حفظ كل شيء لأنه لا قدرة لأحد عليه غيره تعالى وجوز أن تكون عطف بيان للجملة قبلها وأن تكون صفة وكيل وأن تكون خبرا بعد خبر فأمعن النظر في ذلك وتدبر وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في
(24/21)
سننه وأبو الحسن القطان في المطولات وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض فقال : لا إله إلا الله والله أكبر سبحانه الله والحمد لله أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير الحديث
وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له : أخبرني عن مقاليد السماوات والأرض فقال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير يا عثمان من قالها إذا أصبح عشر مرات وإذا أمسى أعطاه الله ست خصال أما لو لهن فيحرس من إبليس وجنوده وأما الثانية فيعطى قنطارا من الأجر وأما الثالثة فيتزوج من الحور العين وأما الرابعة فيغفر له ذنوبه وأما الخامسة فيكون مع إبراهيم عليه السلام وأما السادسة فيحضره اثنا عشر ملكا عند موته يبشرونه بالجنة ويزفونه من قبره إلى الموقف فإن أصابه شيء من أهاويل يوم القيامة قالوا له لا تخف إنك من الآمنين ثم يحاسبه الله حسابا يسيرا ثم يؤمر به إلى الجنة فيزفونه إلى الجنة من موقفه كما تزف العروس حتى يدخلوه الجنة بإذن الله تعالى والناس في شدة الحساب وفي رواية العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر أن عثمان سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن تفسير له مقاليد السماوات والأرض فقال عليه الصلاة و السلام : ما سألني عنها أحد تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وفي رواية الحرث بن أبي أسامة وابن مردويه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة و السلام قال : هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالجملة اختلفت الروايات في الجواب وقيل في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : إنه ضعيف في سنده من لا تصلح روايته وابن الجوزي قال : إنه موضوع ولم يسلم له وحال الإخبار الأخر الله تعالى أعلم به والظن الضعف
والمعنى عليها أن لله تعالى هذه الكلمات يوحد بها سبحانه ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه فوجه إطلاق المقاليد عليها أنها موصولة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى الخزائن وقد ذكر صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من الخير في حديث ابن عباس وعد في الحديث قبله عشر خصال لمن قالها كل يوم مائة مرة وهو بتمامه في الدر المنثور
والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون
63
- معطوف على قوله تعالى الله خالق كل شيء الخ أي أنه عز شأنه متصف بهذه الصفات الجليلة الشأن والذين كفروا وجحدوا ذلك أولئك هم الكاملون في الخسران وقيل : على قوله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض ولا يظهر ذلك على بعض الأوجه السابقة فيه
وقيل : على مقدر تقديره فالذين اتقوا أو فالذين آمنوا بآيات الله هم الفائزون والذين كفروا الخ وفيه تكلف
وجوز أن يكون معطوفا على قوله تعالى : وينجي الله الخ فيكون التقدير وينجي الله المتقين والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه تعالى مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها وفيه تأكيد لثواب المؤمنين وفلاحهم وعقاب الكفرة وخسرانهم ولم يقل وبهلك الذين كفروا
(24/22)
بخسرانهم كما قال سبحانه : وينجي الخ للإشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله تعالى فلذا جعل نجاتهم مسندة له تعالى حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالإستحقاق والأعمال بخلاف هلاك الكفرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال ولم يسند له تعالى ولم يعبر عنه بالمضارع أيضا وفي ذلك تصريح بالوعد وتعريض بالوعيد حيث قيل : الخاسرون ولم يقل الهالكون أو المعذبون أو نحوه وهو قضية الكرم
وعطف الجملة الإسمية على الفعلية مما لا شبهة في جوازه عند النحويين ومما ذكرنا يعلم رد قول الإمام الرازي : إن هذا الوجه ضعيف من وجهين : الأول وقوع الفصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه الثاني وقوع الإختلاف بينهما في الفعلية والإسمية وهو لا يجوز والإمام أبو حيان منع كون الفاصل كثيرا
وقال في الوجه الثاني : إنه كلام من لم يتأمل كلام العرب ولا نظر في أبواب الإشتغال نعم قال في الكشف يؤيد الإتصال بما يليه دون قوله تعالى : وينجي أن قوله سبحانه : وينجي الله متصل بقوله تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا فلو قيل بعده : والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون لم يحسن لأن الأحسن على هذا المساقف أن يقدم على قوله تعالى : وينجي الله على ما لا يخفى ولأنه كالتخلص إلى ما بعده من حديث الأمر بالعبادة والإخلاص إذ ذاك وهو كلام حسن ثم الحصر الذي يقتضيه تعريف الطرفين وضمير الفصل باعتبار الكمال كما أشرنا إليه لا باعتبار مطذلق الخسران فإنه لا يختص بهم وجوز أن يكون قصر قلب فإنهم يزعمون المؤمنين خاسرين
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون
64
- أي أبعد الآيات المقتضية لعبادته تعالى وحده غير الله أعبد فغير مفعول مقدم لأعبد و تأمروني اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ولذا نودوا بعنوان الجهل وجوز أن يكون أعبد في موضع المفعول لتأمروني على أن الأصل تأمروني أن أعبد فحذفت أن وارتفع الفعل كما قيل في قوله :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
ويؤيد قراءة من قرأ أعبد بالنصب و غير منصوب بما دل عليه تأمروني أعبد أي تعبدونني غير الله أي أتصيرونني عابدا غيره تعالى ولا يصح نصبه بأعبد لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها والمقدر كالموجود وقال بعضهم : هو منصوب به وأن بعد الحذف يبطل حكمها المانع عن العمل وقرأ ابن كثير تأمروني بالإدغام وفتح الياء
وقرأ ابن عامر تأمرونني بإظهار النونين على الأصل ونافع تأمروني بنون واحدة مكسورة وفتح الياء وفي تعيين المحذوف من النونين خلاف فقيل : الثانية لأنها التي حصل بها التكرار وقيل : الأولى لأنها حرف إعراب عرضة للتغيير ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك أي من الرسل عليهم السلام لئن أشركت أي بالله تعالى شيئا ما ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين
65
- الظاهر أن جملة لئن الخ نائب فاعل أوحي لكن في الكلام حذف والأصل أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك الخ وإلى الذين من قبلك مثل ذلك وقيل : لا حذف وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد منه صلى الله تعالى عليه وسلم والمرسلين الموحى إليهم فإنه أوحي لكل لئن أشركت الخ بالإفراد وذهب البصريون إلى أن الجمل لا تكون فاعلة فلا تقوم مقام الفاعل ففي البحر أن إليك حينئذ نائب الفاعل والمعنى كما قال مقاتل أوحي إليك وإلى الذين
(24/23)
من قبلك بالتوحيد وقوله تعالى : لئن أشركت الخ استئناف خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهو كما ترى وأيا ما كان فهو كلام على سبيل الفرض لتحييج المخاطب المعصوم وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه فالإستدلال بالآية على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم السلام كما في المواقف ليس بشيء فاحتمال الوقوع فرضا كاف في الشرطية لكن ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع شرعية ولا ما لقد ولئن موطئتان للقسم واللامان بعد للجواب وفي عدم تقييد الإحباط بالإستمرار على الإشراك إلى الموت دليل للحنفية الذاهبين إلى أن الردة تحبط الأعمال التي قبلها مطلقا نعم قالوا : لا يقضى منها بعد الرجوع إلى الإسلام إلا الحج ومذهب الشافعي أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها مالم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت وترك التقييد هنا اعتمادا على التصريح به في قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد
وأجاب بعض الحنفية بأن الآية المذكورة توزيعا فأولئك حبطت أعمالهم ناظر إلى افرتداد عن الدين وأولئك أصحاب النار الخ ناظر إلى الموت على الكفر فلا مقيد ليحمل المطلق عليه ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم أو قبلها ولم يره هل يقال له : صحابي أم لا فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا ومن ذهب إلى التقييد قال : نعم وقيل : يجوز أن يكون الإحباط مطلقا من خصائص النبي عليه الصلاة و السلام إذ شركه وحاشاه أقبح وفيه ضعف لأن الغرض تحذير أمته وتصوير فضاعة الكفر أمر يختص به لا يتعدى من النبي إلى الأمة لا اتجاه له مع أنه لا مستند له من نقل أو عقل والمراد بالخسران على مذهب الحنفية ما لزم من حبط العمل فكان الظاهر فتكون إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل للإشعار بأن من الإحباط والخسران يستقل في الزجر عن افشراك وقيل : الخلود في النار فيلزم التقييد بالموت كما هو عند الشافعي عليه الرحمة
وقريء ليحبطن من أحبط عملك بالنصب أي ليحبطن الله تعالى أو الإشراك عملك وقريء بالنون ونصب عملك أيضا بل الله فاعبد رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم والفاء جزائية في جواب شرط مقدر كأنه قيل : إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا عنه وإلى هذا ذهب الزمخشري وسلفه في كونها جزائية الزجاج وأنكر أبو حيان كون التقديم عوضا عن الشرط ومذهب الفراء والكسائي أن الفاء زائدة بين المؤكد والمؤكد والاسم الجليل منصوب بفعل محذوف والتقدير الله اعبد فاعبده وقدر مؤخرا ليفيد الحصر
وفي الإنتصاف مقتضى كلام سيبويه أن الأصل تنبه فاعبد الله فحذفوا الفعل الأول اختصارا واستنكروا الإبتداء بالفاء ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول فصارت الفاء متوسطة لفظا ودالة على المحذوف وانضاف إليها فائدة الحصر لإشعار التقديم بالإختصاص واعتبار الإختصاص قيل : مما لا بد منه لأنه لم يكن الكلام ردا عليهم فيما أمروه به لولاه فإنهم لم يطلبوا منه عليه الصلاة و السلام ترك عبادة الله سبحانه بل استلام آلهتهم والشرك به عز و جل اللهم إلا أن يقال : عبادة الله سبحانه مع الشرك
(24/24)
كلا عبادة والله جل وعلا أغنى الشركاء فمن أشرك في عمله أحدا معه عز و جل فعمله لمن أشرك كما يدل عليه كثير من الأخبار وقرأ عيسى بل الله بالرفع وكن من الشاكرين
66
- إنعامه تعالى عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر وفيه إشارة إلى موجب الإختصاص وما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه جل جلاله حق عظمته إذ عبدوا غيره تعالى وطلبوا من نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم عبادة غيره سبحانه قاله الحسن والسدي وقال المبرد : أصله من قولهم : فلان عظيم القدر يريدون بذلك جلالته وأصل القدر اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة وقال الراغب : أي ما عرفوا كنهه عز و جل وتعقب بأن معرفة كنهه تعالى أي حقيقته سبحانه لا يخص هؤلاء لتعذر الوقوف على الحقيقة ومن هنا العجز عن درك الإدراك إدراك والبحث عن كنه ذات الله إشراك ولا يخفى أن المسئلة خلافية وما ذكر على تقدير التسليم يمكن دفعه بالعناية نعم أولى منه ما قيل : أي ما عرفوه كما يليق به سبحانه حيث جعلوا له شريكا وظاهر كلام بعضهم أن الكلام على تقدير مضاف أي ما قدروا في أنفسهم وما تصوروا عظمة الله حق التصور فلم يعظموه كما هو حقه عز و جل حيث وصفوه بما لا يليق بشؤنه الجليلة من الشركة ونحوها وأيا ما كان فهو متعلق بما قبله من حيث أن فيه تجهليهم في الإشراك ودعائهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه وقيل : المعنى ما وصفوا الله تعالى حق صفته إذ جحدوا البعث ووصفوه سبحانه بأنه خالق الخلق عبثا وأنه سبحانه عاجز عن الإعادة والبعث وهو خلاف الظاهر وعليه يكون للتمهيد لأمر النفخ في الصور وضمير الجمع على جميع ما ذكر لكفار قريش كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : الضمير لليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط فنزلت
وقرأ الأعمش حق قدره بفتح الدال وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل وأبو حيوة وما قدروا بتشديد الدال حق قدره بفتح الدال والأرض جمعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الجملة في موضع الحال من الاسم الجليل و جميعا حال من المبتدا عند من يجوزه أو من قدر مقدر كأثبتها جميعا كما قيل وهو جار مجرى الحال المؤكدة في أن العامل منتزع من مضمون الجملة وفي التقريب هو حال من الضمير في قبضته لأنه بمعنى مقبوضة وكان الظاهر أن يؤخر عنه وإنما قدم عليه ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة أو بعض دون بعض ولكن عن الأرضين كلها أو عن جميع أبعاضها وجاز هذا التقديم لأن المصدر لم يعمل من حيث كونه مصدرا بل لكونه بمعنى اسم المفعول وقال الحوفي : العامل في الحال ما دل عليه قبضته لا هي وهو كما ترى و يوم القيامة معمول قبضته وهي في الأصل المرة الواحدة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض كالقبضة بضم القاف وجعلت صفة مشبهة حينئذ وجوز كل من أراده المقبوضة والمعنى المصدري هنا والكلام على الثاني على تقدير مضاف أي ذوات قبضته أي يقبضهن سبحانه قبضة واحدة وقرأ الحسن قبضته بالنصب على أنه ظرف مختص مشبه بالمبهم ولذا لم يصرح بفي معه وهو مذهب الكوفيين والبرصريون يقولون : إن النصب في مثل ذلك خطأ غير جائز وأنه لا بد من التصريح بفي
(24/25)
وقرأ عيسى والجحدري مطويات بالنصب على أن السماوات عطف على الأرض مشاركة لها في الحكم أي والسماوات قبضته و مطويات حال من السماوات عند من يجوز مجيء الحال من مثل ذلك أو من ضميرها المستتر في قبضته على أنها بمعنى مقبوضته أو من ضميرها محذوفا أي أثبتها مطويات و بيمينه متعلق بمطويات أو على أن السماوات مبتدأ و بيمينه الخبر و مطويات حال أيضا إما من المبتدأ أو من الضمير المحذوف أو من الضمير المستتر في الخبر بناء على مذهب الأخفش من جواز تقديم الحال في مثل ذلك
والكلام عند كثير من الخلف تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عز و جل وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ويمين بها يطوي السماوات أو بحال من يكون له قبضته فيها الأرض والسماوات ويمين بها يطوي السماوات من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه وهو الله عز شأنه وقال بعضهم : المراد التنبيه على مزيد جلالته عز و جل وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعا تحت ملكه تعالى يوم القيامة فلا يتصرف فيها غيره تعالى شأنه بالكلية كما قال سبحانه : الملك يؤمئذ لله والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء
وفيه رمز إلى ما يشركونه معه عز و جل أرضيا كان أم سماويا مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعز سلطانه فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف كما يقال : بلد كذا في قبضة فلان واليمين مجاز عن القدرة التامة وقيل : القبضة مجاز عما ذكر ونحوه والمراد باليمين القسم أي والسماوات مفنيات بسبب قسمه تعالى لأنه عز و جل أقسم أن يفنيها وهو مما يهزأ منه لا مما يهتز استحسانا له والسلف يقولون أيضا : إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز و جل إلا أنهم لا يقولون : إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد إنا نجد الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول : أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة و السلام وما قدروا الله حق قدره الآية والمتأولون يتأولون الأصابع على الإقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل : اقتل زيدا بأصبعي ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال : مر يهودي على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس قال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة والأرضين على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى وما قدروا الله حق قدره وجعل بعض المتأولين الإشارة إعانة على التمثيل والتخييل وزعم بعضهم أن الآية نزلت ردا لليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم وإن ضحكه عليه الصلاة و السلام المحكي في الخبر السابق كان للرد أيضا تصديقا له في الخبر من كلام الراوي على ما فهم ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جدا وجعلوا أيضا من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة فعله عليه الصلاة و السلام حين قرأ هذه الآية فقد أخرج الشيطان والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره والأرض
(24/26)
جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفصه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه و سلم المنبر حتى قلنا ليخرن به وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى ابن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يأخذ الله تعالى سماواته وأرضيه بيديه ويقول : أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك
وفي شرح الصحيح للإمام النووي نقلا عن المازري أن قبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط المقبوض وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة للقابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة انتهى ثم أن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن قبض الأرض بعد طي السماوات وأنه بيد أخرى وأخرج مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أين الجبارون أي المتكبرون وفي الشرح نقلا عن المازري أيضا أن إطلاق اليدين لله تعالى متأول على القدرة وكني عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس وذكر اليمين والشمال حتى يتم التأول لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دونه ولأن اليمين في حقنا تقوي لما تقوى له الشمال ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى اليمين وأضاف الأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الإستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ولا أثقل من شيء انتهى والصوفية يقولون بالتجلي الصوري مع بقاء الإطلاق والتنزيه المدلول عليه بليس كمثله شيء والأمر عليه سهل جدا ثم إن التصرف في الأرض والسماوات يكون والناس على الصراط كما جاء في خبر رواه مسلم عن عائشة مرفوعا وروي أيضا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة والكلام في هذا الخبر كالكلام في نظائره وإياك من التشبيه والتجسيم وكذا من نسبة ذلك إلى السلف ولا تك كالمعتزلة في التحامل عليهم والوقيعة فيهم ويكفي دليلا على جهل المعتزلة بربهم زعمهم أنه عز و جل فوض العباد فهم يفعلون ما لا يشاء ويشاء ما لا يفعلون سبحانه وتعالى عما يشركون
67
- أي أبعد من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء فسبحان للتعجب وتتعلق به عن بالتأويل بما ذكر و ما تحتمل المصدرية والموصولية ونفخ في الصور المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكي القرطبي الإجماع عليه وفي حديث أخرجه ابن ماجه والبزاز وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن النافخ اثنان ويدل عليه أيضا أخبار أخر منها ما أخرجه أحمد والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره أي إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور والصور قرن عظيم فيه تقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة وأخرج أبو الشيخ
(24/27)
عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه وأنكر بعضهم ذلك وقال : هو جمع صورة كما في قراءة قتادة وزيد بن علي في الصور بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وبني الفعل للمفعول لعدم الغرض بالفاعل إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل ووقع النفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض أي ماتوا بسبب ذلك ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولا ثم يموتون ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات وفي صحيح مسلم من حديث طويل فيه ذكر الدجال ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق الناس وقريء فصعق بضم الصاد إلا من يشاء الله قال السدي : جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام وقيل : هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في الدر المنثور وقيل : رضوان والحور ومالك والزبانية وروي ذلك عن الضحاك وقيل : من مات قبل ذلك أي يموت من في السموات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا قال في البحر : وهذا نظير لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ومن الغريب ما حكى فيه أن المستثنى هو الله عز و جل ولا يخفى عليك حاله متصلا كان الإستثنء أم منقطعا وقيل : هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك وقيل غير ذلك
ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الإستثناء فإن حملة العرش مثلا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف وقيل : إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح ثم نفخ فيه أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها أخرى أي نفخة أخرى وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها ههنا وجه و أخرى تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل وعلى الأول كان النائب عنه الظرف وصح في صحيحي البخاري ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتلبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعا لم يبين فيه ما هذه الأربعون
وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاما وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله ابن العاص قال : ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر فإذا هم قيام قائمون من قبورهم ينظرون
68
- أي ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم وقيل : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم وتعقب بأن قولهم عند قيامهم من بعثنا من مرقدنا يأباه ظاهرا نوع إباء
وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم واعترض بأن قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ظاهر في خلافه لأن النسل الإسراع
(24/28)
في المشي وكذا قوله تعالى : يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون وقرأ زيد بن علي قياما بالنصب على أن جملة ينظرون خبرهم وقياما حال من ضمير ينظرون للفاصلة أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك وفي البحر النصر على الحال المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفا فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياما وإذا نصب قياما على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديره فبالحضرة قياما وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم و واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة وإن كانت إذا حرفا كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا إن اعتقدنا أن ينظرون هو الخبر ويكون عاملا في الحال انتهى ولعمري أن مذهب الكوفيين أقل تكلفا وههنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض فإنه قد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي ويدل كما قال بعض الأجلة : على أنها نفخة البعث
وقال القاضي عياض : يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد الكشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثا وهو اختيار ابن العربي ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل
ثم قال : والذي يزيح الأشكال ما قال بعض مشايخنا : إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نراهم فإذا نفخت نفخة الصعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشي عليه ولذا وقع في الصحيحين فأكون أول من يفيق انتهى ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معا أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعد الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر
وأشرقت الأرض أي أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة وفي الصحيح يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد وهي أوسع بكثير من الأرض المعروفة وفي بعض الروايات أنها يومئذ من فضة ولا يصح أي أضاءت بنورها ربها هو على ما روي عن ابن عباس نور
(24/29)
يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب ناقة الله وعن محيي السنة تفسيره بتجلي الرب لفصل القضاء وعن الحسن والسدي تفسيره بالعدل وهو من باب الإستعارة وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات واختار هذا الزمخشري وصحح أولا تلك الإستعارة بتكررها في القرآن العظيم وحققها ثانيا بقوله : وينادي على ذلك إضافته إلى اسمه تعالى لأنه عز و جل هو الحق العدل إشارة إلى الصارف إلى التأويل وعينها ثالثها بإضافة اسمه تعالى الرب إلى الأرض لأن العدل هو الذي يتزين به الأرض لا البرهان ورابعا بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق لأنه تفصيل العدل بالحقيقة وأيدها خامسا بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعد لك وأضاءت الدنيا بقسطك وسادسا بقوله صلى الله عليه و سلم : الظلم ظلمات يوم القيامة فإنه يقتضي أن يكون العدل نورا فيه وسابعا بأن فتح الآية وختمها بنفي الظلم يدل عليه ليكون من باب رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس ورجح ما اختاره الإمام بأن الأصل الحقيقة ولا صارف لأن الإصافة تصح بأدنى ملابسة وأيد ما حكى عن محي السنة ببعض الأحاديث
وتعقب ذلك صاحب الكشف فقال : إن إضافة الملابسة مجاز والترجيح لما اختاره جار الله لما ذكر من الفوائد ولأنه الشائع في استعمال القرآن ألا ترى إلى قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض وأما تجلي الرب سبحانه فسواء حمل على تجلي الجلال أو تجلي الجمل إشراق الأرض بنور إلا بأحد المعنيين أعني العدل أو عرضا يخلقه الله تعالى عند التجلي في الأرض فلو توهم من تجليه تعالى أنه ينعكس نور منه على الأرض لاستحال إلا بالتفسير المذكور قولا ثالثا لينصر ويؤيد بالحديث الذي لا يدل على أنه تفسير الآية المشتمل على حديث الرؤية والقاء ستره تعالى على العبد يذكر ما فعل به وما جني انتهى ولعل الأوفق بما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه : وأشرقت الأرض بنور ربها إشارة إلى تجليه عز و جل لفصل القضاء وقد يعبر عنه بالإتيان وقد صرح به في قوله تعالى : يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ولم يتأول ذلك السلف بل أثبتوه له سبحانه كالنزول على الوجه الذي أثبته عز و جل لنفسه
ولا يبعد أن يكون هذا النور هو النور الوارد في الحديث الصحيح إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور ويقال فيه كالحجاب نحو ما قال السلف في سائر المتشابهات أو هو نور آخر يظهر عند ذلك التجلي ولا أقول : هو نور منعكس من الذات المقدس انعكاس نور الشمس مثلا من الشمس بل الآمر فوق ما تنتهي إليه العقول وأنى وهيهات وكيف ومتى يتصور إلى حقيقة ذلك الوصول ويوميء إلى أن ذلك التجلي مقرون بالعدل التعبير بعنوان الربوبية مضافا إلى ضمير الأرض والله أعلم بمراده وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير وأبو الجوزاء أشرقت بالبناء للمفعول قال الزمخشري : من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به وأغتصت وأشرقها الله تعالى كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا وقال ابن عطية : هذا إنما يترتب من فعل يتعدى فهذا
(24/30)
على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز وقال صاحب اللوامح وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت فيصير متعديا والمعنى أذهبت ظلمة الأرض ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت فإن ذلك لازم وهذا قد يتعدى إلى المفعول ووضع الكتاب قال السدي الحساب قالكتاب مجاز عن الحساب ووضعه ترشيح له والمراد به الشروع فيه ويجوز جعل الكلام تمثيلا
وقال بعضهم : صحائف الأعمال وضعت بأيدي العمال فالتعريف للجنس أو الإستغراق وقيل : اللوح المحفوظ وضع ليقابل به الصحائف فالتعريف للعهد وروي هذا القول عن ابن عباس واستبعد
أبو حيان وقال : لعله لا يصح عن ابن عباس وجيء بالنبيين قيل ليسئلوا هل بلغوا أممهم وقيل : ليحضروا حسابهم والشهداء قال عطاء ومقاتل وابن زيد : الحفظة وكأنهم أرادوا أنهم يشهدون على كل من الأمم أنهم بلغوا أو يشهدون على كل بعلمه كما قال سبحانه : وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد وفي بعض الآثار أنه يؤتى باللوح المحفوظ وهو يرتعد فيقال له : هل بلغت إسرافيل فيقول : نعم يا رب بلغته فيؤتى بإسرافيل وهو يرتعد فيقال له : هل بلغك اللوح فيقول : نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع اللوح ثم يقال لإسرافيل فأنت هل بلغت جبرائيل فيقول : نعم يا رب فيؤتى بجبرائيل وهو يرتعد فيقال له : هل بلغك إسرافيل فيقول : نعم يا رب فعند ذلك يسكن روح إسرافيل ثم يقال لجبرائيل : فأنت هل بلغت فيقول : نعم يا رب فيؤتى بالمسلمين وهم يرتعدون فيقال لهم : هل بلغكم جبرائيل فيقولون : نعم فيسكن عند ذلك روع جبرائيل ثم يقال لهم : فأنتم هل بلغتم فيقولون : نعم فيقال للأمم : هل بلغكم الرسل فيقول كفرتهم : ما جاءنا من بشر ولا نذير فيعظم على الرسل الحال ويشتد البلبال فيقال لهم : من يشهد لكم فيقولون : النبي الأمي وأمته فيؤتى بالأمة المحمدية فيشهدون لهم أنهم بلغوا فيقال لهم : من أين علمتم ذلك فيقولون : من كتاب أنزله الله تعالى علينا ذكر سبحانه فيه أن الرسل بلغوا أممهم ويزكيهم النبي عليه الصلاة و السلام وذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ومن هنا قيل : المراد بالشهداء في الآية أمة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الجبائي وأبو مسلم : هم عدول الآخرة يشهدون للأمم وعليهم وقيل : جمع الشهداء من الملائكة وأمة محمد عليه الصلاة و السلام والجوارح والمكان وأيا ما كان فالشهداء جمع شاهد وقال قتادة والسدي : المراد بهم المستشهدون في سبيل الله تعالى فهو جمع شهيد وليس بذاك وقضي بينهم أي بين العباد المفهوم من السياق بالحق بالعدل وهم لا يظلمون
69
- بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد بناء على أن الظلم حقيقة لا يتصور في حقه تعالى فإن الأمر كله له عز و جل
ووفيت كل نفي ما عملت أي أعطيت جزاء ذلك كاملا وهو أعلم بما يفعلون
70
- فلا يفوته سبحانه شيء من أعمالهم وقوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا الخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها والفاء ليس بلازم والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج وهو الغالب ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم
(24/31)
في الضلالة والشرارة والزمر جمع زمرة قال الراغب : هي الجماعة القليلة ومنه شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة ومنه اشتق الزمر والزمارة كناية على الفاجرة وقال بعضهم اشتقاق الزمرة من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها ليدخلوها وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة فهي كسائر أبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ليدخلوها فإذا دخلوها أغلقت عليهم و حتى التي تحكى بعدها الجملة والكلام على إذا الواقعة بعدها قد مر في الأنعام وقرأ غير واحد فتحت بالتشديد وقال لهم خزنتها على سبيل التقريع والتوبيخ ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم تفهمون ما ينبؤنكم به ويسهل عليكم مراجعتهم وقرأ ابن هرمز تأتكم بتاء التأنيث وقريء نذر منكم يتلون عليكم آيات ربكم المنزلة لمصلحتكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا أي وقتكم هذا وهو وقت دخولكم النار لأن المنذر به الحقيقة العذاب ووقته وجوز أن يراد به يوم القيامة والآخرة لاشتماله على هذا الوقت أو على ما يختص بهم من عذابه وأواله ولا ينافيه كونه في ذاته غير مختص بهم والإضافة لامية تفيد الإختصاص لأنه يكفي للإختصاص ما ذكر نعم الأول أظهر فيه واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم ولو كان الكفر معلوما بالعقل دون الشرع لقيل ألم تعلموا بما أودع الله تعالى فيكم من العقل قبح كفركم ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المستندة إليها عن ذلك هو دليل إقناعي لأنه إنما يتم على اعتبار المفهوم وعموم الذين كفروا وكلاهما محل نزاع وقيل في وجه الإستدلال : إن الخطاب للداخلين عموما يقتضي أنهم جميعا أنذرهم الرسل واو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك وتعقب بأن للخصم أن لا يسلم العموم ولمن قال بوجوب الإيمان عقلا أن يقول : : إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ لأنه أبعد عن الإعتذار وأحق بالتوبيخ والإنكار قالوا بلى قد أتانا رسل منا تلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا ولكن حقت أي وجبت كلمة العذاب أي كلمة الله تعالى المقتضية له على الكافرين
71
- والمراد بها الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم أو قوله تعالى لإبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ووضعوا الكافرين موضع ضميرهم للإيماء إلى علية الكفر والكلام اعتراف لا اعتذار قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها أي مقدرا خلودكم فيها والقائل يحتمل أن يكون الخزنة وترك ذكرهم للعلم به مما قبل ويحتمل أن يكون غيرهم ولم يذكر لأن المقصود ذكر هذا المقول المهول من غير نظر إلى قائله وقال بعض الأجلة : أبهم القائل لتهويل المقول
فبئس مثوى المتكبرين
72
- أل فيه سواء كانت حرف تعريف أم اسم موصوف للجنس وفاء بحق فاعل باب نعم وبئس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أي فبئس مثواهم جهنم والتعبير بالمثوى لمكان خالدين وفي التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والإنقياد للرسل المنذرين عليهم الصلاة والسلام وهو في معنى التعليل بالكفر ولا ينافي تعليل ذلك بسبق كلمة العذاب عليهم لأن حكمه تعالى
(24/32)
وقضاءه سبحانه عليهم بدخول الناس النار إلا بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له سبحانه في الأزل وكذا قوله عز و جل لأملأن فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافي التعليل بآخر فتذكر وتدبر
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل المراد بالسوق هنا الحث على السير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة وقوله سبحانه : إلى الجنة يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال : إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة و واختار الزمخشري أن المراد بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين وهذا السوق والحث للإسراع بهم إلى دار الكرامة
وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل والإستدلال بقوله تعالى : يوم تحشر المتقين إلى الرحمن وفدا لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وان الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة وفي الكشف أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى وأقول : إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا
ففي صحيح مسلم عن أبن مسعود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه الحديث وقال بعض العارفين : إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عز و جل ثانيا لا يحبون فراق ذلك المواطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عز و جل وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا على المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول : وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم ويدل على رؤيتهم إياه عز و جل هناك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : إن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا : لا قال :
(24/33)
فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فينبع من يعبد الشمس الشمس ويتبع من يعبد القمر القمر ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فغذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم الحديث ومع هذا فسوقهم ليس كسوق الذين كفروا كما لا يخفى
وقيل : السائق للكفرة ملائكة الغضب والسائق للمتقين شوقهم إلى مولاهم فهو سبحانه لهم غاية إلا رب وليست الجنة عندهم هي المقصودة بالذات ولا مجرد الحلول بها أقصى اللذات وإنما هي وسيلة للقاء محبوبهم الذي هو نهاية مطلوبهم حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقريء بالتشديد والواو للحال والجملة حالية بتقدير قد على المشهور أي جاءوها وقد فتحت أبوابها كقوله تعالى : جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ويشعر ذلك بتقدم الفتح كأنه خزنة الجنات فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم وهذا كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له وفي ذلك من الإحترام والإكرام ما فيه والظاهر أن قوله تعالى : وقال لهم خزنتها الخ عطف على فتحت أبوابها وجواب إذا محذوف مقدر بعد خالدين للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل : إذا جاؤها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء
طبتم أي من دنس المعاصي وقيل : طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم والأول مروي عن مجاهد وهو الأظهر والجملة في موضع التعليل فادخلوها خالدين
73
- أي مقدرين الخلود كان ما كان مما يقصر عنه البيان أو فازوا بما لا يعد ولا يحصى من التكريم والتعظيم وقدره المبرد سعدوا بعد خالدين أيضا ومنهم من قدره قبل وفتحت أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت وليس بشيء ومنهم من قدره نحو ما قلنا قبل وقال وجعل جملة قال الخ معطوفة عليه وما تقدم أقوى معنى وأظهر
وقال الكوفيون : واو وفتحت زائدة والجواب جملة فتحت وقيل : الجواب قال لهم خزنتها والواو زائدة والمعول عليه ما ذكرنا أولا وبه يعلم وجه اختلاف الجملتين أعني قوله تعالى في أهل النار : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقوله جل شأنه في أهل الجنة : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها حيث جيء بواو في الجملة الثانية وحذف الجواب ولم يفعل كذلك في الجملة الأولى فما قيل : أن الواو في الثانية واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها وجه ضعيف لا يعول عليه
واستدل المعتزلة بقوله : طبتم فادخلوها حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي على أن أحدا لا يدخل الجنة إلا وهو طيب طاهر من المعاصي إما لأنه لم يفعل شيئا منها أو لأنه تاب عما فعل مقبولة في الدنيا ورد بأنه وإن دل أن أحدا لا يدخلها إلا وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة وقد يكون بالعفو عنه أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة
(24/34)
وقيل : المراد بالذين اتقوا المحترزون عن الشرك خاصة فطبتم على معنى طبتم عن دنس الشرك ولا خلاف في أن دخول الجنة مسبب عن الطيب والطهارة عنه وتعقب بأن ذاك خلاف الظاهر لأن التقوى في العرف الغالب تقع على أخص من ذلك لا سيما في معرض الإطلاق والمدح بما عقبه من قوله تعالى : فنعم أجر العاملين فتدبر وقالوا عطف على قال أو على الجواب المقدر بعد خالدين أو على مقدر غيره أي فدخلوها وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده بالبعث والثواب وأورثنا الأرض يريدون المكان الذي استقروا فيه فإن كانت أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضا حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الإستعارة تشبيها له بأرض الدنيا والظاهر الأول وحكي عن قتادة وابن زيد والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناء على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عز و جل وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما ملكه جل شأنه وقيل : ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكانا في الجنة كتب له بشرط الإيمان
نتبوأ من الجنة حيث نشاء أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلا منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير فلا يقال : أنه يلزم جواز تبوؤ الجميع في مكان واحد وحدة حقيقية وهو محال أو أن يأخذ جنة غيره وهو غير مراد وقيل : الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة وقال الإمام : قالت حكماء الإسلام : إن لكل جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء
وقد قال بعض متألهي الحكماء : الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل
سم الخياط مع الأحباب ميدان
وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت
وتعقب بأن هذا إن عد من بكون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به على أنه ربما يقال : يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل فنعم أجر العاملين
74
- من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة ولعل التعبير بأجر العاملين دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين وقال مقاتل : هو من كلام الله تعالى وترى الملائكة حافين أي محدقين من الحفاف بمغنى الجانب جمع جمع حاف كما قال الأخفش وقال الفراء : لا يفرد فقيل : أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع وقيل : أراد أنه لم يرد استعمال مفرده وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع
(24/35)
جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال : طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل : وترى أيها الرائي الملائكة حافين من حول العرش أي حول العرش على أن من مزيدة على رأي الأخفش وهو الأظهر وقيل : هي للإبتداء فحول العرش مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى يومئذ غير هذه الأرض على أن أحوال يوم القيامة وشؤن الله تعالى وراء عقولنا وسبحان من لا يعجزه شيء والظاهر أن الرؤية بصرية فحافين حال أولى وقوله تعالى : يسبحون بحمد ربهم حال ثانية ويجوز أن يكون حالا من ضمير حافين المستتر وجوز كون الرؤية علمية فحافين مفعول ثان وجملة يسبحون حال من الملائكة أو من ضميرهم في حافين والباء في بحمده للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده وحاصله يذكرون الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه تبارك وتعالى وهذا الذكر إما من باب التلذذ فإن ذكر المحبوب من أعظم لذائذ المحب كما قيل : أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم أو من باب الإمتثال ويدعى أنهم مكلفون ولا يسلم أنهم خارجون عن خطة التكليف أو يخرجون عنها يوم القيامة نعم لا يرون ذلك كلفة وإن أمروا به وفي حديث طويل جدا أخرجه عبد بن حميد وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان وأبو يعلى وأبو الحسن القطان في المطولات وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة فبينما نحن وقوف أي في المحشر إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السماوات السبع ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلة والأرضون والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل بالتسبيح فيقولون : سبحان ذي العزة والجبروت وسبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع عرشه حيث يشاء من الأرض ثم يهتف سبحانه بصوته فيقول عز و جل : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه الحديث
(24/36)
وقضي بينهم بالحق أي بين العباد كلهم بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار فإن القضاء المعروف يكون بينهم ولوضوح ذلك لا يضر كون الضمير لغير الملائكة مع أن ضمير يسبحون لهم إذ التفكيك لا يمتنع مطلقا كما توهم وقيل : ضمير بينهم للملائكة واستظهره أبو حيان وثوابهم وإن كانوا كلهم معصومين يكون على حسب تفاضل أعمالهم فيختلف تفاضل مراتبهم فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق
وقيل الحمد لله رب العالمين
75
- أي على ما قضي بيننا بالحق والقائل قيل : هم المؤمنون المقضي لهم لا ما يعمهم والمقضي عليهم وحمدهم الأول على إنجاز وعده سبحانه وإيراثهم الأرض يتبوؤن من الجنة ما شاؤا وحمدهم هذا على القضاء بالحق بينهم فلا تكرار
وقال الطيبي : إن الأول للتفصلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط والرضوان والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان ففريق في الجنة وفريق في السعير والأول أحسن وقيل : هم الملائكة يحمدونه تعالى على قضائه سبحانه بينهم بالحق وإنزال كل منهم منزلته وعليه ليس في الحمد شائبة تكرار لتغاير الحامدين
وقيل : قيل دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم وكأنه أريد أن الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها فيحمده لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول : رب أرحني ولو إلى النار وقيل : إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم
وقال ابن عطية : هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي أن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ومكن هذه الآية جعلت الحمد لله رب العالمين خاتمة المجالس في العلم وهذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن باب الإشارة في بعض الآيات فاعبد الله مخلصا له الدين أي اعبده تعالى بنفسك وقلبك وروحك مخلصا وإخلاص العبادة بالنفس التباعد عن الإنتقاص وإخلاص العبادة بالقلب العمي عن رؤية الأشخاص وإخلاص العبادة بالروح نفي طلب الإختصاص وذكر أن المخلص من خلص بالجود عن حبس الوجود إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فيه إشارة إلى تهديد من يدعي رتبة من الولاية ليس بصادق فيها وعقوبته حرمان تلك الرتبة يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك في ظلمات ثلاث قيل : يشير إلى ظلمة الإمكان وظلمة الهيولي وظلمة الصورة أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير يحذر الآخرة ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها ويرجو رحمة ربه رضاه سبحانه عنه وقربه عز و جل قل هل يستوي الذين يعلمون قدر معبودهم جل شأنه فيطلبونه والذين لا يعلمون ذلك فيطلبون ما سواه إنما يتذكر حقيقة الأمر أولو الألباب وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم وصفوا عن شوائب أنانيتهم قل يا عبادي الذين آمنوا بي شوقا إلى اتقوا ربكم فلا تطلبوا غيره سبحانه للذين أحسنوا في طلبي في هذه الدنيا بأن لم يطلبوا مني غيري
(24/37)
حسنة عظيمة وهي حسنة وجداني وأرض الله واسعة وهي حضيرة جلاله وجماله فإنها لا نهاية لها فليس فيها ليرى ما يرى ولا يظن بما فتح عليه انتهاء السير وانقطاع الفيض إنما يوفى الصابرون على صدق الطلب أجرهم من التجليات بغير حساب إذ لا نهاية لتجلياته تعالى وكل يوم هو في شأن قل إني أخاف إن عصيت ربي بطلب ما سواه عذاب يوم عظيم وهو عذاب القطيعة والحرمان قل الله أعبد مخلصا له ديني فلا أطلب دنيا ولا أخرى كما قيل : وكل له سؤل ودين ومذهب ولي أنتم سؤل وديني هواكم قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم أي الذين تبين خسران أنفسهم بإفساد استعدادها للوصول والوصال وأهليهم من القلوب والأسرار والأرواح بالإعراض عن طلب المولى يوم القيامة الذي تتبين فيه الحقائق وذلك هو الخسران المبين الذي لا خفاء فيه لفوات رأس المال وعدم إمكان التلافي وقال بعض الأجلة : إن للإنسان قوتين يستكمل بأحداهما علما وبالأخرى عملا والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالمقدمات وترتيبها على الوجه المؤدي إلى النتائج التي هي بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء والآلة في القسم العملي هو القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعية عليها واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله تعالى العقل والصحة والتمكين ثم أنه لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل وهذا على الأول إشارة إلى إحاطة نار الحسرة بهم لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار قيل الغرف المنية بعضها فوق بعض إشارة إلى العلوم المكتسبة المبنية على النظريات وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية ألم تر أن الله أنزل من السماء من سماء حضرته سبحانه أو من سماء القلب ماء ماء المعارف والعلوم فسلكه ينابيع مدارك وقوى في الأرض أرض البشرية ثم يخرج به زرعا من الأعمال البدنية والأقوال اللسانية ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إشارة إلى أفعال المرائين وأقوالهم ترى مخضرة وفق الشرع ثم تصفر من آفة الرياء ثم تكون حطاما لا حاصل لها إلا الحسرة أفمن شرح الله صدره للإسلام للإنقياد إليه سبحانه فهو على نور من ربه يستضيء به في طلبه سبحانه ومن علامات هذا النور محو ظلمات الصفات الذميمة النفسانية والتحلية بالأخلاق الكريمة القدسية
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم إذا قرعت صفات الجلال أبواب قلوبهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله بالشوق والطلب ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون يتجاذبونه وهم شغل في الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال ورجلا سلما لرجل إشارة إلى المؤمن الخالص الذي لم يشغله شيء عن مولاه عز شأنه فمن أظلم ممن كذب على الله يشير إلى حال الكاذبين في دعوى الولاية وكذب بالصدق إذ جاءه يشير إلى حال أقوام نبذوا الشريعة وراء ظهورهم وقالوا : هي قشر والعياذ بالله ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسوة قيل : هو سواد قلوبهم ينعكس على وجوههم وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا قيل المتقون قد عبدوا الله تعالى
(24/38)
لله جل شأنه لا للجنة فتصير استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يفترقون إلى السوق وقيل : كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختيار شاء أم أبى إلى ما يضاهي حاله فذاك معنى السوق في الفريقين وقيل : القوم أهل وفاء فهم يقولون : لا ندخل الجنة حتى يدخلها أحبابنا فلذا يساقون إليها ولكن لا كسوق الكفرة وترى الملائكة حافين من حول العرش إشارة إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر بناء على أن العرش لا يتحول يسبحون بحمد ربهم إشارة إلى نعيمهم وقضى بينهم بالحق أعطى كل ما يستحقه وقيل الحمد لله رب العالمين على انقضاء الأمر وفصل القضاء بالعدل الذي لا شبهة فيه ولا امتراء هذا والحمد لله تعالى على أفضاله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله
سورة المؤمن
وتسمى سورة غافر وسورة الطول وهي كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ومسروق وسمرة بن جندب مكية وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : وسبح بحمد ربك لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين : أن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية وقيل : هي مكية إلا قوله تعالى : إن الذين يجادلون الآية فإنها مدنية فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول : عني بهذه الآية كذا وقال الزركشي في البرهان : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الإستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك
وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي وأربع في الحجازي واثنان في البصري وقيل : ست وثمانون وقيل : ثمان وثمانون ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤل إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر وقد فصل في هذه من ذلك مالم يفصل منه في تلك
وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الإفتتاح بتنزيل الكتاب وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر حم وتلك مناسبة جلية ثم إن الحواميم ترتيب لاشتراكها في الإفتتاح بحم وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف وورد في فضلها أخبار كثيرة أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال : إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن الحواميم وأخرج هو وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : الحواميم ديباج القرآن وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس
(24/39)
رضي الله تعالى عنه وأخرج اليلمي وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا الحواميم روضة من رياض الجنة
وأخرج محمد بن نضر والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال : كن الحواميم يسمين العرائس وأخرخ ابن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي
وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجيء كل حم منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله أخرج الترمذي والبزاز ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرأ حم إلي وإليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح
بسم الله الرحمن الرحيم حم
1
- بتخفيف الألف وتسكين الميم وقرأ ابن عامر برواية ذكوان وحمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة الصريحة ونافع برواية روش وأبو عمرو بالإمالة بين بين وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف وجوز أن يكون ذلك نصبا بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمية لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل ونقل هذا عن سيبويه وفي الكشف أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب
وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جير : والزهري برفعهما والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف والكلام في المراد به كالكلام في نظائره ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه : هذا رسول الله في الخيرات جاء بياسين وحاميمات وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحدا ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم وأيضا أنشد أبو عبيدة : حلفت بالسبع الألى تطولت وبمئين بعدها قد أمئيت وبثمان ثنيت وكررت وبالطواسين اللواتي تليت وبالحواميم اللواتي سبعت وبالمفضل التي قد فصلت وذهب الجواليقي والحريري وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم وفي الصحاح عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول : قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات :
(24/40)
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقى ومعرب والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم وما سمعت يكفي في ردهم نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شرا فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال : جاءني آل تأبط شرا أو ذواتا بط شرا أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسمك فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية وفي كلام الرضي وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه وحكى في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ أعني حم
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم
2
- الكلام فيه إعرابا كالكلام في مطلع سورة الزمر بيد أنه يجوز هنا أن يكون تنزيل خبرا عن حم ولعل تخصيص الوصفين لما في القرآن الجليل من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عن الإحاطة بها نطاق الأفهام أو هو نحو تخصيص الوصفين فيما سبق فإن شأن البليغ علمه بالأشياء أن يكون حكيما إلا أنه قيل العليم دون الحكيم تفننا وقوله تعالى : غافر الذنب وقابل التوب وشديد العقاب ذي الطول صفات للإسم الجليل كالعزيز العليم وذكر غافر الذنب وقابل التوب وذي الطول للترغيب وذكر شديد العقاب للترهيب والمجموع للحث على المقصود من تنزيل الكتاب وهو المذكور بعد التوحيد واالإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى والأولان منها وإن كانا أسمى فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والإستمرار فإضافتهما للمعرفة بعدهما محضة اكتسبهما تعريفا فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف والأمر في ذي الطول ظاهر جدا نعم الأمر في شديد العقاب مشكل فإن شديدا صفة مشبهة وقد نص على أن كل ما أضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن شديد العقاب بدل ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافرا بينا لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود والجواب أنه إنما يشكل ظاهرا على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلا بالإضافة إلى المعرفة وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا ويقال فيما ذكر على المذهب الأول : إن شديدا مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديدا كأذين بمعنى مؤذن فيعطى حكمه أو يقال : إنه معروف بال والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلا وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود وقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه
(24/41)
فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع وجوز كون جمع التوابع المذكورات أبدالا وتعمد تنكير شديد العقاب وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار وفي الكشف جعل كلها أبدالا فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال العزيز من الله الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الإستهلال وذهب مكي إلى جواز كون غافر الذنب وقابل التوب دون ما قبلهما بدلين وأنهما حينئذ نكرتان وقد علمت ما فيه مما تقدم وقال أبو حيان : إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد مكن النحويين أعرفه في جواز التكرار أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال : لا يرد على القول بالإبدال قلة البدل في المشتقات ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة مالم توصف ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول شرح الخزرجية لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى
وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلا أو بعضا و التوب يحتمل أن يكون مصدرا كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمرة و الطول الفضل بالثواب والأنعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد شديد العقاب وكون الثواب موعودا فصار كالجواب فلا يكون فضلا ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب وفسره ابن عباس بالسعة والغنى وقتادة بالنعم وابن زيد بالقدرة وتوسيط الواو بين غافر الذنب وقابل التوب لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل : جامع المغفرة والقبول قاله الزمخشري ووجه كما في الكشف أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الإجراء فإذا خصت بالواو إحدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صونا لكلام البليغ عن الإلغاء ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التواب للتائب خاصة ولا ينافي ذلك أنه عز و جل قد يغفر لمن لم يتب وما قيل : إن التوسيط يدل على أن المشي كما أخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن غافر الذنب لمن لم يتب وقابل التوب لمن تاب فغير مسلم والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضى لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو ثم ما ذكر من الوجه السابق جار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بقادح وإيثار ما هو مرجوح وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة وفي البحر الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه لا إله إلا هو فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه إليه المصير
3
- فحسب لا إلى غير تعالى لا استقلالا ولا اشتراكا فيجازي كلا من المطيع والعاصي وجملة لا إله إلا هو مستأنفة أو حالية وقيل : صفة لله تعالى أو لشديد
(24/42)
العقاب وفي الآيات مما يقتضي الإتعاظ ما فيها أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له : تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له : اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله تعالى إليه المصير وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال : هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا نزلت على ما قال أبو العالية في الحرث بن قيس السلمي أحد المستهزئين والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله عز و جل لقوله تعالى بعد وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فإنه مذكور تشبيها لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى وفي قوله صلى الله عليه و سلم وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا : إن جدالا في القرآن كفر إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالا منكرا للتنويع فأشعر أن نوعا منه كفر وضلال ونوعا آخر ليس كذلك
والتحقيق كما في الكشف أن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكا عند المجادلين أو أحدهما أو منكرا كذلك وأيا ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين وأما ما قيل : إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضا كما في قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن ففيه بحث وفي قوله تعالى : في آيات الله دون فيه الضمير العائد إلى الكتاب دلالة على أن كل آية منه يكفي كفر المجادلة فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول وفيه أن كل آية منه أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادل في الكفر وأنه جادل في الواضح الذي لا خفاء به ومما ذكر يظهر اتصال الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى : فلا يغررك تقلبهم في البلاد
4
- بها أي إذا عملت أن هؤلاء شديدو الشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه : كذبت قبلهم قوم نوح الخ والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير فلا يغرك بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفك لغة الحجازين وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة و السلام على ما في البحر أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتوا شديدا والأحزاب من بعدهم أي
(24/43)
والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم السلام من قوم نوح كعاد وثمود وقوم فرعون وهمت كل أمة من تلك الأمم برسولهم وقرأ عبد الله برسولها رعاية اللفظ الأمة ليأخذوه ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره فالأخذ كناية عن التمكن المذكور وبعضهم فسره بالأسر وهو قريب مما ذكر وقال قتادة : أي ليقتلوه وجادلوا بالباطل بما لا حقيقة له قيل هو قولهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه وتفسيره بالشيطان ليس بشيء ليدحضوا ليزيلوا به أي بالباطل وقيل : أي بجدالهم بالباطل الحق الأمر الثابت الذي لا محيد عنه فأخذتهم بالإهلاك المستأصل لهم فكيف كان عقاب
5
- فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في عقاب لأنه فاصلة واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل : مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ قال في الكشف : وذلك لأن قوله تعالى : وجادلوا بالباطل ليدحضوا هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد ولا ينكر أن يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيها على كمال الملائمة ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضا يؤكده والغرض من تمهيد قوله تعالى : ما يجادل وذكر الأحزاب الإلمام بهذا المعنى ثم التصريح بقوله سبحانه : وهمت كل أمة برسولهم يدل على ما اختاره دلالة بينة فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى والإنصاف أن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أي كما وجب حكمه تعالى بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين على الأنبياء وجب حكمه سبحانه بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا وهم كفار قريش أنهم أصحاب النار
6
- أي لأنهم أصحاب النار أي لأن العلة متحدة وهي أنهم كفار معاندون متهمون بقتل النبي مثلهم فوضع أصحاب النار موضع ما ذكر لأنه آخر أوصافهم وشرها والدال على الباقي و أنهم الخ في حيز النصب بحذف لام التعليل كما أشرنا إليه وجوز أن يكون في محل رفع على أنه بدل من كلمة ربك بدل كل من كل أن أريد بالكلمة قوله تعالى أو حكمه سبحانه بأنهم من أصحاب النار وبدل اشتمال أن أريد بها الأعم ويراد بالذين كفروا أولئك المتحزبون والمعنى كما وجب إهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أيضا لكفرهم والوجه الأول أظهر بالمساق
والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم وفسرت كلمة ربك عليه بقوله سبحانه : وكان حقا علينا نصر المؤمنين ونحوه وفي مصحف عبد الله وكذلك سبقت وهو على ما قيل تفسير معنى لا قراءة وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر كلمات على الجمع
الذين يحملون العرش وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة
(24/44)
وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحا خفيفا لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كري وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه
والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام أخرج أبو يعلى وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول : سبحانك أين كنت وأين تكون وأخرج أبو داود وجماعة بسند صحيح عن جابر بلفظ أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وهم على ما في بعض الآثار ثمانية أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قردتك وأخرج أبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول : حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية
أخرج أبو الشيخ عن وهب قال : حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياما على أرجلهم
وجاء رواية عن وهب أيضا أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر إبي هريرة السابق
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال : حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش
وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم وفي بعضها لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته وفي بعض الآثار عن وهب أنهم ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوي ملأت عظمته السماوات والأرض وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهره الحصر ومن حوله أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى
وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح به الآخر وذكر في كثرتهم
(24/45)
أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر ملائكة الحافين بالعرش ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه وما يعلم جنود ربك إلا هو ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها باء موحدة ثم ياء مشددة من كرب بمعنى قرب وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله :
كروبية منهم ركوع وسجد
وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة وقيل : من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفا
وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إلا بسماع وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن وقال ابن سيناء في رسالة : الملائكة الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه إلا على الواقفون في الموقف الأكرم زمرا الناظرون إلى المنظر الأبهى نظرا وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرءون وأيضا الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى
وذهب بعضهم إلى حمل العرش مجاز على تدبيره وحفظه مكن أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عز و جل وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كري في حيزه الطبيعي فلا يحتاج إلى حمل ونسب إلى الحكماء وأكثر المتكلمين وكذا ذهبوا إلى أن الحيف والطوف بالعرش كناية أو مجاز عن القرب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عز و جل والحق الحقيقة في الموضعين وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع
وقرأ ابن عباس وفرقة العرش بضم العين فقيل : هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى : يسبحون بحمد ربهم والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملا له عز و جل ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى
ويؤمنون به إيمانا حقيقيا كاملا والتصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى : ويستغفرون للذين آمنوا فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن وفيه على ما قيل : إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اغعتراف وإنما يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني من البرهان أو قول الصادق كأنه اعتراف وإنما يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشيء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان
(24/46)
وأما العيان فيغني عن البيان ففي ذلك رمزا إلى الرد على المجسمة ونظيره في ذلك قوله عليه الصلاة و السلام : لا تفضلوني على ابن متي كذا قيل وينبغي أن يعلم أن كون العرش لا يرونه عز و جل بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤية المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما على إرادة القول أي يقولون ربنا الخ والجملة لا محل لها من الإعراب على أنها تفسير ليستغفرون أو في محل رفع على أنها عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من الضمير في يستغفرون
وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم وجوز أن يكون الإستغفار في قوله تعالى : ويستغفرون لمن في الأرض المفسر بترك معالجة العقاب وأرادوا الرزق والإرتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك والأظهر كون الجملة تفسيرا ونصب رحمة وعلما على التمييز وهو محول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عز و جل بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولها ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك الخ وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقا بناء على أنه المتبادر من الإطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي عملك الشامل المحيط بما خفى وما علن يقتضي ذلك وفيه على طهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده
ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلى أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضيان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في إداء حقوقه تعالى فهو مقصر وإليه الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ههنا وفي تصدير الدعاء بربنا من الإستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به وقوله تعالى : وقهم عذاب الجحيم
7
- أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك وفيه دلالة على شدة العذاب
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم أي وعدتهم إياها فالمفعول الآخر مقدر والمراد وعدتهم دخولها وتكرير النداء لزيادة الإستعطاف وقرأ زيد بن علي والأعمش جنة عدن بالإفراد وكذا في مصحف عبد الله ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم عطف على الضمير المنصوب في أدخلهم أي وأدخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم وجوز الفراء والزجاج العطف على الضمير في وعدتهم أي وعدتهم ووعدت من صلح الخ فقيل : المراد بذلك الوعد العام وتعقب بأنه لا يبقى على هذا للعطف وجه فالمراد الوعد الخاص بهم بقوله تعالى : ألحقنا بهم ذرياتهم والظاهر العطف على الأول والدعاء بالإدخال
(24/47)
فيه صريح وفي الثاني ضمني والظاهر أن المراد بالصلاح الصلاح المصحح لدخول الجنة وإن كان دون صلاح المتبوعين وقرأ ابن أبي عبلة صلح بضم اللام يقال : صلح فهو صليح وصلح فهو صالح وقرأ عيسى ذريتهم يالإفراد إنك أنت العزيز أي الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور الحكيم
8
- الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إدخال من طلب إدخالهم الجنات فالجملة تعليل لما قبلها
وقهم السيئات أي العقوبات على ما روي عن قتادة وإطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيآت أو تجوز بالسبب عن المسبب وأيا ما كان فلا يتكرر هذا مع وقهم عذاب الجحيم بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين وجوز أن يراد بالسيآت المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب وتعقب بأن الأنسب على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك ومن تق السيئات يومئذ أي يوم المؤاخذة فقد رحمته ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيآت يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن إذ تدل على المضي وفيه منع ظاهر وذلك إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما وأمر التذكير على الإحتمالين الأولين وكذا أمر الإفراد على الإحتمال الأخير ظاهر هو الفوز أي الظفر العظيم
9
- الذي لا مطمع وراءه لطامع هكذا وإلى كون المراد بالذين تابوا من الذنوب مطلقا ذهب الزمخشري وقال السيآت على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها وذكر أن الوقاية منها التكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الإستغفار لهم بمنزلة الشفاعة وفائدة زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم مودعين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الإستغفار فضلا عن المبالغة وأن ما قاله في السيآت لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبا كان بالدعاء عبثا قبيحا عن المعتزلة وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة حكى هذا الطيبي عن الإمام ثم قال : فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام فإن قلت : لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادا لكان يكفي أن يقولون : فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق قلت : والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه أن قوله تعالى ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا الآية جاء مفصولا عن قوله تعالى : ويستغفرون للذين آمنوا فالآية بيان لكيفية الإستغفار لا لحال المستغفر لهم ووصفهم المميز يعرف بالذوق وأما فائدة العدول عن المضمر وأنه لم يقل : فاغفر لهم بل قيل : للذين
(24/48)
تابوا فهي أنم الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام فإن قلت : هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلما ودام عليه قلت : الآية نازلة زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل : فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام انتهى ولعمري أن البحث فيه مجالا أي مجال
وفي الكشف إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الإطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقا على أن فيه تكرارا إذ لأن التائب عن الشرك هو المسلم وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وغذا شرط حملة العرش ومن حوله عليهم السلام وصلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم فما بال المتبوع وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدا وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوا به أنه لا يجب أن يكون للحاجة ألا ترى إلى قولنا : اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت بمعنى التكفير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما أجتنبت الكبائر فلا بد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفى عنها ولا يؤاخذ بها كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن أئتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى : ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعة الصمان فقد أدرك
وتعقبه بقوله سبحانه : وذلك هو الفوز العظيم في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين ومن هذا التقدير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة وقد يرجح كون المراد بالتوبة من الذنوب مطلقا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من وقهم عذاب الجحيم وق كل واحد منهم ذلك ومن المعلوم أن لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيبهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرما
وقد نصوا على حرمة أن يقال : اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله والإعتراض بلزوم الدعاء بمعلوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في الكشف على أن في كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافا أشرنا إليه أول السورة نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم : وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم نظير ذلك ما ورد في الدعاء
(24/49)
أثر الأذان وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء
وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف وقوله تعالى : إن الذين كفروا شروع في بيان أحوال الكفار بعد دخول النار ينادون وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي وقعوا فيها وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن
وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان : فلا تلوموني ولوموا أنفسكم وقيل : يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار والمندى الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظاما لحسرتهم : لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولا لهم لمقت الخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم : لمقت الخ وجعله معمولا للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء و مقت مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب
وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازع أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم واللام للإبتداء أو للقسم والمقت أشد البغض والخلف يؤولونه مسندا إليه تعالى بأشد الإنكار
أي تدعون أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم إلى الإيمان فتأبون قبوله فتكفرون
10
- وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به فإذ متعلقة بأكبر وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الإستمرار التجددي كأنه قيل : لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الإيمان فتكرر منكم الكفر وزمان المتقين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفا ويجوز أن يكون تعليلا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلقة بمقت الثاني فهم متقوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارا إلى الإيمان فكفروا والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق وزمان المتقين كذلك والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الإيمان وجوز أن يكون تعليلا لمقت الله و إذا متعلقة به ويعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون إذ ظرفية لا تعليلية فقيل : هي ظرف لمقت الأول والمعنى لمقت أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون إنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها وقيل : هي ظرف لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر
وفي الكشف فيه أن المقدر لا بدله من جزاآت أن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلا فحذفه وأعمال
(24/50)
المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيا من كل وجه وتقدير الفعل أي مقتكم الله غذ تدعون أبعد وأبعد وقيل : هي ظرف لمقت الثاني وعاترض بأنهم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة
وأجيب بأ الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه : إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقول عمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنا وكانت مقفرة من الزاد : الصيف ضعيف اللبن زذلك بأن يكون مجازا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه وقيل : إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الإيمان المنحي والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الإيمان وهو أبعد التأويلات وقال مكي : إذ معمولة لا ذكروا مضمرا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرا بينا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل
وتفسير مقتكم أنفسكم بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضا فقيل : إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الأتباع لما أنهم أتبعوهم فحملوا أوزارا مثل أوزارهم فلا تغفل قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين صفتان لمصدري الفعلين والتقدير أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين
وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضا بحذف الزوائد أو مصدران لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإنه الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طرز قوله : وعض زمان ياابن مروان وإن لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت الخ واختلف في المراد بذلك فقيل : أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياءتهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة وروي أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية البقرة كيف تكفرون وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم والإماتة إن كانت حقيقية في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقية في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا : إن صيغة الأفعال التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عد إماته أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أيفلها قالوا : إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز على الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركبة مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الإستعارة
(24/51)
بالكناية فيكون مجازا مرسلا مستتبعا للإستعارة بالكناية فالمراد بالإماتة هناك الصرف لا النقل وذكر بعضهم أنه لا بد من القوم بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية أو استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل ومن أجاز ما ذكر لم يحتج بذلك وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن وقد ذكر وجه التجوز وتحقيق ذلك على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق كوت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعي المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة وإن جعل التقابل الحقيقي صحت لكن الظاهر في الإستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكره في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا : المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا فإن الصبي لا يقال له كوسج وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيان لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر
ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى : فاعترفنا بذنوبنا أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم
وقال السدي : أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياءتهم في القبر للسؤال وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياءتهم للبعث واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثا فإن ادعى عدم افعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها
وقال بعض المحققين في الإنتصار له : إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى : ينادون لمقت الله كأنه أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث ولهذا جعل مرتبا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم فإن هذه
(24/52)
كما سمعت لبيان الإقرار والإعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الإمتثال الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر
ويرجع هذا القول إن أمر إطلاق الإماتة على كلتا الإماتتين ظاهر وتعقبه في الكشف بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله ويكفي في الإعتراف إثبات إحياء واحد منهما غير الأول وقيل : إنما قالوا : أحييتنا اثنتين لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسيمه
وتعقب أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدا لما اختاره جار الله وروي عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله صاحب الكشف ثم قال : وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصا بخلافه وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين ويجب الإعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الأحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى : اثنتين ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل
وقال الإمام : إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتا ثانيا وذلك يدل على حصول حياة في القبر وأطال الكلام في تحقيق ذلك والإنتصار له والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولا فيها وقد قيل : إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن افحياءات ثلاث وقد أطلق فيه الإحياء الثالث والأغلب على الظن أنه عني به إحياء البعث وقيل : التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى : فأرجع البصر كرتين مراد بها التكرير والتكثير فكأنهم قالوا : أمتنا مرة بعد مرلاة وأحييتنا مرة بعد مرة فعلمنا عظيم قدرتك وأنه لا يتعاصاها إلا عادة كما لا يتعاصاها غيرها فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها من إنكار ذلك وحينئذ فلا عليك أن تعتبر الموت في صلب آدم ثم الإحياء لأخذ العهد ثم الإماتة ثم الإحياء بنفخ الروح في الأرحام ثم الإماتة عند انقضاء الأجل في الدنيا ثم الإحياء في القبر للسؤال أو لغير ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للبعث ولا يخفى أنه ما فيه إنما يتم لو كان المقول أمتنا إماتتين أو كرتين وأحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا دون ما في المنزل فإن اثنتين فيه وصف لإماتتين ولإحياءتين وهو دافع لاحتمال إرادة التكثير كما قيل في إلهين اثنين وبناء الأمر على أن العدد لا مفهوم له لا يخلو عن بحث ومن غرائب ما قيل في ذلك ما روي عن محمد بن كعب أن الكافر في الدنيا حي الجسد ميت القلب فاعتبرت الحالتان فهناك إماتة وإحياء للقلب والجسد في الدنيا ثم إماتتهم عند انقضاء الآجال ثم إحياؤهم للبعث ومثل هذا يحكى ليطلع على حاله فهل إلى خروج أي إلى نوع خروج من النار أي فهل إلى خروج سريع أو بطيء أو من مكان منها إلى آخر أو إلى الدنيا أو غيرها
(24/53)
من سبيل
11
- طريق من الطرق فنسلكه ومثل هذا التركيب يستعمل عند إلياس وليس المقصود به الإستفهام وإنما قالوه من فرط قنوطهم تعللا أو تحيرا ولذلك أجيبوا بذكر ما أوقعهم في الهلاك وهو قوله تعالى : ذلكم الخ من غير جواب عن الخروج نفيا أو إثباتا وإن كان الإستفهام على ظاهره والمراد طلب الخروج نظير فأرجعنا نعمل صالحا ونحوه لقيل : اخسؤا فيها أو نحو ذلك كذا قيل وجوز أن يكونوا طلبوا الرجعة ليعملوا بموجب ذلك الإعتراف لكن مع استبعاد لها واستشعار يأس منها والجواب إقناط لهم ببيان أنهم كانوا مستمرين على الشرك فجوزوا باستمرار العقاب والخلود في النار كما يقتضيه حكمه تعالى وذلك جواب بنفي السبيل إلى الخروج على أبلغ وجه ولا أرى في هذا الوجه بأسا ويوشك أن يكون المتبادر والمعنى ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب بأنه أي بسبب أن الشأن إذا دعى الله أي عبد سبحانه في الدنيا وحده أي متحدا منفردا فهو نصب على الحال مؤول بمشتق منكر أو يوحد وحده على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر على حد أنبتكم من الأرض نباتا والجملة بتمامها حال أيضا حذفت وأقيم المصدر مقامها وفيه كلام آخر مفصل في الوفدة وقد تقدم بعضه
كفرتم بتوحيده تعالى أي جحدتم وأنكرتم ذلك وإن يشرك به تؤمنوا بالإشراك أي تذعنوا وتقروا به وفي إيراد إذا وصيغة الماضي في الشرطية الأولى و إن وصيغة المضارع في الثانية ما لا يخفى من الدلالة على سوء حالهم وحيث كان كذلك فالحكم لله الذي لا يحكم إلا بالحق ولا يقضي إلا بما تقتضيه الحكمة العلي الكبير
12
- المتصف بغاية العلوم نهاية الكبرياء فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله ولذا اشتدت سطوته بمن أشرك به واقتضت حكمته خلوده في النار فلا سبيل لخروجهم منها أبدا إذ كنتم مشركين
واستدلال الحرورية بهذه الآية على زعمهم الفاسد في غاية السقوط ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها الآية وقوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم هو الذي يريكم آياته الدالة على شؤنه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فإذا دعى سبحانه وحده تؤمنوا وإن يشرك به تكفروا وهذه الآيات ما يشاهد من آثار قدرته عز و جل : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وينزل بالتشديد وقريء بالتخفيف من الإنزال لكم من السماء رزقا أي سبب رزق وهو المطر وإفراده بالذكر مع كونه جملة تلك الآيات لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة وما يتذكر بتلك الآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للإنهماك في التقليد واتباع الهوى إلا من ينيب
13
- يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه فمن لا ينيب بمعزل عن التذكر فادعوا الله اعبدوه عز و جل مخلصين له الدين من الشرك ولو كره الكافرون
14
- إخلاصهم وشق عليهم
وظاهر كلام الكشاف أن ادعو الخ مسبب عن الإنابة وأن فيه التفاتا حيث قال : ثم قال للمنيبين
(24/54)
والأصل فليدع ذلك المنيب على معنى إن صحت الإنابة على نحو فقد جئنا خراسانا وقد وافق على كونه خطابا لمن ذكر غير واحد وفي الكشف التحقيق أن قوله تعالى : وما يتذكر الخ اعتراض وقوله سبحانه : فادعوا الله مسبب عن قوله تعالى : هو الذي يريكم على أنه خطابا يعم المؤمن والكافر لسبق ذكرهما لا للكفار وحدهم على نحو من مقتكم أنفسكم إذ ليس مما نودوا به يوم القيامة والمعنى فادعوه فوضع الظاهر موضع المضمر ليتمكن فضل تمكن وليشعر بأن كونه تعالى هو المعبود بحق هو الذي يقتضي أن يعبد وحده وفائدة افعتراض أن هذه الآيات ودلالتها على اختصاصه سبحانه وحده بالعبادة بالنسبة إلى من ينيب لا المعاند
وقوله في الكشاف : ثم قال للمنيبين إشارة أن فائدة تقديم الإعتراض من أن الإنتفاع بالآيات على هذا التقدير فكأنه مسبب عن الإنابة معنى لما كان تسبب السابق للاحق الإنابة فهذا هو الوجه ولا يأباه تفسير ولو كره الكافرون بقوله : وإن غاظ ذلك أعداءكم فإنه للتنبيه على أن امتثال ذلك الأمر إنما يكون بعد إنابتهم وكأن قد حصل ذلك وحصل التضاد بينهم وبين الكافرين وهو تحقيق حقيق بالقبول لكن في توجيه كلام الكشاف تكلق ظاهر رفيع الدرجات صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رفع الشيء بالضم إذا علا وجوز أن يكون صيغة مبالغة من باب أسماء القائلين وأضيف إلى المفعول وفيه بعد و الدرجات مصاعد الملائكة عليهم السلام إلى أن يبلغوا العرش أي رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه
وفسرها ابن جبير بالسماوات ولا بأس بذلك فإن الملائكة يعرجون من سماء إلى سماء حتى يبلغوا العرش إلا أنه جعل رفيعا اسم فاعل مضافا إلى المفعول فقال : أي رفع سماء فوق سماء والعرش فوقهن وقد سمعت آنفا أن فيه بعدا ووصفه عز و جل بذلك للدلالة على سبيل الإدماج على عزته سبحانه وملكوته جل شأنه
ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنه وسلطانه عز شأنه كما أن قوله تعالى : ذو العرش كناية عن ملكه جل جلاله ولا نظر في ذلك إلى أن له سبحانه عرشا أو لا فالكناية وإن لم تناف إرادة الحقيقة لكن لا تقتضي وجوب إرادتها فقد وقد وعن ابن زيد أنه قال : أي عظيم الصفات وكأنه بيان لحاصل المعنى الكنائي وقيل : هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياؤه تعالى يوم القيامة وروي ذلك عن ابن عباس وابن سلام وهذا أنسب بقوله تعالى : فادعوا الله مخلصين والمعنى الأول أنسب بقوله تعالى : يلقى الروح من أمره لتضمنه ذكر الملائكة عليهم السلام وهم المنزلون بالروح كما قال سبحانه : ينزل الملائكة بالروح من أمره وأيا ما كان فرفيع الدرجات و ذو العرش وجملة يلقى إخبار ثلاثة قيل : لهو السابق في قوله تعالى : هو الذي يريكم الخ واستبعده أبو حيان بطول الفصل وقيل : لهو محذوفا والجملة كالتعليل لتخصيص العبادة وإخلاص الدين له تعالى وهي متضمنة بيان إنزال الرزق الروحاني بعد بيان إنزال الرزق الجسماني في ينزل لكم من السماء رزقا فإن المراد بالروح على ما روي عن قتادة الوحي وعلى ما روي عن ابن عباس القرآن وذلك جار من القلوب مجرى الروح في الأجساد وفسره الضحاك بجبريل عليه السلام وهو عليه السلام حياة القلوب باعتبار ما ينزل به من العلم
وجوز ابن عطية أن يراد به كل ما ينعم الله تعالى به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة وهو كما ترى وقوله تعالى : من أمره قيل : بيان للروح وفسر بما يتناول الأمر والنهي وأوثر على
(24/55)
لفظ الوحي للإشارة إلى أن اختصاص حياة القلوب بالوحي من جهتي التخلي والتحلي الحاصلين بالإمتثال والإنتهاء
وعن ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء فجعلت من ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الروح أي ناشئا من أمره أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول من بعض صلته أي الكائن من أمره وفسره بعضهم بالملك وجعل من ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا أو صفة على ما ذكر آنفا وكون الملك مبدأ للوحي لتلقيه عنه ومن فسر الروح بجبريل عليه الصلاة و السلام قال : من سببية متعلقة بيلقى والمعنى ينزل الروح من أجل تبليغ أمره على من يشاء من عباده وهو الذي اصطفاه سبحانه لرسالته وتبليغ أحكامه إليهم والإستمرار التجددي المفهوم من يلقى ظاهر فإن الإلقاء لم يزل من لدن آدم عليه السلام إلى انتهاء زمان نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في حكم المتصل إلى قيام الساعة بإقامة من يقوم بالدعوة على ما روي أبو داود عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال : إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها أي بإحياء ما إندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وأمر ذلك التجدد على ما جوزه ابن عطية لا يحتاج إلى ما ذكر وقريء رفيع بالنصب على المدح ليذنر علة للإلقاء وضميره المستتر لله تعالى أو لمن وهو الملقى إليه أو للروح أو للأمر وعوده على الملقى إليه وهو الرسول أقرب لفظا ومعنى لقرب المرجع وقوة الإسناد فإنه الذي ينذر النار حقيقة بلا واسطة واستظهر أبو حيان رجوعه إليه تعالى لأنه سبحانه المحدث عنه وقوله تعالى : يوم التلاق
15
- مفعول لينذر أو ظرف والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب أو نحوه يوم التلاق وقوله سبحانه : يوم هم بارزون بدل من يوم التلاق و هم مبتدأ و بارزون خبر والجملة في محل جر بإضافة يوم إليها قيل : وهذا تخريج على مذهب أبي الحسن من جواز إضافة الظرف المستقبل كإذا إلى الجملة افسمية نحو أجيئك إذا زيد ذاهب وسيبويه لا يجوز ذلك ويوجب تقدير فعل بعد الظرف يكون الاسم مرتفعا به وجوز أن يكون يوم ظرفا لقوله تعالى : لا يخفى على الله منهم شيء والظاهر البدلية وهذه الجملة استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه بعض المتوهمين في الدنيا من الإستتار توهما باطلا وجوز أن تكون خبرا ثانيا لهم
وقيل : هي حال من ضمير بارزون و يوم التلاق يوم القيامة سمي بذلك قال ابن عباس : لالتقاء الخلائق فيه وقال مقاتل : لالتقاء الخالق والمخلوق فيه وحكاه الطبرسي عن ابن عباس وقال السدي : لالتقاء أهل السماء وأهل الأرض وقال ميمون بن مهران : لالتقاء الظالم والمظلوم وحكى الثعلبي أن ذلك لالتقاء كل امريء وعمله واختار بعض الأجلة ما قال مقاتل وقال : هو أولى الوجوه لما فيه من حمل المطلق على ما ورد في كثير من المواضع نحو فمن كان يرجو لقاء ربه إن الذين لا يرجون لقاءنا وقال الذين لا يرجون لقاءنا
وقال صاحب الكشف : القول الأول وهو ما نقل عن ابن عباس أولا أشبه لجريان الكلام فيه على الحقيقة ونفى ما يتوهم من المساواة بين الخالق والمخلوق واستقلال كل من البدلين بفائدة من التهويل لما في الأول من تصوير تلاقي الخلائق على اختلاف أنواعها وفي الثاني من البروز لمالك أمرها بروزا لا يبقى لأحد فيه شبهة
وأما نحو قوله تعالى : لقاء ربه فمسوق بمعنى آخر و بارزون من برز وأصله حصل في براز أي
(24/56)
قضاء والمراد ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض يومئذ قاع صفصف وليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الصحيحين عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا وقيل : المراد خارجون من قبورهم أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم وقيل : ظاهرة نفوسهم لا تحجب بغواشي الأبدان مع تعلقها بها ولا يقبل هذا بدون ثبت من المعصوم والمراد بقوله تعالى : منهم على ما قيل : من أحوالهم وأعمالهم وقيل : من أعيانهم واختير التعميم أي لا يخفى عليه عز شأنه شيء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة
وقرأ أبي لينذر يوم ببناء ينذر للفاعل ورفع يوم على الفاعلية مجازا وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح لينذر مبنيا للمفعول يوم بالرفع على النيابة على الفاعل وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه لتنذر بالتاء الفوقية فقيل : الفاعل فيه ضمير الخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : ضمير الروح لأنها تؤنث وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
16
- حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل : فما يكون حينئذ فقيل : يقال : لمن الملك الخ وقوله تعالى : اليوم تجزى كل نفس أي من النفوس البرة والفاجرة بما كسبت أي من خير أو شر لا ظلم اليوم بنقص الثواب وزيادة العقاب إن الله سريع الحساب
17
- أي سريع حسابه إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن فيصل إلى المحاسب من النفوس ما يستحقه سريعا روي عن ابن عباس أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها من تتمة الجواب جيء به لبيان إجمال فيه والتذييل لتعليل ما قبله
والمنادى بذلك سؤالا وجوابا واحد أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط ولم يخطأ فيها فأول ما يتكلم أن ينادي مناد لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فأول ما يبدؤن به من الخصومات الدماء الحديث وهو عند الحسن الله نفسه عز و جل وقيل : ملك وقيل : السائل هو الله تعالى أو ملك والمجيب الناس
وذكر الطيبي تقريرا لعبادة الكشاف أن قوله تعالى : اليوم تجرى الخ تعليل فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عز و جل فإنه لما سأل لمن الملك اليوم وأجاب هو سبحانه بنفسه لله الواحد القهار كان المقام موقع السؤال وطلب التعليل فأوقع اليوم تجزى جوابا عنه يعني إنما اختص الملك به تعالى لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس بما كسبت وله العدل التام فلا يظلم أحدا وله التصرف فلا يشغله شأن عن شأن فيسرع الحساب ولو أوقع لله الواحد القهار جوابا عن أهل المحشر لم يحسن الإستئناف انتهى وفيه ما فيه
والحق أن قوله تعالى : اليوم تجزى كل نفس الخ إن كان من كلام المجيب كما هو ظاهر حديث ابن مسعود بعد أن يكون من الناس وجوز فيه أن لا يكون من تتمة الجواب بل هو حكاية لما سيقوله تعالى في ذلك
(24/57)
اليوم عقيب السؤال والجواب وأيا ما كان فتخصيص الملك به تعالى في ذلك اليوم إنما هو بالنظر إلى ظاهر الحال من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وظهور ذلك للكفرة والجهلة وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما وذهب محمد بن كعب القرظي إلىان السؤال والجواب منه تعالى ويكونان بين النفختين حين يفني عز و جل الخلائق وروي نحوه عن ابن عباس
أخرج عبد بن حميد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية عنه رضي الله تعالى عنه قال : ينادي منادي بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار والسياق ظاهر في أن ذلك يوم القيامة فلعله على تقدير صحة الحديث يكون مرتين ومعنى جزاء النفوس بما كسبت أنها تجرى خيرا إن كسبت خيرا وشرا إن كسبت شرا وقيل : إن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيآت توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا فغذا قامت فيامتها وزالت العوائق أدركت ألمها ولذتها والظاهر أن هذا قول باللذة والألم الروحانيين ونحن لا ننكر حصولهما يومئذ لكن نقول : إن الجزاء لا ينحصر بهما بل يكون أيضا بلذة وألم جسمانيين فالإقتصار في تفسير الآية على ذلك قصور
وأنذرهم يوم الآزفة يوم القيامة كما قال مجاهد وقتادة وابن زيد ومعنى الآزفة القريبة يقال : أزف الشخوص إذا قرب وضاق وقته فهي في الأصل اسم فاعل ثم نقلت منه وجعلت اسما للقيامة لقربها بالإضافة لما مضى من مدة الدنيا أو لما بقي فإن كل آت قريب ويجوز أن تكون باقية على الأصل فتكون صفة لمحذوف أي الساعة الآزفة وقدر بعضهم الموصوفة الخطة بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وهي القصة والأمر العظيم الذي يستحق أن يخط ويكتب لغرابته ويراد بذلك ما يقع يوم القيامة من الأمور الصعبة وقربها لأن كل آت قريب والمراد باليوم الوقت مطلقا أو هو يوم القيامة وقال أبو مسلم : يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل
ورجح بأنه أبعد عن التكرار وأنسب بما بعده ووصف القرب فيه أظهر إذ القلوب لدى الحناجر بدل من يوم الآزفة و الحناجر جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى وهي كما قال الراغب : رأس الغلصمة من خارج وهي لحمة بين الرأس والعنق والكلام كناية عن شدة الخوف أو فرط التألم وجوز أن يكون على حقيقته وتبلغ قلوب الكفار حناجرهم يوم القيامة ولا يموتون كما لو كان ذلك في الدنيا
كاظمين حال من أصحاب القلوب على المعنى فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها فهو من باب ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا فكأنه قيل : إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمين عليها وهو من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها فالمعنى ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج مع النفس فإن كاظم القربة كاظم على الماء ممسكها عليه لئلا يخرج امتلاء وفيه مبالغة عظيمة وجوز كونه حالا من ضمير القلوب المستتر في الخبر أعني لدى الحناجر وعلى رأي من يجوز مجيء الحال من المبتدأ كونه حالا من القلوب نفسها
وجمع جمع العقلاء لتنزيلها منزلتهم لوصفها بصفتهم كما في قوله تعالى : فظلت أعناقهم لها خاضعين والمعنى حال كون القلوب كاظمة على الغم والكرب ومنه يعلم أنه لا يجوز أن يكون لدى الحناجر ظرف كاظمين
(24/58)
لفساد المعنى والحاجة إلى تقدير محذوف مع الغنى عنه وكذلك على قراءة كاظمون للأول فقط فيتعين كون لدى الحناجر خبرا و كاظمون خبرا آخر وبذلك يترجح كون الحال من القلوب وقدر الكواشي هم كاظمون ليوافق وجه الحالية من الأصحاب وجوز كونه حالا من مفعوا أنذرهم أي أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم
ما للظالمين من حميم أي قريب مشفق من احتم فلان لفلان احتد فكأنه الذي يحتد حماية لذويه ويقال لخاصة الرجل حامته ومن هنا فسر الحميم بالصديق ولا شفيع يطاع
18
- أي ولا شفيع يشفع فالجملة في محل جر أو رفع صفة شفيع والمراد نفي الصفة والموصوف لا الصفة فقط ليدل على أن ثم شفيعا لكن لا يطاع فالكلام من باب
لا ترى الضب بها ينجحر
ولم يقتصر على نفع الشفيع بل ضم إليه ما ضم ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة فيكون ذلك الضم إزالة لتوهم وجود الموصوف حيث جعل انتفاؤه أمرا مسلما مشهورا لا نزاع فيه لأن الدليل ينبغي أن يكون أوضح من المدلول وهذا كما تقول لمن عاتبك على القعود عن الغزو مالي فرس أركبه وما معي سلاح أحارب به فليفهم والضمائر المذكورة من قوله تعالى : وأنذرهم إلى هنا إن كانت للكفار كما هو للظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم وإن كانت عامة لهم ولغيرهم فليس هذا من باب وضع الظاهر موضع الضمير وإنما هو بيان حكم للظالمين بخصوصهم والمراد بهم الكاملون في الظلم وهم الكافرون لقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم يعلم خائنة الأعين أي النظرة الخائنة كالنظرة إلى غير المحرم واستراق النظر إليه وغير ذلك فخائنة صفة لموصوف مقدر وجعل النظرة خائنة إسناد مجازي أو استعارة مصرحة أو مكنية وتخييلية ويجعل النظر بمنزلة شيء يسرق من المنظور إليه ولذا عبر فيه بالإستراق ويجوز أن يكون خائنة مصدرا كالكاذبة والعاقبة والعافية أي يعلم سبحانه خيانة الأعين وقيل وصف مضاف إلى موصوفه كما في قوله :
سيقت كرام الناس فأسقينا
أي يعلم سبحانه الأعين الخائنة ولا يحسن ذلك لقوله تعالى : وما تخفي الصدور
19
- أي والذي تخفيه الصدور من الضمائر أو إخفاء الصدور لما تخفيه من ذلك لأن الملاءمة واجبة الرعاية في علم البيان وملائم الأعين الخائنة الصدور المخفية وما قيل في عدم حسن ذلك من أن مقام المبالغة يقتضي أن يراد استراق العين ضم إليه هذه القرينة أولا فغير قادح في التعليل المذكور إذ لا مانع من أن يكون على مطلوب دلائل ثم لولا القرينة لجاز أن تجعل الأعين تمهيدا للوصف فالقرينة هي المانعة وهذه الجملة على ما في الكشاف متصلة بأول الكلام خبر من أخبار هو في قوله تعالى : هو الذي يريكم على معنى هو الذي يريكم الخ وهو يعلم خائنة الأعين ولم يجعله تعليلا لنفي الشفاعة على معنى ما لهم من شفيع لأن الله تعالى يعلم منهم الخيانة سرا وعلانية قيل : لأنه لا يصلح تعليلا لنفيها بل لنفي قبولها فإن الله تعالى هو العالم لا الشفيع والمقصود نفي الشفاعة ووجه تقرير هذا الخبر في هذا الموضع ما فيه من التخلص إلى ذم آلهتهم مع أن تقديمه على الذي يريكم لا وجه له لتعلقه بما قبله أشد التعلق كما أشير إليه وكذلك على رفيع الدرجات لاتصاله بالسابق وأمر المنيبين بالإخلاص ولما فيه من النبو من توسيط المنكر الفعلي بين المبتدأ وخبره المعرف الإسمي وأما توسيطه بين القرائن الثلاث فبين العصا
(24/59)
ولحائها فلا موضع له أحق من هذا ولا يضر البعد اللفظي في مثل ذلك كما لا يخفى وظن بعضهم ضرره فمنهم من قال : الجملة متصلة بمجموع قوله عز و جل : وأنذرهم يوم الآزفة إلى آخره وذلك أنه سبحانه لما أمر بإنذار ذلك اليوم وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم وذكر تعالى أن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ولا من يشفع له ذكر جل وعلا إطلاعه على جميع ما يصدر من العبد وأنه مجازي بما عمل ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا غلم أن الله تعالى مطلع على أعماله وإلى هذا ذهب أبو حيان
وقال ابن عطية : هي متصلة بقوله تعالى : سريع الحساب لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي لعلمه تعالى الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون وحكى رحمه الله تعالى عن فرقة أنها متصلة بقوله تعالى : لا يخفى على الله منهم شيء ثم قال : وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه البعد وكثرة الحائل وجعلها بعض متصلة بنفي قبول الشفاعة الذي تضمنه قوله تعالى : ولا شفيع يطاع فإن يطاع المنفي بمعنى تقبل شفاعته على أنها تعليل لذلك أي لا تقبل شفاعة شفيع لهم لأن الله تعالى يعلم منه الخيانة سرا وعلانية وليست تعليلا لنفي ليرد ما قيل ولا يخفى ما فيه ولعمري أن جار الله في مثل هذا المقام لا يجارى
والله يقضي بالحق أي والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه سبحانه عن الظلم وتقديم المسند إليه للتقوى وجوز أن يكون للحصر وفائدة العدول عن المضمر إلى المظهر والإتيان بالاسم الجامع عقيب ذكر الأوصاف ما أشير إليه من إرادة الموصوف بتلك الصفات
والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء تهكم بآلهتهم لأن الجماد لا يقال فيه يقضى أو لا يقضى وجعله بعضهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء واختير الأول قيل لأن التهكم أبلغ لأنه ليس المقصود الإستدلال على عدم صلاحيتهم للإلهية
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه وهشام تدعون بتاء الخطاب على الإلتفات وجوز أن يكون على إضمار قل فلا يكون التفاتا وإن عبر عنه بالغيبة قبله لأنه ليبس على خلاف مقتضى الظاهر إذ هو ابتداء كلام مبني على خطابهم إن الله هو السميع البصير
20
- تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور وقضاؤه سبحانه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويغفلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه عز و جل وفيه إشارة إلى أن القاضي ينبغي أن يكون سميعا بصيرا أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم أي مآل حال الذين كذبوا الرسل عليهم السلام قبلهم كعاد وثمود و ينظروا مجزوم على أنه معطوف على يسيروا وجوز أبو حيان كونه منصوبا في جواب النفي كما في قوله :
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
وتعقب بأنه لا يصح تقديره بأن لم يسيروا ينظروا وأجيب بأن الإستفهام إنكاري وهو في معنى النفي فيكون جواب نفي النفي كانوا هم أشد منهم قوة قدرة وتمكنا من التصرفات والضمير المنفصل تأكيد للضمير المتصل قبله وجوز كونه ضمير فصل ولا يتعين وقوعه بين معرفتين فقد أجاز الجرجاني وقوع المضارع بعده كما في قوله تعالى إنه هو يبديء ويعيد نعم الأصل الأكثر فيه ذلك على أن أفعل التفضيل الواقع بعده من الداخلة على المفضل عليه مضارع للمعرفة لفظا في عدم دخول أل عليه ومعنى لأن المراد به الأفضل باعتبار أفضلية معينة
(24/60)
وجملة كانوا الخ مستأنفة في جواب كيف صارت أمورهم وقرأ ابن عامر منكم بضمير الخطاب على الإلتفات
وآثارا في الأرض عطف على قوة أي وأشد آثارا في الأرض مثل القلاع المحكمة والمدائن الحصينة وقد حكى الله تعالى عن قوم منهم أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا
وجوز كونه عطفا على أشد بتقدير محذوف أي وأكثر آثارا فتشمل الآثار القوية وغيرها وهو ارتكاب خلاف المتبادر من غير حاجة يعتد بها وقيل : المراد بهذه الآثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم وليس بشيء أصلا فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق
21
- أي وليس لهم واق من الله تعالى يقيهم ويمنع عنهم عذابه تعالى أبدا فكان للإستمرار والمراد استمرار النفي لا نفي الإستمرار وفي الثانية زائدة ومن الأولى متعلقة بواق وقدم الجار والمجرور للإهتمام والفاصلة لأن اسم الله تعالى قيل : لم يقع مقطعا للفواصل وجوز أن تكون من الأولى للبدلية أي ما كان لهم بدلا من المتصف بصفات الكمال واق وأريد بذلك شركاؤهم وأن تكون ابتدائية تنبيها على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتديء من جهته سبحانه واقية لم يكن لهم باقية ذلك الأخذ بأنهم أي بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات بالمعجزات والأحكام الواضحة فكفروا ريثما أتتهم رسلهم بذلك فأخذهم الله إنه قوي متمكن مما يريده عز و جل غاية التمكن شديد العقاب
22
- لا يعتد بعقاب عند عقابه سبحانه وهذا بيان للإجمال في قوله تعالى : فأخذهم الله بذنوبهم إن كانت الباء هناك سببية وبيان لسبب الأخذ إن كانت للملابسة أي أخذهم ملابسين لذنوبهم غير تائبين عنها فتأمل ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وهي معجزاته عليه السلام وسلطان مبين
23
- حجة قاهرة ظاهرة والمراد بذلك قيل ما أريد بالآيات ونزل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين فعطف الثاني على الأول وقيل : المراد بعض من آياته له شأن كالعصا وعطف عليها تفخيما لشأنه كما عطف جبريل وميكائيل عليهما السلام على الملائكة
وتعقب بأن مثله إنما يكون إذا غير الثاني بعلم أو نحوه أما مع إبهامه ففيه نظر وحكى الطبرسي أن المراد بالآيات حجج التوحيد وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام وقيل الآيات المعجزات والسلطان ما أوتيه عليه السلام من القوة القدسية وظهورها باعتبار ظهور آثارها من الإقدام على الدعوة من غير اكتراث وقرأ عيسى سلطان بضم اللام إلى فرعون وهامان وزير فرعون وزعم اليهود أنه لم يكن لفرعون وزير يدعى هامان وإنما هامان ظالم جاء بعد فرعون بزمان مديد ودهر داهر نفي جاءهم من اختلال أمر كتبهم وتواريخ فرعون لطول العهد وكثرة المحن التي ابتلوا بها فاضمحلت منها أنفسهم وكتبهم
وقارون قيل هو الذي كان من قوم موسى عليه السلام وقيل : هو غيره وكان مقدم جنود فرعون وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانتهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع
وفي ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى تسلية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبل وأقربهم زمانا ولذا خص
(24/61)
وجنوده أشد من عاد فقالوا ساحر أي هو يعنون موسى عليه السلام ساحر فيما أظهر من المعجزات كذاب
24
- في دعواه أنه رسول من رب العالمين فلما جاءهم بالحق من عندنا وبلغهم أمر الله تعالى إلى غير مكترث بقولهم ساحر كذاب قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه بهم أولا كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام فالأمر بالقتل والإستحياء وقع مرتين المرة الأولى حين أخبرت الكهنة والمنجمون في قول في قول فرعون بمولود من بني إسرائيل يسلبه ملكه والمرة الثانية هذه وضمير قالوا لفرعون ومن معه
وقيل : إن قارون لم يصدر منه مثل هذه المقالة لكنهم غلبوا عليه وما كيد الكافرين إلا في ضلال
25
- في ضياع من ضلت الدابة إذا ضاعت والمراد أنه لا يفيد شيئا فالعاقبة للمتقين واللام إما للعهد والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا والجملة اعتراض جيء به في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة
وقلل فرعون ذروني أقتل موسى كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله وإنك إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناي واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة والظاهر أنه لعنه الله تعالى استيقن أنه عليه السلام نبي ولكن كان فيه خب وجربزة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقتل من أخس منه بأنه الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك فقوله : ذروني الخ كان تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه وما كان ييكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع ويرشد إلى ذلك قوله : وليدع ربه لأن ظاهره الإستهانة بموسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه كما يقال : ادع ناصرك فإني منتقم منك وباطنه أنه كان يرعد فرائصه من دعاء ربه فلهذا تكلم به أول ما تكلم وأظهر أنه لا يبالي بدعاء ربه وما هو إلا كمن قال : ذروني أفعل كذا وما كان فليكن وإلا فما لمن يدعي أنه ربهم الأعلى أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة إني أخاف إن لم أقتله أن يبدل دينكم أن يغير حالكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام وكان عليه اللعنة قد أمرهم بنحتها وإن تجعل شفعاء لهم عنده كما كان كفار مكة يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولهذا المعنى أضافوا الآلهة إليه في قولهم : ويذرك وآلهتك فهي إضافة تشريف واختصاص وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين وقال ابن عطية : الدين سلطان ومنه قول زهير : لئن حللت بحي من بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدك أي إني أخاف أن يغير سلطانكم ويستذلكم أو أن يظهر إن لم يقدر على تغيير دينكم بالكلية في الأرض الفساد
26
- وذلك بالتهارج الذي يذهب معه إلا من وتتعطل المزارع والمكاسب ويهلك الناس قتلا وضياعا فالفساد الذي عناه فساد دنياهم فيكون حاصل المعنى على ما قرر أولا أني إني أخاف أن يفسد عليكم
(24/62)
أمر دينكم بالتبديل أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل وهما أمران كل منهما مر ونحو هذا يقال على المعنى الثاني للدين وعن قتادة أن اللعين عني بالفساد طاعة الله تعالى : وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو و وأن الواو الواصلة
وقرأ الأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص يظهر بفتح الياء والهاء الفساد بالرفع وقرأ مجاهد يظهر بتشديد الظاء والهاء الفساد بالرفع وقرأ زيد بن علي يظهر بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول الفساد بالرفع
وقال موسى لما سمع بما أجراه اللعين من حديث قتله إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب
27
- قاله عليه السلام مخاطبا به قومه على ما ذهب إليه غير واحد وذلك أنه لما كان القول السابق من فرعون خطابا لقومه على سبيل الإستشارة وإجالة الرأي لا بمحضر منه عليه السلام كان الظاهر أن موسى عليه السلام أيضا خاطب قومه لا فرعون وحاضريه بذلك ويؤديه قوله تعالى : في الأعراف وقال موسى لقومه استعينوا في هذه القصة بعينها وقوله تعالى هنا : وربكم فإن فرعون ومن معه لا يعتقدون ربوبيته تعالى وإرادة أنه تعالى كذلك في نفس الأمر لا يضر في كونه مؤيدا لأن التأييد مداره الظاهر وصدر الكلام بأن تأكيدا وتنبيها على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية وأضافه وإليهم حثا لهم على موافقته في العياذ به سبحانه والتوجه التام بالروح إليه جل شأنه لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة وهذا هو الحكمة في مشروعية الجماعة في العبادات و من كل على معنى من شر كل وأراد بالتكبر الإستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح الإستكبار وأدله على دناءة ومهانة وعلى فرط ظلمه وعسفه وضم إليه عدم الإيمان بيوم الجزاء ليكون أدل وأدل فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله تعالى وعباده ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها واختير المنزل دون منه سلوكا لطريق التعريض لأنه كلام وارد في عرضهم فلا يلبسون جلد النمر إذا عرض عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على علة الإستعادة ورعاية حق تربية اللعين له عليه السلام في الجملة وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عت بإدغام الذال المعجمة في التاء بعد قلبها تاء وقال رجل مؤمن من آل فرعون قيل كان قبطيا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة وقيل : كان إسرائيليا وقيل : كان غريبا ليس من الفئتين ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفا ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار وقيل : من آل فرعون على القولين متعلق بقوله تعالى : يكتم إيمانه والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه ولا بأس على هذا في الوقف على مؤمن واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال : كتمت فلانا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا وقال الشاعر : كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا وهمين هما مستكنا وظاهرا أحاديث نفس تشتكي ما يريبها وورد هموم لن يجدن مصادرا وأراد على ما في البحر كتمتك أحاديث نفس وهمين وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضا قال
(24/63)
في المصباح من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من المفعول الأول فيقال : كتمت من زيد الحديث كما يقال : بعته الدار وبعتها منه نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه بمحذوف وقع صفة ثانية لرجل والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعد ما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل : شمعان بشين معجمة وقيل : خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة وقيل : حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة وقيل : حبيب
وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو رجل بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد أتقتلون رجلا أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز أن يقول ربي الله أي لأن يقول ذلك وقد جاءكم بالبينات الشاهدة على صدقه من المعجزات والإستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة بمعونة المقام والجملة حالية من الفاعل أو المفعول وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله : ربي الله مع أنه قد جاءكم بالبينات من ربكم أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده وهذا استدراج إلى الأعتراف وفي أن يقول ربي الله إلى من ربكم نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم : ربنا فرعون كيف وقد جعل ربه من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه وجوز الزمخشري كون أن يقول على تقدير مضاف أي وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه القول من غير رؤية ولا فكر في أمره ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك وفيه أن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام ثم أن الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرض اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف في الإحتجاج فقال : وإن يك كاذبا فعليه كذبه لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم أو يعدكموه وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعجب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا وقيل : المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم وقيل : بعض بمعنى كل وأنشدوا لذلك قول عمرو القطامي : قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل وذهب الزجاج إلى أن بعض فيه على ظاهره والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه فالبيت كالآية على الوجه الأول وأنشدوا المجيء بمعنى كل قول الشاعر : إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ فرى في بعضها خللا
(24/64)
ولا يتعين فيه ذلك كما لا يخفى وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضا وأنشد قول لبيد : تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض بعض النفوس حمامها حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه والمعنى لا أزال أترك مالم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت وقال الزمخشري : إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسئلة العلقي أجفى من أن يفقه ما أقول له وفيه مبالغة في الرد أن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب
28
- احتجاج آخر ذو وجهين أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات وثانيهما إن كان كذلك خذله الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله ولعله أراد الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم وعرض لفرعون بأنه مسرف أي في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة فالجملة مستأنفة متعلقة بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين غالبين عالين على بني إسرائيل في الأرض أي في أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت فمن ينصرنا من بأس الله من أخذه وعذابه سبحانه إن جاءنا أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد فالفاء في فمن الخ فصيحة والإستفهام إنكاري وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسؤهم مجيء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم إيذانا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه
قال فرعون بعدما سمع ذلك ما أريكم أي ما أشير عليكم ألا ما أرى إلا الذي أراه وأستصوبه من قتله يعني لا أستوصب إلا قتله وهذا الذي تقولونه غير صواب وما أهديكم بهذا الرأي إلا سبيل الرشاد
29
- طريق الصواب والصلاح أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني أن لسانه وقلبه متوطئان على ما يقول وقد كذب عدو الله فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام لكنه كان يتجلد ولو لا استشعاره لم يستر أحدا وعن معاذ بن جبل والحسن أنهما قرءا الرشاد بشد الشين على أنه فعال للمبالغة من رشد بالكسر كعلام من علم أو من رشد بالفتح كعباد من عبد
وقيل : هو من أرشد المزيد كجبار من أجبر وتعقب بأن فعالا لم يجيء من المزيد إلا في عدة أحرف نحو جبار ودراك وقصار وسآر ولا يحسن القياس على القليل مع أنه ثبت في بعضه كجبار سماع الثلاثي فلا يتعين كونه من المزيد فقد جاء جبره على كذا كأجبره وقصار كجبار عند بعض لا يتعين كونه من أقصر لمجيء قصر عن الشيء كأقصر عنه وحكي عن الجوهري أن الإقصار كف مع قدرة والقصر كف مع عجز فلا يتم هذا عليه وأما دراك وسآر فقد خرجا على حذف الزيادة تقديرا لا استعمالا كما قالوا : ابقل المكان فهو باقل وأورس الرمث فهو وارس قال ابن جني : وعلى هذا خرج الرشاد فيكون من رشد بمعنى أرشد تقديرا لا استعمالا فإن المعنى على ذلك ثم قال : فإن قيل إذا كان المعنى على أرشد فكيف أجزت أن يكون من رشد المكسور أو من
(24/65)
رشد المفتوح قيل : المعنى راجع إلى أنه مرشد لأنه إذا أرشد لأنه الإرشاد من الرشد فهو من باب الإكتفاء بذكر السبب عن المسبب انتهى وقيل : أجيز ذلك لأن المبالغة في الرشد تكون بالإرشاد كما قرروا في قيوم وطهور
وقال بعض المحققين : إن رشد بمعنى اهتدى فالمعنى ما أهديكم إلا سبيل من اهتدى وعظم رشده فلا حاجة إلى ما سمعت وإنما يحتاج إليه لو وجب كون المعنى ما أهديكم إلا سبيل من كثر إرشاده ومن أين وجب ذلك وجوز كون فعال في هذه القراءة للنسبة كما قالوا : عواج لبياج العاج وبتات لبياع البت وهو كساء غليظ وقيل : طيلسات من خز أو صوف وأنكر بعضهم كون القراءة على صيغة فعال في كلام فرعون وإنما هي في قول الذي آمن يا قوم اتبعون أهديكم سبيل الرشاد فإن معاذ بن جبل كان كما قال أبو الفضل الرازي وأبو حاتم يفسر سبيل الرشاد على قراءته بسبيل الله تعالى وهو لا يتسنى في كلام فرعون كما لا يخفى وستعلم إن شاء الله تعالى إن معاذا قرأ كذلك في قول المؤمن فلعل التفسير بسبيل الله عز و جل كان فيه دون كلام فرعون والله تعالى أعلم
وقال الذي آمن الجمهور على أنه الرجل المؤمن الكاتم إيمانه القائل : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله قوي الله تعالى نفسه وثبت قلبه فلم يهب فرعون ولم يعبأ به فأتى بنوع آخر من التهديد والتخويف فقال : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب
30
- إلى آخره وقالت فرقة : كلام ذلك المؤمن قد تم والمراد بالذي آمن هنا هو موسى نفسه عليه السلام واحتجت بقوة كلامه وعلى الأول المعول أي قال ناصحا لقومه : يا قوم إني أخاف عليكم في تكذيب موسى عليه السلام والتعرض له أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية واليوم واحد الأيام بمعنى الوقائع وقد كثر استعمالها بذلك حتى صار حقيقة عرفية أو بمعناها المعروف لغة والكلام عليه على حذف مضاف أي مثل حادث يوم الأحزاب
وأيا ما كان فالظاهر جمع اليوم لكن جمع الأحزاب المضاف هو إليه مع التفسير بما بعد أغنى عن جمعه والمعنى عليه ورجح الإفراد بالخفة والإختصار وقال الزجاج : والمراد يوم حزب حزب بمعنى إن جمع حزب مراد به شمول أفراده على طريق البدل وهو تأويل في الثاني وما تقدم أظهر
مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود أي مثل جزاء دأبهم أي عادتهم الدائمة من الكفر وإيذاء الرسل وقدر المضاف لأن المخوف في الحقيقة جزاء العمل لا هو وجاء هذا من نصب مثل الثاني على أنه عطف بيان لمثل الأول لأن آخرها ما تناولته الإضافة قوم نوح ولو قلت : أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بيان لإضافة قوم إلى أعلام فسري ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة
وقال ابن عطية : هو بدل من مثل الأول والإحتياج إلى تقدير المضاف على حاله والذين من بعدهم كقوم لوط وما الله يريد ظلما للعباد
31
- أي فما فعل سبحانه بهؤلاء الأحزاب لم يكن ظلما بل كان عدلا وقسطا لأنه عز و جل أرسل إليهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وتحزبوا عليهم فاقتضى ذلك إهلاكهم وهذا أبلغ من قوله تعالى : وما ربك بظلام للعبيد من حيث جعل المنفي فيه إرادة الظلم لأن من كان عن إرادة
(24/66)
الظلم بعيدا كان عن الظلم نفسه أبعد وحيث نكر الظلم كأنه نفي أن يريد ظلما لعباده وجوز الزمخشري أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى : ولا يرضى لعباده الكفر أي لا يريد سبحانه لهم أن يظلموا يعني أنه عز و جل دمرهم لأنهم كانوا ظالمين ولا يخفى أن هذا المعنى مرجوح لفظا ومعنى ثم لا حجة للمعتزلة لثبوت الفرق بين إراده منه وإراده له فلو سلم أنه سبحانه لا يريد لهم أن يظلموا لم يلزم أن لا يريده منهم والممتنع عند أهل السنة هو هذا فلا يحتاج إلى صرف الآية عن الظاهر عندهم أيضا
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد
32
- خوفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي والتناد مصدر تنادي القوم أي نادى بعضهم بعضا ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للإستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكى في سورة الأعراف أو لأن الخلق ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر ليتني لم أوت كتابيه
وعن ابن عباس أن هذا التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وإنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال ابن عطية : يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة
وقرأت فرقة التناد بسكون الدال في الوصل إجراء له مجرى الوقف وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي والزعفراني وابن مقسم التناد بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه الآية وفي الحديث أن للناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربا
وقيل : المراد به يوم الإجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي يوم تولون مدبرين بدل من يوم التناد أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار وقيل : فارين من النار فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فلا ينفعهم الهرب ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطا بقوله تعالى : ما لكم من الله من عاصم أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدي وقال قتادة : أي مالكم في الإنطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر وهذا ما يقال على المعنى الأول ليوم تولون مدبرين وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير تولون
ومن يضلل الله فما له من هاد
33
- يهديه إلى طريق النجاة أصلا وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك ثم وبخهم على تكذيب الرسل السالفين فقال : ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب عليهما السلام من قبل أي من قبل موسى بالبينات الأمور الظاهرة الدالة على صدقه فما زلتم في شك مما جاءكم به من الدين حتى إذا هلك بالموت قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا غاية لقوله فما زلتم وأرادوا بقولهم لن يبعث الله من بعده رسولا تكذيب رسالته ورسالة غيره أي لا رسول فيبعث فهم بعد الشك بتوا بهذا التكذيب ويكون ذلك ترقيا
ويجوز أن يكون الشك في رسالته على حاله وبتهم إنما هو بتكذيب رسالة غيره من بعده وقيل : يحتمل أن يكونوا أظهروا الشك في حياته حسدا وعنادا فلكا مات عليه السلام أقروا بها وأنكروا أن يبعث
(24/67)
الله تعالى من بعده رسولا وهو خلاف الظاهر ومجيء يوسف بن يعقوب عليهما السلام المخاطبين بالبينات قيل : من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وكذلك نسبة الأفعال الباقية إليهم وجوز كون بعض الذين جاءهم يوسف عليه السلام حقيقة حيا ففي بعض التواريخ أن وفاة يوسف عليه السلام قبل مولد موسى عليه السلام بأربع وستين سنة فيكون من نسبة حال البعض إلى الكل واستظهر في البحر أن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى عليه السلام وذكر عن أشهب عن مالك أنه بلغه أنه عمر أربعمائة وأربعين سنة والذي ذكره أغلب المؤرخين أن فرعون موسى اسمه الريان وفرعون يوسف اسمه الوليد
وذكر القرطبي أن فرعون الأول من العمالقة وهذا قبطي وفرعون يوسف عليه السلام مات في زمنه واختار القول بتغايرهما وأمر المجيء وما معه من الأفعال على ما سمعت وقيل : المراد بيوسف المذكور هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق أرسله الله تعالى نبيا فأقام فيهم عشرين سنة وكان من أمرهم ما قص الله عز و جل ومن الغريب جدا ما حكاه النقاش وروي أن يوسف المذكور في هذه السورة من الجن بعثه الله تعالى رسولا إليهم نقله الجلال السيوطي في الإتقال ولا يقبله من له أدنى إتقان نعم القول بأن للجن نبيا منهم اسمه يوسف أيضا مما عسى أن يقبل كما لا يخفى
وقريء ألن يبعث بإدخال همزة الإستفهام على حرف النفي كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة
كذلك أي مثل ذلك الإضلال الفظيع يضل الله من هو مسرف في العصيان مرتاب
34
- في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والإنهماك في التقليد الذين يجادلون في آيات الله بدل من الوصول الأول أعني من أو بيان أو صفة له باعتبار معناه كأنه قيل : كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين وجوز نصبه بأعني مقدرا وقوله تعالى شأنه : بغير سلطان على الأوجه المذكورة متعلق بيجادلون وقوله سبحانه : أتاهم صفة سلطان والمراد بإتيانه إتيانه من جهته سبحانه وتعالى إما على أيدي الرسل عليهم السلام فيكون ذاك إشارة إلى الدليل النقلي وإما بطريق الإفاضة على عقولهم فيكون ذاك إشارة إلى الدليل العقلي وقد يعمم فيكون يجادلون بغير حجة صالحة للتمسك بها أصلا لا عقلية ولا نقلية
وقوله سبحانه : كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا تقرير لما أشعر به الكلام من ذمهم وفيه ضرب من التعجب والإستعظام وفاعل كبر ضمير راجع إلى الجدال الدال عليه يجادلون على نحو من كذب كان شرا له أي كبر الجدال في آيات الله بغير حجة مقتا عند الله الخ أو إلى الموصول الأول وأفرد رعاية للفظه واعترض عليه بأنه حمل على اللفظ من بعد الحمل على المعنى وأهل العربية يجتنبونه
وقال صاحب الكشف : هذا شيء نقله ابن الحاجب ولم يساعده غيره وهو غير مسلم أي كبر المسرف المرتاب المجادل في آيات الله بغير حجة مقتا أي كبر مقته وعظم عند الله تعالى وعند المؤمنين كذلك أي مثل ذلك الطبع الفظيع يطبع الله على كل قلب متكبر جبار
35
- فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والإرتياب والمجادلة بغير حق وجوز أن يكون الذين مبتدأ وجملة كبر خبره لكن على حذف مضاف هو المخبر عنه حقيقة أي جدال الذين يجادلون أكبر مقتا وأن يكون الذين مبتدأ على حذف المضاف وبغير سلطان
(24/68)
خبر المضاف المقدر أي جدال الذين يجادلون في آيات الله تعالى كائن بغير سلطان وظاهر كلام البعض من الذين مبتدأ من غير حذف مضاف و بغير سلطان خبره وفيه على الذات والجثة بالظرف وفاعل كبر كذلك على مذهب من يرى أسمية الكاف كالأخفش أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله تعالى : يطبع الخ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم ولا يخفى ما في ذلك من العدول عن الظاهر وفي البحر الأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون أي الذين يجادلون كبر جدالهم مقتا فتأمل
وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والأعرج بخلاف عنه قلب بالتنوين فما بعده صفته ووصفه بالكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم : رأت عيني وسمعت أذني وجوز أن يكون ذاك على حذف مضاف أي كل ذي قلب متكبر جبار وجعل الصفتين لصاحب القلب لتتوافق القراءتان هذه وقراءة باقي السبعة بلا تنوين وعن مقاتل المتكبر المعاند في تنظيم أمر الله تعالى والجبار المتسلط على خلق الله تعالى والظاهر أن عموم كل منسحب على المتكبر والجبار أيضا فكأنه اعتبر أولا إضافة قلب إلى ما بعده ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع
وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لعلي أبلغ الأسباب
36
- أي الطرق كما روي عن السدي وقال قتادة : الأبواب وهي جمع سبب ويطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء أسباب السماوات بيان لها وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها
فاطلع إلى إله موسى بالنصب على جواب الترجي عند الكوفيين فإنهم يجوزون النصب بعد الفاء في جواب الترجي كالتمني ومنع ذلك البصريون وخرجوا النصب هنا على أنه في جواب الأمر وهو ابن كما في قوله : يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا وجوز أن يكون بالعطف على خبر لعلي بتوهم أن فيه لأنه كثيرا ما جاء مقرورنا بها أو على الأسباب على حد
ولبس عباءة وتقر عيني
وقال بعض : إن هذا الترجي تمني في الحقيقة لكن أخرجه اللعين هذا المخرج تمويها على سامعيه فكان النصب في جواب التمني والظاهر أن البصريين لا يفرقون بين ترج وترج وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على أبلغ قيل : ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه وهذا يدل على أنه مقر بالله عز و جل وإنما طلب ما يزيل شكه في الرسالة وكان للعين وأهل عصره اعتناء بالنجوم وأحكامها على ما قيل
وهذا الأحتمال في غاية البعد عندي وقيل : أراد أن يعلم الناس بفساد قول موسى عليه السلام : إني رسول من رب السماوات بأنه كان رسولا منه فهو ممن يصل إليه بالصعود للسماء وهو محال فما بني عليه مثله ومنشأ ذلك جهله بالله تعالى وظنه أنه سبحانه مستقر في السماء وأن رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره وهو عز و جل منزه عن صفات المحدثات والأجسام ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه رسل الملوك رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام وهذا نفي لرسالته من الله تعالى ولا تعرض فيه لنفي الصائغ المرسل له وقال الإمام : الذي عندي في تفسير الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال : أنا لا نرى شيئا نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله أما أنا لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء
(24/69)
ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه وللمبالغة في بيان عدم الإمكان قال : يا هامان ابن لي صرحا فما هو إلا لإظهار عدم إمكان ما ذكر لكل أحد ولعل لا تأبى ذلك لأنها للتهكم على هذا وهي شبهة في غاية الفساد إذ لا يلزم من انتفاء أحد طرق العلم بالشيء انتفاء ذلك الشيء ورأيت لبعض السلفيين أن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو أو بأنه سبحانه في السماء فحمله معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين فقال ما قال تهكما وتمويها على قومه وللإمام في هذا المقام كلام رد به القائلين بأن الله تعالى في السماء ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة والبحث في ذلك طويل المجال والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه وقوله : وإني لأظنه كاذبا يحتمل أن يكون عني به كاذبا في دعوى الرسالة وأن يكون عني به كاذبا في دعوى أن له إلها غيري لقوله : ما علمت لكم من إله غيري
وكذلك أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط زين لفرعون سوء عمله فانهمك فيه أنهماكا لا يرعوي عنه بحال وصد عن السبيل أي عن سبيل الرشاد فالتعريف للعهد والفعلان مبنيان للمفعول والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى ولم يفعل سبحانه كلا من التزيين والصد إلا لأن فرعون طلبه بلسان استعداده واقتضى ذلك سوء اختياره ويدل على هذا أنه قريء زين مبنيا للفاعل ولم يسبق سوى ذكره تعالى دون الشيطان
وجوز أن يكون الفاعل الشيطان ونسبة الفعل إليه بواسطة الوسوسة وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو وصد بالبناء للفاعل وهو ضمير فرعون على أن المعنى وصد فرعون الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده وما كيد فرعون إلا في تباب
37
- أي في خسار لأنه يشعر بتقدم ذكر للكيد وهو في هذه القراءة أظهر وقرأ ابن وثاب صد بكسر الصاد أصله صدد نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة صد بفتح الصاد وضم الدال منونة عطفا على سوء عمله وقريء وصدوا بواو الجمع أي هو وقوعه وقال الذي آمن هو مؤمن آل فرعون وقيل : فيه نظير ما قيل في سابقه أنه موسى عليه السلام وهو ضعيف كما لا يخفى يا قوم اتبعون فيما دللتكم عليه أهدكم سبيل الرشاد
38
- سبيلا يصل به سالكه إلى المقصود وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقوعه سبيل الغي وقرأ معاذ بن جبل كما في البحر الرشاد بتشديد الشين وتقدم الكلام في ذلك فلا تغفل يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع أي تمتع أو متمتع به يسير لسرعة زواله وإن الآخرة هي دار القرار
39
- لخلودها ودوام ما فيها من عمل سيئة في الدنيا فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها عدلا من الله عز و جل واستدل به على أن الجنايات تغرم بمثلها أي بوزانها من غير مضاعفة ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك الذين عملوا ذلك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب
40
- بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه تعالى ورحمة وقسم العمال إلى ذكر وأنثى للإهتمام والإحتياط في الشمول لاحتمال نقص الإناث وجعل الجزاء في جزاء أعمالهم جملة إسمية مصدرة باسم الإشارة مع تفضيل الثواب وتفصيله تغليبا للرحمة وترغيبا فيما
(24/70)
عند الله عز و جل وجعل العمل عمدة وركنا من القضية الشرطية والإيمان حالا للدلالة على أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والإعتداد به والثواب عليه لأن الأحوال قيود وشروط للحكم التي وقعت فيه ويتضمن ذلك الإشارة إلى عظيم شرفه ومزيد ثوابه وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وعيسى وغير واحد من السبعة يدخلون مبنيا للمفعول ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار
41
- كرر نداءهم إيقاظا عن سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به دعوته وترك العطف في النداء الثاني وهو يا قوم إنما الحياة الدنيا الخ لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد فإنها التحذير من الإخلاد إلى الدنيا والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه ولم يترك في هذا النداء لأنه ليس بتلك المثابة وذلك لأنه للموازنة بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار وليس ذلك من تفسير الهداية في شيء بل ذلك لتحقيق أنه هادوانهم مضلون وأن ما عليه هو الهدى وما هم عليه هو الضلال فهو عطف على النداء الأول أو المجموع وقيل : هو عطف على النداء الثاني داخل معه في التفسير لما أجمل في النداء الأول تصريحا وتعريضا ولكل وجه في الترجيح كلام
تدعونني لأكفر بالله بدل من تدعونني إلى النار أو عطف بيان له بناء على أنه يجري في الجمل كالمفردات أو جملة مستأنفة مفسرة لذلك والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام واشرك به ما ليس لي به أي بكونه شريكا له تعالى في العبودية أو بربوبيته وألوهيته علم ونفي العلم هنا كناية عن نفي المعلوم وفي إنكاره للدعوة إلى ما لا يعلمه إشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها
وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار
42
- المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران وخص هذان الوصفان بالذكر وإن كانا كناية عن جميع الصفات لاستلزامهما ذلك كما أشير إليه لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء المناسب وحالهم لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة سياقه على مذهب البصريين أن لا رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه ههنا من الكفر بالله وشرك الآلهة الباطلة عز و جل به و جرم فعل ماض بمعنى ثبت وحق كما في قوله : ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وأن مع ما في حيزها فاعله أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلا يعني أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضا إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه إظهارا لدعوة ربهم عز و جل وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية أصلا لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا أنشأه الله تعالى فيها حيوانا تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق أن ليس لآلهتكم دعوة أصلا فليست بآلهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وأن مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك
(24/71)
إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعا وقيل : جرم اسم وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقا وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى : ليس له دعوة الخ و لا جرم على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض ومن ثم قيل : المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر ونقل هذا القول عن الفراء وعنه أن ذلك هو أصل لا جرم لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقا فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم وهذه اللغة تؤيد القول بالإسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضا فليتذكر
ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة في الفاعل على ما سمعت من المعنى وجوز أن يكون لنسبتها إلى المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم فنفي في الآية دعاءهم إياها على معنى الإستجابة منها لدعائهم إياها فالمعنى إن ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلا أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعى دعاء يستجيبه لداعيه فالكلام إما على حذف المضاف أو على حذف الموصوف وجوز التجوز فيه بالدعوة عن استجابتها التي تترتب عليها وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم : كما تدين تدان وهو من باب المشاكلة عند بعض وأن مردنا إلى الله أي مرجعنا إليه تعالى بالموت وهذا عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه وكذا قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار
43
- وفسر ابن مسعود ومجاهد المفسرين هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضا بما افتتح به تصريحا في قوله أتقتلون رجلا
وعن قتادة أنهم المشركون فإن الإشراك إسراف في الضلالة وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون وقيل : كل من غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن العاصي أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود
فستذكرون وقريء فستذكرون بالتشديد أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب ما أقول لكم من النصائح وأفوض أمري إلى الله ليعصمني من كل سوء إن الله بصير بالعباد
44
- فيحرس من يلوذ به سبحانه منهم من المكاره وهذا يحتمل أن يكون جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى : وما كيد فرعون إلا في تباب أو من قوله سبحانه : فوقاه الله سيئات ما مكروا ويحتمل أن يكون متاركة والتفريع في فستذكرون على قوله الأخير : يا قوم مالي أدعوكم الخ وجعله من جعل ذلك معطوفا على يا قوم الثاني تفريعا على جملة الكلام و ما في ما مكروا مصدرية و السيئات الشدائد أي فوقاه الله تعالى شدائد مكرهم وحاق بآل فرعون أي بفرعون وقومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك ويجوز أن يكون آل فرعون شاملا له عليه اللعنة بأن يراد بهم مطلق كفرة القبط كما قيل في قوله تعالى : اعلموا آل داود شكرا أنه شامل لداود عليه السلام وكانوا على ما حكى الأوزاعي ولا أعتقد صحته ألفي ألف وستمائة ألف
وعن ابن عباس أن هذا المؤمن لما أظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب إلى جبل فبعث في طلبه ألف رجل
(24/72)
فمنهم من أدركه يصلي والسباع حوله فلما هموا ليأخذوه ذبت عنه فأكلتهم ومنهم من مات في الجبل عطشا ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا فاتهمه وقتله وصلبه فالمراد بآل فرعون هؤلاء الألف الذين بعثهم إلى قتله أي فنزل بهم وأصابهم سوء العذاب
45
- الغرق على الأول وأكل السباع والموت عطشا والقتل والصلب على ما روي عن ابن عباس والنار عليهما ولعله الأولى وإضافة سوء إلى العذاب لامية أو من إضافة الصفة للموصوف وقوله تعالى : النار مبتدأ وجملة قوله تعالى : يعرضون عليها غدوا وعشيا خبره والجملة تفسير لقوله تعالى : وحاق الخ
وجوز أن تكون النار بدلا من سوء العذاب و يعرضون في موضع الحال منها أو من الآل وأن تكون النار خبر مبتدأ محذوف هو ضمير سوء العذاب كأنه قيل : ما سوء العذاب فقيل : هو النار وجملة يعرضون تفسير على ما مر وفي الوجه الأول من تعظيم أمر النار وتهويل عذابها ما ليس في هذا الوجه كما ذكره صاحب الكشاف ومنشأ التعظيم على ما في الكشف الإجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعا من التهويل الأولى الإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب والثانية النار المعروض هم عليها غذوا وعشيا
والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه دون ما تضمن تفسير سوء العذاب وبيان كيفية التعذيب إنك إذا فسرت سوء العذاب بالنار بالغت في تعظيم سوء العذاب ثم استأنفت بيعرضون عليها تتميما لقوله تعالى : وحاق بآل فرعون من غير مدخل للنار فيما سيق الكلام وإذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وإن أحدهما تفسير للآخر فقد قصدت بالنار قصد الإستقلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة بيانا وإيضاحا للأولى كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوأ منه أعني النار على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وههنا كذلك على ما لا يخفى والتركيب أيضا يفيد التقوى على نحو زيد ضربته
ومن هنا قال صاحب الكشف : هذا هو الوجه وأيد بقراءة من نصب النار بناء على أنها ليست منصوبة بأخص أو أعني بل بإضمار فعل يفسره يعرضون مثل يصلون فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأسارى على السيف قتلوا به وهو من باب الإستعارة التمثيلية بتشبيه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه وفي ذلك النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك وهذا العرض لأرواحهم
أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك وهذه الطير صور تخلق لهم من صور أعمالهم وقيل ذاك من باب التمثيل وليس بذاك وذكر الوقتين ظاهر في التخصيص بمعنى أنهم يعرضون على النار صباحا مرة ومساء مرة أي فيما هو صباح ومساء بالنسبة إلينا ويشهد له ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار : ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار ويقول أول الليل : ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون
(24/73)
على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى من النار والفصل بين الوقتين إما بترك العذاب أو بتعذيبهم بنوع آخر غير النار
وجوز أن يكون المراد التأييد اكتفاء بالطرفين المحيطين على الجميع وأيا ما كان ففي الآية دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب البرزخ لأنه تعالى بعد أن ذكر ذلك العرض قال جل شأنه : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
46
- وهو ظاهر في المغايرة فيتعين كون ذلك في البرزخ ولا قائل بالفرق بينهم وبين غيرهم فيتم الإستدلال على العموم وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى و يوم على ما استظهره أبو حيان معمول لقول مضمر والجملة عطف على ما قبلها أي ويوم تقوم الساعة يقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشد من بعض وعن بعض أشد العذاب هو عذاب الهاوية وقيل : هو معمول أدخلوا
وقيل : هو عطف على عشيا فالعامل فيه يعرضون و أدخلوا على إضمار القول وهو كما ترى وقرأ علي كرم الله وجهه والحسن وقتادة وابن كثير والعربيان وأبو بكر أدخلوا على أنه أمر لآل فرعون بالدخول أي ادخلوا يا آل فرعون وقوله تعالى : وإذ يتحاجون في النار معمول لا ذكر محذوفا أي واذكر وقت تخاصمهم في النار والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة لا على مقدر تقديره اذكر ما تلي عليك من قصة موسى عليه السلام وفرعون ومؤمن آل فرعون ولا على قوله تعالى : ولا يغررك تقلبهم في البلاد أو على قوله سبحانه : وأنذرهم يوم الآزفة لعدم الحاجة إلى التقدير في الأول وبعد المعطوف عليه في الآخرين
وزعم الطبري أن إذ معطوفة على إذ القلوب لدى الحناجر وهو مع بعده فيه ما فيه وجوز أن تكون معطوفة على غدوا وجملة يوم تقوم اعتراض بينهما وهو مع كونه خلاف الظاهر قليل الفائدة وضمن يتحاجون على ما اختاره ابن عطية وغيره لجميع كفار الأمم ويتراءى من كلام بعضهم أنه لكفار قريش وقيل : هو لآل فرعون وقوله تعالى : فيقول الضعفاء للذين استكبروا تفصيل للمحاجة والتخاصم في النار أي يقول المرؤسون لرؤسائهم : إنا كنا في الدنيا لكم تبعا تباعا فهو كخدم في جمع خادم
وذهب جمع لقلة هذا الجمع إلى أن تبعا مصدر إما بتقدير مضاف أي إنا كنا لكم ذوي تبع أي أتباعا أو على التجوز في الظرف أو الإسناد للمبالغة بجعلهم لشدة تبعيتهم كأنهم عين التبعية فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار
47
- يدفع بعض عذابها أو يتحمله عنا و مغنون من الغناء بالفتح بمعنى الفائدة و نصيبا بمعنى حصة مفعول لما دل عليه من الدفع أو الحمل أوله بتضمين أحدهما أي دافعين أو حاملين عنا نصيبا ويجوز أن يكون نصيبا قائما مقام المصدر كشيئا في قوله تعالى : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا و من النار على هذا متعلق بمغنون وعلى ما قبله ظرف مستقر بيان لنصيبا قال الذين استكبروا للضعفاء إنا كل فيها نحن وأنتم
(24/74)
فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لدفعنا عن أنفسنا شيئا من العذاب ورفع كل على الإبتداء وهو مضاف تقديرا لأن المراد كلنا و فيها خبره والجملة خبر إن
وقرأ ابن السمقيع وعيسى بن عمر كلا بالنصب وخرجه ابن عطية والزمخشري على أنه توكيد لاسم إن وكون كل المقطوع عن الإضافة يقع تأكيد اكتفاء بأن المعنى عليها مذهب الفراء ونقله أبو حيان عن الكوفيين ورده ابن مالك في شرحه للتسهيل وقيل : هو حال من المستكن في الظرف وتعقب بأنه في معنى المضاف ولذا جاز الإبتداء به فكيف يكون حالا وإذا سلم كفاية هذا المقدار من التنكير في الحالية فالظرف لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم نحو كل يوم لك ثوب
وأجيب عن أمر العمل بأن الأخفش أجاز عمل الظرف في الحال إذا توسطت بينه وبين المبتدأ نحو زيد قائما في الدار عندك وما في الآية الكريمة كذلك على أن بعضهم أجاز ذلك ولو تقدمت الحال على المبتدأ والظرف نعم منعه بعضهم مطلقا لكن المخرج لم يقلده وابن الحاجب جوزه في بعض كتبه ومنعه في بعض قيل : وقد يوفق بينهما بأن المنع على تقدير عمل الظرف لنيابته غير متعلقه والجواز على جعل العالمل متعلقه المقدر فيكون لفظيا لا معنويا وإلى هذا التخريج ذهب ابن مالك وأنشد له قول بعض الطائيين : دعا فأجبنا وهو بادي ذلة لديكم فكان النصر غير قريب وحمل قوله تعالى : والسماوات مطويات بيمينه في قراءة النصب على ذلك وقال أبو حيان : الذي اختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن لأن كلا يتصرف فيها بالإبتداء ونواسخه وغير ذلك فكأنه قيل : أن كلا فيها وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل مع أنهما لا يليان العوامل فأن يدعى في كل البدل أولى وأيضا فتنكير كل ونصبه حالا في غاية الشذوذ نحو مررت بهم كلا أي جميعا ثم قال : فإن قلت : كيف تجعله بدلا وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم وهو لا يجوز على مذهب جمهور النحويين قلت : مذهب الأخفش والكوفيين جوازه وهو الصحيح على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا نعلم خلافا في ذلك كقوله تعالى : تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وكقولك : مررت بكم صغيركم وكبيركم معناه مررت بكم كلكم وتكون لنا عيدا كلنا فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة فجوازه فيما دل على الإحاطة وهو كل أولى ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه لأنه بدل من ضمير المتكلم لأنه لم يحقق مناط الخلاف انتهى ولعل القول بالتوكيد أحسن من هذا وأقرب ورد ابن مالك له لا يعول عليه إن الله قد حكم بين العباد
48
- فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وقدر لكل منا ومنكم عذابا لا يدفع عنه ولا يتحمله عنه غيره وقال الذين في النار من الضعفاء والمستكبرين جميعا لما ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل لخزنة جهنم أي للقوام بتعذيب أهل النار وكان الظاهر لخزنتها بضمير النار لكن وضع الظاهر موضعه للتهويل فإن جهنم أخص من النار بحسب الظاهر لإطلاقها على ما في الدنيا أو لأنها محل لأشد العذاب الشامل للنار وغيرها وجوز أن يكون ذلك لبيان محل الكفرة في النار بأن تكون جهنم أبعد دركاتها من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر وفيها أعني الكفرة وأطغاهم فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله عز و جل فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة
(24/75)
منهم وقالوا لهم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما أي مقدار يوم من أيام الدنيا من العذاب
49
- أي شيئا من العذاب فمفعول يخفف محذوف و من تمل البيان والتبعيض ويجوز أن يكون المفعول يوما بحذف المضاف نحو ألم يوم و من العذاب بيانه والمراد يدفع عنا يوما من أيام العذاب : قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أي لم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا على الإستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما في قوله تعالى : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا وأرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضافة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب الإجابة قالوا بلى أي أتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى : بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير والفاء في قوله تعالى : قالوا فادعوا فصيحة أي غذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل فعلكم ذلك مستحيل صدوره عنا وقيل : في تعليل امتناع الخزنة عن الدعاء : لأنا لم نؤذن في الدعاء لأمثالكم وتعقب بأنه مع عرائه عن بيان أن سببه من قبل الكفرة كما يفصح عنه الفاء ربما يوهم أن الإذن في حيز الإمكان وأنهم لو أذن لهم لفعلوا فالتعليل الأول أولى ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء إطماعهم في الإجابة بل إقناطهم منها وإظهار خيبتهم حيثما صرحوا به في قولهم : وما دعوا الكافرين إلا في ضلال
50
- أي في ضياع وبطلان أي لا يجاب فهذه الجملة من كلام الخزنة وقيل : هي من كلامه تعالى إخبارا منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم واستدل بها مطلقا من قال : إن دعاء الكافر لا يستجاب وأنه لا يمكن من الخروج في الإستسقاء والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى أثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا الخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان إن ما أصاب الكفرة من العذاب المحكي من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم في الحياة الدنيا بالحجة والظفر والإنتقام لهم من الكفرة بالإستئصال والقتال والسبي وغير ذلك من العقوبات ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحانا غذ العبرة إنما بالعواقب وغالب الأمر وقد تقدم تمام الكلام في ذلك فتذكر ويوم يقوم الأشهاد
51
- أي ويوم القيامة عبر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة وأنها تكون عند الأولين والآخرين وشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب فالأشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد كأشراف جمع شريف وقيل : جمع شاهد بناء على أن فاعلا قد يجمع على أفعال وبعض من لم يجوز يقول : هو جمع شهد بالسكون اسم جمع لشاهد كما قالوا في ضحب بالسكون اسم جمع لصاحب وفسر بعضهم الأشهاد بالجوارح وليس بذاك وهو عليهما من الشهادة وقيل : هو من المشاهدة بمعنى الحضور
وفي الحواشي الخفاجية أن النصرة في الآخرة لا تتخلف أصلا بخلافها في الدنيا فإن الحرب فيها سجال ولإن كانت العاقبة للمتقين ولذا دخلت في على الحياة الدنيا دون قرينه لأن الظرف المجرور بقي لا يستوعب كالمنصوب على الظرفية كما ذكره الأصوليون انتهى وفيه بحث
(24/76)
وقرأ ابن هرمز وإسماعيل وهي رواية عن أبي عمرو تقوم بتاء التأنيث على معنى جماعة الأشهاد
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم بدل من يوم يقوم و لا قيل : تحتمل أن تكون لنفي النفع فقط على معنى أنهم يعتذرون ولا ينفعهم معذرتهم لبطلانها وتحتمل أن تكون لنفي النفع والمعذرة على معنى لا تقع معذرة لتنفع وفي الكشاف يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة وأنهم لو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى : ولا يؤذن لهم فيعتذرون وأراد على ما في الكشف أن عدم النفع إما لأمر راجع إلى المعذرة الكائنة وهو بطلانها وإما لأمر راجع إلى من يقبل العذر ولا نظر فيه إلى وقوع العذر والحاصل أن المقصود بالنفي الصحة ولا نظر فيه إلى الموصوف نفيا أو إثباتا وليس في كلامه إشارة إلى إرادة نفيهما جميعا فتدبر وقرأ غير الكوفيين ونافع لا تنفع بالتاء الفوقية ووجهها ظاهر وأما قراءة الياء فلأن المعذرة مصدر وتأنيثه غير حقيقي مع أنه فصل عن الفعل بالمفعول ولهم اللعنة أي البعد من الرحمة
ولهم سوء الدار
52
- هي جهنم وسوءها ما يسوء فيها من العذاب فإضافة لامية أو هي من إضافة الصفة للموصوف أي الدار السوأي : ولا يخفى ما في الجملتين من إهانتهم والتهكم بهم ولقد آتينا موسى الهدى ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع فهو مصدر تجوز به عما ذكر أو جعل عين الهدى مبالغة فيه
وأورثنا بني إسرائيل الكتاب
53
- تركنا عليهم بعد وفاته عليه السلام من ذلك التوراة فالإيراث مجاز مرسل عن التراث أو هو استعارة تبعية له وجوز أن يكون المعنى جعلنا بني إسرائيل آخذبن الكتاب عنه عليه السلام بلا كسب فيشمل من في حياته عليه السلام كما يقال : العلماء ورثة الأنبياء وهو وجه إلا أن اعتبار بعد الموت أوفق في الإيراث والعلاقة عليه أتم وإرادة التوراة من الكتاب هو الظاهر وجوز أن يكون المراد به جنس ما أنزل على أنبيائهم فيشمل التوراة والزبور والإنجيل هدى وذكرى هداية وتذكرة أي لأجلهما أو هاديا ومذكرا فهما مصدران في موضع الحال لأولي الألباب
54
- لذوي العقول السليمة الخالصة من شوائب الوهم وخصوا لأنهم المنتفعون به فاصبر أي إذا عرفت ما قصصناه عليك للتأسي فاصبر على ما نالك من أذية المشركين إن وعد الله إياك والمؤمنين بالنصر المشار إليه بقوله سبحانه : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا أو جميع مواعيده تعالى ويدخل فيه وعده سبحانه بالنصر دخولا أوليا حق لا يخلفه سبحانه أصلا فلا بد من وقوع نصره جل شأنه لك وللمؤمنين واستشهد بحال موسى ومن معه وفرعون ومن تبعه واستغفر لذنبك أقبل علي أمر الدين وتلاف ما ربما يفرط مما يعد بالنسبة إليك ذنبا وإن لم يكنه ولعل ذلك هو الإهتمام بأمر العدا بالإستغفار فإن الله تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر وقيل : لذنبك لذنب أمتك في حقك قيل : فإضافة المصدر للمفعول وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار
55
- أي ودم على التسبيح والتحميد لربك على أنه عبر بالطرفين وأريد جميع الأوقات وجوز أن يراد خصوص الوقتين والمراد بالتسبيح معناه الحقيقي كما في الوجه الأول أو الصلاة قال قتادة : أريد صلاة الغداة وصلاة العصر وعن الحسن أريد ركعتان بكرة وركعتان عشيا قيل : لأن الواجب بمكة كان ذلك وقد قدمنا
(24/77)
أن الحس لا يقول بفرضية الصلوات الخمس بمكة فقيل : كان يقول بفرضية ركعتين بكرة وركعتين عشيا
وقيل : إنه يقول كان الواجب ركعتين في أي وقت اتفق والكل مخالف للصريح المشهور وجوز على إرادة الدوام أن يراد بالتسبيح الصلاة ويراد بذلك الصلوات الخمس وحكى ذلك في البحر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن الذين يجادلون في آيات الله دلائله سبحانه التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة وما أظهره على أيدي ريله من المعجزات بغير سلطان أتاهم أي بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته تعالى والجار متعلق بيجادلون وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين وهذا عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في قوم مخصوصين وهم على الأصح مشركو مكة
وقوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر خبر لأن و إن نافية والمراد بالصدور القلوب أطلقت عليها للمجاورة والملابسة والكبر التكبر والتعاظم أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق وتعاظم عن التفكر والتعلم أو هو مجاز عن إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق أو إرادة أن تكون النبوة لهم أي ما في قلوبهم إلا إرادة الرياسة أو أن تكون النبوة لهم دونك حسدا وبغيا حسبما قالوا : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من الفريقين عظيم وقالوا : لو كان خيرا ما سبقونا إليه ولذلك يجادلون في آياته تعالى لا أن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئا يتوهم صلاحيته لأن يكون مدارا لمجادلتهم في الجملة وقوله تعالى : ما هم ببالغيه صفة لكبر أي ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة وقال الزجاج : المعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى أذلهم وقيل : الجملة مستأنفة وضمير بالغيه لدفع الآيات المفهوم من المجادلة وما تقدم أظهر وقال مقاتل : المجادلون الذين نزلت فيهم الآية اليهود عظموا أمر الدجال فنزلت وإلى هذا ذهب أبو العالية وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من آمره ما يكون فعظموا أمره وقالوا : يصنع كذا وكذا فأنزل الله تعالى إن الذين يجادلون الخ وهذا كالنص في أن أمر اليهود كان السبب في نزولها وعليه تكون الآية مدنية وقد مر الكلام في ذلك فتذكر وفي رواية أن اليهود كانوا يقولون : يخرج صاحبنا المسيح بن داود يريدون الدجال ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك حكاها في الكشاف ثم قال : فسمي الله تعالى تمنيهم ذلك كبرا ونفى سبحانه أن يبلغوا متمناهم ويخطر لي على هذا القول أن اليهود لم يريدوا من تعظيم أمر الدجال سوى نفي أن يكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم النبي المبعوث في آخر الزمان الذي بشر به أنبياؤهم وزعم أن المبشر به هو ذلك اللعين ففي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي عليه الصلاة و السلام : لست صاحبنا يعنون النبي المبشر به أنبياؤهم فالإضافة لأدنى ملابسة بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر ويسير معه الأنهار وفي ذلك بزعمهم دفع الآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والداعي لهم إلى ذلك الكبر والحسد وحب أن لا تخرج النبوة من بني إسرائيل فمعنى الآية عليه نحو معناها على القول بكون المجادلين مشركي مكة ثم أن اليهود عليهم اللعنة
(24/78)
كذبوا أولا بقولهم للنبي عليه الصلاة و السلام : لست صاحبنا وثانيا بقولهم : بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال أما الكذب الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار وهم قالوا : هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان فاستعذ بالله أي فالتجيء إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك وفيه رمز إلى أنه من همزات الشياطين وقال أبو العالية : هذا أمر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال بالله عز و جل إنه هو السميع البصير
56
- أي لأقوالكم وأفعالكم والجملة لتعليل الأمر قبلها
وقوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من أمر البعث الذي هو كالتوحيد في وجوب الإيمان به على منهاج قوله تعالى : أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وإضافة خلق إلى ما بعده من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لخلق الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خلقه سبحانه الناس لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيمة كلا شيء والمراد أن من قدر على خلق ذلك فهو سبحانه على خلق ما لا يعد شيئا بالنسبة إليه بدأ وإعادة أقدر وأقدر
وقال أبو العالية : الناس الدجال وهو بناء على ما روي عنه في المجادلين ولعمري أن تطبيق هذا ونحوه على ذلك في غاية البعد وأنا لا أقول به ولكن أكثر الناس لا يعلمون
57
- وهم الكفرة ولما كان ما قبل لإثبات البعث الذي يشهد له العقل وتقتضيه الحكمة اقتضاء ظاهرا ماسب نفي العلم عمن كفر به لأنهم لو كانوا من العقلاء الذين من شأنهم التدبر والتفكر فيما يدل عليه لم يصدر عنهم إنكاره ولم يذكر للعلم مفعولا لأن المناسب للمقام تنزيله منزلة اللازم وقيل : المراد لا يعلمون أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي لا يجرون على موجب العلم بذلك من الإقرار بالبعث ومن لا يجري على موجب علمه هو والجاهل سواء
وفي البحر أنه تعالى نبه على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله سبحانه : لخلق الخ إن مخلوقاته تعالى أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه سبحانه وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ولذلك جادلوا وتكبروا ولا يخفى أنه نفسير قليل الجدوى
وما يستوي الأعمى والبصير أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتهما وتفسير البصير بالله تعالى و الأعمى بالصنم غير مناسب هنا والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى : ولا المسيء وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان وقدم الأعمى لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل ذلك من باب التفنن
(24/79)
في البلاغة وأساليب الكلام والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل : ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث
وأعيدت لا في المسيء تذكيرا للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام ولو قيل : ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ و قليلا ما تتذكرون خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي وهو أن تم فعلى القراءة بياء الغيبة وقيل : لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذ المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر والموصول مع ما عطف عليه معطوف على الأعمى مع ما عطف عليه عطف المجموع على المجموع كما في قوله تعالى : هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلا لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه وقيل : التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم وفي الآخرين إلى العمل وهو وجه لا بأس به وقيل : هما وإن اتحدا ذاتا متغايران اعتبار من حيث أن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل ونظر فيه بأنه اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه به وعكسه
قليلا ما تتذكرون
58
- أي تذكرا قليلا تتذكرون وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وسيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار وقال الزمخشري : والتاء أعم وعلله صاحب التقريب بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة وقال القاضي : إن التاء للتغليب أو الإلتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله وآثر العلامة الطيبي الإلتفات لأن العدول من الغية إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين وتعقبه صاحب الكشف بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضا فليفهم والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطبا هنا والتقليل أيضا يصح إجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي وقال الجلبي : الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه و سلم من قريش فمن قال : المخاطب هو النبي عليه الصلاة و السلام لقوله تعالى : فاصبر ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر
إن الساعة لآتية لا ريب فيها أي في مجيئها أي لا بد من مجيئها ولا محالة لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الأنبياء على الوعد الصادق بوقوعها ويجوز أن يكون المعنى أنها آتية وأنها ليست محلا للريب أي لوضوح الدلالة إلى آخر ما مر والفرق أن متعلق الريب على الأول المجيء وعلى هذا الساعة والحمل عليه أولى
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون
59
- لا يصدقون بها القصور نظرهم على ما يدركونه بالحواس الظاهرة واستيلاء
(24/80)
الأوهام على عقولهم وقال ربكم ادعوني أستجب لكم أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وجماعة وعن الثوري أنه قيل له : ادع الله تعالى فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الإستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الإنطباق قوله تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
60
- أي صاغرين أذلاء
وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروي عن السدي فمعنى قوله تعالى : يستكبرون عن عبادتي يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء من العبادة ومن أفضل أنواعها بل روي ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال : أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية والتوعد على الإستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته وفي إيقاع العبادة صلة الإستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والإستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبرا
قال في الكشف : وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجيء إليه عز و جل لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتى والعطف في قوله تعالى : وقال من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستوائهما في الغرض ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه : وقال ربكم إلى قوله عز و جل : كن فيكون صرح بالغرض في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله كما بني القصة أولا على ذلك في قوله تبارك وتعالى : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام فيها مبنيا على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه : فلا يغررك تقلبهم وكيف صرح آخرا بما رمز إليه أولا لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى
وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جدا لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق وفي الإستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازا أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو عن عبادتي ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل : لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم لكن كونه أنسب بالسياق أيضا مما لا يتم في نظري وأيا ما كان فأستجب جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والإستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا وقد صرح
(24/81)
بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء والإستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة
وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى والمقامات في ترك الدعاء فقيل : متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من لم يدع الله تعالى يغضب عليه أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي وربما يقال : ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عز و جل والله تعالى أعلم
وقرأ ابن كثير وأبو بكر وزيد بن علي وأبو جعفر سيدخلون مبنيا للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم وأبي عمرو الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه لتستريحوا فيه بأن أغاب سبحانه فيه الشمس فجعله جل شأنه باردا مظلما وجعل عز و جل برده سببا لضعف القوى المحركة وظلمته سببا لهدو الحواس الظاهرة إلى أشياء أخرى جعلها أسبابا للسكون والراحة والنهار مبصرا يبصر فيه أو به فالنهار إما ظرف زمان للإبصار أو سبب له
وأيا ما كان فإسناد الإبصار له يجعله مبصرا إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة وفيه مبالغة وأنه بلغ الأبصار إلى حد سرى في نهار المبصر ولذا لم يقل : لتبصروا فيه على طرز ما وقع في قرينه فإن قيل : لم لم يقل جعل لكم الليل ساكنا ليكون فيه المبالغة المذكورة وتخرج القرينتان مخرجا واحدا في المبالغة قلت : أجيب عن ذلك بأن نعمة النهار أتم وأعظم من نعمة الليل فسلك مسلك المبالغة فيها وتركت الأخرى على الظاهر تنبيها على ذلك وقيل : إن النعمتين فرسا رهان فدل على فضل الأولى بالتقديم وعلى فضل الأخرى بالمبالغة وهو كما ترى وقيل : لم يقل ذلك لأن الليل يوصف على الحقيقة بالسكون فيقال : ليل ساكن أي لا ريح فيه ولا يبعد أن يكون السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية فلو قيل : ساكنا لم يتميز المراد إلى الإطلاق وإن تميز نظرا إلى قرينة التقابل
وكان رجحان هذا الأسلوب لأن الكلام المحكم الواضح بنفسه من أول الأمر هو الأصل لا سيما في خطاب ورد في معرض الإمتنان للخاصة والعامة وهم متفاوتون في الفهم والدراية الناقصة والتامة وفي الكشف لما لم يكن الإبصار علة غائية في نفسه بل العلة ابتغاء الفضل كما ورد مصر حابه في سورة القصص بخلاف السكون والدعة في الليل صرح بذلك في الأول ورمز في الثاني مع إفادة نكتة سرية في الإسناد المجازي
وقال الجلبي : إذا حملت الآية على الإحتباك وقيل : المراد جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله تعالى فحذف من الأول بقرينة الثاني ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر في تعليل ترك المبالغة في القرينة الأولى وهذا هو المشهور في الآية والله سبحانه وتعالى أعلم
إن الله لذو فضل لا يوازيه فضل ولقد الإشعار به لم يقل المفضل على الناس برهم وفاجرهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون
61
- لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم وتكرير الناس لتخصيص الكفران
(24/82)
بهم وذلك من إيقاعه على صريح إسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أنه من شأنهم وخاصتهم في الغالب ذلكم المتصف بالصفات المذكورة المقتضية للألوهية والربوبية الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقلل اشتراكها في المفهوم نظرا إلى أصل الوضع وتقررها وجوز في بعضها الوصفية والبدلية وأخر خالق كل شيء عن لا إله إلا هو في آية سورة الأنعام وقدم هنا لما أن المقصود ههنا على ما قيل الرد على منكري البعث فناسب تقديم ما يدل عليه وهو أنه منه سبحانه وتعالى مبدأ كل شيء فكذا إعادته
وقرأ زيد بن علي خالق بالنصب على الإختصاص أي أعني أو أخص خالق كل شيء فيكون لا إله إلا هو استئنافا مما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة فكأنه قيل : الله تعالى متصف بما ذكر من الصفات ولا إله إلا من اتصف بها فلا إله إلا هو فأنى تؤفكون
62
- فكيف ومن أي جهة تصرفون من عبادته سبحانه إلى عبادة غيره عز و جل وقرأ طلحة في رواية يؤفكون بياء الغيبة
كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون
63
- أي مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلا يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا إفكا آخر له وجه ومصحح في الجملة
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا أي مستقرا والسماء بناءا أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه وهو تشبيه بليغ وفيه إشارة لكريتها وهذا بيان لفضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان وقوله سبحانه : وصوركم فأحسن صوركم بيان لفضله تعالى المتعلق بأنفسهم والفاء في فأحسن تفسيرية فالمراد صوركم أحسن تصوير حيث خلق كلا منكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات وقرأ الأعمش وأبو رزين صوركم بكسر الصاد فرارا من الضمة قبل الواو وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ ومنه قوة وقوي بكسر القاف في الجمع وقرأت فرقة صوركم بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر ورزقناكم من الطيبات أي المستلذات طعما ولباسا وغيرهما وقيل الحلال ذلكم الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة الله ربكم خبران لذلكم فتبارك الله تعالى ذاته رب العالمين
64
- أي مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكوته مفتقر إليه تعالى في ذاته ووجوده وسائر أحواله جميعها بحيث لو انقطع فيضه جل شأنه عنه آنا لعدم بالكلية هو الحي المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية لا إله إلا هو إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله عز و جل فادعوه فاعبدوه خاصة لا اختصاص ما يوجب ذلك به تعالى
وتفسير الدعاء بالعبادة هو الذي يقتضيه قوله تعالى : مخلصين له الدين أي الطاعة من الشرك الخفي والجلي وأنه الأليق بالترتب على ما ذكر من أوصاف الربوبية والألوهية وإنما ذكرت بعنوان الدعاء لأن اللائق هو العبادة على وجه التضرع والإنكسار والخضوع الحمد لله رب العالمين
65
- أي قائلين ذلك
(24/83)
أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى : فادعوه مخلصين الخ وأخرج عبد ابن حميد عن سعيد بن جبير نحو ذلك وعلى هذا فالحمد لله الخ من كلام المأمورين بالعبادة قبله وجوز كونه من كلام الله تعالى على أنه إنشاء حمد ذاته سبحانه بذاته جل شأنه
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي من الحجج والآيات أو من الآيات لكونها مؤيدة لأدلة العقل منبهة عليها فإن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية وأمرت أن أسلم لرب العالمين
66
- أي بأن انقاد له تعالى وأخلص له عز و جل ديني
هو الذي خلقكم من تراب في ضمن خلق آدم عليه السلام منه حسبما مر تحقيقه ثم من نطفة أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة أي من مني ثم من علقة قطعة دم جامد ثم يخرجكم طفلا أي أي أطفالا وهو اسم جنس صادق على القليل والكثير
وفي المصباح قال ابن الأنباري : يكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع ويجوز فيه المطابقة أيضا وقيل : إنه أفرد بتأويل خلق كل فرد من هذا النوع ثم يزج كل فرد منه طفلا ثم لتبلغوا أشدكم لللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وذلك المحذوف عطف على يخرجكم وجوز أن يكون لتبلغوا عطفا على علة مقدرة ليخرجكم كأنه قيل : ثم يخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا أشدكم وكمالكم في القوة والعقل وكذا الكلام في قوله تعالى : ثم لتكونوا شيوخا ويجوز عطفه على لتبلغوا
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي شيوخا بكسر الشين وقريء شيخا كقوله تعالى : طفلا ومنكم من يتوفى من قبل أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضا ولتبلغوا متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا أجلا مسمى هو يوم القيامة بفعل ذلك الخلق من تراب وما بعده من الأطوار وهو عطف على خلقكم والمراد من يوم القيامة ما فيه من الجزاء فإن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا الجزاء وتفسير الأجل المسمى بذلك مروي عن الحسن وقال بعض : هو يوم الموت وتعقب بأن وقت الموت فهم من ذكر التوفي قبله فالأولى تفسيره بما تقدم وظاهر صنيع الزمخشري ترجيح هذا على ما بين في الكشف ولعلكم تعقلون
67
- ولكي تعقلوا ما في ذلك التنقل في الأطوار من فنون الحكم والعبر
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال : أي ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه يحييكم كما أماتكم هو الذي يحيي الأموات ويميت الأحياء أو الذي يفعل الإحياء والإماتة فإذا قضى أمرا أراد بروز أمر من الأمور إلى الوجود الخارجي فإنما يقول له كن فيكون
68
- من غير توقف على شيء من الأشياء أصلا
وهذا عند الخلف تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته سبحانه بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور وقد تقدم الكلام في ذلك والفاء الأولى
(24/84)
للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمراد وجوز فيها كونها تفصيلية وتعليلية أيضا فتدبر ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون
69
- تعجب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذلك كما أن ما سبق من قوله تعالى : إن الذين يجادلون الخ بيان لابتداء جدالهم على مبني فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود فلا تكرير فيه كذا في إرشاد العقل السليم
وقال القاضي : تكرير ذكر المجادلة لتعدد المجادل بأن يكون هناك قوما وهنا قوما آخرين أو المجادل فيه بأن يحمل في كل على معنى مناسب ففيما مر في البعث وهنا في التوحيد أو هو للتأكيد اهتماما بشأن ذلك واختار ما في الإرشاد أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع عاضد الدواعي إلى الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها بالكلية
وقوله تعالى : الذين كذبوا بالكتاب أي بكل القرآن أو بجنس الكتب السماوية فإن تكذيبه تكذيب لها في محل الجر على أنه بدل من الموصوف الأول أو بيان أو صفة له أو في محل النصب على الذم أو في محل الرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره فسوف يعلمون وإنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها وبما أرسلنا به رسلنا من سائر الكتب على الوجه الأول في تفسير الكتاب أو مطلق الوحي والشرائع على الوجه الثاني فيه
فسوف يعلمون
70
- كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته إذ الأغلال في أعناقهم ظرف ليعلمون والمعنى على الإستقبال والتعبير بلفظ المضي للدلالة على تحققه حتى كأنه ماض حقيقة فلا تنافر بين سوف وإذ والسلاسل عطف على الأغلال والجار والمجرور في نية التأخير كأنه قيل : إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم وقوله تعالى : يسبحون
71
- أي يجرون في الحميم حال من ضمير يعلمون أو ضمير في أعناقهم أو جملة مستأنفة لبيان حالهم بعد ذلك وجوز كون السلاسل مبتدأ أو جملة يسبحون خبره والعائد محذوف أي يسبحون بها
وجوز كون الأغلال مبتدأ والسلاسل عطف عليه والجملة خبر المبتدأ و في أعناقهم في موضع الحال ولا يخفى حاله وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن علي وابن وثاب والسلاسل يسبحون بنصب السلاسل وبناء يسبحون للفاعل فيكون السلاسل مفعولا مقدما ليسبحون والجملة معطوفة على ما قبلها ولا بأس بالتفاوت إسمية وفعلية
وقرأ فرقة منهم ابن عباس في رواية والسلاسل بالجر وخرج ذلك الزجاج على الجر بخافض محذوف كما في قوله
أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي وبالسلاسل كما قريء به أو في السلاسل كما في مصحف أبي والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال ونظيره قوله : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
ولا نائب إلا ببين غرابها
(24/85)
ويسمى في غير القرآن عطف التوهم وذهب إلى هذا التخريج الزمخشري وابن عطية وابن الأنباري بعد أن ضعف تخريج الزجاج خرج القراءة على ما قال الفراء قال : وهذا كما تقول : خاصم عبد الله زيد العاقلين بنصب العاقلين ورفعه لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصم الآخر وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ونقل جوازها عن محمد بن سعدان الكوفي قال : لأن كل واحد منهما فاعل مفعول ثم في النار يسجرون
72
- يحرقون ظاهرا وباطنا من سجر التنور إذا ملأه إيقادا ويكون بمعنى ملأه بالحطب ليحميه ومنه السجير للصديق الخليل سجر بالحب أي مليء ويفهم من القاموس أن السجر من الأضداد وكلا الإشتقاقين مناسب في السجير أي مليء من حبك أو فرغ من غيرك إليك والأول أظهر
والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبون بأنواع سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهرا وباطنا فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم
ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون
73
- من دون الله قالوا ضلوا عنا أي يقال لهم ويقولون وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع والسؤال للتوبيخ وضلالهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها وهذا لا ينافي ما يشعر بأن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها واقترانهم في بعض آخر ويجوز أن يكون ضلالهم إستعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا أي بل تبين لنا اليوم إنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يعتد به وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئا يعتد به
وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم ومعنى قوله تعالى : كذلك يضل الله الكافرين
74
- أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق
ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضا أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها فإضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها ونقل ذلك عن الحسن وقيل في معناه غير ذلك
وقوله تعالى : ذلكم إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهم بالسؤال وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بما كنتم تفرحون في الأرض تبطرون وتأشرون كما
(24/86)
قال مجاهد بغير الحق وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك وفي ذكر الأرض زيادة تفظيع للبطر وبما كنتم تمرحون
75
- تتوسعون في الفرح وقيل : المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى وأولياءه من المكاره وبما تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة على المنعم وفي الحديث الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين وبين الفرح والمرح تجنيس حسن والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له ولذا قيل : النصح بين الملأ تقريع ادخلوا أبواب جهنم أي الأبواب المقسومة لكم خالدين فيها مقدرين الخلود فبئس مثوى المتكبرين
76
- عن الحق جهنم وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال : فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى وهذا الأمر على ما استظهره في البحر مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول ويجوز أن يقال : هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمرا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب وقال ابن عطية : يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا
فاصبر إن وعد الله بتعذيب أعدائك الكفرة حق كائن لا محالة فأما نرينك أصله فإن نرك فزيدت ما لتوكيد إن الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل : التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله : فأما تريني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت بما يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد بعض الذي نعدهم وهو القتل والأسر أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون
77
- يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم وهو جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف مثل فذاك وجوز أن يكون جوابا لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الإقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولا وذكر في الوعد في نظيرها أعني قوله تعالى : وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين قال في الكشف : والفرق أن قوله تعالى : فاصبر إن وعد الله حق عدة لغنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة و السلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جيء بالتقدير الثاني ردا لشماتتهم وأنه منصور على كل حال وإتماما للتسلي وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وأنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل
وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب يرجعون بفتح الياء وطلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن
(24/87)
حسان بفتح تاء الخطاب ولقد أرسلنا رسلا ذوي خطر وكثرة من قبلك من قبل إرسالك
منهم من قصصنا أوردنا أخبارهم وآثارهم عليك كنوح وإبراهيم زموسى عليهم السلام
ومنهم من لم نقصص عليك وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام أخرج الإمام أحمد بن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي
وأيا ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزاع ما جرى وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم ولو سلم فلا يلزم من نفي ذكر الأسماء نفي ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم على أن النفي بل وهي على الصحيح تقلب المضارع ما ضيا فالمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصرة والسلام جميعا بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآن وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى : رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان قصصناهم عليك من قبل وبالجملة الإستدلال بالآية على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى : ومنهم من لم نقصص عليك قال : بعث الله تعالى عبدا حبشيا نبيا فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعن ابن عباس بلفظ إن الله تعالى بعث نبيا أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة و السلام والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له صلى الله تعالى عليه وسلم قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام ولا يمكن أن يقال : المراد أنه لم يذكر له صلى الله تعالى عليه وسلم بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ وأيضا لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليه من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولا وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفا ولو قيل : إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولا أيضا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا : على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلا وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهل للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كمالهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث وإن كان قد ورد قاطع من نبينا
(24/88)
صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأنى به ثم أن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر السالة كما لا يخفى وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة : في صحة الخبر نظر وما كان لرسول أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل أن يأتي بآية بمعجزة إلا بإذن الله فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والإستبداد بإتيان المقترح بها فإذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا والآخرة قضي بالحق بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه وخسر هنالك أي وقت مجيء أمر الله تعالى اسم مكان استعير للزمان المبطلون
78
- المتمسكون بالباطل على الأطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا من المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى
وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضي ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته
الله الذي جعل لكم الأنعام المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف واللام للتعليل لا للإختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم وقوله تعالى : لتركبوا منها الخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالا ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلا مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر و من لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا من في قوله مالي : ومنها تأكلون
79
- وليس المراد على إرادة التبعيض أن كلا من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما نعم كثيرا ما يعدون النجائب من الإبل للركوب والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى : لتركبوا منها في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة
وقال العلامة التفتازاني : إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة وتعقبه الخفاجي بقوله : لم يلح لي وجه جعل هذه الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا أنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضا في قوله تعالى : ولكم فيها منافع أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود ويقال : إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم أي أمرا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد وهذا عطف على لتركبوا منها جاء على نمطه وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في النظم الجليل لنكتة
(24/89)
قال صاحب الكشف : إن الأنعام ههنا لما أريد بها الأبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن من منافعها الركوب والحمل عليها وأما الأكل منها والإنتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيها على أنه أيضا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرا عنهما وأما الإختصاص المستفاد من قوله تعالى : ومنها تأكلون فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر وقال صاحب الفرائد : إنما قيل ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولم يقل : لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجيء فيهما بما يدل على الإستقبال وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق
وقال القاضي : تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة وقيل في توجيهه : يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الإستمرار للتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى : ولكم فيها منافع لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى وقال الزمخشري : إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جيء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجها إن تم
وقيل : تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك وأما قوله تعالى ولكم فيها منافع فكالتابع للأكل فأجرى مجراه وهو كما ترى وقوله تعالى : وعليها توطئة لقوله سبحانه : وعلى الفلك تحملون
80
- ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل : وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب وتقديم الجار قيل : لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل
وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للإهتمام وقيل : على الفلك دون في الفلك كما في قوله : أحمل فيها من كل زوجين اثنين لأن معنى الظرفية والإستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين والمرجح لعلي هنا المشاكلة
وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكن لا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف
ورجح القول بأن المراد الأزواج الثانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام
(24/90)
مقام امتنان وهو مقتض للتعميم والظاهر ذاك وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت كما يشعر به السياق ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي ويريكم آياته أي دلائله الدالة على كمال شؤنه جل جلاله فأي آيات الله أي فأي آية من من تلك الآيات الباهرة تنكرون
81
- فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجتريء على أنكارها من له عقل في الجملة فأي للإستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله : بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب قال الزمخشري : لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوما له أفلم يسيروا أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرأيين : في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم المهلكة وقوله تعالى كانوا أكثر منهم وأشد قوة وإثارا في الأرض الخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار ههنا فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون
82
- ما الأولى نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى والثانية موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم فلما جاءتهم رسلهم بالبينات المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك فرحوا بما عندهم من العلم ذكر فيه ستة أوجه الأول أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى : بل أدارك علمهم في الآخرة
والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم السلام ويدفعون به البينات الثاني أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم السلام إلى ما عندهم من ذلك وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة و السلام وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه و سلم واستنكف عن الإنتساب إلى شريعة أحد منهم فرحا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال : إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين الثالث أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علما لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الإغتباط بما جاءهم من العلم وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم وضمير فرحوا و عندهم على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم
الرابع أن يجعل ضمير فرحوا للكفرة وضمير عندهم للرسل عليهم السلام والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به وخلاصته أنهم استهزؤا
(24/91)
بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي ويؤيد هذا قوله تعالى : وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن
83
- الخامس أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادى واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم وحكي هذا عن الجبائي السادس أن يجعل الضميران للكفار والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وذلك مبلغهم من العلم فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثنا على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به قال صاحب الكشف : والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا
وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذاناب على خلاف فيه ولما آل أمره إلى الإثبات المحضور جاز وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و فرحوا بما عندهم من العلم على ما قرر نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة فلما رأوا بأسنا شدة عذابنا ومنه قوله تعالى : بعذاب بئيس قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين
84
- يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان و إيمانهم رفع بيك أسما لها أو فاعل ينفعهم وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب وههنا أربعة فاءات فاء فما أغنى وفاء فلما جاءتهم وفاء فلما رأوا وفاء فلم يك فالفاء الأولى مثلها في نحو قولك : رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها والثانية تفسيرية مثلها في قولك : فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى : وحاق بهم إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه : فما أغنى عنهم إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوا مغنية والثالثة للتعقيب وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه فلما رأوا بأسنا مترتب على قوله تعالى : فلما جاءتهم الخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن فلما جاءتهم الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ومثلها الفاء الرابعة
(24/92)
فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل : فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الإختيار سنت الله التي قد خلت في عباده أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل
وخسر هنا لك الكافرون
85
- أي وقت رؤيتهم في البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفل الله تعالى وكرمه والفرق ظاهر
وعن بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضا ومعنى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا أن نفس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم
ومن باب الإشارة في بعض الآيات على ما أشار إليه بعض السادات حم إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين وفي ذلك أيضا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعض من صفات المدعو إليه وهو الله عز و جل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها وفي ذلك من بشارة المدعو ما فيه
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا الخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض وفي ذلك أيضا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز و جل ما لا يخفى فادعو الله مخلصين له الدين بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده قيل : في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء وروح الولاية ويلقى على العارفين وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناكسين لينذر يوم التلاق قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره وتعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه : يوم هم بارزون من قبور وجودهم لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار إذ ليس في الدار غيره ديار اليوم تجزى كل نفس من التجلي بما كسبت في بذال الوجود للمعبود لا ظلم اليوم فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك
وأنذرهم يوم الآفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم فقد قيل : إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والإقتراب وما لم يكن لهم في حساب وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفى الضمائر يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح وقال ربكم ادعوني أستجب لكم قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء ففي بهض الأخبار من طلبني وجدني إن الذين يستكبرون عن عبادتي دعائي وطلبي سيدخلون جهنم الحرمان
(24/93)
والبعد مني داخرين ذليلين مهينين الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار الله الذي جعل لكم الأرض قرارا يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح والسماء بناء إلى سماء الروحانية مبنية عليها وصوركم فأحسن صوركم بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله وفي الخبر خلق الله تعالى آدم على صورته وفي ذلك إشارة إلى رد أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ولله تعالى من قال : ما حطك الواشون عن رتبة عندي ولا ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا عليك عندي بالذي عابوا والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرا لصفات القهر من رب العالمين وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا
سورة فصلت
وتسمى السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل أفلم يسيروا في الأرض الخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة عاد وثمود ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى : أفلم يسيروا الآية وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم حم
1
- إن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره تنزيل على المبالغة أو التأويل المشهور وهو على الأول خبر وخبر مبتدأ محذوف إن جعل حم مسرودا على نمط التعديد عند الفراء وقوله تعالى : من الرحمن الرحيم
2
- من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدأ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره كتاب وحكى ذلك عن الزجاج والحوفي وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبرا آخر أو خبر لمحذوف وجملة فصلت آياته على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب وإضافة التنزيل إلى
(24/94)
الرحمن الرحيم من بين أسمائه للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبيء عنه قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وتفصيل آياته تمييزها لفظا بفواصلها ومقاطعها ومباديء السور وخواتمها ومعنى بكونها وعدا ووعيدا وقصصا وأحكاما إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن وعن السدي فصلت آياته أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده وقال الحسن : فصلت بالوعد والوعيد وقال سفيان : بالثواب والعقاب وما ذكرنا أولا أعم ولعل ما ذكروه من باب التمثيل لا الحصر وقيل : المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك وقريء فصلت بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل وقال ابن زيد : بين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى لازم انفصل كما في قوله تعالى : فصلت العير
وقريء فصلت بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر قرآنا عربيا نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل : من كتاب لتخصهه بالصفة وقيل : من آياته وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها وقيل : نصب على المصدر أي يقرؤه قرآنا وقال الأخفش : هو مفعول ثان لفصلت وهو كما ترى إن لم تكن أخفش وأيا ما كان ففي قرآنا عربيا امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم لقوم يعلمون
3
- أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام لقوم تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور ما في موضع صفة أخرى لقرآنا أو صلة لتنزيل أو لفصلت قال الزمخشري : ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلاة والصفات ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى : بشيرا ونذيرا وموصوفها وهو قرآنا بناء على أنه صفة بالصلة وهي لقوم على تقدير تعلقه بتنزيل أو بفصلت وبين الصلة وموصولها بالصفة أي تنزيل أو فصلت و لقوم والجميع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين أخوين : لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل من الرحمن بموصوله ولا يتصل لقوم وكذلك بين الصفتين وهو عربيا بموصوفه ولا يتصل بشيرا والجمع لذلك أيضا واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة فصلت وقال : يبعد تعلقه بتنزيل لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان من الرحمن في موضع الصفة أو إبدل منه كتاب أو كان خبرا لتنزيل فيكون في ذلك البدل الموصول أو الأخبار عنه قبل أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه وكون بشيرا صفة قرآنا هو المشهور وجوز أن يكون ما عطف عليه حال من كتاب أو من آياته وقرأ زيد بن علي بشير ونذير برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية فأعرض أكثرهم عن تدبره وقبوله والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكما على المعنى الثاني ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضا بأن يراد به
(24/95)
ما من شأنهم العلم والنظر فهم لا يسمعون
4
- أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك : تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله بمقتضاه فكأنه لم يسمعه هو مجاز مشهور
وفي الكشف أن قوله تعالى فأعرض مقابل قوله تعالى : لقوم يعلمون وقوله سبحانه : فهم لا يسمعون مقابل قوله جل شأنه : بشيرا ونذيرا أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلون بشائره ونذره ولعدم التدبر لعدم التدبر
وقالوا قلوبنا في أكنة أي أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا و من على ما في البحر لابتداء الغاية وفي آذاننا وقر أي صمم وأصله الثقل
وقرأ طلحة بكسر الواو وقريء بفتح القاف ومن بيننا وبينك حجاب غليظ يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الحاجبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلا
وتوضيحه أن لبن بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل : بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولا وأما إذا قيل : من بيننا فيدل على أن المبتدأ بالحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد من أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهى باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الإستيعاب لأن جميع الجهة أعني جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهى غيره البتة وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الإبتداء من تلك الجهة أيضا إذ لو قيل : ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة و السلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة و السلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم
وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معنيان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا : وفي آذاننا وقر وليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى : أنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ولو قيل أنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني واختصاص كل من العبارتين بموصعه للتفنن على أنه لما كان منسوبا إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الإستعلاء والقهر أنسب وههنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الإحتواء أقرب كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظا ومعنى : وقيل : هي ما يجعل فيها السهام أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة قالوا كالجعبة للنبل فاعمل على دينك وقيل في إبطال أمرنا إننا عاملون
5
- على ديننا وقيل : في إبطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة و السلام ومقصودهم أننا عاملون والأول توطئة له وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه
(24/96)
كما نثبت على دينك وعلى الثاني هو مبارزة بالخلاف والجدال وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش
ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : أقبلت قريش إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهم : ما يمكنكم من الإسلام فتسودوا العرب فقالوا : يا محمد ما نفقه ما تقول ولا نسمعه وإن على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوبا فمده فيما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة و السلام فقال : يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم الإسلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة و السلام وقال : الحمد لله بالأمس تزعمون أن على قلوبهم غلفا وقلوبكم في أكنة مما ادعوكم إليه وفي آذانكم وقرا وقرأ وأصبحتم مسلمين فقالوا : يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبدا ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه قل إنما أنا بشر مثلكم لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه وهو رد لقولهم : بيننا وبينك حجاب يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع وهذا جواب عن قولهم : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر فاستقيموا إليه فاستووا إليه تعالى بالتوحيد وإخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد : قلوبنا في أكنة الخ واستغفروه مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قبله وفي إرشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما بنبيء عنه قولكم : فاعمل إننا عاملون بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم فإن الخطاب في إلهكم محكي منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة و السلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في فاعمل أننا عاملون ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى وقال صاحب الفرائد : ليس هذا جوابا لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم سلمنا أنه جواب لكن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحي إلي وأمرت بتبليغ أنما إلهكم إله واحد وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم وجعله الزمخشري جوابا من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكا ولا يجوز أن يكون بشرا ولذا لا يصغون إلى قول الرسل ولا يتفكرون فيه فقوله عليه الصلاة و السلام : إني لست بملك وإنما أنا بشر من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه صلى الله عليه و سلم قال : ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الإعراض
وقوله : يوحى إلي أنما إلهكم تمهيد للمقصود من البعثة بعد إثبات النبوة أولا مفصلا بقوله تعالى : حم الآيات ومجملا ثانيا بقوله : يوحى إلي ثم قيل : أنما إلهكم بيانا للمقصود فقوله يوحى إلى مسوق للتمهيد وفيه رمز إلى
(24/97)
إثبات النبوة وهذا المعنى على القول بأن المراد من فاعمل الخ فاعمل في إبطال أمرنا أننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر وأما القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بوساطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل وهو على هذا الوجه أكثر طباقا وأبلغ وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادرا وفي الكشف أن قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي في مقابلة إنكارهم الإعجاز والنبوة وقوله : فاستقيموا يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل وقرأ ابن وثاب والأعمش قال إنما فعلا ماضيا وقرأ النخعي والأعمش يوحى بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلي أنما إلهكم إله واحد
وويل للمشركين
6
- من شركهم بربهم عز و جل الذين لا يؤتون الزكاة لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل وهم بالآخرة هم كافرون
7
- مبتدأ وخبر وهم الثاني ضمير فصل و بالآخرة متعلق بكافرون والتقديم للإهتمام ورعاية الفاصلة والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب وروي عن قتادة والحسن والضحاك ومقاتل وقيل : الزكاة بالمعنى اللغوي أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة
وعن مجاهد والربيع لا يزكون أعمالهم وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس أنه قال : في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله وكذا الحكيم الترمذي وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك واختار ذلك الطيبي قال : والمعنى عليه فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك فوضع موضعه منع إيتاء الزكاة ليؤذن بأن الإستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس وهو أوفق لتأليف النظم وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم وجعل قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون
8
- أي غير مقطوع مذكورا على جهة الإستطراد تعريفا بالمشركين وإن نصيبهم مقطوع حيث لم يزكوا أنفسهم كما زكوا واستدل على الإستطراد بالآية بعد وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك إن الذين آمنوا الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والإستقامة تأكيدا لا يخفى حاله على ذي لب وكذلك الزكاة فيه على الظاهر وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار الإيمان المستكن في القلب كيف وقد قيل : المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء : وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ به فأجيب المال خير من الروح أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى لحسن لا يقال : إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول : إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعا قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة
(24/98)
وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضا ثم نسخ انتهى
ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحققت الرواية عنه وبعده الأمر أيضا سهل ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الإتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضا وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه وممن لا يقول به قال : هم مكلفون باعتقاد حقيقتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان وقيل : المعنى لا يقرون بفرضيتها والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل وقيل : كلمة ويل تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلا وفيه بحث لا يخفى هذا وقيل : في ممنون لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على الممنون عليه وعن ابن عباس تفسيره بالمنقوص وأنشدوا لذي الأصبع العدواني : إني لعمرك ما بأبي بذي غلق عن الصديق ولا زادي بممنون والآية على ما روي عن السدي نزلت في المرضى والهرمي إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عز و جل قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدأ بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول : هذا إنكار وتشنيع لكفرهم وإن اللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عز و جل والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف وقيل : لعل المراد منها ما في جهة السفل من الأجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزا باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل يقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها تنوعت إلى أنواع واليوم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق وأريد منه ههنا الوقت مطلقا لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام وأيا ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقا من غير توزيع
وقال بعض الأجلة : إنه تعالى خلق أصلها ومادتها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون والمراد بكفرهم به تعالى إلحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عز و جل وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا يثبتون له القدرة التامة والنعوت اللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون أنه سبحانه خلق العباد عبثا وتركهم سدى وقوله تعالى : وتجعلون له أندادا عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ
(24/99)
وجعله حالا من الضمير في خلق لا يخفى حاله وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أندادا وأكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد ذلك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة وإفراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة رب العالمين
9
- أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عز و جل وقوله تعالى : وجعل فيها رواسي على ما اختاره غير واحد عطف على خلق الأرض داخل في حكم الصلة ولا ضمير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى : تكفرون بمنزلة إعادتها والثانية معترضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أي خلق الأرض كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات
وتعقب بأن الإتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلا مشوشا للذهن مورثا للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالإعتراض الإعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو أو يقال : هو معطوف على مقدر كخلق واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال : أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد رب العالمين أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى : خلق الأرض في يومين أولا ردا عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانيا تتميما للقصة وتأكيدا للإنكار وليس سبيل قوله سبحانه ذلك رب العالمين سبيل الإعتراض حتى تجعل الجملة عطفا على الصلة ويعتذر عن تخلل تجعلون عطفا على تكفرون باتحاده بما قبله على أسلوب وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى : الذي خلق الأرض وأكيد على ما لا يخفى على ذي بصيرة
والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت والمراد بجعلها إبداعها بالفعل وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل وقوله تعالى : من فوقها متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لرواسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية وفائدة من فوقها الإشارة إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الإعتبار ومطارح الأفكار ولعمري أن في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء كما لا يخفى والله تعالى أعلم
وبارك فيها أي كثر خيرها وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بان يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان وقدر فيها أقواتها أي بين كميتها وأقدارها وقال في الإرشاد : أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف وقيل : لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة وإليه يشير كلام
(24/100)
السدي حيث قال : أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه
وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام العالم ويؤيد هذا قراءة بعضهم وقسم فيها أقواتها في أربعة أيام متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام وكان الزجاج يعلقه بقدر كما هو رأي الأمام أبي حنيفة في القيد غذا وقع بعد متعاطفات نحو أكرمت زيدا وضربت عمرا ورأيت خالدا في الدار والشافعي يقول : المتعقب للجمل يعود إليها جميعا لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائدا إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لمجمل ما ذكر مفصلا مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم : فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه ألحق فيه أيضا جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف جعل فيها رواسي على مقدر لأن الربط المعنوي كاف
والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال : سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وههنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكره عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السماوات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام
وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السماوات والأرض في ستة أيام وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى : سواء فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي والحسن وأبن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب سواء بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالا من الضمير في أقواتها مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاث ولزوم تخالف القراءتين في المعنى
ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبرا لمبتدأ محذوف أي هي سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضا لا حالا من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل مطرد في عرفى العرب والعجم فتراهم يقولون : فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلا وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفا ومنه قوله تعالى : الحج أشهر معلومات فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا
ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى ههنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل :
(24/101)
أولا خلق الأرض في يومين وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والآخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات
وقال بعض الأجلة : إن في النظم الجليل دلالة أي مع الإختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر وقوله تعالى : للسائلين
10
- متعلق بمحذوف وقع خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل وقيل هو متعلق بقدر السابق أي وقدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين وقيل : متعلق بمقدر هو حال من الأقوات والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجملة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى ثم استوى إلى السماء أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم : استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوي على غيره
وذكر الراغب أن الإستواء متى عدي بعلى فبمعنى الإستيلاء كقوله تعالى : الرحمن على العرش استوى وغذا عدي بإلى فبمعنى الإنتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير وعلى الثاني قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء الآية وكلام السلف في الإستواء مشهور
وقد ذكرنا فيهما سلف طرفا منه يشعر ظاهر المعنى كلام البعض أن في الكلام مضافا محذوفا أي ثم استوى إلى خلق السماء وهي دخان أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف وقيل : إن عرشه تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء فأحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السماوات
وقيل : كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان وأيا ما كان فليس الدخان كائنا من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة غذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى سواه أن كرة النار التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب
(24/102)
فقال لها وللأرض أئتيا بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على إتيان ذاتهما وإيجادهما بل إتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السماوات سبعا أو مضمون مجمل الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالإتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء
وقال بعض : الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات الخ فقال لها وللأرض ائتيا الخ وهو أبعد من القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كونا وإحداثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد إتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مباديء معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجهم عن الكفر والطغيان وخص الإستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل : فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا وإحداثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى : كن وقوله تعالى : طوعا أو كرها تمثيلا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما وهما مصدران وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين وقوله تعالى : قالتا أتينا طائعين
11
- أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصويرا لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع مبني عن ذلك والره موهم لخلافه وقيل : طائعين يجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند إخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط وقوله تعالى : فقضاهن سبع سماوات في يومين تفسرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا إبداعيا أو أتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير هن إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السماوات ولذا قيل : هو اسم جمع فسبع حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي
وقال أبو حيان : انتصب سبع على الحال وهو حال مقدرة وقال بعضهم : بدل من الضمير وقيل : مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سماوات وقال الحوفي : على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما وقوله تعالى : وأوحى في كل سماء أمرها عطفا على قضاهن أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحي إلى أهل كل منها أو أمره وكلفهم
(24/103)
ما يليق بهم من التكاليف كما قيل : فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى : وزينا السماء الدنيا بمصابيح أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الإرتفاع والإنخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها والإلتفات إلى نون العظمو لإبراز مزيد العناية وأما قوله تعالى : وحفظا فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى : زينا أي وحفظناها حفظا والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر
وجعل قوله تعالى ذلك إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور تقدير العزيز العليم
12
- أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه : فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقر به وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الإعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه
وقيل : إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى وقيل : المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد آتيا وقالتا أتينا على أن ذلك من المواتات بمعنى الموافقة قال الجوهري : تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتى كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم وقال ابن جني : هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفنا في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى
واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السماوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه : ثم استوى إلى السماء الخ وأبى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين ولظاهر قوله تعالى : في آية البقرة خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى
(24/104)
إلى السماء فسواهن سبع سماوات وأول آية النازعات أعني قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها الخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأرل لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك ميت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكأنه بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس
فقد روي الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال : رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال : هات ما اختلف عليك من ذلك فقال : أسمع الله تعالى يقول : أتنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض حتى بلغ طائعين فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى : أم السماء بناها ثم قال والأرض بعد ذلك دحاها فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض وأما قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى قال الخفاجي : يعني أن قوله تعالى : أخرج منها ماءها بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والإنتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت : بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعت الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا فإن قلت : كيف هذا مع ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال عليه الصلاة و السلام : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت : الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي ولا يخفى أن قول ابن عباس
(24/105)
السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذ كان بعد ذلك معتبرا في قوله تعالى : والجبال أرساها وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السماوات ثم أن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة لخبر مسلم عن أبي هريرة قال : : أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل واستدل في شرح المهذب بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر وقال العلامة ابن حجر : هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال : في يوم الإثنين سمي به لأنه ثاني الأيام وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفى فيه بادنى مناسبة على القول الضعيف
وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ على ابن المديني والبخاري وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في صحيحه فوجب قبولها وذكر أحمد بن أحمد المقري المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضا في مسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ شبك بيدي أو القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم وقال : خلق الله تعالى يوم السبت الحديث وفي الدر المنثور عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد وفيه أيضا أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : جاء اليهود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإصنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا : صدقت إن مت فعرف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون
واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجا بما يسمونه التوراة وظاهره الإشتقاق يقتضي ذلك
ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال : لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمي خامس الورد ربعا وتاسعه عشرا وهذا الذي أخذ من ابن عباس قوله الذي كان ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الإنصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضا وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك وليت شعرب إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع
(24/106)
لغة العرب غير تابع فيها لليهود والجواب الثاني خلاف الظاهر جدا
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى بعض المحققين من المفسرين وأولوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عز و جل بذلك مثله في قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ولا بد على هذا من تأويل جعل وبارك بنحو ما سمعت عن الإرشاد وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا : إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل فلا اقتحم وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه : فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة تفسير للعقبة والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا وفي الكشف أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين ثم في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الإبتداء من يوم الأحد كان وخلق السماوات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام وفي البحر الذي نقوله : إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وإن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبرهم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعارض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الإخبار فيه بثم فهي لترتيب الأخبار كما في قوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا بعد قوله سبحانه فلا اقتحم العقبة وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب بعد قوله عز و جل قل تعالوا أتل ويكون قوله جل شأنه فقال لها وللأرض بعد إخباره تعالى بما أخبر به تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته انتهى وظاهر ما ذكره في قوله تعالى فقال لها الخ أن القول بعد الإيجاد وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجادا وإكمالا ذاتا وصفة ويكون تمهيدا لقوله سبحانه فقضاهن أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضي السماوات وأحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع
وذكر في نكتة خلق الأرض وما فيها في الذكر ههنا وفي سورة البقرة على خلق السماوات والعكس في سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الإمتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها وروي عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما الآية
وجعله بعضهم دليلا على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وفي الإرشاد أنه ليس في ذلك فإن بسط
(24/107)
الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا وفي الكشف أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النووية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسماوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السماوات سابق في الزمان على خلق الأرض ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السماوات وكذلك ومتى حمل ثم للترتيب في الأخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى الله الذي خلق السماوات وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وقوله سبحانه : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه وحكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة والله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام وذلك عند نشئتها في ذاتها من خلقه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض من الزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهوالمسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية وهذا الجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحو قطعا كما يشعر به قوله تعالى وخلق كل شيء فقدره تقديرا وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وقوله تعالى هنا ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله سبحانه فقضاهن سبع سماوات وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السماوات والأرض لإيجاد أنفسها فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي فجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحدات البركة وليست من تلك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سماوات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السماوات وما بينهما وبين الأرض الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السماوات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينهما وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السماوات
(24/108)
والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا يعكر على ذلك ما روي عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والإثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السماوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه : خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال
والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفية وارتكاب توجيهات غير مرضية ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقها منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره وجوز إرادته في الآية وكذا جوز إرادته غيره من الأطلاقات وذكر سركون خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جوابا عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك ومن وقف على تلك الرسالة سمع منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقا بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعي لم يورد دليله فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للإنصاف مجانبا وللتعصب مصاحبا والله تعالى الموفق
وما تقدم من حمل قوله تعالى : قالتا أتينا طائعين على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين وقالت طائفة : إنهما نطقتا نطقا حقيقيا وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكا قال ابن عطية : وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وإن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكا لائقا بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك وذكر بعضهم في قوله سبحانه : وأوحى في كل سماء أمرها أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجها في جميع السماوات وإفراد الأرض وقرأ الأعمش أو كرها بضم الكاف قال أبو حيان : والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة فإن أعرضوا متصل بقوله تعالى : قل أئنكم الخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الإيمان أو عن الإيمان بعد هذا البيان فقل لهم : أنذرتكم أي أنذركم وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبيء عن تحقق المنذر صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود
13
- أي عذابها مثل عذابهم قاله قتادة وهو ظاهر على القول بأن الصاعقة تأتي في اللغة بمعنى العذاب ومنع ذلك بعضهم وجعل ما ذكر مجازا والمراد عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقتهم وأيا ما كان فالمراد أعلمتكم حلول صاعقة
وقرأ ابن الزبير والسلمي وابن محيصن صعقة مثل صعقة بغير ألف فيهما وسكون العين وهي المرة من الصعق أو الصعق ويقال : صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا بالفتح أي هلك بالصاعقة المصيبة له إذ جاءتهم الرسل أي جاءت عادا وثمود ففيه إطلاق الجمع على الإثنين وهو شائع وكذا الرسل
(24/109)
وقيل : يحتمل أن يراد ما يعم رسول الرسول وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين وذكروا في إذ أوجها من الإعراب الأول أنه ظرف لأنذرتكم الثاني أنه صفة لصاعقة الأولى وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة و السلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عادا وثمود وليس كذلك الثالث أنه صفة لصاعقة الثانية وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة الرابع واختاره أبو حيان أنه معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى الخامس واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة وبعضهم كونه حالا من الأولى أيضا لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة وقوله تعالى : من بين أيديهم ومن خلفهم متعلق بجاءتهم والضمير المضاف إليه لعاد وثمود والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جمع جهاتهم والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة
وروي هذا عن الحسن وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤهم وخاطبوهم بقوله تعالى : ألا تعبدوا إلا الله وروي هذا الوجه عن ابن عباس والضحاك وإليه ذهب الفراء ونص بعض الأجلة على أن من بين أيديهم عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم وجمع الرسل عليه ظاهر وقيل : يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى : يأتيها رزقها رغدا من كل مكان وقال الطبري : الضمير في قوله تعالى : من بين أيديهم لعاد وثمود وفي قوله تعالى : ومن خلفهم للرسل وتعقبه في البحر بأن فيه خروجا عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائدا في من خلفهم على الرسل لفظا وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر وبعده لا يخفى
وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر و إن يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و لا ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضا والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه وجعل الحوفي لا نافية و أن ناصبة للفعل وقيل : إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف وأورد عليه أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وإن خبر باب أن لا يكون طلبا إلا بتأويل وقد يدفع بأنه بتقدير القول وإن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضي وغيره ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه وعلى احتمال كونها مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف
(24/110)
الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل : لأنزل قيل : ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير مطرد وقال أبو حيان : إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم وهذا أبلغ في الإمتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤه في البشر وهو وجه حسن
فإنا بما أرسلتم به أي بالذي أرسلتم به على زعمكم وفيه ضرب تهكم بهم كافرون
14
- لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم و ما كما أشرنا إليه موصولة وكونها مصدرية وضمير به لقولهم : أن لا تعبدوا إلا الله خلاف الظاهر أخرج البيهقي في الدلائل وابن عسائر عن جابر بن عبد الله قال : قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه و سلم فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب فلم يجبه قال : فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك وإن كان بك الباءة زوجناك عشرة نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة و السلام : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا فقرأ حتى بلغ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وصمود فأمسك عتبة على فيه عليه الصلاة و السلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه و سلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة إصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه و سلم فغضب وأقسم باللهم تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة و السلام أبدا وقال : لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب فأما عاد فاستكبروا في الأرض شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية وبديء بقصة عاد لأنها أقدم زمانا أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظم فيها على أهلها بغير الحق أي بغير استحقاق للتعظم
(24/111)
وقيل : تعظموا عن امتثال أمر الله عز و جل وقبول ما جاءتهم به الرسل وقالوا اغترارا بقوتهم : من أشد منا قوة أي لا أشد منا قوة فالإستفهام إنكاري وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده أو لم يروا أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان أن الله الذي خلقكم هو أشد منهم قوة قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوي على ما لا يقدر عليه غيره عز و جل مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عز و جل أشد قوة منهم وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب
وزعم بعضهم أن القوة عرض بنزه الله تعالى عنه لكنها مستلزمة للقدرة فلذا عبر عنها بها مشاكلة وأورد في حيز الصلة خلقهم دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة وفيه ضرب من التهكم بهم وكانوا بآياتنا يجحدون
15
- أي ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على فاستكبروا أو قالوا فجملة أو لم يروا الخ مع ما عطف هو عليه اعتراض وجوز أن يكون هو وحده اعتراضا والواو اعتراضية لا عاطفة
فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا قال مجاهد : شديدة السموم فهو من الصر بفتح الصاد بمعنى الحر وقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي : باردة تهلك بشدة بردها من الصر بكسر الصاد وهو البرد الذي يصر أي يجمع ظاهر جلد الإنسان ويقبضه والأول أنسب لديار العرب وقال السدي أيضا وأبو عبيدة وابن قتيبة والطبري وجماعة : مصوتة من صريصر إذا صوت وقال ابن السكيت : صرصر يجوز أن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فأقبلت امرأته في صرة وفي الحديث أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا وروي أنها كانت تحمل العير بأوقارها فترميهم في البحر في أيام نحسات جمع نحسة بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس نحسا كعلم علما نقيض سعد سعدا
وقرأ الحرميان وأبو عمرو والنخعي وعيسى والأعرج نحسات بسكون الحاء فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به مبالغة واحتمل أن يكون صفة مخففا من فعل كصعب وفي البحر تتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين وإنما ذكروا نعلا بالكسر كفرح وأفعل كأحور وفعلان كشبعان وفاعلا كسالم وهو صفة أيام وجمع بالألف والتاء لأنه صفة لما لا يعقل والمراد بها مشائيم عليهم لما أنهم عذبوا فيها فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصين فيقال له سعد بالنسبة إلى من ينعم فيه ويقال له نحس بالنسبة إلى من يعذب وليس هذا مما يزعمه الناس من خصوصيات الأوقات لكن ذكر الكرماني في مناسكه عن ابن عباس أنه قال : الأيام كلها لله تعالى لكنه سبحانه خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا وتفسير نحسات بمشائيم مروي عن مجاهد وقتادة والسدي وقال الضحاك : أي شديدة البرد حتى كأن البرد عذاب لهم وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد :
(24/112)
كأن سلافه مزجت بنحس
وقيل : نحسات ذوات غبار وإليه ذهب الجبائي ومنه قول الراجز : قد اغتدى قبل طلوع الشمس للصيد في يوم قليل النحس يريد قليل الغبار وكانت هذه الأيام من آخر شباط وتسمى أيام العجوز وكانت فيما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وروي ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء وقال السدي : أولها غداة يوم الأحد وقال الربيع بن أنس : يوم الجمعة لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا أضيف العذاب إلى الخزي وهو الذل على قصد وصفه به لقوله ىتعالى : ولعذاب الآخرة أخزى وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة فإنه يدل على أن ذل الكافر زاد حتى اتصف به عذابه كما قرر في قولهم : شعر شاعر وهذا في مقابلة استكبارهم وتعظمهم وقريء لتذيقهم بالتاء على أن الفاعل ضمير الريح أو الأيام النحسات وهم لا ينصرون
16
- بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه
اما ثمود فهديناهم قال ابن عباس وقتادة والسدي : أي بينالهم وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى : وهديناه النجدين وهو أنسب بقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى أي فاختاروا الضلالة على الهدى فا ظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال : أي أعلمناهم الهدى من الضلال وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل والضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر فاستحبوا الخ عنه
واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الإستقلال بناء على أن قوله تعالى هديناهم دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة وقوله تعالى : استحبوا العمى الخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى
والجواب كما في الكشف أن لفظ الإستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلا ما فإن المحبة ليست اختيارية بالإتفاق وإيثار العمى حبا وهو الإستحباب من الإختيارية فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره ومعنى كون المحبة ليست اختيارية أنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه و سلم وفي طريق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي وإليه يشير قوله عز و جل : وخلق منها زوجها ليسكن إليها أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها وهو المراد بقوله عليه الصلاة و السلام : الأرواح جنود مجندة وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال ولها آثار ويطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه وقرأ ابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب وأما ثمود بالرفع مصروفا
وقد قرأ الأعمش وابن وثاب بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى : وآتينا ثمود الناقة لأنه في المصحف بغير ألف وقرأ ابن أبي إسحاق وابن هرمز بخلاف عنه والمفضل قال ابن عطية : والأعمش
(24/113)
وعاصم وروي عن ابن عباس ثمودا بالنصب والتنوين وروي المفضل عن عاصم الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة ومن صرفه جعله اسم رجل والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم وقريء بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء فأخذتهم صاعقة العذاب الهون أي الذل وهو صفة للعذاب أو بدل منه ووصفه به مصدرا للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما قرب منها فقالوا في كيفيه انفجار الصاعقة : من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الإستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم وقيل : المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما ورد في آيات أخر ولا مانع من الجمع بينهما
وقرأ ابن مقسم الهوان بفتح الهاء وألف بعد الواو بما كانوا يكسبون
17
- من اختيار الضلالة على الهدى وهذا تصريح بما تشعر به الفاء ونجينا من تلك الصاعقة الذين آمنوا وكانوا يتقون
18
- بسبب إيمانهم واستمرارهم على التقوى والمراد بها تقوى الله عز و جل وقيل : تقوى الصاعقة والمتقي عذاب الله تعالى متق لله سبحانه وليس بذاك ويوم يحشر أعداء الله إلى النار شروع في بيان عقوباتهم الآجلة بعد ذكر عقوباتهم العاجلة والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل : المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين
وتعقب بأن قوله تعالى الآتي : في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس كالصريح في إرادة الكفرة المعهودين والمراد من قوله تعالى : إلى النار قيل : إلى موقف الحساب والتعبير عنه بالنار للإيذان بأن النار عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها ولا مانع من إبقائه على ظاهره والقول بتعدد الشهادة فتشهد عليهم جوارحهم في الموقف مرة وعلى شفير جهنم أخرى و يوم إما منصوب باذكر مقدر معطوف على قوله تعالى : قل أنذرتكم صاعقة أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف إيهاما لقصور العبارة عن تفصيله وقيل : ظرف لما يدل عليه قوله تعالى : فهم يوزعون
19
- أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو كناية عن كثرتهم وقيل : يساقون ويدفعون إلى النار والفاء تفصيلية وقرأ زيد بن علي ونافع والأعرج وأهل المدينة نحشر بالنون أعداء بالنصب وكسر الأعرج الشين وقريء يحشر على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب أعداء الله وقوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها أي النار جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أي
(24/114)
حتى إذا حضروها و ما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا و إذا دالة على اتصال الجواب لوقوعهما في زمان واحد وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤها وسئلوا عما أجرموا فأنكروا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون
20
- واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه ولا يأبى التقدير تأكيد الأتصال إذ يكفي للإتصال وقوع ذلك في مجلس واحد والظاهر أن الجلود هي المعروفة وقيل : هي الجوارح كني بها عنها وقيل : كني بها عن الفروج قيل : وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وفي الإرشاد أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا وأجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة الظاهر أولى ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب قاله الجلبي ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر وتعقبه بقوله : فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع واتلبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الإعراض ثم أن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة ثم قال : يلوح مما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والإشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره واعترض عليه بأن رده على العلامة يصادف محزه إذ ليس المرادة مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك منحصر في السمع والبصر
وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني لم شهدتم علينا وأولى ما قيل من أوجه التخصيص : أن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزيء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع
وفي الحديث إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول : تبا لك فعنك كنت أدافع ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير ووجه الإقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال : لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس وللبحث فيه مجال وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك الآيات التكوينية
(24/115)
وقد أشير إلى كل في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم على وجه وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهي عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلا وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الأخر ولا بعد في شمول ما كانوا يعملون لإدراك الآيات والإحساس بها بقسميها فتدبر
ولعل قوله تعالى : لم شهدتم سؤال عن العلة الموجبة وصيغة جمع العقلاء في شهدتم وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء وقرأ زيد بن علي لم شهدتن بضمير المؤنثات قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما علمتم من القبائح وما كتمنا وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم صلح ما ذكر جوابا له وقيل : لا قصد هنا للسؤال أصلا وإنما القصد إلى التعجب ابتداء لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازا أو كناية عن التعجب فقد قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل : ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء وأيا ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة ولا يقال : الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى شهدتم علينا لأنه يقال : ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازا كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقا بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له وقيل : الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازا عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ماكانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه وعلى الظاهر لا بد من تخصيص كل شيء بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع ومنه ما قيل في والله على كل شيء قدير وتدمر كل شيء وجوز أن يكون النطق في أنطقنا بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في أنطق كل شيء على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر والموصول المشعر بالعلية يأباه إباء ظاهرا وقوله تعالى : وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون
21
- يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفا من كلامه عز و جل والأول أظهر والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الإنطاق وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل وقوله تعالى :
(24/116)
وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارج و أن يشهد مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون
22
- أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون وهو ما علمتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الإستتار عن الخلق دون الخالق عز و جل أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل : هو الباء والمستتر عنه الجوارح والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب وقيل : هو عن والمعنى لم يمكنكم الإستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم
وقيل : أن تشهد مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم الخ وقيل : إن تستترون ضمن معنى الظن فعدي تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارج عليكم ويؤيده قول قتادة : أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم الخ والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم : أترون الله يسمع كلامنا هذا فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم إلى قوله سبحانه من الخاسرين فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الإعتقاد من الكفر لكنه قليل في الكفرة وفي الإرشاد لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده ليعم ما حكى من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيبا كما قال أبو نواس : إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب وذلكم إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه : ظننتم وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء وهو مبتدأ وقوله تعالى : ظنكم الذي ظننتم بربكم بدل منه وقوله سبحانه : أرداكم أي أهلككم خبره وجوز أن يكون ظنكم خبرا و أرداكم خبرا بعد خبر ورده أبو حيان بأن ذلكم إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم : سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح
(24/117)
الحمل كما في هذا زيد ولو سلم فالإتحاد مثله في قوله : أنا أبو النجم وشعري شعري مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة وقيل : المراد منه التعجب والتهكم وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها واختار بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح بانت سعاد وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال وجوز في جملة أرداكم أن تكون حالا بتقدير قد أو بدونه والموصول في جميع الأوجه صفة ظنكم وقيل : الثلاثة أخبار فلا تغفل فأصبحتم بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم من الخاسرين
23
- إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سببا للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والإنهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات فإن يصبروا فالنار مثوى لهم أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير إن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة وقيل : في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى : اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم وقيل : المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك والإلتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بأبعادهم عن حيز الخطاب وإلقائهم في غيابة دركات النار وإن يستعتبوا أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه فما هم من المعتبين
24
- أي المجابين إليها
وقال الضحاك : المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين : وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري وإن يستعتبوا مبنيا للمفعول فما هم من المعتبين اسم فاعل أي أن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس بعد الموت مستعتب ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عز و جل : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
وقيضنا لهم أي قدرنا وفي البحر أي سسنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم قرناء جمع قرين أي أخذنا وأصحابنا من غواة الجن وقيل : منهم ومن الإنس يستولون عليهم استيلاء القيض وهو القشر على البيض وقيل : أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة فتقييض القرين للشخص إما لاستيلائه عليه أو لأخذه بدلا عن غيره من قرنائه فزينوا لهم حسنوا وقرروا في أنفسهم ما بين أيديهم قال ابن عباس : من أمر الآخرة حيث ألقوا إليهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وما خلفهم من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات وقال الحسن : ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة وقال الكلبي : ما بين أيديهم أعمالهم التي يشاهدونها وما خلفهم ما هو عاملوه في المستقبل ولكل وجهة ولعل الأحسن ما حكي عن الحسن وحق عليهم القول أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها وهي قوله تعالى لإبليس فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
في أمم حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم وقيل : في بمعنى مع ويحتمل المعنيين قوله :
(24/118)
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفوكا ففي آخرين قد أفكوا وفي البحر لا حاجة للتضمين مع صحة معنى في وتنكير أمم للتكثير أي في أمم كثيرة قد خلت أي مضت من قبلهم من الجن والإنس على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء إنهم كانوا خاسرين
25
- تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم وجوز كونه لهم بقرينة السياق وقال الذين كفروا من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال بعضهم لبعض : لا تسمعوا لهذا القرآن أي لا تنصتوا له
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه وأتوا باللغو عند قراءته ليتشوش على القاريء والمراد باللغوا ما لا أصل له وما لا معنى له وكان المشركون عند قراءته عليه الصلاة و السلام يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وقال أبو العالية أي قعوا فيه وعيبوه وفي كتاب ابن خالويه قرأ عبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنهما وألغوا بضم الغين مضارع لغا بفتحها وهما لغتان يقال لغى يلغى كرضي يرضى ولغا يلغو كعدا يعدو إذا هذى وقال صاحب اللوامح : يجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به فيكون فيه بمعنى به أي أرموا به وأنبذوه لعلكم تغلبون
26
- أي تغلبونه على قراءته أو تطمعون أمره وتيميتون ذكره فلنذيقن الذين كفروا أي فو الله لنذيقن هؤلاء القائلين والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بالعلية أو جميع الكفار وهم يدخلون فيه دخولا أوليا
عذابا شديدا لا يقادر قدره ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون
27
- أي جزاء سيآت أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ فأفعل للزيادة المطلقة وقيل : إنه سبحانه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر والعذاب إما في الدارين أو في أحدهما وعن ابن عباس عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة
ذلك إشارة إلى ما ذكر من الجزاء وهو مبتدأ وقوله تعالى : جزاء أعداء الله خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى وقوله سبحانه : النار عطف بيان لجزاء أو بدل أو خبر لمبتدأ محذوف
وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك و جزاء مبتدأ و النار خبره والإشارة حينئذ إلى مضمون الجملة السابقة وقوله تعالى : لهم فيها دار الخلد جملة مستقلة مقررة لما قبلها وجوز أن يكون النار مبتدأ وهذه الجملة خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد كما قيل : في قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقول الشاعر :
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة فيها وجوز أن يقال : المقصود ذكر الصفة والدار إنما ذكرت توطئة فكأنه قيل : لهم فيها الخلود وقيل : الكلام على ظاهره والظرفية حقيقية والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون والول أبلغ
(24/119)
جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون
28
- منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى : فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لقصد الحصر الإضافي مع ما فيه من مراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة دون الأمور التي ينبغي جحودها وجعل بعضهم الجحود مجازا عن اللغو المسبب عنه أي جزاء بما كانوا بآياتنا يلغون وقال الذين كفروا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب
ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزيين وعن علي كرم الله تعالى وجهه وقتادة أنهما إبليس وقابيل فإنهما سببا الكفر والقتل بغير حق وتعقب بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن قابيل مؤمن عاص والظاهر أن الكفار إنما طلبوا إرادة المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وكونهم رئيس الكفرة ورئيس أهل الكبائر خلاف الظاهر وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر أرنا بالتخفيف كفخذ بالسكون في فخذ وفي الكشاف أرنا بالكسر للإستبصار وبالسكون للإستعطاء ونقله عن الخليل فمعنى القراءة عليه أعطنا اللذين أضلانا نجعلهما تحت أقدامنا ندوسهما بها انتقاما منهما وقيل : نجعلهما في الدرك الأسفل من النار ليشتد عذابهما فالمراد نجعلهما في الجهة التي تحت أقدامنا وقريء في السبعة اللذين بتشديد النون وهي حجة على البصريين الذين لا يجوزون التشديد فيها في حال كونها بالياء وكذا في اللتين وهذين وهاتين ليكونا من الأسفلين
29
- ذلا ومهانة أو مكانا
إن الذين قالوا ربنا الله شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوه اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته كما يشعر به الحصر الذي يفيده تعريف الطرفين كما في صديقي زيد ثم استقاموا ثم ثبتوا على الإقرار ولم يرجعوا إلى الشرك فقد روي عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه تلا الآية وهي قد نزلت على ما روي عن ابن عباس ثم قال : ما تقولون فيها قالوا : لم يذنبوا قال : قد حملتم الأمر على أشده قالوا : فما تقول قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان وعن عمر رضي الله تعالى عنه استقاموا لله تعالى بطاعته لم يروغوا الثعالب وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أخلصوا العمل وعن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه أدوا الفرائض وقال الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا وقال الفضيل : زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية وقال الربيع : أعرضوا عما سوى الله تعالى وفي الكشاف أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته وأراد أن من قال : ربي الله تعالى فقد اعترف أنه عز و جل مالكه ومدبر أمره ومربيه وأنه عبد مربوب بين يدي مولاه فالثبات على مقتاه أن لاتزل قدمه عن طريق العبودية قلبا وقالبا ولا يتخاه وفيه يندرج كل العبادات والإعتقادت ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لمن طلب أمرا يعتصم به : قل ربي الله تعالى ثم استقم وذكر أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جزئيات لهذا المعنى ذكر كل منها على سبيل التمثيل ولا يخفى أن كلام الصديق رضي الله تعالى عنه يبعد كون ما ذكره على سبيل التمثيل ولعل ثم على هذا للتراخي الرتبي فإن الإستقامة عليه أعظم وأصعب من الإقرار وكذا يقال على أغلب التفاسير السابقة وجوز أن تكون للتراخي الزماني لأنها تحصل بعد مدة من وقت الإقرار وجعلت
(24/120)
على تفسير الإستقامة بأداء الفرائض أو بالعمل للتراخي الرتبي أيضا بناء على أن الإقرار مبدأ الإستقامة على ذلك ومنشودا وهذا على عكس التراخي الرتبي الذي سمعته أولا لأن المعطوف عليه فيه أعلا مرتبة من المعطوف إذ هو العمدة والأساس وعلى ما تقدم المعطوف أعلى مرتبة من المعطوف عليه كما لا يخفى تتنزل عليهم من الله ربهم عز و جل الملائكة قال مجاهد والسدي : عند الموت وقال مقاتل : عند البعث وعن زيد بن أسلم عند الموت وفي القبر وعند البعث وقيل : تتنزل عليهم يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح قيل : وهذا هو الأظهر لما فيه من الإطلاق والعموم الشامل لتنزلهم في المواطن الثلاثة السابقة وغيرها وقد قدمنا لك جميعا من الناس يقولون : بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين وأنهم يأخذون منهم ما يأخذون فتذكر
ألا تخافوا ما تقدمون عليه فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه ولا تحزنوا على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وروي هذا عن مجاهد وقال عطاء بن أبي رباح : لا تخافوا رد حسناتكم فإنها مقبولة ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة وقيل : المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق
والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبدا و أن إما مصدرية و لا ناهية أو نافية وسقوط النون للنصب والخبر في موضع الإنشاء مبالغة وإما مخففة من الثقيلة و تتنزل مضمن معنى العلم ولا ناهية وأن في الوجهين مقدرة بالباء أي لا تخافوا أو بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن وإما مفسرة و تتنزل مضمن معنى القول ولا ناهية أيضا
وفي قراءة عبد الله لا تخافوا بدون أن أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف
وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
30
- أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام وهذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة وقوله تعالى : نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا إلى آخره من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام ويجوز على قول بعض الناس أن تقول الملائكة لبعض المتقين شفاها في غير تلك المواطن : نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من الدعاوي والخصام
وذهب بعض المفسرين على أن هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة أيضا على معنى كنا نحن أولياءكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة وقيل : هذا من كلام الله تعالى دون الملائكة أي نحن أولياؤكم بالهداية والكفاية في الدنيا والآخرة ولكم فيها أي في الآخرة ما تشتهي أنفسكم من فنون الملاذ ولكم فيها ما تدعون
31
- ما تتمنون وهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو عند بعض أعم من الأول لأنه قد يقع الطلب في أمور معنوية وفضائل عقلية روحانية وقيل : بينهما عموم وخصوص
(24/121)
من وجه إذ قد يشتهي المرء ما لا يطلبه كالمريض يشتهي ما يضره ولا يريده وكون التمني أعم من الإرادة غير مسلم نعم قيل : إذا أريد بالتمني ما يصح تمنيه لا ما يتمنى بالفعل فذاك
وقال ابن عيسى : المراد ما تدعون أنه لكم فهو لكم بحكم ربكم ولكم في الموضعين خبر و ما مبتدأ و فيها حال من ضميره في الخبر وعدم الإكتفاء بعطف ما تدعون على ما تشتهي للإيذان باستقلال كل منهما نزلا قال الحسن : منا وقال بعضهم : ثوابا وتنوينه للتعظيم وكذا وصفه بقوله تعالى : من غفور رحيم
32
- والمشهور أن النزل ما يهيأ للنزيل أي الضيف ليأكله حين نزوله وتحسن إرادته هنا على التشبيه لما في ذلك من الإشارة إلى عظم ما بعده من الكلامة وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف الراجع إلى ما تدعون لا من الضمير المحذوف الراجع إلى ما لفساد المعنى لأن التمني والإدعاء ليس في حال كونه نزلا بل ثبت لهم ذلك المدعى واستقر حال كونه نزلا وجعله حالا من المبتدأ نفسه لا يخفى حاله على ذي تمييز
وقال ابن عطية : نزلا نصب على المصدر والمحفوظ أن مصدر نزل نزول لا نزل وجعله بعضهم مصدرا لأنزل وقيل : هو جمع نازل كشارف وشرف فينتصب على الحال أي نازلين وذو الحال على ما قال أبو حيان : الضمير المرفوع في تدعون ولا يحسن تعلق من غفور به هذا القول فقيل : هو في موضع الحال من الضمير في الظرف فلا تغفل
وقرأ أبو حيوة نزلا بإسكان الزاي ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله أي إلى توحيده تعالى وطاعته والظاهر العموم في كل داع إليه تعالى وإلى ذلك ذهب الحسن ومقاتل وجماعة وقيل : بالخصوص فقال ابن عباس : هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعنه أيضا هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقالت عائشة وقيس بن أبي حازم وعكرمة ومجاهد : نزلت في المؤذنين وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية إلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف ولم يكن الأذان بمكة إنما شرع بالمدينة والتزام القول بتأخر حكمها عن نزولها كما ترى والظاهر أن المراد الدعاء باللسان وقيل : به وباليد كأن يدعو إلى الإسلام ويجاهد وقال زيد بن علي : دعا إلى الله بالسيف ولعل هذا والله تعالى أعلم هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية وكان زيد هذا رضي الله تعالى عنه عالما بكتاب الله تعالى وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك وفيه من العلم والإستشهاد بكلام العرب حظ وافر
ويقال : إنه كان تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم رحمهما الله تعالى ورضي عنهما والإستفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا أي عملا صالحا أي عمل صالح كان
وقال أبو أمامة : صلى بين الأذان والإقامة ولا يخفى ما فيه وقال عكرمة : صلى وصام وقال الكلبي : أدى العرائض والحق العموم وقال إنني من المسلمين
33
- أي تلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب إذ هو لا ينافيه أو جعل واتخذ الإسلام دينا له من قولهم : هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده وبعضهم يرجع الوجهين إلى وجه واحد والمعنى على القول بكون الآية خاصة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم
(24/122)
اختار النسبة إلى الإسلام دون عز الدنيا وشرفها وهو قولهم رد لا تسمعوا لهذا القرآن وتعجب منه وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال وقال إني بنون مشددة دون نون الوقاية
واستدل أبو بكر بن العربي بالآية على عدم اشتراط الإستثناء في قول القائل : أنا مسلم أو أنا مؤمن وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عاملا عملا صالحا ليكون الناس إلى قبول دعائه أقرب وإليه أسكن
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد أثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عز و جل ترغيبا لرسول الله صلى الله عليه و سلم في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام و لا الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى ولا الظل ولا الحرور لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال : كيف أصنع للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الإعتناء به والسؤال عنه وللمبالغة أيضا وضع أحسن موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين وعن علي كرم الله تعالى وجهه حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك وقال الكلبي : الدعوتان إليهما وقال الضحاك : الحلم والفحش وقيل : الصبر وقيل : المدارة والغلظة وقيل غير ذلك ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روي عنه وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس و لا الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره والكلام في ادفع الخ على معنى الفاء أي غذا كان كل من الجنسين متفاوت الإفراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ وترك الفاء للإستثناء الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
34
- بيان لنتيجة الدفع المأمور به فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق قال ابن عطية : دخلت كأن المفيدة للتشبيه لأن العدو لا يعود وليا حميما بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم ولعل ذلك من باب الإكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الفهوات بالحسنات و الذي بينك وبينه عداوة أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره والآية قيل : نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدوا مبينا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصار عند أهل السنة وليا مصافيا وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عز و جل ما يستحق وما يلقاها أي ما يلقى ويؤتى هذه
(24/123)
الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق وجوز رجوعه للتي هي أحسن وحكى محكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى وقيل : الضمير للجنة وليس بشيء
وقرأ طلحة وابن كثير في رواية وما يلاقاها من الملاقاة إلا الذين صبروا أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
35
- ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روي عن ابن عباس وقال قتادة : ذو حظ عظيم من الثواب وقيل : الحظ العظيم الجنة وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح وكرر وما يلقاها تأكيد لمدح تلك الفعلة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في الحدباء في هذه الآية عبارة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى : وما يلقاها إلا الذين صبروا الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للإتفاق فيتحقق الأشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت
وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى : وما يلقاها إلا الذين صبروا ومن الثاني وهو قوله سبحانه : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال : كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للإتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فيه كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للإستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره فافهم
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ النزع النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغا للمبالغة على طريقة جد جده فمن على هذا ابتدائية ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان فمن بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضا لكن على سبيل التجريد وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و إن شرطية و ما مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره ولا تطعه إنه عز و جل هو السميع فيسمع سبحانه استعاذتك العليم
36
- فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك وقيل : السميع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنيا عن انتقامك وقيل : العليم بنزغ الشيطان وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه ولعل الخطاب من باب إياك أعني وأسمي يا جاره
وجوز أن الشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول :
(24/124)
إنه عدوك لذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكمالات التي ربما لا تخطر أبدا ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الإستعاذة عنده
وقد روي الحاكم عن سليمان بن صرد قال : استب رجلا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة و السلام : إني لأعلم لو قالها لذهب عنه الغضب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل : أمجنونا تراني فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله
ولعل الغضب من آثار الوسوسة ومن آياته الدالة على شؤنه الجليلة جل شأنه : الليل والنهار في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر والشمس والقمر في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والحركات مثلا وقدم ذكر الليل قيل : تنبيها على تقدمه مع كون الظلمة عدما وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طاريء عليها من جرم آخر وقيل : هو من العرش والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف الشمس ظلمة قليلة لا تسجدوا للشمس ولا للقمر لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه وتعالى المسخرة علة وفق إرادته تعالى مثلكم واسجدوا لله الذي خلقهن الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثني الضمير لم يكن فيه إشعار بذلك
وحكم جماعة ما لا يعقل على ما قال الزمخشري حكم الأنثى فيقال : الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالإناث تكلف عنه غني بالقاعدة المذكورة نعم قال أبو حيان : ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحدة تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح والأفصح في الثاني أن يكون بضمير الإناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به وقيل : الضمير للشمس والقمر والإئتان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعا وقيل : الضمير للآيات المتقدم ذكرهما في قوله تعالى : ومن آياته إن كنتم إياه تعبدون
37
- فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عز و جل وكان علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود يسجدان عند تعبدون ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي وسجد عند لا يسأمون ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله وكذلك روي عن ابن وهب ومسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن وثاب والحسن وابن سيرين وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي الكشف أصح
(24/125)
الوجحهين عند أصحابنا يعني الشافعية أن موضع السجدة لا يسأمون كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الإستكبار عنه مذموم وعلله بعضهم بالإحتياط لأنها إن كانت عند تعبدون جاز التأخير لقصر الفصل وإن كانت عند يسأمون لم يجز تعجيلها فإن استكبروا تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك فالذين عند ربك أي في حضرة قدسه عز و جل من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم يسبحون له بالليل والنهار أي دائما وإن لم يكن عندهم ليل ونهار وهم لا يسئمون
38
- لا يملكون ذلك وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه ويجوز إن يكون الكلام على معنى الإخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس إنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس
وقريء لا يسأمون بكسر الياء والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا واستدل الشيخ أبو إسحاق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال : لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الإستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها ومن آياته أنك ترى يا من تصح منه الرؤية : الأرض خاشعة يابسة متعاطفة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل فإذا أنزلنا عليها الماء أي المطر اهتزت وربت أي تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية شبه حال جدوبة الأرض وخلوها عن النبات ثم إحياء الله تعالى إياها بالمطر وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب وإنبات كل زوج بهيج بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه به إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها تكلف بأنواع الزينة والزخارف فيختال في مشيه زهورا فيهتز بالأعطاف خيلاء وكبرا فحذف المشبه واستعمل الخشوع والإهتزاز دلالة على مكانه ورجح اعتبار التمثيل وقريء ربأت أي زادت وقال الزجاج : معنى ربت عظمت وربأت بالهز ارتفعت ومنه الربيئة وهي طليعة على الموضع المرتفع إن الذي أحياها بما ذكر بعد موتها لمحي الموتى بالبعث أنه على كل شيء من الأشياء التي من جملتها الإحياء قدير
39
- مبالغة في القدرة
إن الذين يلحدون في آياتنا ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والإستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة وهو مراد ابن عباس بقوله : يضعون الكلام في غير موضعه وأصله من الحد إذا مال عن الإستقامة فحفر في شق ويقال لحد وقريء يلحدون ويلحدون باللغتين وقال قتادة : هنا الإلحاد التكذيب وقال مجاهد : المكاء والصفير واللغو فالمعنى يميلون عما ينبغي ويليق في شأن آياتنا فيكذبون القرآن أو فيلغون ويصفرون عند قراءته وجوز أن يراد بالآيات ما يشمل جميع الكتب المنزلة وبالإلحاد ما يشمل تغيير اللفظ وتبديله لكن ذلك بالنسبة إلى غير القرآن لأنه لم يقع فيه كما وقع في غيره من الكتب على ما هو الشائع
وعن أبي مالك تفسير الآيات بالأدلة فالإلحاد في شأنها الطعن في دلالتها والإعراض عنها وهذا أوفق بقوله تعالى :
(24/126)
ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة الخ وما تقدم أوفق بقوله سبحانه : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وبما بعد والآية على تفسير مجاهد أوفق وأوفق
والمراد بقوله تعالى : لا يخفون علينا مجازاتهم على الإلحاد فالآية وعيد لهم وتهديد وقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتى آمنا يوم القيامة تنبيه على كيفية الجزاء وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل اعتناء بشأن المؤمنين لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر وفيه بالإتيان الدال على أنه بالإختيار والرضا مع الأمن ودخول الجنة لا ينفي أن يبدل حالهم من بعد خوفهم أمنا وجوز أن تكون الآية من الإحتباك بتقدير من يأتي خائفا ويلقى في النار ومن يأتي آمنا ويدخل الجنة فحذف من الأول مقابل الثاني ومن الثاني مقابل الأول وفيه بعد والآية كما قال ابن بحر عامة في كل كافر ومؤمن
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أفمن يلقى في النار أبو جهل أم من يأتي آمنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأخرج عبد الرزاق وغيره عن بشير بن تميم من يلقى في النار أبو جهل ومن يأتي آمنا عمار والآية نزلت فيهما وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان وقيل : فيه وفي عمر وقيل : فيه وفي حمزة وقال الكلبي : فيه وفي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم اعملوا ما شئتم تهديد شديد للكفرة الملحدين الذين يلقون في النار وليس المقصود حقيقة الأمر إنه بما تعملون بصير
40
- فيجازيكم بحسب أعمالكم
إن الذين كفروا بالذكر وهو القرآن لما جاءهم من غير أن يمضي عليهم زمان يتأملون فيه ويتفكرون وإنه لكتاب عزيز
41
- لا يوجد نظيره أو منيع لا تتأتى معارضته وأصل العز حالة مانعة للإنسان عن أن يغلب وإطلاقه على عدم النظير مجاز مشهور وكذا كونه منيعا وقيل : غالب للكتب لنسخه إياها وعن ابن عباس أي كريم على الله تعالى والجملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به وقوله تعالى : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه صفة أخرى لكتاب وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله أي لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين وجوز أن يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر من الأخبار الماضية والأمور الآتية وقيل : الباطل بمعنى المبطل كوارس بمعنى مورس أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضا وقوله تعالى : تنزيل من حكيم حميد
42
- أي محمود على ما أسدي من النعم التي منها تنزيل الكتاب وحمده سبحانه : بلسان الحال متحقق من كل منعم عليه وبلسان القال متحقق ممن وفق لذلك خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية وقوله تعالى : لا يأتيه الخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن واختلفوا في خبر إن أمذكور هو أو محذوف
(24/127)
فقيل : مذكور وهو قوله تعالى : أولئك ينادون من مكان بعيد وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال : لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو : إنه منك لقريب أولئك ينادون من مكان بعيد وذهب إليه الحوفي وهو في مكان بعيد وذهب أبو حيان إلى انه قوله تعالى : لا يأتيه الباطل بحذف العائد أي الكافرون وحاله أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل منهم أي متى راموا إبطالا له لم يصلوا إليه أو يجعل أل في الباطل عوضا من الضمير به قول الكوفين أي لا يأتيه باطلهم أو قوله سبحانه : ما يقال لك الخ والعائد أيضا محذوف أي ما يقال لك في شأنهم أو فيهم إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي أوحي إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك ولما جئت به مثل ما أوحي إلي من قبلك من الرسل وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الدائم ثم قال : وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد وهو موجود نحو السمن من وان بدرهم والبر كر بدرهم أي منه
ونقل عن بعض نحاة الكوفة أن الخبر في قوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز وتعقبه بأنه لا يتقبل وقيل : هو محذوف وخبر إن يحذف لفهم المعنى وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو : معناه في التفسيران الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وإنه لكتاب عزيز فقال عيسى : أجدت يا أبا عثمان
وقال قوم : تقديره معاندون أو هالكون وقال الكسائي : قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل وهو قوله تعالى : أفمن يلقى وكأنه يريد أنه محذوف دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر يخلدون في النار ويقدر الخبر على ما استحسنه ابن عطية بعد حميد وفي الكشاف أن قوله تعالى : إن الذين كفروا بالذكر بدل من قوله تعالى : إن الذين يلحدون في آياتنا قال في البحر : ولم يتعرض بصريح الكلام إلى خبر إن أمذكور هو أو محذوف لكنه قد يدعى أنه أشار إلى ذلك فإن المحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل فيكون التقدير إن الذين يلحدون في آياتنا إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم لا يخفون علينا وفي الكشف فائدة هذا الإبدال التنبيه على أنه ما يحملهم على الإلحاد إلا مجرد الكفر وفيه إمداد التحذير من وجوه ما ذكر من التنبيه ووضع الذكر موضع الضمير الراجع إلى الآيات زيادة تحسير لهم وما في لما من معنى مفاجأتهم بالكفر أول ما جاء وما فيه من التعظيم لشأن الآيات والتمهيد للحديث عن كمال الكتاب الدال على سوء مغبة الملحد فيه ثم الأشبه أن يحمل كلام الكشاف على أن الخبر محذوف لدلالة السابق عليه ولزيادة التهويل لذهاب الوهم كل مذهب وتكون الجملة بدلا عن الجملة لأن البدل بتكرير العامل إنما جوز في المجرور لشدة الإتصال انتهى فتأمل والله تعالى الموفق ما يقال لك إلى آخره تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن إلا ما قد قيل أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون للرسل من قبلك من الكلاك المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم وهذا نظير قوله تعالى : كذلك ما أتي الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون
وقوله تعالى : إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم
43
- قيل : تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل : ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة
(24/128)
لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ثم ماذا فقيل : إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضا وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر إن أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحي للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك الخ وقد يجعل إن ربك الخ باعتبار مضمونه تفسيرا للمقول فحاصل المعنى ما أوحي إليك وإلى الرسل ألا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الشرائع ما يوحى إليك إلا مثل ما أوحي إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب قومك واصبر على ذلك وجعل إن ربك الخ تعليلا لما يستفاد من السياق أيضا وجعله بعضهم تفسيرا لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه وفيه من البعد ما فيه وإلى ما ذكرناه أولا ذهب قتادة
أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : ما يقال لك من التكذيب إلا ما قدر قيل للرسل من قبلك فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك واختيار أليم على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وإن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى المعاني دون الألفاظ ويحسن وصف العقاب به هنا العقاب جزء التكذيب المؤلم ولو جعلناه قرآنا أعجميا جواب لقولهم : هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير المذكر لقالوا لولا فصلت آياته أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه وقوله تعالى : أعجمي وعربي بهمزتين الأولى للإستفهام والثانية همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل عربي وحاصله أنه نزل كما يريدون لأنكروا أيضا وقالوا ما لك وللعجمة أو ما لنا وللعجمة والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجاز لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم وقيل : عربي على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال : عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحدا أو جمعا ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشهد من عضده فإذا رأى لباسا طويلا على امرأة قصيرة قال : اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلا فيما سيق له الكلام وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ وقرأ عمرو بن ميمون أعجمي بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية فبين الأعجمي والعجمي عموم
(24/129)
وخصوص من وجه والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى
وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما أعجمي بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلامك إخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي
وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جرير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي والمقصود من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجميا على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكمون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمرا آخر وهكذا
قل ردا عليهم هو الذي آمنوا هدى يهدي إلى الحق وشفاء لما في الصدور من شك وشبهة والذين لا يؤمنون مبتدأ خبره في آذانهم وقر على أن في آذانهم خبر مقدم و وقر مبتدأ أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه وقيل : خبر الموصول في آذانهم و وقر فاعل الظرف وقيل : وقر خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن و في آذانهم متعلق بمحذوف وقع حالا من وقر
ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى : وهو عليهم عمى ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول و وقر على هدى على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر وقوله تعالى : في آذانهم ذكر بيانا لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى وقر والأول أبلغ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافرا بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد المواضع من التنزيل وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضا وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون وهو عليهم عمى مرتبطا بقوله سبحانه : هو للذين آمنوا هدى وشفاء والتقدير هو للذين امنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى وقوله تعالى : والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر جملة معترضة على الدعاء وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم وزعم بعضهم أن ضمير هو عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى
وأولى الأوجه ما تقدم وجيء بعلي في عليهم عمى للدلالة على استيلاء العمى عليهم ولم يذكر حال القلب لما علم التعريض في قوله سبحانه : للذين آمنوا هدى وشفاء بأنه لغيرهم مرض فظيع أولئك إشارة إلى الوصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذي يسمونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها ينادون من مكان بعيد
44
- تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له ممن ينادي من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم فقد حكي أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من بعيد وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى
(24/130)
وجهه ومجاهد وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزا بينا في نفسه مبينا لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الإنتفاع به على أي حال جاءهم وقرأ ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وابن هرمز عم بكسر الميم وتنوينه وقال يعقوب القاري وأبو حاتم : لا ندري نونوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف به كلام مستأنف مسوق لبيان أن الإختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك على ما سمعت أولا أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر ولو لا كلمة سبقت من ربك في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم بين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى : بل الساعة موعدهم وقوله سبحانه : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى لقضي بينهم باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة وأنهم أي كفار قومك لفي شك منه أي من القرآن مريب
45
- موجب للقلق والإضطراب وقيل : الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء من عمل صالحا بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها فلنفسه أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره و من يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى ومن أساء فعليها ضره لا على الغير وما ربك بظلام للعبيد
46
- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر
تم الجزء الرابع والعشرون ويليه 25
(24/131)
بسم الله الرحمن الرحيم إليه يرد علم الساعة إي إذا سئل عنها قيل الله تعالىيعلم أو لا يعلمها إلا الله عز و جل فالمقصود من هذا الكلام إرشاد المؤمنين في التفصي عن هذا السؤال وكلا الجوابين يلزمه اختصاص علمها به تعالى أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأنك إذا سئلت عن مسئلة وقت فلان يعلمه كانفيه نفي عنك كناية وتنبيه على أن فلانا أهل أن يسئل عنه دونك وما تخرج من ثمرات من أكمامها أي من أو عيتها جمع كم بالكسر وهو وعار الثمرة كجف الطلعة من كمه إذاستره وقد يضم وكم القميص بالضم وقرأالحسن في رواية والأعمش وطلحة وغير واحد من السبعة منثمرة على إراة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع وقريء من ثمرات من أكمامهن يجمع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة لتأكيد الأستغراق والنص عليه ومن الثانية ابتدائية وكذا ما في قوله تعالى : وما تحمل من أنثى ولا تضع أي حملها وقوله تعالى : إلا بعلمه في موضع الحال والباء للملابس أوالمصاحبة والأستثناء من أعم الأحوال أيما يحدث شيءم نخروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع ملابسا أو مصاحبا بشيء من الأشياء إلامصاحبا أو ملابسا بعلمه المحيط سبحانه واقعا حسبت علقه به وجوز في الأولى أن تكون موصولة معطوفة علىالساعة أي إليه يرد علم الساعة وعلم ما يخرج ومن الأولى بيانية والجارو الم في موضع الحال ومن الثانية على حالها وتأنيث تخرج باعتبارالمعنى لأن ما بمعنى ثمرة قيل : ولا يجوز فيما الثانية ذلك لمكنم الأستثناء المفرغ وأجازه بعضهم ويكفي لصحةالتفريغ النفي في قوله تعالى : ولا تضع وجملة لا تضع إما حال أو معطوفة على جملة إليه يرد الخ ولا يخفى عليك أن المتبادر في الموضعين النفي ثم أن الأستثناء متعلق بالكل وتبيين القدرالمشتر بين الأفعال الثلاثة وجعله في الأصل تعلق المفرغ كماسمعت لأظهار المعنى والأيماء إلى أنه لا يحتاج في مثله إلى حذف من الأولين أعني ما تخرج وما تحمل وهو قريب من أسلوب
وقد حيل بين العير والنزوان
لأن خرج زيد معناه حدث خروجه كما أن معنىذلك فعلا وليس ذاك من باب الأستثناء الن تعقب لجمل والخلاف في متعلقه في شيء لأن ذلك في غيرالمفرغ فقد ذكرالنحويون في باب التنازع وإن كان منفيا بإلا فالحذف ليس إلا ولو كان منه لم يكن من المختلف فيه لاتحاد الجمل في المقصود وظهور قرينة الرجوع إلى الكل والكلام على ما ففيشرح التأويلات متصل بأمر الساعة والبعث فإنه لا يعلم هذا كله إلا الله تعالى فذكر هذه الأمور لمناسبتها لعلم الساعة وإن الكل إيجاد بعد العدم بقدرته عز و جل فيكون كالبرهان على الحشر وجوز أن يكون متصلا بقوله تعالى : ومن آياته الليل والنهار الخ وبقوله سبحانه : ومن آياته أنك ترىالأرض خاشعة الخ فالمعنى من آيات ألوهيته تعالى وقدرته أن تخرج الثمرات وتحمل الحوامل وتضع حسب علمه جل وعلا والأول أقرب
ويوم يناديهم أين شركائي أي بزعمكم كما نص عليه بقوله سبحانه : أين شركائي الذين كنتم تزعمون
(25/2)
وفيه تهكم بهم وتفريع لهم و يوم منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل وضمير يناديهم عام في كل من عبد غيرالله تعالى فيندرج فيه عبدة الأوثان
قالوا أيأولئك المنادون آذناك أي أعلمناكو المراد بالأعلام هنا الإخبار لأنه تعالى عالم فلا يصح إعلامه بما هو سبحانه عالم به بخلاف الأخبار فأيه يكون للعالم فكأنه قيل أخبرناك ما منامن شهيد
47
- أي بأنه ليس منا شهيد يشهد لهم بالشركة فالجملة في محل نصب مفعول آذناك وقد علق عنه او في تعليق باب الموأنبأ خلاف والصحيح أنه مسموع في الفصيح و شهيد فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ من هم لأن الكفرة القيامة أنكروا عبادة غيره تعالى مرة وأقروا بها وتبرؤا عنها مرة أخرى وفسره السمرقندي بالأنكار لعبادت غير الله تعالى وشركهم كذبا منهم وافتراء كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين وظاهر آنذاك يقتضي سبق الأيذان في جواب أين شركائي وإنما سئلوا ثانيا حتى أجابوا بأنه قد سبق الجواب لأنه توبيخ وفي إعادة التوبيخ من تأكيد أمر الجناية وتقبيح حال من يرتكبها ما لا يخفى واستظهر أبو حيان أن المراد إحداث إيذان لا إخبار عن إيذان سابق على نحو طلقت وأمثاله وجوز أن يقال : أنه إخبار بأعلام سابق وذلك الأعلام السابق ما علمه تعالى من بواطنهم يوم القيامةأنهم لم يبقوا على الشرك وعلى تلك الشهادة وكأنه إعلام منهم بلسان الحال لا يقتضي سبق سؤال ولا جواب وفيه حسن أدبك أنهم يقولون أنت أعلم به يأخذون في الجواب
قال في الكشف : وهذاالوجه هو المختار لاشتماله على النكتة المذكورة وما في الآخرين من سوء الأدب ويحتمل أن يكون المعنى آنذاك بأنه ليس منا أحد يشاهدهم فشهيد من الشهود بمعنى الحضور والمشاهدة ونفيمشا الظاهر أنه علىالحقيقة وذلك في موقف وجعل بعض العبدةمقرين بمعبودات في آخر فلا تنافي بينهما وقيل : هنا كناية عن نفي أن يكون له تعالى شريك نحو قولك : لا نرى لك مثلا تريد لا مثل لكل نراه والكلام في آذناك على ما آذناك وقيل : ضمير قالوا للشركاء أي قال الشركاء : ليس منا أحد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين فشهيد من الشهادة لا غير والمراد التبرؤ منهم وفيه تفكيك الضمائر ومعنى قوله تعالى : وضل عنهمما كانوا يدعون من قبل على ما قيل : إن شركاءهم الذين كانوا يدعونهم من قبل ويرجون نفعهم غابوا عنهم على أن الضلال على معناه الحقيقي وهو الذي قابل الوجدان أو أن شركاءهم لم ينفعوهم بشيء على أن الضلال مجاز عن عدم النفع و ما اسم موصول عبارة عن الشركاء ويحسن جمع من يعقلو من لا يعقل في التعبير بما في مثل هذا المقام وجوز أن تكون ما عبارة عن القول الذي كانوا يقولونه في شأن الشركاء من أنهم آلهة وشركاء لله سبحانه وتعالى والمعنى نسو اما كانوا يقولونه في شأن شركائهم من نسبة الألوهية إليهم ولك أن تجعلها مصدرية والجملة يحتمل أن تكون حالا وإن تكون اعتراضا وذكر بعض الأجلة أنه يتعين الأخير على القول بأن ضمير قالوا للشركاء وكون الضلال مجازا عن عدم النفع فتدبر وظنوا أي أيقنوا كما قال السدي وغيره لأنه لا احتمال لغيره هنا والظن يكون بمعنى العلم كثيرا مالهم من محيص
48
- أي مهرب والظاهر أن الجملة في محل نصب سادة مسد مفعول يظنوه يمعلقة عنها النفي وقيل : تم الكلام عند قوله تعالى : وظنوا والظن
(25/3)
على ظاهره أي وترجح عندهم أن قولهم : ما منا من شهيد منجاة لهم أو يموهون به والجملة بعد مستأنفة أي لا يكون لهم منجي أو موضع روغان لايسئم الأنسان لا يمل ولايفتر مندعاء الخير من طلب السعة في العمة وأسباب المعيشة ودعاء مصدر مضاف للمفعول وفاعله محذوف أي من دعاء الخير هو وقرأ عبد الله من دعاء بالخير بباء داخلة على الخير وإن مسه الشر الضيقة والعسر فيؤس قنوط
49
- أي فهو يؤس قنوط منفضل الله تعالى ورحمته وهذا صفة الكافر والآية نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل : في عتبة بن ربيعة وقد بولغ في يأسه من جهة الصيغة لأن فعولا من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوي فإن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضائل وينكسر ولما كان أثره الدال لا يفارقه كان في ذكره ذكره ثانيا بطرق أبلغ وقدم اليأس صفة للقلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير وهي المؤثرة يظهر على الصورة من التضاؤل والأنكسار ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضر أمسته أي لئن فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق أو غير ذلك ليقولن هذا لي أيحقي استحقه لما لي من الفضل والعمل لاتفضل من الله عز و جل فاللام للأستحقاق أو هو لي دائما لا يزول فاللام للملك وهو يشعر بالدوام ولعل الأول أقرب
وما أظن الساعة قائمة أي تقوم فيما سيأتي ولئن رجعت إلى ربي على تقدير قيامها إنلي عنده للحسنى أي للحالة الحسنى من الكرامة والتأكيد بالقسم هنا ليس لقيام الساعة بل لكونه مجزيا بالحسنى لجزمه باستحقاقه للكرامة لاعتقاده ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وإن نعم الآخرة كذلك فلا تنافي بين أن التي الأصل فيها أن تستعمل لغير المتيقن وبين التأكيد بالقسم وأن اللام وتقديم الظرفين وصيغة التفضيل فلننبئن الذين كفروا بما عملوا لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا فيها فيظهر لهم أنهم مستحقون للأهانة لا الكرامة كما توهموا ولنذيقنهم من عذاب غليظ
50
- لا يمكنهم التفصي عنه لشدته فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه وإذا أنعمنا على الأنسان أعرض عن الشكر ونأتي بجانبه تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه ومنه قوله تعالى : ولمنخاف مقام ربه وقول الشاعر : ذعرت به القط اونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قيل : نأيب نفسه ثم كنيب ذهب بنفسه عن التكبر والخيلاء وجوز أن يراد بجانبه عطفه ويكون عبارة عن الأنحراف والأزورار كما قالوا : ثني وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبيرالبالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في الكشف وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازا في الجهة فلا تغفل وعن أبي عبيدة نأي بجانبه أي نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيراما يكون لقصد التعظيم والأحتشام عن التصريح بالأسم وهو يترك وبالتصريح به عند
(25/4)
إرادة تعظيمه قال زهير : فعرض إذا ما جئت بالبال والحمى وإيا كأن تنسى فتذكر زينبا سيكفيك من ذاك المسمى إشارة فدعه مصونا بالجلال محجبا ومن هنا قال الطيبي : إن ما هنا وارد عن التهكم وقريء ونآ بإمالة الألف وكسر النون للأتباع وناء على القلب كما قالوا راء في رأي وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض
51
- أي كثير مستمر مستعار مماله عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الأمتدادين وأطولهما هو الطول ويفهم في العرف من العريض الأتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك ويوصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضا لأنه لابد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولا والأستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها
وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الأنسان فالأول في بيان شدةحرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله هذا لي مدمجا فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها والثاني في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عن فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله بالنعمة عن المنعم في الحالتين أما في الأول فظاهر وأما في الثاني فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم بلتأسف على الفقد المشغل عن المنعم كل الأشغال وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنةأي القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاءالعريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى ومنه يعلم جواب ما قيل : كونه يدعو دعاء عريضا متكررا ينافي وصفه بأنه يؤس قنوط لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجاء يأباه وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال : الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكىعنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات واستدل بعضهم بقوله تعالى : فذو دعاء عريض على أن الإيجاز غير الأختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الأكلام مع اتحاد المعنى والأيجاب بحذف طوله وهو الأطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته قل أرأيتم الخ رجوع لألزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدنها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للأقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد وتنبيها على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك ومعنى أرأيتم أخبروني إنكان أي القرآن من عند الله ثم كفرتم به مع تعاضد موجبات الأيمان به و ثم كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي من أضل ممن هو في شقاق أي خلاف بعيد
52 - غاية البعد عن الحق والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون ووضع الظاهر موضع ضميره مشرحا لحالهم بالصلة وتعليلا لمزيد ضلالهم وجملة من أضل على ما قال ابن الشيخ سادة مسدة مفعولي رأيتم وفي البحر المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الأستفهام وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف قال النيسابوري : تقديره مثل افمن أضل منكم وقيل : إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم ولعله الأظهر
(25/5)
وقوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق الخ مرتبط على ما اختاره صاحب الكشاف بقوله تعالى : قل أرأيتم الخ وجه التتميم والأرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنو ابما جاء به ويعملوابمقتضاه ويفوزوا كل الفوز وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يدي بيه صلى الله عليه و سلم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الأسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه والآفا قال نواحي الواحد وأفق بفتحتين أي سنيرهم آياتنا في النواحي عموما من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها وفيه أن الأراءة كائنة لا محالة حق لا يحرم حولها ريبة وفي أنفسهم في بلاد العرب خصوصا وهو من عطف جبريل على ملائكته وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقيقة المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة حتى يتبين يظهر لهم أنه أي القرآن هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا منخلفه فهوالحق كله من عند الله تعالىالمطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرا وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشيء فتحا بعد فتح وآية غبآية إلى أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقيقةالقرآن على وجه تضمن حقيقة أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذلك تسليا عما أشعرت به الآية السابقة من أنهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس وقيل : الضمير للرسول عليه الصلاة و السلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى أو لم يكف بربك استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحققا لإرادة
والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباء مزيدة للتأكيد و ربك فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضي للنحاة وت4زاد في فاعل فعل التعجب أيضا نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما وقوله : ألم يأتيك والأنباء تنمي بمالاقت لبون بني زياد شاذ قبيح على ما قال الشهاب وقوله تعالى : أنه على كل شيء شهيد
53
- بدل من الفاعل بدل اشتمال وقيل : هو بتقدير حرف الجر أيأولم يكفهم ربك بأنه الخ ومال لنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير أي أنكروا إراءة ذلك الدالة على حقية القرآن ولم يكفهم دليلا أنه عز و جل مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبات حكمة نصرك عليهم وخذلانهم وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم
وفي الكشف أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلا قاطعا ولما كان ما وعده غيبا عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل : أو لم يكفهم اطلاع من هذاالكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلاعلى كينونةالإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى وفي العدول إلى هذه العبارة فائدتان أحدهما تحقيق إنجاز ذلك الموعود كأنه مشاهد بذكرالدليل القاطع على الوقوع والثانية الدلالة
(25/6)
على أن هذه الإرادةالآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة
والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقية القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعا وحقية أهل الأسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى ولا يخفى أن في الآية عليه نوعا من الألغاز وقيل : أي ألم يغنهم عن إرادة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبرناه من عنده عز و جل وهو كما ترى وقيل : المعنى ولم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياءالموعودة وتعقب بأنه من إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلى الله تعالى عليه وسلم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى : ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم أي في شأن عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادةالموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى ادلة ماينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم
وقوله تعالى ألا إنه بكل شيء محيط
54
- لبيان ما يترتب على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالىعالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جل وعلا خافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة
وقيل : دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرقواختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي أنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيله مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث
هذا وما ذكر في تفسير سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم في معنى ما روي عن الحسن ومجاهد والسدي وأبي المنهال وجماعة قالوا : إن قوله سبحانه : سنريهم الخ وعيد للكفار ربما يفتحه الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأقطار حول مكة وفي ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى : في أنفسهم فتح مكة وقال الضحاك وقتادة : في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من القرآن وأورد عليه أن سنريهم يأبى كونما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئيا قبل وقال عطاء وابن زيد : إن معنى سنريهم آياتنا في الآفاق أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائرالكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة وضعف ذلك الأمام بنحو ما سمعت آنفا وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليها زمانا قريب فإن كل أحد يشاهد بنيةالأنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثرالناس غافلون عن حمل على التفكر فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الأل كلما ازداد تفكراازداد وقوف افصح معنى الأستقبال
واختار ذلك صاحب الكشف تبعا وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه وجعل ضمير أنه الحق لله
(25/7)
عز و جل فقال : إن في قوله تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله إشعار بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وأنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عز و جل ولذا جعل نحو أساطير الأولين في جواب قولهم ماذا أنزل ربكم أنه إعراض عن كونه منزل او جواب بأنه لا منزل فأريد أنيبين إثبات كونه حقا من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليها لكلام من سلوك طريق الأنصاف فقيل : سنريهم أي سيري الله تعالى والألتفات للدلالة على زيادة الأختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل : حتى يتبين لهم أنه الحق أي أن الله جل جلاله هو الحق من كل وجه ذاتا وصف باطل من كل وجه لا حق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيقته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة ثم قيل : أو لم يكف بربك أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده استدل بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي اليقيني وفي قوله تعالى : بربك مضافا إلى ضميره صلى الله عليه و سلم وإيثاره على أولم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة و السلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيه مشهوده على كل شيء دليلا وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول ثم قيل : ألا أنهم في مرية من لقاء ربهم فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشهدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل أما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلاإيمانا متمحضا التقليد
وإطلاق المرية للتغليب ولا يخفى حسن موقعه ثم قيل : ألا إنه بكل شيء شهيد تتميما لقوله تعالى : أو لم يكف بربك لأن من أحاطب كل شيء علما وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هوالوجه في تعميم الآيات من غيرتخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن ومجاهد وأجرى علىقواعد الصوفية وعلما الأصول رحمةالله تعالىعليهم أجمعين انتهى وقد أبعد عليه الرحمةالمغزى وتكلف ما تكلف ونقل العارف الجامي قدس سره في نفحاته عن القاشاني أن قوله تعالى : سنريهم الخ يدل على وحدة الوجود وقد رأيت في بعض كتب القوم الأستدلال به على ذلك وجعل ضمير أنهالحق إلىالمرئي وتفسير الحق بالله عز و جل ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التيح فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الأسلام وللشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره النوراني عدة رسائل في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن بمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنها بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود وقريء إنه على كل شيء شهيد بكسر همزة أن على إضمار القول وقرأ السلمي والحسن في مرية بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها خفية بضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء
ومن كلمات القوم في الآيات إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون فيه إشارة إلى أن أجرالمؤمن الغيرالعامل ممنون أيمنق بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل العامل علىالعمال البدنية كالصلاة والحج والجنة على الأعمال القلبية كالرضا والتوكل والشوق والمحبة وصدق الطلب وعلىالأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى كشف الأسرار المعاني والأستئناس بالله تعالى والأستيحاش من الخلق والكرامات وعلى أعمال الأسرار كالأعراض عن السوي بالكلية دوام التجلي قل أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض
(25/8)
أي أرض البشرية في يومين يومي الهوى والطبيعة وتجعلون له أندادا من الهوى والطبيعة وجعل فيها رواسي العقول الأنسانية وبارك فيها بالحواس الخمس وقدر فيها أقواتها من القوى البشرية ثم استوى إلى السماء سماءالقلب وهي دخان هيولي إلهية فقضاهن سبع سماوات هي الأطوار السبعة للقلب فالأول محل الوسوسة والثاني مظهر الهواجس والثالث معدن الرؤية ويسمى الفؤاد الرابع منبع الحكمة ويسمى القلب والخامس مرآة الغيب ويسمىالسويداء والسادس مثوى المحبة ويسمى الشفاف والسابع مورد التجلي التجلي ومركز الأسرار ومهبط ألأنوار ويسمى الحبة في يومين يومي الروح الأنساني والألهام زيناالسماء الدنيا بمصا وهي أنوار الأذكار والطاعات إن الذين قالوا ربنا الله يوم خوطبوا بألستبربكم ثم استقاموا على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفواعن ذلك كالمنافقين والكافرين وذكر أن الأستقامة متفاوتة العوام في الظاهربالأوامر والنواهي بالأيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقا إلى الرحمن واستقامة خواصا لخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء تتنزل تتنزل عليهم الملائكه تنزلا وتفاوتا تفاوت مراتبهم وعن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون هي أيضا متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنةالوصال ورؤية الملك المتعال ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله بترك ما سواه عمل صالح لئلا يخالف حاله قاله وقال إنني من المسلمين المنقادين لحكمه تعالىالراضين بقضائه وقدره وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للأرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد : خلت الرقاع من الرخاخ وتفرزنت فيهاالبيادق وتصاهلت عرج الحمير وذاك من عدم السوابق ولا تستوي الحسنة وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة ولا السيئة وهي طلب السوي والرضا بالدون أدفع بالتي هي أحسن وهي طلب الله تعالى طلب ما سواه سبحانه فإذاالذي بينك وبينه عداوة وهو النفس الأمارة بالسوء كأنه ولي حميم لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة وإما ينزغنك من الشيطان نزغ لتميل إلى ما يهوى فاستعذ بالله وأرجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفله عن الله عز و جل إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا فيه إشارة إلى سرء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والأنكار من الألحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية قل هو أي القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإرادته عز و جل وهي كشف الحج بل يظهر أن الأعيان ما شمت رائحة الوجود ولاتشمه أبدا وانه عز و جل هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى : حتى يتبين لهم أنه الحق ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره : ما آدم في الكون ما إبليس ما ملك سليمان وما بلقيس
(25/9)
الكل إشارة وأنت المعنى يا من هو للقلوب مغناطيس وأكثر كلامه قدس سره من هذاالقبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى ما إليه وصلو الله عز و جل الهادي إلى سواء السبيل ثم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلا وسلاما باقيين إلى يوم القيامة
سورة الشورى
42 - وتسمى سورة حم عسق وعسق نزلت على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير بمكة وأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء وفي البحر هي مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى إلا آخر أربع آيات وقال مقاتل : فيها مدنية قوله تعالى : ذلك الذي يبشر الله عباده إلى الصدور واستثنى بعضهم قوله تعالى : أم يقولون افترى الخ قال الجلال السيوطي : ويدل لهما أخرجه الطبراني والحاكم في سبب نزولها فإنها نزلت في الأنصار وقوله سبحانه : ولو بسط الله الرزق الخ فإنها نزلت في أصحاب الصفة رضي عنهم واستثنى أيضا الذين إذا أصابهم البغي إلى قوله تعالى : من سبيل حكاه ابن الفرس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على استثناء غير ذلك على بعض الروايات وجوز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب وعدد آياتها ثلاث وخمسون في الكوفي وخمسون فيما عداه والخلاف في حم عسق وقوله تعالى : كالأعلام كما فصله الداني وغيره ومناسبة أولها لآخر السورة قبلها اشتمال كل على ذكر القرآن وذب طعن الكفرة فيه وتسلية النبي ص
بسم الله الرحمن الرحيم حم
1
- عسق
2
- لعلهما اسمان للسورة وأيد بعدهما آيتين والفصل بينهما في الخط وبورود تسميتها عسق من غير ذكر حم وقيل : هما اسم واحد وآية واحدة وحقه أن يرسم متصلا كما في كهيعص لكنه فصل ليكون مفتتح السورة على طرز مفتتح أخواتها حيث رسم الأول هما خبر ان لمبتدأ محذوف وقيل حم مبتدأ و عسق خبره وعلى الثاني الكل خبر واحد وقيل : إن حم عسق إشارة إلى هلاك مدينتين تبنيان على نهر من أنهارالمشرق يشق النهر بينهما يجتمع فيهما كل جبال يبعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها ويخسف بالأخرى في الليلة الأخرى وروي ذلك عن حذيفة وقيل : إن حم اسم من أسماء الله تعالى و عين إشارة إلى عذاب يوم بدر و سين إشارة إلى قوله تعالى : سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون و قاف إلى قارعة من السماء تصيب الناس وروي ذلك بسند ضعيف عن أبي ذر والذي يغلب على الظن عدم ثبوت شيء من الروايتين
وفي البحر ذكر المفسرون في حم عسق أقوالا مضطربة لا يصح منها شيء ضربنا عن ذكرها صحفا وما ذكرناه أولا قد اختار غير واحد ومنهم من اختار أنها مقطعات جيء بها للأيقاظ وقرأ ابن عباس وابن مسعود حمسق بلا عين
وقوله تعالى : كذلك يوحى إليك و إلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم
3
- كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة على سائرالرسل المتقدمين في الدعوة إلى
(25/10)
التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها والكاف مفعول يوحى على الأول أي يوحى مثلما في هذه السورة من المعاني أو نعت لمصدر مؤكد على الثاني أي يوحى إيحاء مثل إيحائها إليك و إلى الرسل أي بواسطة الملك وهي في الوجهين اسم كما هو مذهب الأخفش وإن شئت فاعتبرها حرفا واعتبر الجار والمجرور مفعولا أو متعلق بمحذوف وقع نعتا وقول العلامة الثاني في التلويح إنجار الله لا يجوز الأبتداء بالفعل ويقدر المبتدأ في جميع ما يقع فيه الفعل ابتداء كلام غير مسلم وقد ترددوا فيه حتى قيل : إنه لم يظهر له وجه
وجوز أبوالبقاء كون كذلك مبتدأ ويوحي الخبر والعائد محذوف أي مثل ذلك يوحيه إليك الخ وحذف مثله شائع في الفصيح نعم هذا الوجه خلاف الظاهر والإشارة كما أشرنا إليه ما في السورة أو إلى إيحائها والدلالة على البعد لبعد منزلة المشار إليه في الفضل وضيعة المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمراره في الأزمنة الماضية وإن إيحاء مثله عادته عز و جل وقيل : إنها على التغليب فإن الوحي إلى من مضى وإليه عليه الصلاة و السلام بعضه ماض وبعضه مستقبل وجوز أن تكون على ظاهرها ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين وأوحى إلى الذين وهو كما ترى وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيم اما لا يخفى
وقرأ مجاهد وابن كثير وعياش ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو يوحي مبنيا للمفعول على أن كذلك مبتدأ ويوحي خبره المسند إلى ضميره أو مصدر و يوحي مسند إلى إليك و الله مرتفع عند السكاكي على الفاعلية ليوحي الواقع في جواب من يوحي نحو ما قرروه في قوله تعالى : يسبحله فيها بالغدو و الآصال رجال على قراءة الواقع يسبح بالبناء للمفعول وقوله :
لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطرائح وقال الزمخشري : رافعه مادل عليه يوحى كأن قائلا قال : من الموحي فقيل : الله وإنما قدر كذلك لك على ما قاله صاحب الكشف ليدل على أن الأيحاء مسلم معلم وإنما الغرض من الأخبار إثباتا تصافه بأنه تعالى من شأنه الوحي لا إثبات أنه موح ولم يرتض القول بعدم الفرق بين هذا وقوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال بل أوجب الفرق لأن الفعل المضارع هنا ظاهره لم يؤت به للدلالة على الأستمرار ولهم فيه مقال و العزيز الحكيم صفتان له تعالى عند الشيخين وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبر له وقيل : الله العزيز الحكيم إلى آخر السورة قائم مقام فاعل يوحي أي هذه الكلمات
وقرأ أبو حيوة والأعمش عن أبي بكر وأبان نوحي بنون العظمة فالله مبتدأ و ما بعده خبر أو العزيز الحكيم صفتان وقوله تعالى : له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم
4
- خبر له وعلى الأوجه السابقة استئناف مقرر لعزته تعالى وحكمته عز و جل تكاد السماوات وقريء يكاد بالياء يتفطرن يتشققن من عظمة الله تعالى وجلاله جل شأنه وروي ذلك عن قتادة وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه ابن عباس أنه قال : تكاد السماوات يتفطرن من الثقل وقيل : من دعاء الشريك والولد له سبحانه كما في سورة مريم وأيد هذا بقوله تعالى بعد : والذين اتخذوا من دونه أولياء فأيراد الغفور الرحيم بعد لأنهم استوجبوا بهذه المقالة
(25/11)
صب العذاب عليهم لكنه صرف عنهم لسبق رحمته عز و جل والآية عليه واردة للتنزيه بعد إثبات المالكية والعظمة والأول أولى في هذا المقام لأن الكلام مسوق لبيان عظمته تعالى وعلوه جل جلاله ويؤيده ترك العاطف ويليه ما روي عن الحبر فإن الآية وإن تضمنت عليه الغرض المسوق له الكلام لكن دلالتها عليه بناء على القول الأول أظهر
وقرأ البصريان أبو بكر ينفطرن بالنون والأول أبلغ لأن المطاوع والمطاوع من التفعيل والتفعل الموضوع للمبالغة لخلاف الثاني فإنه انفعال مطاوع للثلاثي وروي يونس عن أبي عمرو أنه قرأ تتفطرن بتاءين ونون في آخره على ما في الكشاف و تنفطرن بتاء واحدة ونون على ما في البحر على ابن خالويه وهو على الروايتين شاذ عن القياس والأستعمال لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث فلا تقولا لنساء تقمن ولا الوالدات ترض عن والوجه فيه تأكيد كتأكيد الخطاب في أرأيتك ومثله ما رواه أبو عمر الزاهد في نوادر ابن الأعرابي الأبل تتشممن
(25/12)
من فوقهن أي يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية وتخصيصها على الأول في سبب التفطر لما أن أعظم الآيات وادلها علىالعظمة والجلال كالعرش والكرسي والملائكة من تلك الجهة ولذا كانت قبلة الدعاء وعلى الثالث للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حين أثرت من جهة الفرق فلأن تؤثر من جهة التحت أولى وكذا على الثاني لأن العادة تفطر سطح البيت مثلا من جهة التحتانية بحصول ثقل عليه وقيل : الضمير للأرض أي لجنسها في سمل السبع ولذا جمع الضمير وهو خلاف الظاهر وقال علي بن سليمان الأخفش : الضمير للكفار والمراد من فوق الغرق والجماعات الملحدة وبهذا الأعتبار أنثال ضمير وفي ذلك إشارة إلى أن التفطر مكن أجل أقوال هاتيك الجماعات وفيه ما فيه
والملائكة يسبحون بحمد ربهم بنزهونه سبحانه عما لايليق به جل جلاله ملتبسين بحمده عز و جل وقيل : يصلون والظاهر العموم في الملائكة وقال مقاتل المراد بهم حملة العرش ويستغفرون لمن في الأرض بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأمور آل الطاعة كالمعاونة في بعض أمور المعاش ودفع العرائق واستدعاء تأخير الإيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الأستغفار بالسعي فيما المتوقع عم الحيوان بل الجماد وهو فيما ذكر مجاز مرسل أو استعارة
وقال السدي وقتادة : والمراد بمنفي الأرض المؤمنون لقوله تعالى في آية أخرى : ويستغفرون للذين آمنوا والمراد بالأستغفار عليه حقيقته وقيل : الشفاعة
ألا إن الله هو الغفور الرحيم
5
- إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته تعالى وإنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة عليهم السلام وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة والآية على كون قوله تعالى : تكاد السماوات يتفطرن لبيان عظمته جل شأنه مقررة لما دل عليه ذلك ومؤكدة له لأن تسبيح الملائكة وتنزيههم له تعالى لمزيد عظمته تبارك وتعالى وعظيم جلاله جل وعلا والأستغفار لغيرهم للخوف عليهم من سطوة جبروته عز و جل والتذييل بقوله تعالى : ألا إن الله الخ
(25/0)
على هذا ظاهر وعلى كون تفطر السماوات لنسبة الولد والشريك بيان لكمال قدسه تعالى عما نسب إليه عز و جل فيكون تسبيحهم عما يقوله الكفرة واستغفار تبرأ واصدر من هؤلاء والتذييل للأشارة إلى سبب ترك معالجة العذاب مع استحقاقهم له وعمم بعض المستغفر لهم وأدخل استغفار الملائكة في سبب المعالجة والذين اتخذوا من دونه أولياء شركاء وأندادا لله حفيظ عليهم رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها وما أنت عليهم بوكيل
6
- أي بموكل بهم أو بموكول أمرهم وإنما وظيفتك مفعول من المزيد أو الثلاثي وما في هذه الآية من الموادعة على ما في البحر منسوخ بآية السيف وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا ومحل الكاف على ما ذهب إليه الأخفش من ورودها اسما النصب على المصدرية وقرآنا مفعول لأوحينا أي ومثل ذلك الأيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه علك ولا على قومك وقيل : إشارة إلى ما تقدم من الله حفيظ عليهم ما أنت عليهم بوكيل فالكاف مفعول لأوحينا وقرآنا عربيا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي وجوز نصبه على المدح أوالبدلية من كذلك وقيل : أولى من هذا أن يكون إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وأنه عليه الصلاة و السلام نذير فحسب لأنه أتم فائدة وأشمل عائدة ولا بد عليه من التجوز في قرآنا عربيا إذ لا يصح أن يقال أوحينا ذلك المعنى وهو قرآن عربي لأن القرآنية والعربية صفة اللفظ لا المعنى لكن أمره سهل لقربه من الحقيقة لما بين اللفظ والمعنى من الملابسة القوية حتى يوصف أحدهما بما يوصف به الآخر مع ما في المجاز من البلاغة لتنذر أم القرى أي أهل أم القرى على التجوز في النسبة أو بتقدير المضاف والمراد بأم القرى مكة وسميت بذلك على ما قال الراغب لما روي أنه دحيت الدنيا من تحتها فهي كالأصل لها والأم تقال لكل ما كان أصلا لشيء وقد يقال هي أم لما حولها من القرى لأنها حدثت قبلها لا كل قرى الدنيا وقد يقال لبلد : هي أم البلاد باعتباراحتياج أهالي البلاد إليها ومن حولها من العرب على ما ذهب إليه كثير وخص المذكورين بالذكر لأن السورة مكية أقرب إليه عليه الصلاة و السلام وأول من أنذر لدفع ما يتوهم من أن أهل مكة ومن حولها لهم طمع في شفاعته ص - وإن لم يؤمنوا لحق القرابة والمساكنة والجوار فخصهم بالأنذار لأزالة ذلك الطمع الفارغ وقيل : من حولها جميع أهل الأرض واختاره البغوي وكذا القشيري وقال : لأن الكعبة سرة الأرض والدنيا محدقة بما هي فيه أعني مكة وهذا عندي لا يكاد يصح مع قولهم : إن عرضها كأم وطولها عز وإن المعمور وفي جانب الشم أكثر منه في جانب الجنوي وتنذر يوم الجمع أي يوم القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال الله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع وقيل : يجمع فيه الأرواح والأشباح وقيل : الأعمال والعمال والأنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف ههنا ثاني مفعولي الأول وهو يوم الجمع والمراد به عذابه وأول مفعول الثاني وهو أم القرى ومن حولها فقد حذف من الأول ما أثبت في الثاني ومن الثاني ما أثبت في الأول وذلك من الأحتباك وقال جار الله : الأول عام في الأنذار بأمورالدن ثم خص بقوله تعالى : وتنذر يوم الجمع يوم القيامة زيادة في الأنذار وبيانا لعظمة أهواله لأن الأفراد بالذكر يدل عليه وكذلك أيقاع الإنذار عليه ثانيا
(25/13)